الإمام السابع

  موسى بن جعفر (عليه السلام)

  في ذلك الوقت... عند غروب الشمس يهب النسيم العليل فيبدأ سعف النخيل يهمس في اذن بعضه البعض ويتناجى بنشيد ملحمة حياتك أيها الإمام الفذ، ويرسل مع ذلك النسيم المهاجر رسالة تتضمن كلّ الوان الظلم التي جرت عليك...

وفي الربيع عندما ينشقّ ويتفجّر حزن السماء الكئيبة فتتساقط دموع السحاب، تمثّل هذه الدموع همّ وحزن اتباعك الذين يتجرعون الوان الظلم على طول التاريخ فيبكون عليك أيّها الإمام العظيم !

لكن الستائر الغليظة لهذه الدموع لا يمكن ان تحول دون رؤية ملحمتك وصمودك وصبرك وبالتالي شهادتك في سبيل الحق، واذا كنّا نبكيك فنحن نبكيك واقفين حتى نجلّ فيك الصمود والوقوف، وحتّى ينهض التاريخ اجلالاً لبطولتك.

فسلام لك من اروع واشجع نقطة في اعماق قلوبنا دائماً ومن غير انتهاء.

لقد عاشت قرية أبواء(1) في ذلك اليوم صبحاً(2) يختلف عن بقية الأيّام، وقد ذهّبت شمس النخيل الشاهقة العملاقة الى الحزام، وألقت النخيل ظلالها الطويلة على الجدران والسطوح الطينيّة في تلك القرية...

وارتفعت أصوات الجمال والأغنام يتخلّلها أحياناً أصوات الرعاة وهي تستعدّ للذهاب الى الصحراء، فيبعث كلٌّ ذلك النشاطَ الصباحيّ في القلب ويعزف في الاذن أغنية الحياة...

والى جانب القرية يوجد غدير وبركة ماء قد تجمعت بعض النسوة ليأخذن من مائه الزلال، ويمرّ النسيم الحلو على الماء فيثير فيه أمواجاً خفيفة، وتحلّق بعض الطيور الأبابيل النشطة وتتقافز هنا وهناك وتحطّ على الماء وكأنها تحاول ان تبرد صدرها الذي تخلفت فيه الى الآن حرارة سجّيل عام الفيل(3)...

وعلى بعد قليل منها انعزلت نخلة شاهقة وألقت بظلّها على قبر انحنت عليه امرأة في ذلك الصباح تقبله باحترام وتقدير وتبكي بهدوء وتتمتم بكلمات تتحرّك بها شفاهها، وتمرّ النسمات فتحمل كلامها وكأنّها تهمس:

السلام عليك يا آمنة ! يا أمّ النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)... اغدق الله عليك رحمته الواسعة كما أماتك بعيداً عن مسقط رأسك...

انا حميدة زوجة أحد اولادك أحمل في بطني طفلاً من سلالة ابنك العظيم، وأعالج الآن آلاماً بدأت معي منذ ليلة أمس، واحسب اني اليوم سوف اضع هذا الطفل المبارك في هذه القرية والى جانب قبرك الطاهر...

آه ايّتها المرأة الجليلة الهادئة وسط التراب لقد أخبرني زوجي ان هذا الوليد سوف يكون الخليفة السابع لابنك النبيّ الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم)...

سيّدتي توسّلي الى الله ان أضع ولدي سالماً... وامتدت شمس الصباح من فوق سعف النخلة الفريدة النامية على ذلك القبر الطاهر وسقطت اشعتها على التراب، فنهضت حميدة ثـقيلة محتشمة ونفضت ثوبها مما علق به من تراب القبر، واضعة يدها على بطنها وسارت سيراً وئيداً (كما تفعل النساء الحوامل) نحو القرية...

وبعد ساعة عندما ارتفعت الشمس في السماء وراحت طيور القرية تغتسل بنورها في سماء «ابواء» شقّت الزغاريد هدوء سماء القرية، ويصوّر لي الخيال من جانب البركة ان بعض نساء القرية يسرعن في أزقتها. فرحات مستبشرات ويزور بعضهن البعض مهنئات...

وهناك امرأتان تسرعان نحو البركة وهما تحملان اكوازهن الفخاريّة لملئها بالماء...

ويتوقّف خيالي لينصت الى الخبر الجديد:

ـ... يقولون أيتها الأخت العزيزة ان الإمام الصادق (عليه السلام) عندما سمع بولادة ابنه قال:

«انّه الإمام بعدي، وقد ولد الآن أفضل خلق الله...»(4).

ـ الم تعرفي الاسم الذي وضعوه له؟

أظن انهم سموه حتّى قبل الولادة باسم «موسى».

وتعّق خيالي براع وراء البركة في الصحراء وهو يهشّ اغنامه بعصاه دون ان يعلم بشيء مما يجري في القرية...

وتخيّلت ان هذا الراعي هو موسى وهذه هي صحراء سيناء، ثم تساءلت عن موسى هذا الوليد الجديد: لايّ فرعون من فراعنة الزمان قد بعث؟!...

 


(1) ـ وهي واقعة بين مكّة والمدينة.

(2) ـ وهو صباح اليوم السابع من شهر صفر عام 128 هـ . ق.

(3) ـ اشارة الى هذه الاية الكريمة من سورة الفيل: (وارسل عليهم طيراً أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل).

(4) ـ الكافي: ج 1 ص 476.