الامام في عصر المأمون:

يعتبر المأمون بين خلفاء بني العبّاس اعلمهم واكثرهم مكراً وخداعاً ، فقد كان متعلّماً ومطّلعاً على الفقه وبعض العلوم الاخرى، كما انّه قد شارك في بعض جلسات البحث والمناظرة مع بعض العلماء، ومن الواضح ان احاطته بعلوم عصره كانت وسيلة لتنفيذ سياساته اللاّانسانيّة، واِلاّ فانّه لم يكن مقيّداً بالدّين الاسلاميّ الحنيف ولم يقلّ عن سائر الخلفاء في مجال اللّهو والفسق والفجور وسائر الافعال الشّنيعة، غاية الامر انّه كان اشدّ احتياطاً في سلوكه من سائر الخلفاء، ويتوسّل بختلف الحيل والرّياء لخداع عامّة النّاس، ولكي تستحكم أسس سطلته فانّه كان يجالس الفقهاء في بعض الاحيان ويحاورهم في المسائل والبحوث الدينيّة.

ومجالسة المأمون وصداقته الحميمة مع « القاضي يحيى بن أكثم » ( وهو رجل ساقط منحطّ فاجر) تعتبر افضل شاهد على فسق المأمون وانحطاطه وعدم تقيّده بالدّين. فيحيى بن أكثم كان مشهوراً في المجتمع بأفظع الاعمال الّتي يستحي القلم من بيانها، ومثل هذا الشّخص يقرّ به المأمون اليه بحيث يصبح «رفيق المسجد والحمّام والبستان»، والاعظم من هذا (وهو ما يدعوا للاسف الشّديد) انّه قد عيّنه «قاضيا للقضاة» للامّة الاسلاميّة ويشاوره الرأي في شؤون الدّولة المهمّة !!(1)

وعلى أيّة حال ففي عصر المأمون كان يتم ترويج العلم والمعرفة بحسب الظاهر، وكان العلماء يُدعون الى مركز الخلافة، ويبذل المأمون الهبات والمشجّعات للباحثين وذلك لاعداد الارضيّة لا نجذابهم نحوه، وكان يعقد مجالس الدّرس والمباحثة والمناظرة، وبذلك راجت سوق الدّراسة العلميّة وارتفع نجمها.

وعلاوة على هذا فقد حاول المأمون جذبَ الشّعية واتباع الامام اليه من خلال القيام ببعض الاعمال، فمثلاً كان يتحدّث عن انّ علياً (عليه السلام) اكثر أهليّة وأولى بان يصبح خليفة للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد جعل لعن معاوية وسبّه امراً رسميّاً، وأعاد للعلويّين ما غُصب من حقّ فاطمة الزّهراء (عليها السلام) في «فدك» واظهر تعاطفاً مع العلويّين وحبّاً لهم(2).

واساساً فانّ المأمون من خلال التفاته الى سلوك هارون وجرائمه والاثار السيّئة الّتي تركتها في نفوس النّاس كان يحاول القضاء على ارضيّة الثّورة والتّمرّد، ويبذل قصارى جهده لارضاء النّاس حتّى يستطيع بسهولة الاستقرار على مركب الخلافه، ومن هنا لابدّ من القول انّ الوضع العامّ في ذلك الزّمان كان يستوجب ان يهتمّ برفع النقائض وما يؤذي النّاس، وان يظهر بانّه في صدد اصلاح الامور وهو يختلف عن الخلفاء الاخرين...

 

(1) ـ يحسن الرّجوع الى التواريخ التي تستعرض خلافة المأمون وتشرح حياة « يحيى بن أكثم » ومن جملتها «مروج الذهب» للمسعودي وتاريخ «ابن خلكان».

(2) ـ الامام الرضا، محمّد جوا فضل الله: ص 91، ونقلاً عن تاريخ الخلفاء للسيوطي: ص 284 و308.