(مجلس آخر 32)

[ تأويل آية ]

إن سأل سائل عن قوله تعالى (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك

[77]

سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا باذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الآخرة من خلاق ولبئسما ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون). فقال كيف ينزل الله تعالى السحر على الملائكة أم كيف تعلم الملائكة الناس السحر والتفريق بين المرء وزوجه وكيف نسب الضرر الواقع عند ذلك إلى انه باذنه وهو تعالى قد نهى عنه وحذر من فعله وكيف أثبت العلم لهم ونفاه عنهم بقوله (ولقد علموا لمن اشتراه) ثم قوله (لو كانوا يعلمون). الجواب قلنا في الآية وجوه كل منها يزيل الشبهة الداخلة على من لاينعم النظر فيها.

أولها أن يكون ما في قوله (وما أنزل على الملكين) بمعنى الذي فكأنه تعالى اخبر عن طائفة من أهل الكتاب بانهم اتبعوا ما تكذب فيه الشياطين على ملك سليمان وتضيفه اليه من السحر فبرأه الله تعالى من قذفهم وأكذبهم في قولهم فقال وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا باستعمال السحر والتمويه على الناس ثم قال يعلمون الناس السحر وما أنزل عل الملكين وأراد انهم يعلمونهم السحر والذي أنزل على الملكين وما أنزل على الملكين وصف السحر وماهيته وكيفية الاحتيال فيه ليعرفا ذلك ويعرفاه للناس فيجتنبوه ويحذروا منه كما انه تعالى قد أعلمنا ضروب المعاصي ووصف لنا أعمال القبائح لنجتنها لا لنوقعها لان الشياطين كانوا اذا علموا ذلك وعرفوه استعملوه واقدموا على فعله وان كان غيرهم من المؤمنين لما عرفه اجتنبه وحاذره وانتفع باطلاعه على كيفيته ثم قال وما يعلمان من أحد حتى يقولا انما نحن فتنة يعني الملكين ومعنى يعلمان يعلمان والعرب تستعمل لفظة علمه بمعني أعلمه.

قال القطامي

تعلم أن بعد الغي رشدا * وأن لشابك الغير انقشاعا

وقال كعب بن زهير

تعلم رسول الله أنك مدركى * وأن وعيدا منك كالاخذ باليد

[78]

ومعني تعلم في البيتين معنى اعلم والذي يدل على ان المراد ههنا الاعلام لا التعليم قوله وما يعلمان من أحد حتى يقولا انما نحن فتنة فلا تكفر أي أنهما لا يعرفانه صفات السحر وكيفيته إلا بعد أن يقولا انما نحن محنة لان الفتنة بمعنى المحنة وانما كانا محنة بحيث ألقيا إلى المكلفين أمرا لينزجروا عنه وليمتنعوا من مواقعته وهم اذا عرفوه أمكن أن يستعملوه ويرتكبوه فقالا لمن يطلعانه على ذلك لاتكفر باستعماله ولا تعدل عن الغرض في إلقاء هذا اليك فانه انما ألقى اليك واطلعت عليه لتجتنبه لا لتفعله ثم قال فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه أي فيعرفون من جهتهما ما يستعملونه في هذا الباب وان كان الملكان ما ألقياه اليهم لذلك ولهذا قال ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم لانهم لما قصدوا بتعلمه أن يفعلوه ويرتكبوه لا أن يجتنبوه صار ذلك لسوء اختيارهم ضررا عليهم.

وثانيها أن يكون ما أنزل موضعه موضع جر فيكون معطوفا بالواو على ملك سليمان والمعني واتبعوا ما كذب به الشياطين على ملك سليمان وعلى ما أنزل على الملكين ومعنى (ما أنزل على الملكين أي معهما وعلى ألسنتهما كما قال تعالى (ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك) أي على ألسنتهم ومعهم وليس بمنكر أن يكون ما أنزل معطوفا علي ملك سليمان وان اعترض بينهما من الكلام ما اعترض لان رد الشئ إلى نظيره وعطفه على ما هو أولى هو الواجب وان اعترض بينهما ماليس منهما ولهذا نظائر من القرآن وكلام العرب كثيرة قال الله تعالى (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما) وقيم من صفات الكتاب حال منه لا من صفة عوج وان تباعد ما بينهما ومثله (يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام) فالحرام ههنا معطوف على الشهر أي يسئلونك عن الشهر الحرام وعن المسجد الحرام.

وحكي عن بعض علماء أهل اللغة انه قال العرب تلف الحرفين المختلفين ثم ترمي بتفسيرهما جملة ثقة بان السامع يرد إلى كل خبره كقوله تعالى (ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله) وهذا واضح في مذهب العرب كثير التطابق ثم قال (وما يعلمان من أحد حتى يقولا انما نحن فتنة) والمعنى انهما لايعلمان أحدا بل ينهيان عنه ويبلغ من نهيهما وصدهما عن فعله واستعماله

[79]

أن يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر باستعمال السحر والاقدام على فعله وهذا كما يقول الرجل ما أمرت فلانا بكذا ولقد بالغت في نهيه حتى قلت له انك ان فعلت أصابك كذا وكذا وهذا هو نهاية البلاغة في الكلام والاختصار الدال مع اللفظ القليل على المعاني الكثيرة لانه استغنى بقوله (وما يعلمان من أحد حتى يقولا انما نحن فتنة) عن بسط الكلام الذي ذكرناه ولذلك نظائر في القرآن قال الله تعالى (ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض) فلولا الاختصار لكان شرح الكلام بقوله ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله ولو كان معه إله إذا لذهب كل إله بما خلق ومثله قوله تعالى (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب) أي فيقال للذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم وأمثاله أكثر من أن تورد.

ثم قال تعالى (فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه) وليس يجوز أن يرجع الضمير في هذا الجواب إلى الملكين وكيف يرجع اليهما وقد نفى عنها التعليم بل يرجع إلى الكفر والسحر وقد تقدم ذكر السحر وتقدم أيضا ذكر ما يدل على الكفر ويقتضيه في قوله ولكن الشياطين كفروا فدل كفروا على الكفر والعطف عليه مع السحر جائز وان كان التصريح قد وقع بذكر السحر دونه ومثل ذلك قوله تعالى (سيذكر من يخشى ويتجنبها الاشقى) أي يتجنب الذكري الاشقى ولم يتقدم تصريح بالذكرى لكن دل عليها قوله سيذكر.

ويجوز أيضا أن يكون المعنى فيتعلمون منهما أي بدلا مما علمهم الملكان ويكون المعنى انهم يعدلون عما علمهم ووقفهم عليه الملكان من النهي عن السحر إلى تعلمه واستعماله كما يقول القائل ليت لنا من كذا كذا وكذا أي بدلا منه.

وكما قال الشاعر

جمعت من الخيرات وطبا وعلبة * وصرا لاخلاف المزهمة البزل(1)

___________________________________

(1) - الصر - شد خلف الناقة بالخيط لئلا تحلب والناقة صرورة - والاخلاف - جمع خلف وهو للناقة كالثدى للمرأة - والمزهمة - السمان الكثيرة الشحم ومثله الزهم.

قال زهير

القائد الخيل منكوبا دوابرها * منه الشنون ومنها الزاهق الزهم

- والبزل - جمع بازل وهو البعير اذا انشق نابه وذلك إنما يكون في السنة التاسعة (*)

[80]

ومن كل أخلاق الكرام نميمة * وسعيا على الجار المجاور بالمحل

يريد جمعت مكان الخيرات ومكان أخلاق الكرام هذه الخصال الذميمة.

وقوله (ما يفروقون به بين المرء وزوجه) فيه وجهان. أحدهما أن يكونوا يغوون أحد الزوجين ويحملونه على الكفر والشرك بالله تعالى فيكون بذلك قد فارق زوجه الآخر المؤمن المقيم على دينه فيفارق بينهما اختلاف النحلة والملة. والوجه الآخر أن يسعون بين الزوجين بالنميمة والوشاية والاغراء والتمويه بالباطل حتى يؤول أمرهما إلى الفرقة والمباينة.

وثالث الوجوه أن تحمل ما في قوله وما أنزل على الجحد والنفى فكأنه تعالى قال واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولا أنزل الله السحر على الملكين ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت ويكون قوله ببابل هاروت وماروت من المؤخر الذي معناه التقديم ويكون على هذا لتأويل هاروت وماروت رجلين من جملة الناس هذان أسماؤهما وانما ذكرا بعد ذكر الناس تمييزا وتبيينا ويكون الملكان المذكوران اللذان نفى عنهما السحر جبرائيل وميكائيل عليهما السلام إلى سليمان بن داود عليه السلام فأكذبهما الله تعالى بذلك ويجوز أن يكون هاروت وماروت يرجعان إلى الشياطين كأنه قال ولكن الشياطين هاروت وماروت كفروا ويسوغ ذلك كما ساغ في قوله تعالى (وكنا لحكمهم شاهدين) يعنى حكم داود وسليمان ويكون قوله على هذا التأويل وما يعلمان من أحد حتى يقولا انما نحن فتنة راجعا إلى هاروت وماروت اللذين هما من الشياطين أو من الانس المتعلمين للسحر من الشياطين والعاملين به ومعنى قولهما انما نحن فتنة فلا تكفر يكون على طريق الاستهزاء والنماجن والتخالع كما يقول الماجن من الناس اذا فعل قبيحا أو قال باطلا هذا فعل من لايفلح وقول من لاينجب والله لاحصلت إلا على الخسران وليس ذلك منه على سبيل النصح للناس وتحذيرهم من مثل فعله بل على جهة المجون والتهالك ويجوز أيضا على هذا التأويل الذى يتضمن النفي والجحد أن يكون هاروت وماروت اسمين لملكين ونفى عنهما انزال السحر بقوله وما أنزل على الملكين ويكون قوله وما يعلمان من أحد يرجع

[81]

إلى قبيلتين من الجن أو إلى شياطين الجن والانس فتحسن التثنية لهذا. وقد روى هذا التأويل الاخير في حمل ما على النفى عن ابن عباس وغيره من المفسرين.

وروى عنه أيضا انه كان يقرأ وما أنزل على الملكين بكسر اللام ويقول متى كان العلجان ملكين بل كانا ملكين. وعلى هذه القراء‌ة في الآية وجه آخر وان لم يحمل قوله وماأنزل على الملكين على الجحد والنفى وهو أن يكون هؤلاء الذين أخبر عنهم اتبعوا ماتتلو الشياطين وتدعيه على ملك سليمان واتبعوا ماأنزل على هذين الملكين من السحر ولا يكون الانزال مضافا إلى الله تعالى وان أطلق لانه عزوجل لاينزل السحر بل يكون منزله اليهما بعض الضلال العصاة ويكون معنى أنزل وان كان من الارض حمل اليهما لامن السماء انه أتي به من نجود البلاد وأعاليها فان من هبط من نجد البلاد إلى غورها يقال نزل وهبط وما جرى هذا المجرى.

فأما قوله تعالى (وما هم بضارين به من أحد إلا باذن الله) فيحتمل وجوها.

منها أن يريد بالاذن العلم من قولهم أذنت فلانا بكذا اذا أعلمته وأذنت لكذا اذا سمعته وعلمته.

قال الشاعر

في سماع يأذن الشيخ له * وحديث مثل ماذي مشار(1)

ومنها أن تكون إلا زائدة فيكون المعنى وما هم بضارين به من أحد باذن الله ويجرى مجرى قول أحدنا لقيت زيدا إلا أني أكرمته أى لقيت زيدا فأكرمته.

ومنها أن يكون أراد بالاذن التخلية وترك المنع فكأنه أفاد بذلك ان العباد لن يعجزوه وما هم بضارين أحدا إلا بأن يخلي الله تعالى بينهم وبينه ولو شاء لمنعهم بالقهر والقسر زائدا على منعهم بالزجر والنهي.

ومنها أن يكون الضرر الذى عنى انه لايكون إلا باذنه وأضافه اليه هو مايلحق المسحور من الادوية والاغذية التي تطعمه إياها السحرة ويدعون أنها موجبة لما يقصدونه فيه من الامور ومعلوم ان الضرر الحاصل عن ذلك من فعل

___________________________________

(1) - الماذي - العسل الابيض - ومشار - مجني. يقول ان غناء‌ها لطيبه وحسنه يستمع الشيخ الهرم له ويصغى اليه وحديثها لطلاوته ورقته كأنه العسل الجيد والاصمعى يروى هذا البيت مثل ماذى مشار بالاضافة وفتح الميم قال والمشار الخلية (*)(11 - أمالى ني)

[82]

الله تعالى بالعادة لان الاغذية لاتوجب ضررا ولا نفعا وان كان المعرض للضرر من حيث كان الفاعل له هو المستحق للذم وعليه يجب العوض.

ومنها أن يكون الضرر المذكور انما هو يحصل عن التفريق بين الازواج لانه أقرب اليه في ترتيب الكلام والمعنى انهم اذا أغووا أحد الزوجين فكفر فبانت منه زوجته فاستضر بذلك كانوا ضارين له بما حسنوه له من الكفر لان الفرقة لم تكن إلا باذن الله وحكمه لانه تعالى هو الذي حكم وأمر بالتفريق بين المختلفى الاديان فلهذا قال وماهم بضارين به من أحد إلا باذن الله والمعنى انه لولا حكم الله وإذنه في الفرقة بين هذين الزوجين باختلاف الملة لم يكونوا ضارين له هذا الضرب من الضرر الحاصل عند الفرقة ويقوى هذا الوجه ماروي انه كان من دين سليمان عليه السلام انه من سحر بانت امرأته.

فأما قوله تعالى (ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الآخرة من خلاق) ثم قوله (لو كانوا يعلمون) ففيه وجوه.

أولها أن يكون الذين علموا غير الذين لم يعلموا ويكون الذين علموا الشياطين أوالذين خبر عنهم بانهم نبذوا كتاب الله وراء ظهوره كأنهم لايعلمون واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان والذين لم يعلموا هم الذين تعلموا السحر وشروا به أنفسهم.

وثانيها أن يكون الذين علموا هم الذين لم يعلموا إلا انهم علموا شيئا ولم يعلموا غيره فكأنه تعالى وصفهم بأنهم عالمون بأنه لانصيب لمن اشترى ذلك ورضيه لنفسه على الجملة ولم يعلمه كنه ما يصير اليه من عقاب الله الذي لا نفاد له ولا انقطاع.

وثالثها أن تكون الفائدة في نفي العلم بعد اثباته انهم لم يعملوا بما علموا فكأنهم لم يعلموا وهذا كما يقول احدنا لغيره ماأدعوك اليه خير لك وأعود عليك ولو كنت تعقل وتنظر في العواقب وهو يعقل وينظر في العواقب إلا انه لايعمل بموجب علمه فحسن أن يقال له مثل هذا القول.

قال كعب بن زهير يصف ذئبا وغرابا تبعاه ليصيبا من زاده

اذا حضراني قلت لو تعلمانه * ألم تعلما أني من الزاد مرمل

فنفى عنهما العلم ثم أثبته بقوله ألم تعلما وانما المعني في نفيه العلم عنهما أنهما لم يعملا بما علماه

[83]

فكأنهما لم يعلماه.

ورابعها أن يكون المعني أن هؤلاء القوم الذين قد علموا ان الآخرة لاحظ لهم فيها مع عملهم القبيح إلا أنهم ارتكبوه طمعا في حطام الدنيا وزخرفها فقال تعالى (ولبئس ماشروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون) ان الذي آثروه وجعلوه عوضا من الآخرة لايتم لهم ولا يبقى عليهم وانه منقطع زائل ومضمحل باطل وانما الملك إلى المستحق في الآخرة وكل ذلك واضح بحمد الله والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم [ تأويل خبر ].

روى عقبة بن عامر عن النبى صلى الله عليه وسلم انه قال لو كان القرآن في إهاب ما مسته النار وقد ذكر متأولو حديث النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الخبر وجوها كثيرة كلمها غيرصحيح ولا شاف وأنا أذكر ما اعتمدوه وأبين ما فيه ثم أذكر الوجه الصحيح قال ابن قتيبة ذهب الاصمعي إلى أن من تعلم القرآن من المسلمين لو ألقى في النار لم تحرقه وكني بالاهاب وهو الجلد عن الشخص والجسم واحتج على تأويله هذا الحديث عن سليمان بن محمد قال سمعت أبا امامة يقول اقرؤا القرآن ولا تغرنكم هذه المصاحف المعلقة فان الله لا يعذب قلبا وعي القرآن.

قال ابن قتيبة وفي الحديث تأويل آخر وهو ان القرآن لو كتب في جلد ثم ألقى في النار على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تحرقه النار على جه لدلالة على صحة أمر النبي صلى الله عليه وسلم ثم انقطع ذلك بعده قال وجرى هذا مجري كلام الذئب وشكاية البعير وغير ذلك من آياته صلى الله عليه وسلم.

قال وفيه تأويل ثالث وهو أن يكون الاحراق انما نفى عن القرآن لاعن الاهاب ويكون معنى الحديث لوجعل القرآن في إهاب ثم ألقى في النار ما احترق القرآن فكأن النار تحرق الجلد والمداد ولا تحرق القرآن لان الله ينسخه ويرفعه من الجلد صيانة له عن الاحراق. وقال أبوبكر محمد بن القاسم الانبارى رادا على ابن قتيبة معترضا عليه اعتبرت ما قاله ابن قتيبة من ذلك كله فما وجدت فيه شيئا صحيحا.

أما قوله الاول فيرده ما روي عنه عليه الصلاة والسلام من قوله يخرج من النار قوم بعد مايحرقون فيها فيقال هؤلاء الجهنميون طلقاء الله عزوجل. قال وقد روى أبوسعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال اذا دخل أهل الجنة

[84]

الجنة وأهل النار النار قال الله عز وجل انظروا من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجوه منها. قال أبوبكر وكيف يصح قول ابن قتيبة في زعمه أن النار لاتحرق من قرأ القرآن ولا خلاف بين المسلمين ان الخوارج وغيرهم ممن يلحد في دين الله ويقرأ القرآن أن تحرقهم النار بغير شك واحتجاجه بخبر أبي امامة ان الله لا يعذب قلبا وعي القرآن معناه قرأ القرآن وعمل به فأما من حفظ ألفاظه وضيع حدوده فانه غير واع له. قال فأما قوله انه من دلائل النبوة التي انقطعت بعده فما روى هذا الحديث أحد انه كان في دلائله عليه الصلاة والسلام ولو أراد ذلك دليلا لكان صلى الله عليه وسلم يجعل القرآن في إهاب ثم يلقيه في النار فلا يحترق. قال وقول ابن قتيبة الثالث لاحترق الجلد والمداد ولم يحترق القرآن غير صحيح لان الذي يصحح هذا القول يوجب أن القرآن غير المكتوب وهذا محال لان المكتوب في المصحف هو القرآن والدليل على هذا قوله تعالى (إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لايمسه إلا المطهرون) ومنه الحديث لاتسافروا بالقرآن إلى أرض العدو وانما يريد المصحف. قال أبوبكر والقول عندنا في تأويل هذا الحديث انه أراد لو كان القرآن في جلد ثم ألقى في النار ما أبطلته لانها وان أحرقته فانها لاتدرسه اذ كان الله قد ضمنه قلوب الاخيار من عباده والدليل على هذا قول الله عزوجل للنبي صلى الله عليه وسلم فيما روى إني منزل عليك كتابا لا يغسله الماء تقرأه نائما ويقظان فلم يرد تعالى ان القرآن لو كتب في شئ ثم غسل بالماء لم ينغسل وانما أراد ان الماء لايبطله ولا يدرسه اذ كانت القلوب تعيه وتحفظه. قال ومثل هذا كثير في كتاب الله وفي لغة العرب قال الله تعالى (يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الارض ولا يكتمون الله حديثا) فهم قد كتموا الله تعالى لما قالوا والله ربنا ما كنا مشركين وانما أراد تعالى ولا يكتمون الله حديثا في حقيقة الامر لانهم وان كتموه في الظاهر فالذي كتموه غير مستتر عنه.

[ قال المرتضى ] رضى الله عنه والوجه الصحيح في تأويل الخبر غير ما توهمه ابن قتيبة وابن الانباري جميعا وهو ان هذامن كلام النبي صلى الله عليه وسلم على طريق المثل والمبالغة في تعظيم شأن القرآن والاخبار عن جلالة قدره وعظم

[85]

خطره والمعنى انه لو كتب في إهاب وألقى في النار وكانت النار مما لاتحرق شيئا لعلو شأنه وجلالة قدره لم تحرقه النار.

ولهذا نظائر في القرآن وكلام العرب وأمثالهم كثيرة ظاهرة على من له أدنى أنس بمذاهبهم وتصرف كلامهم فمن ذلك قوله تعالى (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الامثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون) ومعنى الكلام إننا لو أنزلنا القرآن على جبل وكان الجبل مما يتصدع إشفاقا من شئ أو خشية لامر لتصدع مع صلابته وقوته فكيف بكم معاشر المكلفين مع ضعفكم وقلتكم فأنتم أولى بالخشية والاشفاق وقد صرح الله تعالى بأن الكلام خرج مخرج المثل بقوله تعالى (وتلك الامثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون) ومثله قوله تعالى (تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الارض وتخر الجبال هدا).

ومثله قول الشاعر

أما وجلال الله لو تذكرينني * كذكراك ما نهنهت للعين مدمعا

فقالت بلى والله ذكرا لو انه * تضمنه صم الصفا لتصدعا

ومثله

فلو أن مابي بالحصى فلق الحصى * وبالريح لم يسمع لهن هبوب

ومثله

وقفت علي ربع لمية ناقتي * فما زلت أبكي عنده وأخاطبه

وأسقيه حتى كاد مما أبثه * تكلمني أحجاره وملاعبه

وهذه طريقة للعرب مشهورة في المبالغة يقولون هذا كلام يفلق الصخر ويهد الجبال ويصرع الطير ويستنزل الوعول وليس ذلك بكذب منهم بل المعنى انه لحسنه وحلاوته وبلاغته يفعل مثل هذه الامور لو تأتت ولو كانت مما يسهل ويتيسر لشئ من الاشياء لتسهلت به من أجله.

فأما الجواب الاول المحكى عن ابن قتيبة فالذي يفسده زائدا على مارده ابن الانبارى انه لو كان الامر على ما ذكره ابن قتيبة وحكاه عن الاصمعي

[86]

لكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أغرانا بالذنوب لانه اذا أمن حافظ القرآن ومتعلمه من النار والعذاب فيها ركن المكلفون إلى تعلم القرآن والاقدام على القبائح آمنين غير خائفين وهذا لايجوز عليه صلى الله عليه وسلم والمعني في قول أبي امامة ان الله عزوجل لايعذب قلبا وعي القرآن على نحوماذكره ابن الانباري.

فأما جواب ابن قتيبة الثاني فمن أين له ان ذلك مختص بزمانه صلى الله عليه وسلم وليس في اللفظ ولا غيره دلالة عليه وأقوى مايبطله انه لو كان كما ذكر لما جاز أن يخفى على جماعة المسلمين الذين رووا جميع معجزاته وضبطوها وفي وجداننا من روى ذلك وجمعه وعنى به غيرعارف بهذه الدلالة آية إبطال ما توهمه.

فأما جوابه الثالث فباطل لان القرآن في الحقيقة ليس يحل الجلد ولا يكون فيه حتى ينسب الاحتراق إلى الجلد دونه واذا كان الامر على هذا لم يكن في قوله ان الاهاب هو المحترق دون القرآن فائدة لان هذه سبيل كل كلام كتب في اهاب أو غيره اذا احترق الاهاب لم يضف الاحتراق إلى الكلام لاستحالة هذه الصفة عليه.

ومن اعجب الامور قول ابن الانبارى وهذا يوجب أن القرآن غير المكتوب لان كلام ابن قتيبة ليس يوجب ما ظنه بل يوجب ضده من ان لفظ المكتوب هو القرآن ولهذا علق الاحتراق بالكتابة والجلد دون المكتوب الذي هو القرآن فاذا كان المكتوب في المصحف هو القرآن على مااقترح ابن الانباري فما المانع من قول ابن قتيبة ان الجلد يحترق دونه لان أحدا لا يقول ان الجلد هو القرآن وانما يقول قوم انه مكتوب فيه واذا كان غيره لم يمتنع اضافة الاحتراق إلى أحدهما دون الاخر وهذا كله تخليط من الرجلين لان القرآن غير حال في الجلد على الحقيقة وليست الكتابة عين المكتوب وانما الكتابة امارة للحروف فأما أن تكون هى الكلام على الحقيقة أو يوجد معها الكلام مكتوبا فيحال.

فأما استشهاده على ذلك بالآية وبقوله لاتسافروا بالقرآن فذلك تجوز وتوسع وليس يجب أن يجعل اطلاق الالفاظ المحتملة دليلا على اثبات الاحكام والمعاني ومعترضة على أدلة العقول وقد تجوز القوم بأكثر من هذا فقالوا في هذا الكتاب شعر امرئ القيس وعلم الشافعي وفقه فلان فلم يقتض ذلك أن يكون العلم والكلام على الحقيقة موجودين في الدفتر وقد بين الكلام في هذا

[87]

الباب في مواضع هى أولى به.

فأما جواب ابن الانباري الذي ارتضاه لنفسه فلا طائل أيضا فيه لانه لا مزية للقرآن فيما ذكره على كلام وشعر في العالم لانا نعلم ان الشعر والكلام المحفوظ في صدور الرجال اذا كتب في جلد ثم أحرق أو غسل لم يذهب ما في الصدور ومنه بل يكون ثابتا بحاله فأي مزية للقرآن في هذا على غيره وأي فضيلة. فان قال وجه المزية ان غير القرآن من الشعر وغيره يمكن أن يندرس ويبطل باحراق النار والقرآن اذا كان تعالى هو المتولى لايداعه الصدور لايتم ذلك فيه. قلنا الكل سواء لان غير القرآن انما يبطل باحتراق الاهاب المكتوب فيه متى لم يكن محفوظا مودعا للصدور ومتى كان بهذا الصفة لم يبطل باحتراق الجلد وهكذا القرآن لو لم يحفظ في الصدور لبطل بالاحتراق ولكنه لا يبطل بهذا الشرط فصار الشرط في بطلان غير القرآن وثباته كالشرط في بطلان القرآن وثباته فلا مزية على هذا الجواب للقرآن فيما خص به من ان النار لا تمسه وهذا يبين انه لا وجه غير ما ذكرناه في الخبر وهو أشبه بمذاهب العرب وأولى بتفضيل القرآن وتعظيمه.

أخبرنا أبوالحسن علي بن محمد الكاتب قال أخبرنا ابن دريد قال أنشدنا أبوحاتم قال ابن دريد وأنشدنا عبدالرحمن يعني ابن أخي الاصمعي عن عمه للحسين بن مطير الاسدى وقال عبدالرحمن قال عمي لو كان شعر العرب هكذا ما اتم منشده

ألا حبذا البيت الذي أنت هاجره * وأنت بتلماح من الطرف ناظره

لانك من بيت لعيني معجب * وأملح في عيني من البيت عامره

أصد حياء أن يلم بي الهوى * وفيك المنى لولا عدو أحاذره

وفيك حبيب النفس لو تستطيعه * لمات الهوى والشوق حين تجاوره

فإن آته لم أنج إلا بظنة * وإن يأته غيري تنط بي جرائره(1)

___________________________________

(1) - تنط - تربط وتعلق أي تسند - والجرائر - جمع جريرة وهي الذنب. يقول ان آت هذا البيت رماني الناس بظنونهم وان أتاه غيرى أضيف الي أى قال (*)

[88]

وكان حبيب النفس للقلب واترا * وكيف يحب القلب من هو واتره

فإن تكن الاعداء أحموا كلامه * علينا فلن تحمى علينا مناظره

أحبك يا سلمى على غير ريبة * ولا بأس في حب تعف سرائره(1)

ويا عاذلي لولا نفاسة حبها * عليك لما باليت أنك خائره

بنفسي من لابد أني هاجره * ومن أنا في الميسور والعسر ذاكره

ومن قد لحاه الناس حتى اتقاهم * ببغضي إلا ما تجن ضمائره(2)

أحبك حبا لن أعنف بعده * محبا ولكني اذا ليم عاذره

لقد مات قبلي أول الحب فانقضى * ولو مت أضحى الحب قد مات آخره(3)

كلامك يا سلمى وإن قل نافعي * ولا تحسبي أني وإن قل حاقره

ألا لا أبالي أي حي تحملوا * اذا إثمد البرقاء لم يخل حاضره(4)

___________________________________

الناس إنه مرسل من قبلي لمراسلة من فيه.

(1) - الريبة - الظنة والتهمة. يقول أحبك حبا لا يخالطه سوء ولا يظن فيه شر. وقوله - ولا بأس في حب تعف سرائره - أى تعف سرائر صاحبه فاضاف السرائر للحب توسيعا وانما هي للمحب ومثله في القرآن الكريم عيشة راضية أى راض صاحبها

(2) - لحاه - لامه واللاحي اللائم في الشئ المعنف عليه. وقوله - الا ماتجن ضمائره - يريد به أنه يظهر للناس كراهتي وبغضي لكف ألسنتهم عنه وليس في قلبه الا محبتي

(3) يريد أن محبته لها ذهبت بسيرة من تقدمه من المحبين وانه لن يأتى بعده من يذكر بالمحبة وان حبه لن يضارعه حب من تقدمه ومن يأتى بعده

(4) - تحملوا - يروى بدله تفرقوا - والبرقاء - اسم موضع في بادية الجزيرة. يقول انه لا يبالى رحيل من رحل من الناس اذا كان هذا الموضع عامر بأهله لم يرحلوا (*)

[89]

وأنشد ابن الاعرابي لابن مطير

لعمرك بالبيت الذي لا نطوره * أحب إلينا من بلاد نطورها(1)

تقلبت في الاخوان حتى عرفتهم * ولا يعرف الاخوان إلا خبيرها

فلا أصرم الخلان حتى يصارموا * وحتى يسيروا سيرة لا أسيرها

فإنك بعد الشر ما أنت واجد * خليلا مديما سيرة لا يديرها

معني - يديرها - يقلبها مرة ههنا ومرة ههنا

وإنك في عين الاخلاء عالم * بأن الذي يخفي عليك ضميرها

فلا تك مغرورا بمسحة صاحب * من الود لاتدري علام مصيرها

وما الجود عن فقر الرجال ولا الغني * ولكنه خيم الرجال وخيرها

وقد تغدر الدنيا فيضحى غنيها * فقيرا ويغني بعد بؤس فقيرها

وكائن ترى من حال دنيا تغيرت * وحال صفا بعد اكدرار غديرها

ومن طامع في حاجة لن ينالها * ومن يائس منها أتاه يسيرها

___________________________________

لانهم هم الذين يحبهم ويشفق من رحيلهم. وفى بعض كتب الادب بعد هذه الابيات

وبالبرق أطلال كأن رسومها * قراطيس خط الحبر فيهن ساطره

أبت سرحة الاثماد الا ملاحة * وطيبا اذا مانبتها اهتز ناضره

(1) - لطوره - نحوم حوله. يقول ان البيت الذى نتجنبه ونتحاماه خوف الوشاة أحب الينا من البلاد التى نأتيها اذا لم يكن من نهوى فيها. ومثل هذا قول الاحوص

يابيت عاتكة الذى اتعزل * حذر العدا وبه الفؤاد موكل

انى لامنحك الصدود وإننى * قسما اليك مع الصدود لاميل

(*)(12 - أمالى نى)

[90]

ومن يتبع ما يعجب النفس لم يزل * مطيعا لها في فعل شئ يضيرها

فنفسك أكرم عن امور كثيرة * فمالك نفس بعدها تستعيرها(1)

[ قال المرتضى ] رضى الله عنه ولى في معني قول ابن مطير - وقد تغدر الدنيا - والبيت الذي بعده من جملة قصيدة

وكيف آنس بالدنيا ولست أرى * إلا امرأ قد تعرى من عواريها

نصبو اليها بآمال مخيبة * كأننا ما نرى عقبى أمانيها

في وحشة الدار ممن كان يسكنها * كل اعتبار لمن قد ظل يأويها

لا تكذبن فما قلبي لها وطنا * وقد رأيت طلولا من مغانيها

وأخبرنا أبوعبيدالله المرزباني قال أنشدنا علي بن سليمان الاخفش قال أنشدنا أحمد ابن يحيى ثعلب للحسين بن مطير

لقد كنت جلدا قبل أن توقد النوى * علي كبدي نارا بطيئا خمودها

ولو تركت نار الهوى لتصرمت * ولكن شوقا كل يوم يزيدها

وقد كنت أرجو أن تموت صبابتي * اذا قدمت أحزانها وعهودها

فقد جعلت في حبة القلب والحشا * عهاد الهوى تولي بشوق يعيدها

بمرتجة الارداف هيف خصورها * عذاب ثناياها عجاف قيودها(2)

___________________________________

(1) - يقول ان النفس لا تميل بطبعها الا إلى الشرور فمن اطاع نفسه وانالها مشتهاها وقع في شرور كثيرة وقادته إلى ما يضره

(2) - مرتجة الارداف - يريدان أردافها ضحمة فهي اذا تحركت اضطربت اردافها - وهيف - جمع هيفاء وهي الدقيقة الخصر الضامرة البطن - وعجاف - جمع عجفاء وهي النحيفة وهذا الجمع شاذ فان افعل وفعلاء لا يجمع على فعال الا انهم بنوه على سمان (*)

[91]

يعني انها عجاف اللثات وأصول الاسنان وهى قيودها.

قال أبوالعباس ثعلب عجاف بالخفض لحن لانه ليس من صفة النساء وسبيله أن يكون نصبا لانه حال من الثنايا

مخصرة الاوساط زانت عهودها * بأحسن مما زينتها عقودها

وصفر تراقيها وحمر أكفها * وسود نواصيها وبيض خدودها

وصف التراقى بالصفرة من الطيب

وحمرة أكفها من الخضاب يمنيننا حتى ترف قلوبنا * رفيف الخزامي بات طل يجودها

أخذ قوله مخصرة الاوساط البيت من قول مالك بن أسماء بن خارجة

وتزيدين طيب الطيب طيبا * إن تمسيه أين مثلك أينا

وإذا الدر زان حسن وجوه * كان للدر حسن وجهك زينا

وروى أبوتمام الطائي في الحماسة بعض الابيات الذي ذكرناها للحسين بن مطير وروى له أيضا ويشبه أن يكون الجميع من قصيدة واحدة

وكنت اذود العين أن ترد البكا * فقد وردت ما كنت عنه أذودها

هل الله عاف عن ذنوب تسلفت * أم الله إن لم يعف عنها معيدها

وأنشد أبومحكم لابن مطير

قضى الله يا أسماء أن لست بارحا * أحبك حتى يغمض العين مغمض

وحبك بلوى غير أن لا يسرني * وإن كان بلوى أنني لك مبغض

اذا أنا رضت النفس في حب غيرها * أتي حبها من دونها يتعرض

فيا ليتني أقرضت جلدا صبابتي * وأقرضني صبر على الشوق مقرض

___________________________________

لانهم قد يبنون الشئ على ضده كقولهم عدوة بالهاء لمكان صديقة وعجاف لا مانع من جعله صفة للمرأة وان انكره ثعلب (*)

[92]

ويشبه أن يكون أخذ قوله اذا أنا رضت النفس في حب غيرها من قول رجل من فزارة

وأعرض حتي يحسب الناس أنما * بي الهجر لا والله ما بي لك الهجر

ولكن أروض النفس أنظر هل لها * اذا فارقت يوما أحبتها صبر

أو من قول نصيب

وإني لاستحيى كثيرا وأتقي * عدونا وأستبقي المودة بالهجر

وأنذر بالهجران نفسي أروضها * ليعلم عند الهجر هل لي من صبر

ويشبه أن يكون أخذ قوله فياليتني أقرضت جلدا صبابتي البيت من قول بعض العرب

رمى قلبه البرق الملالى رمية * بجنب الحمى وهنا فكاد يهيم

فهل من معين طرف عين خلية * فإنسان عين العامري كليم(1)

وللحسين في هذا المعنى ما رواه المبرد

ولى كبد مقروحة من يبيعني * بها كبدا ليست بذات قروح

أبى الناس ويب الناس لا يشترونها * ومن يشتري ذاعلة بصحيح

وأخذ العباس بن الاحنف هذا المعنى فقال

من ذا يعيرك عينه تبكى بها * أرأيت عينا للبكاء تعار

وأخبرنا المرزباني قال حدثنا أبوعبدالله الحكيمي قال حدثني يموت بن المزرع قال حدثنا محمد بن حميد قال كنا عند الاصمعي فأنشده رجل أبيات دعبل

أين الشباب وأية سلكا * لا أين يطلب طل بل هلكا

لا تعجبي يا سلم من رجل * ضحك المشيب برأسه فبكى

___________________________________

(1) - يقول انه يريد عينا غير عاشقة لينظر بها إلى ديار أحبته فان طرفه مجروح مقيم من العشق لا يستطيع أن ينظر به (*)

[93]

أسلم ما بالشيب منقصة * لا سوقة تبقي ولا ملكا

قصر الغواية عن هوى قمر * وجد السبيل اليك مشتركا

يا ليت شعرى كيف يومكما * يا صاحبي اذا دمي سفكا

لا تأخذا بظلامتي أحدا * قلبي وطرفي في دمي اشتركا

قال فاستحسنها كل من في المجلس وأكثر التعجب من قوله - ضحك المشيب برأسه فبكى - فقال الاصمعي انما أخذ قوله هذا من ابن مطير في قوله

أين أهل القباب بالدهناء * أين جيراننا على الاحساء

جاورونا والارض ملبسة * نور الاقاحى تجاد بالانواء(1)

كل يوم بأقحوان جديد * تضحك الارض من بكاء السماء

وقد أخذه أيضا مسلم صريع الغوانى في قوله

مستعبر يبكى علي دمنة * ورأسه يضحك في الشيب

[ قال المرتضى ] رضى الله عنه ولابي الحجناء نصيب الاصغر مثل هذا المعني وهو قوله

فبكى الغمام به فأصبح روضه * جذلان يضحك بالحميم ويزهر

ولابن المعتز مثله

ألحت عليه كل طحياء ديمة * اذا ما بكت أجفانها ضحك الزهر

ولابن دريد مثله

تبسم المزن وانهلت مدامعه * فأضحك الروض جفن الضاحك الباكي

___________________________________

(1) - الدهناء - أرض من منازل تميم بنجد متسعة اذا أخصبت ربعت العرب جميعا لسعتها - والاحساء - ماء لغنى ويروى البيت الاول

أين جيراننا على الاحساء * أين جيراننا على الاطواء (*)

[94]

وغازل الشمس نور ظل يلحظها * بعين مستعبر بالدمع ضحاك

وروى عن أبي العباس المبرد انه قال أخذ ابن مطير قوله تضحك الارض من بكاء السماء من قول دكين الزاجر

جن النبات في ذراها وزكا * وضحك المزن به حتى بكى