توظيف الشعر السياسي
اهمية الشعر السياسي
الشعر السياسي اداة من
الادوات السياسية النافعة للحكم العادل او الجائر على حد سواء.
التاريخ السياسي حافل بهذا اللون من الشعر على مرّ
الاحقاب. الا انه قد انحسر انحساراً ملحوظاً في القرن العشرين.
لطالما ساهم الشعر السياسي في دعم نظرية القيادة حول
الحكم والدولة، وتسهيل مهام السلطة.
ولطالما كان الشعر السياسي الوقود المتأجج للانتفاضة،
والمؤيد القوي لمقررات المعارضة.
العصر الاموي من العصور التي ارتفعت فيها بورصات عملات
واسهم الشعر السياسي.. بل من اكثرها ارتفاعاً.
ومن أسباب ذلك الارتفاع ان الغالبية من حكّامه كانوا من
الادباء او المتذوقين للادب وكثير منهم كانوا من الشعراء المجيدين.
ومن اسباب ذلك ايضاً ان الحس الشعري كان قوياً في الامة
بما في ذلك الشعر السياسي. ومن اسباب ذلك ان أمام السلطة شعراء بارعين من اعداء
السلطة او ممن كان ينقدها ولو نقداً يسيراً أمثال: يزيد بن مفرّغ الحميري وعبد
الرحمن بن الحكم الاموي والفضل بن العباس اللهبي والفرزدق وعمران بن حطان الخارجي
وكعب الاشقري وعبد الله بن همام السلولي.
علماً بأن من هؤلاء من كان يمدح الخلفاء، او بعض كبار
المسؤولين في الدولة مثل الفرزدق وكعب الاشقري شاعر المهلب بن ابي صفرة.
لقد واجه النظام السياسي آنذاك خط أهل البيت المتمثل في
فترة طويلة من فتراته بخط الامام زين العابدين(عليه السلام) مواجهة شديدة.. عنيفة..
صارمة.. حامية الوطيس. بشكلها المباشر وغير المباشر، المقصود وغير المقصود.
كما لقي الامام زين العابدين(عليه السلام) مجتمعاً في
الاعم الاغلب متهافتاً.. قاتم السلوك.. فاحم التصورات والرؤى.. مغايراً للمقاييس
الاسلامية في المجتمع الصالح.
فلا بد له اذن من ان يرسم المنهج، وأن يحدد الخط.
لما كان الكلام على ضربين: نثر وشعر.. فعلى هذا قال
الامام زين العابدين(عليه السلام) كلمته وحددها على الصعيدين معاً.
اذ ان الكلام على صعيد النثر له دوره البارز كما ان
الكلام على صعيد الشعر له دوره البارز أيضاً.
ان اليد الشعرية يد ساحرة
لها القدرة على التأثير
والفاعلية في الصراع العقائدي والسياسي الدائر بين الحق
والباطل. وهنا نستعرض امثلة كثيرة من شعر الامام زين العابدين(عليه السلام) السياسي.
1 ـ تعرية المسار السياسي
أ ـ قُتل الامام الحسين بن علي(عليه السلام) وسيّر أهل بيته
من مكان الى آخر على اقتاب الجمال بلا وطاء وبحالة مأساوية، فقال الامام زين
العابدين(عليه السلام) واوداجه تشخب دماً «بحر البسيط»:
يا أمة السوء لاسقياً لربعكمُ
يا امة لم تراع جدّنا فينا(91)
لو أننا ورسول الله يجمعنا
يوم القيامة ما كنتم تقولونا
تسيّرونا على الاقتاب عارية
كأننا لم نشيّد فيكمُ دينا
بني امية ما هذا الوقوف على
تلك المصائب لم تصغوا لداعينا
تصفّقون علينا كفكم فرحاً
وانتم في فجاج الارض تسبونا
أليس جدي رسول الله ويلكُم
اهدى البرية من سبل المضلينا
يا وقعة الطف قد اورثتني حزناً
والله يهتك استار
المسيئينا
ب ـ
وهو الزمان فما تفنى عجائبهُ
من الكرام وما تفنى مصائبهُ(92)
فليت شعري الى كم ذا يجاذبنا
بصرفه والى كم ذا نجاذبُه
يسري بنا فوق اقتاب بلا وُطُؤ
وسائق العيس يحمي عنه غاربه
كأننا من اسار الروم بينهمُ
أو كل ما قاله المختار كاذبه
كفرتمُ برسول الله ويحكمُ
فكنتمُ مثل من ضلّت مذاهبه
جـ ـ
ساد العلوجُ فما ترضى بذا العربُ
وصار يقدم رأسَ الامة
الذَنَبُ
ياللرجال لما يأتي الزمان به
من العجيب الذي ما مثله عجبُ
آل الرسول على الاقتاب عارية
وآل مروان تسري تحتهم نُجُبُ
سُيّر آل محمد الامام زين العابدين(عليه السلام) وذووه
تلك المسافات الطويلة بالصورة المأساوية التي قد تقدّمت. وانت خبير بان قطع
المسافات الطويلة على الجمال بلا وطاء مرهق جداً على السليم بدناً فكيف بالامام
زين العابدين(عليه السلام)الذي كان مريضاً في تلك الفترة بالخصوص، وكيف بالنساء
والاطفال الذين معه؟!
هذه من جهة الالام البدنية واما من جهة الالام النفسية
فان مثل آل الرسول محمد يضطهدون ويؤسرون وينقلون على تلك الاقتاد العارية بلا ذنب
او سبب موجب، بينما ترى اعداءهم في جو من الترف المعيشي والحياة الرغيدة.
.. ولا بد ان تكون هذه الواقعة التاريخية قد رسمت بيراع
المأساة على قلب الامام زين العابدين(عليه السلام) الواناً من الصور الاليمة
المحزنة جداً، ولهذا السبب فانه قد ضمّنها في عدة مقاطع من شعره.
ان تضمينها في عدة مقاطع من شعره أمر جليل لافت للنظر
بالقياس الى كمية شعر الامام زين العابدين(عليه السلام). فلو لا أثرها البليغ عليه
لاقلّ من ذلك.
د ـ وهذه صورة اخرى أومأ فيها الامام زين العابدين(عليه
السلام) الى تسييرهم من منطقة الى اخرى وهي من صور تعرية المسار السياسي للحكم
القائم. «بحر الطويل»
اُقاد ذليلاً في دمشق كأنني
من الزنج عبد غاب عنه نصير
وجدي رسول الله في كل مشهد
وشيخي امير المؤمنين أمير
فيا ليت امي لم تلدني ولم اكن
يزيد يراني في البلاد اسير(93)
هـ ـ وقال(عليه السلام) أيضاً «بحر البسيط»:
ماذا تقولون ان قال النبيّ لكم
ماذا صنعتم وانتم آخر
الامم(94)
بعترتي وباهلي بعد منقلبي
منهم اُسارى ومنهم ضُرِّجوا بدمِ
ما كان هذا جزائي اذ نصحت لكم
خلّفتموني بسوء
في ذوي رحمي(95)
هذه الابيات من الشعر
المشهور قد نُسبت للامام زين العابدين(عليه السلام) كما انها نُسبت للسيدة زينب
بنت علي(عليهما السلام)، ولام لقمان بنت عقيل بن ابي طالب ولاختها زينب بنت عقيل،
ولابي الاسود الدؤلي.
ان نسبتها لابي الاسود الدؤلي بعيدة جداً، وانما ذُكر
ابو الاسود حينما تليت الابيات فتوهم بعض المؤلفين أنها له. وذلك انه حينما قيلت
الابيات وفيها ماذا تقولون.. قال ابو الاسود : نقول ربنا ظلمنا انفسنا وان لم
تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
قال الله تعالى في محكم كتابه الحكيم: (قل لا اسألكم
عليه أجراً الا المودة في القربى) فليت الامة آنذاك اذ لم تودّ قربى الرسول تركتهم
وشأنهم في بلاد الله العريضة فلا هي عليهم ولا هي لهم ولكنها عمدت إلى ظلمهم اشد
الظلم وحسبك ان حفيد الرسول وريحانته الامام الحسين بن علي(عليهما السلام) كان
مضرجاً بدمائه و قد قضى عطشاناً، وحسبك أن زين العابدين(عليه السلام) كان أسيراً
في البلاد مضطهداً حتى قضى بالسم قتلاً فهل اوصى الله بمودة اهل البيت(عليهم
السلام)ام اوصى بظلمهم واقصائهم وهل امر الرسول باكرامهم وإجلالهم والاخذ عنهم
والاقتداء بهم ام اوصى بتجريعهم «نغب التّهمام انفاسا»(96). يقول الامام زين العابدين(عليه السلام): «والله لو ان النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) تقدم اليهم في قتالنا كما تقدم اليهم في الوصاية بنا لما زادوا على ما فعلوا بنا فانا لله وانا اليه راجعون من مصيبة ما اعظمها واوجعها واكظها وافظها وامرّها وافدحها».
2 ـ تشخيص القيادة السياسية:
ونعني بذلك
امرين: الاول، آراءه في حكّام عصره. الثاني، ذكره لشخصه ولاهل البيت باعتبارهم
قيادة بديلة عن القيادة الزمنية آنذاك. وسيأتي تفصيل الامر الاول في البحث عن
موقفه من القيادة السياسية.
أ ـ وهذه امثلة من شعره السياسي حول الامرين معاً. «بحر
الخفيف»
ليت شعري هل عاقل في الدياجي
بات من فجعة الزمان
يناجي(97)
انا نجل الامام ما بال حقّي
ضائع بين عصبة أعلاج
ب ـ وقال ايضاً «بحر الوافر»(98):
لكم ما تدّعون بغير حق اذا ميز الصحاح من المراض
عرفتم حقّنا فجحدتمونا كما عُرف السواد من البياض
كتاب الله شاهدنا عليكم وقاضينا الاله فنعم قاضي
لا يجهل من له ادنى اطلاع حق اهل البيت(عليهم السلام)
ومكانتهم العليا في الاسلام ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون. ولقد شاهد عمر بن
عبدالعزيز اباه يتلكأ بعض التلكؤ في شتمه علياً(عليه السلام) وهو يخطب فسأله عن
ذلك فقال له : لو ان الناس يعرفون من فضائل علي كما نعرف لمالوا الى اولاده.
وسب مروان بن الحكم علياً على منبر رسول الله(صلى الله
عليه وآله وسلم) فقام اليه الامام الحسين او زين العابدين(عليهما السلام) راداً
عليه: هذا الذي تسب شر أهلك؟ وهنا يصحر مروان بالحقيقة حين اضطر اليها
قائلاً : بل هو خير اهلي.. مبيناً العلة من السب او من اخفاء الحقيقة بان
الامر لا يستقيم لهم بغير ذلك. وهكذا تكتم القيادة السياسية حق اهل البيت ومكانتهم
الا في احدى حالات ثلاث.
1 ـ اذا اُلجئوا الى ذلك عن طريق وقوفهم امام مناظرة
جريئة او نحوها.
2 ـ اذا رأوا مصلحة سياسية مؤقتة ومن بعدها يعودون الى
الاغلفة الاعلامية المظللة.
3 ـ او ما يصدر منهم عفوياً وعن غير قصد.
وفي بعض الحالات يشترك عاملان من هذه العوامل في اظهار
حق اهل البيت او حق أحدهم.
جـ ـ وقال(عليه السلام) ايضاً «بحر المتقارب»(99):
لنحن على الحوض روّادُه نذود ويسعد ورّادُهُ
وما فاز من فاز الاّ بنا وما خاب من حبُّنا زادُهُ
ومَن سرّنا نال منا السرور ومن
ساءنا ساء ميلادُهُ
ومن كان غاصبنا حقنا فيوم القيامة ميعادُهُ
في البيت الاخير يريد أن يؤكد الامام زين العابدين(عليه
السلام) ان اغتصاب الحق القيادي من اهليه ليس انتصاراً حقيقياً، او كما قال
علي(عليه السلام): «ما ظفر من ظفر الاثم به» فان الانقلاب العسكري الغاصب،
والمؤامرة السياسية الظلوم، متاع قليل، وزاد كزاد المسافر ويوم القيامة نعم الحكم
العدل والميعاد الفيصل. او كما قالت الصديقة الزاهراء: «فنعم الحكم الله، والزعيم
محمّد، والموعد القيامة، وعند الساعة يخسر المبطلون».
د ـ وقال الامام زين العابدين(عليه السلام) كذلك «بحر
المنسرح»(100):
نحن بنو المصطفى ذوو غصص يجرعها في الانام كاظمنا
عظيمة في الانام محنتنا اولنا مبتلىً وآخرنا
يفرح هذا الورى بعيدهمُ ونحن اعيادنا مآتمنا
والناس في الامن والسرور وما
يأمن طول الزمان خائفنا
وما خصصنا به من الشرف الطا
ئل بين الانام آفتنا
يحكم فينا والحكم فيه لنا جاحدنا حقنا وغاصبنا
هـ ـ وقال الامام زين العابدين(عليه السلام) من قصيدة
«بحر الطويل»(101)
حيارى وليل القوم داج نجومُه
طوامس لا تجري بطيء خفوقُها
ولا يحرز السَّبق الرزاح وإن جرت
ولا يبلغ الغايات الا
سبوقُها
الى ان يقول: فمن الموثوق به على ابلاغ الحجة، وتأويل
الحكمة، الا اهل الكتاب، وابناء ائمة الهدى، ومصابيح الدجى، الذين احتج الله بهم
على عباده، ولم يدع الخلق سدىً من غير حجّة. هل تعرفونهم او تجدونهم الا من فروع
الشجرة المباركة، وبقايا الصفوة الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً،
وبرأهم من الافات، وافترض مودّتهم في الكتاب. همُ العروة الوثقى وهم معدن التقى وخير حبال العالمين وثيقُها
3 ـ التذكير بمآل الحكام
ومن الشعر
السياسي لعلي زين العابدين(عليه السلام) ذلك الوصف الجميل لحكام عصره، وقد تساقطوا
الواحد تلو الاخر في شباك الموت. بعد ذلك الملك العظيم، والعزِّ القاهر.
أ ـ فمن ذلك قوله(عليه السلام) «بحر الوافر»(102):
اذا بلغ امرؤ عليا وعزاً تولى واضمحل مع البلاغِ
كقصر قد تهدم حافتاه اذا صار البناء على الفراغِ
اقول وقد رأيت ملوك عصري الا لا يبغين الملك باغِ
وله ابيات شبيهة بهذه في الهدف الذي ترمي اليه. وان كان
قد يوجد بينهما فارق واحد بسيط وهو أَن الابيات الغينية تصف حكام تلك الحقبة
التأريخية التي عاصرها علي زين العابدين(عليه السلام) والابيات التالية تشير الى
تاريخ الحكّام والزعماء الماضين. او قد تشمل الماضين والمعاصرين معاً في نفس الوقت
من دون الاقتصار على المعاصرين.
ب ـ قال(عليه السلام) «بحر الوافر»(103):
تفكر اين اصحاب السرايا وأرباب الصوافن والعشارِ
واين الاعظمون يداً وبأساً
واين السابقون لذي الفخارِ
واين القرن بعد القرن منهم
من الخلفاء والشمم الكبارِ
كأن لم يخلقوا او لم يكونوا
وهل حىٌّ يصان عن البوارِ
لقد كان الامام زين العابدين(عليه السلام) يركز على هذا
المنحى السياسي التبصيري من ذكر مآل اصحاب القرار السياسي الاَعلى، وارباب الثروة
والعزة والعظمة والمنعة. ولقد كان لا يألو جهداً في وصف ذلك سواء في تفسيره للقرآن
الكريم، او في الوان اَدبه، ولطالما كان ينتزع من صفحات التأريخ ما يؤكد هذا
المعنى، ويلفت الانظار اليه.
ولم يكن ذلك سياسة ينتهجها لتبصير المعاصرين له فحسب بل
سياسة تمتد في اعماق التأريخ. ان على كل من يمكنه الله تعالى منا في الارض ان يختط
المنهج الذي اختطه الامام زين العابدين(عليه السلام)، وهكذا ستبقى سياسته على مر
العصور، وامتداد الزمن.
جـ ـ ومما قاله(عليه السلام) في هذا المعنى وهو من كلام
طويل:
انظر الى الامم الماضية، والملوك الفانية، كيف افنتهم
الايام، ووافاهم الحمام، فانمحت من الدنيا آثارهم، وبقيت فيها اخبارهم. «بحر
الطويل»:
وأضحوا رميماً في التراب وعطلت
مجالس منهم اقفرت
ومعاصر
وحلوا بدار لا تزاور بينهم
وانى لسكان القبور تزاور
فما ان ترى الا جُثىً قد ثووا بها
مسطحة تسفي عليها الاعاصر
كم من ذي منعة وسلطان، وجنود واعوان، تمكن من دنياه،
ونال فيها ما تمناه، وبنى القصور والدساكر، وجمع الاعلاق والذخائر:
فما صرفت كف المنية إذ أتت
مبادرة تهوي اليه الذخائر
ولا دفعت عنه الحصون التي بنى
وحف بها انهاره والدساكر
ولا قارعت عنه المنية حيلة
ولا طمعت في الذب عنه العساكر
اتاه من الله ما لا يرد، ونزل من قضائه ما لا يصد،
فتعالى الله الملك الجبار المتكبر القهار، قاصم الجبارين ومبير المتكبرين:
مليك عزيز لا يرد قضاؤه حكيم عليم نافذ الامر قاهر
عنا كل ذي عز لعزة وجهه فكل عزيز للمهيمن صاغر لقد خضعتواستسلمتوتضاءلت لعزة ذي العرش الملوك الجبابر(104)
4 ـ وصف الواقع المادي:
لقد اقام
الاسلام توازناً دقيقاً بين حاجة الانسان بما له من جانب مادي وبين حاجته في
الاشواق، وخلجات القلب، وسمو النفس، وتطلعات الروح. وليس هذا بدعاً من الدين
الاسلامي اِذ ان من الاساسيات فيه التي لا تقبل الريب اَنه دين الاخرة والاولى.
قال تعالى: (وابتغِ
فيما آتاك الله الدار الاخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا).
بيد اَنه لا ينبغي اَن يفهم من الاية المباركة ـ فيما
نعتقد ـ ان النصيب من الدنيا كامن في المشتهيات الرخيصة، والنزعات الهابطة; فانها
ليست نصيب الانسان خليفة الله في الارض بل هي نصيب ابليس وذريته، وخلفائهم في
البلاد.
ان في الانتهال من معين الحق الصافي ما يغني عن المستنقع
الاسن.
من لا يروه كأس الخير... اظمأه بحر الشر.
ليس من الباطل ان يشبع الانسان حاجته الطبيعية من المادة
بل الباطل اَن تطغى المادة على الروح.
اِن الزهد والسمو الروحي لا يعنيان القضاء على الماديات
واِنما يعنيان تشذيبها وعدم الوقوع في اسرها.
لقد اذهل الامام زين العابدين ذلك الطغيان المادي
الهائل، وانحسار المد الروحي في المجتمع.
1 ـ لقد شاهد الامام زين العابدين(عليه السلام) من يقدم
على قتل ريحانة الرسول الحسين بن علي(عليه السلام) في مغامرة للحصول على الذهب
والفضة. فهذا قاتله يقول لعبيد الله بن زياد(105):
املا ركابي فضة أو ذهبا اني قتلت السيد المحجبا
قتلت خير الناس امّا وابا وخيرهم إذ يذكرون النسبا
فغضب ابن زياد من قوله وقال: فاذا علمت انه كذلك فلم
قتلته؟ والله لا نلت مني خيراً ولاُلحقنك به. فقدمه وضرب عنقه(106).
2 ـ ولقد شاهد الامام زين العابدين(عليه السلام) وفود
الاحنف بن قيس، والحتات بن يزيد على معاوية واعطاءه الاحنف خمسين الف درهم مع
مخالفته له في الرأي والخط، في الوقت الذي اعطى فيه الحتات ثلاثين الف درهم مع انه
يرى رأي الاموية. فصار الحتات الى معاوية وقال: يا امير المؤمنين تعطي الاحنف
ورأيه رأيه خمسين الف درهم وتعطيني ثلاثين الف درهم؟!
فقال: يا حتات اني اشتريت بها دينه.
فقال الحتات: يا امير المؤمنين تشتري مني ايضا ديني،
فاتمها له والحقه بالاحنف. فلم يأت على الحتات اسبوع حتى مات، وردَّ المال بعينه
الى معاوية.
3 ـ لقد شاهد الامام زين العابدين(عليه السلام) هاتين
اللمحتين الناشزتين من لمحات عبادة الماديات الى ما هنالك من لمحات بل صفحات طويلة
من صفحات الطغيان المادي الرهيب. ولكن هذا لا يعني في حالة من الحالات عدم وجود
العدد الجم ممن يحملون وسام الروح الصاعدة، والنفسية الكريمة الطهور.
بناءً على ما تقدم من المشاهد الحزينة القاتمة، مشاهد
الطغيان المادي على حساب الروح.. ما كان من الامام زين العابدين(عليه السلام) إلا
اَن يندد بهذا الانحطاط المزري، والانغماس الوضيع في الماديات. وله في ذلك شعر
كثير ومن جملته هذه الامثلة:
أ ـ قال(عليه السلام) «بحر الوافر»(107):
اخي قد طال لبثك في الفسادِ
وبئس الزاد زادك للمعادِ
صبا منك الفؤاد فلم تزغه وحدت الى متابعة الفؤادِ
وقادتك المعاصي حيث شاءت وألفتْكَ امرءاً سلس القيادِ
لقد نوديت للترحال فاسمع ولا تتصاممن عن المنادي
كفاك مشيب رأسك من نذير وغالب لونه لون السوادِ
ب ـ وقال(عليه السلام) ايضاً «بحر الوافر»(108):
ايعتز الفتى بالمال زهواً
وما فيما يموت من اعتزازِ
ويطلب دولة الدنيا جنوناً
ودولتها مخالفة المجازي
ونحن وكل من فيها كسفر دنا منا الرحيل على وفازِ
جهلناها كأن لم نختبرها على طول التهاني والتعازي
ولم نعلم بأن لا لبث فيها ولا تعريج غير الاجتيازِ
جـ ـ ولزين العابدين(عليه السلام) ايضاً من قصيدة
طويلة.. «بحر الطويل»(109):
تُخِّربُ ما يبقى وتعمر فانياً
ولا ذاك موفور ولا ذاك
عامرُ
وهل لك ان وافاك حتفك بغتة
ولم تكتسب خيراً لدى الله عاذر
اترضى بأن تفنى الحياة وتنقضي
ودينك منقوص ومالك وافرُ
د ـ وله ايضاً «بحر الوافر»(110):
فعقبى كل شيء نحن فيه من الجمع الكثيف الى الشتات
وما حزناه من حلّ وحرم يوزع في البنين وفي البنات
وتنسانا الاحبة بعد عشر وقد صرنا عظاماً باليات
كأنا لم نعاشرهم بودّ ولم يك فيهمُ خل مواتِ
هـ ـ وله كذلك هذه الابيات «بحر الوافر»(111):
لمن يا أيّها المغرور تحوي
من المال الموفَّرِ والاثاثِ
ستمضي غير محمود فريداً ويخلو بعدُ عرسك بالتراث
ويخذلك الوصي بلا وفاء ولا اصلاح امر ذي التباث
5 ـ تدهور الاخلاقية السياسية والاجتماعية
طالما
يتلازم التدهور او التطور بين الاخلاقية السياسية وبين الاخلاقية الاجتماعية، اذ
إن لسياسة الدولة لا سيّما اذا طالت بها المدة اعظم التأثير على المجتمع سلباً او
ايجاباً; لانها المربّي الاكبر للمجتمع بما تمتلك من خطط واهداف معينة، وبما لها
من الوسائل الاعلامية المختلفة ناهيك عن استحواذها على الكثير من مصادر الثروة «طبقاً
للنظرية الاقتصادية للدولة» كما ان للمجتمع بما له من اهداف وعقائد ورؤىً صالحة او
غير صالحة ذلك الاثر العميق في رسم سياسة الدولة قهراً او اختياراً حسب ما هو
المعتاد ما بين الدولة والمجتمع.
ولكن يبقى اثر الدولة على المجتمع اعمق وابعد غوراً من
اثر المجتمع على الدولة ـ في الاعم الاغلب ـ لانها تمتلك من الوسائل والمؤثرات ما
لا يمتلك او اقوى واشد مما يمتلك، ولان الناس على دين ملوكهم.
في التاريخ السياسي مادة خصبة لتوضيح التاثير المتبادل
ما بين الدولة و المجتمع لا سيما أثر الدولة عليه.
ففي حكومة العدل النبوي نلحظ كيف تطورت اخلاقية الحياة
الاجتماعية في البلدان الاسلامية لا سيما في المدينة المنورة عاصمة الاسلام آنذاك.
وكيف نرى الانعكاس الرائع للاخلاقية السياسية للرسول محمد(صلى الله عليه وآله
وسلم)على المجتمع الذي اصبح المجتمع الامثل في العالم.
بينما في زمن لاحق يخاطب احد الاعلام المعنيين بشؤون
الامة الخليفة قائلاً: ملت فمالت الرعية. فاعتدل تعتدل.
وفي العصر الراهن ما يؤكد هذا المنحى من التأثير
المتبادل بين الدولة والمجتمع أيّما تأكيد.
وان هذه الظاهرة من التأثير المتبادل واضحة للعيان في
العصر الاموي. وان شعر الامام زين العابدين(عليه السلام) الاتي خطاب للطرفين معاً
أعني الدولة والمجتمع. اي ان الفاظه تبقى على عمومها، من غير حاجة الى التخصيص، او
الاقتصار على المجتمع او الدولة.
لقد بلغ تدهور الاخلاقية السياسية والاجتماعية في عصر
الامام زين العابدين(عليه السلام) حدّاً جعل المصلحين في حالة من القلق والاهتمام
والدهشة. ولقد مرّ علينا قول زين العابدين(عليه السلام):
يا أمة السوء لا سقياً لربعكمُ
يا أمة لم تراعِ جدّنا
فينا
فلما لم ترع الدولة ولم تهتم بحقوق المجتمع لا سيما حقوق
اهل البيت انكفأ المجتمع على اهل البيت النبوي ظلماً واعتداءً.
ثم صارت سنة جاريةً كل من امكنه الظلم ظلم(112)
وتسابقت الدولة والمجتمع إلى الصفة الهجينة، صفة الغدر،
ونكث العهود.
فقد غدر قائد الدولة معاوية بن أبي سفيان بالامام السبط
الحسن بن علي(عليه السلام)قائلاً: وقد اعطيت الحسن بن علي عهوداً كلها تحت قدمي.
وغدر قائد الدولة الاخر عبد الملك بن مروان بابن عمه
عمرو بن سعيد الاشدق وذبحه بيده كما تذبح الشاة.
وغدرت أمة من المجتمع بالامام الحسين بن علي(عليه
السلام) بعد تلك المراسلات الكثيرة، والوعود السرابية بالنصر والتأييد.
كما غدرت بمصعب بن الزبير حتى قُتل واحتزّ رأسه.
غدرت به مضر العرا قِ وامكنت منه ربيعه(113)
على ان الامر في تدهور الاخلاقية السياسية والاجتماعية
لا يقتصر على الظلم والغدر علماً بان الظلم وحده ينطوي على شعب كثيرة من التدهور
والامراض النفسية والصفات المستهجنة.
واضافة الى الظلم والغدر هناك اتباع الاهواء والشهوات،
ومخالفة القوانين السماوية. وكان امراً ساري المفعول قيادة وشعباً. وعلى سبيل
المثال من القادة السياسيين من كان يقول: لا يأمرني احد بتقوى الله الاّ ضربت
عنقه.
وقال الحجاج بن يوسف الثقفي وهو يذكر الذين يطوفون حول
قبر رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): انما يطوفون حول اعواد ورمّة. هلا يطوفون
حول قصر امير المؤمنين الوليد بن عبد الملك.
ومن أمثلة الشعر السياسي لزين العابدين(عليه السلام)
فيما يخص تدهور الاخلاقية السياسية والاجتماعية قوله من أبيات «بحر الطويل»:(114)
أ ـ
ألم تر أن العرف قد مات أهلهُ
وان الندى والجود ضمَّهما قبر
على العرف والجود السلام فما بقي
من العرف الاالرسمُ في الناسوالذكر
ب ـ (صلى الله عليه وسلم)(رحمهما الله)(115):
أفي السبخات يا مغبون تبني
وما يبقي السباخ على
الاساس
ذنوبك جمة تترى عظاماً ودمعك جامد والقلب قاسي
واياماً عصيت الله فيها وقد حفظت عليك وانت ناسي
فكيف تطيق يوم الدين حملاً
لاوزار كبار كالرواسي
هو اليوم الذي لا ودَّ فيه
ولا نسب ولا احد مواسي
من المعلوم هنا ان الخطاب بـ (يا مغبون) لم يكن خطاباً
لشخص معين وانما هو خطاب للنوع. والفرق كبير بين كون الخطاب للمغبون شخصاً واحداً
معيناً والخطاب له بما هو نوع الذي يعني ان الامام يخاطب المغبونين عموماً.
ومثل ذلك ما مرّ علينا «اخي قد طال لبثك في الفساد» فانه
لم يقصد أخاً معيناً وانما يوجه الخطاب لكل من طال لبثه في الفساد اي ان الامام
يعالج داءً اجتماعياً وسياسياً وبيلاً وليس داء شخص معين فقط.
ولا يمنع من ذلك ان يناديه بـ «أخي» فهو اِن لم يكن اخاه
في الدين فهو اخوه في الانسانية. على أن الامام كان المرشد والموَجّه، والدالّ على
سواء الصراط. ومن لا يشعر من يرشدهم المحبة في قلبه فقد افتقد عنصر التأثير عليهم.
جـ ـ ولزين العابدين(عليه السلام) هذه الابيات ايضاً
«بحر الوافر»(116):
وباد الامرون بكل عُرف فما عن منكر في الناس ناهي
وقعنا في البلايا والخطايا
وفي زمن انتقاص واشتباهِ
تفانى الخير والصلحاء ذلّوا
وعزّ بذلهم أهل السّفاهِ
فصار الحر للمملوك عبداً فما للحر من قدر وجاهِ فهذا شغله جمع ومنع وهذا غافل سكران لاهِ |
|