|
الصفحة
( 226 )
مع صفية , صرخت وصكّت وجهها وحثت التّراب على رأسها , فقال رسول الله لبلال : (( أنزعت منك الرّحمة ؟ جئت بهما على قتلاهما
! )) .
ما هان على رسول الله أنْ يمرّ بلال بامرأتين يهوديتين على قتلاهما , وأهل الكوفة مرّوا ببنات
رسول الله يوم كربلاء على مصارع الشّهداء ! فلمّا نظر النّسوة إلى الحسين
(عليه السّلام) وأصحابه مطروحين على الرّمضاء , صحن وضربن وجوههنّ .
قال الرّاوي : فوالله , لا
أنسى زينب بنت علي وهي تندب الحسين (عليه السّلام) وتنادي بصوت حزين وقلب كئيب : يا
محمّداه ! صلّى عليك مليك السّما , هذا حُسينك مرمّل بالدّما ، مقطّع الأعضا
. ومحمّداه ! بناتك سبايا ، وذرّيّتك مُقتّلة تسفي عليهم ريح الصّبا , وهذا حسين
محزوز الرّأس من القفا ، مسلوب العمامة والرّدا . بأبي مَن لا هو غائب فيُرتجى
ولا جريح فيداوى , بأبي المهموم حتّى قضى , بأبي العطشان حتّى مضى , بأبي من
شيبته تقطر بالدّما .
فأبكت والله ،
كلّ عدوٍّ وصديق .
إنْ تنعَ أعطت كلَّ قلبٍ iiحسرةً أو تـدعُ صدّعت الجبال iiالميّدا
عبراتُها تُحيي الثّرى لو لم iiتكنْ زفـراتُها تدَعُ الرّياض iiهمودا
نادتْ فقطّعت القلوب iiبشجوها لـكنّما انـتظم الـبيانُ iiفريدا
إنسانُ عيني يا حسينُ أخي iiأيا أمـلي وعقد جماني iiالمنضودا
مالي دعوتُ فلا تجيب ولم تكنْ عـوّدتني من قبل ذاك iiصدودا
المجلس الثّالث والعشرون بعد المئة
كان رسول الله أرسل رسولاً إلى ملك بصرى من بلاد الشّام
, فلمّا نزل مؤتة من أرض البلقاء , قتله شرحبيل بن عمرو الغسّاني , ولم
يقتل لرسول الله
الصفحة
( 227 )
رسول غيره . فلمّا بلغه ذلك , عظم عليه وأرسل جيشاً إلى مؤتة
، وكانوا ثلاثة
آلاف , وأمر عليهم جعفر بن أبي طالب ، فإنْ قُتل فزيد بن حارثة ، فإنْ قُتل فعبد
الله بن رواحة . وقيل : بل أمر عليهم أولاً زيد بن حارثة .
فساروا حتّى نزلوا
معان , فبلغهم أنّ هرقل ملك الرّوم سار إليهم في مئة ألف من الرّوم والعرب
.
وقيل : في مئة ألف من الرّوم ومثلها من العرب . فقالوا : نكتب إلى رسول الله
؛
فإمّا أنْ يردّنا أو يزيدنا . فشجّعهم أميرهم , وقال : ما نقاتل النّاس بعدد ولا
قوّة ، ما نقاتلهم إلاّ بهذا الدّين الذي أكرمنا الله به , وما هي إلاّ
إحدى
الحسنيين ؛ إمّا النّصر أو الشّهادة .
فساروا والتقوا بجموع الرّوم والعرب
بقرية من البلقاء تُسمّى مشارف , وانحاز المسلمون إلى قرية تُسمّى مؤتة
, فاقتتلوا قتالاً شديداً ، فأخذ الرّاية جعفر بن أبي طالب فقاتل
،
وهو يقول :
يا حبـذا الجنّةُ واقترابُها
طيبةٌ وباردٌ شرابُها
والرّومُ رومٌ قد دنا عذابُها
كافرةٌ بعيدة أنسابُها
عليَّ إذ لاقيتُها ضرابُها
فلمّا أشتدّ القتال , نزل عن فرس له شقراء فعقرها ـ وكان أول من عقر فرسه في
الإسلام ـ ثُمّ قاتل حتّى قُتل ، فوجدوا به بضعاً وثمانين ما بين رمية وضربة
وطعنة , وهي جراحات كثيرة تدلّ على شجاعة عظيمة وثبات شديد , ولكنّها لا
تبلغ جراحات ابن أخيه الحسين (عليه السّلام) يوم كربلاء , فقد وجُد في قميصه مئة وبضع
عشرة ما بين رمية وطعنة وضربة . وقيل : وجد في ثيابه مئة وعشرون رمية
بسهم , وفي جسده الشّريف ثلاث وثلاثون طعنة برمح وأربع وثلاثون ضربة بسيف
.
وقال الباقر (عليه السّلام) : (( وجُد بالحسين ثلاثمئة وبضعة وعشرون جراحة
)) . وفي
رواية , ثلاثمئة وستون جراحة .
ومجـرّحٍ ما غيـرّت منـه القـنا
حَسناً ولا اخلقن منه جديدا
قد كان بدراً فاغتدى شمس الضّحى
مذ ألبسته قـدَ الدّماء لبودا
الصفحة
( 228 )
ثُمّ أخذ الرّاية زيد بن حارثة , فقاتل حتّى شاط في رماح القوم , فأخذ الرّاية
عبد الله بن رواحة فتردد بعض التردد , ثُمّ قال يُخاطب نفسه :
أقـسمتُ يـا نـفسُ لتنزلنّهْ طـائـعةً أو لا لـتُـكرهنّهْ
إنْ أجلب النّاس وشدّوا الرّنهْ مـالي أركِ تـكرهين iiالجنّهْ
قـد طـالما قد كنت مطمئنهْ هـل أنت إلاّ نطفةٌ في iiشنّهْ
وقال أيضاً :
يا نفسُ إنْ لم تُقتلي تموتي
هذا حمامُ الموت قد صُليتِ
وما تمنيـتِ فقد اُعطيتِ إنْ تفعلي فعلهمـا هُديـتِ
وإنْ تأخّرت فقد شُقيتِ
ثُمّ نزل عن فرسه ، وأتاه ابن عم له بعرق لحم فأكل منه ,
ثُم سمع الحطمة في
ناحية العسكر , فقال لنفسه : وانت في الدّنيا ! ثُمّ ألقاه وأخذ سيفه , فقاتل حتّى
قُتل . ثُمّ أخذ الرّاية خالد بن الوليد ورجع بالنّاس .
قالت أسماء بنت عميس
، زوجة جعفر : أتاني رسول الله في اليوم الذي اُصيب فيه جعفر , وقد فرغت
على أشغالي وغسلت أولاد جعفر ودهنتهم , فضمّهم وشمّهم وجعل يمسح على رؤوسهم
, وذرفت عيناه بالدّموع فبكى , فقلت : يا رسول الله ، بلغك عن جعفر شيء
؟ قال : (( نعم , قُتل اليوم )) . فصحت
، واجتمع إليّ النّساء ، فقال
: (( ألا اُبشّرك ؟ )) . قُلت : بلى بأبي أنت
واُمّي ! قال : (( إنّ الله جعل لجعفر
جناحين يطير بهما في الجنّة )) .
وخرج رسول الله
(صلّى الله عليه وآله) حتّى دخل على فاطمة (عليها السّلام) وهي تقول :
(( واعمّاه ! )) . فقال
: (( على مثل جعفر فلتبكي الباكية ))
.
ثُمّ قال : (( اصنعوا لآل جعفر طعاماً فقد شغلوا
عن أنفسهم اليوم )) .
بأبي أنت واُمّي يا رسول الله ! أخذتك الرّقة والشّفقة
على يتامى ابن عمّك جعفر وبكيت لقتله , وحقّ لك ذلك ؛ لما لجعفر من
الفضل العظيم والمكانة عند الله تعالى , فياليتك لا غبت عن يتامى ولدك
الحسين (عليه السّلام) شهيد كربلاء حين باتوا جياعى عطاشى ليلة الحادي عشر من
الصفحة
( 229 )
المحرم بعد قتل ولدك الحسين (عليه السّلام) , فكنت تمسح على رؤوسهم
، وتأمر لهم بالطّعام
, وتُسلّي بناتك ونساء ولدك الحسين (عليه السّلام) كما سلّيت زوجة ابن عمّك جعفر .
فليت الذي أحنى على ولد جعفرٍ
برقّةِ أحشـاءٍ ودمـعٍ مدفّـقِ
يرى بين أَيدي القوم أبناءَ سبطهِ
سبايا تُهادى من شقي إلى شقي
المجلس الرّابع والعشرون بعد المئة
لمّا أراد النّبي فتح مكّة ، سأل الله جلّ اسمه أنْ يعمي
أخباره على قريش
فيدخلها بغتة ، وبنى أمره على السرِّ . فكتب حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكّة
يخبرهم بعزم رسول الله على فتحها , وأعطى الكتاب امرأة سوداء كانت
وردت المدينة تستميح بها النّاس وتستبرّهم , وجعل لها جعلاً على أنْ توصله
إلى قوم سمّاهم لها من أهل مكّة , وأمرها أنْ تأخذ على غير الطّريق , فنزل
الوحي على رسول الله بذلك , فاستدعى أمير المؤمنين (عليه السّلام) وقال له :
(( إنّ بعض أصحابي قد كتب إلى أهل مكّة يخبرهم بخبرنا , وقد كنت سألت
الله عزّ وجل أنْ يعمي أخبارنا عليهم , والكتاب مع امرأة سوداء قد أخذت
على غير الطّريق , فخذ سيفك والحقها وانتزع الكتاب منها وخلّها وسر به
إليّ )) . ثُمّ استدعى
الزّبير بن العوّام فقال له : (( امض مع علي بن
أبي طالب في هذا الوجه )) .
فمضيا وأخذا على غير الطّريق ، فأدركا المرأة فسبق
إليها الزّبير فسألها عن الكتاب الذي معها , فأنكرته وحلفت أنّه لا شيء
معها وبكت , فقال الزّبير : ما أرى يا أبا الحسن معها كتاباً ،
فارجع بنا إلى رسول الله لنخبره ببراءة ساحتها . فقال له
أمير المؤمنين (عليه السّلام) : (( يخبرنا رسول الله أنّ معها
كتاباً ويأمرني بأخذه منها , وتقول أنت أنّه لا كتاب معها ! ))
. ثُمّ اخترط السّيف
وتقدم
الصفحة
( 230 )
إليها , فقال : (( أما والله , لئن لم تخرجي الكتاب
, لأكشفنك ثُمّ لأضربنّ عنقك )) .
فقالت له : إذا كان لا بدّ من ذلك , فاعرض يابن أبي طالب بوجهك عنّي . فأعرض
بوجهه عنها , فكشفت قناعها وأخرجت الكتاب من عقيصتها , فأخذه أمير
المؤمنين (عليه السّلام) وسار به إلى النّبي ، فأمر أنْ يُنادى بالصّلاة جامعة , فنودي في النّاس
, فاجتمعوا إلى المسجد حتّى صلّى بهم ، ثُمّ صعد النّبي المنبر وأخذ الكتاب
بيده , وقال : (( أيّها النّاس , إنّي كنت سألت الله
عزّ وجل أنْ يخفي أخبارنا عن قريش
, وأنّ رجلاً منكم كتب إلى أهل مكّة يخبرهم بخبرنا , فليقم صاحب الكتاب , وإلاّ
فضحه الوحي )) . فلم يقم أحد ، فأعاد رسول الله مقالته ثانية
, وقال : (( ليقم
صاحب الكتاب , وإلاّ فضحه الوحي )) . فقام حاطب بن أبي بلتعة ، وهو يرعد كالعصفة
في يوم الرّيح العاصف , فقال : أنا يا رسول الله صاحب الكتاب , وما أحدثت
نفاقاً بعد إسلامي ولا شكّاً بعد يقيني . فقال له النّبي :
(( فما الذي حملك على أنْ كتبت هذا الكتاب ؟ )) . قال : يا رسول الله , إنّ لي أهلاً بمكّة وليس لي بها
عشيرة ؛ فأشفقت أنْ تكون الدّائرة لهم علينا فيكون كتابي هذا كفّاً لهم عن
أهلي ويداً لي عندهم , ولم أفعل ذلك لشكّ منّي في الدّين .
فقال عمر : يا رسول الله , مرني بقتله فإنّه منافق .
فقال رسول الله
: (( إنّه من أهل بدر ، ولعل
الله أطّلع عليهم فغفر لهم .
اخرجوه من المسجد )) .
قال : فجعل النّاس يدفعون في
ظهره حتّى أخرجوه , وهو يلتفت إلى النّبي ليرقّ عليه , فأمر رسول الله بردّه , وقال له : (( لقد عفوت عنك فاستغفر ربّك
ولا تعد لمثل ما جنيت )) .
وهذه
كانت سجية رسول الله في العفو عن المذنبين , فطالما عفا عن مذنب
استحق القتل كما عفا عن أهل مكّة حين فتحها مع أنّهم كذّبوه وطردوه
وحاربوه , فقال : (( اذهبوا فأنتم الطُلقاء ))
. وعفا عن ألدّ أعدائه
أبي سُفيان ـ الذي
طالما بغى الإسلام الغوائل ـ حينما تشفّع به العبّاس عمّ النّبي , وجعل له
ميزة بها إجابة لطلب العبّاس رضي الله عنه , فقال
: (( مَن دخل دار أبي سفيان
فهو آمن )) . ولكن ذرّيّة أبي سفيان لم تُراعِ حُرمة رسول الله في آله
وذرّيّته , ولم تجازه بالجميل على فعله .
أمّا ابن أبي سفيان ، فقد نازع
مولانا أمير
الصفحة
( 231 )
المؤمنين حقّه , وبغى عليه وحاربه وأغار على أعماله وسبّه على منابر
الإسلام , ولم يدع من حرمة لله إلاّ انتهكها , ودسّ السمّ إلى ولده الحسن
(عليه السّلام) ـ سبط
رسول الله ـ فقتله بعد أنْ بغى عليه , وحاربه ونقض عهده ولم يفِ له
بالشّروط التّي صالحه عليها ؛ وأمّا ولده يزيد ، فقد غصب الحسين (عليه
السّلام) ـ سبط رسول
الله ـ حقّه , وسيّر إليه الرّجال ليقتله في الحرم حتّى خرج من مكّة خائفاً
يترقّب , فجيّش له ابن زياد بأمره الجيوش حتّى قتله بأرض كربلاء غريباً
وحيداً ظامياً , وساق نساءه وأهل بيته سبايا من كربلاء إلى الكوفة , ومن
الكوفة إلى الشّام .
أبهذا يُجازى رسول الله على عفوه عن أبي سفيان
وقوله : (( مَن دخل دار أبي سفيان فهو آمن )) ؟!
ليـس هذا لرسـولِ الله يـا
اُمّة الطّغيان والبغي جزا
جُزّروا جزرَ الأضاحي نسلُهُ
ثُمّ ساقوا أهله سوق الإما
المجلس الخامس والعشرون بعد المئة
كان رسول الله قد هادن قريشاً في عام الحديبية عشر سنين
، ودخلت
خزاعة معه , وكان بين خزاعة وعبد المطّلب حلف قبل الإسلام , وجعلت قريش بني
بكر داخلة معها , وكانت بين خزاعة وبني بكر أحقاد في الجاهلية , فعَدت بنو
بكر على خزاعة بموضع يُقال له الوتير وقتلوا منهم , وعاونتهم قريش سرّاً
بالمال والرّجال , فجاءت خزاعة تستصرخ النّبي ، وأنشد قائلهم :
لاهُـم إنـّي ناشدٌ محمّدا حلفَ أبينا وأبيك الأتلدا
إنّ قريشاً أخلفوك الموعدا ونقضوا ميثاقك المؤكّدا
الصفحة
( 232 )
هم بيّتونا بالوتير هُجّدا نتلوا القرآنَ رُكّعاً وسُجّدا
فقام مُغضباً يجرّ رداءه , وقال :
(( لا نُصرتُ إنْ لم أنصر خُزاعة مما أنصر منه
نفسي )) .
وندمت قريش على ما صنعت , فأرسلت أبا سفيان ليجدد الحلف مع النّبي , فقال رسول الله
: (( هل حدث عندكم شيء
؟ )) . قال : لا . قال : (( فإنّا على
صلحنا لا نُغيّر ولا نُبدّل )) .
فدخل أبو سفيان على ابنته اُمّ حبيبة زوجة النّبي , فلمّا
أراد الجلوس على فراش رسول الله , طوته . فقال : أرغبت بي عنه , أم رغبت به
عنّي ؟ فقالت : هو فراش رسول الله وأنت مُشرك نجس . فقال : لقد أصابك بعدي شرّ
.
فقالت : بل هداني الله للإسلام .
ورجع أبو سفيان وتجهّز رسول الله لفتح
مكّة في عشرة آلاف , وخرج بالجيش فلقيه عمّه العبّاس مهاجراً فأرجعه معه
, فلمّا كانوا قريباً من مكّة , أمرهم أنْ يوقد كُلّ واحد منهم ناراً , فأوقدوا عشرة
آلاف نار , وقال العبّاس : لئن بغت رسول الله قريشاً إنّه لهلاكها . فركب
بغلة رسول الله وخرج لعلّه يرى أحداً يُرسل معه خبر إلى مكّة , وكان
أبو
سفيان قد خرج يتجسس الأخبار , فرآه العبّاس وأخبره , وقال : اذهب معي لآخذ لك
أماناً , فوالله , إنْ ظفر بك رسول الله ليضربنّ عُنقك . فأردفه خلفه حتّى
أدخله
على رسول الله , فقال له : (( أما آن لك أنْ
تعلم أنْ لا إله إلا الله ؟ )) . فقال :
بأبي أنت واُمّي ! لو كان مع الله غيره لقد أغنى شيئاً . فقال :
(( ألم يأن لك أنْ تعلم أنّي رسول الله ؟ )) . فقال : أمّا هذه ففي النّفس منها شيء
. فقال له العبّاس :
ويحك ، إشهد شهادة الحقّ قبل أنْ تُقتل . فتشهّد , فقال النّبي للعباس
: (( اذهب فاحبس أبا سفيان بمضيق الوادي حتّى
تمرّ عليه جنود الله )) . فقال
: يا
رسول الله ، إنّه يحب الفخر فاجعل له شيئاً . فقال :
(( مَن دخل دار أبي سفيان فهو آمن , ومَن أغلق بابه فهو آمن )) .
فمرّت عليه القبائل , فيقول للعباس
: مَن هؤلاء ؟
فيقول : بنو فلان . حتّى مرّ رسول الله في كتيبته الخضراء من المهاجرين
والأنصار , فقال : مَن هؤلاء ؟ فقال العبّاس : هذا رسول الله في المهاجرين
والأنصار . فقال : لقد أصبح مُلك ابن أخيك عظيماً ! فقال العبّاس : ويحك إنّها
النّبوة .
الصفحة
( 233 )
فقال : نعم . وأمر رسول الله سعد بن عبادة أنْ يدخل مكّة بالرّاية
، فدخل وهو يقول :
اليومُ يومُ الملحمهْ اليومُ تُسبى الحُرَمهْ
فسمعه العبّاس فأخبر النّبي فأمر عليّاً أنْ يلحقه ويأخذ
الرّاية منه , فأخذها علي (عليه السّلام) ودخل بها .
سمعتم أنّ رسول الله أكرم أبا سفيان مع
عداوته له ومحاربته إيّاه بكرامة لم يجعلها لغيره , فقال
: (( مَن دخل دار أبي
سفيان فهو آمن )) . فلم تحفظ ذرّيّة أبي سفيان كرامة رسول الله
في ذرّيّته . ولم يأمن الحسين (عليه السّلام) ـ ابن بنت رسول الله ـ
على نفسه حين خرج من المدينة إلى مكّة هارباً من طواغيت بني اُميّة ,
فدسّ إليه يزيد بن معاوية ثلاثين رجلاً من شياطين بني اُميّة , وأمرهم
بقتل الحسين (عليه السّلام) على أيّ حال ات ّفق
, فاضطرّ الحسين
(عليه السّلام) أنْ يخرج من مكّة لمّا علم بذلك , وكان قد أحرم بالحجّ
, فطاف وسعى وقصّر ،
وأحلّ من إحرام الحجّ وجعلها عمرة مفردة ؛ لأنّه لم
يتمكّن من إتمام الحجِّ ؛ مخافة أنْ يُقبض
عليه . وخرج من مكّة يوم التّروية لثمان مضين من ذي الحجّة , فكان
النّاس يخرجون إلى منى والحسين (عليه السّلام) خارج إلى العراق .
حكى ابن صباغ المالكي في الفصول المُهمّة عن بعض
الثُقات , قال : رأيت علي بن أبي طالب (عليه السّلام) في المنام , فقلت
: يا أمير المؤمنين ، تقولون يوم فتح مكّة من دخل دار أبي سفيان فهو
آمن , ثُمّ يتمّ لولدك الحسين (عليه السّلام) يوم كربلاء منهم ما تمّ
! فقال
لي : (( أما سمعت أبيات ابن الصّيفي التّميمي في
هذا المعنى ؟ )) . فقلت : لا . فقال :
(( اذهب إليه واسمعها )) . فاستيقظت من نومي مُفكّراً ، ثُمّ إنّي ذهبت إلى دار
ابن الصّيفي ـ
وهو الحيص بيص المُلقّب بشهاب الدّين ـ فطرقت عليه الباب , فخرج إليّ فقصصت
عليه الرّؤيا , فأنشد :
ملكنا فكان العفـو منّا سجيةً
فلمـّا ملكتُـم سال بـالدّم أبطـحُ
وحللتُم قتل الأسارى وطالما
غدونا عن الأسرى نعفُّ ونصفحُ
الصفحة
( 234 )
وحسبكمُ هذا التفاوتُ بيننا وكل إناءٍ بالذي فيه ينضحُ
ولم يزالوا بالحسين (عليه السّلام) بعد ما أخافوه وأخرجوه من حرم الله وحرم جده
رسول الله حتّى قتلوه غريباً شهيداً عطشان ظامياً , وقتلوا أولاده
وأهل بيته وأنصاره , وسبوا نساءه وأطفاله , وداروا برأسه في البلدان .
وقد انجلى عن مكّة
وهو ابنها وبـه تشرّفت الحطيمُ iiوزمزمُ
لـم يدرِ أين يُريح بُدنَ iiركابهِ فـكأنّما الـمأوى عليه iiمحرّمُ
فمشت تؤمُّ به العراق نجائبٌ مـثل النّعام به تخبُّ iiوترسمُ
المجلس السّادس والعشرون بعد المئة
لمّا كانت غزاة حنين ، وذلك بعد فتح مكّة , خرج رسول الله في عشرة آلاف ,
وقيل في أثني عشر ألفاً ؛ ألفان ممّن أسلم يوم الفتح , وعشرة آلاف من أصحابه
.
فقال بعض أصحابه من المهاجرين : لن نغلب اليوم من قلّة .
فلمّا أتوا
إلى وادي
حنين , وكان ذلك قبل الفجر , وكان المشركون قد سبقوهم إلى الوادي وكمنوا
فيه , حمل عليهم المشركون وانهزم المسلمون بأجمعهم , ولم يثبت مع النّبي غير عشرة أنفس ؛ تسعة من بني هاشم والعاشر أيمن بن اُمّ أيمن , فقُتل أيمن
وثبتت التّسعة ؛ منهم العبّاس بن عبد المطّلب عن يمين رسول الله ,
وابنه الفضل عن يساره , وأبو سفيان بن الحارث ممسك بسرجه عند نفور
بغلته , وأمير المؤمنين (عليه السّلام) بين يديه يضرب بالسّيف , والباقون حوله , وذلك قوله تعالى :
(
وَيَوْمَ
حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ
شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمّ وَلّيْتُم
مُدْبِرِينَ * ثُمّ أَنْزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ
وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ
)(1) : يعني عليّاً (عليه السّلام) ومَن ثبت معه من بني هاشم
.
ـــــــــــــــــــــ
(1)
سورة التوبة / 25 ـ 26
الصفحة ( 235 )
وأمر النّبي عمّه العبّاس ـ وكان صيتاً جهورياً ـ أنْ
يُنادي النّاس ويذكّرهم العهد , ففعل فلم يرجعوا , ثُمّ نادى : أين ما
عاهدتم الله عليه ؟ فرجعوا أولاً فأولا , وأقبل رجل من هوازن يُسمّى
أبا جرول على جمل له , بيده راية في رأس رمح طويل أمام النّاس , إذا
أدرك أحداً طعنه , وإذا فاته النّاس رفع رايته لمن وراءه من المشركين
فاتبعوه , فصمد له أمير المؤمنين (عليه السّلام) فضرب عجز
بعيره فصرعه ثُمّ ضربه فقتله , فكانت هزيمة المشركين بقتل أبي جرول .
ولمّا
رأى النّبي شدّة القتال , قام في ركابي سرجه حتّى أشرف على جماعة النّاس
, ثُمّ قال : (( الآن حمي الوطيس )) :
أنا النّبيُّ لا كذبْ أنا ابنُ عبدِ المطلبْ
فما كان بأسرع من أنْ ولّى القوم على أدبارهم ، ولحقهم
المسلمون أمامهم علي (عليه السّلام) , يقتلون ويأسرن حتّى قتل علي (عليه
السّلام) أربعين رجلاً .
ومن هذه الشّجاعة ورث ولده الحسين (عليه السّلام) , وعلى نهجها نهج وفي سبيلها درج , فهو ابن رسول الله وابن بضعته .
وهو ابنُ حيدرة البطينِ الأنزعِ الـ ـمفني الاُلوفَ بحومة الهيجاءِ
* * *
له من عليٍّ في الحـروب شجاعةٌ
ومن أحمدٍ عند الخطـابة قيلُ
قال بعض الرّواة : والله ، ما رأيت مكثوراً قد قُتل
ولده وأهل بيته وأنصاره , أربط جأشاً من الحسين (عليه السّلام) ! وإنْ كانت الرّجالة لتشدّ عليه فيشدّ عليها بسيفه
, فتنكشف عنه انكشاف المعزى إذا شدّ فيها الذّئب . ولقد كان يحمل فيهم
، وقد تكملوا ثلاثون ألفاً ، فينهزمون من بين يديه كأنّهم الجراد المنتشر,
ثُمّ
يرجع إلى مركزه وهو يقول : (( لا حول ولا قوة
إلا بالله )) . ولم يزل يُقاتل حتّى
حالوا بينه وبين رحله , فصاح : (( ويلكم يا شيعة
آل أبي سفيان ! إنْ لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون المعاد , فكونوا
أحراراً في دنياكم هذه , وارجعوا إلى أحسابكم إنْ كنتم عُرباً كما
تزعمون )) . فناداه شمر : ما تقول يابن فاطمة
؟ قال
: (( أقول إنّي اُقاتلكم وتقاتلونني ، والنّساء ليس عليهنّ جناح
, فامنعوا عتاتكم
وجهّالكم وطغاتكم من التّعرض لحرمي ما دمت
الصفحة
( 236 )
حيّاً ))
. قال شمر
: لك ذلك يابن فاطمة .
فقصدوه بالحرب , فجعل يحمل عليهم
ويحملون عليه ، وهو في ذلك يطلب شربة من ماء فلا يجد .
منعـوه مـن مـاءِ الفُـرات ووردِهِ
وأبوه ساقي الحوضِ يوم جزاءِ
حتّى قضى عطشاً كما اشتهت العِدى
بأكفِّ لا صِيـدٍ ولا أكـفـاءِ
المجلس السّابع والعشرون بعد المئة
كان السّبب في غزاة تبوك
ـ وهي آخر غزواته ـ أنّ النّبي بلغه أنّ هرقل ملك الرّوم ومَن
معه من نصارى العرب قد عزموا على قصده , فتجهّز للقائهم , وكان النّاس
في عسرة فسمّي ذلك الجيش جيش العسرة . فأمر رسول الله أهل
الغنى أنْ يعينوا الفقراء , وكان المسلمون خمسة وعشرين ألفاً عدا العبيد
والأتباع , وكان إذا أراد الغزو لا يخبر أحداً إلاّ في هذه الغزاة ,
فاخبرهم لبُعد المسافة ليستعدّوا , ولم يقع في هذه الغزاة قتال وإنّما
أرسل
بعض السّرايا , فحصلت منواشات يسيرة , وصالح كثير منهم على الجزية ورجع
.
ولمّا خرج رسول الله إلى غزاة تبوك خلّف عليّاً (عليه
السّلام) على المدينة ؛ لأنّه خاف عليها من المنافقين لبُعد المسافة ؛
ولأنّ الله تعالى أخبره أنّه لا يكون قتال . فقال المنافقون : إنّما
خلّفه استثقالاً له . فلمّا بلغ ذلك أمير المؤمنين (عليه السّلام) , أخذ سلاحه ولحق بالنّبي فاخبره بقول المنافقين , فقال
: (( كذبوا , إنّما خلّفتك لما ورائي فارجع فاخلفني في أهلي وأهلك
, فإنّ المدينة
لا تصلح إلاّ بي أو بك , فانت خليفتي في أهل بيتي ودار هجرتي ؛ أما ترضى
أنْ تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبي بعدي ؟ )) . فرجع
.
وتخلّف عنه في هذه الغزاة كثير من المنافقين وجماعة من المؤمنين ,
الصفحة
( 237 )
منهم كعب بن مالك ومرارة بن الرّبيع وهلال بن اُميّة , من غير شكّ ولا نفاق
، كانوا يقولون نخرج غداً أو بعد غد حتّى رجع رسول الله فنهى عن
كلامهم , فلم يكلّمهم أحد حتّى نساؤهم فكانت تاتيهم بالطّعام ولا تكلّمهم
.
فخرجوا إلى جبل بالمدينة ثُمّ قالوا : إنّ النبي نهى عن كلامنا فلماذا
يكلّم بعضنا بعضاً ؟ فتفرّقوا وحلفوا أنْ لا يكلم أحد صاحبه حتّى يموتوا أو
يتوب الله عليهم . فبقوا على ذلك خمسين ليلة ، وفيهم أنزل الله تعالى :
(
وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا
ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ
أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لاَ مَلْجَأَ مِنْ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ
ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ
الرَّحِيمُ )(1) .
وكان ممّن تخلّف عن النّبي (صلّى
الله عليه وآله)
أبو خيثمة ومراده
أنْ يلحق به ,
وكانت له زوجتان وعريشان , ففرشت زوجتاه عريشيه وبرّدتا له الماء وهيّأتا
له طعاماً , فلمّا نظر إليهما قال : لا والله , ما هذا بانصاف ، رسول الله قد خرج في الحرّ والرّيح يجاهد في سبيل الله وأبو خيثمة قاعد في عريشه
! فلحق برسول الله
(صلّى
الله عليه وآله) ، فنظر النّاس إلى راكب فأخبروا رسول الله (صلّى
الله عليه وآله) . فقال : (( كنْ أبا خيثمة )) . فاقبل وأخبر النّبي
(صلّى
الله عليه وآله) بما كان
, فجزاه
خيراً ودعا له .
وكان ممّن تخلّف أبو ذر ؛ لأنّ جمله كان أعجف ، فلحق به بعد
ثلاثة أيام . ووقف عليه جمله في الطّريق فتركه وحمل ثيابه على ظهره
, فلمّا
ارتفع النّهار ، نظر المسلمون إلى شخص مقبل , فقال رسول الله (صلّى
الله عليه وآله)
:
(( كنْ أبا ذر
)) . فقالوا : هو أبو ذر . فقال رسول الله
(صلّى
الله عليه وآله) :
(( أدركوه بالماء فإنّه عطشان )) . فأدركوه
بالماء .
هكذا جرت العادة , إنّ كلّ من يقبل وهو عطشان يؤتى له
بالماء خصوصاً في حال الحرب إلاّ علي الأكبر , فإنّه لمّا رجع من الحرب
إلى أبيه الحسين (عليه السّلام) وهو عطشان , جعل يقول : يا ابتِ ,
العطش قتلني وثقل الحديد أجهدني . فلم يؤت له بالماء ، لماذا ؟ ألم يكن
عزيزاً على الحسين (عليه السّلام) فيامر له بالماء ؟ بلى والله , قد
كان عزيزاً عليه وفلذة من كبده , ولكن الماء قد كان ممنوعاً عن الحسين
(عليه السّلام) وأطفاله من قبل ثلاثة أيام .
وتدل الرّواية أنّه قد تكرّر من علي الأكبر طلب الماء
من أبيه , يقول الرّاوي : فجعل علي الأكبر يشدّ على القوم ثُمّ يرجع
إلى أبيه , فيقول : يا ابت , العطش . فيقول له الحسين (عليه السّلام) :
(( اصبر حبيبي
, فإنّك لا تمسي حتّى يسقيك رسول الله بكأسه )) .
ـــــــــــــــــــ
(1) سورة التوبة / 118 .
الصفحة
( 238 )
قضوا عطشاً يا للرجال iiودونهمْ شـرائعُ لـكن ما اُبيح iiورودُها
يعزّ على المختار أحمدَ أنْ يرى عداها عن الورد المُباح iiتذودُها
تـموتُ ظـماً شبّانها iiوكهولُها ويفحص من حرِّ الأوام iiوليدُها
ووافى أبو ذر رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ومعه أداوة فيها ماء
,
فقال رسول الله : (( يا ابا ذر ، معك ماء وعطشت
؟ )) . فقال : نعم يا رسول الله
بأبي أنت واُمّي ! انتهيت إلى صخرة وعليها ماء السّماء ، قذفته فإذا هو عذب
بارد , فقلت لا اشربه حتّى يشربه حبيبي رسول الله (صلّى الله عليه
وآله) .
لنعم الإيثار إيثار أبي ذر رضي الله عنه لرسول الله
بالماء على نفسه وهو عطشان ! ولكن أين هو من إيثار أبي الفضل العبّاس
لأخيه الحسين (عليه السّلام) بالماء يوم عاشوراء ؟ وذلك لمّا جاء إلى
أخيه الحسين (عليه السّلام) واستأذنه في القتال , فقال له الحسين (عليه
السّلام) : (( أنت حامل لوائي
)) . فقال : لقد ضاق صدري وسئمت الحياة . فقال له الحسين (عليه
السّلام) : (( إنْ عزمت فاستسق لنا ماء
)) .
فأخذ قربته وحمل على القوم حتّى ملأ القربة , واغترف من
الماء غرفة ثُمّ ذكر عطش أخيه الحسين (عليه السّلام) فرمى بها ، وقال :
يا نفسُ من بعد الحسين هوني
وبعده لا كنتِ أنْ تكوني
هذا الحسـيـنُ واردُ المنـونِ
وتشربيـن بـاردَ المعين
ثُمّ عاد ، فأخذوا عليه الطّريق ، فجعل يضربهم بسيفه وهو يقول :
لا أرهب الموتَ إذا الموت رقى
حتّى اُوارى في المصاليت لُقى
إنّي أنا العبّاسُ أغـدو بالسّقا ولا أهاب
الموتَ يـوم الملتقى
فضربه حكيم بن الطّفيل الطّائي السّنبسي على يمينه
فبراها , فأخذ اللواء
بشماله وهو يقول :
واللهِ إنْ قطعتمُ يميني إنّي
اُحامي أبداً عن ديني
الصفحة
( 239 )
فضربه زيد بن ورقاء الجهني على شماله فبراها , فضمّ اللواء
إلى صدره ـ كما فعل
عمّه جعفر , إذ قطعوا يمينه ويساره في حرب مؤتة فضمّ اللواء إلى صدره ـ وجعل
العبّاس يقول :
ألا ترَون معشر الفجّارِ
قد قطعوا ببغيهم يساري
فحمل عليه رجل تميمي من أبناء ابن بن دارم فضربه بعمود على رأسه
, فخرّ
صريعاً إلى الأرض ونادى بأعلى صوته : أدركني يا أخي ! فانقضّ عليه أبو عبد
الله كالصّقر , فرآه مقطوع اليمين واليسار ، مرضوخ الجبين ، مشكوك العين بسهم
، مرتثاً بالجراحة , فوقف عليه منحنياً وجلس عند رأسه يبكي حتّى فاضت نفسه
,
ثُمّ
حمل على القوم فجعل يضرب فيهم يميناً وشمالاً , فيفرّون من بين يديه كما
تفرّ المعزى إذا شدّ فيها الذّئب ، وهو يقول : ((
أين تفرّون وقد قتلتم أخي ؟ أين
تفرّون وقد فتتم في عضدي ؟ )) . ثُمّ عاد إلى موقفه منفرداً .
فـهنا لـكمْ ملك الشّريعة واتّكى مـن فـوق قـائم سيفه iiفمقامُها
فـأبتْ نـقيبتُهُ الـزكيّة iiريـَّها وحشا ابنِ فاطمةٍ يشبُّ iiضرامُها
وكـذلكمْ مـلأ الـمزادَ iiوزمَّـها وانـصاعَ يرفلُ بالحديد iiهمامُها
حـسمتْ يديه يدُ القضاء iiبمبرمٍ ويـدُ الـقضا لم ينتفض iiإبرامُها
واعتاقه شرَكُ الرّدى دون السّرى إنّ الـمنايا لا تـطيش iiسـهامُها
المجلس الثّامن والعشرون بعد المئة
لمّا أراد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الخروج إلى غزاة تبوك خطب
النّاس , فقال بعد حمد
الصفحة
( 240 )
الله والثّناء عليه : (( أيّها النّاس
, إنّ أصدق الحديث كتاب الله , وأولى القول
كلمة التقوى ، وخير الملل ملّة إبراهيم , وخير السّنن سنة محمّد ، وأشرف
الحديث ذكر الله , وأحسن القصص هذا القرآن ، وخير الاُمور أوسطها , وشرّ
الاُمور
محدثاتها ، وأحسن الهدى هُدى الأنبياء , وأشرف القتل قتل الشّهداء ، وأعمى
العمى الضّلالة بعد الهدى , وخير الأعمال ما نفع ، وخير الهدى ما اتُّبع , وشرّ
العمى عمى القلب ، واليد العُليا خير من اليد السّفلى , وما قلّ وكفى خير ممّا
كثر وألهى ، وشرّ المعذرة حين يحضر الموت , وشرّ النّدامة يوم القيامة
، ومن
أعظم خطايا اللسان الكذب , وخير الغنى غنى النّفس ، وخير الزّاد التّقوى
, ورأس
الحكمة مخافة الله والتّباعد من عمل الجاهلية , والسّكر حجر النّار ، والخمر
جماع الإثم , والنّساء حبائل ابليس ، والشّباب شعبة من الجنون , وشرّ المكاسب
كسب الرّبا ، وشرّ المآكل أكل مال اليتيم . والسّعيد مَن وعظ بغيره ، والشّقي مَن
شقي في بطن اُمّه , وإنّما يصير أحدكم إلى موضع أربعة أذرع والأمر إلى آخره
. وملاك العمل خواتيمه ، وكل ما هو آت قريب , وسباب المؤمن فسق ، وقتال المؤمن
كفر , وأكل لحمه من معصية الله ، وحرمة ماله كحرمة دمه , ومَن توكّل على الله
كفاه ، ومَن صبر ظفر , ومَن يعفُ يعفُ الله عنه ، ومَن كظم الغيظ يأجره الله
, ومَن
يصبر على الرّزية يعوّضه الله )) .
سمعتم قول النّبي : (( أشرف القتل قتل
الشّهداء )) ؟ وأيّ شهيد أشرف وأفضل من شهيد كربلاء أبي عبد
الله الحسين (عليه السّلام) ، ولد رسول الله وأحد سبطيه وريحانتيه ؟ وأيّ قتل
أشرف من قتله ؟ وهو الذي فدى دين جده بنفسه , وأعلى منار الإيمان وأظهر
فضائح المنافقين , وهدم ما بناه بنو اُميّة لهدم هذا الدّين , فكان
سيّد الشّهداء وإمام أهل الشّرف والإباء حتّى قضى بسيوف الأعداء مع أهل
بيته وأنصاره عطشان غريباً وحيداً فريداً
, وسُبيت نساؤه وعياله وذبحت أطفاله , وداروا برأسه في البلدان من فوق عالي
السّنان .
تداركتمُ بالأنفس الدّين لم يقـمْ
لواه بكمْ إلاّ وأنتـم ذبـائحُـهْ
غداة تشفّى الكفرُ منكم بموقفٍ
أذلّت رقابَ المسلمين فضائحُهْ
الصفحة
( 241 )
المجلس التّاسع والعشرون بعد المئة
لمّا كانت غزاة تبوك ظهر من أقوال المنافقين وأفعالهم ما لم يظهر في
غيرها ، منها : أنّه تخلّف عن النّبي (صلّى الله عليه وآله) كثير من
المنافقين ، ونزلت فيهم آيات كثيرة مثل قوله تعالى :
(
لَوْ
كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لاتّبَعُوكَ وَلكِن
بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشّقّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَوِ
اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللّهُ
يَعْلَمُ إِنّهُمْ لَكَاذِبُونَ )(1)
. وقوله تعالى : (
لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلّبُوا لَكَ
الاُمور
حَتّى جَاءَ الْحَقّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ *
وَمِنْهُم مَن يَقُولُ ائْذَن لِي وَلاَ تَفْتِنّي أَلاَ فِي
الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنّ جَهَنّمَ لَُمحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ )(2)
.
وقوله تعالى : (
فَرِحَ الْمُخَلّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ
) إلى قوله (
وَقَالُوا
لاَتَنْفِرُوا فِي الْحَرّ قُلْ نَارُ جَهَنّمَ أَشَدّ حَرّاً
)(3) . إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التّي في سورة براءة .
ومنها ، قولهم أنّ
رسول الله
(صلّى الله عليه وآله)
إنّما خلّف عليّاً (عليه السّلام)
على المدينة استثقالاً له ،
فكذّبهم الله
تعالى على لسان نبيه (صلّى الله عليه وآله)
, فقال له : (( إنّ المدينة لا تصلح
إلاّ بي أو بك ؛ أما ترضى
أنْ تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيَّ بعدي ؟ )) .
ومنها
: أنّها
ضلّت ناقة النّبي (صلّى الله عليه وآله)
, فقال بعض المنافقين : إنّ محمّداً يخبركم الخبر من
السّماء ،
ولا يدري أين ناقته ! فقال : (( إنّي والله
, لا أعلم إلاّ ما علّمني الله عزّ وجل , وهي في الوادي في شعب كذا قد
حبستها شجرة بزمامها )) . فوجدوها
كما قال (صلّى الله عليه وآله)
.
وقدم رسول الله المدينة , وكان إذا قدم من سفر استُقبل بالحسن والحسين
(عليهما السّلام) , وحفّ به المسلمون حتّى يدخل على فاطمة (عليها
السّلام) ويقعدون بالباب
, فإذا
ـــــــــــــــــــــــ
(1)
سورة التوبة / 42 .
(2)
سورة
التوبة / 48 ـ 49 .
(3)
سورة التوبة / 81 .
الصفحة
( 242 )
خرج , مشوا معه حتّى يدخل منزله فيتفرّقون عنه .
بأبي أنت واُمّي يا رسول
الله ! كنت إذا قدمت من سفر استقبلك المسلمون بولديك الحسنين (عليهما
السّلام) ؛ وما ذاك إلاّ
لعلم المسلمين بأنّ ولديك الحسنين (عليهما السّلام) أحبّ الخلق إليك وأشرفهم منزلة عند
الله , وكنت أوّل مَن تبدأ بزيارته بضعتك فاطمة الزّهراء (عليها
السّلام) ؛ لأنّها أحب النّاس
إليك وأعزّهم عليك .
اُخبرك يا رسول الله بما جرى بعدك على بضعتك الزّهراء
وريحانتيك الحسنين
(عليهم السّلام) ؟ أمّا بضعتك الزّهراء (عليها السّلام)
، فلم تزل بعدك ناحلة الجسم ، معصبة الرّأس ، حزينة كئيبة باكية حتّى
تأذّى ببكائها أهل المدينة , فبنى لها علي (عليه السّلام) بيتاً في
البقيع يُسمّى بيت الأحزان , فكانت تخرج إليه وتقضي وطرها من البكاء
حتّى لحقت بربّها ؛ وأمّا ولدك الحسن (عليه السّلام) ، فجرّعوه الغصص
حتّى جرحوه في فخذه بمعول في ساباط المدائن حينما كان متوجّهاً إلى حرب
معاوية , وكاتبوا عدوّه سرّاً وخلّوه حتّى اضطرّ أنْ يُصالح معاوية ؛
حفظاً لدمه وابقاء على شيعته ، وكانت عاقبة أمره أنْ مات شهيداً بالسّم
حتّى تقيّأ كبده قطعة قطعة .
وأمّا ولدك الحسين (عليه السّلام) ، فغصبوه حقّه وأخافوه حتّى خرج
من حرمك خائفاً يترقّب إلى حرم الله , ثُمّ من حرم الله إلى الكوفة ,
وجهّز ابن زياد إليه الجيوش بأمر يزيد , فأحاطوا به ومنعوه التوجّه في
بلاد الله العريضة , ومنعوه من شرب الماء هو وعياله وأطفاله حتّى قتلوه
عطشان غريباً وحيداً فريداً لا ناصر له ولا
مُعين , وليتهم اكتفوا بذلك ! لا والله , لم يكتفوا بهذا حتّى أمر ابن سعد
ـ
تنفيذا لأمر ابن زياد ـ أنْ يُداس بدنه الشّريف بحوافر الخيل , وحمل رأسه
ورؤوس أصحابه على الرّماح وطاف بها في البلدان , وساق بناتك ونساء أولادك
كما تُساق السّبايا من كربلاء إلى الكوفة , ومن الكوفة إلى يزيد بالشّام .
تتهادى بهـا النّيـاقُ بلا حا مٍ ولا عينُ كافلٍ تـرعاهَا
لابن مرجانة الدّعيِّ وطوراً لابن هندٍ تُهدى بذلِّ سباهَا
* * * |
|