مكتبة الإمام زين العابدين

فهرس الكتاب

 

 

خطاب المدينة أو فتيلُ الثورة:

فأمر الامام زين العابدين(عليه السلام) بكرسي فنصب له، وان عويل الجماهير وصراخها يشق عنان السماء. فأومأ الامام إليهم أن انصتوا فأنصتوا وراح يدلي بخطاب تأريخي هام، حيث يقول :

الحمد لله رب العالمين مالك يوم الدين، بارئ الخلائق أجمعين، الذي بعد فارتفع في السموات العلى، وقرب فشهد النجوى، نحمده على عظائم الامور، وفجائع الدهور، ومضاضة اللواذع، وجليل الرزء، وعظيم المصائب الفاظعة الكاظة الفادحة الجائحة. أيها القوم: ان الله وله الحمد ابتلانا بمصائب جليلة في الاسلام عظيمة قتل أبو عبد الله الحسين(عليه السلام) وسبي نساؤُهُ وصبيته وداروا برأسه في البلدان من فوق عالي السنان وهذه الرزية التي لامثلها رزية. ايها الناس، فأي رجالات منكم يسرون بعد قتله، أم أي فؤاد لا يحزن من أجله، أم أية عين منكم تحبس دمعها وتضن عن انهمالها، فلقد بكت السبع الشداد لقتله، وبكت البحار بأمواجها والسموات بأركانها والارض بأرجائها والاشجار بأغصانها والحيتان ولجج البحار والملائكة المقربون وأهل السموات أجمعون يا ايها الناس، أي قلب لا ينصدع لقتله، أم أي فؤاد لا يحن اليه، أم أي سمع يسمع هذه الثلمة التي ثلمت في الاسلام ولا يصم؟ ايها الناس، أصبحنا مطرودين مشردين مذودين وشاسعين عن الامصار كأنا أولاد ترك وكابل من غير جرم اجترمناه ولا مكروه ارتكبنا ولا ثلمة في الاسلام ثلمناها، ما سمعنا بهذا في أبائنا الاولين إن هذا إلاّ اختلاق. والله لو أن النبي تقدم إليهم في الوصاية بنا لما زادوا على ما فعلوا فأنّا لله وانا اليه راجعون من مصيبة ما أعظمها وأوجعها وأفجعها واكظَّها وافظعها وأمرَّها وأفدحها، فعند الله نحتسب فيما أصابنا وأبلغ بنا فانه عزيز ذو انتقام(253).

 

تكريس المظلومية:

لقد جسَّد الخطاب ـ على قصره ـ واقعة كربلاء مركزاً على المظلومية التي لحقت بأهل البيت من قتل الحسين(عليه السلام) من جانب، واسر اهل بيته من جانب آخر. ولم يكتف الجناة بذلك بل نصبوا رأس الحسين فوق السنان، ينقل من بلد الى بلد من جانب ثالث.

وعقب الامام زين العابدين(عليه السلام) على ذلك بتلميحة سريعة، ولكنها معبرة ومؤثرة، الى ما لقيَ شخصياً ومن معه من آل بيت الرسول من السبي والتشريد، فاذا كان الترك والكابليون يؤسرون في الحروب بسبب شركهم آنذاك فلماذا يعامل اهل بيت الرسول معاملة الاسرى وهم اهل الايمان والاستقامة، وقادة الخير والرحمة والفضيلة؟!

ثم ينتهي الامام زين العابدين(عليه السلام) إلى القول: والله لو أَنّ النبي تقدم اليهمفي قتالنا، كما تقدم اليهم في الوصاية بنا لما زادوا على ما فعلوه.

وهذه كناية بديعة نادرة عن منتهى مخالفة القيادة السياسية، والسلطة التنفيذية لاوامر الرسول وتوجيهاته وتعاليمه حول اعطاء اهل بيته حقوقهم موفورة، واكبارهم ومحبتهم. اي أنّ ازلام النظام الذين يحكمون باسم الرسول الاعظم قد جنوا على اهل بيته بأقصى ما يقدرون عليه من الجناية والهتك والاجرام.

ومن هنا نعلم أن عليا زين العابدين(عليه السلام) قد ابتغى من الخطاب تكريس مظلومية اهل البيت لصالح الروح الثورية والنهضة الواعية ضد الطغيان والجبروت.

 

ابعاد التوقف على المشارف:

ينبغي لفت النظر الى أمر في غاية الاهمية من الوجهة السياسية وهو السبب الذي من اجله لم يدخل موكب الامام زين العابدين(عليه السلام) الى المدينة مباشرة بل أمر بالتوقف على مشارفها وهبط هناك وارسل مندوباً عنه الى اهل المدينة ينعى الحسين(عليه السلام) ويعلمهم بوجود موكب السبايا باطراف المدينة.

قد تكون العلة في ذلك احد الاحتمالات التالية، او أنَّ هذه الامور مجتمعة تكوّن العلة التامة لسياسة الامام زين العابدين(عليه السلام) في هذا الشأن:

أ ـ لقد اراد زين العابدين(عليه السلام) اين يعطي زخماً سياسياً عالياً ـ  حسب المستطاع  ـ يتناسب وحجم ملحمة كربلاء. وقد كان يتوقع أن يخرج اهل المدينة بأسرهم استجابة للحدث العظيم، واستماعاً للبيان التأريخي الذي سيدلي به فيما يخص الحادث.

ان تحقيق مثل هذا المطلب ليحتاج الى مكان رحيب جداً، يستوعب عشرات الالوف من المدنيين رجالاً ونساء وصبياناً. في الوقت الذي قد ارتفعت الكثافة السكانية للمدنيين فلقد كانت المدينة الى عهد قريب عاصمة الامة الاسلامية.

ومن نافلة القول أنه ليس بالامكان ان يضم بيت من البيوت مهما اتسع، ولا المسجد النبوي تلك الاعداد الغفيرة. فاختار الامام زين العابدين(عليه السلام) افضل الاماكن من حيث المساحة أرضاً فضاء رحيبة خارج المدينة، تتسع لاكبر كمّ جماهيري يناله الاحتمال.

ب ـ اراد الامام زين العابدين(عليه السلام) ان يعرف حجم الاستجابة الواعية لملحمة كربلاء، ومقدار التفاعل معها ـ لا عن طريق النظرة القبلية ـ بل عن طريق التظاهرة الشعبية العارمة التي تنطلق ـ عن ادراك وارادة ـ نحو المكان الذي يحدده لها خارج المدينة وذلك لايتأتى في ازقة معينة او غير معينة، او المسجد النبوي، او ديار، او غيرها من الاماكن داخل المدينة، قد مرنوا على ارتيادها يومياً وبصورة عابرة; فاختار لهم المكان خارج المدينة. ولقد كان هذا المكان المختار ـ  بحق  ـ بمثابة المقر العام للقيادة.

جـ ـ في حالة افتراض دخول الامام زين العابدين(عليه السلام) ومن معه الى المدينة مباشرة اي دون الخطّة التي وضعها(عليه السلام) فانه سوف يكون دخولا عادياً غير محرك او فاعل في الساحة الشعبية او السياسية. انهم يدخلون ـ حسب هذا الافتراض ـ كما يدخل الغائب بعد الاياب الى الوطن، او الاسير اذا اطلق سراحه. بينما كان الامام زين العابدين(عليه السلام)يتوخى تحريك الساحة، وتوجيه الانظار الى خط الثورة، والى ما لقيه آل الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) من الاسى والاضطهاد والتعذيب.

د ـ لقد جهد النظام الغاشم في اذلال اهل البيت النبوي اذ قد نقلهم على أسوأ حال من بلد الى بلد. على جمال بغير وطاء، موثوقين من العراق الى الشام بالحبال. او كما قال الامام زين العابدين(عليه السلام) في الخطاب الموجّه لاهل المدينة : أيها الناس اصبحنا مطرودين مشردين مذودين وشاسعين عن الامصار، كأنا اولاد ترك وكابل.

فعمد الامام زين العابدين(عليه السلام) في خطته من ايفاد الناس الى خارج المدينة أن يرجع العزة القعساء والكرامة المهدورة. فاذا بالجماهير المدنية تستقبلهم بكل حفاوة واكبار، قاصدين لهم حيث كانوا.

ولقد كان آل الحسين(عليه السلام) حينما سيقوا الى مدينة دمشق قد اظهر سكانها ـ في بداية الامر ـ السرور والشماتة; اذ انَّ الاجهزة الاعلامية التضليلية للنظام قد بثت بينهم ان هؤلاء الاسرى من الخوارج المارقين عن الدين.. فقابلهم الناس بجفاء وتقطيب. فاستهدف الامام زين العابدين(عليه السلام) من خطته المذكورة ان يزيد اهل المدينة بصيرة الى بصيرتهم; وان يستقبلوا آل الحسين(عليه السلام) باجلال وتعاطف بالغين. على العكس تماماً مما وقع في دمشق إبّان دخول الموكب.

هـ ـ تقدم ما لقي الاسرى من آل الحسين(عليه السلام) من القهر والحرمان والعذاب، اضافة الى أثر حرارة الشمس عليهم الذي بان على اجسادهم، وهم يقطعون المسافات المترامية. واذا افترضنا أنهم دخلوا المدينة مباشرة من دون توقف على المشارف. فان حالات من الراحة سوف تغمرهم، وترجع اليهم الحياة الطبيعية وتزول عنهم آثار الارهاق والالام شيئاً فشيئاً. ولمّا كانت الاماكن المتوقعة لنزلهم في المدينة لا تتسع لان يزورهم المجتمع المدني جملة واحدة، فلا بد ان تتدرج الزيارة، فيكون اكثر المدنيين بعد انقشاع حالات البؤس والنصب او تخفيفها، ولا يراهم في وضعهم الاول وكما هم عليه الا بعض المدنيين.

كما ان رؤيتهم وهم على صعيد واحد وفي ساعة واحدة يوحي برد الفعل ضد النظام والتعاطف مع اسرى آل محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) اكثر مما توحي به رؤيتهم متفرقين قد رجعوا الى بيوتهم.

فاستهدف الامام زين العابدين(عليه السلام) من رؤيتهم بذلك الوضع المؤلم، والمشهد الحزين، كشف جرائم السلطة بحق اهل البيت، وتعرية النظام.

نكتفي بهذا المقدار في ذكر الاسباب التحليلية المحتملة لعدم دخول موكب الامام زين العابدين(عليه السلام) الى المدينة مباشرة، وانما توقّف على مشارفها بأمر منه(عليه السلام).

لماذا الشعر دون النثر؟

لقد امر الامام زين العابدين(عليه السلام) بشر بن حذلم ان يدخل المدينة وينعى ابا عبد الله الحسين(عليه السلام) ببيتين من الشعر، فلماذا الشعر دون النثر «حسب هذا الموقف» او دون ان يقول له: انع ابا عبدالله، اي بقول مطلق من دون تحديد للنعي نثراً او شعراً.

وهذا سؤال مهم لا يجدر ان نمرّ عليه مر الكرام وذلك باعتباره يلقي الضوء على احد المواقف السياسية لتحرك الامام زين العابدين(عليه السلام).

أقول: انما كان هذا الامر ـ فيما اعتقد ـ بسبب علم الامام بالدور الفعّال الذي ينهض به الشعر في الاثارة والتأجيج وفي تجسيد الواقعة وبلورة الحادث.

كما ان الامام(عليه السلام) كان بمسيس الحاجة الى التعجيل في تحشيد الجماهير وانتهاز الفرصة قبل اتخاذ النظام لما يسمى بالتدابير الامنية في تفريق المتظاهرين او ايقاف عجلة المعارضة، اي قبل أن تتحرك اجهزة النظام لقطع سير مخطط الامام زين العابدين(عليه السلام) في تحريك الناس وانطلاقهم الى موكب آل الرسول بسرعة واندفاع.

وفي هذا السياق من التسريع بحركة التحشيد وشد الجماهير نلاحظ حكمة الامام في أمره ببيتين من الشعر كما حدده لبشر بن حذلم ولم يقل بقصيدة او عدة ابيات اذ من الواضح ان القاءها يحتاج من الوقت الى اضعاف ما يحتاجه البيتان. 

 

لقطـاتمن ثورة اهل المدينة

 ظل الامام زين العابدين(عليه السلام) في المدينة يندب أباه، واهل بيته، واصحابه المجزرين كالاضاحي، ويبكيهم اشد البكاء وأحرقه، ويثير السخط الشعبي، على الظلمة المستبدين، اعداء اهل البيت النبوي الكريم.

ولقد كان هذا الاسلوب وغيره من الاساليب التي اختطّها دوراً فاعلاً في ثورة اهل المدينة، فانها كانت من بعض الجهات رشحاً من فيض دموعه، وناراً من نار تأليبه وحثّه وسخطه على الطواغيت.

وفي المدينة غالبية الانصار والكثير من اهل التقوى والصلاح الذين يثير حفيظتهم قتل انسان بريء لمجرد براءته فكيف بالحال وقد قُتل الصفوة من آل الله.

ومما زاد المشكلة السياسية والروحية تفاقماً، والغضب اتقاداً، ان والي المدينة قد ارسل وفداً من اهلها الى يزيد بن معاوية، وهو وإن كان قد اكرمهم، إلاّ انهم قد رأوا من سلوكه كل ما يشين ويقبح. ولما رجعوا الى المدينة اظهروا شتم يزيد وعيبه وقالوا: قدمنا من عند رجل ليس له دين، يشرب الخمر، ويضرب بالطنابير، وتعزف عنده القيان، ويلعب بالكلاب، ويسمر عنده الحرّاب ـ وهم اللصوص ـ . وانّا نشهدكم انّا قد خلعناه(254).

لقد كان ارسال الوفد تكتيكاً من اجل استمالتهم واغرائهم، وتقريب نظراتهم السياسية من نظرات الحكم القائم.

إذ فرض عليهم واقع يزيد، وسلوكه الملوث بعداً عن السلطة القائمة، وغضباً على الخليفةِ الجديد.

وعندما خلعوه قام عبدالله بن حنظلة فقال: جئتكم من عند رجل لو لم اجد الاّ بنيّ هؤلاء لجاهدته بهم، وقد اعطاني واكرمني وما قبلت عطاءه إلا لاتقوى به فخلعه الناس، وبايعوا عبد الله بن حنظلة الغسيل على خلع يزيد وولّوه عليهم(255).

ولقد كانت تقع امثال تلك المنكرات في خلافة معاوية فلا نكاد نرى مَن يقول ما قاله ابن الغسيل: لو لم اجد الا بنيّ هؤلاء لجاهدته بهم، والظاهر ان العلة في هذه الروح النضالية والاندفاع الجهادي، كانت صدىً لموقف الامام الحسين(عليه السلام)حيث جاهد القيادة الوضعية، واعلن الحرب المسلحة ضدها، مع قلة انصاره، وكثرة مناوئيه. فلم يدع بذلك حجة لسواه في عدم مجابهة الطغيان; بسبب قلة الانصار، او خشية الانفراد في المجابهة.

ولم تكن كلمات الوفد ونقده الدليل الوحيد عند اهل المدينة على انحراف يزيد وتنكّره للاسلام وجوره وطغيانه، بل قد رأوا بأم اعينهم كما قد رأى الاخرون جور يزيد وعماله على البلدان وما ظهر من فسقه وعمّهم من ظلمه، وما عُلم من قتله ابن بنت رسول الله، وانصاره، وما اظهر من شربه الخمور وسيره سيرة فرعون بل كان فرعون اعدل منه في رعيته، وانصف منه لخاصته وعامته(256).

فاخرج اهل المدينة عامل يزيد عليها وحصروا بني امية واتباعهم فكلم مروان بن الحكم وهو العدو اللدود لال الرسول عليّ بن الحسين(عليه السلام) ان يضم عياله اليه فاستجاب الامام لذلك لكرمه(عليه السلام) وطيب سجاياه وصدق اخلاقه الاسلامية.

وقد نفعه الموقف هذا فيما بعد اذ ابعد من التحليلات السياسية المطروحة آنذاك من قبل الامويين ان يكون قد مدّ أصابعه لتحريك اهل المدينة ثورياً، أو انه القى الوقود في طريق الثورة لتزداد تأججاً واشتعالاً.

 

وصف موجز للقتال:

ويرسل يزيد بن معاوية جيشاً كثيفاً الى مدينة الرسول بقيادة مسلم بن عقبة، فاقبل من ناحية الحرّة، واشتد القتال بين الفريقين، وحمل الفضل بن العباس ابن ربيعة قائد الفرسان على جيش يزيد فكشفه مرتين.

فاخذ مسلم رايته وحرّض الجيش، فقتل الفضل بن العباس وما بينه وبين اطناب مسلم بن عقبة الا نحو عشرة اذرع.

واقبلت خيل مسلم ورجّالته نحو ابن الغسيل.

فاقتتلوا اشد اقتتال رؤي لهم، واخذ ابن الغسيل يقدم بنيه واحداً واحداً حتى قُتلوا بين يديه، وهو يضرب بسيفه ثم قُتل وقُتل معه اخوه لامّه. فقال: ما احب ان الديلم قتلوني مكان هؤلاء القوم.

(وقيله يا رب ان هؤلاء قوم لا يؤمنون).

وانهزم الناس، واباح مسلم المدينة ثلاثاً يقتلون الناس، ويأخذون المتاع والاموال، ودخل رجل منهم على امرأة من الانصار ترضع ابنها، فسأل ان تعطيه مالاً فقالت : والله ما تركوا لنا شيئاً، فاصرّ إن لم تعطه مالاً ليقتلنّها وصبيّها. فقالت له : انه ولد ابن ابي كبشة صاحب رسول الله. فاخذ برجل الصبي ويده، وفمه في ثدي امه، وضرب به حائطاً فتناثر دماغه.

وبايع الناس على انهم عبيد ليزيد.

(قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم).

 

زين العابدين(عليه السلام) ومسلم بن عقبة:

وأُتي بزين العابدين(عليه السلام) الى مسلم بن عقبة او مُسرف كما يسميه اهل المدينة، وهو مغتاظ عليه فتبرأ منه ومن آبائه. فلما رآه وقد أشرف عليه ارتعد وقام له، واقعده الى جانبه، وقال له سلني حوائجك فلم يسأله في احد ممن قُدّم الى السيف إلاّ شفّعه فيه، ثم انصرف عنه.

فقيل لعلي(عليه السلام): رأيناك تحرّك شفتيك، فما الذي قلت؟

قال: قلت:

اللهم رب السموات السبع وما اظللن، والارضين السبع وما أقللن، رب العرش العظيم، ربّ محمد وآله الطاهرين. اعوذ بك من شرّه، وادرء بك في نحره. اسألك ان تؤتيني خيره، وتكفيني شرّه؟

وقيل: لمسلم رايناك تسبّ هذا الغلام وسلفه فلما اُتي به اليك رفعت منزلته.

فقال: ما كان ذلك لرأي مني لقد مُلئ قلبي منه رعباً(257).

 

لجوء وطمأنينة:

وبينما الاضطهاد على أَشدّه، والمطاردة في ابعد مداها.. وفم الحرية يشرق بآخر ما فيه من قطرات، التجأت أُسر كثيرة الى الامام زين العابدين(عليه السلام)مأوى المضطهدين، وحبيب المستضعفين. واما قلوبهم المثقلة بالحيرة، والخوف، والجراح، فقد اودعها بقوة تاثيره اناشيد الطمأنينة، واغاريد الامن والسلام.

 

الاستثناء من قرار الاستعباد:

يجدر التنبيه الى ان قرار الاستعباد المدني، اي قرار يزيد بن معاوية ببيعة اهل المدينة على انهم عبيد له، لم يستثن منه الا علي بن الحسين(عليهما السلام) وعلي بن عبدالله بن العباس. أما بالنسبة للاخير فانه امتنع بأخواله من كندة، وكان الحصين بن نمير السكوني الكندي نائب مسلم بن عقبة قد قال: لا يبايع ابن اختنا الا كبيعة علي بن الحسين.

ولكن لماذا استثني علي بن الحسين(عليهما السلام)؟

لقد أثار قتل الامام الحسين(عليه السلام) نقمة جماهيرية عارمة ضد السلطة، وحوّل مظاهر المسرّة والابتهاج الى حزن عميق، وتفكير وقلق متزايدين، وقد تقدّم ايراد ذلك. ومن الدلائل عليه أيضاً: ان عبدالملك بن مروان بُعيد هذه الفترة قد ادرك حجم التدهور والبوار فيما اذا اقدم على قتل علي بن الحسين، فحينما طلب منه الحجاج قتله، ليثبت ملكه أبى ذلك. لا رحمة به، او حباً له، وانما هو الخوف الذي يساوره على الملك ان يزول.

وإذا ما عُرضت البيعة بشرطها الاستعبادي على الامام علي بن الحسين(عليهما السلام)فانه من الممكن جداً ان يستمر على نهجه بمنطقه الرافض، وان معنى الرفض هنا ان يتضرج بدمائه الزكية.

وهل يعني هذا الاّ ان صورة من صور النقمة العارمة ضد الممارسات القمعية، ستدخل في العمق الاستراتيجي للمعارضة السياسية والثورية، وتزلزل اعمدة الكيان الحاكم.

 

من فلسفة التحرير:

لقد حّول الحكم الاموي الغادر اهل المدينة عبيداً ليزيد، بايعوا على ذلك قسراً، واذعنوا لامر يزيد وقائده المسرف الا قليلاً منهم. في الوقت الذي نشاهد فيه الامام زين العابدين(عليه السلام) يشتري العبيد ويطلقهم من الرق. فما العلة لحركته التي قام بها لتحرير العبيد بصورة يندر نظيرها؟

ولقد فصّلنا البحث في موضوع سياسة تحرير العبيد من هذا الكتاب.

والذي ليس لنا بدٌّ من ان نقوله هنا فيما يخص هذا البحث جواباً على السؤال المذكور أن الحقيقة هو وجود اكثر من علة لذلك، والذي نراه ان اكبر العلل هو ان الحكيم الرسالي العميق الاسلوب علياً زين العابدين(عليه السلام)، لما راى ان الناس يمتهنون من قبل القيادة السياسية واذنابها، وقد بايع اهل المدينة وهم احرار كما ولدتهم امهاتهم على انهم عبيد ليزيد، برهن(عليه السلام) عملياً على ان خط الاسلام مباين تماماً لخط القيادة السياسية، فبينما هي تستعبد الاحرار وتخنق الحرية كان الخط الاسلامي الاصيل على يد زين العابدين(عليه السلام)، يحرر العبيد، ويطلق الارقّاء، ويدعو الى الحرية والسلام.

 

محاولة للاستنتاج:

من المعروف ـ تاريخاً ـ ان الامام زين العابدين(عليه السلام)، لم يشترك في قتال اهل المدينة، ضد جيش يزيد بن معاوية، بل خرج من المدينة الى ينبع، وإن كان له ادوار ايجابية خارج حدود القتال، فما هو السبب في عدم اشتراكه في القتال؟

في الواقع، اننا لم يردنا نص تحليلي في ذلك سواء عن الامام زين العابدين(عليه السلام)، او عن غيره من ائمة اهل البيت(عليهم السلام).

اذاً ليس امامنا من تحليل او تعليل الا ذلك الذي سنحاول استنتاجه من الزاوية العقلية والرؤية السياسية والتاريخية فحسب.

قد يمتنع الانسان عن الاشتراك في القتال لسبب او اكثر من الاسباب التالية:

أ ـ عدم الايمان بعدالة القضية: لقد مرَّ في اصل البحث ان هل المدينة انما ثاروا على يزيد لما رأوا من ظلمه، وشربه الخمر، وقتله للامام الحسين بن علي(عليهما السلام)، اي ان ثورتهم تهدف الى قمع الضلالة والاستبداد، والى الامر بالمعروف، والنهي عن المنكر.

اذاً فليس من شك او ريب، في عدالة قضيتهم، ولكن عدالة القضية ليست الشرط الوحيد، فان النهوض بالثورة يستند الى مستلزمات كثيرة، وليس عدالة القضية الا واحدة منها، وليس هذا الامر طبقاً للنظرية السياسية والعسكرية للاسلام فحسب، بل طبق للنظريات الوضعية أيضاً. وهو ايضاً اعتبار عقلائي، متسالم عليه.

اننا نرى كثيراً من الطبقات الاجتماعية المضطهدة، والحركات السياسية لا تلهب مراجل الثورة، على الرغم من ايمانها الخاص بعدالة قضيتها; وما ذاك الا لفقدانها لبعض الشرائط الاساسية الاُخرى.

ولا ريب في ان الامام زين العابدين سلام الله عليه يشارك اهل المدينة الرؤية والتقييم للنظام الحاكم، ولشخص يزيد بن معاوية; لان ذلك من المسلّمات عند اقل الناس وعياً سياسياً، وادراكاً روحياً. وما اسلامية النظام الحاكم الاّ مسرحية هزلية، سيئة جداً في النص والاخراج والتمثيل. ولكننا قد علمنا. ان عدالة القضية ليست الشرط الوحيد للثورة.

ب ـ ضعف الشجاعة: ولا يمكن باي حال من الاحوال ان يطبق هذا الامر على مثل الامام زين العابدين(عليه السلام); فانه كان حاضر الاستعداد للحرب والمواجهة، ثابت القلب، مقداماً شجاعاً، ولقد حاول القتال في كربلاء على الرغم من شدة المرض، او انه قاتل بالفعل حتى ارتث كما في بعض الاخبار. وغير ذلك من المواقف التي تغني عن التفصيل(258).

ج ـ فقدان الاستطاعة البدنية : وهذه القضية لا تنطبق ايضاً على الامام زين العابدين(عليه السلام); فانه قد كان يتمتع بصحة بدنية فائقة. ولقد كان في موروثه البدني عن الامام الحسين والامام علي بن ابي طالب(عليهما السلام)، اضافة الى جشوبة عيشه، ما يجعله في مصاف الندرة من الاقوياء.

د ـ عدم الاعتقاد بجدوى الحرب : وهنا بيت القصيد; فان النظرة الى مجمل اوضاع ثورة اهل المدينة تنبؤاً لا تنبئ بمستقبل مفلح وزاهر من حيث القدرة على الانتصار.

يكفيك انهم اطلقوا سراح اسرائهم، من بني امية وغيرهم، وهم الف رجل قبل المواجهة، وقبل احراز النصر ابدا. مما حدا ببعض الاسراء ان يكشف الاسرار العسكرية للثائرين. لقد اكتفى اهل المدينة من هؤلاء الاسرى ان احلفوهم ان لا يكشفوا اسرارهم، مع العلم ان بعض الاسرى ممن لا يمكن ان يوثق به، ومن هو معروف بالخواء الروحي، والاحباط العقائدي.

ويكفيك انهم لم ينسّقوا مع الاطراف الاخرى المعنية بالثورة على النظام الحاكم، في العراق، وفي الحجاز.

ويكفيك ان ثورة اهل المدينة لم تستمر اكثر من يوم واحد، حتى قمعت.

قال عيسى بن طلحة: قلت لعبد الله بن مطيع : كيف نجوت يوم الحرة، وقد رأيت ما رأيت من غلبة اهل الشام؟

فقال عبدالله: كنا نقول : لو اقاموا شهراً ما قتلوا منا شيئاً، فلما صنع بنا ما صنع، وأدخلهم علينا، وولى الناس ذكرت قول الحارث بن هشام:

وعلمت اني ان اقاتل واحداً     أقتل ولا يضرر عدوّي مشهدي

فانكشفت فتواريت، ثم لحقت بابن الزبير بعد، فكنت اعجب كل العجب ان ابن الزبير لم يصلوا اليه ثلاثة اشهر، وقد اخذوا عليه بالمضايق، ونصبوا المنجنيق، وفعلوا به الافاعيل، ولم يكن مع ابن الزبير احد يقاتل له حفاظاً، إلا نفير يسير، وقوم آخرون من الخوارج.

وكان معنا يوم الحرة الفا رجل كلهم ذو حفاظ، فما استطعنا ان نحبسهم يوماً الى الليل(259).

وقد لا تكون بحاجة ماسة الى مزيد من التحليل والاستدلال على ان مستقبل الثورة كان  لا يبشر بخير، فان الاخفاق في الثورة، سريعاً يكفي عن المزيد من التحليل. 

 

لقطات من ثورة المختار 

المختار الثقفي:

من زعماء المسلمين في العراق وله في الجهاد والسياسة باع طويل وهو من اسرة مؤمنة مجاهدة تعتبر بحق الصفوة المختارة من بني ثقيف وقد استشهد ابوه وعمّه في فتح العراق.

ولمّا اوشكت ثورة الامام الحسين(عليه السلام) على الانطلاق اعدّ المختار فوجاً من المقاتلين للمشاركة في الثورة فالقت السلطة الاموية القبض عليه، وحينما اطلق سراحه التجأ الى عبدالله بن الزبير في الحجاز واشترك معه في قتال القوّات الاموية.

ولم يكن هواه مع ابن الزبير إلاّ انّه رأى الفرصة السانحة لاضعاف الامويين تتحقق من خلال الثائر في الحجاز.

الواقع ان المختار لمّا هاجر الى الحجاز وصل ببدنه فقط، امّا روحه وتطلّعاته فما برحت داخل حدود العراق. وفي الحجاز اخذ يراقب عن كثب التطورات السياسية والاجتماعية في العراق ويتحرّاها بتلهّف. وفي ذات يوم حدثّه هانئ الوادعي عن الكوفة قائلاً: انّهم في صلاح واتّساق على طاعة ابن الزبير إلاّ ان طائفة من الناس اليهم عدد اهل مصر لو كان لهم رجل يجمعهم على رأيهم اكل بهم الارض الى يوم ما.

فرأى المختار ان آفاق طموحاته وتطلّعاته الهادفة في تحقيق حكومة اسلامية عادلة تقصم ظهور قتلة الحسين قد اقتربت من التنفيذ. فقال لهانئ: انا ابو اسحاق انا والله لهم انا اجمعهم على الحق وانفي بهم ركبان الباطل واقتل بهم كل جبار عنيد. واتّجه تلقاء الكوفة يدعو الناس الى نفسه.

ويمكن ارجاع هذه النفس المقتدرة والروح العالية والعزم الشديد في المختار الى علّتين:

الاولى: ما يحسّه في شخصيته من كفاءة عالية وقدرة فائقة.

الثانية: التلويح احياناً والتصريح احياناً اخرى في الاخبار بانّه طالب الثأر وقاتل الجبارين، كقول الامام الشهيد وهو يدعو على الحشود المقاتلة له: وابعث عليهم غلام ثقيف.

ولما دعا الناس الى نفسه وزعم ممثليته لمحمد بن الحنفية ذهب وفد الى محمد بن الحنفية(عليه السلام) للتأكد من صحة ادّعاء المختار، فلمّا قدموا عليه قال لهم فيما قال: وامّا ما ذكرتم ممّن دعاكم الى الطلب بدمائنا فوالله لوددت ان الله انتصر لنا من عدونا بمن شاء من خلقه. ولو كره لقال لا تفعلوا.

وممّا يؤكد على العلاقة الايجابية بين الامام زين العابدين(عليه السلام) وبين المختار دعاء الامام للمختار وترحّمه عليه بعد استشهاده وقبول هداياه التي منها الاموال ومنها جارية كريمة ولدت للامام ولده العظيم زيداً الشهيد(عليه السلام) وعمر وعلياً وخديجة.

روى زياد بن المنذر (ابو الجارود) قال: اشترى المختار بن ابي عبيدة جارية بثلاثين الفاً فقال لها: ادبري فادبرت، ثم قال لها: اقبلي فاقبلت، ثم قال: ما ادري احداً احق بها من علي بن الحسين فبعث بها اليه. وهي ام زيد بن علي(عليه السلام)(260).

قلت: ان في الرواية مؤشراً الى ان المختار كان يفضّل علياً زين العابدين(عليه السلام)على محمد بن الحنفية ولولا ذلك لم يقل: ما ادري احداً احق بها من علي بن الحسين، ولقال: ما ادري احداً احق بها من محمد بن الحنفية.

ويعلم من خط اهل البيت في بعض الاحايين مساندة تحركات اسلاميّة ثورية من دون التدخل المباشر في ذلك كمساندة الامام الصادق لزيد الشهيد ومساندة الامام الكاظم لشهيد فخ «الحسين بن علي الحسني» من دون اثارة الضجيج ومن دون اتباع الوسائل المباشرة التي تعلمها السلطة فتقبض على الامام وتقطع دوره في الحياة الرسالية. وما هي الاّ موازنة دقيقة بين التدخل المباشر والتدخل غير المباشر، فكما تتعيّن افضلية الثاني تارة تتعين افضلية الاول تارة اخرى.

ولمّا رجع الوفد من محمد بن الحنفية(عليه السلام) الى المختار قوي امره واتسعت دائرة نفوذه، وسانده اعيان المنتمين لخط اهل البيت، ومن بينهم ابراهيم بن الاشتر ونعيم بن هبيرة الشيباني، وابو الطفيل وابو عبدالله الجدلي.

 

وفجّر المختار عبوات الثورة:

وشعار رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يتصاعد الى السماء ونداؤه الهادر: يا لثارات الحسين يشق الاثير. وابراهيم بن الاشتر يبتهل الى الله: اللهم انّك تعلم انّا غضبنا لاهل بيت نبيّك وثرنا لهم فانصرنا على هؤلاء. وانتصرت ثورة المختار وتسلّم مقاليد الدولة، فقسم على المقاتلين معه الاعطيات، وبعث الامراء في انحاء العراق وفي ارمينيا وآذربيجان وغيرهما.

وتتبّع قتلة الحسين.

فحصدهم كحصاد السنبل

وسحقهم كسحق البيدر

وتعقّبهم كتعقّب الاسد لفريسته

(فأذاقهم الله الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الاخرة اكبر لو كانوا يعلمون)(261).

فارسل المختار رأس ابن زياد ورأس عمر بن سعد وحصين بن نمير الى الامام زين العابدين(عليه السلام)، فهوى الامام ساجداً لله، شاكراً لسوابغ آلائه وقال(عليه السلام)وهو يتلفّع بالسرور ودفيق البشرى يتلالا على اسارير وجهه: الحمد لله الذي ادركني ثأري من اعدائي، وجزى الله المختار خيراً.

وبعد حكم المختار عاماً ونصف العام اقبل اليه مصعب بن الزبير سنة سبع وستين فقاتله المختار حتى قتل رضوان الله عليه.

 

تحقيق حول المختار:

من يتحقق في سيرة المختار وحربه للامويين ودكّه لجيش قائدهم عبيد الله بن زياد، وفي عدائه للزبيريين ابتداءً من انتزاع الحكم منهم في اوّل ثورته حتى قتاله لمصعب الذي سيطر على الحكم بعد المختار، من يتحقق في هذا يستطع تحليل اتّهام المختار بالكذب والانحراف واستغلال الاسلام وقتل الامام الحسين(عليه السلام) من اجل مصالحه الشخصيّة، وان تنسب له اقاويل مضادّة للاسلام. وكيف لايتّهم بالامور السالفة واضرابها وقد اطبقت على عدائه دولتان، دولة ابن الزبير ودولة الامويين؟

ولتقريب الصورة الى الاذهان نذكر ان من يعادي في الوضع الراهن حاكماً جائراً يحاول الحاكم او حكومته تحريك اصابع الاتّهام اليه، وان كان المعادي له صافياً طهوراً كقطر السماء نقيّاً، بريئاً من التهمة كبراءة الذئب من دم ابن يعقوب.

والذي يجري في الساحة السياسية هذا اليوم كان يجري بالامس (لتركبن طبقاً عن طبق). ان اكثر صفحات التاريخ دبجتها الايدي الجانية عليه، وان اغلب القراطيس التاريخية سطر فيها مؤرخون مِداد يَراعِهم من اموال سلاطين الجور والطغيان.

(قل لا تسألون عما اجرمنا ولا نسأل عما تعملون * قل يجمع بيننا ربُّنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم)(262).

 

من اعلام البحث:

1 ـ محمد بن الحنفية(عليه السلام): محمد بن علي بن ابي طالب من عظماء المسلمين علماً وتقوى ورجاحَةَ عقل وإرادة، وزهداً، واجتهاداً في امر الله. وكان علي(عليه السلام)يحبه حباً جما ويقول: من اراد ان يبرّني في الدنيا والاخرة فليبّر محمداً. وبعد استشهاد الامام الحسين(عليه السلام) اعتقد الكثيرون انّه الامام من بعده. ولكنّه اذعن في نهاية المطاف لابن اخيه الامام علي زين العابدين(عليه السلام) وقال بامامته.

2 ـ زيد الشهيد عليه سلام الله: كان زيد نسخة طبق الاصل لشخصية عم ابيه محمد بن الحنفية وقد قال له ابوه الامام زين العابدين(عليه السلام): اعيذك بالله ان تكون زيداً المصلوب في الكناسة. واستشهد زيد في خلافة هشام بن عبدالملك سنة (121 أو 122 هـ).

3 ـ نعيم بن هبيرة الشيباني: من اعيان اصحاب الامام علي(عليه السلام) وبقي على اخلاصه له خلافاً لاخيه مصقلة بن هبيرة. واستشهد نعيم في بداية ثورة المختار سنة ست وستين في ربيع الاول وهو على رأس فوج من المقاتلين.

4 ـ ابوالطفيل عامر بن وائلة: آخر الصحابة موتاً توفي سنة (110 هـ) كان ابو الطفيل من خواص الامام علي عليه الصلاة والسلام وشهد معه حروبه. ولمّا انكسر المختار في حرب مصعب والتجأ الى القصر كان ابو الطفيل معه واخيراً رمى بنفسه من فوق القصر ونجا، واشترك بعد ذلك في ثورة ابن الاشعث، وكان ابو الطفيل كثير الحروب.

5 ـ ابو عبدالله الجدلي: صاحب الامام علي، وكان المختار ارسله على رأس قوّة لانقاذ محمد بن الحنفية وجماعة من بني هاشم، وقد كان ابن الزبير قد جمعهم في شعب واراد احراقهم فانقذهم الجدلي.

6 ـ حصين بن نُمير: اهّلته نفسيته الاثيمة للتنقل في المناصب القيادية ذات الانحراف والجريمة المتميزة، فمن قتل الحسين الى استباحة المدينة الى رمي بيت الله بالمجانيق الى قتال التوابين الى ان سقط قتيلاً في وقعة الزاب وهو يقاتل تحت راية ابن زياد فأرسل المختار رأسه الى زين العابدين كما تقدّم. 

 

الادب السياسي 

اهمية الادب السياسي

ان الادب مرآة جمالية تعكس الفكر الحضاري وفلسفة الحياة في مختلف الامم والعصور.

كما ان الادب قوة وجاذبية وتأثير وجمال.. ومن هذا المنطلق يجهد السياسيون ممن لهم القدرة الادبية ـ سواء كانوا من الصلحاء او الزائغين ـ ان يستثمروا الادب وسيلة من وسائل التعبير عن الرؤى والمشاعر والتوصل الى الاهداف.. اذ ان المنطق الطبيعي للحياة يقتضي الاستغاثة بمختلف مراكز التأثير، والقوة، والجمال.. الصالحة للانتفاع. وهذا يعنى بالضرورة ان ليس بالمستطاع الاستغناء عن الادب.

وعلى هذا الاساس نرى الصلة الوثقى ما بين السياسة والادب ضاربة في اعماق التاريخ.

ويمكننا ايضا رؤية المساحة الكبرى للادب السياسي اذا لم ننشغل بالتقييم الرسمي والصارم للادب السياسي والذي يدع جوانب مهمة من الادب على الرغم من وجهتها السياسية ولو من بعض مناحيها.

من الممكن جدا التنبّه الى مؤشرات، وملاحظات، وافكار سياسية حتى في كبريات الملاحم التي لم تكتب اساسا في الجانب السياسي.. اننا نرى عليها طابعا سياسيا مهما.. يتخلل جنباتها، و يشيع بين ثناياها كملاحم الشخصيات التالية:

الاوديسة

ماهاباراتا

رامايانا

پوراناس

وهكذا عبد المسيح الانطاكي المصري وبولس سلامة والعلامة الفرطوسي في ملاحمهم..

ولهذا الاعتبار اولى النبي وائمة اهل البيت(عليهم السلام) الادب السياسي عناية فائقة. لقد واجه النبي وأئمة اهل البيت(عليهم السلام).. التحديات التي تمتلك ادبا سياسياً فلا بد اذن من استخدام السلاح نفسه اي مقارعة الادب السياسي بمثيله.

ان من الوظائف العظمى للنبي واهل بيته التوجيه والارشاد والتربية ولا شك ان الادب السياسي يلعب دوراً بالغ الاهمية في هذا المجال.

ان مراجعة فاحصة للقرآن الكريم ولسيرة الرسول الاكرم(صلى الله عليه وآله وسلم)والاحاديث الكثيرة، تطلعنا أن النظام السياسي حقيقة ثابتة في الاسلام، وجزء لا يتجزأ من الدين الحنيف.

فكما على الرساليين توضيح معالم النظام، واسسه العامة، وحيثياته، بالاساليب العلمية والسياسية وغيرها، كذلك عليهم توضيح ذلك عن طريق الادب السياسي.

وكذلك الامر فيما يتصل بدعم النظام والدفاع عنه، اذ ان الادب السياسي سلاح فاعل من اسلحة الدفاع والهجوم.

 

التيارات الادبية المعاصرة للامام زين العابدين

ثمة تيارات ادبية كثيرة ومتنوعة في عهد الامام زين العابدين(عليه السلام)يستلزم المنهج العلمي اعطاء فكرة عنها في سبيل تحديد ادبه سلام الله عليه  ما بين هذه التيارات، ولتبيان الفوارق الجوهرية ما بينه و ما بينها جميعا... علما بان اغلبها يتّسم بالطابع السياسي. وسوف نفصِّل ذلك ان شاء الله في كتاب لنا خاص حول الادب السياسي عند الامام زين العابدين(عليه السلام).

 

تيار الامويين

غايته الكبرى ارساء دفة الحكم الوضعي وتسخير المجتمع لصالح النظام.. فاتجهت الى مديح الامويين، وتصويب سلوكهم ملوكا وامراء،.. ورشق السهام صوب اعدائهم..

ولقد شدد ادباء هذا ا لتيار على الانذار والوعيد وصبغوا ادبهم بدفيق من الدماء، وشواظ من الجحيم.

ومن امثلة هذا التيار: الحجاج الثقفي.. مسكين الدارمي.. الاخطل.. جرير.. علي بن الغدير.. الضحاك بن قيس الفهري.. عتاب بن ورقاء.. روح بن زنباع.. يزيد بن معاوية.. مسلمة بن عبدالملك.. عمرو بن سعيد بن العاص.. عبد الاعلى وعبدالعزيز ابنا عبدالله بن عامر، والخمسة الاخيرون من هذه القائمة، من البيت الاموي نفسه.

 

تيار الخوارج

يمتاز بمتانة الاسلوب، وقوة السبك، والاختصار في تناول الموضوع، والحماس الحزبي الملتهب. ولقد كان ادبهم موجها في الدرجة الاولى الى تركيز الخط العقائدي، وعداء السلطة الاموية.

ومن امثلة هذا التيار في العصر الاموي ابّان عهد زين العابدين، قطري بن الفجاءة.. عبيدة بن هلال اليشكري .. سميرة بن الجعد .. عمران بن حطان .. رهين المرادي .. المقعطل.. عيسى بن فاتك.

 

تيار المتمردين

هؤلاء لم يجمعهم جامع،ولم يؤلف بينهم وازع، الاّ السخط العنيد والانتفاضة ضد الحكام الجائرين.

ومن امثلة هذا التيار عبيدالله بن الحر الجعفي.. الغضبان بن القبعثرى .. ضابئ بن عمير.. جامع المحاربي.. ابو المسيب الكلابي .. النعمان بن زرعة بن ضمرة..

 

تيار الذاتيين

يتمثل في شعراء الغزل.. والادباء الذين ليس لهم دور التصدي في معترك الحضارة، وعالم العقيدة والسياسة.

ومن امثلة هذا التيار: مالك بن اسماء بن خارجة.. جميل بن معمر.. ذو الرمّة.. عمر بن ابي ربيعة.. عبيدالله بن زياد بن ظبيان.. العديل بن فرخ العجلي.. الحارث بن خالد المخزومي.

 

تيار الزبيريين

هو اضعـف التيارات الادبيـة فـي ذلك الوقت تاثيرا واقلها انتاجاً.. وذلك لنـدرة ادبائه، ولارتباطهم المحكم بدولة الزبيريين التي حكمت تسع سنوات فقـط « 64 ـ 73 هـ » ... فانتـاج ادبائهـا انبثـق خـلال هذه الفترة فحسب وبعدها قليلا، كالاولى .. ثم خبت ناره، ونكّس لواؤه وبقي منكوسا الى هذا اليوم.

ومن امثلة هذا التيار : عبيد الله بن قيس الرقيّات.. عدي بن الرقاع العاملي.. عبدالله بن الزبير (الذي ينسب التيار اليه).

 

التيار المهلّبي

كان شبيها بالتيار الادبي الزبيري من حيث المعاصرة، وقصر المدة، والولاء الشخصي والشبيه بالشخصي، وندرة الادباء نوعاً ما، ولقد اطلقنا عليه التيار المهلّبي نسبة للمهلب بن ابي صفرة العتكي الذي كان مرتبطاً وبنوه تبعاً له بسياسة النظام الاموي الحاكم، وما بعد ذلك انشق بنوه عن النظام في حركة انفصالية حادة ادت الى الحرب بينهما ثم الى ابادتهم بسيوف الامويين.

ومن امثلة هذا التيار : يزيد بن المهلب.. كعب الاشقري.. حمزة بن بيض الحنفي.. المغيرة الحنظلي.. زياد الاعجم.

 

تيار الزهّاد

يدعو الى الزهد في حطام الدنيا، ولذات الحياة، والى التعلق الروحي بالله.. وكان بمنأىً عن الاجواء السياسية بشتى الوانها، ولولا الحالة الاخيرة لكان الامام زين العابدين السيد المطلق لهذا التيار.

ومن امثلة هذا التيار: مؤرق العجلي .. الحسن البصري .. سابق البرري .. حبيب ابو محمد .. بكر بن عبدالله المزني ..

 

من خصائص ادبه السياسي

هذه بعض خصائص ادب الامام زين العابدين(عليه السلام) وميزاته التي يفترق بها عن التيارات الادبية المعاصرة له والتي مر ذكرها قبل قليل.

أ ـ ان الامام زين العابدين(عليه السلام) نفسه كان ينطوي على جوانب الادب كلها ويمتلك ناصيتها جميعاً من خطابة وشعر ومناظرة ورسائل وغير ذلك. بينما بقية التيارات تضم اشخاصاً فيهم الخطيب وليس بشاعر، او الشاعر وليس بخطيب، وان وجد فيهم شاعر وخطيب في نفس الوقت، فليس فيهم من يجمع هذين الجانبين الى الجوانب الاخرى. فعبد الله بن الزبير خطيب مؤثر ولكنه لا يعدّ من الشعراء ولا من المناظرين الجيدين. وجرير شاعر كبير الاّ انه ليست له قدرة على صياغة الكلمات القصار، او على فن الرسائل وهلمّ جرّا.

ب ـ الاصالة الاسلامية الصافية المنبع التي تطبع وجوه ادبه جميعاً. اذ انّ صاحب هذا الادب هو الامام زين العابدين(عليه السلام) الذي اصطفاه الله لاداء رسالته، وارتضاه دليلاً على دينه المجيد، وكتابه العزيز، فلا يستقي هذا الادب الاّ من السماء وعن السماء.

بينما التيارات الادبية الاخرى، بين تيار وثني، وآخر ينطوي على عقائد باطلة، وثالث يعيش الضياع، ورابع من سقط المتاع، وخامس متّبع للهوى وطالب للدنيا، الى تيار تنقصه الرؤية الشاملة، والانفتاح الايجابي على الحياة.

ج ـ اذا كانت التيارات الادبية في عصر الامام زين العابدين(عليه السلام)تيارات تقليدية في الاسلوب والاداء و المضمون.. فان ادب الامام زين العابدين(عليه السلام)انتهج منهجاً جديداً، ومبدعاً في المضامين والعرض وتناول المادة وما سقناه ونسوقه من عيّنات يكفي دليلاً ساطعاً على ذلك.

د ـ انعكاس القاعدة العلمية الرصينة للامام زين العابدين(عليه السلام) على اغراضه الادبية، اذ لا ريب في وجود رابطة وثقى بين العلم والادب، فنرى العلماء الكبار من الذين هم ادباء كبار في نفس الوقت امثال : الشافعي الفقيه، والشريفين المرتضى والرضي، ومحمد الحسين كاشف الغطاء، وجوهان جيتي (1749 ـ 1832 م ) وتوماس هاردي ( 1840 ـ 1894 م )، قد القت امكانياتهم العلمية الفائقة بظلالها الوارفة على آثارهم الادبية.

ومن هذا نعلم ان سعة علوم الامام زين العابدين(عليهم السلام)، وتنوع معارفه، واستيعابه الكامل للقرآن الكريم، وآثار آبائه(عليهم السلام)، قد زاد في عمق استنتاجاته الادبية، وأورثه الانتزاع الحر لفلسفة الحياة وفنها الرفيع.

بينما ترى الذين يمتلكون الخلفية العلمية من الادباء المعاصرين له نادري الوجود امثال عبد الله بن عباس (ت 68) الذي يمكن ان نعده بحق دائرة معارف Ensyclopidia، ابو الاسود الدؤلي(ت69) محمد بن الحنفية (ت 83)، الحسن البصري (ت 110) علما ان علوم هؤلاء لم تبلغ القمم الشمّاء التي تطل عليها علوم الامام زين العابدين(عليه السلام).

(253) العلامة السيد ابن طاووس / اللهوف / ص116، والعلامة المجلسي / بحار الانوار ج45 ص128 ـ 129، ومصادرها كثيرة.

(254) ابن الاثير، الكامل في التأريخ 4 / 103.

(255) ابن الاثير، الكامل في التاريخ 4 / 103.

(256) المسعودي، مروج الذهب 3 / 68 ـ 69.

(257) المسعودي، مروج الذهب 3 / 70 ـ 71، والمفيد، الارشاد / 291، والمجلسي، البحار 46  /  122.

(258) راجع موضوع المستلزمات القيادية من هذا الكتاب، النقطة الرابعة «الشجاعة».

(259) الطبقات الكبرى لابن سعد ج 5 / ص 146 ـ 147.

(260) ابو الفرج الاصفهاني، مقاتل الطالبيين ص86.

(261) الزمر / آية 26.

(262) سبأ / الاية 25 ـ 26.