(مجلس آخر 48)
[ تأويل آية ]
إن سأل سائل عن قوله تعالى (ليس لك من الامر شئ أو يتوب عليهم أو يعذبهم فانهم ظالمون).
فقال كيف جاءت أو بعد مالا يجوز أن يعطف عليه وما الناصب لقوله تعالى (أو يتوب عليهم) وليس في ظاهر الكلام ما يقتضى نصبه. الجواب قلنا قد ذكر في ذلك وجوه.
أولها أن يكون قوله (أو يتوب عليهم) معطوفا على قوله (ليقطع طرفا) والمعنى أنه تعالى عجل لكم هذا النصر ومنحكم به ليقطع طرفا من الذين كفروا أي قطعة منهم وطائفة من جمعهم أو يكبتهم ويغلبهم ويهزمهم فيخيب سعيهم وتكذب فيكم ظنونهم أو يغلبهم مايرون من تظاهر آيات الله تعالى الموجبة لتصديق نبيه عليه الصلاة والسلام فيتوبوا ويؤمنوا فيقبل الله تعالى ذلك منهم ويتوب عليهم أو يكفروا بعد قيام الحجج وتأكيد البينات والدلائل فيموتوا أو يقتلوا كافرين فيعذبهم الله تعالى باستحقاقهم في النار ويكون على هذا الجواب قوله
[81]
تعالى (ليس لك من الامر شئ) معطوفا على قوله تعالى (وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم) أي ليس لك ولا لغيرك من هذا الامر شئ وانما هو من الله عزوجل.
والجواب الثاني أن يكون أو بمعني حتى وإلا أن والتقدير ليس لك من الامر شئ حتى يتوب عليهم وإلا أن يتوب عليهم كما قال امرؤ القيس
بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه * وأيقن أنا لاحقان بقيصرا(1)
فقلت له لاتبك عينك إنما * نحاول ملكا أو نموت فنعذرا
أراد إلا أن نموت فنعذرا وهذا الجواب يضعف في طريق المعنى لان لقائل أن يقول ان أمر الخلق ليس إلى أحد سوى الله تعالى قبل توبة العباد وعقابهم وبعد ذلك فكيف يصح أن يقول ليس لك من الامر شئ أو يتوب عليهم أو يعذبهم حتى كأنه اذا كان أحد الامرين كان اليه من الامر شئ. ويمكن أن ينصر ذلك بأن يقال قد يصح الكلام اذا حمل على المعني وذلك ان قوله (ليس لك من الامر شئ) معناه ليس يقع ما تريده وتؤثره من ايمانهم وتوبتهم أو ما تريده من استئصالهم وعذابهم على اختلاف الرواية في معني الآية وسبب نزولها إلا بأن يلطف الله لهم في التوبة فيتوب عليهم أو يعذبهم وتقدير الآية ليس يكون ما تريده من توبتهم أو عذابهم بك إنما يكون ذلك الله تعالى.
والجواب الثالث أن يكون المعنى ليس لك من الامر شئ أو من أن يتوب الله عليهم فأضمر من اكتفاء بالاول وأضمر أن بعدها لدلالة الكلام عليها أو اقتضائه لها وهى مع الفعل الذي بعدها بمنزلة المصدر وتقدير الكلام ليس لك من الامر شئ ومن توبتهم وعذابهم. [ قال المرتضى ] رضى الله عنه ووجدت أبا بكر محمد بن القاسم
___________________________________
(1) قوله بكى صاحبى الخ.
هو من قصيدته المشهورة ومطلعها
سما لك شوق بعدما كان أبصرا * وحلت سليمى بطن قو فعرعرا
قالها لما ذهب إلى قيصر يستنجده على بنى أسد بعد قتلهم أباه وعنى بقوله - صاحبي - عمرو ابن قميئة من قيس بن ثعلبة بن مالك رهط طرفة وهو قديم جاهلى كان مع حجر أبى امرئ القيس فلما خرج امرؤ القيس إلى الروم صحبه (*)(11 - أمالى ثالث)
[82]
يطعن على هذا الجواب ويستبعده قال لان الفعل لا يكون محمولا على اعراب الاسم الجامد الذي لاتصرف له على إضمار أن مع الفعل لانه ليس من كلام العرب عجبت من اخيك ويقوم على معني عجبت من أخيك ومن أن يقوم لان أخاك اسم جامد محض لا يعطف عليه الا ما شاكله قال هذا انما يستقيم ويصلح في رد الفعل إلى المصدر كقولهم كرهت غضبك ويغضب أبوك على معني كرهت غضبك وأن يغضب أبوك فيطرد هذا في المصادر لانها تؤل بأن فيقول النحويون يعجبني قيامك وتأويله يعجبني أن تقوم قال والاسم الجامد لايمكن مثل هذا فيه.
[ قال الشريف المرتضى ] رضى الله عنه وليس ماذكره مستبعدا وان لم يضعف هذا الجواب إلا من حيث ذكر فليس بضعيف وذلك ان فيما امتنع منه مثل الذي أجازه لانه قد أجاز ذلك في المصادر وان لم يجزه في غيرها وقوله تعالى (ليس لك من الامر شئ أو يتوب عليهم) فيه دلالة الفعل لان الامر مصدر أمرت أمرا فكأنه تعالى قال ليس لك من أمرهم أو تأمرهم شئ ولا من أن يتوبوا وجرى ذلك مجري قولهم كرهت غضبك ويغضب أبوك في رد الفعل إلى المصدر والوجه الاول أقوى الوجوه والله أعلم بما اراد [ تأويل خبر ].
إن سأل سائل عن الخبر الذي يرويه أبوهريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال لاتناجشوا ولا تدبروا وكل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه. الجواب قيل له أما النجش فهو المدح والاطراء.
قال نابغة بني شيبيان يذكر الخمر
وترخى بال من يشربها * ونفدى كرمها عند النجش(1)
___________________________________
(1) هو من قصيدة له مشهورة روى ان أبا كامل مولي الوليد بن يزيد غنى يوما بحضرته
أمدح الكأس ومن أعملها * واهج قوما قتلونا بالعطش
فسأل الوليد عن قائل هذا الشعر فقيل نابغة بنى شيبان فأمر باحضاره فاستنشده القصيدة فأنشده إياها وظن ان فيها مدحا له فاذا هو يفتخر بقومه ويمدحهم فقال له الوليد لو سعد جدك لكانت مديحا فينا لا في بنى شيبان ولسنا نخليك على ذلك من حظ ووصله (*)
[83]
أي عند مدحها ومنه النجش في البيع وهو مدح السلعة والزيادة في ثمنها من غير إرادة لشرائها بل ليقتدي بالزائد في زيادته غيره وأصل النجش استخراج الشئ والتسعير.
عنه قال بعض الفقعسيين
أجرش لها يابن أبي كباش * فما لها الليلة من إنفاش
غير السرى وسائق نجاش * أسمر مثل الحية الخشخاش
ويروى الحشحاش - والنجاش - هو المستثير لسيرها والمستخرج لما عندها منه ومعني - أجرش لها - أي احد لها لتسمع الحداء فتسير وهو مأخوذ من الجرش وهو الصوت ومعنى
___________________________________
وانصرف. وأول هذه القصيدة قوله
حل قلبي من سليمى نبلها * إذ رمتنى بسهام لم تطش
طفلة الاعطاف رؤد دمية * وشواها بختري لم يحش
وكأن الدر في أخراصها * بيض كحلاء أقرته بعش
ولها عينا مهاة في مهي * ترتعي نبت حزامي وتقش
حرة الوجه رخيم صوتها * رطب تجنيه كف المنتقش
وهي من الليل اذا ما عونقت * منية البعل وهم الفترس
ومنها
أيها الساقي سقته مزنة * من ربيع ذى أهاضيب وطش
أمدح الكاس ومن أعملها * وأهج قوما قتلونا بالعطش
انما الكاس ربيع باكر * فاذا ماغاب عنالم نعش
وكأن الشرب قوم موتوا * من يقم منهم لامر يرتعش
خرس الالسن مما نالهم * بين مصروع وصاح منتعش
من حميا قرقف حصية * قهوة حولية لم تمتحش
ينفع المزكوم منها ريحها * ثم تنفي داءه إن لم تنش
كل من يشربها يألفها * ينفق الاموال فيها كل هش
(*)
[84]
- الانفاش - أراد انها لاتترك ترعي ليلا والنفش أن ترعى الابل ليلا وقد أنفشتها اذا أرسلتها ليلا ترعى - والخشخاش - الخفيف الحركة السريع التقلب.
والنجش في البيوع يرجع معناه إلى هذا أيضا من الزيادة لان الناجش يستثير بزيادته في الثمن ومدحه السلعة الزيادة في ثمنها فيكون معني الخبر على هذا لاتناجشوا أي لا يمدح أحدكم السلعة فيزيد في ثمنها وهو لايريد شراءها ليسمعه غيره فيزيده وقد يجوز أيضا أن يريد بذلك لايمدح أحدكم صاحبه من غير استحقاق ليستدعى منفعته ويستثير فائدته وهذا المعني أشبه بأن يكون مراده عليه الصلاة والسلام لان قوله ولا تدابروا اشد مطابقة له.
ومعني - لا تدابروا - أي لاتهاجروا ويولى كل واحد صاحبه دبر وجهه. قال الشاعر وأوصى أبوقيس بأن تتواصلوا وأوصى أبوكم ويحكم أن تدابروا فكأنه قال عليه الصلاة السلام لاتتمادحوا وتتواصلوا بالمدح الذي ليس بمستحق ولاتهاجروا وتتقاطعوا.
فأما قوله عليه الصلاة والسلام - كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه - فقد ذهب قوم إلى أن عرض الرجل انما هو سلفه من آبائه وأمهاته وما جرى مجراهم وذهب ابن قتيبة إلى أن عرض الرجل عرض نفسه واحتج حديث النبي صلى الله عليه وسلم حين ذكر أهل الجنة فقال لا يبولون ولا يتغوطون انما هو عرق يجري من اعراضهم مثل المسك أي من ابدانهم قال ومنه قول أبي الدرداء أقرض من عرضك اليوم من قدفك أراد من شتمك فلا تشتمه ومن ذكرك بسوء فلا تذكره به ودع ذلك قرضا لك عليه ليوم الجزاء والقصاص.
واحتج أيضا بحديث الحسن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال أيعجز حدكم أن يكون كأبي ضمضم كان اذا خرج من منزله قال اللهم إني قد تصدقت بعرضي على عبادك قال فمعناه قد تصدقت بنفسي وأحللت من يغتابني فلو كان العرض الاسلاف ماجاز أن يحل من سب الموتي لان ذلك اليهم لا اليه. قال ويدل على ذلك أيضا حديث سفيان بن عيينة لو أن رجلا أصاب من عرض رجل شتما ثم تورع من بعده فجاء إلى ورثته بعد موته فأحلوه له لم يكن ذلك
[85]
كفارة له ولو أصاب من ماله شيئا ثم دفعه إلى ورثته لكنا نرى ان ذلك كفارة له قال ويدل على ان عرض الرجل نفسه قول حسان
هجوت محمدا فأجبت عنه * وعند الله في ذاك الجزاء(1)
فإن أبي ووالده وعرضي * لعرض محمد منكم وقاء
أتهجوه ولست له بكفء * فشركما لخيركما الفداء
أراد فان أبي وجدى ونفسي وقاء لنفس محمد صلى الله عليه وسلم وقال آخرون وهو الصحيح لعرض موضع المدح والذم من الرجل فاذا قيل ذكر عرض فلان فمعناه ذكرما يرتفع به أو مايسقط بذكره ويمدح أو يذم به وقد يدخل في ذلك ذكر الرجل نفسه وذكر آبائه وأسلافه لان كل ذلك مما يمدح به ويذم والذي يدل على هذا ان أهل اللغة لايفرقون في قولهم شتم فلان عرض فلان بين أن يكون ذكره في نفسه بقبيح الافعال أو شتم سلفه واباءه ويدل عليه قول المسكين الدرامي
رب مهزول سمين عرضه * وسمين الجسم مهزول الحسب(2)
___________________________________
(1) روي انه لما انتهى إلى هذا البيت قال له النبى صلى الله عليه وسلم جزاؤك على الله الجنة يا حسان ولما انتهى إلى قوله * فان أبى ووالده وعرضى * الخ قال صلى الله عليه وسلم وقاك الله يا حسان حر النار ولما انتهى إلى قوله * أتهجوه ولست له بكفء * الخ قال من حضر هذا أنصف بيت قالته العرب. وقوله - فشركما لخيركما الفداء - قال السهيلى في ظاهر هذا اللفظ شناعة لان المعروف أن لا يقال هو شرهما إلا وفي كلاهما شر وكذلك خير مثله ولكن سيبويه قال تقول مررت برجل شر منك اذا نقص عن أن يكون مثله وهذا يدفع الشناعة عن الكلام الاول ونحو منه قوله عليه الصلاة والسلام شر صفوف الرجال آخرها يريد نقصان حظهم عن حظ الصف الاول كما قال سيبويه ولا يجوز أن يريد التفضيل في الشر والله أعلم
(2) ذكر أبوعلى القالي العرض بأنواعه فتركنا كل ما لا يتعلق له بموضع البحث (*)
[86]
فلو كان العرض نفس الانسان لكان الكلام متناقضا لان السمن والهزل يرجعان إلى
___________________________________
فقال والعرض أيضا ما ذم من الانسان أو مدح يقال فلان نقى العرض أى هو برئ من أن يشتم أو يعاب واختلف فيه فقال أبوعبيدة عرضه آباؤه وأسلافه وخالفه ابن قتيبة فقال عرضه جسده واحتج بحديث النبي صلى الله عليه وسلم في صفة أهل الجنة لا يبولون ولا يتغوطون انما هو عرق يجرى من اعراضهم مثل المسك يعنى من أبدانهم ونصر شيخنا أبوبكر بن الانباري أبا عبيدة فقال ليس هذاالحديث حجة له لان الاعراض عند العرب المواضع التى تعرق من الجسد قال والدليل على غلط ابن قتيبة في هذا التأويل وصحة تأويل أبي عبيدة قول مسكين للدارمى
رب مهزول سمين عرضه * وسمين الجسم مهزول الحسب
فمعناه رب مهزول البدن والجسم كريم الآباء قال وأما احتجاجه بيت حسان بن ثابت
فان أبى ووالده وعرضي * لعرض محمد منكم وقاء
في أن العرض الجسم فليس كما ذكر لان معناه فان أبي ووالده وآبائي فأتى بالعموم بعد الخصوص ذكر الاب ثم جمع الآباء كما قال الله عزوجل (ولقد آتيناك سبعا من الثانى والقرآن العظيم) فخص السبع ثم أتي بالقرآن العام بعد ذكره إياها والذي قاله ابن قتيبة قد قاله غيره ويمكن أن ينصر ابن قتيبة بيت مسكين ومعناه رب مهزول الجسم سمين الحسب أي عظيم الشرف وسمين الجسم مهزول الحسب أى ضعيف الشرف اه قلت وبعد بيت مسكين المتقدم
أكسبته الورق البيض أبا * ولقد كان لا يدعي لاب
- الورق - بفتح الواو وكسر الراء وهي الدراهم المضروبة وكذلك الرقة والهاء عوض عن الواو وقوله - ولا يدعى لاب - أى ولا ينتسب من الدعوة بكسر الدال. المعنى انه كان مجهول النسب ولم يكن له أب يدعى اليه فلما أعطي ما لا ظهر له نسب واشتهر له أب يدعى اليه.
وقوله - ولقد كان - الواو للحاء واللام للتأكيد وقد للتحقيق وكان تامة فلا تحتاج إلى خبر. وقوله - ولايدعى لاب - جملة وقعت حالا أيضا وهى مضارع منفى جاء بالواو وهو قليل والاكثر مجيئه بلا واو (*)
[87]
شئ واحد وانما أرادت مهزول كريمة أفعاله أو كريم آباؤه وأسلافه وقد قال ابن عبدل الاسدى
وإني لاستغني فما أبطر الغني * وأبذل ميسوري لمن يبتغي قرضي
واعسر أحيانا فتشتد عسرتي * وادرك ميسور الغني ومعي عرضي
ولايليق ذلك إلا بما ذكرناه.
[ قال الشريف المرتضى ] رضى الله عنه وجدت أبا بكر ابن الانباري قد رد على ابن قتيبة قوله هذا وطعن على ما احتج به فقال في الحديث المروى عنه عليه الصلاة والسلام في وصف أهل الجنة ان المراد بالاعراض مغابن الجسد.
وحكى عن الاموي أنه قال الاعراض المغابن التي تعرق من الجسد نحو الابطين وغيرهما وقال في حديث أبي الدرداء معناه من عابك وذكر أسلافك فلا تجازه ليكون الله تعالى هوالمثيب لك. وقال في قول أبي ضمضم معناه انه أحل من أوصل اليه أذى بذكره وذكر آبائه فلا يحل إلا من أمره اليه. وقال في قول حسان المراد بعرضه أيضا أسلافه فكأنه قال ان أبي ووالده وجميع أسلافي الذين أمدح وأذم من جهتهم وقاء له عليه الصلاة والسلام فأتي بالعموم بعد الخصوص كما قال الله تعالى (ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم) فأتي بالعموم بعد الخصوص ولم أجده ذكر في خبر سفيان بن عيينة شيئا وتأويله يقرب من تأويل خبر أبي ضمضم لان من آذى رجلا بسبه في نفسه أو سب سلفه وأدخل عليه بذلك وضعا ونقصا لم يكن إلى ورثته بعد موته الاحلال من ذلك لان الاذي لم يدخل عليهم ولو كان داخلا عليهم أيضا مع دخوله على المسبوب لكان إحلالهم مما يرجع إلى غيرهم لم يصح على ان في الاحلال من الضرر وسقوط العوض المستحق عليه وهل يسقط باسقاط مستحقه أم لا فيه كلام ليس هذا موضعه وقد ذكرناه في مواضع.
وبعد فلو سلم لابن قتيبة ان المراد بالعرض في كل المواضع التي ذكرناها النفس دون السلف أو سلم له ذلك في بيت حسان خاصة فانه أقرب إلى أن يكون المراد به ما ذكره لم يقدح فيما ذكرناه لانا لم نقل ان العرض مقصور على سلف الاسلام بل ذكرنا انه موضع الذم والمدح من الانسان ولافرق
[88]
بين سلفه ونفسه فكيف يكون الاحتجاج بما المراد بالعرض فيه النفس طعنا علينا وانما ينفع ابن قتيبة أن يأتي بما يدل على ان العرض لايستعمل إلا في النفس دون السلف وكل شئ ورد مما المراد بالعرض فيه النفس أو المراد به السلف فهو مؤكد لقولنا في ان هذه اللفظة مستعملة في موضع الذم والمدح من الانسان وانما يكون ما استشهدنا به وما جرى مجراه مما يدل على استعمال لفظة العرض في السلف حجة على ابن قتيبة لانه قصر معناها على النفس والذات دون السلف وهذا واضح بين بحمد الله.
أخبرنا أبوعبيد الله المرزبانى قال حدثنا محمد بن الحسن بن دريد قال أخبرنا أبوحاتم قال كان أبوعبيدة معمر بن المثنى صفريا وكان يكتم ذلك فأنشد لعمران بن حطان(1)
أنكرت بعدك من قد كنت أعرفه * ما الناس بعدك يا مرداس بالناس
إما تكن ذقت كأسا دار أولها * على القرون فذاقوا نهلة الكاس
قد كنت أبكيك حينا ثم قد يئست * نفسي فما رد عني عبرتي ياسى
وأخبرنا أبو عبيدالله المرزباني قال حدثنا ابن دريد قال حدثنا الاسناباذاني قال قال الثوري كنت اذا أردت أن أبسط أبا عبيدة ذكرته بأخبار الخوارج فباعج منه ثبج بحر فجئته يوما وهو مطرق ينكث الارض في صحن المسجد وقد قربت منه الشمس
___________________________________
(1) وهو أحد بني ذهل بن ثعلبة وكان رأس القعدة من الصفرية وخطيبهم وشاعرهم وهذه الابيات يرثى بها أبا بلال وهو مرداس بن اية وهي جدته وأبوه حدير وهو أحد بنى ربيعة بن حنظلة ورواية أبى العباس
يا عين بكي لمرداس ومصرعه * يا رب مرداس اجعلنى كمرادس
تركتني هائما أبكى لمرزأتي * في منزل موحش من بعد إيناس
أنكرت بعدك من قد كنت أعرفه * ما الناس بعدك يا مرداس بالناس
إما شربت بكأس دار أولها * على القرون قذاقوا جرعة الكاس
فكل من لم يذقها شارب عجلا * منها بأنفاس ورد بعد أنفاس (*)
[89]
فسلمت عليه فلم يردد فتمثلت
وما للمرء خير في حياة * إذا ماعد من سقط المتاع
والبيت لقطرى بن الفجاءة فنظر إلى ثم وقال ويحك أتدرى من يقوله قلت قطرى فقال اسكت فض الله فاك فإلا قلت أميرالمؤمنين أبونعامة ثم انتبه فقال اكتمها على ياثورى فقلت هى ابنة الارض فأنشدني
أقول لها وقد جاشت حياء * من الابطال ويحك لا تراعي
فإنك لو طلبت حياة يوم * على الاجل الذي لك لم تطاعي
فصبرا في مجال الموت صبرا * فما نيل الخلود بمستطاع
وما طول الحياة بثوب مجد * فيطوى عن أخى الخنع اليراع
سبيل الموت منهج كل حى * وداعيه لاهل الارض داع
ومن لا يغتبط يسأم ويهرم * ويفض به القضاء إلى انقطاع
وما للمرء خير في حياة * إذا ماعد من سقط المتاع(1)
___________________________________
(1) رواية الحماسة
أقول لها وقد طارت شعاعا * من الابطال ويحك لن تراعي
فإنك لو سألت بقاء يوم * على الاجل الذى لك لم تطاعى
فصبرا في مجال الموت صبرا * فما انيل الخلود بمستطاع
وما ثوب الحياة بثوب عز * فيطوى عن أخى الخنع اليراعى
سبيل الموت غاية كل حى * فداعيه لاهل الارض داعى
ومن لا يغتبط يسأم ويهرم * وتسلمه المنون إلى انقطاع
وما للمرء خير في حياة * اذا ما عد من سقط المتاع
(*)(12 - أمالى ثالث)
[90]
فكتبتها وقمت لانصرف فقال اقعد ثم أنشدني
إلى كم تغازيني السيوف ولا أرى * مغازاتها تدعو إلى حماميا
أقارع عن دار الخلود ولا أرى * بقاء على حال لمن ليس باقيا
ولو قرب الموت القراع لقد أني * لموتى أن يدنو لطول قراعيا
اغادى جلاد العالمين كأنني * على العسل الماذى اصبح غاديا
وادعو الكماة للنزال إذا القنا * تحطم فيما بيننا من طعانيا
ولست أرى نفسا تموت وإن دنت * من الموت حتى يبعث الله داعيا
فقال ابن دريد وهذا الشعر أيضا لقطرى.
أخبرنا أبوالحسن على بن محمد الكاتب قال أخبرنا ابن دريد قال أخبرنا أبوحاتم قال جئت أبا عبيدة يوما ومعي شعر عروة بن الورد فقال فارغ حمل شعر فقير ليقرأ على فقير فقلت ما معني غيره فأنشدني أنت ماشئت فأنشدني
يارب ظل عقاب قد وقيت به * مهرى من الشمس والابطال تجتلد
ورب يوم حمى أرعى عقوته * خيلى اقتسارا وأطراف القنا قصد
ويوم لهو لاهل الخفض ظل به * لهوى اصطلاء الوغا إذ ناره تقد
مشهرا موقفي والحرب كاشفة * عنها القناع وبحر الموت يطرد
ورب هاجرة تغلى مراجلها * صخرتها بمطايا غارة تخد
تجتاب أودية الافراع آمنة * كأنها أسد يقتادها أسد
فإن أمت حتف نفسي لاأمت كمدا * - على الطعان وقصر العاجز الكمد
ولم أقل لم أساق القتل شاربه * في كأسه والمنايا ترع ورد
[91]
ثم قال لي هذا الشعر لا ما تعللون به نفوسكم من أشعار المخانثين والشعر لقطرى.
أخبرنا أبوعبيدالله المرزبانى قال حدثنا محمد ابن الحسن بن دريد قال أخبرنا أبوحاتم قال كان أبوعبيدة يأنس إلى في أول ما اختلفت اليه ويسألني عن خوارج سجستان لانه كان يظنني على رأيهم وكنت أوهمه أنني منهم فنالتني منه لذلك عناية خاصة فكان كثيرا ينشدني أشعارهم ثم يتمثل
أولئك قوم إن بنوا أحسنو البني * وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا
قال وأنشدني يوما لرجل من طيئ من الخوارج
لا كابن ملحان من شار أخي ثقة * أو كابن علقمة المستشهد الشارى
من صادق كنت أصفيه مخالصتي * فباع دارى بأغلى صفقة الدار
إخوان صدق أرجيهم وأحذرهم * أشكو إلى الله إخواني وإحذارى
فصرت صاحب دنيا لست أملكها * وصار صاحب جنات وأنهار