ضرب
النقود والدراهم الإسلامية بأمر
الإمام الباقر (عليه
السلام) (1) كانت
صناعة الورق في القرن الأول الهجري
مقصورة على بلاد الروم. وحتى نصارى مصر
الذين كانوا يصنعون الورق فانهم أيضاً
يضربونها على طريقة الرومان وبعلامة
المسيحية « الأب والابن والروح ». وكان
عبد الملك الأموي ذكياً، فقد لاحظ ورقة
من هذا القبيل فتعمق في الشعار المنقوش
فيها واصدر أمره حتى يترجم إلى اللغة
العربية، ولما عرف معناه استبد به الغضب
من انتشار مثل هذه المصنوعات في مصر وهي
بلد إسلامي، فكتب إلى عامله في مصر على
الفور يأمره ان ينقش شعار التوحيد: «شَهدَ
اللهُ اَنَّهُ لا اِلهَ إلاّ هُو ». على
الأوراق منذ ئذٍ، وعمّم الأمر على سائر
عماله في البلاد الإسلامية الأخرى حتى
يمحوا شعائر الشرك المسيحي من الأوراق
القديمة ويستخدموا أوراقاً جديدة. وانتشرت
الأوراق الجديدة وعليها شعار التوحيد
الإسلامي ووصلت حتى إلى بلاد الروم أيضاً
وانتهى خبرها إلى القيصر فكتب رسالة إلى
عبد الملك يقول فيها: «ان
صناعة الورق كانت دائماً بالعلامة
الرومية، فان كان منعك لهذا أمراً صحيحاً
فان معنى ذلك ان عمل خلفاء الإسلام
السابقين كان خطأ، وان كان عملهم صحيحاً
إذن لابد ان يكون منعك هذا مخطئاً(2)،
أني مرسل إليك مع هذه الرسالة هدية
مناسبة، واحسب ان تترك البضائع المعلّمة
بعلامتنا على وضعها السابق، وموقفك
الإيجابي في هذا المجال يستدعي شكرنا
وامتناننا ». إلاّ
ان عبد الملك رفض تلك الهدية قائلاً
لمبعوث قيصر: ان هذه الرسالة لا جواب
عليها. ومرة
أخرى يُحالو قيصر إقناع عبد الملك فيضاعف
له الهدية ويرفقها برسالة يقول فيها: « إنني
أظن انك قد رفضت الهدية لاستصغارك لها
وها أنا ذا مضاعفها وارجو ان تقبلها مع
الطلب الذي تقدمت به إليك سابقاً ». فردّ
عبد الملك الهدية ثانية من دون جواب
ايضاً. وعندئذ
كتب قيصر إلى عبد الملك : « لقد
رددت عليّ هديتي مرتين ولم تحقق لي
رغبتي، وها أنا ذا للمرة الثالثة أرسل
إليك هدية مضاعفة بالنسبة إلى ما سبقتها
واقسم بالمسيح إذا لم تعد البضائع
المعلّمة بعلاماتنا إلى وضعها السابق
فانني سوف اصدر الأوامر بسكّ النقود
الذهبية والفضية وهي تحمل شتم وإهانة نبي
الإسلام، وأنت تعلم ان ضرب السكة من
مختصاتنا نحن الرومان، وعند ما تشاهد هذه
السكك مليئة بشتم نبيكم فسوف يتصبب جبينك
من عرق الخجل والحياء، إذن من الأفضل ان
تقبل الهدية وتحقق المطلوب حتى تستمر
علاقات الصداقة بيننا كما كانت في الماضي
». فتحيّر
عبد الملك في الجواب وقال: أحسب
إنني أسوء مولود حظّاً ولد في الإسلام
حيث كنت السبب في هذا الأمر وهو شتم رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
وأخذ يشاور المسلمين فلم يجد عند أحد
منهم حيلة. فقال له أحد الحاضرين: انك
لتعرف المخرج من هذا المأزق ولكنك تتعمد
في الإعراض عنه. فقال
عبد الملك: ويحك وما هي تلك الطريقة التي
اعرفها ؟ فأجابه
الرجل: لابد لك ان تطلب حلّ هذه المشكلة
من «باقر » أهل البيت (عليه
السلام). فصدّق
عبد الملك قوله وكتب إلى والي المدينة: « ان
اشخص إلى الشام الإمام الباقر (عليه السلام)
محترماً مكرماً »، واستبقى مبعوث قيصر في
الشام حتى وصل الإمام (عليه السلام) إليها
وحدّثوه بالموضوع فقال (عليه السلام): ان
تهديد قيصر في مورد النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم) لن
ينفّذ، والله سبحانه لن يتركه يفعل هذا
الفعل، وطريق الحل سهل يسير أيضاً، فاجمع
الآن أصحاب الصناعات وامرهم بضرب السكك
وليخطوّا على أحد وجهي العملة سورة
التوحيد وعلى الوجه الآخر اسم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبهذا نستغني عن مسكوكات الروم. وشرح
لهم الإمام (عليه السلام) ما
يتعلق بوزن السكك فقال: لابد
ان يكون وزن كل عشرة دراهم من الأنواع
الثلاثة للسكك سبعة مثاقيل(3)،
وأمرهم بذكر اسم البلد وتاريخ عام ضربها
في تلك المسكوكات. واصدر
عبد الملك أوامره لتنفيذ ما قاله الإمام (عليه
السلام)
وكتب إلى جميع البلاد الإسلامية يأمرهم
ان يتعاملوا بالمسكوكات الجديدة، وكل من
كانت لديه سكة قديمة فليسلمها للمسؤولين
وليستلم مكانها سكة إسلامية، ثم اعلم
مبعوث قيصر بما تمّ اتخاذه من إجراء
واعاده إلى بلاده. وأُخبر
قيصر بما جرى فاقترح عليه أصحاب بلاطه ان
ينفّذ ما هدّد به، فأجابهم قيصر: انني
أردت بهذا التهديد ان اغضب عبد الملك،
واما الآن فان تنفيذ ذلك التهديد يعتبر
أمراً لغواً عبثاً لان البلاد الإسلامية
الان لا تتعامل بالنقود الرومية(4). (1)
ـ ان بعض الباحثين ينسب هذا الموضوع
للإمام السّجّاد (عليه
السلام)،
ويقول البعض الآخر ان الإمام الباقر (عليه
السلام)
هو الذي اقترحه بأمر من الإمام السجاد (عليه
السلام) ومن
شاء التوسع في هذا المضمار فليرجع إلى
كتاب العقد المنير ج1. (2)
ـ ان قيصر يحاول بهذه المقدمة ان يثير
تعصب عبد الملك حتى يقوده إلى تصويب
عمل الخلفاء السابقين فيكف عن منع
الورق الرومي. (3)
ـ قال الإمام (عليه السلام):
لتضرب ثلاثة انواع من السكك: النوع
الاول تزن فيه كل عشرة دراهم عشرة
مثاقيل، والنوع الثاني تزن فيه كل عشرة
دراهم ستة مثاقيل، والنوع الثالث تزن
فيه كل عشرة دراهم خمسة مثاقيل. وبهذا
الشكل تصبح كل مجموعة مكونّة من ثلاثين
درهماً من الانواع الثلاثة تزن واحداً
وعشرين مثقالاً، ويعتبر هذا مساوياً
للسكك الرومية. وقد أُمر المسلمون بان
يسلّموا ثلاثين درهماً رومياً تزن
واحداً وعشرين مثقالاً ليستلموا
مكانها ثلاثين درهماً جديداً إسلامياً. (4)
ـ «المحاسن والمساوئ » للبيهقي ـ ج2 ص232
ـ 236 ـ طبعة مصر، «حياة الحيوان »
للدميري الطبعة الحجرية ص24. نقلنا هذا
باختصار وبالمعنى في بعض المجالات. ملاحظة: لقد
لاحظنا في هذه القصة ان المسكوكات
الإسلامية قد صيغت وراجعت في زمان
الإمام الباقر (عليه
السلام) وباقتراح منه، ولا
يتنافى هذا مع ما هو وارد في بعض الكتب
ان الإمام علياً (عليه السلام)
قد أمر بضرب السكك الإسلامية في البصرة
فكان بذلك المؤسس لهذه النهضة ، وذلك
لانه يمكن الجمع بين هذين بان بدء ضضرب
السكك كان في زمان الإمام علي (عليه
السلام)، ثم تكاملت هذه
الصناعة وشاعت في زمان الإمام الباقر
(عليه السلام). ومن
أحب مزيداً من البحث حول هذا الموضوع
فليراجع كتاب غاية التعديل للمرحوم
سردار الكابلي ص16.
|