مكتبة الإمام زين العابدين

فهرس الكتاب

 

 

الزهد :

لقد اشتهر في عصره(عليه السلام) أنّه من أزهد الناس حتى أنّ الزهري حينما سُئل عن أزهد الناس قال: عليّ بن الحسين[1].

ورأى(عليه السلام) سائلاً يبكي فتألّم له وراح يقول: «لو أنّ الدنيا كانت في كفّ هذا ثمّ سقطت منه لما كان ينبغي له أن يبكي عليها»[2].

وقال سعيد بن المسيب: كان عليّ بن الحسين(عليه السلام) يعظ الناس ويزهّدهم في الدنيا ويرغبهم في أعمال الآخرة بهذا الكلام في كلّ جمعة في مسجد رسول الله(صلى الله عليه وآله) وحفظ عنه وكتب، وكان يقول:

«أيّها الناس، اتّقوا الله واعلموا أنـّكم اليه تُرجعون... يابن آدم، إنّ أجلك أسرع شيء إليك، قد أقبل نحوك حثيثاً يطلبك ويوشك أن يدركك، وكأن قد اُوفيت أجلك وقبض الملك روحك وصرت إلى قبرك وحيداً، فردّ اليك فيه روحك، واقتحم عليك فيه ملكان ناكر ونكير لمساءلتك وشديد امتحانك... فاتّقوا الله عباد الله، واعلموا أنّ الله عزّوجلّ لم يحبّ زهرة الدنيا وعاجلها لأحد من أوليائه، ولم يرغّبهم فيها وفي عاجل زهرتها وظاهر بهجتها، وإنّما خلق الدنيا وأهلها ليبلوهم فيها أيّهم أحسن عملاً لآخرته، وأيم الله لقد ضرب لكم فيه الأمثال، وعرّف الآيات لقوم يعقلون، ولا قوة إلاّ بالله، فازهدوا فيما زهّدكم الله عزّوجلّ فيه من عاجل الحياة الدنيا... ولا تركنوا إلى زهرة الدنيا وما فيها ركونَ من اتّخذها دار قرار ومنزل استيطان، فإنّها دار بُلغة، ومنزل قلعة، ودار عمل، فتزوّدوا الأعمال الصالحة فيها قبل تفرّق أيّامها، وقبل الإذن من الله في خرابها... جعلنا الله وإيّاكم من الزاهدين في عاجل زهرة الحياة الدنيا، الراغبين لآجل ثواب الآخرة، فإنّما نحن به وله...»[3].

الإنابة إلى الله تعالى :

إنّ اشتهار الإمام بلقب زين العابدين وسيّد الساجدين ممّا يشير إلى وضوح عنصر الإنابة إلى الله والانقطاع اليه في حياة الإمام وسيرته وشخصيّته.

على أنّ أدعية الصحيفة السجّادية هي الدليل الآخر على هذه الحقيقة، فإنّ إلقاء نظرة سريعة وخاطفة على عناوين الأدعية يكشف لنا مدى التجاء الإمام إلى الله في شؤون حياته، فما من موقف إلاّ وللإمام فيه دعاء وابتهال وتضرّع، هذا فضلاً عن مضامين الأدعية التي يكاد ينفرد بها هو(عليه السلام) في هذه الصحيفة المعروفة وغيرها، لقد ذاب الإمام في محبّة الله وأخلص له أعظم الإخلاص، وقد انعكس ذلك على جميع حركاته وسكناته.

وممّا رواه المؤرخون: أنّه اجتاز على رجل جالس على باب رجل ثريّ فبادره الإمام قائلاً: «ما يقعدك على باب هذا المترف الجبار؟ فقال الرجل: البؤس (أي: الفقر)، فقال له(عليه السلام): قم فاُرشدك إلى باب خير من بابه وإلى ربّ خير لك منه...»

ونهض معه الرجل إلى مسجد رسول الله(صلى الله عليه وآله)  وعلّمه ما يعمله من الصلاة والدعاء وتلاوة القرآن وطلب الحاجة من الله والالتجاء إلى حصنه الحريز[4].

سيرته في بيته :

كان الإمام زين العابدين(عليه السلام) من أرأف الناس وأبرّهم وأرحمهم بأهل بيته، وكان لا يتميّز عليهم، وقد اُثر عنه أنّه قال: «لَئن أدخل إلى السوق ومعي دراهم ابتاع بها لعيالي لحماً وقد قرموا[5] أحبّ اليَّ من أن أعتق نسمة»[6].

وكان يبكر في خروجه مصبحاً لطلب الرزق لعياله، فقيل له: إلى أين تذهب؟ فقال: أتصدّق لعيالي قبل أن أتصدّق . ثم قال: من طلب الحلال، فإنّه من الله عزّوجلّ صدقة عليهم[7].

وكان (عليه السلام) يعين أهله في حوائجهم البيتية، ولا يأمر أحداً منهم فيما يخصّ شأناً من شؤونه الخاصة، كما كان يتولّى بنفسه خدمة نفسه خصوصاً فيما يخصّ إلى شؤون عبادته، فإنّه لم يك يستعين بها أو يعهد إلى أحد في قضائها.

مع أبويه :

وقابل الإمام المعروف الذي أسدته إليه مربّيته بكلّ ما تمكّن عليه من أنواع الإحسان، وقد بلغ من جميل برّه بها أنّه امتنع أن يؤاكلها فلامه الناس، وأخذوا يسألونه بإلحاح قائلين: أنت أبرّ الناس وأوصلهم رحماً، فلماذا لا تؤاكل اُمّك؟ فأجابهم جواب من لم تشهد الدنيا مثل أدبه وكماله قائلاً: «أخشى أن تسبق يدي إلى ما سبقت إليه عينها فأكون عاقّاً لها»[8].

ومن برّه لأبويه دعاؤه لهما، وهو من أسمى القواعد في التربية الإسلامية الهادفة، وهذه مقاطع من هذه اللوحة الخالدة من دعائه(عليه السلام):

« ... واخصص اللهمّ والديّ بالكرامة لديك والصلاة منك يا أرحم الراحمين... وألهمني علم ما يجب لهما عليّ إلهاماً، واجمع لي علم ذلك كلّه تماماً، ثم استعملني بما تلهمني منه، ووفّقني للنفوذ فيما تبصرني من علمه... اللهم اجعلني أهابهما هيبة السلطان العسوف، وأبرّهما برّ الاُم الرؤوف، واجعل طاعتي لوالديّ وبرّي بهما أقرّ لعيني من رقدة الوسنان، وأثلج لصدري من شربة الظمآن، حتى اُوثر على هواي هواهما، واُقدّم على رضاي رضاهما، واستكثر برّهما بي وإن قلّ، واستقلّ برّي بهما وإن كثر، اللهمّ خفّض لهما صوتي، وأطب لهما كلامي، وألِن لهما عريكتي، واعطف عليهما قلبي، وصيرني بهما رفيقاً وعليهما شفيقاً... اللهمّ اشكرلهما تربيتي، وأثبهما على تكرمتي، واحفظ لهما ما حفظاه منّي في صغري... اللهمّ لا تُنسني ذكرهما في أدبار صلواتي، وفي إناً من آناء ليلي، وفي كل ساعة من ساعات نهاري... اللهمّ صلّ على محمد وآله، واغفر لي بدعائي لهما، واغفر لهما ببرّهما بي...»[9].

مع أبنائه:

أمّا سلوك الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين(عليه السلام) مع أبنائه فقد تميّز بالتربية الإسلامية الرفيعة لهم، فغرس في نفوسهم نزعاته الخيّرة واتّجاهاته الإصلاحية العظيمة، وقد صاروا بحكم تربيته لهم من ألمع رجال الفكر والعلم والجهاد في الإسلام.

فكان ولده الإمام محمد الباقر(عليه السلام) أشهر أئمّة المسلمين، وأكثرهم عطاءً للعلم.

وأمّا ولده عبد الله الباهر فقد كان من أبرز علماء المسلمين في فضله وسمّو منزلته العلمية.

أمّا ولده زيد فقد كان من أجلّ علماء المسلمين، وقد برعَ في علوم كثيرة كعلم الفقه والحديث والتفسير وعلم الكلام وغيرها، وهو الذي تبنّى حقوق المظلومين المضطهدين، وقاد مسيرتهم الدامية في ثورته التي نشرت الوعي السياسي في المجتمع الاسلامي، وساهمت مساهمة إيجابية وفعّالة في الاطاحة بالحكم الاُموي[10].

وزوّد الإمام (عليه السلام) أبناءه ببعض الوصايا التربوية لتكون منهجاً يسيرون عليه، قال (عليه السلام):

1 ـ «يا بُنيّ، اُنظر خمسةً فلا تصاحبهم ولا تحادثهم ولا تُرافقهم في طريق» فقال له ولده: من هم؟ قال(عليه السلام): «إيّاك ومصاحبة الكذّاب، فإنّه بمنزلة السراب، يقرّب لك البعيد ويبعّد لك القريب. وإيّاك ومصاحبة الفاسق، فإنّه بايعك بأكلة أو أقلّ من ذلك. وإيّاك ومصاحبة البخيل، فإنّه يخذلك في ماله، وأنت أحوج ما تكون إليه. وإيّاك ومصاحبة الأحمق، فإنّه يريد أن ينفعك فيضرّك. وإيّاك ومصاحبة القاطع لرحمه، فإنّي وجدته ملعوناً في كتاب الله...»[11].

2 ـ قال (عليه السلام): «يا بُنيّ، اصبر على النائبة، ولا تتعرّض للحقوق، ولا تجب أخاك إلى شيء مضرّته عليك أعظم من منفعته لك...»[12].

3 ـ وقال(عليه السلام): «يا بُنيّ، إنّ الله لم يرضك لي فأوصاك بي، ورضيني لك فحذّرني منك، واعلم أنّ خير الآباء للأبناء من لم تدعه المودّة إلى التفريط فيه، وخير الأبناء للآباء من لم يدعه التقصير إلى العقوق له»[13].

مع مماليكه :

وسار الإمام(عليه السلام) مع مماليكه سيرة تتّسم بالرفق والعطف والحنان، فكان يعاملهم كأبنائه، وقد وجدوا في كنفه من الرفق ما لم يجدوا في ظلّ آبائهم، حتّى أنّه لم يعاقب أمَةً ولا عبداً فيما إذا اقترفا ذنباً[14].

وقد كان له مملوك فدعاه مرّتين فلم يجبه، وفي الثالثة قال له الإمام برفق ولطف: «يا بُنيَّ، أما سمعت صوتي؟» قال: بلى... ، فقال له(عليه السلام): «لِمَ لَمْ تُجبْني؟» فقال: أمنت منك، فخرج الإمام وراح يحمد الله ويقول: «الحمد لله الذي جعل مملوكي يأمنني...»[15].

[1] بحار الأنوار : 46/62 عن علل الشرائع : 1/270 ط بيروت.

[2] كشف الغمة : 2/318 عن نثر الدرر للآبي، والفصول المهمّة: 192.

[3] الكافي : 8 / 72 ـ 76 ، وتحف العقول: 249 ـ 252.

[4] حياة الإمام زين العابدين(عليه السلام) دراسة وتحليل:1 / 93.

[5] قرموا: اشتدّ شوقهم إلى اللحم.

[6] بحار الأنوار : 46 / 67 عن الكافي : 2/12.

[7] بحار الأنوار : 46 / 67 عن الكافي : 2/12.

[8] الكامل للمبرد : 1 / 302، وشذرات الذهب : 1 / 105، ومناقب آل أبي طالب: 4/176 عن أمالي النيشابوري.

[9] الصحيفة السجادية، دعاؤه لأبويه.

[10] حياة الإمام زين العابدين ، دراسة وتحليل: 55 ـ 56.

[11] اُصول الكافي : 2/376، والاختصاص : 239، وتحف العقول: 279، والبداية والنهاية : 9 / 105.

[12] البيان والتبيين : 2 / 76، العقد الفريد : 3 / 88 .

[13] العقد الفريد : 3 / 89 .

[14] اقبال الأعمال : 1/443 ـ 445 باسناده عن التلعكبرى عن ابن عجلان عن الصادق(عليه السلام) وعنه في بحار الأنوار : 46 / 103 ـ 105 . و 98/186 ـ 187.

[15] الإرشاد : 2/147، ومناقب آل أبي طالب: 4/171 وفي تأريخ دمشق : 36 / 155.