ظواهر فذّة في حياة الإمام زين العابدين (عليه السلام)
تميّزت حياة الإمام زين العابدين(عليه السلام) بمظاهر فذّة، وهي وإن كانت متوفرة في حياة آبائه الطاهرين وأبنائه الأئمّة المعصومين(عليهم السلام) إلاّ أنّها برزت في سيرته(عليه السلام) بشكل أكثر وضوحاً وأوسع دوراً، ممّا دعانا إلى تسليط الضوء عليها أشدّ من غيرها، وهي: أ ـ ظاهرة العبادة . ب ـ ظاهرة الدعاء. ج ـ ظاهرة البكاء . د ـ ظاهرة الإعتاق. فإذا سبرنا حياة الأئمّة (عليهم السلام) وجدناهم ـ كلّهم ـ يتميّزون في هذه المظاهر على أهل زمانهم، إلاّ أنّها في حياة الإمام زين العابدين(عليه السلام) تجلّت بقوة، حتى كان (عليه السلام) فريداً في كلّ منها. ظاهرة العبادة في حياة الإمام (عليه السلام):أجمع معاصروا الإمام زين العابدين(عليه السلام) على أنّه كان من أعبد الناس وأكثرهم طاعة لله تعالى، ولم ير الناس مثله في عظيم إنابته وعبادته، وقد بهر بها المتّقون والصالحون، وحسبه أنّه وحده الذي قد لُقّب بزين العابدين وسيّد الساجدين في تأريخ الإسلام. أمّا عبادته(عليه السلام) فكانت ناشئة عن إيمانه العميق بالله تعالى وكمال معرفته به، وقد عبده لا طمعاً في جنّته ولا خوفاً من ناره، وإنّما وجده أهلاً للعبادة فعبده، وشأنه في ذلك شأن جدّه أمير المؤمنين وسيّد العارفين وإمام المتّقين، وقد أعرب (عليه السلام) عن عظيم إخلاصه في عبادته بقوله: «إنّي أكره أن أعبد الله ولا غرض لي إلاّ ثوابه، فأكون كالعبد الطامع إن طمع عمل وإلاّ لم يعمل، وأكره أن أعبده لخوف عذابه، فأكون كالعبد السوء إن لم يخف لم يعمل...». فانبرى إليه بعض الجالسين فقال له: فبم تعبده؟ فأجابه عن خالص إيمانه: «وأعبُدُه لما هو أهله بأياديه وإنعامه»[1]. ولقد مَلأ حبّ الله تعالى قلب الإمام(عليه السلام) وسخّر عواطفه فكان مشغولاً بعبادة الله وطاعته في جميع أوقاته، وقد سُئلت جارية له عن عبادته فقالت: اُطنب أو أختصر؟ قيل لها: بل اختصري. فقالت: ما أتيته بطعام نهاراً قطّ، وما فرشت له فراشاً بليل، قطّ[2]. لقد قضى الإمام(عليه السلام) معظم حياته صائماً نهاره، قائماً ليله، مشغولاً تارةً بالصلاة، واُخرى بالدعاء. عبادة الإمام :الوضوء هو نور وطهارة من الذنوب، والمقدمة الاولى للصلاة، وكان الإمام(عليه السلام) دوماً على طهارة، وقد تحدّث الرواة عن خشوعه لله في وضوئه، فقالوا: إنّه إذا أراد الوضوء اصفرّ لونه، فيقول له أهله: ما هذا الذي يعتريك عند الوضوء؟ فيجيبهم قائلاً: «أتدرون بين يدي مَن أقوم؟!»[3].
2 ـ صلاته :أمّا الصلاة فمعراج المؤمن وقربان كلّ تقيّ كما في الحديث الشريف ، وكانت الصلاة من أهم الرغبات النفسية للإمام(عليه السلام) فقد اتّخذها معراجاً ترفعه إلى الله تعالى، وكانت تأخذه رعدة إذا أراد الشروع في الصلاة، فقيل له في ذلك فقال: «أتدرون بين يدي من أقوم، ومن اُناجي؟!»[4]. ونعرض لبعض شؤونه في حال صلاته. أ ـ تطيّبه للصلاة: وكان الإمام إذا أراد الصلاة تطيّب من قارورة كان قد جعلها في مسجد صلاته[5]. ب ـ لباسه في صلاته: وكان الإمام(عليه السلام) إذا أراد الصلاة لبس الصوف وأغلظ الثياب[6]، مبالغة منه في إذلال نفسه أمام الخالق العظيم. ج ـ خشوعه في صلاته : كانت صلاته تمثّل الانقطاع التامّ إلى الله جلّ جلاله والتجرّد من عالم المادّيات، فكان لا يحسّ بشيء من حوله، بل لا يحسّ بنفسه فيما تعلّق قلبه بالله تعالى، ووصفه الرواة في حال صلاته، فقالوا: كان إذا قام إلى الصلاة غشي لونه بلون آخر، وكانت أعضاؤه ترتعد من خشية الله، وكان يقف في صلاته موقف العبد الذليل بين يدي الملك الجليل، وكان يصلّي صلاة مودِّع يرى أنّه لا يصلّي بعدها أبداً[7]. وتحدّث الإمام الباقر(عليه السلام) عن خشوع أبيه في صلاته فقال: «كان عليّ بن الحسين إذا قام في الصلاة كأنـّه ساق شجرة لا يتحرك منه شيء إلاّ ما حركت الريح منه»[8]. ونقل أبان بن تغلب إلى الإمام الصادق(عليه السلام) صلاة جدّه الإمام السجاد(عليه السلام) فقال له: إنّي رأيت عليّ بن الحسين إذا قام في الصلاة غشي لونه بلون آخر، فقال له الإمام الصادق(عليه السلام): «والله إنّ عليّ بن الحسين كان يعرف الذي يقوم بين يديه...»[9]. وكان من مظاهر خشوعه في صلاته أنّه إذا سجد لا يرفع رأسه حتى يرفض عرقاً[10] أو كأنّه غمس في الماء من كثرة دموعه وبكائه[11]، ونقل عن أبي حمزة الثمالي أنّه رأى الإمام قد صلّى فسقط الرداء عن أحد منكبيه فلم يسوّه فسأله أبو حمزة عن ذلك فقال له: «ويحك، أتدري بين يدي مَنْ كنتُ؟ إنّ العبد لا يقبل من صلاته إلاّ ما أقبل عليه منها بقلبه»[12]. د ـ صلاة ألف ركعة : وأجمع المترجمون للإمام(عليه السلام) أنّه كان يصلّي في اليوم والليلة ألف ركعة[13]، وأنّه كانت له خمسمائة نخلة، فكان يصلّي عند كلّ نخلة ركعتين[14]ونظراً لكثرة صلاته; فقد كانت له ثفنات في مواضع سجوده كثفنات البعير، وكان يسقط منها في كلّ سنة، فكان يجمعها في كيس، ولمّا توفّي (عليه السلام) دفنت معه[15]. هـ ـ كثرة سجوده : إنّ أقرب ما يكون العبد من ربّه وهو في حال سجوده كما في الحديث الشريف، وكان الإمام(عليه السلام) كثير السجود لله تعالى خضوعاً وتذلّلاً له، وروي: أنّه خرج مرّةً إلى الصحراء فتبعه مولىً له فوجده ساجداً على حجارة خشنة، فأحصى عليه ألف مرّة يقول: «لا إله إلاّ الله حقّاً حقّاً، لا إله إلاّ الله تعبّداً ورقّاً، لا إله إلاّ الله إيماناً وصدقاً»[16]. وكان يسجد سجدة الشكر، ويقول فيها مئة مرّة: «الحمد لله شكراً»، ثمّ يقول: «يا ذا المنّ الذي لا ينقطع أبداً، ولا يحصيه غيره عدداً، ويا ذا الجود الذي لا ينفد أبداً، يا كريم، يا كريم» ويتضرّع بعد ذلك ويذكر حاجته[17]. و ـ كثرة تسبيحه : وكان دوماً مشغولاً بذكر الله تعالى وتسبيحه وحمده، وكان يسبّح الله بهذه الكلمات: «سبحان من أشرق نوره كلّ ظلمة، سبحان من قدّر بقوته كلّ قدرة، سبحان من احتجب عن العباد بطرائق نفوسهم فلا شيء يحجبه، سبحان الله وبحمده»[18]. ز ـ ملازمته لصلاة الليل: من النوافل التي كان لا يَدَعُها الإمام(عليه السلام) صلاة الليل، فكان مواظباً عليها في السفر والحضر[19] إلى أن انتقل إلى الرفيق الأعلى. وكان(عليه السلام) إذا فرغ من صلاة الليل دعا بهذا الدعاء الشريف، وهو من غرر أدعية أئمّة أهل البيت(عليهم السلام)، وإليك بعض مقاطعه: «اللهمّ يا ذا الملك المتأبد بالخلود والسلطان، الممتنع بغير جنود ولا أعوان، والعزّ الباقي على مرّ الدهور وخوالي الأعوام[20] ومواضي الأزمان والأيام، عزّ سلطانك عزاً لا حدّ له بأوّلية ولا منتهى له بآخرية، واستعلى ملكك علوّاً سقطت الأشياء دون بلوغ أمده[21] ولا يبلغ أدنى ما استأثرت من ذلك أقصى نَعت الناعتين، ضلّت فيك الصفات وتفسّخت[22]دونك النعوت، وحارت في كبريائك لطائف الأوهام، كذلك أنت الله الأوّل في أوّليّتك، وعلى ذلك أنت دائمٌ لا تزول، وأنا العبد الضعيف عملاً الجسيم أملاً، خرجت من يدي أسباب الوصلات[23] إلاّ ما وصله رحمتك، وتقطّعت عنّي عصم[24] الآمال إلاّ ما أنا معتصم به من عفوك، قلّ عندي ما أعتد به من طاعتك، وكثر عليّ ما أبوء[25] به من معصيتك، ولن يضيق عليك عفوٌ عن عبدك، وإن أساء فاعف عنّي...». «اللهمّ إنّي أعوذ بك من نار تغلّظت بها على مَن عصاك، وتوعّدت بها على من صدف[26] عن رضاك، ومن نار نورها ظلمة، وهيّنها أليم، وبعيدها قريب، ومن نار يأكل بعضها بعضٌ، ويصول[27] بعضُها على بعض، ومن نار تذر[28] العظام رميماً[29]، وتسقي أهلها حميماً[30]، ومن نار لا تبقي على مَن تضرّع اليها، ولا ترحم من استعطفها، ولا تقدر على التخفيف عمّن خشع لها واستسلم اليها، تلق سكانها بأحرّ ما لديها من أليم النكال[31] وشديد الوبال[32]...»[33]. وذبل الإمام(عليه السلام) من كثرة العبادة وأجهدته أيّ إجهاد، وقد بلغ به الضعف أنّ الريح كانت تميله يميناً وشمالاً بمنزلة السنبلة[34] التي تميلها الريح. وقال ابنه عبد الله: كان أبي يصلّي بالليل فإذا فرغ يزحف إلى فراشه[35]. وأشفق عليه أهله ومحبّوه من كثرة ما بان عليه من الضعف والجهد من كثرة عبادته، فكلّموه في ذلك لكنّه(عليه السلام) أصرّ على شدّة تعبّده حتى يلحق بآبائه، قال له أحد أبنائه: يا أبت كم هذا الدؤوب ( يعني الصلاة )؟ فأجابه الإمام(عليه السلام): «أتَحَبّبُ إلى ربّي»[36]. وقال جابر بن عبدالله الأنصاري للإمام(عليه السلام): ياابن رسول الله! أما علمت أنّ الله تعالى إنّما خلق الجنّة لكم ولمن أحبّكم، وخلق النار لمن أبغضكم وعاداكم، فما هذا الجهد الذي كلّفته نفسك؟ فأجابه الإمام(عليه السلام): «يا صاحب رسول الله، أما علمت أنّ جدي رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر، فلم يَدَع الإجتهاد له، وتعبّد ـ بأبي واُمي ـ حتى انتفخ ساقه وورم قدمه، وقد قيل له: أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر؟ فقال(صلى الله عليه وآله): أفلا أكون عبداً شكوراً؟». فقال له جابر: ياابن رسول الله، البُقْيا على نفسك، فإنّك من اُسرة بهم يستدفع البلاء، وبهم يستكشف الأدواء، وبهم تُستمطر السماء...» فأجابه الإمام(عليه السلام): «لا أزال على منهاج أَبَوَيَّ متأسِّياً بهما حتى ألقاهما...»[37]. |
|