مكتبة الإمام زين العابدين

فهرس الكتاب

 

 

انشقاق البيت الاُموي :

مات يزيد في ربيع الأول من سنة ( 64  هـ ) وهو في سنّ الثامنة والثلاثين من عمره  في حُوّارين، وكانت صحيفة أعماله في مدّة حكمه ـ الذي استمر ثلاث سنوات وبضعة أشهر ـ  مُسودّة بقتل ابن بنت النبيّ وأسر أهل بيت الوحي وحرائرالرسالة إلى جانب القتل الجماعي لأهل المدينة وهدم الكعبة المشرّفة.

وبعد موت يزيد بايع أهل الشام ولده معاوية، إلاّ أنّ حكمه لم يستمر أكثر من أربعين يوماً، إذ أعلن تنازله عن العرش، ومات بعدها في ظروف غامضة، فانشقّت القيادات المؤيّدة لبني اُمية على نفسها إلى كتلتين: كتلة أيّدت زعامة مروان بن الحكم، وقد مثّل هذا الاتجاه القبائل اليمانية بقيادة حسّان الكلبي، بينما أيّدت قوى القيسيّين بقيادة الضحّاك بن قيس الفهري، عبد الله بن الزبير.

وإبّان خلافة يزيد القصيرة امتدّت; أيدي الكلبييّن تدريجياً إلى مراكز السلطة، فمارسوا ضغوطاً شديدة على القيسييّن،الأمر الذي أزعج الضحّاك كثيراً فانتهز الفرصة بعد موت يزيد ليبايع ابن الزبير ـ وهو من العرب العدنانية ـ واشتبك الكلبيّون والقيسيّون في «مرج راهط»[1] في معركة أسفرت عن انتصار الكلبيّين، فأصبح مروان بن الحكم خليفة، واستقرّت الأوضاع المضطربة في الشام نسبيّاً.

تزايد المعارضة للحكم الاُموي :

صعّد عبد الله بن الزبير معارضته للشام التي بدأها بعد موت معاوية، حيث كان قد دعا الحجازييّن لمبايعته كخليفة للمسلمين، فاستجابت له الأكثرية الساحقة منهم، وشهد العراق من جديد تحرّكات ضد الحكم الاُموي.

ويبدو أنّ الذين دعو الإمام الحسين(عليه السلام) إلى العراق عبر الرسائل المتوالية ورحّبوا بممثّله اليهم ثمّ تخلّوا عنه وعن الحسين(عليه السلام) بتلك الصورة المخزية ندموا على موقفهم المُذلّ ذاك، لكن هل الذين تحرّكوا ضدّ الشام كانوا نادمين جميعاً؟

الجواب : كلاّ، فليس جميع الذين تحركوا بعد موت يزيد كانوا يحملون همّ الإسلام، فقد كان هناك من يريد إخضاع الشام للعراق وإعادة عاصمة الخلافة إلى العراق.

وعلى أيّ حال، فقد أعلن المتديّنون والسياسيّون معارضتهم ضد حكم الشام، لكنّهم لم يحققوا شيئاً يذكر[2] على صعيد إسقاط الحكم على المدى القريب، فقتل سليمان بن صرد قائد التوّابين، ورجع من بقي من جيشه إلى الكوفة، وفي تلك الغضون أظهر المختار بن أبي عبيدة الثقفي دعوته حاملاً شعار يا لثارات الحسين (عليه السلام).

بدأ المختار بإعداد الشيعة للثورة بعد فشل ثورة التوّابين، وكان يعرف جيداً أنّ أيّ تحرّك شيعي يقتضي زعامة من أهل بيت الرسالة(عليهما السلام)، وأنّ الانطلاق ينبغي أن يتمّ باسمهم ومَن أفضل من عليّ بن الحسين(عليه السلام)؟ وإن رفض الإمام الاستجابة لذلك فليس أمامه غير محمد بن علي بن أبي طالب وهو عمّ الإمام السجاد(عليه السلام).

من هنا كاتب المختار الإمام زين العابدين(عليه السلام) وعمّه معاً، أمّا الإمام(عليه السلام) ـ فلم يعلن عن تأييده الصريح له، لكنّه(عليه السلام) أمضى عمله عندما ثأر من قتلة أبيه الحسين(عليه السلام). أمّا عمه محمد بن الحنفيّة فقد أجاب على سؤال الوفد الذي جاء من الكوفة ليستفسر عن مدى شرعية الانضواء تحت راية المختار قائلاً: أما ما ذكرتم من دعاء مَن دعاكم الى الطلب بدمائنا فوالله لوددت أنّ الله انتصر لنا من عدوّنا بمن شاء من خلقه[3].

وفهم الوفد تأييد ابن الحنفية لحركة المختار وهكذا استطاع المختار أن يستقطب كبار الشيعة مثل ابراهيم بن مالك الأشتر وغيره.

وأرسل المختار رأسَيْ عبيد الله بن زياد وعمر بن سعد إلى الإمام فسجد(عليه السلام) شكراً لله تعالى وقال:

«الحمد لله الذي أدرك لي ثأري من أعدائي وجزى الله المختار خيراً»[4].

وقال اليعقوبي: ووجّه المختار بالرأس الخبيث (أي: رأس ابن زياد) إلى الإمام عليّ بن الحسين، وعهد إلى رسوله بأن يضع الرأس بين يدي الإمام وقت ما يوضع الطعام على الخوان بعد الفراغ من صلاة الظهر، وجاء الرسول إلى باب الإمام، وقد دخل الناس لتناول الطعام، فرفع الرجل عقيرته ونادى: يا أهل بيت النبوّة! ومعدن الرسالة،ومهبط الملائكة، ومنزل الوحي! أنا رسول المختار بن أبي عبيدة الثقفي ومعي رأس عبيد الله بن زياد... ولم تبق علوية في دور بني هاشم إلاّ صرخت[5]، ويقول المؤرّخون: إنّ الامام زين العابدين(عليه السلام) لم يُرَ ضاحكاً منذ أن استشهد أبوه إلاّ في اليوم الذي رأى فيه رأس ابن مرجانة[6].

وعن بعض المؤرّخين: أنّه لمّا رأى الإمام رأس الطاغية قال:

«سبحان الله، ما اغتّر بالدنيا إلاّ من ليس لله في عنقه نعمة، لقد اُدخل رأس أبي عبد الله على ابن زياد وهو يتغدّى»[7].

سنوات المحن والاضطرابات :

كانت الفترة الممتدّة بين عامي ( 66 و 75 هـ ) بالنسبة للشام والحجاز والعراق فترة محن واضطرابات، فلم يتحقّق في هذه المناطق الهدوء والأمن. وشهد الحجاز هجوم قوات عبد الملك على مكة ومقتل عبد الله بن الزبير، إلاّ أنّ نصيب العراق من الاضطرابات كان أكبر من المنطقتين السابقتين. ويمكن القول بجرأة أنّ ما لحق بأهل العراق كان هو النتيجة الطبيعية لدعاء سبط الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) عليهم، إذ رفع الإمام الحسين(عليه السلام) يده بالدّعاء في كربلاء وقال :

«اللهم احبس عنهم قطر السماء وابعث عليهم سنين كسنيّ يوسف وسلّط عليهم غلام ثقيف فيسومهم كأساً مصبَّرة فإنّهم كذّبونا وخذلونا ...»[8].

وانتقم الله تعالى من أهل العراق الذين كذّبوا الحسين بن عليّ (عليه السلام) وخذلوه بواسطة رجل ارهابي مستبد هو الحجاج بن يوسف الثقفي الذي كان «لا يصبر عن سفك الدماء، وارتكاب امور لا يقدر عليها غيره»[9].

واتّخذ الحجّاج سجوناً لا تقي من حرٍّ ولا برد، وكان يعذّب المساجين بأقسى ألوان العذاب وأشدّه، فكان يشدّ على يد السجين القصب الفارسي المشقوق، ويجر عليه حتى يسيل دمه.

يقول المؤرّخون: إنّه مات في حبسه خمسون ألف رجل، وثلاثون ألف امرأة منهنّ ستّ عشرة ألف مجرّدات، وكان يحبس الرجال والنساء في موضع واحد[10] واُحصي في سجنه ثلاثة وثلاثون ألف سجين لم يحبسوا في دَين ولا تبعة[11]، وكان يمرّ على أهل السجن فيقول لهم: إخسأوا فيها ولا تكلِّمون[12].

وقد كان يسخر من المسلمين الذين يزورون قبر النبىّ(صلى الله عليه وآله) ويقول: تباً لهم، إنّما يطوفون بأعواد و رمّة بالية، هلاّ طافوا بقصر أمير المؤمنين عبد الملك! ألا يعلمون أنّ خليفة المرء خير من رسوله[13]؟!

وعهد عبد الملك بن مروان بالملك من بعده إلى ولده الوليد، وأوصاه بالإرهابي الحجّاج خيراً، وقال له: وانظر الحجاج فأكرمه، فإنّه هو الذي وطّأ لكم المنابر وهو سيفك يا وليد ويدك على من ناواك، فلا تسمعنّ فيه قول أحد وأنت إليه أحوج منه إليك، وادع الناسَ إذا متُّ إلى البيعة، فمن قال برأسه هكذا فقل بسيفك هكذا...[14].

ومثّلت هذه الوصية اندفاعاته نحو الشرّ حتى الساعات الأخيرة من حياته، إذ لم يبق بعدها إلاّ لحظات حتى وافته المنيّة، وكانت وفاته في شوال سنة ( 86 هـ )[15] وقد سئل عنه الحسن البصري فقال: ما أقول في رجل كان الحجاج سيئة من سيئاته[16].

[1] منطقة في شرق دمشق.

[2] زندگاني عليّ بن الحسين : 92 = حياة الإمام علي بن الحسين(عليه السلام) .

[3] تاريخ الطبري : 6/12 ـ 14 برواية أبي مخنف . وابن نما الحلّي في كتابه: شرح الثأر روى عن والده : أنّه قال لهم: قوموا بنا إلى إمامي وإمامكم علي بن الحسين، فلمّا دخلوا عليه وأخبروه خبرهم الذي جاؤوا لأجله قال لعمّه محمّد : يا عمّ، لو أن عبداً زنجيّاً تعصّب لنا أهل البيت لوجب على الناس مؤازرته، وقد وليّتك هذا الأمر فاصنع ما شئت. فخرجوا وهم يقولون : قد أذن لنا زين العابدين ومحمّد بن الحنفية، كما روى عنه في بحار الأنوار : 45/365 .

[4] رجال الكشي: 127 ح 203 وعنه في. المختار الثقفي: 124.

[5] تأريخ اليعقوبي : 2/259 ط بيروت.

[6] المصدر السابق .

[7] العقد الفريد :5 / 143.

[8] تاريخ الطبري : 5/451 وعنه في وقعة الطف: 254 وقريباً منه في الإرشاد : 2/110، 111. وليس فيه: سنين كسنيّ يوسف ، ولا غلام ثقيف .

[9] حياة الحيوان : 167 .

[10] حياة الحيوان : 1 / 170.

[11] معجم البلدان : 5 / 349.

[12] تهذيب التهذيب : 2 / 212.

[13] شرح النهج : 15 / 242 عن كتاب: افتراق هاشم وعبد شمس للدبّاس. وقد ورد الخبر قبله في الكامل للمبرّد : 1/222. وفي سنن أبي داود: 4/209 والبداية والنهاية : 9/131 والنصائح الكافية لابن عقيل: 11 عن الجاحظ ، وفي رسائل الجاحظ : 2/16.

[14] تاريخ الخلفاء: 220.

[15] البداية والنهاية : 9 / 68.

[16] مروج الذهب : 3 / 96.