حكومة الخلفاء العباسيين في زمان الإمام العسكري (عليه السلام):

 لقد عاصر الإمام خلال فترة إمامته القصيرة ـ ستّ سنوات ـ حكومة ثلاثة خلفاء هم المعتزّ والمهتدي والمعتمد.

 فالمعتزّ العبّاسي حلّ محلّ ابن عمّه المستعين، واستشهد الإمام الهادي (عليه السلام) أثناء حكم المعتزّ، واستشهد أو سُمّ مجموعة من العلويّين أيضاً في ظلّ خلافة هذا الخليفة الظّالم. وفي احدى المرّات ألقى المعتزّ بأخيه المؤيّد إلى غياهب السّجن وأمر بضربه أربعين سوطاً، ولم يطلق سراحه من السّجن حتّى خلع نفسه من ولاية العهد، ومرّة أخرى أدخله السّجن ولمّا سمع انّ فريقاً من الأتراك يخطّط لانقاذ المؤيّد من السّجن فقد أمر بقتله، وبناءً على ذلك فقد لُفّ في لحاف مسموم وأُغلق طرفاه حتّى لَفَظَ انفاسه، وعندئذ استدعوا الفقهاء والقضاة التّابعين للبلاط إلى مشاهدة جسده ليتعرّفوا على انّه ليس فيه أثر تعذيب وليظهروا للنّاس انّه مات بصورة طبيعيّة(1)!.

 وفي غضون حكم المعتزّ أُسر أكثر من سبعين شخصاً من العلويّين وآل جعفر الطّيّار وآل عقيل بن أبي طالب الّذين ثاروا في الحجاز وجاءوا بهم إلى سامرّاء(2)، وكان المحبّون للإمام العسكري (عليه السلام) يعيشون الضّيق والعذاب في زمان هذا الخليفة المجرم، وبعضهم كتب رسالة إلى الإمام (عليه السلام) يشكو فيها من الأوضاع، فأجابهم الإمام: بعد ثلاثة أيّام يحصل الفرج والخلاص(3)، وقد تحقّق ما تنبّأ به الإمام حيث ثار الجنود الأتراك الموجودون في البلاط العبّاسي على المعتزّ لأنّهم رأوه لا يحقّق لهم مصالحهم واضطّروه إلى خلع نفسه من الخلافة ثمّ ألقوه في سرداب وأحكموا اغلاق بابه حتّى هلك في داخله(4).

 وبعد المعتزّ استلم المهتدي زمام الخلافة، وسار هذا الظّالم سيرة النّفاق، فكان يتظاهر بالزّهد ويجتنب البذخ في الظّاهر كما انّه قام بنفي النّساء المغّنيات ومنع المنكرات الأخرى وتظاهر بإعادة الحقوق العادلة للمظلومين، لكنّه احتفظ بالإمام العسكري (عليه السلام) مدّة من الزّمن في السّجن، بل وحتّى اتخّذ قراراً بقتله إلاّ انّ الأجل لم يمهله فأهلكه الله تعالى. وأثناء خلافة المهتدي ثارت طائفة من العلويّين سيق بعضهم إلى السّجن وهناك لفظوا آخر أنفاسهم.

 يقول أحمد بن محمّد:

 «كتبت على أبي محمّد (الإمام العسكري (عليه السلام))، حين أخذ المهتدي في قتل الموالي: يا سيّدي الحمد لله الّذي شغله عنّا، فقد بلغني انّه يتهدّدك ويقول والله لأجلينّهم عن جديد الأرض، فوقّع أبو محمّد (عليه السلام) بخطّه: ذلك اقصر لعمره، عدّ من يومك هذا خمسة أيام ويقتل في اليوم السّادس بعد هوان واستخفاف يمرّ به، فكان كما قال (عليه السلام)»(5).

 فقتل المهتدي في تمرّد للاتراك من جيشه وحلّ محلّه المعتمد(6).

 ولم يكن للمعتمد ـ كسائر اسلافه ـ من مهمّة سوى البذخ والاسراف والظّلم وكان مفرطاً في اللّهو واللّعب بحيث تسلّط تدريجاً أخوه الموفّق على شؤون الدّولة وأصبحت كلّ الأمور بيده وصار المعتمد عاطلاً من النّاحية العمليّة وهو خليفة بالاسم فحسب، وبعد موت الموفّق سيطر ابنه المعتضد على شؤون عمّه المعتمد، وأخيراً مات المعتمد عام (279) هجري واستلم الخلافة رسميّاً من بعده المعتضد(7).

 وخلال حكم المعتمد استشهد الإمام العسكري (عليه السلام)، وقُتلت أيضاً مجموعة من العلويّين، وبعضهم تمّ قتله بأفجع صورة، وحتّى بعد القتل فقد مثّلوا(8) بأجسادهم(9).

 وقال بعض المؤرّخين انّه قد جرت معارك وصراعات عديدة في حكومة المعتمد حتّى ناهز عدد القتلى نصف مليون قتيل(10).

 وعلى كلّ حال فاهتمام المجتمع بالأئمّة المعصومين وعدم تنازلهم (عليهم السلام) للخلفاء الظّالمين قد أدّى إلى نموّ الأحقاد في انفس الظّالمين وقسوتهم على الأئمّة المعصومين، وكان الإمام العسكري (عليه السلام) ـ مثل آبائه الكرام ـ يواجه باستمرار اضطهاد الحكومة ورقابتها، وفي احدى المرّات أُرسل الإمام إلى سجن صالح بن وصيف اثناء حكومة المهتدي، فقالوا له ضيّق عليه ولا توسّع، فقال لهم صالح: ما اصنع به وقد وكلّت به رجلين شرّ من قدرت عليه فقد صارا من العبادة والصّلاة والصّيام إلى أمر عظيم، ثمّ أمر باحضار الموكّلين فقال لهما: ويحكما ما شأنكما في أمر هذا الرّجل؟ فقالا: ما نقول في رجل يصوم النَّهار ويقوم الّليل كلّه لا يتكلم ولا يتشاغل بغير العبادة، فاذا نظر الينا ارتعدت فرائصنا وداخلنا ما لا نملكه من انفسنا(11).

 وفي مرّة أخرى سُلّم أبو محمّد (عليه السلام) إلى نحرير (وهو سجان آخر) وكان يضيّق عليه ويؤذيه، فقالت له امرأته: اتّق الله فانك لا تدري من في منزلك وذكرت له صلاحه وعبادته وقالت له أنّي أخاف عليك منه، فقال: والله لأرمينّه بين السّباع ثمّ استأذن في ذلك فأذن له فرمى به اليها ولم يشكّوا في أكلها له، فنظروا إلى الموضع ليعرفوا الحال فوجدوه (عليه السلام) قائماً يصلّي وهي حوله فأمر باخراجه إلى داره(12).

 وقد سجن الإمام العسكري (عليه السلام) مع أخيه جعفر في زمان المعتمد على يدي علي جرين وكان المعتمد يسأل عليّاً عن اخباره في كلّ وقت فيخبره انه يصوم النّهار ويصلّي الّليل فسأله يوماً من الأيّام عن خبره فأخبره بمثل ذلك فقال له امض السّاعة إليه واقرأه مني السّلام وقل له انصرف إلى منزلك مصاحباً. قال علي جرين: فجئت إلى باب الحبس فوجدت حماراً مسرجاً فدخلت عليه فوجدته جالساً وقد لبس خفّه وطيلسانه وشاشه فلمّا رآني نهض فأديّت إليه الرّسالة فركب فلمّا استوى على الحمار وقف، فقلت له ما وقوفك يا سيّدي؟ فقال لي: ترجع إليه فتقول له خرجنا من دار واحدة جميعاً فاذا رجعت وليس هو معي كان في ذلك ما لا خفاء به عليك، فمضى وعاد فقال: يقول لك: قد اطلقت جعفراً لك لأنّي جسته بجنايته على نفسه وعليك وما يتكلّم به، وخلّى سبيله فصار معه إلى داره(13).

 ممّا شرحناه بصور مجملة ومضغوطة من سيرة حكومة الخلفاء وسلوكها مع الإمام يظهر انّ الإمام العسكري (عليه السلام) كان يعيش فترة صعبة ومليئة بالاضطهاد، وكانت الحكومات دائماً تراقب الإمام مراقبة شديدة، وقد اودعته السّجن مرآت عديدة ; ويشهد التّاريخ انّه حتّى في الفترات الّتي لم يكن الإمام فيها داخل السّجن فقد كان الذّهاب والمجيء إليه مراقباً، والشّيعة والمحبّون لا يستطيعون التردّد عليه والاتّصال به بسهولة، وكان بعض الشّيعة يصل أحياناً إلى دار الإمام بمساعدة بعض العلويّين، وننقل هذا النصّ من كتاب « كشف الغمّة »:

 قال أبو قاسم: خرج رجل من العلويّين من سرّ من رأى في أيّام أبي محمد (الإمام العسكري (عليه السلام)) إلى الجبل (القسم الجبليّ من غرب ايران إلى همدان وقزوين) يطلب الفضل فتلقّاه رجل بحلوان (پل ذهاب)، فقال من اين اقبلت؟ قال: من سرّ من رأى، قال: هل تعرف درب كذا وموضع كذا؟ قال: نعم، فقال: عندك من أخبار الحسن بن علي شيء؟ قال: لا، قال: فما اقدمك الجبل؟ قال: طلب الفضل، قال: فلك عندي خمسون ديناراً فاقبضها وانصرف معي إلى سرّ من رأى حتّى توصلني إلى الحسن بن علي، فقال: نعم، فأعطاه خمسين ديناراً وعاد العلويّ معه إلى سرّ من رأى فاستأذنا على الإمام فأذن لهما فدخلا...
(14).

 ويمكننا ان نفهم من هذا النّصّ مكانة الإمام خارج السّجن ماذا كانت؟ وإلى أيّ حدّ كان مراقباً من قبل السّلطة، بحيث لا يستطيع محبّوه ان يتصلوا به بسهولة وانّما كانوا يصلون إليه بالتّخطيط والاحتياط، وحتّى العلويّون والأقارب ما كانوا يستطيعون التّردّد عليه كثيراً.

 



(1) تتمّة المنتهى، ص252.

(2) مروج الذهب، ج4، ص91.

(3) البحار، ج50، ص251.

(4) مروج الذهب، ج4، ص91 ـ 95، تتمّة المنتهى، ص254.

(5) الارشاد، للمفيد: ص324.

(6) تتمّة المنتهى، ص254 ـ 258.

(7) تتمّة المنتهى، ص268، مروج الذهب، ج4، ص140 ـ 142.

(8) التمثيل: هو قطع اعضاء بدن الميّت كاليد والرجل والأذن والأنف وفصلها عنه.

(9) مقاتل الطالبيّين، ص685 ـ 690.

(10) مروج الذهب، ج2، ص120.

(11) الارشاد للمفيد، ص324، مهج الدعوات، تأليف السيد بن طاووس، ص274، البحار، ج50، ص330.

(12) الارشاد للمفيد، ص324 ـ 325.

(13)مهج الدعوات، للسيد بن طاووس، ص275.

(14) كشف الغمّة، ج3، ص307.