مكتبة الإمام زين العابدين

فهرس الكتاب

 

 

حركة الرسائل السياسية

نظرة عامة للرسائل السياسية في العهد الاموي

التفوق الكمي:

اتسعت رقعة العالم الاسلامي في العصر الاموي، وتصاعدت الكثافة السكانية للمسلمين، وتطورت الحياة المادية، وتنامت الاجهزة الادارية، وكثرت الاعباء السياسية.

ان كل هذه العوامل قد تسببت في التفوق الكمي للرسائل السياسية تفوّقاً كبيرا بالقياس الى عصر صدر الاسلام. فلو اخذنا اربعين سنة من صدر الاسلام، مقارنة باربعين سنة من العصر الاموي للحظنا البون البعيد للكم الرسائلي.

لا شك ان تعدد قوى المعارضة السياسية ركيزة اساسية من ركائز وفرة الكم الرسائلي، وتعدد اغراضه السياسية، وهو ما يرى جليا في خلافة الامام علي ابن ابي طالب، والحياة السياسية للدولة الاموية.

ومن حيث الموضوع او الغرض من الرسائل السياسية... يمكن القول: إن لكل خليفة او امير او سياسي نزعاته وتوجهاته وظروفه الخاصة، واساليبه في معالجة الشؤون السياسية.

 

الرسائل السياسية ما بين عهدين:

واما من الجهات الاخرى فنستطيع مشاهدة التقارب ـ الى حد بعيد ـ بين الرسائل السياسية في عهد صدر الاسلام وبين الرسائل السياسية في العهد الاموي.

فمن جهات التقارب بينها :

1 ـ سهولة البيان، ووضوح التعبير.

2 ـ قرب التناول وابتعادها غالبا عن التعمق.

3 ـ كانت اللغة الدينية تشوب الرسائل السياسية في العهدين معا من الابتداء بـ (بسم الله الرحمن الرحيم) الى الاستشهاد ببعض آيات الذكر الحكيم، او بعض النصوص النبوية الى حمد الله وتقديسه. وكان هذا جاريا متعارفا حتى من قبل من لا دين لهم ـ حسب الواقع ـ الا رفع الشعارات بعد تفريغها من المحتوى.

4 ـ اكثرها من نوع الرسائل ذات النفس القصير، باستثناء حالات غير كثيرة فلقد كانت للامام علي بن ابي طالب رسائل طويلة، وكان هو الرائد في الرسائل السياسية وغير السياسية ذات النفس الطويل كعهده لمالك الاشتر، ورسالته الى عثمان بن حنيف وبعض رسائله الى معاوية، كما كانت رسائله متميزة اكثر من غيرها في قوة الاسر، وفخامة التعبير، وجزالة الاسلوب.

كما وقع استثناء آخر ـ في الرسائل السياسية الطويلة النفس ـ في نهاية العهد الاموي وهي بعض رسائل عبد الحميد بن يحيى الكاتب الذي انتهج طريقة الامام علي سلام الله عليه في طول النفس وفي السمو الادبي المتميز، وكان يصرح باعتزاز بانه حفظ سبعين خطبة من خطب الامام علي(117). ولقد ارسل عبد الحميد الكاتب رسالة يقال انها وقر بعير(118).

5 ـ كانت الرسائل ـ عادة ـ في صدر الاسلام وايام متفاوتة من العهد الاموي تبتدأ بذكر اسم المرسل ـ بالكسر ـ قبل اسم المرسل اليه.. من عبد الله فلان الى فلان. فعلى سبيل المثال ما جاء في رسالة النبي محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) الى ملك الحبشة(119).

وكما جاء في رسالته(صلى الله عليه وآله وسلم) ايضاً الى كسرى:

بسم الله الرحمن الرحيم

من محمد رسول الله الى كسرى عظيم فارس(120).

بيد ان اكثر الرسائل التي كانت تكتب الى المسؤولين الكبار في الدولة الاموية ... يشرع فيها بذكر المسؤول ثم ذكر اسم المرسل. وعلى سبيل المثال ما جاء في رسالة زياد بن ابيه الى معاوية بن ابي سفيان يؤلبه فيها على قتل حجر بن عدي، واصحاب حجر:

بسم الله الرحمن الرحيم

لعبد الله معاوية بن ابي سفيان امير المؤمنين من زياد بن ابي سفيان. اما بعد(121).. وكما في رسالة القائد الاسلامي شريح بن هانئ، الى معاوية بن ابي سفيان يتبرأ فيها من ذكر زياد لاسمه ضمن قائمة الشهود على حجر بن عدي رضوان الله عليه.

بسم الله الرحمن الرحيم

لعبد الله معاوية امير المؤمنين من شريح بن هانئ. اما بعد(122)..

6 ـ والمخاطب مهما كان منصبه القيادي يخاطب بعبارة ليس فيها كبير تفخيم وتعظيم، هكذا جرى الامر في العصرين معا حتى جاء الوليد بن عبدالملك إلى الخلافة سنة (86هـ) فاذا بالكتابة اليه والى الخلفاء من بعده ذات طابع يتّسم بألفاظ التفخيم والتعظيم بما لم يسبق له مثيل.

فاقتفى من جاء بعده من الخلفاء اسلوبه وطراز تفكيره، الاّ عمر بن عبدالعزيز فانه رفض الانصياع او الاقتفاء لهذه الطريقة.

 

من روائع التراث:

1 ـ ان مما يحز في قلب كل المخلصين ان الامة الاسلامية الى هذا اليوم، لم تؤدّ مسؤوليتها العظمى تجاه الروائع الخوالد من تراثها العظيم. علما بان الامة لا تحقق نهضتها وتطورها في الحاضر والمستقبل حتى تستلهم الايات المشرقة من الماضي وتعتمدها في عملية البناء الحضاري.

ولكن الامل وطيد ان ينهض حملة الوعي والبصيرة لهذه المسؤولية التاريخية والواجب المقدس الخطير.

2 ـ من الرسائل التي وصلتنا من العصر الاموي ثلاث رسائل سياسية لعلي بن الحسين زين العابدين هي من اجود واسمى واتقن الرسائل السياسية في ذلك العصر.

والرسائل هي :

أ ـ رسالة الحقوق.

ب ـ رسالة الى احد كبار العلماء.

ج ـ رسالته الى اصحابه.

واذا كانت الرسالة الاولى منها قد توشحت ببعض العناية والانتشار، فان الرسالتين التاليتين لم تزالا في اضابير الغفلة والنسيان.

ولا يسعنا الوقت هنا لاستعراض رسائل سياسية من العصر الاموي لنقارن بينهما وبين رسائل الامام زين العابدين(عليه السلام) فنحيل ذلك الى مراجعة القارئ الكريم في مختلف الكتب المعنيّة، بما في ذلك رسائل المعاصرين لزين العابدين(عليه السلام) من القادة السياسيين المجوّدين والبارعين في البيان امثال عبدالملك بن مروان والحجاج بن يوسف الثقفي وعبد الله بن الزبير ومصعب بن الزبير وقطري بن الفجاءة وغيرهم.

ونعتقد ان القارئ الكريم اذا ما قارن بين الرسائل بدقة وامعان وموضوعية فسوف يرى الرسائل السياسية لزين العابدين(عليه السلام) بينها كالجبل الاشمّ بين التلال.

3 ـ والرسائل السياسية لزين العابدين(عليه السلام)، تعبير اصيل عن نشاط فعّال ناهض من الانشطة السياسية الواعية الكثيرة، التي قام بها توعية للاجيال، وخدمة للاسلام، واداءً للمسؤولية.

4 ـ لقد رام علي بن الحسين زين العابدين(عليه السلام) ايضاح رأيه من قضية الحكم والسلطة آنذاك. كما اراد تفجير الروح الملحمية والتضحوية لدى طلائع الامة، ورجالاتها الافذاذ، وعدم الذوبان في بوتقة الحكم القائم.

وانّه لصراع مرير دائم امام حملات التضليل الفكري، والغبش السياسي، وامواج الفتن والبدع.

يقول سلام الله عليه: ان الامور الواردة عليكم في كل يوم وليلة من مضلاّت الفتن، وحوادث البدع، وسنن الجور، وبوائق الزمان، وهيبة السلطان، ووسوسة الشيطان، لتذر القلوب عن تنبيهها، وتذهلها عن موجود الهدى ومعرفة اهل الحق الاّ قليلاً ممن عصم الله(123).

ولا تتم القدرة على الصراع المرير الدائم بلا رسوخ العقيدة والايمان، وتربية النفس على المواجهة والتحدي، وكبح جماح الاهواء والنزوات امام المغريات المتعددة. وهذا لا يتيسر لكل صادر و وارد بل هو بمقدور من عصمه الله، ونهج سبيل الرشد، وسلك طريق القصد، ممن استعان على ذلك بالزهد، فكرّر الفكر، واتّعظ بالعبر وازدجر فزهد في عاجل بهجة الدنيا، وتجافى عن لذاتها، و رغب في دائم نعيم الاخرة وسعى لها سعيها، و راقب الموت وشنأ الحياة مع القوم الظالمين(124).

5 ـ لم تكن هذه الرسائل السياسية لزين العابدين(عليه السلام) مقصورة النفع، او ان سببها مختصاً بالعصر الاموي او في سبيل انتهاج سياسة وفق مقتضيات ومتطلبات مرحلة سياسية معينة، بل انها تربية روحية واخلاقية، وتعاليم سياسية، تصلح لكل مرحلة، من المراحل التاريخية. ما دام هناك صراع بين الحق والباطل، وما دامت هناك حاجة الى القائد البديل.

6 ـ انّ طول النفس في الرسائل الثلاث للامام زين العابدين(عليه السلام) هو من الفوارق بين رسائله السياسية، وبين الغالبية العظمى من الرسائل السياسية في عصره. امّا رسالة الحقوق فهي من اطول الرسائل السياسية آنذاك.

واما الرسالتان الاتيتان فان طولهما طول نسبي، على الرغم من ان الرسالتين الواصلتين لنا قد وقع فيهما حذف بحجم ما وان كان غير مخلّ بموضوع كل منهما.

فمن دلائل الحذف خلو احدى الرسالتين من عبارة لازمة عند اهل البيت، وفي صدر الاسلام والعصر الاموي من قبيل الابتداء بـ (بسم الله الرحمن الرحيم).

ومن دلائل الحذف خلو الرسالتين من تعبير مشهور في صدر الاسلام والدولة الاموية وهو (امّا بعد). وقد مرّ علينا هذا التعبير كما في رسالة زياد ابن ابيه، ورسالة شريح بن هانئ وكان التعبير هذا يذكر في بدايات كل رسالة.

نعم، ان رسالة الامام زين العابدين(عليه السلام) الى عالم ديني كبير كما ستأتي تتضمّن تعبير (امّا بعد) ولكنه قد ورد في اواخر الرسالة وبعد ذكر عدة مقاصد. وهو شيء استدعاه سياق الكلام يغاير ما هو متعارف ذكره في اوائل الرسائل.

ومن دلائل الحذف عدم ذكر المرسل والمرسل اليه في بدايات الرسالتين معاً.

7 ـ قد عرفنا أن الرسالتين لم تذكرا المرسل والمرسل اليه بما في ذلك الرسالة الى احد كبار العلماء كما عنونّاها، والتي تعنون في المصادر بـ ( رسالته الى محمد بن مسلمة الزهري ). فبناءً على عدم ذكر المرسل والمرسل اليه لا نستطيع القول على سبيل الجزم انه ارسلها الى الزهري ام لغيره من العلماء خصوصاً مع وجود عبارة فيها يتسرب من كوّتها الاحتمال الى عدم كونها مرسلة اليه، والعبارة هي: انك لست في دار مقام انت في دار قد آذنت برحيل، فما بقاء المرء بعد قرنائه.

وعبارة ثانية: اغفلت ذكر من مضى من اسنانك واقرانك، وبقيت بعدهم كقرن اعضب.

وعبارة ثالثة: فاذا كانت الدنيا تبلغ من مثلك هذا المبلغ مع كبر سنّك ورسوخ علمك وحضور اجلك.

وهذه العبارات الثلاث تدل على ان المرسل اليه شيخ كبير السن، وهذا لا يتوافق مع سنّ محمد الزهري وان كان من اصحاب زين العابدين(عليه السلام) لان ولادة الزهري سنة (58 هجرية)(125) بينما رسالة زين العابدين(عليه السلام) على ابعد تقدير كانت سنة (94 هجرية) عام وفاة زين العابدين(عليه السلام)، وقيل عام (95 هـ) فيكون سن الزهري على ابعد تقدير لا يتجاوز ثلاثين عاماً الاّ سنيّات. واين هذا من كون المرسل اليه شيخا كبير السن.

وعلى هذا الاساس تكون الرسالة موجّهة ـ على ما يظهر ـ الى عالم ديني آخر. وعبارة (ورسوخ علمك) تدلّ على ان الشخص المرسل اليه من كبار العلماء.

ونحن نحتمل ان يكون هذا العالم الديني الاخر قبيصة بن ذؤيب الخزاعي وهو من الفقهاء الرسميين للدولة الاموية وكانت له مكانة كبيرة في الدولة وكان قد ولد في عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وبالمقارنة بين شخصيتي قبيصة بن ذؤيب والزهري ومعرفة السلوك السياسي لكل منهما يظهر ان قبيصة ابعد اثراً في العمق الاستراتيجي للدولة واكثر تبريراً لسيناريو النظام.

8 ـ لقد كان لقاء الجمهور لقاء سياسياً من الصعوبة بمكان ولا تكمن الصعوبة في مواجهة قائد اللقاء فحسب بل حتى في مواجهة الجمهور نفسه. لا سيما اذا كانت النظرة القبلية اليه كأية نظرة الى قوى المعارضة.

فجاءت طريقة الرسائل السياسية اشبه باللقاء غير المرئي بل هو لقاء غير مرئي بالفعل. تستلهم القاعدة الشعبية فيه من قائدها الاعلى علي زين العابدين(عليه السلام) التعليمات السياسية والاوامر والتوجيهات. ومنها رسالة مفصّلة لزين العابدين(عليه السلام) ـ ستأتي ـ قد بعثها الى قاعدته الشعبية يحذرهم فيها من اتباع الظلمة، والانضواء تحت راية الحكم القائم، ويوجههم الى اتباع القيادة البديلة المتمثلة به آنذاك.

 

النص الكامل للرسالتين

ونعني بالنص الكامل جميع النّص الذي بلغنا منهما، بقطع النظر عما اعتقدناه من وجود اشياء محذوفة كما سلف الحديث عنها.

علما بان الحذف من النصوص ـ لسبب او لاخر ـ منهج الكثير من القدماء والمحدثين من الكتّاب. كما يعرف ذلك من نصوص كثيرة جداً في مختلف العصور.

ويفهم الحذف من خلال قرائن معتبرة كثيرة لا ينبغي الارتياب فيها.

 

رسالته الى احد كبار العلماء

كفانا الله واياك من الفتن، ورحمك من النار، فقد اصبحت بحال ينبغي لمن عرفك بها ان يرحمك، فقد اثقلتك نعم الله بما اصحَّ من بدنك، واطال من عمرك، وقامت عليك حجج الله بما حمّلك من كتابه، وفقّهك فيه من دينك، وعرّفك من سنة نبيك محمد صلّى الله عليه وآله فرض لك في كل نعمة انعم بها عليك، وفي كل حجّة احتجّ بها عليك الفرض فما قضى الاّ ابتلى شكرك في ذلك، وابدى فيه فضله عليك فقال: (لئن شكرتم لازيدنّكم ولئن كفرتم انّ عذابي لشديد)(126).

فانظر اىّ رجل تكون غداً اذا وقفت بين يدي الله فسألك عن نعمه عليك كيف قضيتها. ولا تحسبنّ الله قابلاً منك بالتعذير، وراضياً منك بالتقصير. هيهات هيهات ليس كذلك.. اخذ على العلماء في كتابه اذ قال: (لتبيّننّه للناس ولا تكتمونه)(127).

واعلم ان ادنى ما كتمت، واخفّ ما احتملت ان آنست وحشة الظالم، وسهلت له طريق الغيّ، بدنوّك منه حين دنوت، واجابتك له حين دعيت. فما اخوفني ان تبوء باثمك غداً مع الخونة، وان تسأل عما اخذت باعانتك على ظلم الظلمة. انك اخذت ما ليس لك ممن اعطاك، ودنوت ممن لم يردّ على احد حقاً، ولم تردّ باطلاً حين ادناك، واحببت من حادّ الله، او ليس بدعائه اياك حين دعاك، جعلوك قطباً اداروا بك مظالمهم، وجسراً يعبرون عليك الى بلاياهم، وسلّماً الى ضلالتهم، داعياً الى غيّهم، سالكاً سبيلهم، يدخلون بك الشك على العلماء، ويقتادون بك قلوب الجهّال اليهم.

فلم يبلغ أخص وزرائهم، ولا أقوى أعوانهم إلا دون ما بلغت من اصلاح فسادهم، واختلاف الخاصة والعامة إليهم.

فما اقلّ ما اعطوك في قدر ما اخذوا منك، وما ايسر ما عمروا لك في جنب ما خرّبوا. فانظر لنفسك فانّه لا ينظر لها غيرك، وحاسبها حساب رجل مسؤول. وانظر كيف شكرك لمن غذّاك بنعمه صغيراً وكبيراً.

فما اخوفني ان تكون كما قال تعالى في كتابه: (فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الادنى ويقولون سيغفر لنا)(128).

انك لست في دار مقام، انت في دار قد آذنت برحيل، فما بقاء المرء بعد قرنائه. فطوبى لمن كان في الدنيا على وجل.

يابؤس لمن يموت وتبقى ذنوبه من بعده.

احذر فقد نبئت، وبادر فقد اجّلت.. انّك تعامل من لا يجهل، وانّ الذي يحفظ عليك لا يغفل.. تجهّز فقد دنا منك سفر بعيد، وداو ذنبك فقد دخله سقم شديد.

ولا تحسب اني اردت توبيخك وتعنيفك وتعييرك، لكني اردت ان ينعش الله ما فات من رأيك، ويردّ اليك ما عزب(129) من دينك. وذكرت قول الله في كتابه : (وذكّر فإن الذكرى تنفع المؤمنين)(130).

اغفلت ذكر من مضى من اسنانك واقرانك، وبقيت بعدهم كقرن اعضب. انظر هل ابتلوا بمثل ما ابتليت، ام هل وقعوا بمثل ما وقعت فيه، ام هل تراهم ذكرت خيراً علموه، وعلمت شيئاً جهلوه، بل حظيت بما حلّ من حالك في صدور العامة، وكلفهم بك، اذ صاروا يقتدون برأيك، ويعملون بامرك. ان احللت احلّوا وان حرّمت حرّموا، وليس ذلك عندك، ولكن اظهرهم عليك رغبتهم فيما لديك ذهاب علمائهم، وغلبة الجهل عليك وعليهم، وحبّ الرئاسة وطلب الدنيا منك ومنهم.

اما ترى ما انت فيه من الجهل والغرّة، وما الناس فيه من البلاء والفتنة، قد ابتليتهم وفتنتهم بالشغل عن مكاسبهم مما رأوا، فتاقت نفوسهم الى ان يبلغوا من العلم ما بلغت، او يدركوا به مثل الذي ادركت، فوقعوا منك في بحر لا يدرك عمقه، وفي بلاء لا يقدّر قدره، فالله لنا ولك وهو المستعان.

امّا بعد، فاعرض عن كل ما انت فيه حتى تلحق بالصالحين الذين دفنوا في أسمالهم، لاصقة بطونهم بظهورهم، ليس بينهم وبين الله حجاب، ولا تفتنهم الدنيا، ولا يفتنون فيما رغبوا، فما لبثوا ان لحقوا.

فاذا كانت الدنيا تبلغ من مثلك هذا المبلغ مع كبر سنّك، ورسوخ علمك، وحضور اجلك، فكيف الحدث في سنّه، الجاهل في علمه، المأفون في رأيه، المدخول في عقله. انّا للّه وانّا اليه راجعون، على من المعوّل؟ وعند من المستعتب؟ نشكو الى الله بثّنا، وما نرى فيك، ونحتسب عند الله مصيبتنا بك.

فانظر كيف شكرك لمن غذّاك بنعمه صغيراً وكبيراً، وكيف اعظامك لمن جعلك بدينه في الناس جميلاً، وكيف صيانتك لكسوة من جعلك بكسوته في الناس ستيراً، وكيف قربك او بعدك ممن امرك ان تكون منه قريبا ذليلاً.

ما لك لا تنتبه من نعستك، ولا تستقيل من عثرتك فتقول: والله ما قمت للّه مقاماً واحداً احييت به ديناً، او امتّ له به باطلا. فهذا شكرك من استحملك؟ ما اخوفني أن تكون كما قال الله في كتابه: (اضاعوا الصلاة واتّبعوا الشهوات فسوف يلقون غيّاً)(131). استحملك كتابه، واستودعك علمه، فاضعتهما، فنحمد الله الذي عافانا ممّا ابتلاك به.  والسلام(132).

رسالته التاريخيّة الى اتباعه:

عن ابي حمزة الثمالي قال : كتب الامام السجّاد(عليه السلام) الى اصحابه :

بسم الله الرحمن الرحيم

كفانا الله وايّاكم كيد الظالمين، وبطش الجبارين أيّها المؤمنون مصيبتكم الطواغيت واتباعهم من اهل الرغبة في هذه الدنيا المائلون اليها، المفتونون بها، المقبلون عليها وعلى حطامها وهشيمها البائد غداً. فاحذروا ما حذّركم الله منها، وازهدوا فيما زهّدكم الله فيه منها، ولا تركنوا الى ما في هذه الدنيا ركون من اتخذها دار قرار، ومنزل استيطان، وبالله ان لكم مما فيها عليها دليلاً من زينتها، وتصرف ايّامها، وتغير انقلابها ومثلاتها(133) وتلاعبها باهلها. انّها لترفع الخميل، وتضع الشريف، وتورد النار اقواماً غداً. ففي هذا معتبر ومختبر وزاجر لمنتبه.

ان الامور الواردة عليكم في كل يوم وليلة، من مظلمات الفتن، وحوادث البدع، وسنن الجور، وبوائق الزمان، وهيبة السلطان، ووسوسة الشيطان، لتثبّط القلوب عن نيّتها، وتذهلها عن موجود الهدى، ومعرفة اهل الحق، الاّ قليلاً ممن عصم الله. وليس يعرف تصرف ايامها وتقلب حالاتها، وعاقبة ضرر فتنتها الاّ من عصم الله، ونهج سبيل الرشد، وسلك طريق القصد، ممّن استعان على ذلك بالزهد، فكرر الفكر، واتّعض بالعبر وازدجر، فزهد في عاجل بهجة الدنيا، وتجافى عن لذاتها، ورغب في دائم نعيم الاخرة، وسعى لها سعيها، وراقب الموت، و شَنَأ الحياة مع القوم الظالمين. فعند ذلك نظر الى ما في الدنيا بعين نيّرة حديدة النظر، وابصر حوادث الفتن، وضلال البدع، وجور الملوك الظلمة.

فقد لعمري استدبرتم من الامور الماضية، في الايام الخالية، من الفتن المتراكمة، والانهماك فيها، ما تستدلّون به على تجنّب الغواة واهل البدع والبغي والفساد في الارض بغير الحق. فاستعينوا بالله وارجعوا الى طاعته وطاعة من هو اولى بالطاعة من طاعة من اتبع واُطيع.

فالحذر الحذر من قبل الندامة والحسرة والقدوم على الله، والوقوف بين يديه، وبالله ما صدر عن معصية الله الاّ الى عذابه، وما آثر قوم قط الدنيا على الاخرة الاّ ساء منقلبهم وساء مصيرهم، وما العز بالله والعمل بطاعته الا إلفان مؤتلفان، فمن عرف الله خافه فحثّه الخوف على العمل بطاعة الله، وان ارباب العلم واتباعهم الذين عرفوا الله فعملوا له، ورغبوا اليه، وقد قال الله: (انّما يخشى الله من عباده العلماء) فلا تلتمسوا شيئاً ممّا في هذه الدنيا بمعصية الله، واشتغلوا في هذه الدنيا بطاعة الله، واغتنموا ايامها، واسعوا لما فيه نجاتكم غداً من عذاب الله، فان ذلك اقل للتبعة، وادنى من العذر، وارجى للنجاة.

فقدموا امر الله وطاعته وطاعة من اوجب الله طاعته بين يدي الامور كلها ولا تقدموا الامور الواردة عليكم من طاعة الطواغيت، وفتنة زهرة الحياة الدنيا بين يدي امر الله وطاعة أولي الامرِ منكم، واعلموا انكم عبيد الله ونحن معكم يحكم علينا وعليكم سيد حاكم غداً وهو موقفكم ومسائلكم فاعدوا الجواب قبل الوقوف والمساءلة، والعرض على رب العالمين (يومئذ لا تكلّم نفس الا بإذنه)واعلموا ان الله لا يصدق كاذباً ولا يكذب صادقاً، ولا يرد عذر مستحق ولا يعذر غير معذور، بل للّه الحجة على خلقه بالرسل والاوصياء بعد الرسل، فاتقوا الله عباد الله.

واستقبلوا من اصلاح انفسكم وطاعة الله، وطاعة من تولونه فيها، لعل نادما قد ندم على ما قد فرّط بالامس في جنب الله، وضيّع من حق الله، واستغفروا الله وتوبوا اليه فانه يقبل التوبة ويعفو عن السيئات، ويعلم ما تفعلون.

واياكم وصحبة العاصين، ومعونة الظالمين، ومجاورة الفاسقين، احذروا من فتنتهم، وتباعدوا من ساحتهم، واعلموا انه من خالف اولياء الله، ودان بغير دين الله، واستبد بامره، دون امر ولي الله، كان في نار تلتهب، تأكل ابداناً قد غابت عنها ارواحها، وغلبت عليها شقوتها، فهم موتى لا يجدون حر النار، ولو كانوا احياء لوجدوا مضض حر النار، واعتبروا يا اولي الابصار، واحمدوا الله على ما هداكم، واعلموا انّكم لا تخرجون من قدرة الله الى غير قدرته، وسيرى الله عملكم ثمّ اليه تحشرون، فانتفعوا بالعظة، وتأدبوا بآداب الصالحين(134).

لفت نظر:

ان باستطاعة العالم الديني ان يحتل دوراً كبيراً في التربية والاخلاق ونشر الفضيلة ومقاومة الظلم والاستبداد.

ليس حمل العلم الاّ مسؤولية كبرى ترهق الحامل وتثقل العاتق والكاهل. يقول زين العابدين في الرسالة التي وجهها لاحد كبار العلماء: ولا تحسبنّ الله قابلا منك بالتعذير، وراضياً منك بالتقصير، هيهات هيهات ليس كذلك اخذ الله على العلماء في كتابه اذ قال: (لتبيننّه للناس ولا تكتمونه).

وقد يستطيع العالم الديني تحقيق المطالب الايجابية ـ في حالات استثنائية ـ حتى وان انضمّ الى السلطة غير الشرعية من اجل اصلاحها من الداخل، وتوجيهها لما فيه الصالح الحقيقي للاسلام والمسلمين والمستضعفين كما وقع ذلك لعلي بن يقطين في الدولة العباسية ولكن النظام الحاكم إبّان حياة الامام زين العابدين لم يكن بالذي يستجيب للناصح الشفيق. او كانت لسياستهِ قابلية الهضم والتمثيل لكلمات العالم او المربّي.

وهذا احد المربين والعلماء الرسميين ومن المقربين جداً للنظام ـ قبيصة بن ذؤيب ـ المعاصر لزين العابدين يذكر عدم قبول النظام لاي مشروع او انجاز يتقدم به الاّ ذلك الذي يعبر عن مقررات النظام او تطلعاته او ينسجم مع وجهة نظره.

ولسنا نعتقد ان يتنكر الامام زين العابدين للدور الايجابي الاستثنائي للعالم الديني فيما اذا اراد التحرك النبيل ضمن سلطة ما وان كانت ظالمة عاتية في سبيل الاهداف والمبادئ العليا.

بيد انّ العالم الديني الذي خاطبه الامام زين العابدين(عليه السلام) كان على خلاف ذلك، انه بدل ان يذيب الباطل ذاب فيه، وبدل ان يوجّهه انقاد لتوجيهاته «ودنوت ممّن لم يردّ على احد حقاً، ولم ترد باطلاً حين ادناك »، «فلم يبلغ اخصّ وزرائهم ولا اقوى اعوانهم الاّ دون ما بلغت من اصلاح فسادهم، واختلاف الخاصّة والعامّة اليهم». اي ان وجوده في اروقة النظام الحاكم قد اصبح تبريراً للسياسة القمعية، والسيادة القبلية، وطريقة تغريريّة يستزلّ بها الواهن والجهول.

وما اكثر الواهن والجهول في كل مجتمع وفي كل زمان ومكان.

رفع التعارض:

من الواضح ان الامام زين العابدين(عليه السلام) قد خاطب برسالته رجلاً من العلماء وذلك بقوله: اخذ على العلماء في كتابه اذ قال: (لتبيننّه للناس ولا تكتمونه)(135). وقوله: وقامت عليك حجج الله بما حمّلك من كتابه، وفقهك فيه من دينه، وعرفك من سنَّة نبيك محمد(صلى الله عليه وآله وسلم). وقوله: فاذا كانت الدنيا تبلغ من مثلك هذا المبلغ مع كبر سنّك، ورسوخ علمك (وفي نسخة خطية من الكافي: ورسوخ عقلك).

بيد ان بين اقواله هذه وبين قوله: ذهاب علمائهم وغلبة الجهل عليك. وقوله كذلك: اما ترى ما انت فيه من الجهل والغرة، تعارضاً. فتارة يصفه بالعلم والفقه بل يفهم ان المخاطبة لاحد كبار العلماء، وتارة يصفه بالجهل.

والجواب:

في الواقع انه لا تعارض بين هذه الاقوال اذ ان للعالم من بعض الوجوه معنيين.

المعنى الاول الذي قد اخذ من العلم الديني بحظ وافر بقطع النظر عن الممارسة والتطبيق اي انه عالم ديني سواء اعمل بعلمه ام لم يعمل.

ويا رب عالم جعل العلم خزانة مقفلة لا ينفق منها على اصلاح النفس او تربية الجيل.

المعنى الثاني العالم هو خصوص من يعمل بعلمه، ويستمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها نظرياً وتطبيقياً. وكثيراً ما تطلق الروايات لفظة العالم على خصوص المعنى الثاني.

ان احد كبار العلماء الذي وجّهت الرسالة اليه هو ممن يشمله المعنى الاول فهو عالم بالمنطلقات الفكرية والفقهية، وله القدرة على الاستيعاب للنظرية الاسلامية من القرآن والسنّة المطهرة.

وهو في نفس الوقت جاهل من جهة عدم تحقيق الانسجام والتناغم بين النظرية والتطبيق.

ومن كان عمله عمل الجاهل فهو جاهل وان كثر علمه.

انّها التقوى التي تميّز بين البر والفاجر، لا النظريات وارتقاء المنابر.

 

المستلزمات القياديّة

لقد اُعطي النبي محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته(عليهم السلام) مواهب كبرى، وطاقات هائلة، في مجالات الابداع الانساني الكثيرة، بحيث تقصّر عنها قدرات أكابر العباقرة، وتتراجع اَمامها كل المواهب الخلاّقة، والامكانات المبدعة، فمن هذه الطاقات ما جاء في خطاب الامام علي بن الحسين زين العابدين(عليه السلام) الذي ألقاه في دمشق عام «61» هجرية:

أيها الناس، اُعطينا ستاً وفُضلنا بسبع: اُعطينا العلم والحلم والسماحة والفصاحة والشجاعة والمحبة في قلوب المؤمنين(136).

ونكتفي بتحليل هذه الطاقات الست ومحاولة سبر ابعادها بصورة ما لنستخلص من ذلك أهلية الامام زين العابدين(عليه السلام) لقيادة العالم الاسلامي.

على أن في مجمل البحوث الاخرى ما يدل على الاهلية أيضاً.

التذكـير بالمواهـب الست، والفضـائل السبع في خطاب الامام زين العابدين  سلام الله عليه في عاصمة الدولة الاموية، وفي محضر يزيد بن معاوية، واستماع قادته، وحشد من الجماهير، ان كل ذلك للتدليل على التفوق المعنوي، وتوفر الشرائط القيادية لاهل البيت النبوي، فكأن الامام زين العابدين(عليه السلام) يريد أن يقول إني وأبي الحسين أولى منك بالمنصب المقدس الكريم، منصب الخلافة الالهية.

لم يذكر الامام زين العابدين المواهب الست، والفضائل السبع، على سبيل الحصر. بمعنى عدم وجود طاقات وتفضيلات إلاّ تلك التي عددها، وانما ذكر ما كان يحتاج اليه المقام.

ونحن نذكرها مقتصرين عليها الان:

 

1 ـ العلم

لابد لقائد الدولة الاسلامية من معرفة غنية بما نستطيع تسميته بالعلوم القيادية في الاسلام كالقرآن، والفقه، والسياسة، والمجتمع، وعلم التخطيط، الذي يستوعب العلوم السالفة، ويستوعب المشاكل الراهنة، من أجل أن يفرز المواقف المناسبة، والاساليب الحكيمة.

واما العلوم الاخرى التي لا تتصل بالعلوم القيادية، فهي من العلوم الكمالية بالنسبة للقائد، كما ان الاطلاع عليها، أو التوسع فيها، لا يغني ولا يسمن في هذا الصدد اذا كان بمعزل عن معرفة العلوم القيادية.

لقد كانت معرفة الرسول وأهل بيته بالكثير من العلوم، وعلى رأسها العلوم القيادية، معرفة واسعة عميقة، وكان الاصدقاء والاعداء يُقرّون لهم بالتفوق فيها على غيرهم.

ولقد قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بشأن أئمة أهل البيت(عليهم السلام): ولا تعلموهم فانهماَعلم منكم.

وقال الامام علي(عليه السلام) كما في نهج البلاغة: هم عيش العلم، وموت الجهل يخبركم حلمهم عن علمهم، وظاهرهم عن باطنهم، وصمتهم عن حكم منطقهم... عقلوا الدين عقل وعاية ورعاية، لا عقل سماع ورواية، فان رواة العلم كثير ورعاته قليل.

انه ما سُئل أهل البيت عن شيء فعجزوا عن جوابه، أو صدر الجواب عنهم خاطئاً، في مسألة من المسائل، مهما كانت، ومهما كان المسؤول من أهل البيت، صغيراً أو كبيراً، ومن يراجع الحياة العلمية لابي جعفر الثاني «محمد الجواد(عليه السلام)» ير القدرة العلمية الفذة، التي تفوق فيها على علماء عصره، وهو آنذاك لم يزل في غضارة الصبا.

ان الذي وصلنا مما صح من علوم أهل البيت(عليهم السلام) في القرآن والفقه والعقائد والسياسة.. الخ على الرغم من دقته، وسعة حجمه، وتعدد مناحيه ما هو الاّ قليل من كثير. وبقيت هناك علوم، وأشياء كثيرة من علوم مااستطاعوا الافصاح عنها لقصر أهل زمانهم عن إدراكها واستيعابها، فضلاً عن رفض تصديقها من قِبل بعضهم.

يقول الامام علي(عليه السلام): بل اندمجتُ على مكنون علم لو بحت به لا ضطربتم اضطراب الارشية في الطويّ البعيدة.

وجاءت عن الامام زين العابدين(عليه السلام) في هذا المضمار أبيات من الشعر الجميل، تكشف عن واقع عصره، لا نستغني عن ذكرها:

اني لاكتم من علمي جواهره     كي لا يرى العلم ذو جهل فيفتتنا

وقد تقدم في هذا أبو حسن     الى الحسين واوصى قبله الحسنا

فربَّ جوهر علم لو أبوح بهِ     لقيل لي انت ممن يعبد الوثنا

ولاستحل رجال صالحون دمي     يرون اقبح ما يأتونه حسنا(137)

 

مصادرة الحرية العلمية والفكرية:

ولا يخفى ان الحرية العلمية والفكرية قد صودرت من قبل القيادة السياسية في حياة اكثر أهل البيت مما ترك منطقة للفراغ حيل بين أهل البيت وبين ملئها بالحروف الواضحة، فكتبوا حروفها أحياناً كثيرة بالمواقف الرمزية، ومجموعة من الاحاديث غير المكشوفة. فينبغي تفهم تلك المواقف والاحاديث بعقليات واعية مجربة ومبدعة تختلف عن العقليات التي درست الاحاديث، والمواقف العامة، وتفهمتها بروح باهتة، وتفكير سقيم مبني على الجمود والتقليد والتلقي.

بيد أن أهل البيت(عليهم السلام) على الرغم من الملابسات الحاكمة، والظروف السياسية الخانقة، في أغلب الاحيان قد فتحوا أبواباً من العلوم، والافكار الاصيلة على مصاريعها، وعلّموا خلقاً عظيماً، وأناسيَّ كثيرا.

ولقد عكفت اُمة من كبراء العلماء والمحققين قديماً وحديثاً على معارفهم وعلومهم يتدارسونها ويحللونها، ويستنبطون منها النتائج العامة والخاصة خدمة للاسلام، وتشييداً للبناء الحضاري الشامل.

ولقد قال رجل معروف بالتعصب الاعمى، وهدر دماء أهل البيت، اَلا وهو يزيد واصفاً علم الامام زين العابدين خصوصاً وأهل البيت عموماً: انه من أهل بيت قد زُقّوا العلم زَقّا(138).

وقال رجل آخر لا يقل تعصباً عن الاول، وتعطشاً لدماء أهل البيت(عليهم السلام)، ولكن الظروف السياسية لم تتح له ذلك، ألا وهو عبدالملك بن مروان، قال لزين العابدين(عليه السلام): ولقد أوتيت من الفضل والعلم والدين والورع ما لم يؤته أحد مثلك، ولا قبلك، إلاّ من مضى من اسلافك.

ولقد قال الشيخ المفيد رضوان الله عليه مُشيداً بعلوم زين العابدين(عليه السلام): وقد روى عنه فقهاء العامة من العلوم ما لا تحصى كثرة، وحُفظ عنه من المواعظ والادعية، وفضائل القرآن، والحلال والحرام، والمغازي والايام ما هو مشهور بين العلماء. ولو قصدنا الى شرح ذلك لطال به الخطاب، وانقضى به الزمان(139).

وليست هذه الكلمات إلاّ غيضا من فيض من الاشادة بعلم الامام زين العابدين  سلام الله عليه والابانة عن معارفه.

 

2 ـ الحلم:

الحلم ما يكون عن مقدرة، أما ما لم يكن عن مقدرة فهو ليس من الحلم في شيء. والحلم سجية يعظمها الناس عامة ويحبونها حباً جمّا، ولا يطبقها على نفسه إلا الاقلّون. ولقد قيل: انك تجد في كل مائة عشرة من الشجعان، وقد لا تجد في كل مائة حليماً واحداً.

ما زالت سجية الحلم كبيرة في النفوس، مهيبة في القلوب في الجاهلية والاسلام، حتى أراد أن يضفيها على خلقه من ليس لها بأهل، وما يتعلق منها بشروى نقير لينال محبة واكبار الخاص والعام.

ونظراً لاهمية الحلم وعظمة منزلته اكّد عليه الكتاب العزيز، وركّزتْهُ السنّة المطهَّرة واكابر الفلاسفة والحكماء. يقول الله تبارك وتعالى: (والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين).

وقال تعالى: (خُذ العفو واؤمر بالعُرف واَعرض عن الجاهلين)(140)، وفي رواية ان جبرئيل صلوات الله عليه نزل على النبي محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) قائلاً له: أتيتك بمكارم الاخلاق في الدنيا والاخرة (خذ العفو وأمر بالعُرف وأعرض عن الجاهلين).

فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): ما هذا يا جبرائيل؟

فقال: لا أدري حتى أسأل العالم.

ثم عاد وقال:

يا محمد ربّك يأمرك أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك.

وقال الرسول محمد(صلى الله عليه وآله وسلم): من كتم غيظاً ولو شاء أن يمضيه امضاءً ملا الله قلبه أمناً وايماناً.

ولعليّ(عليه السلام) عقود عسجدية عن الحلم والدعوة اليه نقتطف منها:

ان لم تكن حليماً فتحلَّم، فانه قلّ من تشبّه بقوم الاّ أوشك أن يكون منهم.

اذا قدرت على عدوك فاجعل العفو عنه شكراً للقدرة عليه.

لقد تجلت سجية الحلم بأروع صورها عند النبي وأهل بيته بلا استثناء، فمن النبي الاقدس، الى المهدي المؤمل، مروراً بالامام موسى بن جعفر، الذي غلب نعته بالحلم والصفح وكظم الغيظ على اسمه، فاصبح كظمه وحلمه مضرب الامثال. فترة مديدة فيها من أنماط الحلم النزيه، وألوان الصفح الجميل ما يهش له العالَم. ويقف ذلك الحلم ذروة عليا «ينحدر عنها السيل ولا يرقى اليها الطير».

ومن كلمات أهل البيت في الحلم ما جاء عن علي بن الحسين(عليه السلام): ما من جرعة احب الى الله من جرعتين: جرعة غيظ ردها مؤمن بحلمه، أو جرعة مصيبة ردها مؤمن بصبره.

وقال: انّ علامات المؤمن خمس، وعدَّ منهن الحلم عند الغضب. وسبّه رجل فسكت عنه. فقال اِياك أعني، فقال: وعنك أغضي.

وكان عنده(عليه السلام) ضيوف فاستعجل خادماً له بشواء كان في التنور، فأقبل به الخادم مسرعاً، فسقط السّفود منه على رأس بُنيّ كان لعلي بن الحسين تحت الدرج فأصاب رأسه فقتله، فقال للغلام وقد تحيّر واضطرب: انت حرّ فانك لم تعتمده. وأخذ في جهاز ابنه ودفنه.

وجعلت جارية تسكب عليه الماء ليتهيأ للصلاة فسقط الابريق من يدها على رأسه فشجّه، فرفع رأسه اليها فقالت له: (والكاظمين الغيظ) قال: كظمتُ غيظي، قالت: (والعافين عن الناس) قال لها: عفا الله عنك، قالت: (والله يحب المحسنين) قال: أذهبي فأنت حرة لوجه الله.

وقيل للاسكندر: ان فلاناً وفلاناً ينتقصانك ويثلبانك، فلو عاقبتهما.

فقال: هما بعد العقوبة أعذر في نقصي وثلبي.

إنَّ مقابلة المسيء بالاحسان اسلوب فعال من أساليب العقوبة والردع في سياسة المجتمع وتربيته.

رفع هذا الشعار علي بن أبي طالب(عليه السلام) بقوله: عاتب اخاك بالاحسان إليه، واردد شره بالانعام عليه.

اِنَّ احتياج القيادة السياسية للحلم والصفح أحياناً كاحتياجها للعنف والشدة أحايين اُخر; فان الحكمة، تقتضي: أن تتخذ القيادة السياسية القرار المناسب ليناً أو شدة في كل واقعة من وقائع السياسة والحكم.

ويمكننا الاشارة الى بعض الفوائد القيادية والسياسية للحلم:

أولاً: ان القيادة السياسية بحاجة الى كثرة الانصار والمؤيدين والحد من المسبّبات لذلك، قال الامام علي(عليه السلام): «أول عوض الحليم عن حلمه أنَّ الناس أنصاره على الجاهل».

ثانياً: ان الحلم يدل على أفضلية الحليم على المعتدي ولو من بعض الجهات. وما أحوج القيادة السياسية لان يُشار اليها بالافضلية والتقدم.

ثالثاً: ان عدداً من الذين تحلم القيادة السياسية عنهم يشعرون بانهم المدينون لها وانها المتفضلة عليهم وجزاء ذلك أن يكونوا من أعوانها ومحبيها.

ان للحلم ايجابيات وفيرة، بيد أنه اذا لم يُحسن الاخذ به يكون علة لسلبيات واخطاء لاتُحصى، ولذا يصح أن نقول : خُلُقان عظيمان الاغراق فيهما نقص وهوان الحلم والتواضع.

فان الاغراق بالحلم والتواضع يسبب عدم أخذ القرارات السياسية موضع الجد والحديّة، ويسبب كثرة الاعتداء عليها، والاقدام على هتك حريم عزّتها، ولو كان الحلم محموداً في جميع الحالات لحلم زين العابدين عن قتلة الامام الشهيد الحسين بن علي(عليهما السلام) ولكنه(عليه السلام) كان شَديد التحريض عليهم والكشف عن مظالمهم، وبتحريضه للمختار الثقفي قُتل عمر بن سعد قائد جيش ابن زياد.

ومن حالات الفرز بين موقع الحلم وموقع الشدة والردع يمكننا القول:

عاقبوا الضعيف الذي يتبجّح بالشر، واحلموا عن القوي الذي تخجله الاساءة.

 

3 ـ السماحة:

السماحة هي البذل في اليسر والعسر عن كرم وسخاء.

وللسماحة دوافع.

فمنها التقرب الى الله تبارك وتعالى وابتغاء رحمته ورضوانه لانه تعالى سخي يحب السخاء والكرم.

ومنها دافع نفسي.

ومنها دوافع الشفقة والرحمة بالمعوزين والمستضعفين الذين لا يجدون حيلة ولا يهتدون سبيلاً.

ومنها طلب الذكر العطر بين الناس.

ومنها لشراء الاصوات الانتخابية، والتوصل الى منصب في الدولة الوضعية، او شبه الوضعية.

وقد يجتمع اكثر من دافع إلى السماحة. 

(117) ابن ابي الحديد، شرح نهج البلاغة 1 / 24 ط دار احياء التراث العربي (1378 هـ / 1959م).

(118) القلقشندي، احمد بن علي. صبح الاعشى 6 / 391. دار الكتب المصرية (1914 ـ 1919م).

(119) محمد بن جرير الطبري. تاريخ الطبري 2 / 652 الناشر دار المعارف بمصر سنة (1918م).

(120) المصدر السابق 2 / 654.

(121) الاصفهاني، ابو الفرج علي بن الحسين، الاغاني 17 / 148 دار الكاتب العربي (1389هـ / 1970م).

(122) المصدر السابق 17 / 149.

(123) من رسالته الى اصحابه كما سيأتي.

(124) من رسالته الى اصحابه كما سيأتي ايضاً.

(125) ابن كثير الدمشقي، البداية والنهاية 9 / 340.

(126) سورة ابراهيم / آية 7.

(127) سورة آل عمران / آية 187.

(128) الاعراف / الاية 168.

(129) عزب : بعد.

(130) الذاريات / آية 55.

(131) مريم / آية 59.

(132) ابن شعبة الحراني ـ تحف العقول / ص 198 ـ 200، والشيخ المجلسي ـ بحار الانوار 17 / 213.

(133) مثلاتها : عقوباتها.

(134) الشيخ محمد بن يعقوب الكليني، روضة الكافي 8 / 14 ـ 17، وتحف العقول / 182 ـ 184، والشيخ المفيد، الامالي / ص 125 ـ 127 المطبعة الحيدرية النجف، وورّام الاشتري ـ مجموعة ورّام 2 / 37 ـ 39.

(135) آل عمران / آية 187.

(136) مقتل الحسين للخوارزمي / الموفق بن احمد المكي ج2 ص69 من خطابه(عليه السلام) في دمشق.

(137) الالوسي ـ الشيخ العلامة محمود الالوسي البغدادي، روح المعاني 6 / 190، والشبراوي، الاتحاف بحب الاشراف 50.

(138) الموفق المكي الخوارزمي، مقتل الحسين 2 / 69.

(139) المفيد، محمد بن محمد النعمان، الارشاد 260 ـ 261. بيروت، مؤسسة الاعلمي، 1399هـ ـ 1979م.

(140) الاعراف / 199.