|
[
41 ]
1 - محمد بن
علي بن بابويه، باسناده عن ابن عباس (1)، عن أبيه العباس بن عبد المطلب (2)، عن
أبي طالب (3)، قال: خرجت إلى الشام تاجرا سنة ثمان من مولده النبي صلى الله عليه
وآله، وكان في أشد ما يكون من الحر، فلما أجمعت (4) على السير، قال لي رجال من
قومي: ما تريد أن تفعل بمحمد صلى الله عليه وآله وعلى من تخلفه ؟ فقلت: لا أريد أن
أخلفه
(1) ابن عباس: عبد الله
بن العباس بن عبد المطلب الهاشمي، أبو العباس حبر الامة الصحابي الجليل - ولد بمكة
سنة (3 ق ه) ونشأ في بدء عصر النبوة، فلازم النبي صلى الله عليه وآله وروى عنه
أحاديث كثيرة، وشهد مع أمير المؤمنين عليه السلام الجمل وصفين، وكف بصره في آخر
عمره، فسكن الطائف وتوفي بها سنة (68)، وكان آية في الحفظ، أنشده ابن أبي ربيعة
قصيدته التي مطلعها: " آمن آل نعم أنت غاد فمبكر " فحفظها مرة واحدة وهي
ثمانون بيتا. (2) العباس بن عبد المطلب: أبو الفضل كان من أكابر قريش في الجاهلية
والاسلام ولد سنة (51 ق ه) وكانت له سقاية الحاج، أسلم قبل الهجرة وكتم إسلامه
وأقام بمكة يكتب إلى النبي صلى الله عليه وآله أخبار المشركين، ثم هاجر إلى
المدينة وشهد وقعة حنين فكان ممن ثبت حين انهزم الناس، وعمى في آخر عمره، وأحصي
ولده في عصر المأمون العباسي سنة (200) فبلغوا (33000)، توفي بالمدينة سنة (32).
(3) أبو طالب بن عبد المطلب: اختلف في اسمه، قيل: عمران، وقيل: غيره، كان من أبطال
بني هاشم، وكافل النبي صلى الله عليه وآله في سفره وحضره، وأسلم سرا يكتم إيمانه
لمصلحة الاسلام، ولد سنة (85 ق ه) وتوفي سنة (3 ق ه). (4) أجمع على الامر: عزم
عليه كأنه جمع نفسه له.
[
42 ]
على أحد من الناس،
أريد أن يكون معي، فقيل لي: غلام صغير في حر مثل هذا تخرجه معك ؟ فقلت: والله لا
يفارقني حيث ما توجهت أبدا فإني لاوطئ له الرحل، فذهبت فحشوت له حشية (1) كساء (2)
وكتانا. وكنا ركبانا (3) كثيرا، فكان والله البعير الذي عليه محمد صلى الله عليه
وآله أمامي لا يفارقني فكان يسبق الركب كلهم، فكان إذا اشتد الحر جاءت سحابة بيضاء
مثل قطعة ثلج فتسلم عليه، فتقف على رأسه ولا تفارقه، وكانت ربما أمطرت علينا
السحابة بأنواع الفواكه وهي تسير معنا، وضاق الماء بنا في طريقنا حتى كنا لا نصيب
قربة (4) إلا بدينارين، وكنا حيث ما نزلنا تمتلئ الحياض، ويكثر الماء، وتخضر
الارض. فكنا في كل خصب وطيب من الخير، وكان معنا قوم قد وقفت جمالهم فمشى إليها
رسول الله صلى الله عليه وآله فمسح يده عليها فسارت، فلما قربنا من بصرى الشام،
إذا نحن بصومعة قد أقبلت تمشي كما تمشي الدابة السريعة حتى قربت منا ووقفت، وإذا
فيها راهب، وكانت السحابة لا تفارق رسول الله صلى الله عليه وآله ساعة واحدة، وكان
الراهب لا يكلم الناس ولا يدري ما الركب (5) وما فيه من التجارة. فلما نظر إلى
النبي صلى الله عليه وآله عرفه، فسمعته يقول له: إن كان أحد فأنت أنت، قال: فنزلنا
تحت شجرة عظيمة قريبة من الراهب، قليلة الاغصان ليس لها حمل، وكانت الركبان تنزل
تحتها، فلما نزلها رسول الله صلى الله عليه وآله اهتزت الشجرة وألقت أغصانها على
رسول الله صلى الله عليه وآله وحملت من ثلاثة أنواع من الفاكهة: فاكهتان للصيف، وفاكهة
(1) الحشية (بفتح
الحاء وكسر الشين وفتح الياء المشددة): الفراش المحشو. (2) في بعض النسخ: (ريشا
وكتانا) ولعله هو الصواب (3) الركبان (بضم الراء وسكون الكاف): جمع الراكب وهو
خلاف الماشي. (4) القربة (بكسر القاف وسكون الراء): وعاء يجعل فيه اللبن أو الماء.
(5) الركب (بفتح الراء وسكون الكاف): اسم جمع أو جمع الراكب.
[
43 ]
للشتاء، فتعجب جميع
من معنا من ذلك، فلما رأى بحيرا الراهب ذلك ذهب، فاتخذ لرسول الله صلى الله عليه
وآله طعاما بقدر ما يكفيه. ثم جاء وقال: من يتولى أمر هذا الغلام ؟ فقلت: أنا،
فقال: أي شئ تكون منه ؟ عليه السلام فقلت: أنا عمه، فقال: يا هذا إن له أعماما، أي
الاعمام أنت ؟ فقلت أنا أخو أبيه من أم واحدة، فقال: إنه هو، وإلا فلست بحيراء
(1). ثم قال لي: يا هذا أتأذن لي أن أقرب هذا الطعام منه ليأكله ؟ فقلت: قربه
إليه، والتفت إلى النبي صلى الله عليه وآله فقلت: يا بني رجل أحب أن يكرمك فكل،
فقال: هو لي دون أصحابي ؟ فقال بحيرا: نعم هو لك خاصة، فقال النبي صلى الله عليه
وآله: فإني لا آكل دون هؤلاء، فقال بحيرا: إنه لم يكن عندي أكثر من هذا، فقال:
أفتأذن يا بحيرا أن يأكلوا معي ؟ فقال: بلى فقال: كلوا بسم الله، فأكل وأكلنا معه،
فوالله لقد كنا مائة وسبعين رجلا وأكل كل واحد منا حتى شبع وتجشئ، قال: وبحيرا
قائم على رأس رسول الله صلى الله عليه وآله يذب عنه ويتعجب من كثرة الرجال وقلة
الطعام، وفي كل ساعة يقبل رأسه ويافوخه (2)، ويقول: هو هو ورب المسيح، والناس لا
يفقهون، فقال له رجل من الركبان: إن لك لشأنا وقد كنا نمر بك قبل اليوم فلا تفعل
بنا هذا البر ؟ فقال بحيرا: والله إن لي لشأنا وشأنا وإني لارى ما لا ترون، وأعلم
ما لا تعلمون، وإن تحت هذه الشجرة لغلاما لو أنتم تعلمون منه ما أعلم لحملتموه على
أعناقكم حتى تردوه إلى وطنه والله ما أكرمتكم إلا له. ولقد رأيت له وقد أقبل نورا
أمامه ما بين السماء والارض، ولقد رأيت رجالا في أيديهم مراوح الياقوت والزبرجد
يروحونه، وآخرون ينثرون عليه
(1) بحيراء (بفتح
الباء وكسر الحاء): كان راهبا على مذهب النساطرة، وكان يدعو إلى التوحيد. (2) اليافوخ:
الموضع الذي يتحرك من رأس الطفل وهو فراغ بين عظام جمجمته في مقدمها وأعلاها لا
يلبث أن تلتقي فيه العظام.
[
44 ]
أنواع الفواكه، ثم
هذه السحابة لا تفارقه، ثم صومعتي مشت إليه كما تمشي الدابة على رجلها. ثم هذه
الشجرة لم تزل يابسة قليلة الاغصان ولقد كثرت أغصانها واهتزت وحملت ثلاثة أنواع من
الفواكه: فاكهتان للصيف، وفاكهة للشتاء. ثم هذه الحياض قد غارت وذهب ماؤها أيام
تمرج (1) بني إسرائيل بعد الحواريين حين وردوا عليهم، فوجدنا في كتاب شمعون الصفا:
أنه دعا عليهم فغارت وذهب ماؤها. ثم قال: متى ما رأيتم قد ظهر في هذه الحياض الماء
فاعلموا أنه لاجل نبي يخرج في أرض تهامة مهاجرا إلى المدينة، اسمه في قومه محمد
(2) الامين وفي السماء أحمد صلى الله عليه وآله، وهو من عترة إسماعيل بن إبراهيم
لصلبه، فوالله إنه لهو. ثم قال بحيرا: يا غلام أسألك عن ثلاث خصال بحق اللات
والعزى إلا اخبرتنيها فغضب رسول الله صلى الله عليه وآله عند ذكر اللات والعزى،
وقال: لا تسألني بهما فوالله ما أبغضت شيئا كبغضهما، وإنما هما صنمان من حجارة
لقومي. فقال بحيراء: هذه والله واحدة، ثم قال: فبالله إلا ما أخبرتني، فقال: سل
عما بدا لك، فإنك قد سألتني بإلهي وإلهك الذي ليس كمثله شئ. فقال: أسألك عن نومك
وهيأتك وأمورك ويقظتك، فأخبره عن نومه وهيأته وأموره ويقظته وجميع شأنه، فوافق ذلك
ما عند بحيرا من صفته التي عنده، فانكب عليه بحيرا فقبل رجليه وقال: يا بني ما
أطيبك وأطيب ريحك ؟ ! يا أكثر النبيين أتباعا، يا من بهاء نور الدنيا من نوره، يا
من بذكره
(1) التمرج: أصله
المرج بمعنى الفساد. ولكن ما وجدنا في كتب المعاجم التي بأيدينا نقل المرج إلى باب
التفعل. (2) في المصدر: اسمه في قومه الامين.
[
45 ]
تعمر المساجد، كأني
بك قد قدت (1) الاجناد والخيل الجياد، وقد تبعك العرب والعجم طوعا وكرها، وكأني
باللات والعزى وقد كسرتهما، وقد صار البيت العتيق لا يملكه أحد غيرك، تضع مفاتيحه
حيث تريد، كم من بطل من قريش والعرب تصرعه ! معك مفاتيح الجنان والنيران، معك
الذبح الاكبر وهلاك الاصنام، أنت الذي لا تقوم الساعة حتى تدخل الملوك كلها في دينك
صاغرة قمئة (2)، فلم يزل يقبل يديه مرة ورجليه مرة ويقول: لان أدركت زمانك لاضربن
بين يديك بالسيف ضرب الزند (3) بالزند، أنت سيد ولد آدم، وسيد المرسلين، وإمام
المتقين، وخاتم النبيين، والله لقد ضحكت الارض يوم ولدت، فهي ضاحكة إلى يوم القيمة
فرحا بك، والله لقد بكت البيع والاصنام والشياطين، فهي باكية إلى يوم القيمة، أنت
دعوة إبراهيم وبشرى عيسى، أنت المقدس المطهر من أنجاس الجاهلية. ثم التفت إلى أبي
طالب فقال: ما يكون (4) هذا الغلام منك فإني أراك لا تفارقه ؟ فقال أبو طالب: هو
ابني، فقال: ما هو بابنك، وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون والده الذي ولده حيا ولا
أمه، فقال: إنه ابن أخي، وقد مات أبوه وأمه حاملة به، وماتت أمه وهو ابن ست سنين
فقال: صدقت هكذا هو، ولكن أرى لك أن ترده إلى بلده عن هذا الوجه، فإنه ما بقي على
ظهر الارض يهودي ولا نصراني ولا صاحب كتاب إلا وقد علم بولادة هذا الغلام ولئن
رأوه وعرفوا منه ما قد عرفت أنا منه ليبغنه شرا وأكثر ذلك هؤلاء اليهود. فقال أبو
طالب: ولم ذلك ؟ قال: لانه كاين لابن أخيك هذا النبوة والرسالة، ويأتيه الناموس
الاكبر الذي كان يأتي موسى وعيسى، فقال أبو
(1) قدت: الماضي
المخاطب من قاد يقود الدابة أي مشى أمامها آخذا بزمامها. (2) القمئة (بفتح القاف
وكسر الميم): الذليلة الصغيرة. (3) الزند: العود الاعلى الذي يقتدح به النار. (4)
لا يخفى أن هذا السؤال وقع تكرارا لانه قد سأل قبل ذلك عن النسبة بينهما.
[
46 ]
طالب: كلا إن شاء
الله لم يكن الله ليضيعه. ثم خرجنا به إلى الشام، فلما قربنا من الشام رأيت والله
قصور الشامات كلها قد اهتزت، وعلا منها نور أعظم من نور الشمس، فلما توسطنا الشام،
ما قدرنا أن نجوز سوق الشام من كثرة ما ازدحم الناس وينظرون إلى وجه رسول الله صلى
الله عليه وآله، وذهب الخبر في جميع الشامات، حتى ما بقي فيها حبر ولا راهب إلا
اجتمع عليه. فجاء حبر عظيم، كان اسمه نسطور، فجلس حذاه ينظر إليه ولا يكلمه بشئ
حتى فعل ذلك ثلثة أيام متوالية، فلما كانت الليلة الثالثة لم يصبر حتى قام إليه
فدار خلفه كأنه يلتمس منه شيئا، فقلت له: يا راهب كأنك تريد منه شيئا ؟ فقال أجل
إني أريد منه شيئا، ما اسمه عليه السلام ؟ قلت: محمد بن عبد الله صلى الله عليه
وآله، فتغير والله لونه، ثم قال: فترى أن تأمره أن يكشف لي عن ظهره لانظر إليه ؟
فكشف عن ظهره، فلما رأى الخاتم انكب عليه يقبله ويبكي. ثم قال: يا هذا اسرع برد
هذا الغلام إلى موضعه الذي ولد فيه، فإنك لو تدري كم عدو له في أرضنا لم تكن بالذي
تقدمه معك، فلم يزل يتعاهده في كل يوم ويحمل إليه الطعام، فلما خرجنا منها أتاه
بقميص من عنده، فقال له: ترى أن تلبس هذا القميص لتذكرني (1) به ؟ فلم يقبله
ورأيته كارها لذلك، فأخذت أنا القميص مخافة أن يغتم وقلت: أنا ألبسه، وعجلت به حتى
رددته إلى مكة، فوالله ما بقي بمكة يومئذ امرأة، ولا كهل ولا شاب، ولا صغير، ولا
كبير إلا استقبلوه شوقا إليه ما خلا أبا جهل (2) لعنه الله فإنه كان فاتكا (3)
(1) في المصدر: فقال
لي: أترى أن يلبس هذا القميص ليذكرني به. (2) أبو جهل: عمرو بن هشام بن المغيرة
المخزومي كان أشد الناس عداوة للنبي صلى الله عليه وآله وقتل في وقعة بدر الكبرى
سنة (2). (3) الفاتك: الجرئ على ما هم من الامور وما دعته النفس إليه.
[
47 ]
ماجنا (1) قد ثمل (2)
من السكر (3) 2 - وفي حديث آخر: لما فارقه بحيرا بكى بكاء شديدا، وأخذ يقول: يا
ابن آمنة كأني بك وقد رمتك العرب بوترها، وقد قطعك الاقارب، ولو علموا لكنت عندهم
بمنزلة الاولاد. ثم التفت إلي وقال: أما أنت يا عم فارع فيه قرابتك الموصولة، احفظ
فيه وصية أبيك، فإن قريشا ستهجرك فيه فلا تبال فإني أعلم أنك لا تؤمن به ظاهرا،
وستؤمن به باطنا، ولكن سيؤمن به ولد تلده، وسينصره نصرا عزيزا، اسمه في السماوات
البطل (4) الهاصر (5)، والشجاع الانزع (6)، منه الفرخان المستشهدان وهو سيد العرب
والعجم، ورئيسها وذو قرنيها، وهو في الكتب أعرف من أصحاب عيسى عليه السلام. فقال أبو
طالب: فقد رأيت والله الذي وصفه بحيرا وأكثر (7). 3 - وعنه باسناده عن ابن أبي
عمير (8)، عن أبان بن عثمان (9)، يرفعه قال: لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وآله
أراد أبو طالب أن يخرج إلى الشام في عير (10) قريش، فجاء رسول الله صلى الله عليه
وآله وتشبث بالزمام وقال يا عم على من تخلفني ؟ لا على أم ولا على أب، وقد كانت
أمه توفيت، فرق له أبو طالب ورحمه وأخرجه معه، وكانوا إذا ساروا تسير على رأس
(1) الماجن: صلب الوجه
قليل الحياء (2) ثمل (بكسر الميم في الماضي): أخذ فيه الخمر وأسكره. (3) كمال
الدين: 182 - 186 ح 33 وعنه البحار ج 15 / 193 - 198 ح 14 والخرائج: 3 / 1084 ح
17. (4) البطل (بفتح الباء والطاء): الشجاع. (5) الهاصر: الاسد، لانه يهصر فريسته
أي يجذبها ويكسرها كسرا. (6) الانزع: من انحسر الشعر عن جانبي جبهته. (7) كمال
الدين ج 1 ص 187 وعنه " البحار " ج 15 ص 198 ح 15. (8) ابن أبي عمير: هو
محمد بن زياد بن عيسى المتوفي (217) تقدمت ترجمته. (9) أبان بن عثمان: بن يحيى بن
زكريا المعروف بالاحمر المتوفى نحو (200) مر ذكره. (10) العير (بكسر العين وسكون
الياء) قافلة الحمير، وأطلقت على كل قافلة.
[
48 ]
رسول الله غمامة تظله
من الشمس، فمروا في طريقهم برجل يقال له: بحيرا، فلما رأى الغمامة تسير معهم نزل
من صومعته، واتخذ لقريش طعاما، وبعث إليهم يسألهم أن يأتوه، وقد كانوا نزلوا تحت
شجرة، فبعث إليهم يدعوهم إلى طعامه، فقالوا له: يا بحيرا والله ما كنا نعهد هذا
منك، قال: قد أحببت أن تأتوني، فأتوه وخلفوا رسول الله صلى الله عليه وآله في
الرحل (1)، فنظر بحيرا إلى الغمامة قائمة، فقال لهم: هل بقي منكم أحد لم يأتني ؟
فقالوا: ما بقي منا إلا غلام حدث خلفناه في الرحل، فقال: لا ينبغي أن يتأخر عن
طعامي أحد منكم، فبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، فلما أقبل أقبلت
الغمامة، فلما نظر إليها بحيرا قال: من هذا الغلام ؟ قالوا: ابن هذا، وأشاروا إلى
أبي طالب، فقال له: بحيرا هذا ابنك ؟ فقال أبو طالب: هذا ابن أخي، قال ما فعل أبوه
؟ قال: توفي وهو حمل، فقال بحيرا لابي طالب: رد هذا الغلام إلى بلاده، فإنه إن
علمت اليهود ما أعلم منه قتلوه، فإن لهذا شأنا من الشأن، هذا نبي هذه الامة، هذا
نبي السيف (2). 4 - محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري (3) في " قرب الاسناد
" (4) عن
(1) الرحل (بفتح الراء
وسكون الحاء) ما يستصحب من الاثاث في السفر. (2) كمال الدين: 187 ح 35 - وعنه
البحار ج 15 / 200 ح 17. (3) الحميري: محمد بن عبد الله بن جعفر بن الحسين أبو
جعفر القمي، كاتب صاحب العصر والزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف وسأله مسائل في
أبواب الشريعة وكان حيا في سنة (304). فإنه أجاز في تلك السنة أبا عمرو سعيد بن
عمران أن يروي عنه كتاب قرب الاسناد. (4) قرب الاسناد: قال شيخنا صاحب الذريعة:
قرب الاسناد مجموع من الاخبار وسائطها إلى المعصوم قليلة - وقد كان الاسناد العال
عند القدماء مما يشد له الرحال، ويبتهج به أعين الرجال، ولذا أفرده بالتصنيف جمع
منهم شيخ القميين أبو العباس عبد الله بن جعفر بن الحسين، سمع منه أهل الكوفة في
سنة نيف وتسعين ومائتين، وقد جمع الاسانيد إلى كل إمام في جزء، والموجود منها بعض،
وهو قرب الاسناد إلى الصادق عليه السلام وقرب الاسناد إلى الرضا عليه السلام،
وسائر الاجزاء لا عين منها ولا أثر فعلا، وذكر النجاشي بعض الاجزاء أيضا وهو قرب
الاسناد إلى أبي جعفر الجواد عليه السلام، وقرب الاسناد إلى صاحب الامر =
[
49 ]
أبيه، عن الحسن بن
ظريف (1)، عن معمر (2) عن الرضا، عن أبيه موسى بن جعفر عليهم السلام قال: كنت عند
أبي عبد الله عليه السلام ذات يوم وأنا طفل خماسي، إذ دخل عليه نفر من اليهود،
فقالوا: أنت ابن محمد نبي هذه الامة، والحجة على أهل الارض ؟ قال لهم: نعم. قال:
إنا نجد في التوراة أن الله تبارك وتعالى آتى إبراهيم وولده الكتاب والحكمة
والنبوة، وجعل لهم الملك والامامة، وهكذا وجدنا ورثة الانبياء لا تتعداهم النبوة
والخلافة، فما بالكم قد تعداكم ذلك وثبت في غيركم، ونلقاكم مستضعفين لا ترقب فيكم
ذمة نبيكم (3) ؟ فدمعت عينا أبي عبد الله عليه السلام ثم قال: نعم لم تزل أنبياء
الله مضطهدة (4) مقهورة مقتولة بغير حق، والظلمة غالبة، وقليل من عبادي الشكور.
قالوا: فإن الانبياء وأولادهم علموا من غير تعليم، وأوتوا العلم تلقينا، وكذلك
ينبغي لائمتهم وخلفائهم وأوصيائهم، فهل أوتيتم ذلك ؟ فقال أبو عبد الله عليه
السلام: ادنه يا موسى فدنوت فمسح يده على صدري ثم قال: اللهم أيده بنصرك بحق محمد
وآله. ثم قال: سلوه عما بدا لكم، قالوا: كيف نسأل طفلا لا يفقه، قلت: سلوني تفقها
ودعوا العنت (5)، قالوا: أخبرنا عن الآيات التسع التي أوتيها موسى بن عمران، قلت:
العصا، وإخراجه يده من جيبه بيضاء، والجراد،
= عجل الله فرجه،
واختلفوا في مؤلف قرب الاسناد هل هو عبد الله بن جعفر أو ولده محمد بن عبد الله،
صرح النجاشي بالاول وابن إدريس بالثاني. (1) الحسن بن ظريف: بن ناصح أبو محمد
الكوفي البغدادي من أصحاب الهادي عليه السلام. (2) معمر بن خلاد: بن أبي خلاد
البغدادي من أصحاب الرضا عليه السلام. (3) أي لماذا لا يحفظ فيكم ذمة نبيكم،
والذمة: العهد، والحرمة والحق. (4) المضطهدة: المقهورة المظلومة. (5) أي لا
تسألوني متعنتا، والمتعنت من يسأل غيره إيذاء وتلبيسا.
[
50 ]
والقمل، والضفادع،
والدم، ورفع الطور، والمن والسلوى آية واحدة، وفلق البحر. قالوا: صدقت فما أعطي
نبيكم من الآيات التي نفت الشك عمن أرسل إليه: قلت: آيات كثيرة أعدها إنشاء الله فاسمعوا
وعوا وافقهوا. وذكر آيات كثيرة في الحديث مذكورة، إلى أن قال موسى بن جعفر عليه
السلام في الآيات: ومن ذلك أنه توجه إلى الشام قبل مبعثه مع نفر من قريش، فلما كان
بحيال بحيرا الراهب نزلوا بفناء ديره، وكان عالما بالكتب، وقد كان قرأ في التوراة
مرور النبي صلى الله عليه وآله به، وعرف أوان ذلك، فأمر فدعى إلى طعامه، فأقبل
يطلب الصفة في القوم فلم يجدها، فقال: هل بقي في رجالكم أحد ؟ فقالوا: غلام يتيم،
فقام بحيرا فاطلع، فإذا هو برسول الله صلى الله عليه وآله نائم، وقد أظلته سحابة،
فقال للقوم: ادعوا هذا اليتيم، ففعلوا وبحيرا مشرف عليه، وهو يسير والسحابة قد
أظلته، فأخبر القوم بشأنه وأنه سيبعث فيهم رسولا وما يكون من حاله وأمره، فكان
القوم بعد ذلك يهابونه ويبجلونه فلما قدموا أخبروا قريشا بذلك، وكان معهم عبد
خديجة بنت خويلد، فرغبت في تزويجه وهي سيدة نساء قريش، وقد خطبها كل صنديد (1)
ورئيس قد أبتهم، فزوجته نفسها للذي بلغها من خبر بحيراء (2). 5 - وفي تفسير الامام
العسكري الحسن بن علي (3) عليهما السلام، عن أبيه عليه السلام في حديث طويل، قال
عليه السلام: أما الغمامة فإن رسول الله
(1) الصنديد (بكسر
الصاد المهملة وسكون النون): السيد الشجاع. (2) قرب الاسناد: 132 و 136 وعنه
البحار ج 17 / 225 ح 1 وص 231. والخرائج ج 1 / 115 ح 191. (3) تفسير الامام: إملاء
الامام الحادي عشر الحسن العسكري عليه السلام لخصوص الولدين الذين خلفهما أبواهما
عنده للتعلم فجعل عليه السلام يمليه عليهما تشريفا لهما فكتب من إملائه عليه
السلام قرب سبع سنين من سنة (254) - إلى سنة (260)، ثم رويا بعد عودهما إلى =
[
51 ]
صلى الله عليه وآله
كان يسافر إلى الشام مضاربا لخديجة بنت خويلد، وكان من مكة إلى بيت المقدس مسيرة
شهر، وكانوا في حمارة القيظ يصيبهم حر تلك البوادي، وربما عصفت عليهم فيها الرياح،
وسفت عليهم الرمال والتراب، وكان الله تعالى في تلك الاحوال يبعث لرسول الله صلى
الله عليه وآله غمامة تظله فوق رأسه، تقف لوقوفه وتزول لزواله، إن تقدم تقدمت، وإن
تأخر تأخرت، وإن تيامن تيامنت، وإن تياسر تياسرت. فكانت تكف عنه حر الشمس من فوقه،
وكانت تلك الرياح المثيرة لتلك الرمال والتراب تسفيها في وجوه قريش ووجوه رواحلها،
حتى إذا دنت من محمد صلى الله عليه وآله هدأت وسكنت، ولم تحمل شيئا من رمل ولا
تراب، وهبت عليه ريح باردة لينة، حتى كانت قوافل قريش يقول قائلها: جوار محمد صلى
الله عليه وآله أفضل من جوار خيمة، فكانوا يلوذون به، ويتقربون إليه، فكان الروح
يصيبهم بقربه، وإن كانت الغمامة مقصورة عليه. وكان إذا اختلط بتلك القوافل غرباء
فإذا الغمامة تسير في موضع بعيد منهم، قالوا: إلى من قرنت هذه الغمامة فقد شرف
وكرم، فتخاطبهم أهل القافلة أنظروا إلى الغمامة تجدوا عليها اسم صاحبها، واسم
صاحبه وصفيه وشقيقه، فينظرون فيجدون مكتوبا عليها: لا إله إلا الله، محمد رسول
الله صلى الله عليه وآله، أيدته بعلي سيد الوصيين، وشرفته بأصحابه الموالين، ولعلي
وأوليائهما والمعادين لاعدائهما، فيقرأ ذلك ويفهمه من يحسن أن يقرأ ويكتب، ومن لا
يحسن ذلك (1).
= أستر أباد للمفسر
الاستر آبادي أبي الحسن محمد بن القاسم الخطيب الذي كان من شيوخ الصدوق المتوفى
سنة (381)، فأما اسم الولدين الذين أملى الامام عليه السلام التفسير عليهما فأبو
يعقوب يوسف بن محمد بن زياد، وأبو الحسن علي بن محمد بن سيار، وروي الصدوق هذا
التفسير عن أستاذه الاستر أبادي عن الرجلين. ومن أراد التفصيل عن اعتبار الكتاب
وعدمه فليرجع إلى خاتمة المستدرك والذريعة. (1) تفسير المنسوب للامام العسكري: 155
ح 77 وعنه البحار: 17 / 307 صدر ح 15 ومدينة المعاجز: 168 واثبات الهداة: 3 / 574
ح 662.
[
52 ]
6 - الطبرسي في
" الاحتجاج " في حديث طويل عن الامام موسى بن جعفر، عن أبيه عن آبائه،
عن الحسين بن علي، عن أبيه علي بن أبي طالب عليهم السلام قال له اليهودي: إن موسى
عليه السلام قد ظلل بالغمام، قال له علي عليه السلام: لقد كان كذلك، وقد فعل لموسى
عليه السلام في التيه، وأعطي محمد صلى الله عليه وآله أفضل من هذا، إن الغمامة
تظله من يوم ولد إلى يوم قبض في حضره وأسفاره فهذا أفضل مما أعطي موسى عليه السلام
(1). 7 - محمد بن علي بن بابويه، باسناده، عن يعلي النسابة، قال: خرج خالد بن أسيد
بن أبي العيص (2) وطليق بن سفيان بن أمية (3)، تجارا إلى الشام سنة خرج رسول الله
صلى الله عليه وآله فيها، فكانا معه وكانا يحكيان: أنهما رأيا في مسيره وركوبه مما
يصنع الوحش والطير، فلما توسطنا سوق بصرى، إذا نحن بقوم من الرهبان قد جاؤوا
متغيري الالوان، كأن على وجوههم الزعفران، ترى منهم الرعدة، فقالوا: نحب أن تأتوا
كبيرنا فإنه ههنا قريب في الكنيسة العظمى، فقلنا: مالنا ولكم ؟ فقالوا: ليس يضركم
من هذا شئ، ولعلنا نكرمكم، وظنوا أن واحدا منا محمد صلى الله عليه وآله، فذهبنا
معهم حتى دخلنا معهم الكنيسة العظيمة البنيان، فإذا كبيرهم قد توسطهم وحوله
تلامذته، وقد نشر كتابا في يديه، فأخذ ينظر إلينا مرة وفي الكتاب مرة، فقال
لاصحابه: ما صنعتم شيئا، لم تأتوني بالذي أريد، وهو الآن هيهنا. ثم قال لنا: من
أنتم ؟ فقلنا: رهط من قريش، فقال: من أي قريش ؟ فقلنا: من بني عبد شمس، فقال لنا: معكم
غيركم ؟ فقلنا: بلى معنا شاب من بني هاشم نسميه يتيم بني عبد المطلب، فوالله لقد
نخر (4) نخرة
(1) الاحتجاج ج 1 /
219 - وعنه البحار 10 / 39 وج 17 / 287. (2) خالد بن اسيد بن أبي العيص بن أمية
كان من المشركين المحاربين، أسر في بدر. وبايع النبي صلى الله عليه وآله بعد فتح
مكة وأعطي من غنائم حنين. (3) طليق بن سفيان بن أمية كان أيضا ممن بايع النبي بعد
فتح مكة وأعطي من غنائم حنين. (4) نخر ينخر (بفتح الخاء في الماضي وضمها في
المضارع) الانسان: مد صوته ونفسه في خياشيمه.
[
53 ]
كاد أن يغشى عليه، ثم
وثب فقال: أوه أوه هلكت النصرانية والمسيح، ثم قام واتكى على صليب من صلبانه وهو
مفكر، وحوله ثمانون رجلا من البطارقة والتلامذة، فقال لنا: فيخف عليكم أن ترونيه ؟
فقلنا له: نعم، فجاء معنا فإذا نحن بمحمد صلى الله عليه وآله قائم في سوق بصرى،
والله لكأنا لم نر وجهه إلا يومئذ، كأن هلالا يتلالا من وجهه، قد ربح الكثير
واشترى الكثير، فأردنا أن نقول للقسيس هو هذا فإذا هو سبقنا فقال: هو هو، قد عرفته
والمسيح، فدنا منه وقبل رأسه، وقال له: أنت المقدس. ثم أخذ يسأله عن أشياء من
علاماته، فأخذ النبي صلى الله عليه وآله يخبره، فسمعناه يقول: لان أدركت زمانك
لاعطين السيف حقه، ثم قال لنا: أتعلمون ما معه ؟ معه الحياة والموت، من تعلق به حي
طويلا، ومن زاغ عنه مات موتا لا يحيى بعده أبدا. هو الذي معه الذبح الاعظم به (1)
ثم قبل وجهه ورجع راجعا (2). 8 - وعنه باسناده، عن بكر بن عبد الله الاشجعي، عن
آبائه، قالوا: خرج سنة خرج رسول الله صلى الله عليه وآله إلى الشام، عبد مناة بن
كنانة (3)، ونوفل بن معوية بن عروة بن صخر بن نفاثة بن عدى (4) تجارا إلى الشام،
فلقيهما أبو المويهب الراهب، فقال لهما: من أنتما ؟ قالا: نحن تجار من أهل الحرم
من قريش، فقال لهما: من أي قريش ؟ فأخبراه، فقال لهما: هل قدم معكما من قريش
غيركما ؟ قالا: نعم شاب من بني هاشم اسمه محمد صلى الله عليه وآله، فقال أبو
المويهب: إياه والله أردت، فقالا: والله ما في قريش أخمل ذكرا منه، إنما يسمونه
يتيم قريش، وهو أجير لامرأة منا يقال لها خديجة فما حاجتك إليه ؟ فأخذ يحرك رأسه
ويقول: هو هو فقال لهما -: تدلاني
(1) في البحار: هو
الذي معه الربح الاعظم. (2) كمال الدين ج 1 / 188 ح 36 وعنه البحار ج 15 / 201
وأورده ابن شهر اشوب في المناقب ج 1 / 40 مختصرا. (3) عبد مناة بن كنانة: بن خزيمة
بن مدركة بن الياس. (4) نوفل بن معاوية بن عروة كان ممن بايع النبي بعد فتح مكة
فأعطاهم من غنائم حنين.
[
54 ]
عليه ؟ فقالا: تركناه
في سوق بصرى بينما هو في الكلام ! إذ طلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله
فقال: هو هو، فخلي به ساعة يناجيه. ويكلمه، ثم أخذ يقبل بين عينيه، وأخرج شيئا من
كمه لا ندري ما هو ؟ ورسول الله صلى الله عليه وآله يأبى أن يقبله، فلما فارقه،
قال لنا: تسمعان مني ؟ هذا والله نبي آخر الزمان، والله سيخرج إلى قريب فيدعو
الناس إلى شهادة أن لا إله إلا الله، فإذا رأيتم ذلك فاتبعوه. ثم قال: وهل ولد
لعمه أبي طالب ولد يقال له علي فقلنا: لا، قال: إما أن يكون قد ولد، أو سيولد في
سنته، هو أول من يؤمن به، نعرفه، وإنا لنجد صفته عندنا بالوصية، كما نجد صفة محمد
صلى الله عليه وآله: بالنبوة، وإنه سيد العرب وربانيها (1) وذو قرنيها (2)، يعطي
السيف حقا، اسمه في الملاء الاعلى علي، وهو أعلى الخلايق يوم القيمة بعد الانبياء
ذكرا، وتسميه الملائكة البطل الازهر المفلج، لا يتوجه إلى وجه إلا أفلج وظفر،
والله هو أعرف بين أصحابه في السموات من الشمس الطالعة (3). 9 - وعنه باسناده، عن
محمد بن أبي عمير، وأحمد بن أبي نصر جميعا، عن أبان بن عثمان الاحمر، عن أبان بن
تغلب (4)، عن عكرمة (5)، عن ابن
(1) ربانيها: الرباني
منسوب إلى الرب بزيادة الالف والنون للمبالغة، وهو العالم الراسخ. (2) ذو قرنيها:
شبه أمير المؤمنين عليه السلام بذي القرنين لانه ضرب على رأسه الشريف ضربتان. (3)
كمال الدين ج 1 / 190 ح 37 وعنه البحار ج 15 / 202 ح 19 وأخرجه في البحار ج 15 /
359 ح 16 عن العدد القوية. (4) أبان بن تغلب: بن رباح أبو سعيد الكوفي، كان عظيم
المنزلة، وروى عن السجاد والباقر والصادق عليهم السلام، وكان قارئا فقيها لغويا،
ومقدما في فنون القرآن، والفقه والادب، وهو أول من صنف في غريب القرآن روى عن
الصادق عليه السلام ثلاثين ألف حديث. وثقه الفريقان وله كتب وتصانيف - توفي سنة
(141). (5) عكرمة: بن عبد الله البريري أبو عبد الله المدني مولى عبد الله بن
العباس كان عالما بالتفسير والمغازى وروي عنه زهاء ثلاثمائة رجل، وطاف البلدان
وذهب إلى نجدة الحروري فأقام عنده ستة أشهر، ثم كان يحدث برأي نجدة، وخرج إلى بلاد
المغرب فأخذ عنه أهلها رأي الصفرية، ولد سنة (25) ه وتوفي بالمدينة سنة (105) ه.
[
55 ]
عباس، قال: لما دعا
رسول الله صلى الله عليه وآله بكعب بن أسد (1) ليضرب عنقه فأخرج، وذلك في غزوة بني
قريظة، نظر إليه رسول الله صلى الله عليه وآله فقال له: يا كعب أما نفعك وصية بن
الحواش، الحبر الذي أقبل من الشام، فقال: تركت الخمر والخمير وجئت إلى البؤس
والتمور، لنبي يبعث، هذا أوان خروجه، يكون مخرجه بمكة، وهذه دار هجرته، وهو الضحوك
القتال، يجتزي بالكسرة والتميرات، ويركب الحمار العاري، في عينيه حمرة، وبين كتفيه
خاتم النبوة، يضع السيف على عاتقه، لا يبالي بمن لاقى، يبلغ سلطانه منقطع الخف
والحافر ؟ قال كعب: قد كان ذلك يا محمد، لولا أن اليهود تعيرني أني خشيت (2) عند
القتل لآمنت بك وصدقتك، ولكني على دين اليهودية، عليه أحيا وعليه أموت، فقال رسول
الله صلى الله عليه وآله: قدموه واضربوا عنقه، فقدم وضربت عنقه (3). قلت: قد ذكرت
قصة كعب بن أسد بزيادة عند ذكر قصة الخندق وقصة بني قريظة في كتاب معاجز النبي صلى
الله عليه وآله. 10 - وعنه باسناده، عن محمد بن إسحاق بن يسار المدني (4)، قال:
كان زيد بن عمرو بن نفيل (5) أجمع على الخروج من مكة، يضرب في الارض ويطلب الحنفية
دين إبراهيم عليه السلام، وكانت امرأته صفية بنت الحضرمي كلما أبصرته قد نهض إلى
الخروج وأراده آذنت به الخطاب بن نفيل.
(1) كعب بن أسد: كان
رأس اليهود من بني قريظة، ومن شعراء الجاهلية وعاهد النبي صلى الله عليه وآله،
ولكن أغره حيى بن أخطب فنقض عهده. (2) في المصدر والبحار: جبنت. (3) كمال الدين ج
1 / 198 - وعنه البحار ج 15 / 206 ح 24. (4) محمد بن إسحاق بن يسار المدني: من
أقدم مؤرخي العرب صاحب " السيرة النبوية " توفي سنة (151) ه. (5) زيد
بن عمرو: كان أحد الحكماء في الجاهلية - وكان كارها لعبادة الاوثان، توفي قبل
المبعث بخمس سنين (17 ق ه).
[
56 ]
فخرج زيد إلى الشام
يلتمس ويطلب في أهل الكتاب الاول دين إبراهيم عليه السلام ويسأل عنه، فلم يزل في
ذلك فيما يزعمون حتى أتى الموصل والجزيرة كلها، ثم أقبل حتى أتى الشام فجال فيها
حتى أتى راهبا من أهل البلقاء (1) فتبعه، كان ينتهي إليه علم النصرانية فيما
يزعمون، فسأله عن الحنفية دين إبراهيم عليه السلام، فقال له الراهب: إنك تسأل عن
دين ما أنت بواجد له الآن، من يحملك عليه اليوم، لقد درس علمه، وذهب من كان يعرفه
ولكنه قد أظلك خروج نبي يبعث بأرضك التي خرجت منها بدين إبراهيم الحنيفية، فعليك
ببلادك فإنه مبعوث الآن، هذا زمانه، ولقد كان شام (2) اليهودية والنصرانية فلم يرض
شيئا منهما، فخرج سريعا حين قال له الراهب ما قال يريد مكة، حتى إذا كان بأرض لخم
عدوا عليه فقتلوه. فقال ورقة بن نوفل (3)، وقد كان إتبع مثل أثر زيد، ولم يفعل في
ذلك مثل ما فعل، فبكاه ورقة وقال فيه شعرا: رشدت وأنعمت ابن عمرو وإنما * تجنبت
تنورا من النار حاميا بدينك ربا ليس ربا كمثله * وتركك أوثان الطواغي كماهيا وقد
تدرك الانسان رحمة ربه * وإن كان تحت الارض ستين (4) واديا (5) 11 - وروي أن عمر
بن الخطاب (6)، وسعيد بن زيد (7) قالا: يا
(1) البلقاء: كورة من
أعمال دمشق، وفيها قرى كثيرة ومزارع واسعة. (2) شام: استخبر، استعارة من الشم -
وفي المصدر: سئم اليهودية أي مل. (3) ورقة بن نوفل: حكيم جاهلي، اعتزل الاوثان قبل
الاسلام وامتنع من أكل ذبائحها، وهو ابن عم خديجة عليها السلام توفي نحو سنة (12 ق
ه). (4) نصب " ستين " على الحال عن " بعد " المحذوف أي ولو
كان بعد تحت الارض ستين واديا. (5) كمال الدين ج 1 / 199 ح 41 وعنه البحار ج 15 /
204 ح 20 وعن مناقب ابن شهر اشوب ج 1 / 14 مختصرا، وأورد نحوه ابن هشام في سيرته ج
1 / 229 و 231. (6) عمر بن الخطاب: أبو حفص، ولد سنة (40 ق ه)، وأسلم قبل الهجرة
بخمس سنين، وقام بالحكومة بسنة (13 ه)، وقتل سنة (23) ه. (7) سعيد بن زيد: بن
عمرو بن نقيل صحابي، ولد بمكة سنة (22) ه وتوفي بالمدينة (51) ه.
[
57 ]
رسول الله صلى الله
عليه وآله أنستغفر لزيد ؟ قال: نعم، فاستغفروا له، فإنه يبعث أمة واحدة (1). 12 -
وروي عن نفيل بن هشام، عن أبيه، عن جده سعيد بن زيد، سأل رسول الله صلى الله عليه
وآله عن أبيه زيد بن عمرو فقال: يا رسول الله إن أبي زيد بن عمرو كان كما رأيت
وكما بلغك، فلو أدركك (2) كان آمن بك، فاستغفر له ؟ قال: نعم فاستغفر له، وقال:
إنه يجئ يوم القيمة أمة واحدة، وكان فيما ذكروا أنه يطلب الدين فمات وهو في طلبه
(3).
(1) كمال الدين ج 1 /
200 ح 42 - وعنه البحار ج 15 / 205 ح 22 - وأورده ابن هشام في السيرة ج 1 / 240 ط
بيروت. (2) في البحار: فلو أدركك لآمن بك. (3) كمال الدين ج 1 / 200 ح 43 - وعنه
البحار ج 15 / 205 ح 23.
[
59 ]
1 - الامام أبو محمد الحسن بن علي العسكري في تفسيره، عن أبيه علي بن
محمد الهادي عليهما السلام، في حديث طويل قال: وأما دفاع الله القاصدين لمحمد صلى
الله عليه وآله إلى قتله، وإهلاكه إياهم كرامة لنبيه، وتصديقه إياه فيه، فإن رسول
الله صلى الله عليه وآله كان وهو ابن سبع سنين بمكة، قد نشأ في الخير نشوءا لا
نظير له في ساير صبيان قريش، حتى ورد مكة قوم من يهود الشام فنظروا إلى محمد صلى
الله عليه وآله وشاهدوا نعته وصفته. فأسر بعضهم إلى بعض: هذا والله محمد صلى الله
عليه وآله الخارج في آخر الزمان المدال (1) على اليهود وساير أهل الاديان، يزيل
الله به دولة اليهود، ويذلهم، ويقمعهم (2)، وقد كانوا وجدوه في كتبهم النبي الامي
الفاضل الصادق، فحملهم الحسد على أن كتموا ذلك، وتفاوضوا (3) في أنه ملك يزال.
(1) المدال: أدال الله
زيدا من عمرو: نزع الدولة من عمرو وحولها إلى زيد. (2) قمعه وأقمعه: قهره وذلله.
(3) تفاوضوا: تحادثوا وتذاكروا وانتهت أنظارهم إلى أن الرئاسة ملك يزول.
[
60 ]
ثم قال بعضهم لبعض:
تعالوا نحتال (1) فنقتله، فإن الله يمحو ما يشاء ويثبت لعلنا نصادفه ممن يمحو،
فهموا بذلك، ثم قال بعضهم لبعض: لا تعجلوا حتى نمتحنه ونجربه بأفعاله، فإن الحلية
قد توافق الحلية، والصورة قد تشاكل الصورة، وإنما وجدناه في كتبنا أن محمدا صلى
الله عليه وآله يجنبه ربه من الحرام، والشبهات، فصادفوه وألقوه وادعوه إلى دعوة
وقدموا إليه الحرام والشبهة، فإن انبسط فيهما أو في أحدهما فأكله، فاعلموا أنه غير
من تظنون، وإنما الحلية وافقت الحلية، والصورة قد ساوت الصورة، وإن لم يكن الامر
كذلك ولم يأكل منهما، فاعلموا أنه هو، فاحتالوا له في تطهير الارض منه لتسلم
لليهود دولتهم. فجاؤوا إلى أبي طالب عليه السلام فصادفوه ودعوه إلى دعوة لهم فلما
حضر رسول الله صلى الله عليه وآله قدموا إليه وإلى أبي طالب والملا من قريش دجاجة
مسمنة كانوا قد وقذوها (2) وشووها، فجعل أبو طالب عليه السلام وساير قريش يأكلون
منها، ورسول الله صلى الله عليه وآله يمد يده نحوها فيعدل بها يمنة ويسرة، ثم
أماما، ثم خلفا، ثم فوقا، ثم تحتا، لا تصيبها يده فقالوا مالك لا تأكل منها ؟
فقال: يا معاشر اليهود قد جهدت أن أتناول منها، وهذه يدي يعدل بها عنها وما أراها
إلا حراما يصونني ربي عنها، فقالوا: ما هي إلا حلال فدعنا نلقمك منها. فقال رسول
الله صلى الله عليه وآله: فافعلوا إن قدرتم فذهبوا ليأخذوا منها ويطعموه فكانت
أيديهم يعدل بها عنها إلى الجهات، كما كانت يد رسول الله صلى الله عليه وآله تعدل
عنها. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله فهذه قد منعت منها، فأتوني بغيرها إن
كانت لكم، فجاؤوه بدجاجة أخرى، مسمنة، مشوية قد أخذوها لجار لهم
(1) في بعض النسخ:
نحتل (حتى يكون مجزوما، فإنه جواب اسم فعل الامر). (2) وقذوها: ضربوها ضربا شديدا
حتى ماتت.
[
61 ]
غائب، لم يكونوا
اشتروها وعملوها على أن يردوا عليه ثمنها إذا حضر. فتناول منها رسول الله صلى الله
عليه وآله لقمة، فلما ذهب أن يرفعها ثقلت عليه وفصلت (1) حتى سقطت من يده، وكلما
ذهب يرفع ما تناوله بعدها ثقلت وسقطت. فقالوا: يا محمد فما بال هذه لا تأكل منها ؟
قال رسول الله صلى الله عليه وآله: وهذه أيضا قد منعت منها، وما أراها إلا من شبهة
يصونني ربي عزوجل عنها. فقالوا: ما هي شبهة، دعنا نلقمك منها، قال: إفعلوا إن
قدرتم عليه، فكلما تناولوا لقمة ليلقموه، ثقلت كذلك في أيديهم وسقطت، ولم يقدروا
أن يعلوها (2). فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: هو ما قلت لكم: شبهة يصونني
ربي عزوجل عنها، فتعجب قريش من ذلك، وكان ذلك مما يقيمهم على اعتقاد عداوتهم إلى
أن أظهروها لما أن أظهره الله عزوجل بالنبوة وأغرتهم اليهود أيضا وقالت لهم
اليهود: أي شئ يرد عليكم من هذا الطفل ؟ ما نراه إلا سالبكم نعمكم وأرواحكم، وسوف
يكون لهذا شأن عظيم. وقال أمير المؤمنين عليه السلام: فتواطأت اليهود على قتله في
(3) جبل حراء وهم سبعون، فعمدوا إلى سيوفهم فسموها، ثم قعدوا له ذات غلس في طريقه
على جبل حرا، فلما صعد صعدوا وسلوا سيوفهم، وهم سبعون رجلا من أشد اليهود وأجلدهم
وذوي النجدة منهم، فلما أهووا بها إليه ليضربوه بها التقى طرفا الجبل بينهم وبينه
فانضما، وصار ذلك حائلا بينهم وبين محمد صلى الله عليه وآله، وانقطع طمعهم عن
الوصول إليه بسيوفهم،
(1) في البحار: نصلت.
(2) في المصدر المطبوع: أن يرفعوها - وفي البحار: أن يلقموها. (3) في البحار: في
طريقه على جبل حراء.
[
62 ]
فغمدوها، فانفرج
الطرفان بعد ما كانا انضما. فسلوا بعد سيوفهم وقصدوه، فلما هموا بإرسالها عليه انضم
طرفا الجبل، وحيل بينهم وبينه فغمدوها، ثم ينفرجان فيسلونها إلى أن بلغ ذروة
الجبل، وكان ذلك سبعا وأربعين مرة. فصعدوا الجبل وداروا خلفه ليقصدوه بالقتل، فطال
عليهم الطريق ومد الله عز وجل في الجبل، فأبطأوا عنه حتى فرغ رسول الله صلى الله
عليه وآله من ذكره وثنائه على ربه واعتباره بعبرة. ثم انحدر عن الجبل وانحدروا
خلفه ولحقوه وسلوا سيوفهم ليضربوه بها فانضم طرفا الجبل وحال بينهم وبينه فغمدوها
ثم انفرج فسلوها، ثم انضم فغمدوها، وكان ذلك سبعا وأربعين مرة، كلما انفرج سلوها،
فإذا انضم غمدوها. فلما كان في آخر مرة وقد قارب رسول الله صلى الله عليه وآله
القرار سلوا سيوفهم فانضم طرفا الجبل، وضغطهم الجبل، ورضضهم، وما زال يضغطهم حتى
ماتوا جميعا. ثم نودي يا محمد: انظر إلى خلفك إلى من بغى (1) عليك بالسوء ماذا صنع
بهم ربك، فنظر فإذا طرفا الجبل مما يليه منضمان، فلما نظر انفرج الجبل، وسقط أولئك
القوم وسيوفهم بأيديهم، وقد هشمت وجوههم وظهورهم وجنوبهم وأفخاذهم، وسوقهم،
وأرجلهم، وخروا موتى، تشخب أوداجهم دما. وخرج رسول الله صلى الله عليه وآله عن ذلك
الموضع سالما مكفيا مصونا محفوظا تناديه الجبال وما عليها من الاحجار والاشجار:
هنيئا لك يا محمد صلى الله عليه وآله نصرة الله عزوجل لك على أعدائك بنا، وسينصرك
(1) في البحار: انظر
خلفك إلى بغاتك السوء.
[
63 ]
إذا ظهر أمرك على
جبابرة أمتك وعتاتهم (1) بعلي بن أبي طالب، وتسديده لاظهار دينك وإعزازه، وإكرام
أوليائك، وقمع أعدائك، وسيجعله تاليك وثانيك، ونفسك التي بين جنبيك، وسمعك الذي به
تسمع، وبصرك الذي به تبصر، ويدك التي بها تبطش، ورجلك التي عليها تعتمد، وسيقضي
عنك ديونك، ويفي عنك بعداتك، وسيكون جمال أمتك، وزين أهل ملتك، وسيسعد ربك عزوجل
به محبيه، ويهلك به شانئيه (2). 2 - وفي تفسير العسكري عليه السلام في حديث ذكر
فيه أن رسول الله صلى الله عليه وآله ظهر منه ما ظهر من موسى على نبينا وآله عليه
السلام من آيات التسع. قال الامام عليه السلام: وأما الجراد المرسل على بني
إسرائيل فقد فعل الله أعظم وأعجب منه بأعداء محمد صلى الله عليه وآله، فإنه أرسل
عليهم جرادا أكلهم، ولم يأكل جراد موسى رجال القبط، ولكنه أكل زروعهم. وذلك أن
رسول الله صلى الله عليه وآله كان في بعض أسفاره إلى الشام، وقد تبعه مائتان من
يهودها في خروجه عنها، وإقباله نحو مكة، يريدون قتله، مخالفة أن يزيل الله دولة
اليهود على يده، فراموا قتله، وكان في القافلة فلم يجسروا عليه. وكان رسول الله
صلى الله عليه وآله إذا أراد حاجة ابتعد، واستتر بأشجار تكنفه، أو برية بعيدة،
فخرج ذات يوم لحاجته فابتعد وتبعوه، وأحاطوا به، وسلوا سيوفهم عليه، فأثارالله من
تحت رجل محمد من ذلك الرمل جرادا، فاحتوشتهم وجعل تأكلهم فاشتغلوا بأنفسهم عنه،
فلما فرغ رسول الله من حاجته، وهم يأكلهم الجراد، رجع إلى أهل القافلة. فقالوا له:
ما بال الجماعة خرجوا خلفك لم يرجع منهم أحد ؟ فقال
(1) العتات (بضم
العين): جمع العاتي وهو الذي جاوز حده واستكبر. (2) تفسير الامام عليه السلام: ص
159 ح 79 وعنه البحار ج 17 ص 311.
[
64 ]
رسول الله صلى الله
عليه وآله: جاؤوا يقتلونني فسلط الله عليهم الجراد، فجاؤوا ونظروا إليهم فبعضهم قد
مات، وبعضهم قد كاد يموت، والجراد يأكلهم، فما زالوا ينظرون إليهم حتى أتى الجراد
على أعيانهم فلم تبق منهم شيئا (1).
(1) تفسير الامام عليه
السلام: 416 ح 283 وعنه البحار ج 17 / 268 والبرهان: 2 / 30.
[
65 ]
1 - الامام أبو محمد الحسن بن علي عليهما السلام في
تفسيره عن أبيه عليه السلام قال: وأما تسليم الجبال والصخور والاحجار عليه صلى
الله عليه وآله فإن رسول الله صلى الله عليه وآله لما ترك التجارة إلى الشام،
وتصدق بكل ما رزقه الله تعالى من تلك التجارات، كان يغدو كل يوم إلى حراء (1)،
يصعده وينظر من قلته إلى آثار رحمة الله، وأنواع عجائب رحمته وبدائع حكمته، وينظر
إلى أكناف السماء، وأقطار الارض، والبحار، والمفاوز (2)، والفيافي (3)، فيعتبر
بتلك الآثار ويتذكر بتلك الآيات، ويعبد الله حق عبادته. فلما استكمل أربعين سنة
نظر الله إليه وإلى قلبه فوجده أفضل القلوب، وأجلها، وأطوعها، وأخشعها وأخضعها،
أذن لابواب السموات ففتحت، ومحمد صلى الله عليه وآله ينظر إليها، وأذن للملائكة
فنزلوا، ومحمد
(1) حراء (بالحاء
المهملة المكسورة والالف المقصورة أو الممدودة): جبل من جبال مكة على ثلاثة أميال.
(2) المفاوز: (بفتح الميم وكسر الواو): جمع المفازة وهي المفلحة والمنجاة والفلاة
التي لا ماء فيها. (3) الفيافي (بفتح الفاء الاولى وكسر الثانية): جمع الفيفاء وهي
الصخرة الملساء وجمع الفيفاة وهي المفازة.
[
66 ]
رسول الله صلى الله
عليه وآله ينظر إليهم، وأمر بالرحمة فأنزلت عليه لدن ساق العرش إلى رأس محمد صلى
الله عليه وآله وغمرته، ونظر إلى جبرئيل الروح الامين المطوق بالنور، طاووس
الملائكة فهبط إليه فأخذ بضبعه وهزه. وقال: يا محمد إقرأ، قال: وما أقرأ ؟ قال: يا
محمد (اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الانسان من علق اقرأ وربك الاكرم الذي علم
بالقلم علم الانسان ما لم يعلم) (1). ثم أوحي إليه ما أوحى إليه ربه عزوجل، ثم صعد
إلى العلو، ونزل محمد صلى الله عليه وآله من الجبل، وقد غشيه من تعظيم جلال الله،
وورد عليه من كبير شأنه ما ركبه الحمى والنافض (2) وقد اشتد عليه ما يخافه من
تكذيب قريش في خبره، ونسبتهم إياه إلى الجنون وأنه يعتريه شيطان. وكان من أول أمره
أعقل خليقة الله، وأكرم براياه، وأبغض الاشياء إليه الشيطان وأفعال المجانين
وأقوالهم، فأراد الله عزوجل أن يشرح صدره، ويشجع قلبه، فأنطق الله الجبال والصخور
والمدر، وكلما وصل إلى شئ منها ناداه: السلام عليك يا محمد، السلام عليك يا ولي
الله، السلام عليك يا رسول الله، أبشر فإن الله عزوجل قد فضلك وجملك وزينك وأكرمك
فوق الخلائق أجمعين من الاولين والآخرين، لا يحزنك أن تقول قريش، إنك مجنون وعن
الدين مفتون. فإن الفاضل من فضله رب العالمين، والكريم من كرمه خالق الخلق أجمعين،
فلا يضيق صدرك من تكذيب قريش وعتاة العرب لك، فسوف يبلغك ربك أقصى منتهى الكرامات،
ويرفعك ربك إلى أرفع الدرجات. وسوف ينعم الله ويفرح أولياءك بوصيك علي بن أبي
طالب. وسوف يبث علومك في العباد والبلاد بمفتاحك وباب مدينة حكمتك
(1) العلق: 1 - 5. (2)
النافض: حمى الرعدة.
[
67 ]
علي بن أبي طالب عليه
السلام، وسوف يقر عينك ببنتك فاطمة عليها السلام، وسوف يخرج منها ومن علي الحسن
والحسين عليهما السلام سيدي شباب أهل الجنة، وسوف ينشر في البلاد دينك. وسوف يعظم
أجور المحبين لك ولاخيك، وسوف يضع في يدك لواء الحمد فتضعه في يد أخيك علي، فيكون
تحته كل نبي وصديق، وشهيد، يكون قائدهم أجمعين إلى جنات النعيم. فقلت في سري يا
رب: من علي بن أبي طالب الذي وعدتني به ؟ وذلك بعد ما ولد علي بن أبي طالب عليه
السلام وهو طفل، أو هو ولد عمي ؟ فقال بعد ذلك لما تحرك علي قليلا وهو معه: أهو
هذا ؟ ففي كل مرة من ذلك أنزل عليه ميزان الجلال فجعل محمد صلى الله عليه وآله في
كفة منه، ومثل له علي عليه السلام وساير الخلايق من أمته إلى يوم القيامة فوزن بهم
فرجح. ثم أخرج محمد عليه السلام من الكفة، وترك علي عليه السلام في كفة محمد التي
كان فيها فوزن بسائر أمته فرجح بهم، فعرفه رسول الله صلى الله عليه وآله بعينه
وصفته ونودي في سره: يا محمد هذا علي بن أبي طالب صفيي الذي أؤيد به هذا الدين
يرجح على جميع أمتك بعدك، فذلك حين شرح الله صدري بأداء الرسالة، وخفف علي مكافحة
الامة وسهل علي مبارزة العتاة الجبارة من قريش (1). 2 - وعن ابن عباس قال: إن أول
ما ابتدأ به رسول الله صلى الله عليه وآله من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، وكان
لا يرى رؤيا إلا جاءت كفلق الصبح. ولما تزوج بخديجة عليها السلام وكمل له من العمر
أربعون سنة، قال: فخرج ذات يوم إلى جبل حراء، فهتف به جبرئيل ولم يبدو له، فغشي
عليه، فحملوه مشركو قريش إليها، وقالوا: يا خديجة تزوجت بمجنون، فوثبت
(1) تفسير الامام عليه
السلام: 156 ح 78 وعنه البحار ج 17: 309 - وج 18: 205.
[
68 ]
خديجة من السرير،
وضمته إلى صدرها، ووضعت رأسه في حجرها، وقبلت عينيه، وقالت: تزوجت نبيا مرسلا،
فلما أفاق قالت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله صلى الله عليه وآله ما الذي أصابك ؟
قال: ما أصابني غير الخير ولكني سمعت صوتا أفزعني، وأظنه جبرئيل فاستبشرت. ثم
قالت: إذا كان غداة غد فارجع إلى الموضع الذي رأيت فيه بالامس، قال: نعم فخرج صلى
الله عليه وآله وإذا هو بجبرئيل في أحسن صورة وأطيب رائحة، فقال: يا محمد ربك
يقرئك السلام، ويخصك بالتحية والاكرام، ويقول لك: أنت رسولي إلى الثقلين، فادعهم
إلى عبادتي، وأن يقولوا: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، وعلي ولي الله، فضرب
بجناحه الارض فنبع عين ماء، فشرب منها صلى الله عليه وآله وتوضأ، وعلمه (اقرأ باسم
ربك الذي خلق) إلى آخرها. وعرج جبرئيل إلى السماء، وخرج رسول الله صلى الله عليه
وآله من حراء، فما مر بحجر ولا مدر ولا شجر إلا وناداه: السلام عليك يا رسول الله
صلى الله عليه وآله فأتي خديجة وهي بانتظاره وأخبرها بذلك، ففرحت به وبسلامته
وبقائه (1). 3 - وذكر الشيخ علي بن إبراهيم بن هاشم، وهو من أجل رواة أصحابنا في كتابه
أن النبي صلى الله عليه وآله لما أتي له سبع وثلاثون سنة، كان يرى في نومه كأن
آتيا أتاه فيقول: يا رسول الله فينكر ذلك، فلما طال عليه الامر وكان بين الجبال
يرعى غنما لابي طالب عليه السلام، فنظر إلى شخص يقول له: يا رسول الله، فقال له:
من أنت ؟ قال: أنا جبرئيل أرسلني الله إليك ليتخذك رسولا، فأخبر رسول الله خديجة
بذلك، وكانت خديجة قد انتهى إليها خبر اليهودي، وخبر بحيرا، وما حدثت به آمنة أمه،
فقالت: يا محمد إني لارجو أن يكون كذلك، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله يكتم
ذلك.
(1) أورده المؤلف قدس
سره في " تفسير البرهان " ج 4 ص 479 ح 1 عن علي (عمر ح ل) بن إبراهيم
الاوسي.
[
69 ]
فنزل عليه جبرئيل،
وأنزل عليه ماءا من السماء، فقال له: يا محمد قم توضأ للصلوة فعلمه جبرئيل الوضوء
على الوجه واليدين من المرفق، ومسح الرأس والرجلين إلى الكعبين، وعلمه السجود
والركوع. فلما تم له أربعون سنة أمره بالصلوة، وعلمه حدودها، ولم ينزل عليه
أوقاتها، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله يصلي ركعتين ركعتين في كل وقت، وكان
علي بن أبي طالب عليه السلام يألفه، ويكون معه في مجيئه وذهابه لا يفارقه. فدخل
علي عليه السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وهو يصلي، فلما نظر إليه يصلي،
قال: يا أبا القاسم ما هذا ؟ قال: هذه الصلوة التي أمرني الله بها، فدعاه إلى
الاسلام فأسلم، وصلى معه، وأسلمت خديجة، وكان لا يصلي إلا رسول الله صلى الله عليه
وآله وعلي وخديجة خلفه، فلما أتى لذلك أيام: دخل أبو طالب إلى منزل رسول الله صلى
الله عليه وآله ومعه جعفر، فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وعلي بجنبه
يصليان، فقال لجعفر: يا جعفر صل جناح ابن عمك، فوقف جعفر بن أبي طالب من الجانب
الآخر، فلما وقف على يساره بدر رسول الله صلى الله عليه وآله من بينهما وتقدم.
وأنشأ أبو طالب في ذلك يقول: إن عليا وجعفرا ثقتي * عند ملم الزمان والكرب والله
لا أخذل النبي ولا * يخذله من بني ذوي حسب لا تخذلا وانصرا ابن عمكما * أخي لامي
من بينهم وأبي (1) 4 - والذي ذكره ورواه الشيخ الفاضل محمد بن الحسن بن علي بن
أحمد بن علي المعروف بابن الفارسي في " روضة الواعظين " قال: إعلم أن
الطائفة قد اجتمعت على أن رسول الله صلى الله عليه وآله كان رسولا مستخفيا يصوم
ويصلي على خلاف ما كانت قريش تفعله مذ كلفه الله تعالى.
(1) إعلام الورى: 47
وأخرجه في البحار ج 18 / 184 ح 14 عن قصص الانبياء: 317 ح 395 إلى قوله: (فوقف
جعفر بن أبي طالب من الجانب الآخر). (*)
[
70 ]
فلما أتت أربعون سنة
أمر الله عزوجل جبرئيل أن يهبط إليه باظهار الرسالة، وذلك في اليوم السابع
والعشرين من شهر الله الاصم، فاجتاز بميكائيل، فقال: أين تريد ؟ قال له: قد بعث
الله عزوجل نبي الرحمة، وأمرني أن أهبط إليه بالرسالة، فقال له ميكائيل: فأجئ معك
؟ قال له: نعم، فنزلا ووجدا رسول الله صلى الله عليه وآله نائما بالابطح بين أمير
المؤمنين وجعفر بن أبي طالب عليهم السلام. فجلس جبرئيل عند رأسه وميكائيل عند
رجليه، ولم ينبهه جبرئيل إعظاما له، فقال ميكائيل لجبرئيل: إلى أيهم بعثت ؟ قال:
إلى الاوسط، فأراد ميكائيل أن ينبهه فمنعه جبرئيل عليه السلام. ثم انتبه النبي صلى
الله عليه وآله فأدى إليه جبرئيل الرسالة عن الله تعالى، فلما نهض جبرئيل عليه
السلام ليقوم، أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله بثوبه فقال ما اسمك ؟ قال له:
جبرئيل، ثم نهض رسول الله ليلحق بغنمه فما مر بشجرة ولا مدرة إلا سلمت عليه
وهنأته. ثم كان جبرئيل عليه السلام يأتيه، فلا يدنو منه إلا بعد أن يستأذن عليه،
فأتاه يوما وهو بأعلى مكة، فغمز بعقبه بناحية الوادي، فانفجرت عين فتوضأ جبرئيل
عليه السلام وتوضأ رسول الله صلى الله عليه وآله، ثم صلى الظهر، وهي أول صلوة
فرضها الله عزوجل، وصلى أمير المؤمنين عليه السلام تلك الصلوة مع رسول الله صلى
الله عليه وآله فرجع رسول الله من يومه فجاء إلى خديجة، فأخبرها، فتوضأت وصلت صلوة
العصر من ذلك اليوم (1). ثم أنزل الله تعالى: (وأنذر عشيرتك الاقربين) (2) فجمع
رسول الله صلى الله عليه وآله بني هاشم وهم نحو أربعين رجلا، فأمر أمير المؤمنين
(1) أخرج من قوله:
(فجلس جبرئيل) إلى هنا في البحار ج 18 / 196 عن مناقب ابن شهر اشوب ج 1 / 45
باختلاف. (2) الشعراء: 214.
[
71 ]
عليه السلام، فانضج لهم
رجل شاة، وخبز لهم صاعا من طعام، وجاء بعس (1) من لبن، ثم أدخل إليه منهم عشرة
فأكلوا حتى صدروا، وأن منهم ليأكل الجذعة، ويشرب الفرق، ثم جعل يدخل إليه عشرة
عشرة، حتى أكلوا جميعا وصدروا. ثم قال لهم: إني بعثت إلى الابيض، والاسود،
والاحمر، وأن الله عزوجل أمرني أن أنذر عشيرتي الاقربين، وأني لا أملك لكم من الله
حظا إلا أن تقولوا: لا إله إلا الله، فقال: له أبو لهب لعنه الله: لهذا دعوتنا ؟
ثم تفرقوا عنه، فأنزل الله تعالى: (تبت يدا أبي لهب) إلى الآخر. ثم دعاهم دفعة
ثانية، فأطعمهم وسقاهم كالدفعة الاولى، ثم قال لهم: يا بني عبد المطلب، أطيعوني
تكونوا ملوك الارض وحكامها، وما بعث الله نبيا إلا جعل له وصيا وأخا ووزيرا، فأيكم
يكون أخي، ووزيري، ووصيي، ووارثي، وقاضي ديني ؟ فقال أمير المؤمنين عليه السلام،
وهو أصغر القوم سنا: أنا يا رسول الله، فلذلك كان وصيه. وروي أنه جمعهم، وهم خمسة
وأربعون رجلا، منهم أبو لهب، فظن أبو لهب أنه يريد أن ينزع عما دعاهم إليه، فقام
إليه فقال: يا محمد هؤلاء عمومتك، وبنو عمك قد اجتمعوا فتكلم، واعلم أن قومك ليست
لهم بالعرب طاقة. فقام صلى الله عليه وآله خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
إن الرائد لا يكذب أهله، والله الذي لا إله إلا هو، إني رسول الله إليكم حقا خاصة،
وإلى الناس عامة، والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ولتحاسبن كما
تعملون، ولتجزون بالاحسان إحسانا، وبالسوء سوءا، وإنها الجنة أبدا، والنار أبدا،
إنكم أول من أنذرتم (2).
(1) العس (بضم العين
وتشديد السين المهملتين): القدح أو الاناء الكبير. (2) أخرج من قوله: (فقام خطيبا
إلى هنا) في البحار ج 18 / 197 عن مناقب ابن شهر اشوب ج 1 / 46.
[
72 ]
ثم آمن به قوم من
عشيرته، واجتمعت قريش إلى دار الندوة، وكتبوا الصحيفة على بني هاشم، ألا يكلموهم،
ولا يبايعوهم، أو يسلموا إليهم رسول الله ليقتلوه، ثم أخرجوهم من بيوتهم حتى
أنزلوا شعب أبي طالب، ووضعوا عليهم الحرس، فمكثوا بذلك ثلاث سنين. ثم بعث الله
الارضة على الصحيفة فأكلتها ولم يزل صلى الله عليه وآله كذلك، يريهم الآيات،
ويخبرهم بالمغيبات، وأنزل الله تعالى عليه (ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك
وحيه) (1) ومعناه لا تعجل بقراءة القرآن عليهم حتى أنزل عليك التفسير في أوقاته
كما أنزل إليك التلاوة. ثم أتاه جبرئيل عليه السلام ليلا، وهو بالابطح، ومعه
البراق، وهو أصغر من البغل وأكبر من الحمار، فركبه رسول الله صلى الله عليه وآله،
وأمسك جبرئيل عليه السلام بركابه، ومضى إلى بيت المقدس، ثم إلى السماء، فتلقته
الملائكة، فسلمت عليه، وتطايرت بين يديه، حتى انتهى إلى السماء السابعة. قال
عكرمة: لما اجتمعت قريش على إدخال بني هاشم وبني عبد المطلب شعب أبي طالب، كتبوا
بينهم صحيفة، فدخل الشعب مؤمن بني هاشم وكافرهم، ومؤمن بني عبد المطلب وكافرهم، ما
خلا أبا لهب، وسفيان بن الحرث، فبقي القوم في الشعب ثلاث سنين، فكان رسول الله صلى
الله عليه وآله إذا أخذ مضجعه، ونامت العيون، جاءه أبو طالب فأنهضه من مضجعه، وأنا
عليا مضجعه، فقال علي: يا أبتاه إني مقتول ذات ليلة فقال أبو طالب: إصبرن يا علي،
فالصبر أحجى * كل حي مصيره لشعوب قد بذلناك، والبلاء عسير * لفداء النجيب وابن
النجيب لفداء الاغر ذي الحسب الثاقب * والباع والفناء الرحيب إن رمتك المنون
بالنبل فاصبر * فمصيب منها وغير مصيب
(1) طه: 114.
[
73 ]
كل حي وإن تطاول حيا
* آخذ من سهامها بنصيب قال علي بن الحسين عليه السلام كان أبو طالب يضرب عن رسول
الله عليه وآله السلام بسيفه، ويقيه بنفسه، فلما حضرته الوفاة، وقد قويت دعوة رسول
الله صلى الله عليه وآله، وعلت كلمته، إلا أن قريشا على عداوتها وحسدها، فاجتمعوا
إلى أبي طالب، ورسول الله صلى الله عليه وآله عنده، فقالوا: نسألك من ابن أخيك
النصف قال: وما النصف منه ؟ قالوا: يكف عنا، ونكف عنه، ولا يكلمنا، ولا نكلمه، ولا
يقاتلنا، ولا نقاتله، لان هذه الدعوة قد بعدت بين القلوب، وزرعت الشحناء، وأنبتت
البغضاء. فقال: يا ابن أخي، إن بني عمك وعشيرتك يسألونك النصف، وأن تكف عنهم،
ويكفوا عنك، فقال: يا عم، لو أنصفني بنو عمي لاجابوا دعوتي، وقبلوا نصيحتي، وأن
الله عزوجل أمرني أن أدعو إلى دين الحنيفية، ملة إبراهيم، فمن أجابني، فله عند
الله الرضوان، والخلود في الجنان، ومن عصاني، قاتلته حتى يحكم الله بيننا، وهو خير
الحاكمين فقالوا يا أبا طالب، سله، أرسله الله إلينا خاصة، أم إلى الناس كافة ؟
فقال أبو طالب: يا ابن أخي، إلى الناس كافة أرسلت، أم إلى قومك خاصة ؟ قال: بل
أرسلت إلى الناس كافة، إلى الابيض، والاسود، والاحمر، والعربي، والعجمي، والذي
نفسي بيده، لادعون إلى هذا الامر، الابيض، والاسود، ومن على رؤوس الجبال، ومن في
لجج البحار، ولادعون ألسنة فارس والروم. فتجبرت قريش، واستكبرت، وقالت: أما تسمع
إلى ابن أخيك وما يقول ؟ والله لو سمعت بهذا فارس والروم، لاختطفتنا من أرضنا، ولقلعت
الكعبة حجرا حجرا. فأنزل الله تعالى: (وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا أو
لم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شئ) إلى آخر الآية (1).
(1) القصص: 57.
[
74 ]
وأنزلت في قولهم:
لقلعت الكعبة حجرا حجرا: (ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل) (1) إلى آخرها. فلما
سمعوا ذلك من النبي صلى الله عليه وآله، خرجوا من عند أبي طالب، فقالوا: ألا ترى
محمدا لا يزداد إلا كبرا وتكبرا وإن هو إلا ساحر أو مجنون. وتوعدوه، وتحالفوا
وتعاقدوا، لئن مات أبو طالب، لنجمعن قبائل قريش كلها على قتله ما أمسكت أيدينا
السياط. وبلغ أبا طالب ذلك، فجمع بنيه وبني أبيه، وأحلافهم من قريش، فوصاهم برسول
الله صلى الله عليه وآله وقال: إن ابن أخي محمدا نبي، كما يقول بذلك، أخبرنا
آباؤنا وعلماؤنا إن ابن أخي محمدا نبي صادق، وأمين ناطق، وأن شأنه أعظم شأن،
ومكانه من ربه أعلى مكان، وأن يومي قد حضر، وأنتم الخلفاء النجب، فأجيبوا دعوته،
واجتمعوا على نصرته، وارموا عدوه من وراء حوزته، فإنه الشرف الباقي لكم على الدهر،
وأنشأ: أوصي بنصر الامين الخير مشهده * بعدي عليا وعم الخير عباسا وحمزة الاسد
المخشي صولته * وجعفرا أن يذوقوا قبله البأسا وهاشما كلها أوصي بنصرته * أن يأخذوا
دون حرب القوم أمراسا كونوا فداء لكم أمي وما ولدت * من دون أحمد دون الروع أتراسا
بكل أبيض مصقول عوارضه * تخاله في سواد الليل مقباسا فلما سمع النبي صلى الله عليه
وآله قال: يا عم كلمة واحدة تجب لك بها شفاعتي يوم القيمة. فقال: يا بن أخي، صدقت،
أنت نبي حق، وربك إله حق، ودينك دين حق. قال له: يا عم، إن الله عزوجل وعدني أن
قريشا ستؤمن غدا بما تنكره اليوم، وأن الله تعالى سيفتح علي الارض، ويظهر دينه على
جميع الاديان،
(1) الفيل: 1.
[
75 ]
وأنك راحل إلى يوم
القيمة، فقل معي كلمة، تستوجب من الله رضوانه ورحمته، فقالوا: إن أبا طالب حرك بها
شفتيه، وأشار باصبعه، فسر النبي صلى الله عليه وآله بذلك، واستغفر له (1).
(1) روضة الواعظين: 52
- 55.
[
77 ]
1 - علي بن إبراهيم في تفسيره قال: في رواية أبي الجارود، عن أبي جعفر عليه
السلام في قوله: (حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي
الكبير) (1) وذلك أن أهل السموات لم يسمعوا وحيا فيما بين أن بعث عيسى بن مريم
عليه السلام إلى أن بعث رسول الله صلى الله عليه وآله. فلما بعث الله جبرئيل إلى
رسول الله، سمع أهل السموات صوت وحي القرآن كوقع الحديد على الصفا، فصعق أهل
السموات، فلما فرغ من الوحي، انحدر جبرئيل، كما مر بأهل السموات، فزع عن قلوبهم،
يقول: كشف عن قلوبهم، فقال بعضهم لبعض: ماذا قال ربكم ؟ قالوا الحق، وهو العلي
الكبير (2). 2 - الشيخ الطوسي في مجالسه قال: أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن
إبراهيم القزويني (3)، قال: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن وهبان النهدي
(1) سبأ: 23. (2)
تفسير القمي ج 2 / 202 - وعنه البحار ج 18 / 259 ح 11 والبرهان ج 3 / 351. (3) أبو
عبد الله الحسين إبراهيم القزويني من مشايخ الطوسي توفي بعد سنة (408).
[
78 ]
البصري (1)، قال:
حدثني أحمد بن إبراهيم بن أحمد (2) قال: أخبرني أبو محمد الحسن بن علي بن عبد
الكريم الزعفراني، قال: حدثني أحمد بن محمد بن خالد البرقي في أبو جعفر، قال: حدثني
أبي، عن محمد بن أبي عمير، عن هشام بن سالم (3)، عن أبي عبد الله عليه السلام قال:
قال له بعض أصحابنا: أصلحك الله، كان رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: قال
جبرئيل، وهذا جبرئيل يأمرني، ثم يكون في حال أخرى يغمى عليه. قال: فقال أبو عبد
الله عليه السلام: إنه إذا كان الوحي من الله عزوجل إليه ليس بينهما جبرئيل أصابه
ذلك، لثقل الوحي من الله، وإذا كان بينهما جبرئيل لم يصبه ذلك، فقال لي جبرئيل،
وهذا جبرئيل (4).
(1) محمد بن وهبان: بن
محمد بن حماد البصري من أصحابنا الموثوقين وله كتب - معجم رجال الحديث ج 17 ص 316.
(2) أحمد بن إبراهيم بن أحمد بن المعلى بن أسد أبو بشر البصري من الامامية حسن
التصنيف. (3) هشام بن سالم الجواليقي الكوفي روى عن الصادق والكاظم عليهما السلام،
ثقة. (4) أمالي الشيخ الطوسي ج 2 / 276 وعنه البحار ج 18 / 268 ح 30.
[
79 ]
1 - علي بن إبراهيم بن هاشم في " تفسيره " قال:
حدثنا علي بن جعفر، قال: حدثني محمد بن عبد الله الطائي، قال: حدثنا محمد بن أبي
عمير، قال: حدثنا حفص الكناسي (1)، قال: سمعت عبد الله بن بكر الارجاني (2)، قال:
قال لي الصادق جعفر بن محمد عليهما السلام أخبرني عن رسول الله صلى الله عليه وآله
كان عاما للناس، أليس قال الله في محكم كتابه: (وما أرسلناك إلا كافة للناس) (3)
لاهل المشرق والمغرب، وأهل السماء، وأهل الارض، من الجن والانس، هل أبلغ رسالته
إليهم كلهم ؟ قلت: لا أدري، قال: يا ابن بكر، إن رسول الله لم يخرج من المدينة كيف
أبلغ أهل الشرق والغرب ؟ قلت: لا أدري، قال: إن الله تعالى أمر جبرئيل فاقتلع
الارض بريشة من جناحه، ونصبها لرسول الله، فكانت بين يديه مثل راحته في كفه، ينظر
إلى أهل المشرق والمغرب، ويخاطب كل قوم بألسنتهم، ويدعوهم إلى الله، وإلى نبوته
بنفسه، فما بقيت قرية ولا مدينة إلا ودعاهم النبي صلى الله عليه وآله (4).
(1) حفص الكناسي: بن
عيسى الاعور من أصحاب الصادق عليه السلام ورواية ابن أبي عمير عنه تدل على وثاقته.
(2) عبد الله بن بكر الارجاني (بفتح الهمزة والراء المشددة) منسوب إلى أرجان وهي
من كور الاهواز. (3) سبأ: 28. (4) تفسير القمي ج 2 / 202 وعنه البحار ج 18 / 188 ح
20 والبرهان ج 3 / 351 ح 1.
[
81 ]
(1)
في كتاب " أعلام الورى ": أسري برسول الله صلى الله عليه وآله إلى بيت
المقدس، وحمله جبرئيل على البراق، فأتى به بيت المقدس، وعرض عليه محاريب الانبياء،
وصلى بهم، ورده فمر رسول الله صلى الله عليه وآله في رجوعه بعير لقريش، وإذا لهم
ماء في آنية، فشرب منه، وأكفى ما بقي، وقد كانوا أضلوا لهم بعيرا، وكانوا يطلبونه.
فلما أصبح قال لقريش: إن الله قد أسرى بي إلى بيت المقدس، فأراني آيات الانبياء
ومنازلهم، وإني مررت بعير لقريش في موضع كذا وكذا، وقد أضلوا بعيرا لهم، فشربت من
مائهم، وأهرقت باقي ذلك. فقال أبو جهل: قد أمكنتكم الفرصة منه، فسلوه كم فيها من
الاساطين والقناديل ؟ فقالوا: يا محمد، إن هنا من قد دخل بيت المقدس، فصف كم
أساطينه، وقناديله، ومحاربيه ؟ فجاء جبرئيل عليه السلام: فعلق صورة بيت المقدس
تجاه وجهه، فجعل يخبرهم بما سألوه عنه، فلما أخبرهم قالوا: حتى يجئ العير ونسألهم
عما قلت، فقال لهم رسول الله: تصديق ذلك أن العير يطلع عليكم عند طلوع الشمس،
يقدمها جمل أحمر، عليه عذارتان (2)، فلما
(1) أبو علي الطبرسي:
الفضل بن الحسن بن الفضل صاحب مجمع البيان توفي سنة (548). (2) العذار (بكسر
العين): ما سال من اللجام على خد الفرس - جانب اللحية أي الشعر الذي يحاذي الاذن.
[
82 ]
كان من الغد أقبلوا
ينظرون إلى العقبة، ويقولون: هذه الشمس تطلع الساعة. فبيناهم كذلك، إذ طلع عليهم
العير حين طلع القرص، يقدمها جمل أحمر، فسألوهم عما قال رسول الله صلى الله عليه
وآله قالوا: لقد كان هذا ضال لنا في موضع كذا وكذا، وضعنا ماء فأصبحنا وقد أريق
الماء، فلم يزدهم ذلك إلا عتوا (1). فاجتمعوا في دار الندوة، وكتبوا بينهم صحيفة،
أن لا يؤاكلوا بني هاشم، ولا يكلموهم، ولا يبايعوهم، ولا يزوجوهم، ولا يتزوجوا
إليهم، ولا يحضروا معهم، حتى يدفعوا محمدا إليهم فيقتلونه، وإنهم يد واحدة على
محمد، ليقتلوه غيلة أو صراحا. فلما بلغ ذلك أبا طالب، مع بني هاشم، ودخل الشعب،
وكانوا أربعين رجلا، فحلف لهم أبو طالب بالكعبة، والحرم، والركن، والمقام، لئن
شاكت (2) محمدا شوكة لآتين عليكم يا بني هاشم، وحصن الشعب، وكان يحرسه بالليل
والنهار، فإذا جاء الليل، يقوم بالسيف عليه، ورسول الله صلى الله عليه وآله مضطجع،
ثم يقيمه ويضطجعه في موضع آخر، فلا يزال الليل كله هكذا، ووكل ولده، وولد أخيه به،
يحرسونه بالنهار، وأصابهم الجهد، وكان من دخل من العرب مكة، لا يجسر أن يبيع من
بني هاشم شيئا، ومن باع منهم شيئا انتهبوا ماله. وكان أبو جهل، والعاص بن وائل (3)
والنضر بن الحارث بن كلدة (4)،
(1) إعلام الورى: 59
وأخرجه في البحار ج 18 / 336 ح 37 عن أمالي الصدوق: 363. (2) شاك يشوك شوكا فلانا:
أدخل شوكة في جسمه والشوكة نبات شبيه بالابر. (3) العاص بن وائل: بن هاشم السهمي
القرشي أحد الحكام في الجاهلية، وكان نديما لهشام بن المغيرة وأدرك الاسلام، وظل
على الشرك، ويعد من المستهزئين ومن الزنادقة الذين ماتوا كفارا وثنيين، وهو على
الظاهر والد عمرو بن العاص، خرج يوما على راحلته ومعه أبناء له يتنزه، ونزل في أحد
الشعاب، فلما وضع قدمه على الارض صاح وانتفخت رجله حتى صارت مثل عنق البعير ومات،
فقالوا: لدغته الارض. (4) النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد مناف صاحب لواء
المشركين ببدر، وهو ابن خالة = *
[
83 ]
وعقبة بن أبي معيط
(1)، يخرجون إلى الطرقات التي تدخل مكة، فمن رأوه معه ميرة (2) نهوه أن يبيع من
بني هاشم شيئا، ويحذرونه إن باع شيئا أن ينهبوا ماله، وكانت خديجة لها مال كثير،
فأنفقته على رسول الله صلى الله عليه وآله في الشعب، ولم يدخل في حلف الصحيفة مطعم
بن عدي بن نوفل بن عبد المطلب بن عبد مناف (3) وقال: هذا ظلم. وختموا الصحيفة
بأربعين خاتما، ختمها كل رجل من رؤساء قريش بخاتمه، وعلقوها في الكعبة، وتابعهم
أبو لهب (4) على ذلك، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله يخرج في كل موسم، فيدور
على قبائل العرب، فيقول لهم: تمنعون لي جانبي حتى أتلو عليكم كتاب ربي، وثوابكم
على الله الجنة، وأبو لهب في أثره، فيقول: لا تقبلوا منه، فإنه ابن أخي، وهو ساحر
كذاب. فلم يزل هذه حاله، فبقوا في الشعب أربع سنين، لا يأمنون إلا من موسم إلى
موسم، ولا يشترون، ولا يبايعون إلا في الموسم (5). وكان يقوم بمكة موسمان في كل
سنة: موسم للعمرة في رجب، وموسم للحج في ذي الحجة، فكان إذا جاءت المواسم، يخرج بنو
هاشم من الشعب، فيشترون
= النبي صلى الله عليه
وآله، وكان يؤذيه كثيرا فلما أسر ببدر أمر النبي صلى الله عليه وآله بقتله فقتلوه
بالاثيل قرب المدينة سنة (2). (1) عقبة بن أبي معيط: كان من مقدمي قريش وكان شديد
الاذى للمسلمين فأسروه يوم بدر وقتلوه ثم صلبوه سنة (2). (2) الميرة (بكسر الميم
وسكون الياء): الطعام الذي يدخره الانسان. (3) مطعم بن عدي: كان رئيس بني نوفل
وقائدهم في حرب الفجار، مات قبل بدر سنة (2). (4) أبو لهب: عبد العزى بن عبد
المطلب بن هاشم عم النبي صلى الله عليه وآله ولكنه من أشد الناس عداوة للمسلمين في
الاسلام كان غنيا عتيا، كبر عليه أن يتبع دين الاسلام، فأذى ابن أخيه وأنصاره،
وحرض عليهم وقاتلهم، فنزلت فيه السورة: (تبت يدا أبي لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما
كسب). وكان أحمر الوجه فلقب في الجاهلية بأبي لهب، مات بعد وقعة بدر بأيام ولم
يشهدها سنة (2) - الكامل لابن الاثير ج 2 / 25. (5) الموسم: مجتمع الناس. وكثر
استعماله لوقت اجتماع الحجاج وسوقهم في مكة المكرمة. (*)
[
84 ]
ويبيعون، ثم لا يجسر
أحد منهم أن يخرج إلى الموسم الثاني، فأصابهم الجهد وجاعوا، وبعثت قريش إلى أبي
طالب: ادفع إلينا محمدا حتى نقتله ونملكك علينا فقال أبو طالب رضي الله عنه:
قصيدته الطويلة اللامية التي يقول فيها. فلما رأيت القوم لا ود فيهم * وقد قطعوا
كل العرى والوسائل ألم تعلموا أن ابننا لا مكذب * لدينا، ولا يعبأ بقول الا باطل
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه * ثمال اليتامى، عصمة للارامل يطوف به الهلاك من آل
هاشم * فهم عنده في نعمة وفواضل كذبتم وبيت الله نبزي (1) محمدا * ولما نطاعن دونه
ونقاتل ونسلمه حتى نصرع دونه * ونذهل عن أبنائنا والحلائل لعمري لقد كلفت وجدا
بأحمد * وأحببته حب الحبيب المواصل وجدت بنفسي دونه وحميته * ودرأت عنه بالذرى (2)
والكلاكل (3) فلا زال في الدنيا جمالا لاهلها * وشينا لمن عادى، وزين المحافل
حليما، رشيدا، حازما، غير طائش * يوالي إله الحق ليس بما حل فأيده رب العباد بنصره
* وأظهر دينا حقه غير باطل فلما سمعوا هذه القصيدة أيسوا منه، وكان أبو العاص بن
الربيع (4)، وهو ختن (5) رسول الله، يجئ بالعير (6) بالليل، عليها البر والتمر إلى
باب الشعب، ثم يصيح بها، فتدخل الشعب، فيأكلها بنو هاشم، وقال رسول الله صلى الله
عليه وآله: لقد صاهرنا أبو العاص، فأحمدنا صهره، لقد كان
(1) نبزي فلانا: نقهره
ونقوى عليه. (2) الذرى (بفتح الذال المعجمة): الملجأ وكل ما يستتر به. (3) الكلاكل
(بفتح الكاف الاولى وكسر الثانية): جمع الكلكلة وهي الصدر أو ما بين الترقوتين.
(4) أبو العاص بن الربيع: بن عبد العزى كان زوج بنت النبي - زينب - أسر يوم بدر
وأسلم بعد ست سنين ورد عليه النبي زينب بنكاح جديد. (5) الختن (بفتح الخاء المعجمة
والتاء): كل قريب بالمرأة كالاب والاخ وزوج البنت وهو المراد هنا. (6) العير (بفتح
العين وسكون الياء): الحمار الاهلي أو الوحشي.
[
85 ]
يعمد إلى العير ونحن
في الحصار فيرسلها في الشعب ليلا. فلما أتى لرسول الله في الشعب أربع سنين، بعث
الله على صحيفتهم القاطعة دابة الارض، فلحست جميع ما فيها من قطيعة رحم وظلم وجور،
وتركت اسم الله باسمك اللهم، ونزل جبرئيل على رسول الله، فأخبره بذلك، فأخبر رسول
الله صلى الله عليه وآله أبا طالب، فقام أبو طالب، فلبس ثيابه، ثم مضى حتى دخل
المسجد على قريش، وهم مجتمعون فيه، فلما بصروا به قالوا: قد ضجر أبو طالب، وجاء
الآن ليسلم محمدا ابن أخيه، فدنا منهم، وسلم عليهم، فقاموا إليه، وعظموه، وقالوا:
يا أبا طالب، قد علمنا أنك أردت مواصلتنا، والرجوع إلى جماعتنا، وأن تسلم إلينا
ابن أخيك، قال: والله ما جئت لهذا، ولكن ابن أخي أخبرني - ولم يكذبني - أن الله
أخبره، أنه بعث على صحيفتكم القاطعة دابة الارض، فلحست جميع ما فيها، من قطيعة رحم
وظلم وجور، وتركت اسم الله، فابعثوا إلى صحيفتكم، فإن كان حقا، فاتقوا الله،
وارجعوا عما أنتم عليه من الظلم وقطيعة الرحم، وإن كان باطلا، دفعته إليكم، فإن
شئتم قتلتموه، وإن شئتم استحييتموه. فبعثوا إلى الصحيفة، فأنزلوها من الكعبة،
وعليها أربعون خاتما، فلما أتوا بها نظر كل رجل منهم إلى خاتمه، ثم فكوها فإذا ليس
فيها حرف واحد، إلا باسمك اللهم. فقال أبو طالب: يا قوم، اتقوا الله، وكفوا عما
أنتم عليه، فتفرق القوم، ولم يتكلم أحد، ورجع أبو طالب إلى الشعب، وقال في ذلك
قصيدته البائية، التي أولها: ألا من لهم آخر الليل منصب * وشعب العصا من قومك
المتشعب (1) وقد كان في أمر الصحيفة عبرة * متى ما يخبر غائب القوم يعجب محا الله
منها كفرهم وعقوقهم * وما نقموا من ناطق الحق معرب
(1) في المصدر: وشعب
القضا من قومك المتشعب.
[
86 ]
وأصبح ما قالوا من
الامر باطلا * ومن يختلق ما ليس بالحق يكذب وأمسى ابن عبد الله فينا مصدقا * على
سخط من قومنا غير معتب فلا تحسبونا مسلمين محمدا * لذي عزة منا ولا متعرب ستمنعه
منا يد هاشمية * مركبها في الناس خير مركب (1) وقال عند ذلك نفر من بني عبد مناف،
وبني قصي، ورجال من قريش ولدتهم نساء بني هاشم: منهم مطعم بن عدي بن عامر بن لؤي،
وكان شيخا كبيرا كثير المال له أولاد، وأبو البختري (2) بن هشام وزهير بن أبي أمية
المخزومي (3)، في رجال من أشرافهم: نحن برآة مما في هذه الصحيفة، فقال أبو جهل:
هذا قد قضي بليل (4). قال علي بن إبراهيم: قدم أسعد بن زرارة (5) وذكوان بن عبد
قيس (6) في موسم من مواسم العرب، وهما من الخزرج، وكان بين الاوس والخزرج حرب، قد
بقوا فيها دهرا طويلا، وكانوا لا يضعون السلاح، لا بالليل ولا بالنهار، وكان آخر
حرب بينهم يوم بعاث، وكانت للاوس على الخزرج، فخرج أسعد بن زرارة، وذكوان إلى مكة،
في عمرة رجب، يسألون الحلف على الاوس، وكان أسعد بن زرارة صديقا لعتبة بن ربيعة
(7) فنزل عليه،
(1) إعلام الورى: 59 -
62 وعنه البحار ج 19 / 1 - 4 ح 2 وعن قصص الانبياء: 372 ح 409. (2) أبو البختري:
هو عاص بن هشام بن الحارث تقدم ذكره. (3) زهير بن أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله
بن عمر بن مخزوم وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب. (4) قصص الانبياء: 329 ح 410
وعنه البحار ج 19 / 4 ح 3 ورواه في إعلام الورى: 62. (5) أسعد بن زرارة، بن عدس الخزرجي
المدني أحد الشجعان الاشراف في الجاهلية والاسلام، وهو أحد النقباء الاثني عشر،
توفي قبل وقعة بدر سنة (1) ودفن بالبقيع. (6) ذكوان بن عبد قيس: بن خلدة بن مخلد،
أسلم بمكة مع أسعد فقدم المدينة - ثم خرج إلى مكة مع النبي صلى الله عليه وآله
وهاجر إلى المدينة فكان يقال له: مهاجري أنصاري شهد بدرا وقتل شهيدا في أحد سنة
(3) ه. (7) عتبة بن ربيعة: بن عبد الشمس أبو الوليد، أدرك الاسلام وطغى فشهد بدرا
مع المشركين، وكان ضخم الجثة، عظيم الهامة، طلب خوذة يلبسها يوم بدر فلم يجد ما
يسع هامته فاعتجر =
[
87 ]
فقال له: إنه كان
بيننا وبين قومنا حرب، وقد جئناك نطلب الحلف عليهم، فقال له عتبة، بعدت دارنا عن
داركم، ولنا شغل لا نتفرغ لشئ، قال: وما شغلكم وأنتم في حرمكم وأمنكم ؟ قال له
عتبة: خرج فينا رجل يدعي أنه رسول الله، سفه أحلامنا، وسب آلهتنا، وأفسد شبابنا،
وفرق جماعتنا، فقال له أسعد: من هو منكم ؟ قال: ابن عبد الله بن عبد المطلب، من
أوسطنا شرفا وأعظمنا بيتا. وكان أسعد وذكوان وجميع الاوس والخزرج، يسمعون من
اليهود، الذين كانوا بينهم، النضير (1) وقريضة (2) وقينقاع (3): أن هذا أوان نبي
يخرج بمكة، يكون مهاجره بالمدينة، لنقتلنكم به يا معشر العرب. فلما سمع ذلك أسعد،
وقع في قلبه ما كان سمعه من اليهود، قال: فأين هو ؟ قال: هو جالس في الحجر، وأنهم
لا يخرجون من شعبهم، إلا في الموسم. فلا تسمع منه، ولا تكلمه، فإنه ساحر، يسحرك
كلامه، وكان هذا في وقت محاصرة بني هاشم في الشعب، فقال له أسعد: فكيف أصنع وأنا
معتمر ؟ لا بد لي أن أطوف بالبيت، قال: ضع في أذنيك القطن فدخل أسعد المسجد وحشى
أذنيه بالقطن فطاف بالبيت ورسول الله صلى الله عليه وآله جالس في الحجر مع قوم من
بني هاشم: فنظر إليه نظرة فجازه، فلما كان في الشوط الثاني قال في نفسه: ما أحد
أجهل مني أيكون مثل هذا الحديث بمكة فلا أتعرفه حتى أرجع إلى قومي فأخبرهم ثم أخذ
القطن من أذنيه، ورمى به، وقال لرسول الله صلى الله عليه وآله: أنعم صباحا، فرفع
رسول الله
= على رأسه بثوب له،
فقتله أمير المؤمنين عليه السلام وحمزة وعبيدة بن الحارث سنة (2). (1) النضير:
قبيلة يهودية سكنت يثرب بالقرب من المدينة، نكثوا عهدهم مع النبي صلى الله عليه
وآله بعد أن حالفوه فحاصرهم في معقلهم، ثم نفاهم وصادر أملاكهم ووزعها على
المهاجرين. (2) قريظة (بضم القاف وفتح الراء) قبيلة يهودية من يثرب قاوموا النبي
صلى الله عليه وآله في هجرته إلى المدينة، فحاصرهم في معاقلهم، وأعمل فيهم السيف
إلا أربعة من رجالهم اعتنقوا الاسلام. (3) قينقاع (بفتح القاف وضم النون): من
قبائل اليهود الثلث في يثرب، حاصره النبي صلى الله عليه وآله فرموا سلاحهم ونزحوا
إلى وادي القرى ومنها إلى أذرعات.
[
88 ]
صلى الله عليه وآله
رأسه إليه وقال: أبدلنا الله به ما هو أحسن من هذا، تحية أهل الجنة، السلام عليكم.
فقال له أسعد: إن عهدك بهذا لقريب، إلى ما تدعو يا محمد ؟ قال: إلى شهادة أن لا
إله إلا الله، وأني رسول الله، وأدعوكم إلى (أن لا تشركوا به شيئا وبالوالدين
إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر
منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصيكم به لعلكم
تعقلون ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل
والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد
الله أوفوا ذلكم وصيكم به لعلكم تذكرون) (1). فلما سمع أسعد هذا، قال له: أشهد أن
لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، يا رسول الله بأبي أنت وأمي، أنا من أهل يثرب،
من الخزرج، وبيننا وبين إخواننا من الاوس حبال مقطوعة، فإن وصلها الله بك، فلا أجد
أعز منك، ومعي رجل من قومي، فإن دخل في هذا الامر رجوت أن يتمم الله لنا أمرنا
فيك، والله يا رسول الله لقد كنا نسمع من اليهود خبرك، وكانوا يبشروننا بمخرجك،
ويخبروننا بصفتك وأرجو أن تكون دارنا دار هجرتك عندنا، فقد أعلمنا اليهود ذلك
فالحمد لله الذي ساقني إليك، والله ما جئت إلا لنطلب الحلف على قومنا. وقد آتانا
الله بأفضل مما أتينا له. ثم أقبل ذكوان. فقال له أسعد: هذا رسول الله صلى الله
عليه وآله الذي كانت اليهود تبشرنا به وتخبرنا بصفته، فهلم فأسلم، فأسلم ذكوان. ثم
قالا: يا رسول الله، إبعث معنا رجلا يعلمنا القرآن، ويدعو الناس
(1) سورة الانعام: 151
- 152.
[
89 ]
إلى أمرك. فقال رسول
الله صلى الله عليه وآله لمصعب بن عمير (1) وكان فتى حدثا، مترفا بين أبويه،
يكرمانه، ويفضلانه على أولادهم، ولم يخرج من مكة، فلما أسلم، جفاه أبواه، وكان مع
رسول الله في الشعب حتى تغير وأصابه الجهد، فأمره رسول الله بالخروج مع أسعد، وقد
كان تعلم من القرآن كثيرا، فجاء إلى المدينة، ومعهما مصعب بن عمير، فقدموا على
قومهم، وأخبروهم بأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وخبره، فأجاب من كل بطن الرجل
والرجلان، وكان مصعب نازلا على أسعد بن زرارة، وكان يخرج في كل يوم، فيطوف على
مجالس الخزرج، يدعوهم إلى الاسلام، فيجيبه الاحداث. وكان عبد الله بن أبي (2)
شريفا في الخزرج، وقد كان الاوس والخزرج اجتمعت على أن يملكوه عليهم، لشرفه
وسخائه، وقد كانوا اتخذوا له إكليلا، احتاجوا في إتمامه إلى واسطة كانوا يطلبونها،
وذلك أنه لم يدخل مع قومه الخزرج في حرب بعاث (3)، ولم يعن على الاوس، وقال: هذا
ظلم منكم للاوس، ولا أعين على الظلم، فرضيت به الاوس والخزرج. فلما قدم أسعد، كره
عبد الله ما جاء به أسعد وذكوان، وفتر أمره، فقال
(1) مصعب بن عمير بن
هاشم بن عبد مناف القرشي من بني عبد الدار. صحابي شجاع، من السابقين إلى الاسلام،
أسلم في مكة المكرمة، وكتم إسلامه فعلم به أهله، فأوثقوه وحبسوه، فهرب مع من هاجر
إلى الحبشة، ثم رجع إلى مكة، وهاجر إلى المدينة، فكان أول من جمع الجمعة فيها،
وعرف فيها بالمقرئ، وأسلم على يده أسيد بن حضير، وسعد بن معاذ، وشهد بدرا، وحمل
اللواء يوم أحد فاستشهد سنة (3)، وكان في الجاهلية فتى مكة، شبابا وجمالا ونعمة،
ولما ظهر الاسلام زهد بالنعيم، وكان يلقب " مصعب الخير " - الاعلام ج 8
/ 150. (2) عبد الله بن أبي: من مالك بن الحارث الخزرجي المشهور بابن سلول، كان من
المنافقين في الاسلام، أظهر الاسلام بعد وقعة بدر خوفا، ولما تهيأ النبي صلى الله
عليه وآله لوقعة أحد انخزل أبي وكان معه (300) رجل فقاد بهم إلى المدينة، هلك في
سنة (9) بالمدينة وما صلى عليه النبي صلى الله عليه وآله. (3) بعاث (بضم الباء):
موضع قريب من المدينة اشتهر بالحرب الذي نشب بين الاوس والخزرج ببضع سنين، موطن
قبيلة بني قريظة.
[
90 ]
أسعد لمصعب: إن خالي
سعد بن معاذ (1) من رؤساء الاوس، وهو رجل عاقل شريف مطاع في بني عمرو بن عوف، فإن
دخل في هذا الامر ثم لنا أمرنا، فهلم نأتي محلتهم، فجاء مصعب مع أسعد إلى محلة سعد
بن معاذ، فقعد على بئر من آبارهم، واجتمع إليه قوم من أحداثهم، وهو يقرأ عليهم
القرآن. فبلغ ذلك سعد بن معاذ، فقال لاسيد بن حضير (2) - وكان من أشرافهم -: بلغني
أن أبا أمامة أسعد بن زرارة قد جاء إلى محلتنا مع هذا القرشي، يفسد شباننا، فأته وانهه
عن ذلك. فجاء أسيد بن حضير، فنظر إليه أسعد، فقال لمصعب: إن هذا رجل شريف، فإن دخل
في هذا الامر رجوت أن يتم أمرنا، فاصدق الله فيه. فلما قرب أسيد منهم قال: يا أبا
أمامة يقول لك خالك: لا تأتنا في نادينا، ولا تفسد شبابنا، واحذر الاوس على نفسك،
فقال مصعب: أو تجلس، فنعرض عليك أمرا، فإن أحببته دخلت فيه، وإن كرهته نحينا عنك
ما تكره ؟ فجلس فقرأ عليه سورة من القرآن، فقال: كيف تصنعون إذا دخلتم في هذا
الامر ؟ قال: نغتسل، ونلبس ثوبين طاهرين، ونشهد الشهادتين، ونصلي ركعتين، فرمى
بنفسه مع ثيابه في البئر، ثم خرج، وعصر ثوبه. ثم قال: اعرض علي فعرض عليه شهادة أن
لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، فقالها، ثم صلى ركعتين، ثم قال لاسعد: يا
أبا أمامة، أنا أبعث إليك الآن خالك، واحتال عليه في أن يجيبك، فرجع أسيد إلى سعد
بن معاذ، فلما نظر إليه سعد قال: أقسم أن أسيدا قد رجع إلينا بغير الوجه الذي ذهب
من عندنا.
(1) سعد بن معاذ: بن
النعمان بن امرئ القيس الانصاري، رمي بسهم يوم الخندق فمات من أثر جرحه سنة (5)
ودفن بالبقيع وعمره (37) سنة. (2) أسيد بن الحضير: بن سماك الاوسي، كان شريفا في
الجاهلية والاسلام شهد أحدا فجرح سبع جراحات، وثبت مع النبي صلى الله عليه وآله
حين انكشف الناس عنه، وشهد الخندق والمشاهد كلها، توفي بالمدينة (20).
[
91 ]
وأتاهم سعد بن معاذ،
فقرأ عليه مصعب (حم تنزيل من الرحمن الرحيم) (1) فلما سمعها، قال مصعب: والله لقد
رأينا الاسلام في وجهه قبل أن يتكلم فبعث إلى منزله، وأتى بثوبين طاهرين، واغتسل،
وشهد الشهادتين، وصلى ركعتين. ثم قام، وأخذ بيد مصعب، وحوله إليه، وقال: أظهر
أمرك، ولا تهابن أحدا، ثم جاء، فوقف في بني عمرو بن عوف، وصاح: يا بني عمرو بن
عوف، لا يبقين رجل، ولا امرأة، ولا بكر، ولا ذات بعل، ولا شيخ، ولا صبي، إلا أن يخرج،
فليس هذا يوم ستر، ولا حجاب، فلما اجتمعوا قال: كيف حالي عندكم ؟ قالوا: أنت
سيدنا، والمطاع فينا، لا نرد لك أمرا، فمرنا بما شئت، فقال: كلام رجالكم ونسائكم
وصبيانكم علي حرام، حتى تشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، فالحمد
لله الذي أكرمنا بذلك، وهو الذي كانت اليهود تخبرنا به، فما بقي دار من دور بني
عمرو بن عوف في ذلك اليوم إلا وفيها مسلم أو مسلمة. وحول مصعب بن عمير إليه، وقال
له: أظهر أمرك، وادع الناس علانية، وشاع الاسلام بالمدينة، وكثر، ودخل فيه من
البطنين أشرافهم، وذلك لما كان عندهم من أخبار اليهود. وبلغ رسول الله صلى الله
عليه وآله أن الاوس والخزرج قد دخلوا في الاسلام، وكتب إليه مصعب بذلك. وكان كل من
دخل في الاسلام من قريش ضربه قومه وعذبوه، فكان رسول الله يأمرهم أن يخرجوا إلى
المدينة، فكانوا يتسللون رجلا فرجلا، فيصيرون إلى المدينة، فينزلهم الاوس والخزرج
عليهم، ويواسونهم. قال: فلما قدمت الاوس والخزرج مكة، جاءهم رسول الله صلى الله
عليه وآله، فقال لهم: تمنعون لي جانبي، حتى أتلو عليكم كتاب ربكم، وثوابكم على
الله الجنة ؟ قالوا: نعم يا رسول الله، فخذ لنفسك ولربك ما
(1) سورة فصلت: 1 - 2
[
92 ]
شئت، فقال: موعدكم
العقبة، في الليلة الوسطى من ليالي التشريق. فلما حجوا رجعوا إلى منى، وكان فيهم
ممن قد أسلم بشر كثير، وكان أكثرهم مشركين على دينهم، وعبد الله بن أبي فيهم، فقال
لهم رسول الله صلى الله عليه وآله في اليوم الثاني من أيام التشريق (1): فاحضروا دار
عبد المطلب على العقبة، ولا تنبهوا نائما، وليتسلل (2) واحد فواحد. وكان رسول الله
صلى الله عليه وآله نازلا في دار عبد المطلب، وحمزة وعلي والعباس معه، فجاءه سبعون
رجلا من الاوس والخزرج، فدخلوا الدار، فلما اجتمعوا قال لهم رسول الله صلى الله
عليه وآله: تمنعون لي جانبي، حتى أتلو عليكم كتاب ربي، وثوابكم على الله الجنة ؟
فقال أسعد بن زرارة، والبراء بن معرور (3)، وعبد الله بن حرام (4): نعم يا رسول
الله فاشترط لنفسك ولربك، فقال رسول الله: تمنعوني مما تمنعون أنفسكم، وتمنعون
أهلي مما تمنعون أهليكم وأولادكم ؟ قالوا: فما لنا على ذلك ؟ قال: الجنة، تملكون
بها العرب في الدنيا، وتدين لكم العجم، وتكونون ملوكا، فقالوا: قد رضينا. فقام
العباس بن نضلة (5) وكان من الاوس فقال: يا معشر الاوس
(1) أيام التشريق:
أيام منى وهي الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر بعد يوم النحر. واختلف في وجه
التسمية فقيل: سميت بذلك من تشريق اللحم وهو تقديده وبسطه في الشمس ليجف. وقيل:
سميت بذلك لان الهدي والضحايا لا تنحر حتى تشرق الشمس - أي تطلع -. (2) التسلل:
الانطلاق والخروج في استخفاء، ومنه قوله تعالى: (يتسللوا منكم لواذا) أي يخرجون من
الجماعة واحدا واحدا. (3) البراء بن معرور: بن صخر الخزرجي كان أحد النقباء الاثني
عشر من الانصار، وكان أول من مات منهم، توفي قبل الهجرة بشهر واحد. (4) عبد الله
بن حرام: عبد الله بن عمرو بن حرام بن ثعلبة، أبو جابر الانصاري الخزرجي السلمي:
صحابي، من أجلائهم، كان أحد النقباء الاثني عشر، وشهد العقبة مع السبعين من
الانصار، وبدرا، واستشهد يوم أحد سنة (3). (5) العباس بن عبادة بن نضلة بن مالك
الانصاري الاوسي قتل يوم أحد شهيدا سنة (3).
[
93 ]
والخزرج، تعلمون ما
تقدمون عليه ؟ إنما تقدمون على حرب الاحمر والابيض، وعلى حرب ملوك الدنيا، فإن
علمتم أنه إذا أصابتكم المصيبة في أنفسكم خذلتموه وتركتموه، فلا تغروه، فإن رسول
الله صلى الله عليه وآله وإن كان قومه خالفوه، فهو في عزه ومنعة. فقال عبد الله بن
حرام، وأسعد بن زرارة، وأبو الهيثم بن التيهان (1): مالك وللكلام ؟ يا رسول الله
صلى الله عليه وآله، بل دمنا بدمك، وأنفسنا بنفسك، فاشترط لربك ولنفسك ما شئت.
فقال رسول الله: اخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيبا، يكفلون عليكم بذلك، كما أخذ موسى
من بني إسرائيل اثني عشر نقيبا، فقالوا: اختر من شئت، فأشار جبرئيل عليه السلام
إليهم، فقال: هذا نقيب، وهذا نقيب، حتى اختار تسعة من الخزرج، وهم: أسعد بن زرارة،
والبراء بن معرور، وعبد الله بن حزام أبو جابر بن عبد الله، ورافع بن مالك (2)،
وسعد بن عبادة (3)، والمنذر بن عمرو (4)، وعبد الله بن رواحة (5)، وسعد بن الربيع
(6)، وعبادة بن الصامت (7)، وثلاثة من الاوس، وهم: أبو الهيثم بن التهيان،
(1) أبو الهيثم بن
التيهان: مالك بن التيهان بن مالك، شهد بيعة العقبة الاولى والثانية، قيل: إنه أول
من بايع النبي صلى الله عليه وآله ليلة العقبة، شهد بدرا والمشاهد كلها، توفي سنة
(20) أو (21). (2) رافع بن مالك: بن العجلان بن عمرو الخزرجي نقيب بدري شهد
العقبتين. (3) سعد بن عبادة بن دليم (بالتصغير) بن حارثة الخزرجي أحد الاجواد مات
بأرض الشام سنة (15) أو (11). (4) المنذر بن عمرو: بن خنيس الخزرجي. شهد بدرا
وأحدا واستشهد يوم بئر معونة أميرا لرسول الله صلى الله عليه وآله. (5) عبد الله
بن رواحة: بن ثعلبة الخزرجي شهد بدرا وأحدا واستشهد في مؤتة سنة (7). (6) سعد بن
الربيع: بن عمرو الخزرجي شهد بدرا واستشهد في أحد سنة (3). (7) عبادة بن الصامت:
بن قيس بن أصرم، شهد العقبات الثلاث وشهد بدرا والمشاهد كلها، ووجهه عمر إلى الشام
قاضيا ومعلما فأقام بحمص، ثم انتقل إلى فلسطين، ومات بها سنة (34). (*)
[
94 ]
وكان رجلا من أهل
اليمن حليفا في بني عمرو بن عوف، وأسيد بن حضير، وسعد بن خيثمة (1). فلما اجتمعوا،
وبايعوا رسول الله، صاح بهم إبليس: يا معشر قريش والعرب، هذا محمد والصباة من
الاوس والخزرج، على جمرة العقبة، يبايعونه على حربكم، فأسمع أهل منى، فهاجت قريش،
وأقبلوا بالسلاح، وسمع رسول الله صلى الله عليه وآله النداء فقال لهم النبي تفرقوا
- فقالوا: يا رسول الله إن أمرتنا أن نميل عليهم بأسيافنا فعلنا، فقال رسول الله
صلى الله عليه وآله لم أومر بذلك ولم يأذن الله لي في محاربتهم - فقالوا: يا رسول
الله فتخرج معنا ؟ قال: أنتظر أمر الله. فجاءت قريش على بكرة أبيها، قد أخذوا
السلاح، وخرج حمزة، ومعه السيف، فوقف على العقبة، هو وعلي بن أبي طالب عليه
السلام، فلما نظروا إلى حمزة قالوا: ما هذا الذي اجتمعتم عليه ؟ قال: ما اجتمعنا،
وما ههنا أحد، والله لا يجوز أحد هذه العقبة إلا ضربته بسيفي، فرجعوا، وغدوا إلى
عبد الله بن أبي. وقالوا له: قد بلغنا أن قومك بايعوا محمدا على حربنا، فحلف لهم
عبد الله إنهم لم يفعلوا، ولا علم له بذلك، وإنهم لم يطلعوه على أمرهم، فصدقوه،
وتفرقت الانصار، ورجع رسول الله صلى الله عليه وآله إلى مكة (2).
(1) سعد بن خيثمة: بن
الحارث الاوسي شهد بدرا واستشهد فيه سنة (2). (2) اعلام الورى: 66 - 71 وعنه
البحار ج 19 / 8 - 14.
|
|
|