أمالي السيد المرتضى — الجزء الثاني

تأليف:

الشريف أبى القاسم على بن طاهر أبي احمد الحسين

المتوفي سنة 436 رضي الله عنه

في التفسير والحديث والادب

[2]

بسم الله الرحمن الرحيم

[ تأويل خبر ]

ان سأل سائل عن الخبر المروي عن عبدالله بن عمر أنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول ان قلوب بنى آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن يصرفها كيف شاء ثم يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك.

وعما يرويه أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من قلب آدمي إلا وهو بين أصبعين من أصابع الله تعالى فاذا شاء أن يثبته ثبته وان شاء أن يقلبه قلبه. وعما يرويه ابن حوشب قال قلت لام سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ما كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم قالت كان أكثر دعائه يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك فقالت قلت يا رسول الله ما أكثر دعاء‌ك يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك فقال يا أم سلمة ليس من آدمي إلا وقلبه بين أصبعين من أصابع الله عزوجل ما شاء أقام وما شاء أزاغ. فقال ما تأويل هذه الاخبار على ما يطابق التوحيد وينفى التشبيه أو ليس من مذهبكم أن الاخبار التي يخالف ظاهرها الاصول ولا تطابق العقول لا يجب ردها والقطع على كذب راويها إلا بعد أن لا يكون لها في اللغة مخرج ولا تأويل وان كان لها ذلك فباستكراه أو تعسف ولستم ممن يقول ذلك في مثل هذه الاخبار فما تأويلها.

الجواب ان الذي يعول عليه من تكلم في تأويل هذه الاخبار هو أن يقول ان الاصبع في كلام العرب وان كانت الجارحة المخصوصة فهي أيضا الاثر الحسن يقال لفلان على ماله وإبله أصبع حسنة أي قيام وأثر حسن.

قال الراعي يصف راعيا حسن القيام على إبله

ضعيف العصا بادي العروق ترى له * عليها إذا ما أجدب الناس إصبعا.

وقال طفيل الغنوي يصف فحلا

[3]

كميت كركن الباب أحيى بناته * مقاليتها فاستحشمتهن إصبع.

وقال لبيد بن بن ربيعة

من يبسط الله عليه إصبعا * بالخير والشر بأي أولعا

يملا له منه ذنوبا مترعا.

وقال حميد بن ثور

أغر كلون البدر في كل منكب * من الناس نعمى يحتذيها وإصبع.

وقال آخر

وأرزنات ليس فيهن ابن * ذو اصبع في مسها وذو فطن.

وقال آخر

أكرم نزارا واسقه المشعشعا * فإن فيه خصلات أربعا

حدا وجودا وندى وأصبعا والاصبع في كل ما أوردناه المراد بها الاثر الحسن والنعمة فيكون المعنى ما من آدمى إلا وقلبه بين نعمتين لله جليلتين حسنتين.

فان قيل هذا قد ذكر كما حكيتم إلا انه لم يفصل ما النعمتان وما وجه التثنية ههنا ونعم الله تعالى على عباده كثيرة لا تحصى. قلنا يحتمل أن يكون الوجه في ذلك نعم الدينا ونعم الآخرة وثناهما لانهما كالجنسين أو كالنوعين وان كان كل قبيل منهما في نفسه ذا عدد كثير لان الله تعالى قد أنعم على عباده بان عرفهم بأدلته وبراهينه ما أنعم به عليهم من نعم الدنيا والآخرة وعرفهم مالهم في الاعتراف بذلك والشكر عليه والثناء به من الثواب الجزيل والبقاء في النعيم الطويل. ويمكن أن يكون الوجه في تسميتهم للاثر الحسن بالاصبع هو من حيث يشار اليه

___________________________________

(1) أنشده في اللسان في مادة ص ب ع

من يجعل الله عليه إصبعا * في الخير أو في الشر يلقاه معا (*)

[4]

بالاصبع اعجابا به وتنبيها عليه وهذه عادتهم في تسمية الشئ بما يقع عنده وبما له به علقة وقد قال قوم في بيتى طفيل والراعي أنهما أرادا أن يقولا يدا في مكان الاصبع لان اليد النعمة فلم يمكنهما فعدلا عن اليد إلى الاصبع لانها من اليد وفي الاصبع التى هى الجارحة ثمان لغات. أصبع بفتح الالف والباء. وأصبع بفتح الالف وكسر الباء واصبع بضم الالف والباء. واصبع بضم الالف وفتح الباء.

وأصبوع بضم الالف مع الواو. وإصبع بكسر الالف والباء. وإصبع بكسر الالف وفتح الباء. وإصبع بكسر الالف وضم الباء.

وفي هذه الاخبار وجه آخر وهو أوضح مما ذكر وأشبه بمذاهب العرب في ملاحن كلامها وتصرف كناياتها وهو أن يكون المعنى في ذكر الاصابع الاخبار عن تيسر تصريف القلوب وتقليبها والفعل فيها عليه جلت عظمته ودخول ذلك تحت قدرته ألا ترى انهم يقولون هذا الشئ في خنصري وأصبعي وفي يدي وقبضتي كل ذلك اذا أرادوا تسهله وتيسره وارتفاع المشقة فيه والمؤنة وعلى هذا المعنى يتأول المحققون قوله تعالى (والارض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه) فكأنه صلى الله عليه وسلم لما أراد المبالغة في وصفه بالقدرة على تقليب القلوب وتصريفها بغير مشقة ولا كلفة وان كان غيره تعالى يعجز عن ذلك ولا يتمكن منه فقال انها بين أصبعين من أصابعه كناية عن هذا المعنى واختصارا للفظ الطويل وجريا على مذهب العرب في إخبارهم عن مثل هذا المعنى بمثل هذا اللفظ وهذا الوجه يجب أن يكون مقدما على الوجه الاول ومعتمدا عليه لانه واضح جلي.

ويمكن أن يكون(1) في الخبر وجه آخر على تسليم ما يقترحه المخالفون من ان الاصبعين هما المخلوقتان من اللحم

___________________________________

(1) لا يخفى ان هذه الاجوبة لا مدخلية لها في السؤال ولو كانت فليس ذلك محلا له لان البحث والسؤال ومحلهما في معني تصريفها كيف شاء واذا شاء أن يثبته ثبته وان شاء أن يقلبه قلبه وما شاء أقام وما شاء أزاغ وأمثالها في أمثال معنى هذا الحديث الشريف مماهو صريح في الجبر ورفع التكليف فان هذا هو الداء العضال وموضع انفصام العقول لافي معنى الاصبع وجواز قراء‌ة الاصبوع مما لا يسمن ولا يغنى من جوع اه‍ من هامش الاصل (*)

[5]

والدم استظهارا في الحجة واقامة لها على كل وجه وهو أنه لا ينكر أن يكون القلب يشتمل عليه جسمان على شكل الاصبعين يحركه الله تعالى بهما ويقلبه بالفعل فيهما ويكون وجه تسميتهما بالاصابع من حيث كانا على شكلهما والوجه في اضافتهما إلى الله تعالى وان كانت جميع أفعاله تضاف اليه بمعنى الملك والقدرة لانه لا يقدر على الفعل فيهما وتحريكهما منفردين عما جاورهما غيره تعالى فقيل انهما أصبعان له من حيث اختص بالفعل فيهما على هذا الوجه لان غيره إنما يقدر على تحريك القلب وما هو مجاور للقلب من الاعضاء بتحريك جملة الجسم ولا يقدر على تحريكه وتصريفه منفردا مما يجاوره غيره تعالى فمن أين للمبطلين المتأولين هذه الاخبار بأهوائهم وضعف آرائهم ان الاصابع ههنا اذا كانت لحما ودما فهي جوارح لله تعالى وما هذا الوجه الذي ذكرناه ببعيد.

وعلى المتأول أن يورد كلما يحتمله الكلام مما لا تدفعه حجة وان ترتب بعضه على بعض في القوة والوضوح ونحن نعود إلى تفسير ما لعله أن يشتبه من الابيات التي استشهدنا بها.

أما قوله - حدا وجودا وندى وأصبعا - فمعنى الحد المضاء والنفاذ وقول آخر - وأرزنات ليس فيهن أبن - فالارزنات العصى والابن العقد. فأما قول حميد بن ثور - في كل منكب من الناس - فالمنكب الجماعة والمنكب الناحية. وأما معنى أبيات لبيد فانه أراد من يسق الله اليه خيرا أو يصرف عنه شرا فعل ذلك به وأسبغ له حتى ينتهي منتهاه. فأما بيت طفيل الغنوي فمعناه ان هذا الفحل الذي وصفه بانه كميت وانه كركن الباب لتمامه وشدته لما ضرب في الابل التى وصفها عاشت أولادها التي هي بناته بعد ان كن مقاليت والمقاليت والمقلاة التي لا يعيش لها ولد فكان هذا منه أثراجميلا عليها.

فأما بيت الراعي فمعنى قوله - ضعيف العصا - يريد انه قليل الضرب لها أما لانهن لا يحوجنه سدادا وتأودا أو لشفقته عليهن وهذه كناية في نهاية الحسن واختصار شديد لانه قد يجوز أن يكون ضعيف العصا على الحقيقة من حيث لا يحتاج إلى استعمالها في الضرب فيختارها قوية ويجوز أن يكون حذف وأراد ضعيف فعل العصا. وقوله - بادي العروق - يعني عروق رجله لفاسدها من السعي في أثر هذا الابل وأراد - بالاصبع - ان له عليها في جدب الناس أثرا جميلا لحسن قيامه وتعهده. وقد قيل انه انما سمى الراعي لبيت قاله في

[6]

هذه القصيدة بعد بيتين من البيت الذي أنشدناه وهو

لها امرها حتى إذا ما تبوأت * بأحقافها مأوى تبوأ مضجعا

وهذا قول الاصمعي.

وقال السكري سمى بذلك لقوله في هذه القصيدة أيضا

هدان أخو وطب وصاحب علبة * يرى المجد أن يلقى خلاء ومرتعا

وروى عن بعض بني نمير انه قال انما سمي بذلك لقوله

تبيت مرافقهن فوق مزلة * لا يستطيع بها القراد مقيلا

فقال بعض بني نمير لما سمع هذا البيت والله ما هو إلا راعي إبل فبقيت عليه.

وقال محمد بن سلام انما سمي الراعي لكثرة وصفه الابل وحسن نعته لها واسمه عبيد بن حصين بن جندل وكنيته أبوجندل وقيل أبونوح