الامام الثّامن

الامام أبو الحسن علي بن موسى الرّضا (عليه السلام):

في اليوم الحادي عشر من شهر ذي القعدة عام: 148 هجرية وفي بيت الامام موسى بن جعفر في المدينة ولد له ولد(1)، تولّى بعد والده صياغة تاريخ الايمان والعلم والامامة. وقد سُمّي بـ «عليّ» وعُرف بين النّاس بـ «الرّضا».

وتُسمّى أمّه بـ «نجمة»(2)، وقد كانت من افضل النّساء في العقل والايمان والتّقوى، واساساً فانّ أئمّتنا الطّاهرين جميعاً كانوا من نسل افضل الاباء وقد تربّوا في احضان أكرم الامّهات وأشرفهنّ.

وقد تسلّم الامام الرّضا (عليه السلام) عام 183 هجريّة (وبعد استشهاد الامام الكاظم (عليه السلام) في سجن هارون) المنصب الالهيّ للامامة وهو في سنّ الخامسة والثّلاثين واصبح قائداً لمسيرة.

مقدّمة

... انّ الشمس الامامة تجليّا خاصّاً في كل واحد من البروج الاثني عشرة، ولكنّ الشمس هي الشمس من ايّ افق اشرقت، فنورها وشعاعها يعشي العيون، وحرارتها واشراقها يمنح الحياة ويبنيها، فمن اشواك شجيرات الصحراء الى الاشجار العالية في البستان كلّها محتاجة اليها، وأيّة ورقة لا تستطيع ان تعيش من دون لمس اصابع شعاعها، واي غصن لا يمكن ان يثمر بدون الاستمداد من ضيائعها الحاني... أجل انّها الشّمس، ولولا الشمس فانّ عالمنا الحيّ محكوم عليه بالفناء.

ودور امامة ائمتنا المعصومين في نظام العالم المعنويّ ولاستمرار وتقدم حياة الاسلام والمسلمين يشبه دور الشمس وضيائها وحرارتها في العالم المادي، فكلّ واحد من هؤلاء الكرام قد اشرق واضاء وهدى في الظروف الخاصّة التي عاشها وفي جميع الابعاد التي تقتضيها الضرورات وتحتّمها مرحلته الزمنيّته، فاستمّر في تربية اتباعه وصياغتهم بالشكل المطلوب، وقد تجلّى كل واحد منهم من خلال ميزات عصره، فبعض قد صاغ ملحمته في ميدان القتال وكتب رسالته للعالم بدمه الطاهر، وبعض منهم امتطى منبر التدريس وكرّس كل جهده لنشر العلوم والمعارف، والبعض الاخر اخذ على عاتقه عبىء انضال ضدّ الطاغوت، وتحمّل في سبيل ذلك الوان التعذيب والسجون، و... وعلى كل حال كانوا شمس المجتمع وقد انهمكوا في ايقاظ المسلمين الحقيقيين وتربيتهم، واذا لا حظنا بعض الاختلافات في سيرتهم رعايةً للضرورات فانّه لا شكّ لدى الواعين بكونهم متّحدين في الهدف، والهدف هو الله وسبيله واشاعة دينه ونشر كتابه وتربية عباده...

أجل إنّ ائمّتنا (صلوات الله وسلامه عليهم اجمعين) لمّا كانوا متميّزين بمنصب العصمة والامامة، ممّا هو مختص بهم، وبالحكمة والعلم اللازمين للامامة وهما من المنح الالهيّة، وبتأييد خاصّ من الله تعالى، فقد كانوا اعلم من ايّ شخص آخر بخصائص عصورهم والضرورات السائدة فيها وبأسلوب القيادة في كلّ مرحلة من المراحل، وتعتبر هذه الحقيقة واضحة جدّاً لدى المعتقدين بالاسلام الواقعي المنزّه من الانحراف، والمؤمنين بتعيين الامام بأمر الله وابلاغ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في الحادثة التاريخيّة لغدير خم، وهو امر لا يرتفع اليك الشّكّ، وتاريخ حياة ائمّتنا الطّاهرين مليء بالوقائع والحوادث التي تنبىء عن وجود مثل هذا العلم والرؤية الالهيّة لدى هؤلاء المكرمين.

وهذا العلم الميحط للامام بجميع ابعاد المجتمع وجوانب عصره وعلمه واحاطته بجميع حقائق الوجود وما يقع من حوادث حتى يوم البعث هو الذي جعل المعصومين يتعاملون مع مسائل عصرهم بدقّة رائعة ويستخدمون افضل الاساليب في سبيل تقدّم الاهداف الالهيّة، وكمثال رائع على ما قلناه نذكر الامام عليّ بن موسى الرّضا (عليه السلام) فهو قد تسلّم منصب الامامة بعد والده الكريم اثناء خلافة هارون الرشيد وبد أينشر موضوع امامته من دون تحرّج، بينما كان اصحابه المقرّبون خائفين عليه. وقد واجههم بصراحة قائلاً لهم: «لو انّ أبا جهل استطاع ان ينقص شعرة من رأس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فان هارون ايضاً يستطيع ان يحلق بي ضرراً»، وهذا يعني انّ الامام كان على علم يقينيّ بأنّ شهادته لن تكون على يد هارون القذرة، وكان يعلم ايضاً ان عمره الشّريف سوف يمتدّ الى سنين لا حقة. والالتفات الى هذا العلم هو بنفسه عامل مهمّ في فهم اساليب عمل هؤلاء القادة الحقيقيّين.

وقد عاش ثامن المعصومين الامام عليّ بن موسى الرّضا (عليهما السلام) في عصر وصلت فيه خلافة العباسيّين المتعسّفه الى ذروة قدرتها، وذلك لانّ بني العبّاس ليس فيهم ملك اعظم واقوى من هارون والمأمون، ومن ناحية اخرى فقد شُيدت سياسة بني العبّاس مع الائمّة الطّاهرين: وبالخصوص منذ زمان الامام الرضّا (عليه السلام) فما بعد على المكر والخداع والنّفاق والتّظاهر، فمع انّهم كانوا متعطّشين لدماء أهل البيت الطّاهرة إلاّ انّهم كانوا يبذلون قصارى جهدهم ليظهروا انّ لهم علاقات حميمة مع أهل بيت أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام)، وذلك ليطمئنّوا انّ العلويّين سوف لن يثوروا عليهم وليكسبوا قلوب الشّيعة والايرانيّين، وبهذا فهم يؤمّنون لانفهسم وضعاً قانونيّاً مشروعاً، ويمكننا ملاحظة اوج هذه السّياسة الخدّاعة في حكومة المأمون...

وقد اتّخذ الامام الرّضا (عليه السلام) في مقابل هذه الطّريقة الخدّاعة للمأمون اسلوبا يتّسم بالدقّة العمليّة المنقطعة النّظير بحيث تحرم المأمون من اهدافه وتقرّب المسلمين المنتشرين في الارجاء الواسعة للبلاد الاسلاميّة الى الحقّ في نفس الوقت بحيث يدركون أنّ الخلافة الاسلاميّة الحقيقيّة قد جُعلت من قبل الله تعالى والنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) على عاتق الائمّة الطّاهرين:، وليس هناك غيرهم من هو اهل لهذا المنصب الرّفيع.

ولو دقّقنا النّظر (لوجدنا انّ الخلفاء الامويّين والعبّاسيّين كانوا يراقبون بدقّة وضع الائمّة:) لوجدنا انّ الخلفاء الامويّين والعبّاسيّين كانوا يراقبون بدقّة وضع الائمة: ويتعقّبونهم ويحولون دون اتّصال النّاس بهم ويسعون لئلاّ يتعرّف عليهم النّاس وليكونوا خاملي الذّكر ، ولهذا السبّب فانّ ايّ واحد من الائمة الكرام (عليهم السلام) بمجّرد ان يطير اسمه في البلاد الاسلاميّة فانّه يُقتل أو يُدّس اليه السُمّ من قبل الخلفاء، ومع انّ قبول ولاية العهد كان بالاجبار، هذا من ناحية ومن ناحية اخرى فقد كان قبول الامام مرهوناً بتحقّق عدّة شروط بحيث يغدو بمثابة عدم القبول، لكنّه في نفس الوقت قد ذاع هذا الامر في البلاد الاسلاميدة القربية والبعيدة، وعرف الناس انّ المأمون قد اعترف بانّ الامام الرّضا (عليه السلام) قدوة للامّة وأهل للخلافة، وان المأمون قد طلب منه (عليه السلام) ان يقبل الخلافة فرفضها وأصرّ عليه بولاية العهد فقبلها ضمن شروط، وهذا نفسه يعدّ انتصاراً كبيراً لصالح منهج الامام وهزيمة قاصمة لسياسة خلفاء الجور...

ومن المناسب ان نقارن هذه الحادثة الى واقعة الشّورى الّتي فرضها الخليفة الثّاني عمر بن الخطّاب وأشرك فيها أمير المؤمنين عليّاً (عليه السلام)، ومن الغريب ان الامام الرّضا (عليه السلام) قد اشار الى ما بين هاتين الحادثتين من تشابه.

فقد أمر عمر بن الخطّاب قبل موتخ بتشكيل شورى بعد موته يشترك فيها عثمان وطلحة وعبد الرّحمن بن عوف وسعد بن أبي وقّاص وأمير المؤمنين علي (عليه السلام)، وذلك ليختار هؤلاء الستّة خليفة من بينهم، ثمّ أوصى بقتل كلّ من يخالف قرار الشّورى، وقد أُعدّت القضيدة بحيث يبقى عليّ (عليه السلام) محروماً من الخلافة، ولمّا كانوا على علم بانّ الخلافة حقّه، فقد تنبّأوا بانّه سوف يخالف عندما يُنتخب غيره للخلافة ويسنفّذ فيه القتل، ويصبح قتله مشروعاً وجائزاً !! وقد سأل الامام أمير المؤمنين بعضُ المقرّبين اليه: لماذا وافقت على الاشتراك في هذه الشّورى مع انّك كنت تعلم بانّ الخلافة سوف لن تُعطى لك؟

فأجاب: لقد أعلن عمر بعد النبيّ (بواسطة جعل حديث) انّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال:

«إنّ النّبوّة والامامة لا تجتمعان في بيت واحد». (بمعنى انّه يزعم بانّه قد أبعدني عن الخلافة ولم يرني اهلاً لها امتثالاً للنبيّ (عليهم السلام) !)، وهذا هو عمر نفسه يقترح عليّ ان اشترك في هذه الشّورى ويراني اهلاً للخلافة، فأنا اشترك في هذه الشّورى لاثبت انّ تصرّف عمر لا ينسجم مع تلك الرّواية.

أجل فمن نتائج قبول الامام الرّضا (عليه السلام) لولاية العهد انّ المجتمع الاسلاميّ الواسع قد عرف من هو الاحقّ بالولاية، فالمأمون بعلمه هذا قد اعترف بحقيقة ضخمة، وفي هذه الاثناء ايضا قد مرّ الامام (عليه السلام) (خلال سفره من المدينة الى مَرْو) بمدن كثيرة من البلاد الاسلاميّة وواجه أناساً كثيرين، وقد كان النّاس في تلك الحقبة التاريخيّة محرومين من كثير من المعلومات بسبب فقدان وسائل الاعلام، وبذلك فقد تحقّق لهم لقاء الامام ومشاهدة الحقّ عن كثَب ، وقد كانت لذلك آثار ايجابيّة كثيرة تستحقّ الذّكر والدّراسة، ويمكننا ملاحظة نموذج ذلك في نيشابور وهجوم النّاس المتشاقين عليه، وفي صلاة العيد في مدينة مَرو، و...

وفي هذا المضمار نستطيع ذكر تعرّف كثير من المفكّرين والعلماء على الامام واشتراكهم معه في جلسة مناظرة ومباحثة بحث تجلّت لهم عظمة الامام العلميّة، وانهزم المأمون وتحطّمت مؤامراته لاهانة الامام (عليه السلام)، كلّ هذه الامور لابد من عدّها من جملة الاثار الايجابيّة لسياسة الامام (عليه السلام)، وهي تحتاج الى دراسة مبسوطة.

وعلى كلّ حال ففي دراسة حياة ايّ واحد من الائمّة: لابدّ من الاخذ بعين الاعتبار الابعاد المختلفة لوجودهم المبارك، وكما انّ تاريخ حياة الانبياء (الّذين كانت أعمالهم نابعة من منبع الوحي) لا يمكن دراسته بالعمايير التي يُدرس بها تاريخ الملوك والسّاسة والمستبدّين، فكذا تاريخ حياة الاوصياء والائمّة: فانّه لا تتيسّر دراسته بمعايير حياة النّاس العاديّين، وذلك لانّ الاوصياء والائمة كالانبياء: يتميّزون بخاصّة مقصورة عليهم وهي الارتباط المعيّن بخالق الكون.

 


(1) ـ ليرجع من شاء الى الكافي: ج 1 ص 286، واعلام الورى: ص 302، وارشاد المفيد: ص 285، وقاموس الرجال: ج 11 ص 31 من الملحقات.

(2) ـ  ولها اسم آخر هو «تكتم».