كلمة الناشر |
بسم الله الرحمن الرحيم
من الواضح والمسلم به عظمة الدور الذي قام به أئمة الهدى من أهل البيت (ع) في الحفاظ على الرسالة الإسلامية وصيانة الأمة والمجتمع الإسلامي من الانحراف، فكان هذا من قدرهم الشريف من قبل الله تعالى، وقد قاموا به على أفضل وأكمل وجه وكانوا أحق به، وأهله وكان الله بكل شيء عليماً. فقد سعى أعداء الإسلام جاهدين في القضاء على الرسالة الإسلامية بطرق شتى، وعلى عدة محاور، تمثل أولا بإقصاء من نصت عليه الأدلة والروايات الشريفة على أحقيته بالخلافة بعد رسول الله (ص) وهم أهله بيته الكرام، ثم عزلهم عن أداء مهامهم الرسالية في كافة الميادين السياسية والاجتماعية بالإضافة إلى الميدان الأصلي ألا وهو التشريعي والتربوي والثقافي. ومن بعد فقد قام أعداء الدين والرسالة بمطاردة أهل البيت (ع) والسعي في القضاء عليهم وعلى ذراريهم كي لا يبقى أثر ولا عين من الرسول الكريم (ص) وما جاء به من خير الدنيا والآخرة. إن النظرة الأولية والفاحصة لمجريات الأحداث بعد وفاة نبي الرحمة (ص) وما قام به الأمويون ومن ثم العباسيون توضح خبث ودناءة المخطط الذي قاموا به في القضاء على هذا الدين العظيم. كذلك وتكملة لفصول هذا المخطط فقد قاموا بعرض نماذج مزيفة من فقهاء ومحدثين ورواة مقابل أئمة أهل البيت (ع) والسعي في إضفاء الشرعية عليهم بالرجوع إليهم في أخذ الفقه والحديث عنهم وسوق الأمة نحوهم ومنعهم من الاتصال والتقرب من أهل البيت (ع) عن طريق ضرب طوق المراقبة عليهم، حتى بلغ الأمر أن الرجل إذا روى عن الإمام علي (ع) حديثاً وإن كان لا يتعلق بفضله بل بشرائع الدين لا يتجاسر على ذكر اسمه فيقول: عن أبي زينب مخافة عواقب هذا الأمر(1). وكم جرت هذه الخطوة من ويلات ومآسي على الأمة، من تزييف لبعض الحقائق ووضع الأحاديث الموضوعة التي تتلاءم مع أهداف السلطة ومن ثم التلاعب بالأحكام وذلك إرضاءً لحكام السوء وطلباً لحطام الدنيا. وقد بذل معاوية لسمرة بن جندب مائة ألف درهم ليروي أن قوله تعالى: (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله)(2) نزل في ابن ملجم أشقى مراد، بل أشقى الأولين والآخرين، وقوله تعالى: (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام)(3) نزل في علي أمير المؤمنين (ع) ! فلم يقبل، فبذل له أربعمائة ألف درهم فقبل(4)، وهكذا ومن أمثال هذه كثير، فكان نتيجة ذلك أن شُبّه على الكثير من أبناء الأمة الإسلامية مما أدى إلى ابتعادهم عن ذلك النمير الصافي لأهل البيت (ع) . إن التزام أهل البيت (ع) بالمنهج الرباني الذي جاء به الرسول الكريم (ص) وأرسى قواعده في الأمة، بالإضافة إلى ما حباهم الله من خصال كريمة، أفشل قواعد اللعبة التي أتقن أعداء الإسلام أداء أدوارها، مما أسقط في أيديهم ما كانوا يرومون القيام به فجعلهم حيرى لا يدرون ما يفعلون. إن الحفاظ على النصر أهم من النصر نفسه، ولذلك سعى أهل البيت (ع) جادين في الحفاظ على جهاد الرسول (ص) وصفوة الصفوة من صحبه الأبرار من أجل الحفاظ على الشريعة وتطبيق النظام الإسلامي وإرساء قواعده في المجتمع الإسلامي وإن كان فيه التضحية بأنفسهم وذراريهم. يقول الإمام علي (ع) : «لقد علمتم أني أحق الناس بها من غيري ووالله لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جور إلا عليّ خاصة التماساً لأجر ذلك وفضله وزهداً فيما تنافستموه من زخرفه وزبرجه»(5). كما قام الإمام الحسن المجتبى (ع) بالصلح مع طاغية زمانه من أجل الحفاظ على الثلة الباقية من صحابة الرسول (ص) الأبرار وأصحاب أمير المؤمنين علي (ع) وكذلك للحفاظ على وحدة الأمة من التمزق كما رووا مرفوعاً إلى أبي بكر قال: سمعت النبي (ص) على المنبر والحسن (ع) إلى جنبه، ينظر (ص) إلى الناس مرة وإليه مرة وقال: «إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به ما بين فئتين من المسلمين»(6)، فكان كما قال (ص) . وأما سيد الشهداء الإمام الحسين (ع) فكان دوره يتمثل بالقيام بالثورة على ما آلت إليه الأوضاع الفاسدة، فكان باستشهاده وتضحيته بدمه الطاهر وأهل بيته الكرام (ع) أن صان حريم الدين المقدس وحفظه من التزييف والانحراف، فكان التصديق لقول رسول الله (ص) : «حسين مني وأنا من حسين»(7). إن الحديث عن أهل البيت (ع) وعن دورهم في الحياة هو الحديث عن الكل الذي لا يتجزأ، فلقد كانوا (ع) يمثلون أطروحة واحدة، اللاحق منهم يكمل مسيرة السابق ولا يشذ عنه ليبدأ من الصفر في عملية البناء، ومهما كان الظرف الذي يمر فيه، فلولا صبرهم وإناتهم وتخطيطهم الحكيم لما كان للباطل أن يندحر وينكشف زيف الظلمة والطواغيت ومخططاتهم الخبيثة للقضاء على هذا الدين الذي جاء لإسعاد البشرية أجمع. ومن هؤلاء الأئمة الأطهار (ع) الإمام علي بن الحسين زين العابدين (ع) وهو الرابع من الأئمة المسلمين كما نص بالاسم عليه الحديث الشريف الذي رواه جابر بن عبد الله الأنصاري عن رسول الله (ص) (8). كانت ولادته (ع) بالمدينة المنورة يوم الخميس في الخامس من شعبان سنة ثمان وثلاثين من الهجرة في أيام جده أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب (ع) وقبل وفاته بسنتين(9). وكان (ع) كآبائه الطاهرين مثالاً في التقوى والزهد والعبادة حتى عُرف بين الخاصة والعامة بـ (زين العابدين) لكثرة عبادته، حتى أنه كان ليلة في محرابه قائماً في تهجده فتمثل له الشيطان في صورة ثعبان ليشغله عن عبادته، فلم يلتفت إليه، فجاء إلى إبهام رجله فالتقمها فلم يلتفت إليه فآلمه فلم يقطع صلاته، فلما فرغ منها وقد كشف الله له فعلم أنه شيطان فسبه ولطمه وقال: «أخسأ يا ملعون» فذهب وقام إلى إتمام ورده، فسمع صوتاً ولا يرى قائله وهو يقول: (أنت زين العابدين) ثلاثاً فظهرت هذه الكلمة واشتهرت لقباً له (ع) (10). ونتيجة لهذا فلقد تعلق به المسلمون كافة وكانوا يرون فيه مرجعهم في الحلال والحرام والمثل الأعلى في الورع والعبادة، وأطبقوا جميعاً على استقامته وأفضليته، وانقاد الواعون منهم إلى زعامته وفقهه ومرجعيته.. قال الزهري: (ما رأيت هاشمياً أفضل من علي بن الحسين ولا أفقه منه)، وقال في كلام آخر: (ما رأيت قرشياً أفضل منه)، وقال سعيد بن المسيب: (ما رأيت قط مثل علي بن الحسين)، وقال سفيان بن عينيه: (ما رأيت هاشمياً أفضل من زين العابدين ولا افقه منه)، وقد عد الإمام الشافعي علي بن الحسين (ع) أفقه أهل المدينة. كما اعترف بهذه الحقيقة حتى حكام عصره من بني أمية، فقد قال له عبد الملك بن مروان: (ولقد أوتيت من العلم والدين والورع ما لم يؤته أحد مثلك قبلك إلا من مضى من سلفك)(11). وكان الإمام السجاد (ع) له من المكانة في قلوب المسلمين كافة وتعلقهم به ما تعجز الأقلام عن وصفه، لما كانت عليه من آثار الجلال وأخلاق النبوة وسيماء الصالحين، فقد روي أنه لما حج هشام ابن عبد الملك فلم يقدر على الاستلام من الزحام فنصب له منبر وجلس عليه وأطاف به أهل الشام، فبينما هو كذلك إذ أقبل علي بن الحسين (ع) وعليه إزار ورداء، من أحسن الناس وجهاً وأطيبهم رائحة، بين عينيه سجادة كأنها ركبة عنز، فجعل يطوف فإذا بلغ إلى موضع الحجر تنحى الناس حتى يستمله هيبة له، فقال شامي: من هذا يا أمير؟ فقال: لا أعرفه لئلا يرغب فيه أهل الشام، فقال الفرزدق وكان حاضراً: لكني أنا أعرفه، فقال الشامي: من هو يا أبا فراس فأنشأ قصيدته المعروفة(12). نعم أهل البيت (ع) هم حجج الله على الأرض في الحلال والحرام، وهم المفزع والملاذ في كل ما يلم بالأمة من مشكلات وما تعصف بها من أزمات، فإنهم لا يبخلون بما أتاهم الله من فضل وإن جار الحكام عليهم، وذلك لأنهم يرون أنهم معنيون بحفاظ الإسلام والمسلمين والشريعة المقدسة. ولقد تناول سماحة المرجع الديني الراحل الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره الشريف) جوانب متعددة من حياة الإمام السجاد (ع) في كتابه هذا (الإمام زين العابدين (ع) قدوة الصالحين) بما عرف عن قلمه الذي يجمع بين الرصانة والمتانة إلى جانب البساطة في العبارة مما يوصل المعنى إلى القارئ من دون تكلف. ومؤسسة المجتبى إذ تقوم بطبع ونشر هذا الكتاب لسماحة الإمام الراحل (قده) في خطوة منها للحفاظ على تراثه المستلهم من الكتاب والعترة، ونشره بين صفوف الأمة، كي تنير شمعة في طريق السالكين لطلب الهداية والمعرفة، وختاماً نسأل الله تعالى أن ينفع بهذا الكتاب كما نفع بغيره والحمد لله أولاً وآخراً.
مؤسسة المجتبى للتحقيق والنشر بيروت لبنان ص.ب: 5951 / 13
(1) راجع شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج4 ص73. (2) سورة البقرة: 207. (3) سورة البقرة: 204. (4) راجع شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج4 ص73. (5) نهج البلاغة، الخطب: 74 ومن خطبة له (ع) لما عزموا على بيعة عثمان. (6) بحار الأنوار: ج43 ص305 ب12. (7) كشف اليقين للعلامة الحلي: ص305 ف3 ب2 المبحث التاسع عشر في أولاده. (8) راجع الكافي: ج1 ص527-528 باب ما جاء في الاثني عشر والنص عليهم (ع) ح3. (9) كشف الغمة في معرفة الأئمة للإربلي: ج2 ص73-74. (10) بحار الأنوار: ج46 ص5 ب1 ح6. (11) راجع مقدمة الشهيد السعيد السيد محمد باقر الصدر S على الصحيفة السجادية. (12) راجع المناقب لابن شهر آشوب: ج4 ص169 فصل في سيادته (ع) وستأتي القصيدة في أواخر الكتاب. |