مواقف الإمام (عليه السلام)

كان هارون يعاني بشدّة من صلابة ومقاومة آل علي في مقابل سلطة العباسيّين، ولهذا كان يحاول قمعهم بأيّة صورة ممكنة، أو يحاول اسقاط هيبتهم في المجتمع، فهو يدفع الأموال الطائلة للشعراء المرتزقين المدّاحين لكي ينظموا الشعر في هجاء آل عليّ ومن جملة أولئك منصور النمري فقد أنشد مرة قصيدة في النيل من آل علي فأمر هارون جلاوزته ان يأخذوه الى بيت المال وان يفسحوا له المجال ليصيب منه ما شاء(1).

وقد نفى جميع العلويّين الذين يسكنون بغداد الى المدينة، وقتل عدداً كبيراً منهم أو دسّ له السمّ(2).

وحتّى انّه كان يُغاظ بشدّة من اقبال الناس على زيارة قبر الإمام الحسين (عليه السلام)، ومن هنا فقد أصدر أوامره في تهديم القبر الشريف وما يحيط من بيوت مجاورة، وحتّى شجرة السدر التّي كانت نامية الى جانب المزار الطاهر أمر بها فقطعت(3).

والجدير بالذكر ان الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: لعن الله من قطع شجرة السدر، وكررّها ثلاث مرّات(4).

لا شكّ انّ الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) دائماً لا يمكنه ان يتفق مع سلطة مثل هذا الشخص اللا مسلم الظالم وآبائه، ومن هنا كان يبارك نهضة الفخ، وذلك أيضاً هو السبب في انّه كان يتصل بشيعته بصورة خفيّة ويعيّن لكلّ فرد منهم ما يجب عليه القيام به ضد السلطة الجائرة في ذلك العصر.

وقد أثر عنه (عليه السلام) قوله لصفوان بن مهران وهو من أصحابه والمقربيّن اليه:

انّك جيّد من جميع الجهات، سوى أنّك تؤجّر جمالك لهارون.

فقال صفوان: اننّي أؤجرها له للسفر الى الحج، وأنا ايضاً لا أرافق تلك الجمال.

فقال الإمام: ألا تحبّ ـ لهذا السبب ـ ان يبقى هارون على قيد الحياة حتّى العودة من مكّة على أقلّ تقدير، لكيلا تخسر الجمال؟ ولكي يعطيك الاجرة؟

أجاب: نعم.

قال الإمام: كلّ من يحبّ بقاء الظالمين فهو يعدّ منهم(5).

واذا لا حظنا الإمام يجيز للبعض ان يتولى بعض المهام في جهاز سلطة هارون، فقد كان يرى في ذلك مصلحة من الناحية السياسيّة، فينتدب اشخاصاً ليحتلّوا بعض المناصب في حكومة الارهاب و الرعب والقتل والظلم لينفعوا الشيعة من ناحية، وليتعرّف عن طريقهم على بعض المكائد التي تحوكها الحكومة الجائرة ضدّ العلويّين. ومثال ذلك قصّة علي بن يقطين فعندما أراد الاستقالة من منصبه في بلاط هارون فانّ الإمام الكاظم (عليه السلام) لم يسمح له بذلك.

اجل انّ الإمام لم يتعاون مع الظالمين لحظة واحدة، وحتى عند ما كان واقعاً في قبضتهم:

ففي يوم من أيام سجن الإمام، إرسل هارون يحيى بن خالد الى السجن ليقول للإمام موسى بن جعفر انه اذا طلب منه العفو فسوف يطلق سراحه، لكن الإمام (عليه السلام) رفض ذلك(6).

ولم يتخلّ الإمام (عليه السلام) عن كرامته و سلوكه الرفيع وطبعه الرافض للظلم والمساومة حتّى في أحلك الظروف وأصعب اللحظات.

لا حظوا هذه الرسالة التي كتبها (عليه السلام) يوماً الى هارون من السجن فسوف تشمون منها رائحة العظمة والصمود والايمان بالعقيدة والهدف:

«... لا يمرّ عليّ يوم بالصعوبة والعسر إلا ويمرّ عليك بالسهولة والرفاه، فانتظر حتّى ننتقل نحن الاثنين الى يوم لا نهاية له، وفي ذلك اليوم يخسر المجرمون...»(7).

نعم، ان هارون لا يستطيع ان يتحمّل وجود الإمام، ومن السذاجة ان نعتقد ان هارون كان يشعر بالحسد للإمام من ناحية منزلته المعنوية في قلوب الناس ولهذا أودعه السجن من هذا الجهة فحسب.

بل كان هارون مطلعاً عن طريق جواسيسه على الاتصال المستمر الخفّي بين الإمام وشيعته، وكان على علم ايضاً بانّ الإمام اذا سنحت له الفرصة فسوف يثور ضدّه أو يأمر اتباعه بالثورة عليه ليقوّض سلطته، وهو يلاحظ ان تلك الروح الرفيعة ليس فيها اي اثر للرضوخ والمساومة، واذا كان الإمام واضعاً يداً على يد في الظاهر لفترة معيّنة فانّ ذلك لا يعني السكوت وانّما يعني توقّفاً تكتيكيّاً بانتظار الضربة المناسبة، ولهذا فهارون يستبق الاحداث ويستخدم خداع العامة ويقف بوقاحة أمام قبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويخاطبه دون أن يستحي من غصب الخلافة واستعمال الظلم وأكل أموال الناس وتحويل الخلافة الى الملكية قائلا:

«اعتذر إليك يا رسول الله من القرار الذي اتخذته فيما يتعلّق بابنك موسى بن جعفر، فأنا لا أود في أعماقي ان اسجنه، لكنّي افعل ذلك خوفاً من وقوع الحرب بين امتك فتراق دماء بريئة !!».

وعندئذ يأمر بالقاء القبض على الإمام وهو مشغول بالصلاة الى جانب قبر النبي الاكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، فينقل الى البصرة ليسجن فيها.

وقضى الإمام (عليه السلام) سنة كاملة في سجن والي البصرة عيسى بن جعفر، وقد أثرت خصال الإمام الكريمة في عيسى بن جعفر تأثيراً عميقا بحيث دفعته لان يكتب كتاباً الى هارون يقوله فيه:

ارجو ان تنقله مني الى مكان الآخر واِلاّ فانّني سوف أطلق سراحه.

فأمر هارون بنقل الإمام (عليه السلام) الى بغداد وسجن عند الفضل بن الربيع، ثمّ نقل بعد فترة الى سجن الفضل بن يحيى وفي النهاية اودع في سجن السندي بن شاهك.

والسبب في هذه التنقلات المتعاقبة هو انّ هارون كلّما طلب من المشرفين على سجن الإمام ان يقضوا عليه فانّهم كانوا يمتنعون عن هذه الجريمة الشنيعة، حتى انتهى الدور الى هذا السجان الاخير الساقط وهو السندي بن شاهك فدسّ السمّ للإمام (عليه السلام) بايعاز من هارون، وبعد ان قضى الإمام مسموماً احضر مجموعة من الشخصيات المعروفة حتّى يشهدوا ان الإمام موسى الكاظم مات في السجن بصورة طبيعيّة وما اغتاله احد. وحاول بهذه الحيلة ان يبرء ساحة السلطة العباسيّة من قتل ذلك الإمام الجليل، وفي نفس الوقت ليحول دون الثورة المتوقعة من قبل المحبّين للإمام (عليه السلام)(8).

اِلا ان حنكة الإمام وعظمته قد فضحت هؤلاء وأخزتهم، لانّه بمجرد ان  حضر الشهود ونظروا اليه فان الإمام بادرهم بالقول وهو على تلك الحال السيئة من الضعف لشدّة التسمم:

لقد سمّني هؤلاء بتسع تمرات، ولهذا فسوف يخضر بدني غداً وسوف افارق الدنيا بعد غد(9).

وقد تحقّق بعد ذلك نفس ما تنبأ به الإمام (عليه السلام).

وبعد يومين ـ اي في الخامس والعشرين من شهر رجب  183  هـ . ق.(10) (حزنت السماء والارض وُنكب أهل الايمان ولا سيّما الشيعة بفقدان قائدهم الحقيقي وإمامهم الحبيب.

وبهذه العبارات المتواضعة نخاطب ذلك الإمام العظيم:

في ذلك الوقت... عند غروب الشمس يهبّ النسيم العليل فيبدأ سعف النخيل يهمس في اذن بعضه البعض ويتناجى بنشيد ملحمة حياتك ايّها الإمام الفذ، ويرسل مع ذلك النسيم المهاجر رسالة تتضمن كل الوان الظلم التي جرت عليك...

وفي الربيع عندما ينشق ويتفجّر حزن السماء الكئيبة فتتساقط دموع السحاب، تمثّل هذه الدموع همّ وحزن اتباعك الذين يتجرّعون الوان الظلم على طول التاريخ فيبكون عليك ايّها الإمام العظيم !

لكنّ الستائر الغليظة لهذه الدموع لا يمكن ان تحول دون رؤية ملحمتك وصمودك وصبرك وبالتالي شهادتك في سبيل الحق، واذا كنّا نبكيك واقفين حتّى نجلّ فيك الصمود والوقوف، وحتّى ينهض التاريخ اجلالاً لبطولتك.

فسلام لك من اروع واشجع نقطة في اعماق قلوبنا دائماً ومن غير انتهاء...

 



(1) ـ حياة الإمام: ج 2 ص 77.

(2) ـ مقاتل الطالبيين: ص 463 ـ 497.

(3) ـ الامالي للشيخ الطوسي: ص 206، الطبعة الحجريّة.

(4) ـ الامالي الشيخ الطوسي: ص 206.

(5) ـ رجال الكشي: ص 440 ـ 441. ويقول الإمام الصادق وهو والد الإمام الكاظم(عليهما السلام) ليونس بن يعقوب: لا تعنهم حتى في بناء المجسد أيضاً. الوسائل :  ج 12  ص 120  ـ  130  .

(6) ـ الغيبة للشيخ الطوسي، الطبعة الحجرية: ص 21.

(7) ـ تاريخ بغداد: ج 13 ص 32.

(8) ـ الغيبة الشيخ الطوسي: ص 22 ـ 25، الطبعة الحجرية.

(9) ـ عيون اخبار الرضا: ج 1 ص 97.

(10) ـ الكافي: ج 1 ص 486. الانوار البهيّة: ص 97.