تلامذة الإمام (عليه السلام):

إنّ جَوَّ الاضطهاد والظّلم الّذي عاشه الإمام (عليه السلام) قد جعل امكانيّة الانتفاع من الإمام محدودة جدّاً، ولكنّه مع ذلك استطاع بعض المشتاقين لمعارف القرآن وأهل البيت(عليهم السلام) ان يكسبوا من فيض الإمام الهادي (عليه السلام) بمقدار سعة وجودهم، وان يرتفعوا الى الدّرجات الرّاقية من الإيمان والمعرفة. وقد سمّى الشّيخ الطّوسي (85) شخصاً من الّذين رووا عن الإمام الهادي (عليه السلام)، ونلاحظ بينهم شخصيّات لامعة، ونحن هنا نتعرّض لذكر بعضهم باختصار:

1 ـ عبد العظيم الحسني:

كان من كبار الرّواة والعلماء، وله مقام رفيع في الزّهد والتّقوى، وقد ادرك بعض الاصحاب الكبار للإمام السّادس والإمام السّابع والإمام الثّامن(عليهم السلام)، وهو يُعدّ من أنجب تلامذة الإمامين الجواد والهادى (عليهما السلام) ومن أشهر الرّواة عنهما.

يقول الصّاحب بن عبّاد: كان عبد العظيم الحسني عارفاً بشؤون الدّين ومطلعاً على المسائل الدّينية واحكام القرآن(1).

ويقول ابو حمّاد الرّازي: ذهبت الى مجلس الإمام الهادي (عليه السلام) وسألته عن بعض المسائل، ولمّا اردت الانصراف قال لي الإمام(عليه السلام): كلّما حدثت لك مشكلة فاسأل عنها عبد العظيم الحسني وابلغه سلامي(2).

وقد ارتفع في مدارج الايمان والمعرفة الى الحدّ الّذي قال له الإمام الهادي (عليه السلام):

«أنت وليّنا حقّاً»(3).

قال عبد العظيم بن عبد الله الحسني: «دخلت على سيّدي عليّ بن محمّد (الهادي) بن علي بن موسى بن جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب(عليهم السلام) فلَّما بصرني قال لي: مرحباً بك يا أبا القاسم أنت وليّنا حقّاً، قال: فقلت له: يابن رسول الله انّي أريد أن أعرض عليك ديني فان كان مرضيّاً ثبتّني عليه حتّى القى الله عزّ وجلّ، فقال: هات يا أبا القاسم، فقلت: إنّي أقول: إن الله تعالى واحد ليس كمثله شيء خارج من الحدّين حدّ الإبطال وحدّ التّشبيه، وانه ليس بجسم ولا صورة ولا عرض ولا جوهر، بل هو مجّسم الأجسام ومصوّر الصّور وخالق الاعراض والجواهر وربّ كلّ شيء ومالكه وجاعله ومحدثه، وانّ محمّداً عبده ورسوله خاتم النبيين، فلا نبيّ بعده الى يوم القيامة وانّ شريعته خاتمة الشّرائع فلا شريعة بعدها الى يوم القيامة، وأقول انّ الإمام والخليفة ووليّ الأمر بعده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ثمّ الحسن ثمّ الحسين ثمّ عليّ بن الحسين ثمّ محمّد بن عليّ ثمّ جعفر بن محمّد، ثمّ موسى بن جعفر ثمّ علي بن موسى ثمّ محمّد بن علي ثمّ أنت يا مولاي، فقال عليّ (عليه السلام) ومن بعده الحسن ابني فكيف للنّاس بالخلف من بعده؟

قال: فقلت: وكيف ذاك يا مولاي ؟ قال لانّه لا يرى شخصه ولا يحلّ ذكره باسمه حتّى يخرج فيملأ الارض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، قال فقلت: اقررت وأقول انّ وليّهم وليّ الله وعدوّهم عدوّ الله وطاعتهم طاعة الله ومعصيتهم معصية الله، واقول انّ المعراج حقّ والمسألة في القبر حقّ وَاَنّ الجنّة حقّ والنّار حقّ والصّراط حقّ والميزان حقّ وان السّاعة آتية لا ريب فيها وانّ الله يبعث من في القبور، واقول انّ الفرائض الواجبة بعد الولاية الصّلاة والزّكاة والصّوم والحجّ والجهاد والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر.

فقال علي بن محمّد (عليه السلام): يا أبا القاسم هذا والله دين الله الّذي ارتضاه لعباده فاثبت عليه أثبتك الله بالقول الثّابت في الحياة الدّنيا وفي الآخرة»(4).

وكما يبدو من التّاريخ والرّوايات فانّ عبد العظيم (عليه السلام) قد تعرّض لمطاردة حكومة زمانه ففرّ الى ايران ليصون نفسه من الخطر واختفى في مدينة الرّي، ونقرأ في تاريخ حياته:

«كان عبد العظيم ورد الرّيّ هارباً من السّلطان وسكن سَرَباً في دار رجل من الشّيعة في سكّة الموالي وكان يعبد الله في ذلك السّرَب (حفيرة تحت الأرض) ويصوم نهاره ويقوم ليله وكان يخرج مستتراً فيزور القبر المقابل قبره وبينهما الطّريق ويقول هو قبر رجل من ولد موسى (عليه السلام). فلم يزل يأوي إلي ذلك السّراب ويقع خبره الى واحد بعد واحد من شيعة آل محمّد(عليهم السلام) حتّى عرفه اكثرهم، فرأى رجل من الشّيعة في المنام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال له ان رجلا من ولدي يحمل من سكّة الموالي ويدفن عند شجرة التّفاح في باغ عبد الجبّار بن عبد الوهّاب، واشار الى المكان الّذي دفن فيه، فذهب الرّجل ليشتري الشّجرة والمكان من صاحبها، فقال لأيّ شيء تطلب الشّجرة ومكانها؟ فأخبره الرّؤيا، فذكر صاحب الشّجرة انّه كان رأى مثل هذه الرّؤيا وانه قد جعل موضع الشّجرة مع جميع الباغ وقفاً على القبر الشّريف والشّيعة يدفنون فيه.

فمرض عبد الظيم ومات (رحمه الله) فلمّا جرّد ليغسل وجد في جيبه رقعة فيها ذكر نسبه»(5).

وقد حدثت وفاة عبد العظيم في مرحلة الإمام الهادي (عليه السلام)، ويمكننا ان نتعرّف على علوّ شخصيّته الإلهيّة من خلال هذه الرّواية التي ينقلها محمّد بن يحيى العطّار:

سأل الإمام الهادي (عليه السلام) رجلاً من أهالي مدينة الري جاءه زائراً فقال له: اين كنت؟

قال: كنت ذاهباً الى زيارة قبر الإمام الحسين (عليه السلام)، فقال له الإمام: كن على علم بأنّك لوزرت قبر عبد العظيم الموجود في مدينتكم لكنت كمن زار قبر الإمام الحسين (عليه السلام)(6).

ويُعدّ عبد العظيم من أوثق علماء الشّيعة ورواتهم في زمان الأئمّة(عليهم السلام)، وقد كان من جملة المؤلّفين أيضاً، ونُقل انه ألّف كتابا حول خطب أمير المؤمنين (عليه السلام) وكتاباً آخر يُسّمى بـ«اليوم واللّيلة »(7).

 

الحسين بن سعيد الاهوازي:

وهو من أصحاب الإمام الرّضا والإمام الجواد والإمام الهادي (عليهم السلام) وقد نقل الأحاديث عن جميع هؤلاء الكرام، وهو في الأصل من أهالي الكوفة، ولكنّه انتقل مع اخيه الى الاهواز ثمّ جاء من هناك الى قم، وفي قم رحل عن هذا العالم.

والمعروف ان الحسين بن سعيد ألّف ثلاثين كتاباً في الفقه والاداب والاخلاق، وكتبه مشهورة متداولة بين العلماء، وكما يقول المرحوم المجلسي الاوّل: يلاحظ اتّفاق العلماء على وثاقته والعمل برواياته. ويقول في حقّه العلاّمة: انّه محلّ وثوق وهو من اعيان العلماء وكان جليل القدر.

يقول المرحوم الشّيخ الطّوسي:

ان الحسين بن سعيد علاوة على مقامه العلميّ قد كان يبذل غاية جهده في إرشاد النّاس وهدايتهم، ولهذا فقد أوصل اسحاق بن ابراهيم الحضيني وعليّ بن ريّان الى الإمام الرّضا (عليه السلام)، فكان السّبب في تعرّفهم على المذهب الحقّ وهو التّشيّع. وكانوا يسمعون منه الأحاديث وقد اطّلَعوا على المعارف بسبب خدماته. واوصل عبد الله بن محمّد الحضيني وغيره ايضاً الى الإمام الرّضا (عليه السلام) فكان هذا فاتحة خير لهم حيث اطّلعوا على المعارف الإسلاميّة ووصلوا الى مقامات رفيعة وادّوا خدمات إسلاميّة جليلة(8).

 

الفضل بن شاذان النّيشابوري:

كان رجلاً عظيماً ومورداً للاعتماد وفقيها كبيراً ومتكلّماً متضلّعاً. وقد ادرك مجموعة من كبار أصحاب الأئمّة، من قبيل محمّد بن أبي عمير وصفوان بن يحيى، وعاشرهم ما يناهز الخمسين عاماً، وانتفع بمعاشرتهم كما يقول هو: عندما توفّي هشام بن الحكم اصبح خليفته يونس بن عبد الرّحمان، وعندما توفّي هذا أصبح خليفة في ردّ المخالفين السكّاك، وأمّا الان فأنا خليفتهم(9).

ويعدّه المرحوم الشّيخ الطّوسي من جملة أصحاب الإمام الهادي والإمام العسكري (عليهما السلام)، وقد عدّه بعضُ علماء الرّجال من جملة أصحاب الإمام الهادي (عليه السلام) مع انّهم اعتبروه ضمن اتباع الإمام الجواد والإمام العسكري (عليهما السلام) ايضاً(10).

وقد ألّف الفضل بن شاذان كتباً كثيرة بحيث قال البعض انها تصل الى مائة وثمانين كتابا، ومن جملتها كتاب «الايضاح» الّذيّ هو في علم الكلام وتحليل عقائد اصحاب الحديث، وقد طبعته جامعة طهران في عام «1392» هجري قمري.

واهتمّ العلماء الكبار بأقوال وآثار الفضل بن شاذان، وكان العلماء يكتفون بقوله في ردّ أو قبول الرّواة. وأولى المرحوم الكليني عناية خاصّة لبعض كلماته وآرائه في كتاب الكافي. واهتّم بها كثيراً المرحوم الصّدوق والشّيخ الطّوسي كذلك.

يقول مؤلّف كتاب «جامع الرّواة»:

«فانّه رئيس طائفتنا (نحن الشّيعة) اجلّ أصحابنا الفقهاء والمتكلّمين وله جلالة في هذه الطّائفة وهو في قدره اشهر من ان نصفه. متكلّم فقيه جليل القدر له كتب ومصنّفات، روى الكشّي عن الملقّب بتورا من أهل بوزجان من نيشابور انّ أبا محمّد الفضل بن شاذان كان وجهّه الى العراق فذكر انه دخل على أبي محمّد (الإمام الحادي عشر) (عليه السلام) فلمّا أراد أن يخرج سقط عنه كتاب، وكان من تصنيف الفضل، فتناوله أبو محمّد (عليه السلام) ونظر فترحّم عليه وذكر انه قال اغبط أهل خراسان بمكان الفضل بن شاذان وكونه بين أظهركم(11).

وفي رواية اخرى ان كتاب «اليوم واللّيلة» (وهو احد كتبه) «عرض على أبي محمّد العسكري (عليه السلام) فترّحم عليه ثلاثاً وقال: انّه صحيح ينبغي ان يعمل به»(12).

ويقول الشهيد الكبير القاضي نور الله الشّوشتري فيما يتعلّق بالفضل بن شاذان:

كان من اكبر المتكلّمين وافضل المفسّرين والمحدّثين واعظم واشرف الفقهاء والمجتهدين واعيان القرأء والنّحاة واللّغويين...(13)

كان الفضل بن شاذان يعيش في نيشابور ثمّ نفاه منها الى بيهق أمير خراسان عبد الله بن طاهر بذنب التشيّع.

وعندما هاج الخوارج في خراسان فقد اضطّر الفضل للخروج منها صوناً للنّفس، واتعبه الطّريق فألّم به المرض وفارق الحياة الدّنيا في أيّام إمامة الإمام العسكري (عليه السلام) ودفن في نيشابور القديمة، ويقع قبره حاليّاً على بُعد فرسخ واحد من نيشابور الفعليّة، وهو مزار للشّيعة يتبرّكون بقبره(14).



(1) ـ عبد العظيم الحسني: ص 31.

(2) ـ عبد العظيم الحسني: ص 24.

(3) ـ الامالي للصدوق: ص 204، المجلس (54).

(4) ـ الامالي الصدوق: ص 204، المجلس (54).

(5) ـ جامع الرواة، الجزء الاوّل: ص 460.

(6) ـ عبد العظيم الحسني: ص 63.

(7) ـ عبد العظيم الحسني: ص 63.

(8) ـ تنقيح المقال: ج 1 ص 329، كتاب اختيار معرفة الرجال: ص 551.

(9) ـ منتهى المقال: ص 242، مقدمة كتاب الايضاح: ص 3، طبعة جامعة طهران.

(10) ـ مقدّمة الايضاح: ص 9 وص 86.

(11) ـ جامع الرواة: ج 2 ص 5.

(12) ـ منتهى المقال: ص 24، مقدمة الايضاح: ص 87.

(13) ـ مقدمة الايضاح: ص 2.

(14) ـ منتهى المقال: ص 242، مقدمة الايضاح: ص 48 ـ 52.