(مجلس آخر 75)

[ تأويل آية ]

إن سأل سائل عن قوله تعالى (شهر رمضان الذى انزل فيه القرآن) الآية. فقال كيف أخبر تعالى بأنه أنزل فيه القرآن وقد أنزله في غيره من الشهور على ماجاء‌ت به الرواية. والظاهر يقتضى أنه أنزل الجميع فيه وماالمعنى في قوله (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) وهل أراد الاقامة والحضور الذين هما ضد الغيبة أو أراد المشاهدة والادراك.

الجواب أما قوله تعالى (أنزل فيه القرآن) فقد قال قوم المراد به أنه تعالى أنزل القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا في شهر رمضان ثم فرق انزاله على نبيه عليه الصلاة والسلام بحسب ماتدعوا الحاجة إليه. وقال آخرون المراد بقوله تعالى (أنزل فيه القرآن) أنه أنزل في فرضه وإيجاب صومه على الخلق القرآن فيكون فيه بمعنى في فرضه كما يقول القائل أنزل الله في الزكاة كذا وكذا يريد في فرضها وأنزل الله في الخمر كذا وكذا يريد في تحريمها. وهذا الجواب إنما هرب متكلفه من شئ وظن أنه قد اعتصم بجوابه عنه وهو بعد ثابت على ماكان عليه لان قوله تعالى القرآن إذا كان يقتضى ظاهره إنزال جميع القرآن فيجب على هذا الجواب أن يكون قد أنزل في فرض الصيام جميع القرآن ونحن نعلم أن قليلا من القرآن يخص إيجاب الصوم لشهر رمضان وأن أكثره خال من ذلك.

فإن قيل المراد بذلك أنه أنزل في فرضه شيئا من القرآن وبعضامنه. قيل فهلا اقتصر على هذا وحمل الكلام على أنه تعالى أنزل شئ من القرآن في شهر رمضان ولم يحتج إلى أن يجعل لفظة في بمعنى في فرضه وإيجاب صومه.

والجواب الصحيح أن قوله تعالى القرآن في هذا الموضع لايفيد العموم والاستغراق وإنما يفيد الجنس من غيرمعنى الاستغراق فكأنه قال تعالى (شهر رمضان الذى أنزل فيه) هذا الجنس من الكلام فأى شئ نزل منه في الشهر فقد طابق الظاهر وليس لاحد أن يقول إن الالف واللام ههنا لايكونان إلا للعموم والاستغراق لانا لوسلمنا أن الالف واللام صيغة العموم والصورة المعينة لاستغراق الجنس لم يجب أن يكون ههنا بهذا الصفة لان هذه اللفظة قد تستعمل في مواضع كثيرة (21 - امالى رابع)

[162]

من الكلام ولايراد بها أكثر من الاشارة إلى الجنس والطبقة من غير استغراق وعموم حتى يكون حمل كلام المتكلم بها على خصوص أو عموم كالمناقض لغرضه والمنافى لمراده ألا ترى أن القائل إذا قال فلان يأكل اللحم ويشرب الخمر وضرب الامير اليوم اللصوص وخاطب الجند لم يفهم من كلامه إلا محض الجنس والطبقة من غير خصوص ولاعموم حتى لو قيل له فلان يأكل جميع اللحم ويشرب جميع الخمر أو بعضها لكان جوابه إننى لم أرد عموما ولا خصوصا وإنما أريد أنه يأكل هذا الجنس من الطعام ويشرب هذا الجنس من الشراب فمن فهم من كلامى العموم أو الخصوص فهو بعيد من فهم مرادى.

وأرى كثيرا من الناس يغلطون في هذا الموضع فيظنون أن الاشارة إلى الجنس من غير إرادة العموم والاستغراق ليست مفهومة حتى يحملوا قول من قال أردت الجنس في كل موضع وهذا بعيد ممن يظنه لانه كما أن العموم والخصوص مفهومان في بعض بهذه الالفاظ فكذلك الاشارة إلى الجنس والطبقة من غير إرادة عموم ولا خصوص مفهومة مميزة وقد ذكرنا أمثلة ذلك.

فأما قوله تعالى (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) فأكثر المفسرين حملوه على أن المراد بمن شهد منكم الشهر من كان مقيما في بلد غير مسافر وأبوعلى حمله على أن المراد به فمن أدرك الشهر وشاهده وبلغ إليه وهو متكامل الشروط فليصمه ذهب في معنى شهد إلى معنى الادراك والمشاهدة. وقد طعن قوم على تأويل أبى على وقالوا ليس يحتمل الكلام إلا الوجه الاول وليس الامر على ماظنوه لان الكلام يحتمل الوجهين معا فان كان للقول الاول ترجيح ومزية على الثانى من حيث يحتاج في الثانى من الاضمار إلى أكثر مما يحتاج إليه في الاول لان قول الاول لايحتاج إلى إضمار الاقامة وارتفاع السفر لان قوله تعالى شهد يقتضى الاقامة وإنما يحتاج إلى إضمار باقى الشروط من الامكان والبلوغ وغير ذلك. وفى القول الثانى يحتاح مع كل ما أضمرناه في القول الاول إلى إضمار الاقامة ويكون التقدير فمن شهد الشهر وهو مقيم مطيق بالغ إلى سائر الشروط فمن هذا الوجه كان الاول أقوى وليس لاحد أن يقول أن شهد بنفسه من غير محذوف لايدل على إقامة وذلك أن الظاهر من قولهم في اللغة فلان شاهد إذا أطلق ولم يضف أفاد الاقامة في البلد وهو عندهم ضد الغائب

[163]

والمسافر وإن كانوا ربما أضافوا فقالوا شاهد لكذا وشهد فلان كذا ولايريدون هذا المعنى ففى إطلاق شهد دلالة على الاقامة من غير تقدير محذوف وهذه جملة كافية بحمدالله.

[ قال الشريف المرتضى ] رضي الله عنه وجدت أباالعباس بن عمار يعيب على أبى تمام في قوله لما استحر الوداع المحض وانصرمت * أواخر الصبر ولي كاظما وجما رأيت أحسن مرئى وأقبحه * مستجمعين لى التوديع والعنما(1) قال أبوالعباس وهذا قد ذم مثله على شاعر متقدم وهو أن جمع بين كلمتين احداهما لاتناسب الاخرى وهو قول الكميت

وقد رأينا بها حورا منعمة * رودا تكامل فيها الدل والشنب

___________________________________

(1) الابيات من قصيدة له يمدح بها اسحاق بن ابراهيم المصعبي ومطلعها

أصغى إلى البين مغترا فلا جرما * إن النوي أسأرت في عقله لمما

أصمنى سرهم أيام فرقتهم * هل كنت تعرف سرا يورث الصمما

نأوا فظلت لو شك البين مقلته * تندي تجبعا ويندي جسمه سقما

أظله البين حتي انه رجل * لومات من شغله بالبين ما علما

أما وقد كتمتهن الخدور ضحي * فابعد الله دمعا بعدها أكتتما

لما استحر الوداع البيتين.

ومنها

لم يطغ قوم وان كانوا ذوى رحم * إلا رأى السيف أدنى منهم رحما

مشت قلوب أناس في صدورهم * لما رأوك تمشى نحوهم قدما

أمطرتهم عزمات لو رميت بها * يوم الكريهة ركن الدهر لانهدما

اذا هم نكصوا كانت لهم عقلا * وان هم جمحوا كانت لهم لجما

حتى انتهكت بحد السيف أنفسهم * جزاء ما انتهكوا من قبلك الحرما

زالت جبال شرورى من كتائبهم * خوفا وما زلت اقداما ولاقدما

لما محضت الامانى التى احتلبوا * عادت هموما وكانت قبلهم همما (*)

[164]

فقيل له أخطأت وباعدت بقولك - الدل والشنب - ألاقلت كقول ذى الرمة

بيضاء في شفتيها حوة لعس * وفى اللثات وفى أنيابها شنب(1)

قال فقال الطائى * مستجمعين لى التوديع والعنمافجعل المنظر القبيح للتوديع والتوديع لايستقبح وإنما يستقبح عاقبته وهى الفراق وجعل المنظر الحسن أصابعه عند الاشارة وشبهه بالعنم ولم يذكر الانامل المختضبة قال وانما سمع قول المجنون

ويبدى الحصى منها إذا قذفت به * من البرد أطراف البنان المخضب(2)

___________________________________

(1) قوله - بيضاء يروي لمياء في شفتيها الخ - ولمياء فعلاء من اللمى وهو سمرة في باطن الشفة وهو مستحسن يقال امرأة لمياء وظل المى كثيف أسود. وقوله - حوة - بضم الحاء المهملة وتشديد الواو وهي أيضا حمرة في الشفتين تضرب إلى السواد. وقوله - لعس - بفتح اللام والعين المهملة وفى آخره سين مهملة وهو أيضا سمرة في باطن الشفة يقال امرأة لعساء. وقوله - وفى اللثات - بكسر اللام وتخفيف الثاء المثلثة جمع لثة وهي معروفة. وقوله - شنب - بفتح الشين المعجمة والنون.

قال الاصمعي الشنب برد وعذوبة في الاسنان ويقال هو تحديد الاسنان ودقتها والبيت يستشهد به النحويون على أن لعسا بدل غلط من حوة وهو حجة على المبرد حيث يدعي أنه لايوجد في كلام العرب بدل الغلط لا في النظم ولا في النثر وانما يقع في لفظ الغلاط.

وأجاب بعضهم عن هذا بأن قوله لعس مصدر وصفت به الحوة تقديره حوة لعساء كما يقال حكم عدل وقول فصل أى عادل وفاصل ويقال ان في البيت تقديما وتأخيرا التقدير لمياء في شفتيها حوة وفى اللثات لعس وفي أنيابها شنب.

والبيت من قصيدته المشهورة التى أولها

ما بال عينك منها الماء ينسكب * كأنه من كلى مفرية سرب

وقد استنشده هشام بن عبدالملك فانشده اياها فأمر بسحبه لانه كان بعينه رمص.

(2) قوله - ويبدى الحصي منها الخ. وقبله (*)

[165]

قال وهذا الاصل استعاره الناس من بعد.

قال الشاعر

النشر مسك والوجوه دنا * نير وأطراف الا كف عنم(1)

___________________________________

ولم أر ليلى غير موقف ساعة * بخيف منى ترمي جمار المحصب

وبعده.

ألا ان ما ترمين يا أم مالك * صدى أينما تذهب به الريح يذهب

(1) قوله - النشر مسك الخ.

البيت من قصيدة للمرقش الاكبر وتقدمت منها أبيات. ومنها

يهلك والد ويخلف مو * لود وكل ذى أب يتيم

والوالدات يستفدن غنى * ثم على المقدار من تعقم

ما ذنبنا في أن غزا ملك * من آل جفنة حازم مرغم

مقابل بين العواتك * والغلف لانكس ولا توأم

حارب واستعوى قراضبة * ليس لهم مما يحاز نعم

بيض مصاليت وجوههم * ليست مياه بحارهم بعمم

فانقض مثل الصقر يقدمه * جيش كغلان الشريف لهم

إن يغضبوا يغضب لذاك كما * ينسل من خرشائه الارقم

فنحن أخوالك عمرك والخا * ل له معاظم وحرم

لسنا كأقوام مطاعمهم * كسب الخنا ونهكة المحرم

إن يخصبوا يغيوا بخصبهم * أو يجدبوا فهم به ألام

عام ترى الطير دواخل في * بيوتهم معهم ترتم

ويخرج الدخان من خلل الستر كلون الكودن الاصحم

حتى إذا ما الارض زينها النبت * وجن روضها وأكم

ذاقوا ندامة فلو أكلوا الخطبان * لم يوجد له علقم

لكننا قوم أهاب بنا * في قومنا عفافة وكرم

أموالنا نقى النفوس بها * من كل ما يدنى اليه الذم (*)

[166]

وقال وأغرب أبونواس في قوله

تبكى فتذرى الدر من طرفها * وتلطم الورد بعناب

قال فلم يحسن هذا العلج أن يستعير شيئا من محاسن القائلين.

[ قال الشريف المرتضي ] رضى الله عنه وهذا غلط من ابن عمار وسفه على أبى تمام لان الكميت جمع بين شيئين متباعدين وهما الدل وهو الشكل والحلاوة وحسن الهيئة والشنب وهو برد الاسنان فيطلق عليه بذلك بعض العيب وأبوتمام جمع بين شيئين غير متفرقين لان التوديع إنما أشار به إلى ما أشارت إليه بإصبغها من وداعه عند الفراق وشبه مع ذلك أصابعها بالعنم والعنم نبت أغصانه غضة دقاق شبه الاصابع.

وقيل إن العنم واحدته عنمة وهى العصابة الصغيرة البيضاء وهى أشبه شئ بالاصابع البيضاء الغضة وهذا حكاه صاحب كتاب العين. وقيل إن العنم نبت له نور أحمر تشبه به الاصابع المخضوبة فوجه حسن قوله التوديع والعنم أن التوديع كان بالاصابع التى تشبه العنم فجمع بينهما بذلك ولاحاجة به إلى ذكر الانامل المخضبة على ماظن أبوالعباس بل ذكر المشبه به أحسن وأفصح من أن يقول التوديع والانامل التى تشبه العنم.

فأما قوله إن التوديع لايستقبح وإنما يستقبح عاقبته فخطأ ومطالبة الشاعر بما لايطالب بمثله الشعراء لان التوديع إذا كان منذرا بالفراق وبعد الدار وغيبة المحبوب لامحالة إنه مكروه مستقبح. وقوله مستقبح عاقبته صحيح إلا أن مايعقبه ويثمره لما كان عند حضوره متيقنا مذكورا عاد الا كراه والاستقباح إليه ونحن نعلم أن الناس يتكرهون ويستقبحون تناول الاشياء الملذة من الاغذية وغيرها إذا علموا ما في عواقبها من المكروه فان من قدم اليه طعام مسموم وأعلم بذلك يتكرهه ويستقبح تناوله لما يتوقعه من سوء عاقبته وإن كان ملذا في الحال ولم تزل الشعراء تذكر كراهتها للوداع وهربها منه لما يتصور فيه من ألم الفرقة وغصص الوحشة وهذا

___________________________________

لايبعدالله التلبب والغا * رات إذ قال الخميس نعم

والعدو بين المجلسين إذا * ولى العشى وقد تنادى العم

يأتي الشباب الاقورين ولا * تغبط أخاك أن يقال حكم (*)

[167]

معروف مشهور.

وقد قال فيه أبوتمام

ء‌آلفة النحيب كم افتراق * أظل فكان داعية اجتماع

وليست فرحة الاوبات إلا * لموقوف على ترح الوداع

فجعل للوداع ترحا يقابل فرح الاياب وهذا صحيح.

فأما قول جرير

أتنسى إذ تودعنا سليمى * بفرع بشامة سقى البشام(1)

وإنه دعا للبشام وهو شجر بالسقى لانها ودعته عنده فسر بتوديعها.

وقول الشاعر

من يكن يكره الوداع فإنى * أشتهيه لموضع التسليم

إن فيه اعتناقة لوداع * وانتظار اعتناقة لقدوم

فمن شأن الشعراء أن يتصرفوا في المعاني بحسب أغراضهم وقصودهم اذا رأى أحدهم

___________________________________

(1) قوله - أتنسي الخ. هو من قصيدة طويلة يذم فيها تغلب ويهجو الاخطل.

وأولها قوله

متى كان الخيام بذى طلوح * سقيت الغيث أيتها الخيام

ومنها بنفسى من تجنبه عزيز * على ومن زيارته لمام

ومن أمسى وأصبح لا أراه * ويطرقنى إذا هجع النيام

ومنها عوي الشعراء بعضهم لبعض * على فقد أصابهم انتقام

كأنهم الثعالب حين تلقى * هزبرا في العرين له انتحام

إذا أقلعت صاعقة عليهم * رأوا أخري تحرق فاستهاموا

فمصطلم المسامع أو خصى * وآخر عظم هامته حطام

إذا شاؤا مددت لهم حضارا * وتقريبا مخالطه عذام

ومنها قضى لى أن أصلى خندفى * وعضب في عواقبه السمام

إذا ما خندف زحرت وقيس * فان جبال عزى لاترام

هم حديوا على ومكنوني * بأقيح لايزال به المقام (*)

[168]

مدح شئ قصد إلى أحسن أوصافه فذكرها وأشار بها حتى كأنه لاوصف له الا ذلك الوصف الحسن وإذا أراد ذمه قصد إلى أقبح أحواله فذكرها حتى كأنه لاشئ فيه غير ذلك وكل مصيب بحسب قصده ولهذا ترى أحدهم يقصد إلى مدح الشيب فيذكر مافيه من قار وخشوع وأن العمر منه أطول وما أشبه ذلك ويقصد إلى ذمه فيصف مافيه من الادناء إلى الاجل وأنه آخمل الالوان وأبغضها إلى النساء وماأشبه ذلك وهذه سبيلهم في كل شئ وصفوه ولمدحهم موضعه ولذمهم موضعه فمن ذم الوداع لمافيه من الانذار بالفراق وبعد الدار قد ذهب مذهبا صحيحا كما إن من مدحه لما فيه من القرب من المحبوب والسرور بالنظر إليه وإن كان يسيرا قد ذهب أيضا مذهبا صحيحا.

ومن غلط ابن عمار القبيح قوله بعد أن أنشد شعر المجنون وهذا هو الاصل ثم استعاره الناس من بعد. فقال الشاعر

النشر مسك والوجوه دنا * نير وأطراف الاكف عنم

وهذا الشعر للمرقش الاكبر وهو والمرقش الاصغر كانا جميعا على عهد ربيعة وشهدا حرب بكربن وائل فكيف يكون قول المرقش الاكبر بعد قول المجنون لولا الغفلة