الإمام والأمويون

إن الإمام سواء أعاشر الناس أم اعتزلهم واصبح جليس داره فذلك لا يؤثر على إمامته، لان الإمامة كالرسالة منصب الهي، ولا يصحّ للناس ان يختاروا إمامهم حسب رغباتهم.

والغاصبون والظالمون كانوا دائماً ينظرون بعين الحسد إلى منصب الإمامة الرفيع، ويغتصبون الحكم والخلافة ـ التي هي من مختصات الأئمة ـ بأي شكل من الأشكال، ولا يتورعون عن أي جريمة في سبيل تحقيق هذا الهدف.

وقد قارن جانب من مرحلة إمامة الإمام الباقر (عليه السلام) الحكومة الجائرة لهشام بن عبد الملك الأموي. وكان الأمويون ـ ومن جملتهم هشام ـ يعلمون جيداً انهم إذا استطاعوا ان يسلبوا من الأئمة (عليهم السلام) مكانتهم في الظاهر وان يستولوا على الحكم بالظلم والجور فانهم لا يستطيعون أبداً ان يسلبوا منهم تسلطهم على القلوب والأرواح.

وقد كانت عظمة الأئمة المعنوية جذابّة إلى الحدّ الذي أدخلت الرعب في قلوب الأعداء والغاصبين وأرغمتهم على التواضع إمامهم .

ففي أحد الأعوام جاء هشام إلى الحج وكان الإمام الباقر والإمام الصادق (عليهما السلام) ضمن الحجاج، فخطب الإمام الصادق (عليه السلام) يوماً في الحجيج قائلاً:

« الحمد لله الذي بعث محمداً (صلى الله عليه وآله وسلم) بالحق وشرفنا به، فنحن الذين اصطفانا الله من بين خلقه ونحن خلفاء الله {في الأرض}، وقد افلح من اتبعنا وخاب من خالفنا ونصب لنا العداوة ».

يقول الإمام الصادق (عليه السلام) فيما بعد: فنقلوا قولي لهشام ولكنه لم يتعرض لنا بسوء حتى عاد إلى دمشق وعدنا إلى المدينة، فأوعز إلى واليه في المدينة ان يرسلنا انا وأبي إلى دمشق.

فلما وصلنا اليها لم يأذن لنا هشام بالدخول عليه ثلاثة أيام، حتى إذا كان اليوم الرابع دخلنا عليه وهو جالس على عرشه وأصحاب بلاطه مشغولون إمامه بالرمي وأصابة الأهداف.

فنادى هشام والدي باسمه قائلاً له: ساهم في الرماية مع كبار قبيلتك.

فقال والدي: لقد أصبحت شيخاً طاعناً في السن، وانتهى زمان الرماية بالنسبة الي فاعذرني.

فأصر هشام وأقسم عليه إلاّ ان يفعل، وأمر شيخاً من بني أمية ان يناوله قوسه، فتناول والدي القوس منه ووضع فيه سهماً واطلقه فأصاب عين الهدف، ووضع السهم الثاني فيه واطلقه فغرسه في السهم الأول وشقه إلى نصفين، وهكذا فعل في الثالث حيث غرسه في الثاني، والرابع في الثالث، والتاسع في الثامن، فارتفعت اصوات الحاضرين، واضطرب هشام وصاح:

أحسنت يا أبا جعفر ! انك خير رماة العرب والعجم فكيف تتصور ان زمان الرماية قد انقضى عنك... وفي نفس ذلك الوقت اتخذ قراراً بقتل والدي فأطرق يفكر ونحن وقوف إمامه، فطال وقت الوقوف، ولذلك فقد استولى الغضب على والدي، وكان اذا أُغضب نظر إلى السماء وبدا الغضب واضحاً على محياه الشريف، فأدرك هشام غضبه ودعانا إلى الجلوس معه ونهض من مكانه واحتضن والدي وأجلسه على يمينه ثم عانقنيى وأجلسني على يمين والدي وراح يتحدث مع والدي قائلاً:

« ان قريشاً لتفتخر بك على العرب والعجم، سلمت يدك، ممن تعلمت هذه الرماية وكم أنفقت من وقت في تعلمها ؟ فأجاب والدي: أنت تعلم ان أهل المدينة يمارسون الرماية وقد مارستها في فترة أثناء شبابي ثم هجرتها حتى طلبتها مني الآن.

فقال هشام: منذ عرفت نفسي ولحد الآن لم أر ماهراً في الرماية بهذه الرقة والجودة ولا أظن ان أحداً على وجه الأرض يتقنها أفضل منك، فهل ابنك جعفر يتقن الرماية كما تتقنها أنت ؟

قال: اننا نرث «الكمال » و «التمام » كما انزلهما الله على نبيه» (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث قال تعالى:

(اَلْيَوْمَ اَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الاسْلامَ دِيناً)(1).

فالأرض لا تخلو ممن يستطيع النهوض بمثل هذه الأعمال بصورة كاملة.

وبسماع هذه الجمل جحظت عينا هشام واحمرّ وجهه من الغضب واطرق قليلاً ثم رفع رأسه وقال: ألسنا نحن وإياكم من أبناء « عبد مناف »، فنحن متساوون في النسبة إليه ؟

فقال الإمام: أجل لكن الله سبحانه اختصنا بميزات لم يمنحها للآخرين.

 

 

 

فسأل هشام:

« ألم يبعث الله النبي من أبناء عبد مناف لكل الناس أجمعين من أبيض واسود وأحمر ؟ فمن أين ورثتم هذا العلم بينما لن يأتي نبي بعد نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم)، وانتم أيضاً لستم أنبياء ؟

فأجابه الإمام (عليه السلام): لقد خاطب الله النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في القرآن الكريم بقوله: (لا تُحَرِّك بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، اِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنهُ ، فَاذَا قَرَأنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنهُ)(2).

فالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي تصرح الآية بان لسانه تابع لله قد اختصنا بميزات لم يمنحها للآخرين، ومن هنا فقد أودع عند أخيه علي (عليه السلام) أسراراً لم يكشفها للآخرين، ويقول الباري جلّت آلاؤه في هذا المجال:

(وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ)(3).

وقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي (عليه السلام): «لقد طَلبتُ مِن الله ان يجعلها اذنك » .

وقال علي بن أبي طالب (عليه السلام) في الكوفة:

«لقد فتح لي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ألف باب من العلم يفتح من كل باب منها ألف باب آخر ».

وكما ان الله تعالى اختص النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بكمالات معينة فان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً اصطفى علياً (عليه السلام) وعلّمه اموراً لم يعلّمها الآخرين، وعلمنا مكتسب من ذلك المنبع الفيّاض، ونحن وحدنا الذين ورثنا ذلك دون غيرنا.

فقال هشام: ان علياً يدعي العلم بالغيب بينما الله لم يطلع أحداً على الغيب.

 

 

 

فأجاب والدي:

لقد انزل الله كتاباً على نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) بيّن فيه كل شيء مما يتعلق بالماضي والمستقبل إلى يوم البعث، فهو عزَّوجلّ يقول في ذلك الكتاب:

(وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْياناً لِكُلِّ شيْء)(4).

وفي آية اخرى يقول تعالى:

(وَكُلَّ شَيْء أَحْصَيْنَاهُ فِي إمَام مُبِين)(5).

ويقول أيضاً:

(ما فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْء)(6).

وقد أمر الله سبحانه نبيه الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يُعَلّم علياً (عليه السلام) أسرار القرآن كلها، وقد قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للامة:

« عَليٌ أقضاكُم ».

فبقي هشام صامتا... وغادر الإمام (عليه السلام) مجلسه(7).

 



(1) ـ سورة المائدة ـ الآية 3.

(2) ـ سورة القيامة ـ الاية 16.

(3) ـ سورة الحاقة ـ الاية 12.

(4) ـ سورة النحل ـ الآية 89.

(5) ـ سورة يس ـ الآية 12.

(6) ـ سورة الأنعام ـ الآية 38.

(7) ـ دلائل الإمامة للطبري الشيعي ـ ص104 ـ 106، الطبعة الثانية في النجف. باختصار ونقل بالمعنى في بعض الجمل.