مكتبة الإمام زين العابدين

فهرس الكتاب

 

 

مكان الخارطة

وفي اليوم الثاني من محرم الحرام من سنة احدى وستين نزل الحسين ارض كربلاء. وهنالك التحم الطرفان في معركة حامية الوطيس بين الحق المتجسد بالحسين واتباعه وبين الباطل المتجسد باتباع يزيد بن معاوية. وكان القتال يوم العاشر من محرم.

وكتب الحسين واهل بيته واصحابه به اروع صور الدفاع عن الحق، والاستماتة من اجل المبادئ. كما اتقن الجيش الظلوم الحقود دوره في الوحشية الكاسرة، وروح الجاهلية، بل تعداها الى حيث الدرك الاسفل من المعاملة الوضيعة والانحطاط.

ونادى الحسين هل من ناصر ينصرنا؟ هل من ذاب يذب عن حرم رسول الله؟

فانتفض الامام علي زين العابدين(عليه السلام) من فراش المرض. وكان شديد العلة، منهار القوى، ولكن قوة الارادة، ورباطة الجأش، وألم المصاب، حركت بدناً وانياً فتحرك، وهزت جسداً عليلاً فاهتز اهتزاز المهند، وخطى الخطوات الاولى نحو المعركة فمنعه الامام الحسين(عليه السلام) لما به من علة شديدة، وخشية من الامام الحسين(عليه السلام)على نسل رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)ان ينقطع وقد كاد لو لا ارادة الله ولطفه ورعايته.

وقد تقدم الكلام أن مرض الامام زين العابدين(عليه السلام) انما هو بسبب قطعه لحلقات الدرع وتمزيقها بيده وقد كان ذلك ايام حوادث كربلاء. وما عدا ذلك فلقد كان يمتلك قوة بدنية هائلة. فعن قدامة بن عاصم: أنه(عليه السلام) كان ضخماً من الرجال، وكان يسابق ظباءً فيسبق اوائلها فيردها على اواخرها(234).

ان هذه السرعة في العدو بحيث يسبق الظباء على الرغم من ضخامة الجسد تعني درجة قصوى من اللياقة البدنية، والتميز الصحي.

 

اداء المهمة الرساليه:

اراد الامام الحسين(عليه السلام) ان يحمل الحملة الاخيرة فاذا به يهمه اكمال رسالته في الحياة من ناحية اخرى، فدخل خيمة ولده الامام زين العابدين(عليه السلام)ومن جملة ما قال له : اني اوصيك بما اوصى به جدك رسول الله علياً حين وفاته، وبما اوصى به جدك علي عمك الحسن، وبما اوصاني به عمك: اياك ان تظلم من لا يجد عليك ناصراً الا الله.

ليست بدعاً هذه الوصية من الامام الحسين(عليه السلام) ان يلقيها على ولده العظيم في تلك الساعة الحرجة والموقف العصيب، وليس بدعا ان يخص الامام زين العابدين(عليه السلام) بالمشافهة بها وهو طريح الفراش تحفه الاعداء. فلقد كان الامامان الهمامان الحسين وزين العابدين(عليهما السلام) أجلّ من خطط للعدالة ومن جسدها في سلوكه القويم آنذاك، وندد بالظلم والعدوان. وان يكونا قد ظلما كثيراً ظلماً سياسياً واجتماعياً فما ظلما احداً من العالمين، ولا شروى نقير.

واخيراً سقط الامام الحسين بن علي(عليهما السلام) مخضباً بالدماء وقطعوا رأسه. وَتخللوا بين الخيام، فافزعوا النساء والاطفال، واضرموا في الخيام النيران.

 

على شفير القتل:

ثم انتهوا الى الامام علي بن الحسين زين العابدين(عليه السلام) فاراد شمر قتله، فقال له حميد بن مسلم: سبحان الله اتقتل الصبيان؟ وكان مريضاً، وجاء عمر بن سعد فقال : لا يدخلن بيت هذه النسوة احد، ولا يعرضن لهذا الغلام المريض(235).

قلت: لقد كان الامام زين العابدين(عليه السلام) في ملحمة الطف قد تجاوز من العمر عشرين سنة، واذا كان لابد من توجيه العبارة السالفة في عدّه من الصبيان فبمعنى ان شدة مرضه آنذاك قد جعلته كأنه من الصبيان في ظاهر الحال. وهكذا يصنع المرض.

ومن الممكن ان يكون حميد بن مسلم ينظر الى زين العابدين(عليه السلام)انذاك على انه شاب من الشباب وليس صبيا من الصبيان، ولكنه قد آثر التعبير بالصبي ليصرف بذلك نظر الشمر عن قتل الامام(عليه السلام).

لقد عاش الامام زين العابدين(عليه السلام) هذا الفصل وغيره من فصول ملحمة كربلاء التي جرت في صورة بشعة جداً، قاتمة  الالوان، الى ابعد حد. ففيها من الظلم والدناءة والوحشية ما يقصر الباحث العبقري، والبليغ المصقع، عن اعطاء الصورة الكاملة المعبرة عنها.

 

من كربلاء الى الكوفه:

وساق القوم حرم رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) من كربلاء كما تساق الاسارى، حتى اذا بلغوا بهم الى الكوفة خرج الناس اليهم فجعلوا يبكون وينوحون. والامام علي بن الحسين(عليهم السلام) في وقته ذلك قد نهكته العلة فجعل يقول : الا ان هؤلاء يبكون وينوحون من اجلنا فمن قتلنا؟!(236).

 

ازدواجية العواطف:

لقد كان الامام زين العابدين(عليه السلام) حراً كريماً مستقيماً صادق التعامل، لذا يعجب من الازدواجية في الشخصية عند هؤلاء الذين يذرفون دموع التماسيح على الامام الحسين(عليه السلام)، وهو يعبر عن تعجبه من هذا الامر الغريب اللافت للنظر: الا ان هؤلاء يبكون وينوحون من اجلنا فمن قتلنا؟!

لقد استنكر الامام زين العابدين(عليه السلام) البكاء الكذوب في الوقت الذي كانت تسح من عينيه الدموع الساخنة حزناً وحرقة قلب على مصائب آل الرسول.

وكان ضمن منهجه في استمرارية ثورة الامام الحسين(عليه السلام) ان يحرض الناس على البكاء ويدعوهم اليه ولكنه البكاء الصادق المعبر عن الحب الخالص، والتأثر العميق. فعن ابي جعفر(عليه السلام) (محمد الباقر) قال: كان علي بن الحسين(عليه السلام) يقول: ايما مؤمن دمعت عيناه لقتل الحسين بن علي(عليه السلام) دمعة حتى تسيل على خده بوأه الله بها في الجنة غرفاً يسكنها احقاباً. وايما مؤمن دمعت عيناه حتى تسيل على خده فينا لاذىً مسّنا من عدونا في الدنيا بوأه الله بها في الجنة مبوّأ صدق. وايما مؤمن مسه اذىً فينا فدمعت عيناه حتى تسيل على خده من فضاضة ما أوذي فينا صرف الله عن وجهه الاذى، وآمنه يوم القيامة من سخطه والنار(237).

ويبدو أن البكاء والنحيب، الذين أظهرهما الناس في الكوفة لم يكونا أمرين عاديين كما ذكر، فقد روي أن الناس ضجوا بالبكاء والنوح، ونشرت النساء شعورهن، ووضعن التراب على رؤوسهن، وخمشن وجوههن، وضربن خدودهن، ودعون بالويل والثبور، فلم ير باكية وباك اكثر من ذلك اليوم.

ولا بد أن يكون هذا ندماً على ما وقع منهم بحق الامام الحسين(عليه السلام)فانهم كانوا بين قاتل جريء على الله، وخاذل جرى على النكث، إلاّ قليلاً منهم.

ثم ان الامام زين العابدين(عليه السلام) أومأ الى الناس أن اسكتوا، فقام قائماً فحمد الله واثنى عليه، وذكر النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ثم صلى عليه، ثم قال: ايها الناس من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فانا اُعرّفه بنفسي. أنا علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب(عليهم السلام)، أنا ابن من انتهكت حرمته، وسُلبت نعمته، وانتُهب ماله، وسُبي عياله. اَنا ابن المذبوح بشط الفرات من غير ذحل ولا تراث. أنا ابن من قُتل صبراً وكفى بذلك فخراً.

ايها الناس ناشدتكم الله هل تعلمون انكم كتبتم الى أبي وخدعتموه وأعطيتموه من انفسكم العهد والميثاق والبيعة وقاتلتموه; فتباً لما قدّمتم لانفسكم وسوءة لرأيكم. بأية عين تنظرون الى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) إذ يقول لكم : قتلتم عترتي، وانتهكتم حرمتي، فلستم من امتي.

قال الرواي : فارتفعت الاصوات من كل ناحية، ويقول بعضهم لبعض: هلكتم وما تعلمون.

فقال(عليه السلام): رحم الله امرأً قبل نصيحتي، وحفظ وصيتي في الله وفي رسوله واهل بيته، فانّ لنا في رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) اسوة حسنة. فقالوا بأجمعهم: نحن كلنا يابن رسول الله سامعون مطيعون، حافظون لذمامك، غير زاهدين فيك. ولا راغبين عنك، فمُرنا بأمرك يرحمك الله، فانّا حرب لحربك وسلم لسلمك، لنأخذن يزيد لعنه الله ونبرأ ممن ظلمك.

فقال(عليه السلام): ايها الغدرة المكرة، حيل بينكم وبين شهوات انفسكم، أتريدون أن تأتوا إلي كما أتيتم الى آبائي من قبل، كلا ورب الراقصات(238) فان الجرح لمّا يندمل، قُتل أبي صلوات الله عليه بالامس، وأهل بيته معه، ولم ينسني ثكل رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وثكل أبي، وبَني أبي، ووجده بين لهاتي، ومرارته بين حناجري وحلقي، وغصصه تجري في فراش صدري، ومسألتي أن تكونوا لا لنا ولا علينا، ثم قال:

لاغرو إن قتل الحسين فشيخه     قد كان خيراً من حسين وأكرما

فلا تفرحوا يا أهل كوفان بالذي     أصيب حسين كان ذلك أعظما

قتيل بشط النهر روحي فداؤه     جزاء الذي أرداه نار جهنما

ثم قال: رضينا منكم رأساً برأس، فلا يوم لنا ولا يوم علينا(239).

 

حوار مع الجبّار:

وفي الكوفة أدخل الامام زين العابدين(عليه السلام) ومن معه على بن زياد و كان فظاً، غليظ الطبع، جباراً، سفاكاً للدماء. قال المؤرخ القدير أحمد بن أعثم: فالتفت ابن زياد الى علي بن الحسين(رضي الله عنه) قال: أو لم يقتل علي بن الحسين؟

قال: ذاك أخي وكان اكبر مني فقتلتموه. وان له مطلاً منكم يوم القيامة.

فقال ابن زياد: ولكن الله قتله.

فقال علي بن الحسين(رضي الله عنه) (الله يتوفىّ الانفس حين موتها)(240).

«وهنا يقول ابن زياد لبعض جلسائه»: خذه إليك الان فاضرب عنقه. قال فتعلقت به عمته زينب بنت علي وقالت له: يابن زياد انك لم تبق منا أحداً فان كنت عزمت على قتله فاقتلني معه.

فقال علي بن الحسين لعمته: اسكتي حتى اكلِّمه. ثم أقبل علي(عليه السلام) على ابن زياد فقال: أبالقتل تهددني؟! أما علمت ان القتل لنا عادة وكرامتنا الشهادة.

قال: فسكت ابن زياد ثم قال: أخرجوهم عني(241).

نعتقد ان ابن زياد ما استشاط غضباً لرد الامام علي بن الحسين(عليهما السلام)بجرأة كما استشاط غضباً لعدم قدرته على الجواب المُصيب، وخلو تفكيره من الرد الكفوء.

 

( 2 )

لم تكن ثورة الامام الحسين(عليه السلام) وليدة مقطع زمني تنتهي بانتهائه، بل إِن لها من مبررات الوجود ما يجعلها خالدة في الخوالد.

لقد اختزنت ثورة الامام الحسين(عليه السلام) مفردات تنظيرية كثيرة سياسية وثورية وروحية قلّما تتوفر في ثورة اخرى من الثورات على مر التأريخ.

ثورة الحسين(عليه السلام) ثورة ضاربة في اعماق الحضارة الاسلامية والتاريخ والضمير الانساني والامة الاسلامية.

إن التاريخ لا يمكن أن تتخلى صفحاته عن الاحرف المضيئة لدور الامام الحسين(عليه السلام) الرسالي، إلاّ إذا تخلت الشمس عن دفيق ضوئها.

كيف ينفصل الضمير الانساني عن وحي ثورة الحسين الاّ اذا انفصل القلب عن نبضاته.

ويعتقد الامام علي زين العابدين بالحسين بن علي(عليهم السلام) اماماً هادياً، وبملحمة الطف قضية عادلة اعتقاداً يقينياً خالصا من كل شوب. فيشارك في الثورة إبّانها، ويدخل بعقليته الجبارة، وتفكيره الحكيم، وجرأته السامية، وروحه الكبيرة، وكل شيء في كيانه في سياق امتداداتها البعيدة مساهماً ايما مساهمة في الخطط التنموية لها.

لم تكن الجهود السياسية والثورية التي بذلها الامام زين العابدين(عليه السلام)دعماً لثورة كربلاء سواء في العراق او الشام او الحجاز جهوداً عائمة منفصلة عن مجمل التنظير الكامل للثورة.

لقد اراد الامام زين العابدين(عليه السلام) ان ينقل آليات التحرك الثوري والوعي الرسالي الناهض من كربلاء الى الكوفة ومن ثم الى الشام والمدينة المنورة. مع العلم ان العراق والشام والحجاز وقتئذ تعتبر اكبر مراكز الثقل السياسي في العالم الاسلامي.

ولئن كان الامام زين العابدين(عليه السلام) مجبراً على التنقل من كربلاء الى المدينة المنورة ضمن هذه المسيرة بأمر من السلطة الحاكمة ـ ما عدا المدينة المنورة ـ فإنه استطاع ان يقول كلمته ويعلن أحقية الامام الحسين(عليه السلام) وتهافت اعدائه على الرغم من الاجواء الخانقة والاستبداد السياسي، وشدة التوتر في العلاقات بين الحاكم والمحكوم. ونزداد اعجاباً واكباراً لدوره الخطير اذا علمنا بمرضه الشديد في تلك الفترة.

 

امتداد الثورة الى الشام:

بعد تلك المواجهة العنيفة بين الامام علي بن الحسين زين العابدين(عليهما السلام)وعبيد الله بن زياد امر ابن زياد باخراجهم وانزالهم في دار إلى جنب المسجد الاعظم.

ثم دعا ابن زياد زحر بن قيس الجعفي فاعطاه رأس الامام الحسين(عليه السلام)ورؤوس اخوته واهل بيته وشيعته ودعا بعلي بن الحسين(عليه السلام) فحمله وحمل عماته واخواته وجميع نسائهم معه الى يزيد، فسار القوم بحرم رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)من الكوفة الى بلد الشام على محامل بغير وطاء، من بلد الى بلد، ومن منزل الى منزل كما تساق الترك والديلم(242).

ولم يكن الامام علي بن الحسين(عليه السلام) يكلم احداً من القوم الذين معهم الرأس في الطريق كلمة واحدة حتى بلغوا الشام. فلما انتهوا الى باب يزيد رفع محفر بن ثعلبة صوته فقال: هذا محفر بن ثعلبة أتى امير المؤمنين باللئام الفجرة، فأجابه علي بن الحسين(عليهما السلام): ما ولدت ام محفر أشرّ والام(243).

 

الحقيقة تفرض نفسها:

وأُتي بحرم رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) حتى اُدخلوا مدينة دمشق من باب يقال له باب توماء، ثم اُتي بهم حتى وقفوا على درج باب المسجد حيث يقام السبي. واذا بشيخ قد اقبل حتى دنا منهم.

وقال: الحمد لله الذي قتلكم واهلككم، واراح الرجال من سطوتكم، وامكن امير المؤمنين منكم.

فقال له علي بن الحسين: يا شيخ هل قرأت القرآن؟

فقال: نعم قد قرأته.

قال: فعرفت هذه الاية (قل لا اسألكم عليه اجراً الا المودة في القربى)؟

قال الشيخ: قد قرأت ذلك.

قال علي بن الحسين(رضي الله عنه): فنحن القربى يا شيخ.

قال: فهل قرأت في سورة بني اسرائيل (وآت ذا القربى حقه)؟

قال الشيخ: قد قرأت ذلك.

فقال علي(رضي الله عنه): نحن القربى يا شيخ. ولكن هل قرأت هذه الاية (واعلموا ان ما غنمتم من شيء فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى)؟

قال الشيخ: قد قرأت ذلك.

قال (علي): فنحن ذو القربى يا شيخ. ولكن هل قرأت هذه الاية (انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس اهل البيت ويطهركم تطهيراً)؟

قال الشيخ: قد قرأت ذلك.

قال علي: فنحن اهل البيت الذين خصصنا بآية الطهارة.

قال: فبقي الشيخ ساعة ساكتاً نادماً على ما تكلمه ثم رفع رأسه الى السماء وقال: اللهم اني تائب اليك مما تكلمته ومن بغض هؤلاء القوم، اللهم اني ابرأ اليك من عدو محمد وآل محمد من الجن والانس(244).

 

حوار كحدِّ الحسام:

ثم أُتي بهم حتى اُدخلوا على يزيد. قيل: ان اول من دخل شمر بن ذي الجوشن بعلي بن الحسين، مغلولة يداه الى عنقه.

فلما نظر الى علي بن الحسين(رضي الله عنه) قال له: من انت يا غلام؟

فقال: انا علي بن الحسين.

فقال: يا علي ان اباك الحسين قطع رحمي، وجهل حقي، ونازعني سلطاني، فصنع الله به ما قد رأيت.

فقال علي بن الحسين: (ما اصاب من مصيبة في الارض ولا في انفسكم الا في كتاب من قبل ان نبرأها ان ذلك على الله يسير).

فقال يزيد لابنه خالد: اردد عليه يا بني فلم يدر خالد ماذا يقول.

فقال يزيد: (وما اصابكم من مصيبة فبما كسبت ايديكم ويعفو عن كثير).

فتقدم علي بن الحسين حتى وقف بين يدي يزيد وقال:

لا تطمعوا ان تهينونا ونكرمكم     وان نكف الاذى عنكم وتأذونا

فالله يعلم أنا لا نحبكمُ     ولا نلومكمُ ان لم تحبونا

فقال يزيد: صدقت يا غلام ولكن اراد ابوك وجدك ان يكونا اميرين، فالحمد لله الذي اذلهما وسفك دماءهما.

فقال له علي بن الحسين: يابن معاوية وهند وصخر لم تزل النبوة والامرة لابائي واجدادي من قبل ان تولد ولقد كان جدي علي بن ابي طالب في يوم بدر واُحد والاحزاب في يده راية رسول الله، وابوك وجدك في ايديهما رايات الكفر. ثم جعل علي بن الحسين(عليه السلام) يقول:

ماذا تقولون ان قال النبي لكم     ماذا فعلتم وانتم آخر الامم

بعترتي وبأهلي بعد مفتقدي     منهم أسارى ومنهم ضرجوا بدم

ما كان هذا جزائي اذ نصحتكم     ان تخلفوني بسوء في ذوي رحمي

 ثم قال الامام علي بن الحسين(عليه السلام): ويلك يا يزيد انك لو تدري ماذا صنعت، وما الذي ارتكبت من ابي واهل بيتي واخي وعمومتي، اذن لهربت الى الجبال، وافترشت الرمال، ودعوت بالويل والثبور أيكون رأس ابي الحسين بن علي وفاطمة منصوبا على باب مدينتكم وهو وديعة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فيكم؟ فابشر يا يزيد بالخزي والندامة اذا جمع الناس غداً ليوم القيامة.

ثم دعا يزيد بالخاطب وامر بالمنبر فاحضر ثم امر الخاطب فقال: اصعد المنبر فخبر الناس بمساوئ الحسين وعلي وما فعلا.

قال: فصعد الخاطب المنبر فحمد الله واثنى عليه. ثم اكثر الوقيعة في علي والحسين، واطنب في معاوية ويزيد فذكرهما بكل جميل.

قال فصاح علي بن الحسين: ويلك ايها الخاطب اشتريت مرضاة المخلوق بسخط الخالق، فانظر مقعدك من النار.

ثم قال علي بن الحسين(عليه السلام): يا يزيد اتأذن لي ان اصعد هذه الاعواد فاتكلم بكلام فيه رضا لله ورضا هؤلاء الجلساء واجر وثواب؟

 

خطاب دمشق:

قال فأبى يزيد ذلك. فقال الناس: يا أمير المؤمنين ائذن له ليصعد المنبر، لعلنا نسمع منه شيئا. فقال لهم : ان صعد المنبر لم ينزل الا بفضيحتي وفضيحة آل ابي سفيان. قيل له: يا امير المؤمنين وما قدر ما يحسن هذا. فقال: انه من اهل بيت قد زقوا العلم زقاً. قال: فلم يزالوا به حتى اذن له بالصعود فصعد المنبر فحمد الله واثنى عليه، ثم خطب خطبة ابكى منها العيون، واوجل منها القلوب فقال فيها :

ايها الناس اعطينا ستاً، وفضلنا بسبع : اعطينا العلم والحلم والسماحة والفصاحة، والشجاعة والمحبة في قلوب المؤمنين.

وفضلنا بأن منا النبي المختار محمداً(صلى الله عليه وآله وسلم) ومنا الصديق ومنا الطيار ومنا اسد الله واسد الرسول ومنا سيدة نساء العالمين فاطمة البتول، ومنا سبطا هذه الامة وسيدا شباب اهل الجنة.

«وفي رواية: ومنا مهديها».

فمن عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني انبأته بحسبي ونسبي. انا ابن مكة ومنى، انا ابن زمزم والصفا. انا ابن خير من طاف وسعى، انا ابن خير من حج ولبّى، انا ابن من اسريَ به من المسجد الحرام الى المسجد الاقصى، فسبحان من اسرى، انا ابن من بلغ به جبرئيل الى سدرة المنتهى، انا ابن من اوحى اليه الجليل ما اوحى، انا ابن محمد المصطفى، انا ابن علي المرتضى، انا ابن من ضرب خراطيم الخلق حتى قالوا لا اله الاّ الله، انا ابن من ضرب بين يدي رسول الله بسيفين، وبايع البيعتين، وصلى القبلتين، وقاتل ببدر وحنين، ولم يكفر بالله طرفة عين.

انا ابن صالح المؤمنين، ووارث النبيين، وقامع الملحدين، ويعسوب المسلمين، ونور المجاهدين، وزين العابدين، وتاج البكّائين.

انا ابن المؤيد بجبرئيل، المنصور بميكائيل.

انا ابن المحامي عن حرم المسلمين، وقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين، والمجاهد اعداءه الناصبين، وافخر من مشى من قريش اجمعين، واول من اجاب واستجاب لله ولرسوله من المؤمنين. واقدم السابقين، وقاصم المعتدين ومبير المشركين، وسهم من مرامي الله على المنافقين، ولسان حكمة العابدين. وناصر دين الله، وولي امر الله، وبستان حكمة الله، وعيبة علم الله. سمح سخي بهلول زكي، ابطحي رضي مرضي، مقدام همام، صابر صوّام، مهذب قوام، شجاع قمقام، قاطع الاصلاب، ومفرق الاحزاب، اربطهم جنانا، واطلقهم عناناً، واجرأهم لسانا، وامضاهم عزيمة واشهدم شكيمة، اسد باسل، وغيث هاطل، يطحنهم في الحروب ـ اذا ازدلفت الاسنة وقربت الاعنّة ـ طحن الرحى، ويذروهم ذرو الريح الهشيم.. ليث الحجاز وكبش العراق. مكي مدني، ابطحي تهامي، خيفي عقبي، بدري احدي، شجري مهاجري من العرب سيدها، ومن الوغى ليثها. وارث المشعرين، وابو السبطين، الحسن والحسين. مظهر العجائب ومفرق الكتائب، والشهاب الثاقب، اسد الله الغالب، مطلوب كل طالب، ذاك جدي علي بن ابي طالب. انا ابن فاطمة الزهراء، انا ابن سيدة النساء، انا ابن الطهر البتول، انا ابن بضعة الرسول.

قال ولم يزل يقول انا انا حتى ضج الناس بالبكاء والنحيب، وخشي يزيد ان تكون فتنة، فأمر، المؤذن ان يؤذن فقطع عليه الكلام وسكت; فلما قال المؤذن: الله اكبر، قال علي بن الحسين: كبرت كبيراً لا يقاس، ولا يدرك بالحواس، لا شيء اكبر من الله.

فلما قال: اشهد ان لا اله الاّ الله، قال علي: شهد بها شعري وبشري، ولحمي ودمي، ومخي وعظمي.

فلما قال: اشهد ان محمداً رسول الله، التفت علي من اعلى المنبر الى يزيد وقال: يا يزيد محمد هذا جدي ام جدك؟ فإن زعمت انه جدك فقد كذبت، وان قلت: انه جدي فلم قتلت عترته؟!.

قال: وفرغ المؤذن من الاذان والاقامة فتقدم يزيد وصلى صلاة الظهر(245).

فلما فرغ من صلاته أمر بعليّ بن الحسين واخواته وعماته رضوان الله عليهم ففرَّغ لهم داراً فنزلوها. وأقاموا أياماً يبكون وينوحون على الحسين(عليه السلام)(246).

 

الطاغوت والمحاولة الانهزامية:

واستخلى يزيد يوماً بعلي بن الحسين(عليه السلام) ثم قال له: لعن الله ابن مرجانة. أما والله لو أني صاحب أبيك ما سألني خصلة إلا أعطيته اياها، ولدفعتُ الحتف عنه بكل ما استطعت.

قلت:

اعتذر يزيد الى الامام علي بن الحسين(عليه السلام) متناسياً أوامره الى السلطة التنفيذية بقتله ولو كان متعلقاً بأستار الكعبة، ومتناسياً أنه كان بعد قتله ينكت فمه بمخصرة في يده ويقول: «ليت أشياخي ببدر شهدوا..» وانه أمر أن يُصلب الرأس الشريف على باب داره، وانه في تلك الحالة دخلت عليه امرأته هند بنت عبد الله بن عامر بن كريز فوثبت على يزيد وقالت: أرأس ابن فاطمة على باب داري، فغطاها يزيد وقال: نعم فاعوِلي عليه يا هند وابكي على ابن بنت رسول الله وصريحة قريش «فاطمة»; عجّلَ عليه ابن زياد فقتله قتله الله(247).

ومنذ ذلك الوقت أخذ ابن معاوية بمحاولة التنصل من الجريمة الكبرى، قتل ريحانة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، فتارة يلقي المسؤولية على الحسين نفسه، واخرى يلقي اللائمة واللعنة على ابن مرجانة «عبيد الله بن زياد». ولا أدلّ على رضاه بقتل الحسين بل أمره بقتله من الوثيقة التاريخية المذكورة آنفاً، ففي الوقت الذي يصلب رأسه على باب داره، وزوجته هند تعترض عليه في ذلك يقول: نعم، أي صلبته على باب داري، فاعولي عليه يا هند وابكي على ابن بنت رسول الله.

كل ذلك ناتج من إحساس السلطة الغاشمة بعظيم ما ارتكبت، وخطأ ما قدمت، لاحياء من الله تعالى وخوفاً من العذاب الاليم في الدار الاخرة يوم (يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والاقدام)(248) ولا أن لهم ضميراً حياً فبدأ يتيقظ بعد أن تهاوى في الحضيض، ولكن خشية من تفاقم الاوضاع السياسية المتدهورة، وانفجار عبوات الوجدان الاسلامي الذي بدأ يتوثب، ويتساءل ويندهش، حتى في بيت يزيد، مما مرَّ من صنيع هند مع يزيد واستنكارها لموقفه الشائن المقيت، وانه لما دخلت النسوة دار يزيد لم تبق امرأة من آل معاوية إلاّ استقبلتهن بالبكاء والصراخ، والنياحة والصياح على الحسين، وألقين ما عليهن من الحليّ والحلل. وأقمن المآتم عليه ثلاثة أيام(249).

انّ محاولة التنصل من الجرائم التي تنكشف للعيان سياسة اكثر الحكام الطواغيت منذ العصور المتقدمة حتى العصر الحاضر، فتتظاهر القيادات السياسية المتوغلة في الظلم والغدر بالانسانية والتأسف لما وقع، والاعتذار مما حدث، وتحيل مسؤولية الجرائم على السلطات التنفيذية، واحياناً تنهكها عقوبة، وتصب عليها جام الغضب والعذاب الاليم.

كل هذا أمر واضح وأمثلته كثيرة جداً، وفي صفحات التأريخ السياسي وتقارير المراقبين شواهد لا تحصى.

بيد أن الامام علي بن الحسين زين العابدين(عليه السلام) لم ينخدع بادعاء يزيد ومحاولته الانهزامية، فكاشفه بكل قوة وحزم ـ وجها لوجه ـ : ويلك يا يزيد إنك لو تدري ما صنعت وما ارتكبت من أبي وأهل بيتي وأخي وعمومتي اذن لهربت في الجبال، وفرشت الرماد، ودعوت بالويل والثبور.

وفي تأريخ ابن الاثير خبر طريف جداً يؤكد ما مر من الرضا الذي عليه يزيد بن معاوية، والارتياح البالغ لقتل الحسين بن علي(عليهما السلام) ثم الالتجاء الى محاولات التنصل الفارغة التي لم تُجْده أو تسعفه في المقام. فإليك نص الخبر(250):

وقيل: لمّا وصل رأس الحسين إلى يزيد حسنت حال ابن زياد عنده وزاده ووصله وسرّه ما فعل، ثم لم يلبث حتى بلغه بغض الناس له ولعنهم وسبّهم له فندم على قتل الحسين، فكان يقول : و ما عليَّ لو احتملت الاذى وانزلت الحسين معي في داري وحكّمته فيما يريد، وان كان عليّ في ذلك وهن في سلطاني حفظاً لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، ورعاية لحقه وقرابته. لعن الله ابن مرجانة فانه اضطره وقد سأله أن يضع يده في يدي أو يلحق بثغر حتى يتوفاه الله، فلم يجبه الى ذلك فقتله، فبغّضني بقتله الى المسلمين، وزرع في قلوبهم العداوة، فابغضني البرّ والفاجر بما استعظموه من قتلي الحسين، ومالي ولابن مرجانة، لعنه الله وغضب عليه!(251).

وفي الشام وقد تراخت قضبان الديكتاتورية شيئاً ما، ولانت أغلالها، وبعد تلك المشادّات الكلامية والمناورات الحادة خرج الامام عليّ بن الحسين(عليه السلام) ذات يوم فجعل يمشي في سوق دمشق، فاستقبله المنهال بن عمرو الضبابي فقال: كيف أمسيت يابن رسول الله؟ فقال: أمسيت والله كبني اسرائيل في آل فرعون. يذبحون أبناءهم، ويستحيون نساءهم. يا منهال أمست العرب تفتخر على العجم بأن محمداً(صلى الله عليه وآله وسلم) عربي، وأمست قريش تفتخر على سائر العرب بأن محمداً قرشي منها، وأمسينا آل بيت محمد ونحن مغصوبون مظلومون مقهورون مقتولون مشرَّدون مطرودون، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون على ما أمسينا يا منهال.

وذكر السيد ابو طالب هذا الحديث وزاد فيه : وأصبح خير الامة يُشتم على المنابر، وأصبح شرّ ألامة يمدح على المنابر، وأصبح مُبغضنا يُعطى الاموال، ومَن يُحبّنا منقوصاً حقه(252).

 

البلورةُ السياسية للقربى:

هذه كلمات دقيقة المحتوى، ذات بعد سياسي لا ينبغي أن يخفى، فإن أجلّ مفاخر الشعب العربي على غيره من الشعوب كون الرسول محمد(صلى الله عليه وآله وسلم)عربي الانتساب. واذا كان هذا مفتخراً سامياً للعرب عامة، فهو مفتخر لقريش خاصة فإنهم قومه وذووه. ولكن أليس من المنطق السليم اذا كان افتخار قريش على العرب لانتماء الرسول إليهم أن يكون آل محمد وعترته الادنون أولى بالافتخار، وأقرب لشرف الانتساب; فاذا كانت لقريش خصوصية في هذا الامر فان قرابته الادنين أشد أختصاصاً.

ولقد بلورت قريش المفتخر المذكور بلورة سياسية; فهو الحجة الدامغة، والمبرّر الكافي عندها وفي مخططها المدروس للاستيلاء على الخلافة الاسلامية.

ومن العجب أنَّ الاستغلال البشع لقرابة رسول الله لم يقتصر عليه بل تعدّاه الى استغلال القرابة من الصديقة فاطمة بنت محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) حتى فيما يضيرها ويسحق كرامتها. فانه لمّا استشهد الامام الحسين(عليه السلام) صعد عمرو بن سعيد أمير المدينة المنبر وخطب وقال في خطبته: انها لدمة بلدمة، وصدمة بصدمة، وموعظة بعد موعظة «حكمة بالغة فما تغني النذر».

فقام اليه عبد الله بن السائب فقال : أما لو كانت فاطمة حيّة فرأت رأس الحسين لبكت عليه. فجبهه عمرو بن سعيد وقال: نحن أحق بفاطمة منك، أبوها عمّنا، وزوجها أخونا، وابنها ابننا، أما لو كانت فاطمة حية لبكت عينها، وحزن كبدها، ولكن ما لامت من قتله ودفع عن نفسه.

 

حزن والتياع:

وقبل أن نغادر الحديث عن الاوضاع المأساوية وانشطة الامام زين العابدين(عليه السلام)في الشام نودّ أن نؤكد إضافة الى ما مرَّ في سياق الحديث ونشير الى عمق النوائب التي واجهها الامام علي زين العابدين وأهل بيت الحسين(عليهم السلام)وهم في الطريق الى الشام، وفي الشام نفسه حتى ان الامام زين العابدين(عليه السلام)كان يتحدث عنها بكل حزن والتياع حتى ذكرت له مقاطع شعرية كان يقولها وهويتنقل في كهوف المظالم والمحن من كهف الى كهف، فمن ذلك المقطوعة التي أولها:

أقاد ذليلاً في دمشق كأنني     من الزنج عبد غاب عنه نصير

والقطعة التي أولها:

ساد العلوج فما ترضى بذا العرب     وصار يقدم رأس الاُمة الذنب

والقطعة التي أولها:

هذا الزمان فما تفنى عجائبه     عن الكرام ولا تفنى مصائبه

ولقد سأله ابنه الامام محمد الباقر صلوات الله عليه عن حمل يزيد له فقال: حملني على بعير يظلع بغير وطاء، ورأس أبي الحسين(عليه السلام) على علم، ونسوتنا خلفي على بغال غير مؤكفة، والفارضة «الجلاوزة» خلفنا وحولنا بالرماح، إن دمعت من أحدنا عين قُرع رأسه بالرمح، حتى اذا دخلنا دمشق صاح صائح : يا أهل الشام هؤلاء سبايا اهل البيت الملعون.

وأخيراً قال يزيد لعلي بن الحسين(عليه السلام): اذكر ما حاجاتك الثلاث التي وعدتك بقضائهن، فقال له: الاُولى أن تريني وجه سيدي ومولاي أبي الحسين(عليه السلام)فأتزود منه. والثانية أن تردّ علينا ما اُخذ منا، والثالثة ان كنت عزمت على قتلي أن توجه مع «هذه» «هؤلاء» النسوة من يردّهن الى حرم جدّهن(صلى الله عليه وآله وسلم).

فقال أمّا وجه ابيك فلا تراه أبداً، وأما ما اُخذ منكم فأنا اعوضكم عليه أضعاف قيمته، فقال : أما مالك فلا نريده، وهو موفَّر عليك; وانما طلبت ما اُخذ منا لان فيه مغزل فاطمة بنت محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) ومقنعتها وقلادتها وقميصها. فأمر بردِّ ذلك وزاد فيه من عنده مئتي دينار، فأخذها الامام زين العابدين(عليه السلام) وفرّقها في الفقراء.

 

( 3 )

ولمّا اعتقد يزيد بانتهاء مهمته في جلب أبناء النبوة الى دمشق سيَّر القافلة الى المدينة، وأمر برعايتهم في الطريق، فتحرك الموكب الربّاني. موكب العقيدة والفداء حتى إذا كانوا ببعض الطريق رغبوا الى المسؤول المعين على حراستهم من قبل يزيد أن ينطلق بهم الى كربلاء، فاستجاب لهم، وهناك حيث وصلوها ألفوا الصحابي الجليل جابر بن عبدالله الانصاري وجماعة من بني هاشم قد وردوا لزيارة الامام الحسين(عليه السلام)، فارتفعت الاصوات بالبكاء والعويل، وتجسدت لهم مرة اخرى وقائع كربلاء حيث مقتل الصفوة من رجال الله.

واتجه الموكب بعد ذلك الى مدينة الرسول تصطحبه الهيبة والجلال، والحزن العميق والدموع الساخنة، والقلوب المفعمة بالوجد والاسى، حتى اذا أوشك الموكب على الوصول، وشارف مدينة الرسول التفت الامام زين العابدين(عليه السلام) الى بشر ابن حذلم فقال له: يا بشر رحم الله أباك لقد كان شاعراً، فهل تقدر على شيء منه؟ فقال: بلى يابن  رسول الله اني شاعر، فقال(عليه السلام): ادخل المدينة وانع أبا عبد الله(عليه السلام). فعندئذ أمره الامام أن يدخل المدينة ويلقي بيان قتل الحسين(عليه السلام) بصياغة شعرية. فينظم بشر بيتين من الشعر، وما إن دخل في المدينة وبلغ مسجد النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)حيث العمق الاستراتيجي حتى صاح صيحة المستغيث، ونادى نداء الثائر، ليحرك الجماهير ويُلهب المشاعر :

يا أهل يثرب لا مقام لكم بها     قُتل الحسين فأدمعي مدرار

الجسم منه بكربلاء مضرج     والرأس منه على القناة يدار

فاجتمع الناس ـ وهم من كل حدب ينسلون ـ وأذهلهم النداء، وعم البكاء، واضطرب الناس حتى اهتزت ارجاء المدينة وهم يستزيدون بشراً من التعرّف على هذه المصيبة الهائلة وهو ينبئهم بمجمل الاحداث، ويدلّهم على وصول موكب السبايا حيث نزل الامام علي بن الحسين(عليه السلام) في أطراف المدينة وحطّ رحله هنالك، وضرب فسطاطه، وانزل نساءه. فسار الناس أفواجاً أفواجاً الى الموكب.

(234) الطبري، محمد بن جرير، دلائل الامامة / ص84.

(235) ابن الاثير، عز الدين الشيباني، الكامل في التاريخ 4 / 79.

(236) ابن اعثم، ابو محمد احمد بن اعثم الكوفي ت نحو (314 هـ)، كتاب الفتوح 5 / 221 ـ 222.

(237) ابن قولويه، الفقيه جعفر بن محمد (ت 367 هـ)، كامل الزيارات، الباب 32، الحديث 1.

(238) الراقصات: الابل لانها في مشيها كأنها ترقص، وهذا القسم موجود في الجاهليه وصدر الاسلام والعصر الاموي والعباسي كذلك. قال قيس بن سعد بن عبادة:   =

=    والراقصات بكل اشعث اغبر     خوص العيون تحثها الركبانُ

      ما ابن المخلَّدِ ناسياً اسيافنا     فيمن نحاربه ولا النعمانُ

(239) ابن نما: جعفر بن محمد الحلي ـ مثير الاحزان / ص 41، والمجلسي : بحار الانوار 45  / ص 113.

(240) الزمر / الاية 42.

(241)  بن اعثم : الفتوح 5 / 228 ـ 229.

(242) احمد بن اعثم، كتاب الفتوح / ص 235 ـ 236، والخوارزمي، مقتل الحسين ج 2 / ص55 ـ 56. وذكر ابن الاثير في تاريخه 4 / 83 ان ابن زياد قد جعل الغل في يدي علي بن الحسين ورقبته وذلك لما ارسل بهم الى يزيد في دمشق.

(243) الفقيه الكبير الشيخ المفيد، الارشاد / ص 245 ـ 246، منشورات مؤسسة الاعلمي للمطبوعات ـ الطبعة الثالثة ( 1399 هـ ـ 1979م ).

(244) ابن اعثم، الفتوح 5 / 242 ـ 243، والخوارزمي، مقتل الحسين 2 / 61 ـ 62.

(245) الخوارزمي : مقتل الحسين 2 / 69 ـ 71، وانظر الفتوح 5 / 247 ـ 249.

(246)  الفتوح 5 / 249.

(247) الخوارزمي، مقتل الحسين 2 / 74.

(248) الرحمن / الاية 41.

(249)  الخوارزمي : مقتل الحسين 2 / 74.

(250) ابن الاثير (ت 630هجرية)، الكامل في التأريخ 4 / 87.

(251) ذكر الطبري في تاريخه 7 / 314 عن عقبة بن سمعان قال: صحبت حسيناً، فخرجت معه من المدينة الى مكة، ومن مكة الى العراق، ولم أفارقه حتى قُتل، وليس من مخاطبته الناس كلمة بالمدينة ولا بمكة ولا في الطريق ولا بالعراق، ولا في عسكر، الى يوم مقتله، إلا وقد سمعتها. لا والله ما اَعطاهم ما يتذاكر الناس وما يزعمون من أن يضع يده في يد يزيد بن معاوية، ولا أن يُسيّروه الى ثغر من ثغور المسلمين ولكنه قال : دعوني فلاذهب في هذه الارض العريضة حتى ننظر ما يصير أمر الناس.

وهذا النص القاطع عن ابن سمعان ينفي ادعاء يزيد من طلب الحسين أن يسير الى ثغر من ثغور المسلمين. والنص أحد الارقام التي تؤكد عمليات التشويه للصورة الناصعة التي عليها الحسين وثورته ويؤكد ان الاغلفة الاعلامية المضللة كانت منذ عهد يزيد.

(252) السيد ابو طالب الموفق الخوارزمي المكي / مقتل الحسين ج2 ص71 ـ 72، واحمد بن اعثم / الفتوح ج5 ص250، وابن نما الحلي (567 ـ 645هـ)، مثير الاحزان ص58.