في بلاد الشام:

وجيء ببعض السبايا الى يزيد بن معاوية بالشام فادخلوهم عليه وهم مقيدون بحبل واحد، فالتفت الإمام بجرأة وإباء الى يزيد وقال:

» ما ظَنُّكَ بِرَسُولِ اللهِ لَوْرَآنا مُوَثَّقِينَ فِي الحِبال « .

اثارت عبارته القاطعة على اختصارها شجون الحاضرين وجعلتهم يبكون(1).

روى البعض: كنت في الشام حين جيء بسبايا آل محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) وكان في سوق الشام مسجد تحفظ فيه الاسرى، فتقدم شيخ من أهل البلاد منهم وقال: الحمد لله الذي أهلككم وأطفأ الفتنة ـ واكثر من الكلام البذيء. فلما فرغ من كلامه قال له الإمام زين العابدين (عليه السلام).

سمعت مقالتك واَبنتَ لي عن العداء والضغن الذي في قلبك فاسمع مني كما سمعت منك.

قال: قل.

قال (عليه السلام): فهل قرأت القرآن؟

قال: قد قرأت.

              قال (عليه السلام): فهل قرأت [ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْه أجْراً اِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى](2).

   قال: قرأتها.

قال (عليه السلام) فنحن القُربى يا شيخ.

ثم قال (عليه السلام): فهل قرأت (آتِ ذَا القُرْبى حَقَّهُ)(3).

قال الشيخ بلى قرأتها.

قال (عليه السلام): فنحن ذووالقربى، الذين أمر الله نبيه بايتائهم حقهم.

فقال الرجل: أأنتم هم؟

قال الإمام (عليه السلام): بلى. فهل قرأت آية الخمس (وَاعْلَمُوا أنَّ ما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيء فَاَنَّ للهِِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى)(4).

قال: بلي قرأتها.

قال (عليه السلام): فنحن هم. فهل قرأت آية التطهير (إِنَّما يُريدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرَّجْسَ أهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّركُمْ تَطْهيراً)(5).

فرفع الشيخ يديه نحو السماء وقال: رباه تبتُ اليك... قالها ثلاثاً، الهي تبت اليك من عِداء آل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأبرأ اليك من قتلتهم، قد قرأت القرآن من قبل فما علمت ذلك(6).

 

الإمام (عليه السلام) في مسجد الشام:

أمر يزيد يوماً أحد الخطباء ليرقى المنبر ويسبَّ علياً. وابنه الحسين (عليهما السلام) وينال منهما، فرقى الرجل المنبر، وأطلق لسانه فيهما يسبهما شر سباب وينعتهما باقبح النعوت ويثني على يزيد ومعاوية.

وكان الإمام (عليه السلام) حاضراً فصاح: الويل لك أيها الرجل اشتريت رضى المخلوق بسخط الخالق، فتبوّأ مقعدك من النّار.

ثم التفت الى يزيد وقال: دعني أرتقي هذه الاعواد فأقول ما يرضي الله ويُنال به الأجر والثواب.

فامتنع يزيد باديء الامر، وأصرّ عليه النّاس ليقبل فقال: انّه ان ارتقاه فلن ينزل منه الاّ بفضيحتي وفضيحة آل أبي سفيان.

   فقالوا له: وما ذا بوسعه ان يقول؟

قال: انّه من أهل بيت زقوا العلم زقّا وارتضعوه ارتضاعاً.

فأصر النّاس على يزيد أكثر فقبل، وارتقى الإمام (عليه السلام) المنبر فحمد الله واثنى عليه وصلى على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال:

الحمدُ لله القديم الباقي، الأول الذي لا أول قبله، والاخر الذي لا آخر بعده، الباقي بعد فناء كل شيء(7).

أيها النّاس... ان الله أعطانا العلم والحلم والصبر والسخاء والفصاحة والشجاعة والمحبة في قلوب المؤمنين...

منا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وصدّيق هذه الأمة أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، ومنّا جعفر الطّيّار، ومنا حمزة سيّد الشهداء، ومنّا الحسن والحسين ابنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومنا مهديُها(8).

   ... أنا ابن مكة ومنى.

أبا ابن زمزم والصفا.

أنا ابن من حمل الحجر (الأسود) بأطراف الردا(9).

أنا ابن خير من حرم وطاف وحجّ وسعى.

أنا ابن من اُسري به ليلاً من المسجد الحرام الى المسجد الأقصى(10).

أنا ابن من أوحى الله له ما أوحى.

أنا ابن الحسين المقتول بكربلا.

أنا ابن محمد المصطفى.

أنا ابن فاطمة الزهراء.

أنا ابن خديجة الكبرى.

أنا ابن المضرج بالدما(11).

وكان الإمام (عليه السلام) يتكلم والنّاس ينظرون اليه، وهو يظهر في كل جملة عظمة البيت الذي ينتسب إليه، وعمق شهادة أبيه الحسين (عليه السلام). واغرورقت العيون بالدموع واحتبست أصوات البكاء والنحيب في الحناجر، ثم سمعت أصوات بكاء محتبس من كل ناحية، فذعر يزيد ذعراً شديداً، وأمر المؤذن ليرفع صوته بالاذان فيهدأ النّاس ويقطع كلام الإمام.

فقال المؤذن: الله اكبر.

قال الإمام (عليه السلام): من على ظهر المنبر: الله اكبر وأعلى وأجل وأرفع مما أخافُ وأحذر.

فقال المؤذن: أشهد أن لا اله إلاّ الله.

فقال الإمام (عليه السلام): أجل أشهد بكل شهادة أن لا إله إلاّ هو.

فقال المؤذن: أشهد أن محمّداً رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

(وكانت الرؤوس مطأطأة الى الأرض تنصت بتأمل الى صوت المؤذن وجواب الإمام، فلما ذكر اسم محمّد (صلى الله عليه وآله) صعّد الناس بأنظارهم نحو الإمام (عليه السلام) وفي أعينهم حجاب الدموع كأنّهم يرون فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

فرفع الإمام العمامة من رأسه وصاح: عليك بمحمّد هذا اِلاّ ما تريثت... (فسكت المؤذن، وأنصت النّاس... وتحيّر يزيد، وتغيّر لونه، فحتى الاذان لم يسكت الإمام).

والتفت الإمام (عليه السلام) الى يزيد وقال:

... يا يزيد ! أهذا جدي أم جدك؟ فان قلت جدك، كذبك النّاس، وان قلت جدّي فلم قتلت أبي ونهبت ماله وسبيت حرمه؟ !

… يا يزيد… ألا زلت تصدق أن محمّداً رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتقف الى القبلة تصلي؟... الويل لك... سيكون جدِّي وأبي خصيميك يوم القيامة.

فأمر يزيد المؤذن ليقيم، هذا والنّاس منزعجون، وغادر بعض المسجد ولم يحضر الجماعة(12).

ويحدثنا التاريخ نفسه ـ والتاريخ خير محدِّث ـ عن مدى التأثير الذي تركته أقوال الإمام وخطاباته في سفره هذا، فقد أرجع يزيد الإمام السجاد (عليه السلام) ومعه جميع أهل البيت معززين مكرمين الى المدينة، وكان قد أضمر ليقتلنّه. ولم يمض وقت طويل حتّى ارتفعت رايات الثورة ضد النظام الاموي في العراق والحجاز، وثار الآلاف من النّاس يطالبون بالثأر لدماء سيد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام)، ولا نزاع في ان سبي حرم الحسين (عليه السلام) وأهل بيته الكرام، وخطاباتهم واحاديثهم مع النّاس، وبالأخص خطب الإمام السجاد (عليه السلام) الرنانة في الفرص المواتية خير متمم ومبلغ الأهداف المرجوة من ثورة سيد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام).

 

 

 


(1) تذكرة الخواص، ص 149، طبعة فرهاد ميرزا.

(2) سورة الشورى، الآية 23.

(3) سورة الإسراء، الآية 26.

(4) سورة الأنفال، الآية 40.

(5) سورة الأحزاب، الآية 33.

(6) الاحتجاج للطبرسي ص 167، طبعة النجف عام 1350 هـ. ق.

(7) الكامل للشيخ البهائي ج 2 ص 300.

(8) نفس المهموم للمحدّث القمي ص 284. المطبعة الإسلامية.

(9) اشارة الى قصة وضع الحجر الأسود بيد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في العام الخامس والثلاثين بعد عام الفيل.

(10) إشارة الى قصه المعراج.

(11) الكامل للبهائي ج 2 ص 300.

(12) الكامل للبهائي ج 2 ص 300 ـ 302 باختصار.