(مجلس آخر 54)

[ تأويل آية ]

إن سأل سائل عن قوله تعالى (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهى كالحجارة أو أشد قسوة). فقال: ما معنى أو ههنا وظاهرها يفيد الشك الذى لايجوز عليه تعالى. الجواب قلنا في هذه الآية وجوه.

أولها أن تكون أو ههنا للاباحة كقولهم جالس الحسن أو ابن سيرين والق الفقهاء أو المحدثين ولم يريدوا الشك بل

[143]

كأنهم قالوا هذان الرجلان أهل للمجالسة وهذا القبيلان من العلماء أهل للقاء فان جالست الحسن فأنت مصيب وإن جالست ابن سيرين فأنت مصيب وإن جمعت بينهما فكذلك فيكون معنى الآية على هذا إن قلوب هولاء قاسية متجافية عن الرشد والخير فان شبهتم قسوتها بالحجارة أصبتم وإن شبهتموها بما هو أشد أصبتم وإن شبهتموها بالجميع فكذلك وعلى هذا يتأول قوله تعالى (أو كصيب من السماء) لان أو) لم يرد بها الشك بل على نحو الذى ذكرناه من أنكم إن شبهتموهم بالذى استوقد نارا فجائز وإن شبهتموهم بأصحاب فجائز وإن شبهتموهم بالجميع فكذلك.

وثانيها أن تكون أو دخلت للتفصيل والتمييز ويكون معنى الآية ان قلوبهم قست فبعضها ماهو كالحجارة في القسوة وبعضها ما هو أشد قسوة منها ويجرى ذلك مجرى قوله تعالى (وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا) ومعناه وقال بعضهم كونوا هودا وهم اليهود وقال بعضم كونوا نصارى وهم النصارى فدخلت أو للتفصيل وكذلك قوله تعالى (وكم من قرية أهلكناها فجاء‌ها بأسنا بياتا أو هم قائلون) معناه فجاء بعض أهلها بأسنا بياتا وجاء بعض أهلها بأسنا في وقت القيلولة وقد يحتمل قوله تعالى (أو كصيب من السماء) هذا الوجه إيضا ويكون المعنى أن بعضهم يشبه الذى استوقد نارا وبعضهم يشبه أصحاب الصيب.

وثالثها أن يكون أو دخلت على سبيل الابهام فيما يرجع إلى المخاطب وإن كان الله تعالى عالما بذلك غير شاك فيه لانه تعالى لم يقصد في إخبارهم عن ذلك إلا التفصيل بل علم عزوجل أن خطابهم بالاجمال أبلغ في مصلحتهم فأخبر تعالى أن قسوة قلوب هؤلاء الذين ذمهم كالحجارة أو أشد قسوة والمعنى أنها كانت كأحد هذين لايخرج عنهما ويجرى ذلك مجرى قولهم ماأطعمتك إلا حلوا حامضا فيبهمون على المخاطب مايعلمون أنه لافائدة في تفصيله والمعنى ما أطعمتك إلا أحد هذين الضربين وكذلك يقول أحدهم أكلت بسرة أو ثمرة وهو قد علم ما أكل على التفصيل إلا أنه أبهمه على المخاطب.

قال لبيد

[144]

تمنى ابنتاى أن يعيش أبوهما * وهل أنا إلا من ربيعة أو مضر(1)

أراد هل أنا إلا من أحد هذين الحيين فسبيلى أن أفنى كما فينا وانما حسن ذلك لان قصده الذى أجرى إليه وغرضه الذى نحاه وهو أن يخبر بكونه ممن يموت ويفنى ولا يخل به إجمال ما أجمل من كلامه فأضرب عن التفصيل لانه لافائدة فيه ولانه سواء كان من ربيعة أو مضر فموته واجب وكذلك الآية لان الغرض فيها أن يخبر تعالى عن شدة قسوة قلوبهم وأنها مما لاتنثنى لوعظ ولاتصغى إلى حق فسواء كانت في القسوة كالحجارة أو أشد منها فقد تم ما أجرى إليه من الغرض في وصفها وذمها وصار تفصيل تشبيهها بالحجارة وبما هو أشد قسوة منها كتفصيل كونه من ربيعة أو مضر في أنه غير محتاج إليه ولايقتضيه الغرض في الكلام.

ورابعها أن تكون أو بمعنى بل كقوله تعالى (وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون) معناه بل يزيدون وروى عن ابن عباس في قوله تعالى (وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون) قال كانوا مائة ألف وبضعا وأربعين

___________________________________

(1) وبعده

فقوما وقولا بالذى تعلمانه * ولاتخمشا وجهاولا تحلقا شعر

وقولا هو المرء الذي لاصديقه * أضاع ولاخان الصديق ولاغدر

إلى الحول ثم اسم السلام عليكما * ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر

والبيت الاخير يورده بعض النحاة على ان لفظ اسم مقحم.

قال ابن جنى هذا قول أبي عبيدة وكذلك قال في بسم الله ونحن نحمل الكلام على ان فيه محذوفا قال أبوعلى وانما هو حد حذف المضاف أى ثم اسم معنى السلام عليكما واسم معنى السلام هو السلام وكأنه قال ثم السلام عليكما فالمعنى لعمرى ما قاله أبوعبيدة لكنه من غير الطريق التي أتاه هو منها ألا تراه هو اعتقد زيادة شئ واعتقدنا نحن نقصان شئ اه‍.

روى ان لبيد رضى الله عنه لما حضرته الوفاة قال لابنتيه هذه الابيات فكانتا بعد وفاته تلبسان ثيابهما في كل يوم وتأتيان مجلس جعفر بن كلاب قبيلته فترثيانه ولا تعولان فأقامتا على ذلك حولا كاملا ثم انصرفتا

[145]

ألفا.

وأنشد الفراء

بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى * وصورتها أو أنت في العين أملح

وقد تكون أم في الاستفهام أيضا بمعنى بل كقول القائل أضربت عبدالله أم أنت رجل متعنت؟ معناه بل أنت رجل متعنت.

وقال الشاعر

فوالله ما أدرى أسلمى تغولت * أم النوم أم كل إلى حبيب

معناه بل كل.

وقد طعن بعضهم على هذا الجواب فقال وكيف يجوز أن يخاطبنا تعالى بلفظة بل وهى تقتضى الاستدراك والنقض للكلام الماضى والاضراب عنه وليس ذلك بشئ أما الاستدارك فان أريد به الاستفادة أو التذكر لما لم يكن معلوما فليس بصحيح لان أحدنا يقول أعطيته ألفا بل ألفين وقصدته دفعة بل دفعتين وهوعالم في ابتداء كلامه بما أخبر به في الثانى ولم يتجدد به علم وان أراد به الاخذ في كلام غير الماضى واستئناف زيادة عليه فهو صحيح ومثله جائز عليه تعالى فأما النقض للكلام الماضى فليس بواجب في كل موضع تستعمل فيه لفظة بل لان القائل إذا قال إعطيته ألفا بل ألفين لم ينقض الاول وكيف ينقضه والاول داخل في الثانى وإنما زاد عليه وإنما يكون ناقضا للماضى إذا قال لقيت رجلا بل حمارا وأعطيته درهما بل ثوبا لان الاول لم يدخل في الثانى على وجه وقوله تعالى (أو أشد قسوة) غير ناقض للاول لانها لاتزيد في القسوة على الحجارة إلا بعد أن تساويها وانما تزيد عليها بعد المساواة.

وخامسها أن تكون أو بمعنى الواو كقوله (أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم) معناه وبيوت آبائكم.

قال جرير

نال الخلافة أو كانت له قدرا * كما أتى ربه موسي على قدر(1)

___________________________________

(1) قوله نال الخلافة الخ. هو من قصيدة يمدح بها عمر بن عبدالعزيز رحمه الله تعالى. ويروى جاء الخلافة وأتى الخلافة وفى ديوانه نا الخلافة. والبيت من شواهد النحاة في باب الفاعل على توسط المفعول بين الفعل والفاعل جوازا ومطلع القصيدة(19 - امالى لث)

[146]

وقال توبة بن الحمير

وقد زعمت ليلى بأني فاجر * لنفسى تقاها أو عليها فجورها(1)

___________________________________

لجت امامة في لومي وما علمت * عرض السماوة روحاتي ولابكري

وقال العيني وأولها قوله

كم باليمامة من شعثاء أرملة * ومن يتيم ضعيف الصوت والنظر

وهذا غلط لان البيت قبله اثنا عشر بيتا ومنها

إنا لنرجوا اذا ما الغيث أخلفنا * من الخليفة ما نرجو من المطر

ومنها

أصبحت للمنبر المعمور مجلسه * زينا وزين قباب الملك والحجر

(1) هو من قطعة أولها

حمامة بطن الواديين ترنمي * سقاك من الغر الغوادي مطيرها

أبينى لنا لا زال ويشك ناعما * ولا زلت في خضراء غض نضيرها

وكنت اذا ما زرت ليلى تبرقعت * وقد رابنى منها الغداة سفورها

وقد رابنى منها صدود رأيته * واعراضها عن حاجتى وبسورها

وأشرف بالقور اليفاع لعلنى * أرى نار ليلى أو يرانى بصيرها

يقول رجال لايضيرك نأيها * بلى كل ماشف النفوس يضيرها

بلى قد يضير العين أن تكثر البكى * ويمنع منها نومها وسرورها

وقد زعمت ليلى بأني فاجر * لنفسى تقاها أو عليها فجورها

يروي ان ليلى الاخيلية لما أنشدت الحجاج هذه الابيات قال لها ما الذى رابه من سفورك فقالت أيها الامير كان يلم بي كثيرا فأرسل إلى يوما إنى آتيك وفطن الحي فأرصدوا له فلما أتانى سفرت عن وجهى فعلم ان ذلك لشر فلم يزد على التسليم والرجوع فقال لله درك فهل رأيت منه شيئا تكرهينه فقالت لا والذي أسأله أن يصلحك غير انه قال مرة قولا ظننت انه قد خضع لبعض الامر فأنشأت أقول

[147]

وقال جرير أيضا

أثعلبة الفوارس أم رياحا * عدلت بهم طهية والخشابا(1)

أراد أو رياحا.

وقال آخر

فلو كان البكاء يرد ميئا * بكيت على بجير أو عفاق

على المر أين إذهلكا جميعا * لشأنهما بشجو واشتياق

أراد على بجير وعفاق.

وقد حكى المفضل بن سلمة هذا الوجه عن قطرب وطعن عليه بأن قال ليس شئ يعلم أشد قسوة عند المخاطبين من الحجارة فيشبه قلوبهم الزيادة عليها وإنما يصح ذلك في قولهم أطعمتك تمرا أو أحلا منه لان أحلا منه معلوم واختار

___________________________________

وذى حاجة قلنا له لاتبح بها * فليس اليها ما حييت سبيل

لنا صاحب لاينبغى أن نخونه * وأنت لاخرى فارغ وخليل

فلا والله الذى أسأله أن يصلحك ما رأيت منه شيئا حتي فرق الموت بينى وبينه

(1) قوله - أثعلبة - أراد بها القبيلة وهي ثعلبة بن سعيد بن ذبيان بن بغيض بن ريث ابن غطفان. وفي أسد بن خزيمة ثعلبة أيضا وهى ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة. وقوله - أم رياحا - بكسر الراء وبالياء آخر الحروف وهى أيضا قبيلة وهى رياح بن يربوع ابن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم. وفي قضاعة أيضا رياح بطن وهو ابن عوف ابن عميرة بن الهون بن أعجب بن قدامة بن حزم بن أبان بن حلوان بن عمرو بن الحاف بن قضاعة. وفي سليم أيضا وهى رياح بن يقظة بن عصية بن خفاف ابن امرئ القيس بن بهثة بن سليم.

وقوله - طهية - بضم الطاء وفتح الهاء وتشديد الياء آخر الحروف وفي آخره هاء وهي حى من بنى تميم يقال لهم بنو طهية بنت عبد شمس بن سعد بن زيد مناة بن تميم. وقوله - والخشابا - بكسر الخاء المعجمة وبالشين المعجمة وبعد الالف باء موحدة وهى أيضا قبيلة. وقال الجوهري وبنو رزام بن مالك بن حنظلة يقال لهم الخشاب ثم أنشد البيت المذكور

[148]

المفضل الوجه الذى يتضمن أن أو بمعنى بل وهذا الذى طعن به المفضل ليس بشئ لانهم وإن لم يشاهدوا أو يعرفوا ما هو أشد قسوة من الحجارة فصورة قسوة الحجارة معلومة لهم ويصح أن يتصوروا ماهو أشد قسوة منها وما له عليها فضل لان قدرا ما إذا عرف جاز أن يعرف ما هو أزيد منه أو انقص لان الزيادة والنقصان إنما يضافان إلى معلوم معروف على أن الآية خرجت مخرج المثل وأراد تعالى بوصف قلوبهم بالزيادة في القسوة على الحجارة أنها قد انتهت إلى حد لاتلين معه للخير على وجه من الوجوه وإن كانت الحجارة ربما لانت وانتفع بها فصارت من هذا الوجه كأنها أشد قسوة منها تمثيلا وتشبيها وقول المفضل ليس يعرفون ماهو أقسى من الحجارة لامعنى له إذا كان القول على طريق المثل.

وبعد فإن الذى طعن به على هذا الجواب يعرض على الوجه الذى اختاره لانه إذا اختار أن أو في الآية بمعنى بل فكيف جاز بأن يخبرهم بأن قلوبهم أشد قسوة من الحجارة وهم لايعرفون ماهو أقسى من الحجارة وإذا جاز أن يقول لهم بل قلوبهم أقسى مما يعرفون من الحجارة جاز أن يخبر عن مثل ذلك بالواو فيقول قلوبهم كالحجارة التى يعرفون في القوة وهى مع ذلك تزيد عليها.

فإن قيل كيف يكون أو في الآية بمعنى الواو والواو للجمع وليس يجوز أن تكون قلوبهم كالحجارة أو أشد من الحجارة في حالة واحدة لان الشئ إذا كان على صفة لم يجز أن يكون على خلافها. قلنا قد أجاب بعضهم عن هذا الاعتراض بأن قال ليس يمتنع أن تكون قلوبهم كالحجارة في حال وأشد من الحجارة في حال أخرى فيصح المعنى ولايتنافى وهذا قريب ويكون فائدة هذا الجواب أن قلوب هؤلاء في بعض الاحوال مع القسوة والعدول عن تصور الحق والفكرة فيه ربما لانت بعض اللين وفى حال اخرى تكون في نهاية البعد عن الحق وكادت تصغى إلى الحق فتكون في هذا الحال كالحجارة التى ربما لانت وفى حال أخرى ربما تكون في نهاية البعد عن الحق والنفور عنه فتكون في هذا الحال أشد قسوة من الحجارة على أن يمكن في الجواب عن هذا الاعتراض وجه آخر وقد تقدم معناه في بعض كلامنا وهو أن قلوبهم لاتكون أشد من الحجارة إلا بعد أن يكون فيها قسوة الحجارة لان القائل إذا قال فلان أعلم من فلان فقد أخبر أنه زائد عليه في العلم

[149]

الذى اشتركا فيه فلابد من الاشتراك ثم الزيادة فليس ههنا تناف على ماظن المعترض ولاإثبات لصفة ونفيها فكل هذا بين بحمدالله تعالى. [ قال المرتضى ] رضى الله عنه وإنى لاستحسن من الشعر قول الاحوص بن محمد الانصاري

ومولى سخيف الراى رخو تزيده * أناتى وعفوى جهله عنده ذما(1)

وصلت ولو عيرته لاصبته * بشنعاء باق عارها يفرأ العظما

طوى حسدا ضغنا على كأنما * أداوى به في كل مجمعة كلما

ويجهل أحيانا فلايستخفنى * ولا أجهل العتبى إذا راجع الحلما

يصد وينأى في الرخاء بوده * ويدعو ويدعونى إذا خشى الهضما

فيفرج عنه أربة الخصم مشهدى * وأدفع عنه عند عثرته الظلما

- الاربة - الدهاء والاربة العقدة وكلا المعنيين يحتمل لفظ البيت

وكنت امرأ عود الفعال تهزنى * مآثر مجد تالد لم يكن زعما

وكنت وشتمى في أرومة مالك * بسبى له كالكلب إذ ينبح النجما

ولست بلاق سيدا ساد مالكا * فتنسبه إلا أبا لى أو عما

ستعلم إن عاديتنى فقع قرقر * أمالا أفدت لا أبا لك أو عدما(2)

___________________________________

(1) - المولى - القريب كابن العم ونحوه والواو فيه واو رب أى رب مولى سخيف الرأى أي ضعيفه - والاناة - الحلم والوقار. المعنى أن اناتي وعفوى يزيد انه من ذمى عنده

(2) - الفقع - البيضاء من الكمأة وهي منصوبة على الذم - والقرقر - الارض المطمئنة. وهذا مأخوذ من قولهم أذل من فقع بقرقر لانه لايمتنع على من اجتناه ويقال بل لانه (*)

[150]

لقد أبقت الايام منها وجرسها * لاعدائنا ثكلا وحسادنا رغما

وكانت عروق السوء أودت وقصرت * به أن ينال الحمد فالتمس الذما

ومن مختار شعره

إنى إذا خفى رجال رأيتنى * كالشمس لاتخفى بكل مكان

ما من مصيبة نكبة أمنى بها * إلا تشرفنى وتعظم شاني

وتزول حين تزول عن متخمط * تخشى بوادره على الاقران

ومن جيد شعره

خليلان باحا بالهوى فتشاحنت * أقاربها في وصلها وأقاربه

ألا إن أهوى الناس قربا ورؤية * وريحا إذا ما الليل غارت كواكبه

ضجيع دنا منى جذلت بقربه * فبات يمنينى وبت أعاتبه

وأخبره بالسر بينى وبينه * بأن ليس شئ عند نفسى يقاربه

وقد غبر في وجه كل من وصف المضاجعة امرؤ القيس حيث يقول

___________________________________

يوطأ بالارجل والجمع فقعة مثل جب‌ء وجبأة ويقال حمام فقيع اذا كان - أبيض ويشبه الرجل الذليل بالفقع فيقال هو فقع قرقر لان الدواب تنجله بأرجلها.

قال النابغة يهجو النعمان بن المنذر حدثونى بني الشقيقة ما يمنع فقعا بقرقر أن يزولا لان الفقعة لا أصول لها ولا أغصان ويقال فلان فقعة لقاع كما يقال في مولد الامثال لمن كان كذلك هو كشوت الشجر لان الكشوت نبت يتعلق بأغصان الشجر من غير أن يضرب بعرق في الارض قال الشاعر

هو الكشوث فلا أصل ولا ورق * ولا نسيم ولاظل ولاثمر (*)

[151]

تقول وقد جردتها من ثيابها * كما رعت مكحولا من العين أتلعا

وجدك لو شئ أتانا رسوله * سواك ولكن لم نجد لك مدفعا

فبتنا نذود الوحش عنا كأننا * قتيلان لم تعلم لنا الناس مصرعا

إذا أخذتها هزة الروع أمسكت * بمنكب مقدام على الهول أروعا

وقال على بن الجهم في وصفه شدة الالتزام

سقى الله ليلا ضمنا بعد هجعة * وأدنى فؤادا من فؤاد معذب

فبتنا جميعا لو تراق زجاجة * من الراح فيما بيننا لم تسرب

ولعبد الصمد بن المعدل في هذا المعنى

كأننى عانقت ريحانة * تنفست في ليلها البارد

فلو ترانا في قميص الدجا * حسبتنا في جسد واحد

ولبشار إننى أشتهى لقاء‌ك والله فماذا عليك أن تلقانى قد تلف الرياح غصنا من البان إلى مثله فيلتقيان ومثله للبحترى ولم أنس ليلتنا في العناق لف الصبا بقضيب قضيبا

كما اقبلت الريح في مرها * فطورا خفوتا وطورا هبوبا

ولآخر في مثل هذا بعينه ولسنا ندرى هل سبق البحترى أو تأخر عنه

وضم لاينهنهه اعتناق * كما لف القضيب على القضيب

ولعلى بن الجهم

وبتنا على رغم الحسود كأننا * خليطان من ماء الغمامة والخمر

[152]

وهذا وإن جعله في العناق فهو مأخوذ من قول بشار

وإن نلتقى خلف العيون كأننا * سلاف عقار بالنقاخ مشوب

والاصل في هذا قول الاخطل والناس من بعده على أثره

من الجاريات الحور مطلب سرها * كبيض الانوق المستكنة في الوكر

وإنى وإياها إذا مالقيتها * لكالماء من صوب الغمامة والخمر

وقد أخذه أيضا ابن أبى عيينة فقال

ماأنس لا أنس يمناها معطفة * على فؤادى ويسراها على راسى

وقولها ليته ثوب على جسدى * أوليتنى كنت سربالا لعباس

أوليته كان لى خمرا وكنت له * من ماء مزن فكنا الدهر في كاس

ومثل هذا للبحترى

وجدت نفسك من نفسى بمنزلة * هى المصافاة بين الماء والراح

ولقد أحسن بشار في قوله

لقد كان مابينى زمانا وبينها * كما كان بين المسك والعنبر الورد

أخبرنا أبوعبيدالله المرزبانى قال حدثنا أحمد بن محمد المكى قال حدثنا أبوالعيناء قال حدثنى القتيبى عن أبيه قال سير الوليد بن عبدالملك(1) الاحوص إلى دهلك فكتب

___________________________________

(1) قوله سير الوليد بن عبدالملك الاحوص الخ. المشهور ان الذي نفاه سليمان ابن عبدالملك وسبب ذلك ان الاحوص كان ينسب بنساء ذوات أخطار من أهل المدينة ويتغنى في شعره معبد ومالك ويشيع ذلك في الناس فنهي فلم ينته فشكي إلى عامل سليمان بن عبدالملك على المدينة وسألوه الكتاب فيه اليه ففعل ذلك فكتب سليمان الي عامله يأمره أن يضربه مائة سوط وبقيمه على البلس للناس ثم يصيره إلى دهلك ففعل ذلك به فتوى هناك سلطان سليمان بن عبدالملك ثم ولى عمر بن عبدالعزيز فكتب (*)

[153]

الاحوص إلى عمر بن عبدالعزيز حين استخلف

وكيف ترى للنوم طعما ولذة * وخالك أمسى موثقا في الحبائل

فمن يك أمسى سائلا عن شماتة * ليشمت بى أو شامتا غير سائل

فقد عجمت منى الحوادث ماجدا * صبورا على غماء تلك البلابل

إذا سر لم يفرح وليس لكنبة * ألمت به بالخاشع المتضائل

فبعث عمربن عبدالعزيز إلى عراك بن مالك الذى كان شهد عليه فقال ماترى في هذا

___________________________________

اليه يستأذنه في القدوم ويمدحه فأبى أن يأذن له وكتب فيما كتب اليه به

أيارا كبا إما عرضت فبلغن * هديت أميرالمؤمنين رسائلى

وقل لابى حفص اذا مالقيته * لقد كنت نفاعا قليل الغوائل

وكيف ترى للعيش طيبا ولذة * وخالك أمسى موثقا في الحبائل

ثم ان رجالا من الانصار كلموا فيه عمر بن عبدالعزيز رضى الله عنه فقال لهم فمن الذى يقول

فما هو ألا أن رآها فجاء‌ة * فأبهت حتى ما أكاد يجيب

قالوا الاحوص والصحيح ان هذا البيت لعروة بن حزام.

قال فمن الذى يقول

أدور ولولا ان أرى أم جعفر * بأبياتكم مادرت حيث أدور

وما كنت زوارا ولكن ذا الهوى * اذا لم يزر لابد أن سيزور

قالوا الاحوص.

قال فمن الذي يقول

كأن لبنى صبير غادية * أو دمية زينت بها البيع

الله بينى وبين قيمها * يفر منى بها وأتبع

قال بل الله بين قيمها وبينه.

فمن الذى يقول

ستبقى لها في مضمر القلب والحشى * سريرة حب يوم تبلي السرائر

قالوا الاحوص قال ان الفاسق عنها يومئذ لمشغول والله لا أرده ما كان لى سلطان(20 - أمالى - لث) (*)

[154]

البائس فقال عراك مكانه خير له فتركه في موضعه فلما ولى يزيد بن عبدالملك جلب الاحوص وسير عراكا. [ قال المرتضى ] رضى الله عنه وإنما كان الاحوص خال عمربن عبدالعزيز من جهة أن أم عمرهى أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب وأمها أنصارية.

فأما قوله - إذا سر لم يفرح - فمأخوذ من قول لقيط من زرارة

لامترفا إن رخاء العيش ساعده * وليس إن عض مكروه به خشعا(1)

وللاحوص

وببطن مكة لا أبوح به * قرشية غلبت على قلبى

لو أنها إذ مر مركبها * يوم الكديد أطاعنى صحبى

قلنا لها حييت من شجن * ولركبها حييت من ركب

___________________________________

(1) البيت من قصيدته المشهورة التى أنذر بها قومه غزو كسرى إياهم وكان لقيط كاتبا في ديوان كسرى فلما رآه مجمعا على غزو إياه كتب اليهم بهذا الشعر فوقع الكتاب في يد كسرى فقطع لسان لقيط وغزا إيادا ومطلعها

يادار عمرة من محتلها الجرعا * هاجت لى الهم والاحزان والوجعا

تامت فؤادى بذات الجزع خرعبة * مرت تريد بذات العذبة البيعا

بمقلتي خاذل أدماء طاع لها * نبت الرياض تزجي وسطه ذرعا

ومنها

وقلدوا أمركم لله دركم * رحب الذراع بأمر الحرب مطلعا

لامترفا ان رخاء العيش ساعده * ولا اذا عض مكروه به خشعا

لايطعم النوم إلا ريث يبعثه * هم يكاد سناه يقصم الضلعا

مسهد النوم تعنيه أموركم * يروم منها إلى الاعداء مطلعا

ما انفك يحلب هذا الدهر أشطره * يكون متبعا طورا ومتبعا

حتى استمرت على شزر مريرته * مستحكم الرأى لاقحما ولاضرعا (*)

[155]

والشوق أقتله برؤيتها * قتل الظما بالبارد العذب

والناس إن حلوا جميعهم * شعبا سلام وكنت في شعب

لحللت شعبك دون شعبهم * ولكان قربك منهم حسبى

قوله - والشوق أقتله - نظير قول جرير

فلما التقى الحيان ألقيت العصا * ومات الهوى لما أصيب مقاتله