الإمام العليل:
يطلق
كثير من العامة على الإمام الرابع اسم (علي
العليل)، وقد يظنون ان ذلك العظيم قضى
عمره مريضاً متشكياً، ولذا كان البعض
يتخيل الإمام (عليه السلام)
باهت اللون خائر النفس.
لكن
الواقع خلاف ذلك وانه
(عليه السلام) قضى عمره صحيحاً سليم
الجسم،لم يزره المرض الا مدّة قصيرة
بكربلاء أيام مصرع أبيه، وكان له وقاء
من الموت، وقاه الله به ومنعه من أن تصل
اليه أيدي أعوان يزيد فلا تنقطع بموته
سلسلة الإمامة ويتعرض مستقبل الإسلام
للخطر.
وفيما
يلي بعض الروايات الوارده في مرضه:
روى
الشيخ المفيد في الإرشاد: أقبل الشمر
في جماعة من الجند الى الخيام، وفيها
علي بن الحسين
(عليه السلام) وهو مريض طريح الفراش(1).
وكتب
مؤلف تذكرة الخواص يقول: ولم يقتلوا
علي بن الحسين (عليه السلام)
لانّه كان مريضاً(2).
وجاء
في الطبقات: ان الشمر جاء علي بن الحسين
(عليه
السلام)
بعد شهادة أبيه الحسين (عليه
السلام)
وكان مريضاً، فقال لمن حوله اقتلوه،
فقال رجل من حوله، سبحان الله أنقتل
الفتى وهو مريض ولم يسهم بقتال؟ !.
فأقبل
ـ عمر بن سعد ـ وقال لا تمسوا النساء
وهذا المريض(3).
وكتب
البعض ان مرضه أو بقاياه لم يزل به حتى
قدم الكوفة(4).
ثم
لم يرى الإمام بعدها مريضاً أبداً بل
دلت القرائن التي في أيدينا انّه
(عليه
السلام)
كان يتمتع بصحة تامة شأنه شأن سائر
الأئمة لم يصب في حياته إلا في بعض
الأوقات(5)،
وكان يؤدي واجبات الإمامة بصورة رتيبة.
الإمام السجّاد (عليه السلام) وولاة عصره:
ولي
الحكم في عهد إمامة السّجّاد
(عليه السلام)
العديد من ولاة الجور والحكام الظلمة
منهم يزيد بن معاويه، وعبد الله بن
الزبير، ومروان بن الحكم وعبد الملك بن
مروان، والوليد بن عبد الملك، وقد حكم
كل منهم المسلمين ردحاً من الزمن،
ونذكر فيما يلي جوانب من جرائهم للتعرف
على أحوال ذلك الزمان.
في
العام الثاني والستين من الهجرة وبعد
مقتل سيد الشهداء الإمام الحسين
(عليه
السلام)،
خرج جمع من أهل المدينة الى الشام
فدخلوها وشاهدوا يزيد عن قرب يشرب
الخمر ويلهو مع الكلاب ويقضي ليله في
اللهو واللعب والفجور، فعادو وحدّثوا
النّاس بالخبر وكان مقتل الإمام
الحسين
(عليه السلام)
قد أحزن أهالي المدينة فرفعوا لواء
الثورة(6)،
فبعث يزيد جيشاً بقيادة شخص ساقط ومنحط
يدعى ـ مسلم بن عقبة ـ لقمع الخارجين
عليه فاغار الجيش على المدينة ثلاثة
أيام ونهبوا الدور وأباحوا الدماء
وقتلوا عشرة الآلاف رجل، ولم يتورعوا
عن ارتكاب أقبح الجرائم وأشنعها(7).
وبعد
موت يزيد في العام الرابع والستين من
الهجرة، استوى على مقعد الحكم بعده
ابنه معاوية، لكنّه بعد مدة قصيرة ـ
أربعين يوماً أو ثلاثة أشهر ـ عاد
فارتقى المنبر وأعلن استقالته وتنازله
عن الحكم(8).
وكان
عبد الله بن الزبير طامعاً في الخلافة
منذ أمد غير قصير، فأعلن الثورة بموته،
وبايعه عليها أهل الحجاز واليمن
والعراق وخراسان، وتصدّى لمخالفته
مروان بن الحكم الذي كان قد احتال
للاستيلاء على الحكم، فتمكن بشتى
الحيَلْ من إخضاع الشام ومصر لسلطانه
وادخالهما تحت نفوذه، ولم يلبث حتى
مات، فخلفه من بعده ابنه عبد الملك(9).
تولى
عبد الملك بن مروان الحكم في العام
الخامس والستين من الهجرة، وبعد تثبيت
أقدامه حاصر عبد الله بن الزبير في
مكّة في العام الثالث والسبعين الهجري
فاعتقله ثم أمر به فقتل(10).
كان
عبد الملك رجلاً قاسي القلب بخيلاً
ظالماً، قال يوماً ـ لسعيد بن المسيب ـ
صرتُ لا اُحب الخير ولا أبغض القبيح
فقال له سعيد: فقد مات قلبك اذن.
قال
في خطبة خطبها بعد مقتل عبد الله بن
الزبير: ما دعاني أحد الى التقوى اِلا
ضربت عنقه(11).
من
عظيم جناياته انّه أسند الى ـ الحجّاج
بن يوسف ـ ولاية البصرة والكوفة،
والحجاج من أبطش رجال بني امية وأعظمهم
سفكاً للدماء كان يعشق القتل والظلم
فكان يعذّب النّاس وينكّل بهم ويقتلهم
خصوصاً شيعة علي
(عليه السلام)
وقد قتل في فترة ولايته ما يقرب من مئة
وعشرين ألف رجل(12).
كان
عبد الملك شديد المراقبة للإمام
(عليه السلام)
وجهد ليظفر منه ما يتمسك به ذريعة
للنّيل منه.
تزوج
الإمام السجّاد
(عليه السلام) جارية له كان قد اعتقها
نفسه فعلم عبد الملك الخبر فكتب له
كتابا يعرّض به فقال:
»
بلغني تزويجك مولاتك وقد علمت انّه كان
كان في اكفائك من قريش من تمجّد به في
الصهر وتستنجيه في الولد فلا لنفسك
نظرت ولا على ولدك أبقيت والسلام « .
فكتب
اليه الإمام جواباً على ما جاء في
كتابه:
»
أما بعد فقد بلغني كتابك تعنفي بتزويجي
مولاتي وتزعم انّه كان في نساء قريش من
أتمجّد به في الصهر واستنجبه في الولد
وانّه ليس فوق رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم)
مرتقى في مجد ولا مستزاد في كرم انّما
كانت ملك يميني خرجت حتى أراد الله عزّ
وجلّ مني بأمر التمس به ثوابه ثم
ارتجعتها على سنة، ومن كان زكيّا في
دين الله فليس يخل به شيء من أمره وقد
رفع الله بالإسلام الخسيسة وتمم به
النقيصة «
(13).
أراد
عبد الملك تحقير الإمام
(عليه السلام) وإدخال الرعب في قلوب
النّاس والحيلولة دون أي نشاط فبعث
وراءه من يأتي به بعنف، فجيء به ثم
أعاده الى المدينة(14).
وبعد
موت عبد الملك في العام السادس
والثمانين الهجري خلفه ابنه ـ الوليد ـ
وكان رجلاً ظالماً جبّاراً، كتب جلال
الدين السيوطي عنه يقول: ـ كان الوليد
جباراً ظالماً ـ(15).
قال
في أول خطبة خطبها في النّاس: » ايّما
أحد تطاول قتلناه ومن يسكت قتله سكوته
«
(16).
كان
الوليد كغيره من الولاة الظلمة يخشى
الإمام
(عليه السلام)
و ذيوع صيته في النّاس وينزعج لعظم
مقامه وعلوّ منزلته، وكان يحذر ان يلتف
النّاس حوله ويهدّوا سلطانه، فلم يطق
تحمل وجوده في جماعة المسلمين فكاد له
حتى دس له السم وقضى مسموماً(17).
وبالتأمل
في أوضاع الفترة التي قضاها الإمام
السجّاد (عليه السلام)
إماماً حيث الأزمات الاجتماعية، و
التيارات المتضاربه، وولاة الجور
الظلمة، والمراقبة الشديدة له، وفقدان
الموالين المخلصين المضحين يتضح لنا
انّه ما كان له سبيل سوى الصراع السلبي
وتربية الموالين والتلامذة المخلصين
ونشر مسائل العلم والأخلاق.
رآه
أحدهم في طريق مكة حاجاً فقال له: تركت
سبيل الجهاد وعورته وأخذت طريف الحج؟
فقال
(عليه
السلام):
لو وجدنا اتباعاً مضحين لكان الجهاد
خيراً منه(18).
يروي
ابو عمر النهدي عن الإمام السجّاد انّه
كان يقول: ليس لنا في مكة والمدينة
عشرون رجلاً(19).
الإمام (عليه السلام) وتربية المسلمين:
من
جملة نشاطاته
(عليه السلام) بعد واقعة كربلاء،
وعودته الى المدينة، نشر الأحاديث
والعلوم الإسلامية بواسطة عدة من
المسلمين وتربيتهم.
فقد
ذكر الشيخ الطوسي في رجاله اثنين
وسبعين رجلاً من أصحاب الإمام (عليه السلام)
أو ممن يروي عنه بأسمائهم(20)،
نورد فيما يلي أسماء ثلاثة منهم:
1
ـ سعيد بن المسيّب: قال عنه الإمام
(عليه السلام)
نفسه، سعيد بن المسيّب ـ أعلم النّاس
بما تقدمه من الاثار، وأفهمهم في زمانه)(21).
2
ـ ابو حمزة الثمالي: قال فيه الإمام
الثامن ـ علي بن موسى الرضا ـ
(عليه
السلام)،
أبو حمزة سلمان زمانه(22).
3
ـ سعيد بن جبير: كان كثير العلم حتى قيل
عنه:
«
ليس على وجه الأرض من هو مستغن عن علم
ابن جبير
»(23).
إعتقله
رجال الحجاج يوماً، وجاءوا به عنده،
فقال الحجاج: انت شقي بن كسير لا سعيد
بن جبير(24).
فقال
سعيد: ان اُمي
اعلم
حينما سمتني سعيداً.
فقال
الحجاج: فما ترى في أبي بكر وعمر في
الجنة هما أم في النّار؟ (يريد أن يقول
سعيد شيئاً يقتله به).
فقال
سعيد: اذا دخلت الجنة ورأيت أهلها فسوف
أعلم من هم أهلها، وان وردت النّار
ورايت اهلها فسوف اعرفهم.
فقال
الحجاج: ما ترى في الخلفاء؟
قال
سعيد: لستُ موكلا بهم.
الحجاج:
فأيهم تحبه اكثر من غيره.
سعيد:
من كان أرضاهم لله.
الحجاج:
فأيهم أرضاهم لله.
سعيد:
الله العالم بالخفايا والأسرار يعلم
ذلك(25).
الحجاج:
لم لا تضحك؟
سعيد:
كيف يضحك من خلق من تراب وقد تحرقه
النّار.
الحجاج:
فلماذا نضحك نحن؟
سعيد:
قلوب النّاس ليست سواء.
فأمر
الحجاج ليؤتى بالمجوهرات وتوضع إمام
سعيد.
فقال
سعيد: ان إدخرت هذه لتنجوبها من عذاب
القيامة فلا بأس عليك وإلا فاعلم انّها
تذهل كل مرضعة عما أرضعت، فلا خير في
ادخار الثروة الاّ ما كان زكيّا خالصاً.
فأمر
الحجاج ليؤتى بالآت اللهو والطرب فبكى
سعيد.
قال
الحجاج: كيف تريد ان تقُتَل؟
قال
سعيد: كما تحب، والله ما قتلتني قتلة
إلا قتلكَ الله مثلها يوم القيامة.
قال
الحجاج: أترغب أن أعفو عنك.
قال
سعيد: ان كان هناك عفو فهو من عند الله
ولن اطلب صفحاً منك أبداً.
فأمر
الحجاج ليمد بساط القتل فقال سعيد، (وَجَّهْتُ
وَجْهِيَ للَّذي فَطَرَ السَّمواتِ
وَالاَرْضَ حَنيفاً وَما أنا مِنَ
الْمُشْرِكينَ(26).
فقال
الحجاج: حوّلوا وجهه عن القبلة.
قال
سعيد: فَاَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ
وَجْهُ اللهِ(27).
فقال
الحجاج: اجعلوا وجهه الى الأرض.
قال
سعيد: مِنْها خَلَقْناكُمُ وَفيها
نُعِيدكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ
تارَةً اُخْرى(28).
فقال
الحجاج: افصلوا رأسه.
قال
سعيد: أَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إلاَّ
اللهُ وَحْدَهُ لا شَريكَ لَهُ
وَاَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ
وَرَسُولُهُ. (صلى الله
عليه وآله وسلم).
ثم
دعا فقال: اللهم لا تسلّطهُ على أحد من
بعدي.
ولم
تمض سوى لحظات قليلة حتى كان دم سعيد بن
جبير الطاهر يجري بأمر من الحجّاج(29).
كان
سعيد بن جبير من صحابة الإمام
(عليه
السلام)
وشيعته، وكان الإمام
(عليه
السلام)
يجله كثيراً، ولم يكن له ذنب يؤاخذ
عليه الاّ قربُه منه(30).
(1)
الارشاد للشيخ المفيد ص 226.
(2)
تذكرة الخواص ص 183 مطبعة فرهاد ميرزا.
(3)
الطبقات ج 5 ص 157 طبعة ليدن.
(4)
اللهوف لابن طاووس ص 128 طبع سنه 1317 هـ.
ق.
(5)
الكافي ج 7 ص 56.
(6)
الكامل
لابن الاثير ج 4 ص 103.
(7)
البدآية والنهآية لابن كثير ج 8 ص 221
الطبعة الاولى.
(8)
الكامل لابن الاثير ج 4 ص 130.
(9)
تاريخ
الخلفاء للسيوطي ص 212 طبعة عام 1383 هـ.
ق.
(10)
الكامل لابن الاثير ج 4 ص 348 وما بعدها.
(11)
الكامل لابن الاثير ج 4 ص 521 ـ 522.
(12)
الكامل لابن الاثير ج 4 ص 587.
(13)
الكافي ج 5 ص 344.
(14)
تذكرة الخواص ص 183.
(15)
تاريخ الخلفاء ص 224.
(16)
تاريخ الطبري ج 8 ص 1178.
(17)
المناقب لابن شهر آشوب ج 3 ص 311.
(18)
الاحتجاج للطبري ص 171 طبعة النجف سنة
الطبع 1350 هـ. ق.
(19)
شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 4
ص 104 طبعة 20 جلد.
(20)
رجال
الشيخ الطوسي ص 81 وما بعدها.
(21)
رجال
الكشي ص 119 طبعة جامعة مشهد.
(22)
رجال
الكشي ص 119 طبعة جامعة مشهد.
(23)
المناقب لابن شهر آشوب ج 3 ص 311.
(24)
يُيرد
تحقيره.
(25)
رجال
الكشي ص 119.
(26)
سورة
الأنعام، الآية 79.
(27)
سورة
البقرة، الآية 115.
(28)
سورة
طه، الآية 55.
(29)
روضات
الجنّات ـ الطبعة الثانية (قديمه) ـ ص
310 باختصار.
(30)
رجال
الكشي ص 119. |