(مجلس آخر 38)

[ تأويل آية ]

إن سأل سائل عن قوله تعالى (ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي) إلى قوله (أن تكون من الجاهلين). فقال ظاهر قوله تعالى (إنه ليس من أهلك) يقتضي تكذيب قوله عليه السلام انه من أهلى فالنبي لا يجوز عليه الكذب فما الوجه في ذلك وكيف يصح أن يخبر عن ابنه انه عمل غير صالح وما المراد به. الجواب قلنا في هذه الآية وجوه.

أحدها أن نفيه لان يكون من أهله لم يتناول نفي النسب وانما نفى أن يكون من أهله الذين وعد بنجاتهم لانه عزوجل كان وعد نوحا عليه السلام بان ينجي أهله ألا ترى إلى قوله تعالى (قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلامن سبق عليه القول) فاستثنى تعالى من أهله من أراد اهلاكه بالغرق ويدل عليه أيضا قول نوح عليه السلام (ان ابني من أهلي وان وعدك الحق) وعلى هذا الوجه يتطابق الخبران ولا يتنافيان وقد روى هذا التأويل بعينه عن ابن عباس وجماعة من المفسرين.

والجواب الثاني أن يكون المراد بقوله تعالى (ليس من أهلك) اي انه ليس على دينك وأراد انه تعالى انه كان كافرا مخالفا لابيه وكأن كفره أخرجه من أن يكون له أحكام أهله ويشهد لهذا التأويل قوله تعالى على طريق التعليل انه عمل

[145]

غير صالح فبين تعالى انه انما خرج عن أحكام أهله لكفره وسوء عمله وقد روي هذا التأويل أيضا عن جماعة من المفسرين وحكى عن ابن جريج انه سئل عن ابن نوح فسبح طويلا ثم قال لا اله الا الله يقول الله ونادى نوح ابنه ويقول ليس منه ولكنه خالفه في العمل فليس منه من لم يؤمن. وروى عن عكرمة انه قال كان ابنه ولكنه كان مخالفا له في النية والعمل فمن ثم قيل انه ليس من أهلك.

والوجه الثالث انه لم يكن ابنه على الحقيقة وانما ولد على فراشه فقال عليه السلام ان ابني على ظاهر الامر فأعلمه الله تعالى ان الامر بخلاف الظاهر ونبه على خيانة امرأته وليس في ذلك تكذيب خبره لانه انما خبر عن ظنه وعما يقتضيه الحكم الشرعي فأخبره الله تعالى بالغيب الذي لا يعلمه غيره وقد روى هذا الوجه عن الحسن وغيره.

وروى قتادة عن الحسن قال كنت عنده فقال ونادى نوح ابنه فقال لعمر الله ما هو ابنه قال فقلت يا أبا سعيد يقول الله تعالى ونادى نوح ابنه وتقول ليس بابنه قال أفرأيت قوله ليس من أهلك قال قلت معناه انه ليس من أهلك الذين وعدتك ان أنجيهم معك ولا يختلف أهل الكتاب انه ابنه فقال أهل الكتاب يكذبون. وروى عن مجاهد وابن جريج مثل ذلك.

وهذا الوجه يبعد إذ فيه منافاة للقرآن لانه قال تعالى (ونادى نوح ابنه) فأطلق عليه اسم البنوة ولانه أيضا استثناه من جملة أهله بقوله تعالى (وأهلك إلا من سبق عليه القول) ولان الانبياء عليهم الصلاة والسلام يجب أن ينزهوا عن مثل هذه الحال لانها تعر وتشين وتغض من القدر وقد جنب الله تعالى أنبياء‌ه عليهم الصلاة والسلام ما هو دون ذلك تعظيما لهم وتوقيرا ونفيا لكل ما ينفر عن القبول منهم وقد حمل ابن عباس ظهور ما ذكرناه من الدلالة على ان تأول قوله تعالى في امرأة نوح وامرأة لوط فخانتاهما على ان الخيانة لم تكن منهما بالزنا بل كانت احداهما تخبر الناس بانه مجنون والاخرى تدل على الاضياف والمعتمد في تأويل الآية هو الوجهان المتقدمان.

فأما قوله تعالى (انه عمل غير صالح) فالقراء‌ه المشهورة بالرفع. وقد روى عن جماعة من المتقدمين انهم قرء‌وا انه عمل غير صالح بنصب اللام وكسر الميم ونصب غير ولكل وجه. فأما الوجه في الرفع فيكون على تقدير ان ابنك ذو عمل غير صالح وما يستعمل غير صالح فحذف(19 - أمالى)

[146]

المضاف وأقام المضاف اليه مقامه وقد استشهد على ذلك بقول الخنساء

ما أم سقب علي بو تطيف به * قد ساعدتها على التحنان أظآر

ترتع ما رتعت حتى إذا ذكرت * فإنما هي إقبال وإدبار

أرادت انما هي ذات اقبال وادبار. وقال قوم ان المعنى أصل ابنك هذا الذي ولد على فراشك وليس بابنك على الحقيقة والذى اخترناه خلاف ذلك. وقال آخرون الهاء في قوله تعالى (انه عمل غير صالح) راجعة إلى السؤال والمعنى ان سؤالك إياى ما ليس لك به علم عمل انه غير صالح لانه قد وقع من نوح ذلك السؤال والرغبة في قوله عليه الصلاة والسلام (رب ان ابني من أهلي وان وعدك الحق) ومعنى ذلك نجه كما نجيتهم ومن يجيب بهذا الجواب يقول ان ذلك صغيرة من النبي لان الصغيره جائزه عليهم ومن يمنع أن يقع من الانبياء عليهم الصلاة والسلام شئ من القبائح يدفع هذا الجواب ولا يجعل الهاء راجعة إلى السؤال بل إلى الابن ويكون تقدير الكلام ما تقدم.

فاذا قيل له لم قال تعالى (لا تسألنى ما ليس لك به علم) فكيف قال نوح عليه الصلاة والسلام من بعد (رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين). قال لا يمتنع أن يكون نهيه عن سؤال ما ليس له به علم وان لم يقع منه لم يكن يعوذ عليه الصلاة والسلام من ذلك وان لم يواقعه الا ترى ان الله تعالى قد نهى نبيه عليه الصلاة والسلام عن الشرك والكفر وان لم يكن ذلك وقع منه فقال تعالى (لئن أشركت ليحبطن عملك) وكذلك لا يمتنع أن يكون نهاه في هذا الموضع عما لم يقع ويكون عليه السلام انما سأل نجاة ابنه باشتراط المصلحة لا على سبيل القطع وهكذا يجب في مثل هذا الدعاء.

فأما القراء‌ة بلنصب فقد ضعفها قوم وقالوا كان يجب أن يقال انه عمل عملا غير صالح لان العرب لا تكاد تقول هو يعمل غير حسن حتى تقول عمل عملا غير حسن وليس وجهها بضعيف في العربية لان من مذهبهم الظاهر اقامة الصفة مقام الموصوف عند انكشاف المعنى وزوال اللبس فيقول القائل قد فعلت صوابا وقلت حسنا بمعنى فعلت فعلا صوابا وقلت قولا حسنا.

وقال عمر بن أبي ربيعة المخزومي

[147]

أيها القائل غير الصواب * أخر النصح وأقللن عتابي

وقال أيضا

وكم من قتيل ما يباء به دم * ومن غلق رهن إذا ظمه مني

ومن مالئ عينيه من شئ غيره * إذا راح نحو الجمرة البيض كالدمي(1)

وأنشدنا أبو عبدالله لرجل من بجيله

كم من ضعيف العقل منتكث القوى * ما إن له نقض ولا إبرام

مالت له الدنيا عليه بأسرها * فعليه من رزق الاله ركام

ومشيع جلد أمين حازم * مرس له فيما يروم مرام

أعمى عليه سبيله فكأنه * فيما يحاوله عليه حرام

أخبرنا أبوعبيد الله المرزباني قال أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا ميمون بن

___________________________________

(1) وقبل البيتين

فلم أر كالتجمير منظر ناظر * ولا كليال الحج أفتن ذا هوى

وبعدهما

يسحبن اذيال المروط بأسؤق * خدال وأعجاز مآكمها روي

وسبب هذه الابيات ان أم عمرو بنت مروان حجت فلما قضت نسكها أتت عمر ابن أبى ربيعة وقد أخفت نفسها في نساء فحادثته ثم انصرفت وعادت اليه منصرفها من عرفات وقد أثبتها فقالت له لاتذكرني في شعرك وبعثت اليه بألف دينار فقبلها واشتري بها ثيابا من ثياب اليمن وطيبا فأهداه اليها فردته فقال إذا والله انهبه الناس فيكون مشهورا فقبلته (*)

[148]

هرون قال حدثنا اسحق بن ابراهيم الموصلي قال كان محمد بن منصور بن زياد الملقب بفتى العسكر يميل إلى الاصمعي ويفضله ويقوم بأمره قال فجئته يوما بعد موت محمد وعنده عبد كان لمحمد أسود وقد ترك الناس وأقبل عليه وسائله وتحفى به وحادثه فلما خرج لمته على ذلك وقلت من هذا حتى أفنيت عمر يومك به فقال هذا غلام ابن منصور ثم أنشدني وقالوا يا جميل أتى أخوها * فقلت أتى الحبيب أخو الحبيب احبك والقريب بنا بعيد * لان ناسبت بثنة من قريب فقلت له وكنت أفعل هذا كثيرا به لاستجر كلامه وعلمه يا أبا سعيد ذلك أخوها وهذا غلامها فضحك وقال أنشد أبوعمرو أو قال غيره

أري كل ارض أوطنتها وإن خلت * لها حجج تندى بمسك ترابها

حلفت بأني لو أرى تبعا لها * ذئاب الفضى حنت إلي ذئابها

قال فجعلت أعجب من قرب لسانه من قلبه واجادة حفظه له متى أراده.

وبهذا الاسناد عن اسحاق الموصلي قال قرأت على الاصمعي شعر امرئ القيس فلمابلغت إلى هذا البيت

أمن أجل أعرابية حل أهلها * بروض الشري عيناك تبتدران

فقال لي أتعرف في هذا البيت خبئا باطنا غير ظاهر قلت لا فسكت عني فقلت ان كان فيه شئ فأفدينه قال نعم أما يدلك البيت على انه لفظ ملك مستهين ذي قدرة على ما يريد قال اسحاق وما رأيت قط مثل الاصمعي في العلم بالشعر. وروى عن اسحاق أيضا انه قال قال لي الاصمعي ما يعني امرؤ القيس بقوله

فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع * فألهيتها عن ذي تمائم محول

فقلت تخبرني فقال كان مفركا فيقول ألهيت هؤلاء عن كراهتهن للرجال فيكف انا عند المحبات لهم.

وروى ان السبب الذي هاج التنافر بين الاصمعي وابن الاعرابي ان

[149]

الاصمعي دخل يوما على سعيد بن سلم وابن الاعرابي حينئذ يؤدب ولده فقال لبعضهم أنشد أبا سعيد فأنشد الغلام أبياتا لرجل من بني كلاب رواه إياها ابن الاعرابي

رأت نضو أسفار أميمة شاحبا * على نضو أسفار فجن جنونها

فقالت من اي الناس أنت ومن تكن * فإنك راعي صرمة لا يزينها

فقلت لها ليس الشحوب على الفتى * بعار ولا خير الرجال سمينها

عليك براعي ثلة مسلحبة * يروح عليها مخضها وحقينها

سمين الضواحي لم تؤرقه ليلة * وأنعم أبكار الهموم وعونها

ورفع ليلة فقال له الاصمعي من رواك هذا فقال مؤدبي فأحضره فاستنشده فأنشده ورفع ليلة فأخذ ذلك عليه وفسر البيت فقال انما أراد انه لم تؤرقه ليلة أبكار الهموم وعونها وأنعم أي زاد على هذه الصفة.

وقوله - سمين الضواحي - أي ما ظهر منه وبدا سمين ثم قال الاصمعي لابن سلم من لم يحسن هذا المقدار فليس بموضع لتأديب ولد الملوك.

وأخبرنا المرزباني قال حدثنا أحمد بن محمد المكي قال حدثنا أبوالعيناء قال حدثنا الاصمعي قال ولد بشار بن برد أكمه لم ينظر إلى الدنيا قط وكان ذا فطنة وذكاء فقلت له يوما من أين لك هذاالذكاء قال من قدم العمى وعدم المناظر يمنع من كثير من الخواطر المذهلة فيكسب فراغ الذهن وصحة الذكاء وأنشد لنفسه يفخر بالعمى

عميت جنينا والذكاء من العمى * فجئت عجيب الظن للعلم موئلا

وغاض ضياء العين للعقل رافدا * بقلب إذا ما ضيع الناس حصلا

وشعر كنور الروض لا أمت بينه * * بقول إذا ما أحزن الشعر أسهلا

وأخبرنا المرزباني قال أخبرنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا أبوالعيناء قال حدثنا

[150]

الاصمعي قال أنشد رجل وأنا حاضر بشارا قول الشاعر

وقد جعل الاعداء ينتقصوننا * وتطمع فينا ألسن وعيون

ألا إنما ليلي عصي خيزرانة * إذا غمزوها بالاكف تلين

فقال بشار والله لو جعلها عصا مخ أو زبد لما كان إلا مخطئا مع ذكر العصا ألا قال كما قلت

وحوراء المدامع من معد * كأن حديثها قطع الجمان

إذا قامت لسبحتها تثنت * كأن قوامها من خيزران

ينسيك المنى نظر إليها * ويصرف وجهها وجه الزمان

وأخبرنا المرزباني قال حدثنا علي بن أبي عبدالله الفارسي قال حدثني أبي عن عمر بن شبة قال قال لي أبوعبيدة رحل بشار إلى الشام فمدح سليمان بن هشام بن عبدالملك وكان مقيما بحران فقال فيه قصيدة طويلة أولها

نأتك على طول التجاور زينب * وما علمت ان النوى سوف يشعب

وكان سليمان بخيلا فأعطاه خمسة آلاف درهم ولم يصب غيرها بعد ان طال مقامه فقال

إن أمس منشنج اليدين عن الندى * وعن العدو محبس الشيطان

فلقد أروح علي اللئام مسلطا * ثلج المقام منعم الندمان

في ظل عيش عشيرة محمودة * تندى يدى ويخاف فرط لساني

أزمان سربال الشباب مذيل * وإذ الامير علي من حراني

رئم بأحوية العراق إذا بدا * برقت عليه أكلة المرجان

فاكحل بعبدة مقلتيك من القذى * وبوشك رؤيتها من الهملان

[151]

فلقرب من تهوى وأنت متيم * اشفى لدائك من بني مروان

فلما رجع إلى العراق بره ابن هبيرة ووصله وكان ابن هبيرة يقدمه ويؤثره لمدحه قيسا وافتخاره بها فلما جاء‌ت دولة أهل خراسان عظم شأنه.

وأخبرنا المرزباني قال حدثنا محمد بن أحمد الكاتب قال حدثنا أحمد بن يحيى النحوي قال قال الاصمعي ما وصف أحد الثغر إلا احتاج إلى قول بشر بن أبي خازم

يفلجن الشفاه عن اقحوان * جلاه غب سارية قطار

ولا وصف أحد اللون بأحسن من قول عمر بن أبي ربيعة

وهى مكنونة تحير منها * في أديم الخدين ماء الشباب

شف منها محقق جندبى * فهي كالشمس من خلال السحاب

ولا وصف أحد عيني امرأة إلا احتاج إلى قول ابن الرقاع

لولا الحياء وأن رأسي قد بدا * فيه المشيب لزرت أم القاسم

فكأنها وسط النساء اعارها * عينيه أحور من جآذر جاسم

وسنان اقصده النعاس فرنقت * في عينه سنه وليس بنائم

ولا وصف أحد نجيبا إلا احتاج إلى قول حميد بن ثور

محلى باطواق عتاق يبينها * على الضر راعي الضأن لو يتقوف

ولا وصف أحد ظليما إلا احتاج إلى قول علقمة بن عبدة

هيق كأن جناحيه وجؤجؤه * بيت أطافت به خرقاء مهجوم

ولا اعتذر أحد إلا احتاج إلى قول النابغة

فانك كالليل الذي هو مدركي * وإن خلت ان المنتأى عنك واسع

[ قال الشريف المرتضى ] رضى الله عنه. أما قول حميد - محلى بأطواق عتاق - فانه يريد أن عليه نجار الكرم والعتق فصارت دلالتهما وسماتهما حلية من حيث كان موسوما

[152]

بهما. ومعنى - يبينها على الضراء - يتبينها ويعرفها هذا الراعي فيعلم انه كريم - والتقوف - من القيافة. فأما قول علقمة هيق - فالهيق - ذكرالنعام. ومعنى - أطافت به خرقاء - أي عملته وابتنته وقيل ان خرقاء ههنا هي الحاذقة وان هذه اللفظة تستعمل على طريق الاضداد في الحاذقة وغير الحاذقه. ومعنى - مهجوم - أي مهدوم.

وقال الاصمعي معنى أطافت به عملته فخرقت في عمله يقول قد أرسل جناحيه كأنه خباء امرأة خرقاء كلما رفعت ناحية استرخت ناحية اخرى والوجه الثاني أشبه وأملح. فأما قول بشر بن أبى خازم في وصف الثغر فأحسن منه أكشف وأشد استيفاء للمعنى قول النابغة

كالاقحوان غداة غب سمائه * جفت أعاليه وأسفله ند

فانما وصف أعاليه بالجفوف ليكون متفرقا متنضدا غير متلبد ولا مجتمع فيشبه حينئذ الثغور.

ثم قال وأسفله ند حتى لا يكون قحلا يابسا بل يكون فيه الغضاضة والصقالة فيشبه غروب الاسنان التي تلمع وتبرق.

وروى الرياشي قال سمعت الاصمعي يقول أحسن ما قيل في وصف الثغر قول ذي الرمة

وتجلو بفرع من أراك كأنه * من العنبر الهندي والمسك ينضح

ذرا أقحوان واجه الليل وارتقى * اليه الندى من رامة المتروح

هجان الثنايا مغربا لو تبسمت * لاخرس عنه كاد بالقول يفصح