مكتبة الإمام زين العابدين

فهرس الكتاب

 

 

5 ـ حجّه (عليه السلام) :

وكان يحثّ على الحج والعمرة بقوله: حجّوا واعتمروا تصح أجسادكم، وتتّسع أرزاقكم، ويصلح إيمانكم، وتكفوا مؤونة الناس ومؤونة عيالكم»[1].

وقال(عليه السلام): «الحاج مغفور له، وموجوب له الجنّة، ومستأنف به العمل، ومحفوظ في أهله وماله»[2].

وقال(عليه السلام): «الساعي بين الصفا والمروة تشفع له الملائكة»[3].

وكان(عليه السلام) يدعو إلى تكريم الحجّاج إذا قدموا من بيت الله الحرام ويقول: «استبشروا بالحجّاج إذا قدموا وصافِحوهم، وعظّموهم تشاركوهم في الأجر قبل أن تخالطهم الذنوب»[4].

وحجّ(عليه السلام) غير مرّة ماشياً كما حج أبوه وعمّه الحسن(عليهم السلام)، وحج على ناقته عشرين حجّة وكان يرفق بها كثيراً.

وقال ابراهيم بن عليّ: حججتُ مع عليّ بن الحسين فتلكّأتْ ناقته فأشار اليها بالقضيب، ثم ردّ يده، وقال: «آه من القصاص...»[5].

وكان الإمام(عليه السلام) إذا أراد السفر إلى بيت الله الحرام احتفّ به القرّاء والعلماء; لأنّهم كانوا يتزوّدون منه العلوم والمعارف والحكم والآداب، وقال سعيد بن المسيب: إنّ القرّاء كانوا لا يخرجون إلى مكّة حتى يخرج عليّ بن الحسين، فخرج وخرجنا معه ألف راكب[6].

واذا انتهى الإمام إلى إحدى المواقيت التي يحرم منها; يأخذ بعمل سنن الإحرام، وإذا أراد التلبية عند عقد الإحرام اصفرّ لونه واضطرب ولم يستطع أن يلبّي، فاذا قيل له: ما لك لا تلبّي؟ قال: «أخشى أن أقول: لبيك، فيقال لي: لا لبيك».

وإذا لبّى غشي عليه من كثرة خوفه من الله تعالى، ويسقط من راحلته، ولا يزال يعتريه هذا الحال حتى يقضي حجّه[7].

وكان الإمام(عليه السلام) إذا أدّى مناسكه في البيت الحرام; أقبل على الصلاة تحت ميزاب الرحمة. ورآه طاووس اليماني في ذلك المكان قائماً وهو يدعو الله ويبكي من خشية الله، فلمّا فرغ من صلاته قال له طاووس: رأيتك على حالة من الخشوع ولك ثلاثة اُمور، أرجو أن تؤمنك من الخوف، أحدها: أنّك ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، الثاني: شفاعة جدّك، الثالث: رحمة الله.

فأجابه الإمام(عليه السلام) قائلاً: «يا طاووس، أمّا أنّي ابن رسول الله(صلى الله عليه وآله) فلا يؤمنني وقد سمعت الله تعالى يقول: (فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون)[8]، وأمّا شفاعة جدّي فلا تؤمنني; لانّ الله تعالى يقول: (ولا يشفعون إلاّ لمن ارتضى)[9] وأمّا رحمة الله فالله يقول: (إنّ رحمة الله قريب من المحسنين)[10] ولا أعلم أنّي محسن»[11].

وقال طاووس: رأيت عليّ بن الحسين يطوف من العشاء إلى السحر ويتعبّد، فإذا لم يرَ أحداً رمق السماء بطرفه وقال: «الهي، غارت نجوم سماواتك، وهجعت عيون أنامك، وأبوابك مفتّحات للسائلين، جئتك لتغفر لي وترحمني وتريني وجه جدي محمد (صلى الله عليه وآله) في عرصات القيامة» ثم بكى وقال: «أما وعزّتك وجلالك ما أردتُ بمعصيتي مخالفتك، وما عصيتك إذ عصيتك وأنا بك شاكّ، ولا بنكالك جاهل، ولا لعقوبتك متعرّض، ولكن سوّلت لي نفسي، وأعانني على ذلك سترك المرخى به عليّ، فأنا الآن من عذابك من يستنقذني، وبحبل من اعتصم إن قطعت حبلك عنّي...». ثم خرّ إلى الأرض ساجداً، فدنوت منه ورفعت رأسه ووضعته في حجري، فوقعتْ قطرات من دموعي على خدّه الشريف فاستوى جالساً، وقال بصوت خافت: «من هذا الذي أشغلني عن ذكر ربي؟».

فأجابه طاووس بخضوع وإجلال: أنا طاووس ياابن رسول الله، ما هذا الجزع والفزع ونحن يلزمنا أن نفعل مثل هذا ونحن عاصون جانون؟ أبوك الحسين بن عليّ واُمّك فاطمة الزهراء وجدّك رسول الله.

فأجابه الإمام(عليه السلام): «هيهات هيهات يا طاووس، دع عنك حديث أبي واُمي وجدّي، خلق الله الجنة لمن أطاعه وأحسن ولو كان عبداً حبشياً، وخلق النار لمن عصاه ولو كان سيّداً قرشياً، أما سمعت قوله تعالى: (فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون)؟ والله لا ينفعك غداً إلاّ ما تقدّمه من عمل صالح»[12].

دعاؤه في يوم عرفة :

وكان الإمام(عليه السلام) في عرفات يقوم بالصلاة والدعاء وتلاوة القرآن الكريم، وكان يدعو بدعاء جليل وهو من غرر أدعية أئمّة أهل البيت(عليهم السلام)، وفيما يلي بعض المقتطفات منه:

«الحمد لله ربّ العالمين، اللهمّ لك الحمد بديع السماوات والأرض[13] ذا الجلال والإكرام، ربّ الأرباب، وإله كلّ مألوه، وخالق كلّ مخلوق، ووارث كلّ شيء ليس كمثله شيء، ولا يعزب[14] عنه علم شيء، وهو بكلّ شيء محيط، وهو على كلّ شيء رقيب.

أنت الله لا اله إلاّ أنت الأحد المتوحّد الفرد، وأنت الله لا اله إلاّ أنت الكريم المتكرّم العظيم المتعظّم الكبير المتكبّر، وأنت الله لا اله إلاّ أنت العليّ المتعال الشديد المحال[15].

أنت الذي قصرت الأوهام عن ذاتيتك، وعجزت الأفهام عن كيفيتك، ولم تدرك الأبصار موضع أينيّتك، أنت الذي لا تُحدّ فتكون محدوداً، ولم تمثل فتكون موجوداً، ولم تلد فتكون مولوداً.

لك الحمد حمداً يدوم بدوامك، ولك الحمد حمداً خالداً بنعمتك، ولك الحمد حمداً يوازي صنعك، ولك الحمد حمداً يزيد على رضاك، ولك الحمد حمداً مع حمد كلّ حامد.

ربّ صلّ على محمد وآله صلاةً زاكيةً لا تكون صلاةٌ أزكى منها، وصلّ عليه صلاةً ناميةً لا تكون صلاةٌ أنمى منها، وصلّ عليه صلاةً راضيةً لا تكون صلاةٌ فوقها... ربِّ صلِّ على أطائب أهل بيته الذين اخترتهم لأمرك، وجعلتهم خزنة علمك وحفظة دينك، وخلفاءَك في أرضك، وحججك على عبادك، وطهّرتهم من الرجس والدنس تطهيراً بإرادتك، وجعلتهم الوسيلة إليك والمسلك إلى جنّتك.

اللهمّ إنّك أيّدت دينك في كلّ أوان بإمام أقمته علماً لعبادك ومناراً في بلادك، بعد أن وَصَلْت حبله بحبلك، وجعلته الذريعة إلى رضوانك، وافترضت طاعته، وحذّرت معصيته، وأمرت بامتثال أوامره والانتهاء عند نهيه، وألاّ يتقدّمه متقدّم ولا يتأخّر عنه متأخّر، فهو عصمة اللائذين، وكهف المؤمنين، وعروة المتمسّكين، وبهاءُ العالمين.

وانزع من قلبي حبّ دنيا دنية تنهى عمّا عندك، وتصدّ عن ابتغاء الوسيلة إليك، وتذهل عن التقرّب منك، وزيّن لي التفرّد بمناجاتك بالليل والنهار، وهب لي عصمة تدنيني من خشيتك، وتقطعني عن ركوب محارمك، وتفكّني من أسر العظائم، وهب لي التطهير من دنس العصيان، وأذْهِب عنّي درن الخطايا، وسربلني[16] بسربال عافيتك.

ولا تكلني إلى حولي وقوّتي دون حولك وقوّتك، ولا تخزني يوم تبعثني للقائك، ولا تفضحني بين يدي أوليائك، ولا تنسني ذكرك، ولا تُذهب عنّي شكرك... واجعل رغبتي إليك فوق رغبة الراغبين، وحمدي إيّاك فوق حمد الحامدين، ولا تخذلني عند فاقتي إليك.

اجعل هيبتي في وعيدك، وحذري من إعذارك وإنذارك، ورهبتي عند تلاوة آياتك، واعمر ليلي بإيقاظي فيه لعبادتك، وتفرّدي بالتهجّد لك، وتجرّدي بسكوني إليك وإنزال حوائجي بك ومنازلتي إيّاك[17] في فكاك رقبتي من نارك، وإجارتي ممّا فيه أهلها من عذابك، ولا تذرني في طغياني عامهاً[18] ولا في غمرتي[19] ساهياً حتى حين، ولا تجعلني عظةً لمن اتّعظ، ولا نكالاً لمن اعتبر، ولا فتنةً لمن نظر، ولا تمكر بي فيمن تمكر به، ولا تستبدل بي غيري... واجعل قلبي واثقاً بما عندك، وهمّي مستغرقاً لما هو لك، واستعملني بما تستعمل به خالصتك، وأشرب قلبي عند ذهول العقول طاعتك... وصن وجهي عن الطلب إلى أحد من العالمين، وذبّني عن التماس ما عند الفاسقين ولا تجعلني للظالمين ظهيراً ولا لهم على محو كتابك يداً ونصيراً...»[20].

دعاؤه يوم عيد الأضحى :

كان الإمام زين العابدين(عليه السلام) يستقبل يوم عيد الأضحى بالابتهال إلى الله والتضرّع إليه، طالباً منه أن يتفضّل عليه بقبول مناسكه وسائر طاعاته وعباداته، وأن يمنحه المغفرة والرضوان، ومن دعائه في هذا اليوم المبارك:

«اللهمّ هذا يوم مبارك ميمون والمسلمون فيه مجتمعون.

اللهمّ إليك تعمّدت بحاجتي، وبك أنزلتُ اليوم فقري وفاقتي ومسكنتي، وإنّي بمغفرتك ورحمتك أوثق منّي بعملي، ولمغفرتك ورحمتك أوسع من ذنوبي، فصلّ على محمد وآل محمد، وتولّ قضاء كلّ حاجة هي لي بقدرتك عليها، وبتيسير ذلك عليك، وبفقري إليك، وغناك عنّي، فإنّي لم أُصِبْ خيراً قطُّ إلاّ منك، ولم يصرف عنّي سوءاً قط أحد غيرك، ولا أرجو لأمر آخرتي ودنياي سواك.

اللهمّ فصلّ على محمد وآل محمد، ولا تخيّب اليوم ذلك من رجائي، يا من لا يُحفيه سائل[21] ولا ينقصه نائل، فإنّي لم آتك ثقةً منّي بعمل صالح قدّمته، ولا شفاعة مخلوق رجوته إلاّ شفاعة محمد وأهل بيته صلواتك عليه وعليهم وسلامك، أتيتك مقرّاً بالجرم والإساءة إلى نفسي، أتيتك أرجو عظيم عفوك الذي عفوت به عن الخاطئين ثمّ لم يمنعك طول عكوفهم[22] على عظيم الجرم أن عدت[23] عليهم بالرحمة والمغفرة.

اللهمّ إنّ هذا المقام[24] لخلفائك[25] وأصفيائك ومواضع اُمنائك[26] في الدرجة الرفيعة التي اختصصتهم بها قد ابتزوها[27] وأنت المقدّر لذلك، لا يغالب أمرك، ولا يُجاوز المحتوم من تدبيرك، كيف شئت وأنّى شئت...»[28].

[1] وسائل الشيعة : 8 / 5.

[2] فروع الكافي : 4/252 .

[3] من لا يحضره الفقيه: 2 / 208 ح 2168 .

[4] بحار الأنوار: 99/386 مع اختلاف في اللفظ .

[5] الفصول المهمة: 189.

[6] حياة الإمام زين العابدين : 227 .

[7] نهاية الإرب : 21 / 326.

[8] المؤمنون  (23) : 101 .

[9] الأنبياء  (21) : 28 .

[10] الأعراف  (7) : 56 .

[11] بحار الأنوار : 46 / 101.

[12] مناقب آل أبي طالب : 4 / 163، 164، وبحار الأنوار : 46 / 81 .

[13] بديع السماوات والأرض: مخترعها لا عن مثال سابق، أو أنّ السماوات والأرض بديعة، أي عديمة النظير.

[14] لا يعزب: لا يغيب.

[15] المحال: الأخذ.

[16] سربلني: قمّصني، والسربال: القميص.

[17] منازلتي ايّاك: أي مراجعتي.

[18] عامهاً: العَمَه في البصيرة كالعمى في البصر.

[19] ولا في غمرتي: أي إغمائي وغفلتي، ناظراً إلى قوله سبحانه: (فذرهم في غمرتهم حتّى حين). المؤمنون  (23) : 54 .

[20] الصحيفة الكاملة السجادية : الدعاء 47.

[21] لا يحفيه سائل: أي لا يستقصيه في السؤال، إذ كلما سأله شيئاً فما بقي عنده فهو أكثر منه بكثير، بل لا نسبة بينهما، لنهاية أحدهما ولا نهاية الآخر.

[22] عكوفهم: إقامتهم ومواظبتهم.

[23] أن عُدْتَ: أي عن أن عدت، وحذف مثله قياسي، و «أن» مصدرية يعني العود.

[24] إنّ هذا المقام: أي مقام صلاة الجمعة أو العيد.

[25] لخلفائك: أي الأئمة المعصومين(عليهم السلام)، يعني هم المستحقّون لذلك، وأن يكون أزمّته بأيديهم، فامّا يجعلونه لأنفسهم كما في زمن حضورهم وبلد شهادتهم وأمنهم من الضرر، أو يأذنون لمن يرونه أهلاً له عموماً أو خصوصاً، كما في زمن غيبتهم أو تقيّتهم، وفي غير بلد حضورهم.

[26] ومواضع اُمنائك: نصب عطف على «هذا المقام«، و «لخلفائك» متعلق بهذا «المقام»، أو خبر له.

[27] قد ابتزوها: الابتزاز والبزّ: السلب والنزع وأخذ الشيء بجفاء وقهر، والعائد للدرجة أو للمواضع أو للمقام باعتبار اكتساب تأنيث الدرجة.

[28] الدعاء: 48 من الصحيفة الكاملة السجاديّة.