المجالسُ السَّنيّة - الجزء الاول

 
 

الصفحة ( 92 )

المجلس الخمسون

لمّا كان يوم عاشوراء وزحف أهل الكوفة لقتال الحسين (عليه السلام) ، تقدّم الحسين (عليه السلام) حتّى وقف بإزاء القوم فجعل ينظر إلى صفوفهم كأنّهم السّيل ، ونظر إلى ابن سعد واقفاً في صناديد الكوفة ، فحمد الله وأثنى عليه وذكَره بما هو أهله ، وصلّى على النّبي محمّد (صلّى الله عليه وآله) وعلى الملائكته والأنبياء والرُّسل ، وقال ما لا يحصى كثرة ، فلم يُسمع متكلّم قط قبلَه ولا بعدَه أبلغ في المنطق منه .

لهُ منْ عليٍّ في الحُروبِ شَجاعةٌ   ومنْ أحمدٍ عندَ الخِطابةِ قِيلُ

فكان ممّا قال : (( الحمد لله الذي خلق الدّنيا فجعلها دار فناء وزوال ، متصرّفة بأهلها حالاً بعد حال ، فالمغرور مَنْ غرّته والشقيّ مَنْ فتنته ، فلا تغرّنكم هذه الدّنيا ؛ فإنّها تقطع رجاء مَنْ ركن إليها وتخيب طمع مَنْ طمع فيها . وأراكم قد اجتمعتم على أمر قد أسخطتم الله فيه عليكم ، وأعرض بوجهه الكريم عنكم ، وأحلّ بكم نقمتة وجنّبكم رحمته ، فنعم الربّ ربّنا وبئس العبيد أنتم ! أقررتم بالطّاعة وآمنتم بالرسول محمّد (صلّى الله عليه وآله) ، ثمّ إنّكم زحفتم إلى ذرّيّته وعترته تريدون قتلهم ، لقد استحوذ عليكم الشيطان فأنساكم ذكر الله العظيم ، فتبّاً لكم ولِما تريدون . إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، هؤلاء قوم كفروا بعد إيمانهم ، فبُعداً للقوم الظالمين )) . فقال ابن سعد : ويلكم ! كلّموه فإنّه ابن أبيه . والله ، لَو وقف فيكم هكذا يوماً جديداً ، لما انقطع ولما حصر .

فتقدّم شمر فقال : يا حسين ، ما هذا الذي تقول ؟ أفهمنا حتّى نفهم . فقال : (( أقول : اتّقوا الله ربّكم ولا تقتلوني ؛ فإنّه لا يحلّ لكم قتلي ولا انتهاك حرمتي ؛ فإنّي ابن بنت نبيّكم ، وجدّتي خديجة زوجة نبيّكم ، ولعلّه بلغكم قول نبيّكم : الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة )) . ثمّ قال : (( أمّا بعد ، فانسبوني وانظروا مَن أنا ، ثمّ ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها ، فانظروا هل يصلح ويحلّ لكم قتلي وانتهاك


الصفحة ( 93 )

حرمتي ؟ ألست ابن بنت نبيّكم وابن وصيّه وابن عمّه وأول المؤمنين بالله والمصدّق برسول الله (صلّى الله عليه وآله) وبما جاء من عند ربّه ؟! أوَليس حمزة سيّد الشّهداء عمّ أبي ؟! أوَليس جعفر الطيّار في الجنّة بجناحين عمّي ؟! أوَلمْ يبلغكم ما قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لي ولأخي : هذان سيّدا شباب أهل الجنّة ؟! فإنْ صدّقتموني بما أقول وهو الحقّ ، والله ما تعمّدتُ كذباً مُذْ علمت أنّ الله يمقتُ عليه أهلَه ، وإنْ كذّبتموني فإنّ فيكم مَن إذا سألتموه عن ذلك أخبركم ؛ سلوا جابر بن عبد الله الأنصاري ، وأبا سعيد الخدري ، وسهل بن سعد السّاعدي ، والبرّاء بن عازب ، وزيد بن أرقم ، وأنس بن مالك يخبرونكم أنّهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لي ولأخي ، أما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي ؟ )) .

فقال له شِمر بن ذي الجوشن : هو يعبد الله على حرف إنْ كان يدري ما تقول . فقال له حبيب بن مظاهر : والله ، إنّي لأراك تعبد الله على سبعين حرفاً ، وأنا أشهد أنّك صادق ما تدري ما يقول ، قد طبع الله على قلبك .

ثم قال لهم الحسين (عليه السلام) : (( فإنْ كنتم في شكّ من هذا ، أفتشكّون في أنّي ابن بنت نبيّكم ؟ فوالله ، ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبيّ غيري فيكم ولا في غيركم . ويحكم ! أتطلبونني بقتيل منكم قتلتُه أو مال لكم استهلكتُه أو بقصاص من جراحة ؟! )) . فأخذوا لا يكلّمونه ، فنادى : (( يا شبث بن ربعي ، ويا حجّار بن أبجر ، ويا قيس بن الأشعث ، ويا يزيد بن الحارث ، ألم تكتبوا إليّ : أنْ قد أينعت الثّمار واخضرّت الجنان وإنّما تقدم على جند لك مجنّدة ؟ )) . فقال له قيس بن الأشعث : ما ندري ما تقول ، ولكن انزل على حكم بني عمّك فإنّهم لنْ يروك إلاّ ما تُحب . فقال له الحسين (عليه السّلام) : (( لا والله ، لا اُعطيكم بيدي إعطاء الذّليل ، ولا أقرّ لكم إقرار العبيد )) .

بأبي أبيّ الضّيمِ لا يُعطيْ العِدى   حذَرَ المنيّةِ منه فضلَ قـيادِ

بأبي فـَريداً أسلمتْهُ يَـدُ الرَّدى   في دارِ غُربتهِ لجمعِ أعادي

* * *


الصفحة ( 94 )

المجلس الواحد والخمسون

لمّا كان يوم عاشوراء ركب الحسين (عليه السلام) ناقته ـ وقيل فرسه ـ وخرج إلى النّاس فاستنصتهم ، فأبوا أنْ ينصتوا له حتّى قال لهم : (( ويلكم ! ما عليكم أنْ تنصتوا لي فتسمعوا قولي ، وإنّما أدعوكم الى سبيل الرّشاد ، فمَن أطاعني كان من المرشدين ، ومَن عصاني كان من المهلكين ، وكلّكم عاصٍ لأمري غير مستمع قولي ، فقد مُلئتْ بطونُكم من الحرام وطُبع على قلوبكم . ويلكم ! ألا تنصتون ألا تسمعون )) . فتلاوم أصحاب عمر بن سعد بينهم وقالوا : انصتوا له .

فحمد الله وأثنى عليه وذكَرَه بما هو أهله ، وصلّى على محمّد (صلّى الله عليه وآله) وعلى الملائكة والأنبياء والرُّسل وأبلغ في المقال ، ثمّ قال : (( تبّاً لكم أيّتها الجماعة وتَرْحاً ! أحين استصرختُمونا وَالهين ، فأصرخناكُم مُوجِفين مُؤدِّين مُستعدِّين ، سللتُمْ علينا سيفاً لنا في أيمانِكم ، وحششتم علينا ناراً قَدحْناها على عدوِّكم وعدوِّنا ، فأصبحتم إلْباً على أوليائكُم ويداً عليهم لأعدائِكم ، بغير عدلٍ أفشَوه فيكمْ ، ولا أملٍ أصبح لكم فيهم ، إلاّ الحرامَ من الدّنيا أنالوكُمْ ، وخسيسُ عيشٍ طمعتُم فيه ، من غيرِ حَدثٍ كان مِنّا ، ولا رأيٍ تفيَّل(1) لنا .

فهلاّ ـ لكم الويلات ـ إذ كرهتمُونا وتركتمُونا ، تجهّزتُمُوها والسّيف مِشيَمٌ(2) ، والجأش(3) طامنٌ(4) ، والرأي لمّا يُستَحصَف(5) ، ولكن أسرعتُم إليها كطَيرة الدِّبا(6) ، وتداعيتُم إليها كتداعي الفراش . فسُحقاً لكم يا عبيد طواغيت الاُمّة ، وشِذاذَ الأحزابِ ونَبَذةَ الكتاب ، ونفَثةَ الشّيطانِ وعُصبةَ الآثامِ ، ومُحرّفي الكتاب ومُطفئي السُّنّة ، وقَتَلةَ أولاد الأنبياءِ ومبيدي عترة الأوصياء ، ومُلحقي العِهار بالنَّسب ومؤذي المؤمنين ، وصُراخ أئمَّةِ المستهزئين الذين جعلوا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تفيل الرأي : أخطأ وأضعف .
(2) مغمد .
(3) الجأش : القلب والفكر .
(4) ساكن مطمئن .
(5) يستحكم .
(6) الدَبا ( بفتح الدال وتخفيف الباء ) : الجراد الصغير .     ـ المؤلّف ـ

الصفحة ( 95 )

القُرآن عضين ! ولبئس ما قدّمت لهم أنفسهم وفي العذاب هم خالدون ! وأنتم ، ابن حرب وأشياعه تعضدون ، وعنّا تخاذلون ! أجل والله ، الخَذلُ فيكم معروفٌ ، وشجتْ عليه اُصولكم وتأزّرت عليه فروعُكم ، ونبتتْ عليه قلوبكم وغشيَتْ صدوركم ، فكنتُم أخبث ثمر شَجي للناظر وأكلة للغاصب ، ألا لعنة الله على النّاكثين الذين ينقضُون الأيمان بعد توكيدها ، وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً فأنتم والله هم .

ألا إنّ الدعيّ ابن الدعيّ قد رَكزَ بين اثنتين ؛ بين السّلّة والذلّة ، وهيهات منّا الذلّة ! يأبى الله ذلك لنا ورسولُه والمؤمنون ، وجدود طابت وحجور طهُرت ، واُنوف حميّة ونفوس أبيّة لا تُؤثر طاعة اللّئام على مصارع الكرام ، ألا قد أعذَرتُ وأنذرتُ . ألا وإنّي زاحفٌ بهذه الاُسرة مع قلّة العدد وكثرة العدوّ وخذلان النّاصر )) .

ثمّ وصل (عليه السّلام) كلامه بأبيات فروة بن مسيك المرادي ، فقال :

فـإنْ نـُهزَمْ فهزّامونَ iiقِدماً   وإنْ نـُغلَبْ فـغيرُ مـُغلّبينَا
ومـا إنْ طـبُّنا جُبنٌ 
iiولكنْ   مـنايانَا ودولـةُ iiآخَـرينَا
إذا ما الموتُ رفّعَ عن اُناسٍ   كـلا كِـلَهُ أنـاخَ 
iiبآخَرينا
فـأفنَى ذلكُمْ سَرواتِ 
iiقَومِي   كـمَا أفنَى القرونَ iiالأوّلينَا
فـلو خَلُد الملوكُ إذنْ
iiخَلُدنا   ولـو بقيَ الكرامُ إذنْ iiبَقينا
فـقُلْ لـلشّامتينَ بنَا 
iiأفيقُوا   سَـيلقَى الشامتونَ كمَا لقينَا

ثم قال : (( أما والله ، لا تلبثون بعدها إلاّ كريث ما يركب الفرس حتّى تدور بكم دور الرّحى ، وتُقلق بكم قلق المحور ، فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلاَ تُنْظِرُون(1) . إِنّي تَوَكّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبّي وَرَبّكُم مَا مِن دَابّةٍ إِلاّ هُوَ آخِذُ بِنَاصِيَتِهَا إِنّ رَبّي عَلَى‏ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(2) )) .

ثم قال : (( ادعوا لي عمر بن سعد )) . فدُعي له ، وكان كارهاً لا يحبّ أن يأتيه ، فقال (عليه السلام) : (( يا عمر ، أنت تقتلني وتزعم أنْ يولّيك الدّعي ابن الدّعي بلاد الرّي وجُرجان ؟! والله ، لا تتهنّأ بذلك أبداً ، فاصنع ما أنت صانع فإنّك لا تفرح بعدي بدنيا ولا آخرة )) . فاغتاظ ابن سعد من كلامه ، ثمّ صرف بوجهه عنه ، ونادى بأصحابه : ما

ـــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة يونس / 71 .
(2) سورة هود / 56 .

الصفحة ( 96 )

تنظرون به ؟ احملوا بأجمعكم ، إنّما هي أكلة واحدة . ثمّ وضعَ سهماً في كَبَد قوسه فرمى به نحو عسكر الحسين (عليه السّلام) ، وقال : اشهدوا لي عند الأمير أنّي أول مَن رمى .

وأقلّت السّهام من القوم كأنّها القطر ، فلم يبق من أصحاب الحسين (عليه السلام) أحد إلاّ أصابه من سهامهم ، فقال الحسين (عليه السلام) لأصحابه : (( قوموا رحمكم الله إلى الموت الذي لا بدّ منه ، فإنّ السّهام رُسُل القوم إليكم )) . فاقتتلوا ساعة من النّهار حملة وحملة حتّى قُتل من أصحاب الحسين (عليه السلام) جماعة .

فأبَى أنْ يعيشَ إلاّ عَزيزاً   أو تَجلَّى الكِفاحُ وهو صَريعُ

المجلس الثاني والخمسون

لمّا رأى الحُرّ بن يزيد أنّ القوم قد صمّموا على قتال الحسين (عليه السلام) ، قال لعمر بن سعد : أمقاتلٌ أنت هذا الرجل ؟ قال : إي والله ، قتالاً أيسرُه أنْ تسقط الرؤوس وتطيح الأيدي . قال : فما لكم فيما عرضه عليكم رضى ؟ قال : أما لو كان الأمر إليّ لفعلتُ ، ولكنّ أميرك قد أبى .

فأقبل الحُرّ حتّى وقف من النّاس موقفاً ومعه رجل من قومه يقال له قرّة بن قيس ، فقال له : يا قرة ، هل سقيت فرسك اليوم ؟ قال : لا . قال : فما تريد أنْ تسقيه ؟ قال قرة : فظننتُ والله أنّه يريد أنْ يتنحّى فلا يشهد القتال ، فكره أنْ أراه حين يصنع ذلك ، فقلتُ له : لمْ أسقه وأنا منطلق فأسقيه . فاعتزل ذلك المكان الذي كان فيه ، فوالله لو أطلعني على الذي يُريد لخرجتُ معه إلى الحسين (عليه السلام) .

فأخذ الحُرّ يدنو من الحسين (عليه السلام) قليلاً قليلاً ، فقال له المهاجر بن أوس : ما تريد يابن يزيد ؟ أتريد أنْ تحمل ؟ فلم يُجبه وأخذه مثل الأفكل ( وهي الرعدة ) ، فقال له المهاجر : إنّ أمرك لمُريب ! والله ، ما رأيت منك في موقف قط مثل هذا ، ولو قيل لي مَن أشجع أهل الكوفة ؟ ما عدوتك ، فما هذا الذي أرى منك ؟ فقال الحُرّ : إنّي والله ، اُخيّر نفسي بين الجنّة والنّار ، فوالله لا أختار على الجنّة شيئاً ولو قُطِّعت


الصفحة ( 97 )

وحُرّقت . ثمّ ضرب فرسه قاصداً إلى الحسين (عليه السلام) ويده على رأسه وهو يقول : اللهمَّ ، إليك اُنيب فتُبْ عليّ ، فقد أرعبتُ قلوب أوليائك وأولاد بنت نبيك . وقال للحسين (عليه السلام) : جُعلتُ فداك يابن رسول الله ، أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع وسايرتُك في الطريق وجعجعتُ بك في هذا المكان ، وما ظننت أنّ القوم يردّون عليك ما عرضتَه عليهم ، ولا يبلغون منك هذه المنزلة . والله ، لو علمتُ أنّهم ينتهون بك إلى ما أرى ، ما ركبتُ مثل الذي ركبت ، وإنّي قد جئتك تائباً ممّا كان منّي إلى ربّي ، مواسياً لك بنفسي حتّى أموت بين يديك ، فهل ترى لي من توبة ؟ فقال له الحسين (علهيالسلام) : (( نعم يتوب الله عليك فانزل )) . قال : أنا فارساً خيرٌ منّي راجلاً ، اُقاتلهم على فرسي ساعة وإلى النّزول يصير آخر أمري . فقال له الحسين (عليه السلام) : (( فاصنع يرحمك الله ما بدا لك )) .

فاستقدم أمام الحسين (عليه السلام) ، فقال : يا أهل الكوفة , لاُمّكم الهبل والعِبَر(1) ! أدعوتم هذا العبد الصالح حتّى إذا جاءكم أسلمتموه ! وزعمتم أنّكم قاتلوا أنفسكم دونه ثمّ عدوتم عليه لتقتلوه ! وأمسكتم بنفسه وأخذتم بكظمه وأحطتم به من كلّ جانب لتمنعوه التوجّه في بلاد الله العريضة ، فصار كالأسير في أيديكم ، لا يملك لنفسه نفعاً ولا يدفع عنها ضرّاً ، وحلأتموه ونساءه وصبيته وأهله عن ماء الفرات الجاري ، فهاهم قد صرعهم العطش ، بئسما خلّفتم محمّداً في ذرّيّته ! لا سقاكم الله يوم الظمأ .

فحمل عليه رجال يرمونه بالنبل ، فرجع حتّى وقف أمام الحسين (عليه السلام) وقال له : فإذا كنتُ أول مَن خرج عليك ، فاذَنْ لي أنْ أكون أول قتيل بين يديك ، لعلّي أكون ممَّن يُصافح جدّك محمّداً (صلّى الله عليه وآله) غداً في يوم القيامة . فحمل على أصحاب عمر بن سعد وهو يتمثّل بقول عنترة :

ما زِلتُ أرميْهمْ بغرّةِ وجْههِ   ولبانهِ حتّى تَسرْبلَ بالدَّمِ

ثم جعل يرتجز ويقول :

إنّي أنا الحُرّ ومأوَى الضَّيفِ   أضربُ في أعناقِكُمْ بالسَّيفِ

______________________
(1) العِبَر ، بكسر العين وفتح الباء : جمع عَبْرة ، بفتح العين وسكون الباء ، وهي الحزن قبل خروج الدّمع .   ـ المؤلّف ـ 

الصفحة ( 98 )

عنْ خيرِ مَنْ حلَّ بأرضِ الخيّفِ   أضربُكُمْ ولا أرَى منْ حَيفِ

وقاتل قتالاً شديداً ، وهو يرتجز ويقول :

إنّي أنا الحُرّ ونجلُ الحُرِّ   أشجـعُ منْ ذي لَبَدٍ هزبرِ

ولستُ بالجبانِ عندَ الكرِّ  لكنّني الوقّافُ عـند الفرِّ

حتّى قتل ثمانية عشر رجلاً ، وفي رواية : نيفاً وأربعين رجلاًَ ، وكان يحمل هو وزهير بن القَين ، فإذا حمل أحدهما وغاص فيهم حمل الآخر حتّى يخلّصه ، ثمّ حملت الرجّالة على الحُرّ وتكاثروا عليه حتّى قتلوه ، فاحتمله أصحاب الحسين (عليه السلام) حتّى وضعوه بين يدَي الحسين (عليه السلام) وبه رَمَق ، فجعل يمسح التراب عن وجهه ويقول : (( أنت الحُرّ كما سمّتك اُمّك ، حُرّ في الدّنيا والآخرة )) .

وروي أنّه أتاه الحسين (عليه السلام) ودمُه يشخب ، فقال : (( بخ بخ لك يا حُرّ ، أنت حُرّ كما سُمّيت في الدّنيا والآخرة )) .

نَصرُوا ابنَ بنتِ نبيِّهمْ طُوبى لهُمْ   نالُـوا بنُصرتِهِ مـراتبَ ساميهْ

قـدْ جـاورُوهُ هاهُـنا بقبورِهـمْ   وقصورُهمْ يومَ الجزا مُتحاذيهْ

المجلس الثالث والخمسون

لمّا كان اليوم العاشر من المحرّم ، جعل أصحاب الحسين (عليه السلام) يبرز الواحد منهم بعد الواحد ، فكانوا كما قيل فيهم :

قـومٌ إذا نـُودوا لدفـعِِ مُـلمَّـةٍ   والخيلُ بين مدعَّسٍ ومُكردسِ

لبسُوا القلوبَ على الدّروعِ وأقبَلُوا   يتهافتُونَ على ذهابِ الأنفـسِ

فممَّن برز وهب بن حبّاب الكلبي ، وكانت معه اُمّه وزوجته ، فقالت اُمّه : قُم يا بُني فانصر ابن بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) . فقال : أفعل يا اُمّاه ولا اُقصّر . فَبرزَ وهو يقول :


الصفحة ( 99 )

سوفَ تَرَوني وتَرَونَ ضَرْبي   وحملَتي وصولَتي في الحربِ

أدركُ ثاري بعدَ ثارِ صحْبي   وأدفعُ الـكربَ أمـامَ الكربِ

ليس جهادِي في الوغَى باللعْبِ

ثم حمل ولم يزل يُقاتل حتّى قتل جماعة ، ثمّ رجع إلى امرأته واُمّه وقال : يا اُمّاه ، أرضيت ؟ قالت : ما رضيت حتّى تُقتل بين يدَي الحسين (عليه السلام) . فقالت امرأته : بالله عليك ، لا تفجعني بنفسك . فقالت اُمّه : يا بُني ، اعزُب عن قولها ، وارجع فقاتل بين يدَي ابن بنت نبيّك تنلْ شفاعة جدّه يوم القيامة . فرجع فلمْ يزل يُقاتل حتّى قُطعت يداه ، وأخذت امرأته عموداً وأقبلت نحوه وهي تقول : فداك أبي واُمّي ! قاتل دون الطيّبين حرم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) . فأقبل كي يردّها إلى النّساء فأخذت بجانب ثوبه وقالت : لنْ أعود دون أنْ أموت معك . فقال الحسين (عليه السلام) : (( جُزيتم من أهل بيت خيراً ، ارجعي إلى النّساء رحمك الله )) . فانصرفت إليهنّ ، ولم يزل الكلبي يقاتل حتّى قُتل رضوان الله عليه .

وخرج عمرو بن قرظة الأنصاري ـ وكان له أخ اسمه علي مع عمر بن سعد في غاية العناد والشّقاق ، عكس أخيه هذا ـ فاستأذن عمرو الحسين (عليه السلام) ، فأذن له ، فبرز وهو يرتجز ويقول :

قـدْ عَلمتْ كَتـيبةُ الأنـصارِ  أنّيْ سأحمِي حوزةَ الـذمّارِ

ضربَ غُلامٍ غيرِ نكسٍ شاري   دونَ حُسينٍ مُهجتي ودارِي

فقاتل قتال المشتاقين إلى الجزاء ، وبالغ في خدمة سلطان السّماء حتّى قتل جمعاً كثيراً من حزب ابن زياد ، وجمع بين سداد وجهاد ، وكان لا يأتي إلى الحسين (عليه السلام) سهم إلاّ اتّقاه بيده ، ولا سيف إلاّ تلقّاه بمُهجته ، فلم يكن يصل إلى الحسين (عليه السلام) سوء حتّى اُثِخن بالجراح ، فالتفت إلى الحسين (عليه السلام) وقال : يابن رسول الله ، أوفيت ؟ قال : (( نعم ، أنت أمامي في الجنّة ، فأقرئ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عنّي السّلام ، واعلمه أنّي في الأثر )) . فقاتل حتّى قُتل رضوان الله عليه :

سَطَوا وأنابيبُ الرّماحِ كأنَّها   إجامٌ وهُمْ تحتَ الرِّماحِ اُسودُ

ترَى لهُمُ عندَ القِراعِ تباشُراً   كأنَّ لـهُمْ يومَ الكـرِيهةِ عيدُ


الصفحة ( 100 )

المجلس الرابع والخمسون

لمّا كان اليوم العاشر من المحرّم ، برز جون مولى أبي ذَر الغفاري ـ وكان بعد موت أبي ذَر عند الحسن (عليه السلام) ثمّ صار عند الحسين (عليه السّلام) ، فصحبه في سفره من المدينة إلى مكّة ثمّ إلى العراق ، وكان عبداً أسود ـ ، فقال له الحسين (عليه السلام) : (( أنت في إذْنٍ منّي ؛ فإنّما تبعتنا للعافية فلا تبتلِ بطريقتنا )) . فقال : يابن رسول الله ، أنا في الرّخاء ألحسُ قصاعكم ، وفي الشدّة أخذلكم ! لا والله ، لا اُفارقكم حتّى يختلط هذا الدّم الأسود مع دمائكم . ثمّ برز وهو يقول :

كيفَ ترَى الكفّارُ ضرْبَ الأسودِ   بالسّيفِ ضرْباً عنْ بَني محمّد

أذبُّ عنـهُمْ باللـسَـانِ والـيدِ   أرجو بهِ الجنّةَ يـومَ الـمَوْردِ

ثم قاتل حتّى قُتل ، فوقف عليه الحسين (عليه السلام) فقال : (( اللهمَّ ، بيّض وجهه وطيّب ريحه واحشره مع الأبرار ، وعرّف بينه وبين محمّد وآل محمّد )) .

وخرج شاب قُتل أبوه في المعركة وكانت اُمّه معه ، فقالت له : اخرج يا بُني وقاتلْ بين يدَي ابن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) . فخرج ، فقال الحسين (عليه السلام) : (( هذا شاب قُتل أبوه في المعركة ، ولعلّ اُمّه تكره خروجَه )) . فقال الشاب : اُمّي أمرتني بذلك . فبرز وهو يقول :

أمـيرِي حُسينٌ ونِعمَ iiالأميرْ   سـرورُ فؤادِ البَشيرِ iiالنَّذيرْ
عـلـيٌّ وفـاطمةٌ والـداهْ   فـهلْ تعْلمونَ لهُ منْ 
iiنَظيرْ
لهُ طلعةٌ مثلُ شمْسِ الضُّحَى   لـهُ غـرّةٌ مـثلُ بدرٍ 
iiمُنيرْ

وقاتل حتّى قُتل وحُزّ رأسُه ورُمي به إلى عسكر الحسين (عليه السلام) ، فحملت اُمّه رأسه وقالت : أحسنتَ يا بُني ، يا سرور قلبي ويا قرّة عيني . ثمّ رمت برأس ابنها


الصفحة ( 101 )

رَجلاً فقتلته ، وأخذت عمود خيمة وحملت عليهم وهي تقول :

أنَا عَجوزٌ سيّديْ ضَعيفَهْ   خـاويَـةٌ باليَـةٌ نَحـِيفَهْ

أضربُكُمْ بضرْبةٍ عنيفَهْ   دونَ بنيْ فاطمةَ الشّريفَهْ

وضربت رَجلَين ، فأمر الحسين (عليه السلام) بصرفها ودعا لها .

يتَسْابقونَ إلى المنيّةِ بينهُمْ   فكأنّما هي غادةٌ مِعطارُ

المجلس الخامس والخمسون

لمّا كان يوم عاشوراء واشتدّ القتال ، صاح عمرو بن الحجّاج بالنّاس : يا حمقاء ، أتدرون مَن تقاتلون ؟ تقاتلون فرسان أهل المصر وأهل البصائر وقوماً مستميتين ، لا يبرز إليهم منكم أحد ، والله لو لمْ ترموهم إلاّ بالحجارة لقتلتموهم . فقال ابن سعد : صدقت . ثمّ أرسل إلى النّاس مَن يعزم عليهم أنْ لا يبارز رجل منكم رجلاً منهم .

وحمل شمر في الميسرة على ميسرة أصحاب الحسين (عليه السلام) ، فثبتوا له وطاعنوه ، وحملوا على الحسين (عليه السلام) وأصحابه من كلّ جانب ، وقاتلهم أصحاب الحسين (عليه السلام) قتالاً شديداً ، فأخذت خيلهم تحمل ، وإنّما هي اثنان وثلاثون فارساً ، فلا تحمل على جانب من خيل الأعداء إلاّ كشفته ، فلمّا رأى ذلك عزرة بن قيس ـ وهو على خيل الأعداء ـ بعث إلى ابن سعد : أما ترى ما تلقى خيلي هذا اليوم من هذه العدّة اليسيرة ؟! ابعث إليهم الرّجال والرّماة .

وقاتل أصحاب الحسين (عليه السلام) القوم أشدّ قتال خلقه الله حتّى انتصف النّهار ، فبعث ابن سعد الحُصين بن تميم في خمسمئة من الرّماة ، فاقتتلوا حتّى دنوا من الحسين (عليه السلام) وأصحابه ، فلمّا رأوا صبر أصحاب الحسين (عليه السلام) ، تقدّم الحُصين إلى أصحابه أنْ يرشقوا أصحاب الحسين (عليه السلام) بالنّبل ، فرشقوهم فلمْ يلبثوا أنْ عقروا خيولهم وجرحوا الرّجال ، وبقي الحسين (عليه السلام) وليس معه فارس ،


الصفحة ( 102 )

وحمل شمر حتّى بلغ فسطاط الحسين (عليه السلام) ، فطعنه بالرمح ونادى : عليّ بالنّار حتّى أحرق هذا البيت على أهله . فصاحت النّساء وخرجنَ ، وصاح به الحسين (عليه السلام) : (( أنت تحرق بيتي على أهلي ؟! أحرقك الله بالنّار )) . فقال حميد بن مسلم : أتقتل الولدان والنّساء ؟! والله ، إنّ في قتل الرّجال لما يرضى به أميرك . فلمْ يقبل ، فأتاه شبث بن ربعي فقال : أفزعنا النّساء ، ثكلتك اُمّك ! فاستحيا وانصرف .

وكان يُقتل من أصحاب الحسين (عليه السلام) الواحد والاثنان فيبين ذلك فيهم لقلّتهم ، ويُقتل من أصحاب ابن سعد العشرة فلا يبين ذلك فيهم لكثرتهم .

قَـلَّ الصّحابـةُ غـيرَ أنّ   قليلـَهُمْ غـيرُ القَلـيلِ

منْ كلِّ أبيضَ واضحِ الـ   ـحَسَبينِ مَعدُومِ المثيلِ

المجلس السّادس والخمسون

لمّا كان يوم عاشوراء وحضر وقت صلاة الظهر ، قال أبو ثمامة الصّيداوي للحسين (عليه السلام) : يا أبا عبد الله ، نفسي لنفسك الفداء ، هؤلاء قد اقتربوا منك ، ولا والله لا تُقتل حتّى اُقتل دونك ، واُحبّ أنْ ألقى الله ربّي وقد صلّيت هذه الصّلاة . فرفع الحسين (عليه السلام) رأسه إلى السّماء ، وقال : (( ذكرتَ الصّلاة جعلك الله من المصلّين الذّاكرين ، نعم هذا أول وقتها )) . ثمّ قال : (( سلوهم أنْ يكفّوا عنّا حتّى نصلّي )) . ففعلوا ، فقال لهم الحُصين بن تميم : إنّها لا تُقبل . فقال له حبيب بن مظاهر : زعمتَ لا تُقبل الصّلاة من آل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأنصارهم وتُقبل منك يا خمّار !

وقال الحسين (عليه السلام) لزهير بن القَين وسعيد بن عبد الله الحَنفي : (( تقدّما أمامي حتّى اُصلّي )) . فتقدّما أمامه في نحو نصف من أصحابه حتّى صلّى بهم صلاة الخوف ، فوصل إلى الحسين (عليه السلام) سهم ، فتقدّم سعيد بن عبد الله ووقف يقيه من النّبال بنفسه ما زال ولا تخطّى ، فما زال يُرمى

 


الصفحة ( 103 )

بالنّبل حتّى سقط إلى الأرض وهو يقول : اللهمّ العنهم لعن عاد وثمود . اللهمّ بلّغ نبيّك عنّي السّلام وأبلغه ما لقيتُ من ألم الجراح ، فإنّي أردتُ ثوابك في نصر ذرّيّة نبيّك .

وفي رواية : أنّه قال : اللهمَّ ، لا يعجزك شيء تريده ، فأبلغ محمّداً (صلّى الله عليه وآله) نصرتي ودفعي عن الحسين (عليه السلام) ، وارزقني مرافقته في دار الخلود . ثمّ قضى نحبه رضوان الله عليه ، فوُجِد فيه ثلاثة عشر سهماً سوى ما به من ضرب السّيوف وطعن الرّماح ، وفيه وفي الحُرّ وزهير يقول الشاعر :

سـعيدَ بـنَ عَـبدِ الله لا iiتَـنسينَهُ   ولا الحُرَّ إذ آسى زهيراً على قصرِ
فـلَو وقـفتْ صُـمُّ الجبالِ 
iiمكانهُمْ   لمادتْ على سهلٍ ودُكّتْ على iiوعرِ
فـمِنْ قـائمٍ يستعرضُ النَّبلَ 
iiوجهُهُ   ومِـنْ مُـقدمٍ يلقَى الأسنَّةَ بالصّدرِ

وتقدّم سويد بن عمرو بن أبي المطاع ـ وكان شريفاً كثير الصّلاة ، شجاعاً مجرّباً في الحروب ـ فجعل يرتجز ويقول :

أقـدمْ حسينُ اليومَ تلقَى أحمدَا   وشيخَكَ الحَبرَ عليّاً ذا iiالنَّدَى
وحَـسَناً كالبدرِ وافَى 
iiالأسعدَا   وعـمَّكَ القرْمَ الهُمامَ الأرشدَا
حـمزةَ لـيْثَ الله يُدعَى أسَدا   وذا الـجناحَينِ تـبوّا مـقْعدَا

في جنّة الفردوسِ يعلُوا صعّدَا

فقاتل قتال الأسد الباسل ، وبالغ في الصّبر على الخطب النّازل حتّى سقط بين القتلى وقد اُثخن بالجراح ، فلم يزل كذلك وليس به حراك حتّى سمعهم يقولون : قُتل الحسين ، فتحامل وأخرج سكّيناً من خُفّه وجعل يُقاتل حتّى قُتل رضوان الله عليه ، فكان آخر مَن قُتل من أصحاب الحسين (عليه السّلام) .

وعانَقـُوا شَغَـفاً بيضَ الظُّبا فكأنْ   قدْ عانَقـُوا ثَمّ بيضاً خُـرّداً عـُرُبَا

ثَوَوا عَطاشَى على البوغاء تحسَبُهمْ   تحتَ الدُّجَى في الفيافي الأنجُمَ الشُّهبَا


الصفحة ( 104 )

المجلس السّابع والخمسون

لمّا كان يوم عاشوراء ، برز مسلم بن عوسجة الأسدي ، وهو صحابي رأى النّبي (صلّى الله عليه وآله) ، وكان شريفاً سريّاً عابداً متنسّكاً فارساً شجاعاً ، وكان ممَّن كاتب الحسين (عليه السلام) من الكوفة ووفّى له وأخذ البيعة له عند مجيء مسلم بن عقيل إلى الكوفة . ولمّا خَرَج مسلم لحرب ابن زياد ، عقد له على ربع مذحج وأسد ، فلمّا قُتل مسلم وهاني اختفى مدّة ثمّ أتى سرّاً إلى الحسين (عليه السلام) مع حبيب بن مظاهر ، فكانا يسيران الليل ويكمنان النّهار حتّى وصلا إليه بكربلاء واستشهدا بين يدَيه .

ولمّا خطب الحسين (عليه السلام) أصحابه ليلة العاشر من المحرّم وقال لهم : (( قد أذنتُ لكم فانطلقوا جميعاً في حلّ ليس عليكم منّي ذمام ، وهذا الليل قد غَشيكم فاتّخذوه جملاً ، وليأخذ كلّ واحد منكم بيد رجل من أهل بيتي ، وتفرّقوا في سواد هذا الليل وذروني وهؤلاء القوم ؛ فإنّهم لا يريدون غيري )) . وتكلّم إخوته وأبناؤه وبنو أخيه وسائر بني هاشم وأصحابه بما شكرهم الله تعالى عليه ورسوله (صلّى الله عليه وآله) ، وشكرهم الدّين وأهله وأبقى لهم مجداً وفخراً وثناءً وذكراً لا يبليه مرور الليالي والأيّام ، وكانوا قُدوة الرّجال في الوفاء والإباء وكرم النفوس وعلوّ الهِمم ، كان من جملة مَن تكلّم مسلم بن عوسجة فقال : أنحن نخلّي عنك وقد أحاط بك هذا العدوّ ، ولم نُعذر إلى الله في أداء حقّك ! لا والله ، لا يراني الله أبداً وأنا أفعل ذلك حتّى أكسر في صدورهم رمحي ، واُضاربهم بسيفي ما ثبت قائمه بيدي ، ولو لم يكن معي سلاح لقذفتهم بالحجارة ولم اُفارقك أو أموت معك .

ولمّا اشتدّ القتال يوم عاشوراء ، لم يزد مسلم بن عوسجة إلاّ جرأة وثباتاً وصبراً ووفاء ، فكان يحمل على القوم وهو يرتجز ويقول :

إنْ تسألُوا عنّي فإنّي ذو لَبدْ   منْ فرعِ قومٍ منْ ذُرَى بنيْ أسَدْ

فمَنْ بغانَا حائدٌ عنْ الرَّشدْ   وكـافـرٌ بدينِ جبـّارٍ صَـمدْ


الصفحة ( 105 )

فقاتل قتالاً شديداً .

ثم حمل عمرو بن الحجّاج في أصحابه على ميسرة الحسين (عليه السلام) من نحو الفرات ، وكان مسلم بن عوسجة في الميسرة ، فاضطربوا ساعة فصُرع مسلم وبقي به رمق ، وانصرف عمرو بن الحجّاج وأصحابه ، وانقطعت الغبرة فإذا مسلم صريع ، فمشى إليه الحسين (عليه السلام) ومعه حبيب بن مظاهر فقال الحسين (عليه السلام) : (( رحمك الله يا مسلم ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً(1) )) . ودنا منه حبيب فقال : عزّ عليّ مصرعك يا مسلم ، أبشر بالجنّة . فقال له مسلم قولاً ضعيفاً : بشّرك الله بخير . ثمّ قال له حبيب : لولا أنّي أعلم أنّي في الأثر من ساعتي هذه لأحببتُ أنْ توصيني بكلِّ ما أهمّك . فقال له مسلم : فإنّي اُوصيك بهذا ـ وأشار إلى الحسين (عليه السلام) ـ فقاتِل دونه حتّى تموت . فقال له حبيب : لأنعمنّك عيناً . ثمّ مات رضوان الله عليه .

صَالُوا وجالُوا وأدَّوا حقَّ سيّدِهمْ   في موقفٍ عقَّ فيه الوالدَ الوَلدُ

وشاقـَهمْ ثمرُ العُقبَى فأصبحَ في   صدورِهمْ شجرُ الخطِّي يختَضدُ

المجلس الثامن والخمسون

لمّا كان يوم عاشوراء ، خرج زهير بن القَين البجلي ، وهو من أهل الكوفة وكان شريفاً في قومه ، وكان في أول أمره عثمانيّاً ، فحجّ في تلك السّنة التي توجّه الحسين (عليه السلام) فيها إلى العراق ، فلمّا رجع من الحجّ جمعه الطريق مع الحسين (عليه السلام) ، فصار من أوليائه بعد ما كان من أعدائه .

وهكذا تكون الأعمال بخواتيمها لا بمبادئها ، فكم من رجل كان أول أعماله خيراً ثمّ خُتم له بسوء ، وكم من رجل كان أول أعماله سيّئاً ثمّ خُتم له بخير كما جرى لزهير بن القَين والحُرّ بن يزيد ؛ فزهير كان من أعداء الحسين (عليه السلام) ، والحُرّ خرج لحربه ومنعه عن الرجوع وجَعْجَعَ به ثمّ صار من أوليائه وأنصاره ، وفدياه بأنفسهما حتّى قُتِلا بين يدَيه ، ونالا كرامة الشهادة وأعظم السّعادة

ـــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الأحزاب / 23 .

الصفحة ( 106 )

ولمّا خطب الحسين (عليه السلام) أصحابه عند ملاقاة الحُرّ ، قام زهير فقال : قد سمعنا ـ هداك الله يابن رسول الله ـ مقالتك ، والله لو كانت الدّنيا لنا باقية وكنّا فيها مخلّدين ، لآثرنا النّهوض معك على الإقامة فيها . ولمّا خطبهم الحسين (عليه السلام) ليلة العاشر من المحرّم وأذن لهم في التفرّق عنه ، قام في جملة مَن قام زهير بن القَين ، وقال : والله يابن رسول الله ، لوددتُ أنّي قُتلت ثُمّ نُشرت ألف مرّة ، وأنّ الله يدفع بذلك القَتْل عنك وعن هؤلاء الفتية من أهل بيتك .

ولمّا صفّ الحسين (عليه السلام) أصحابه للقتال يوم عاشوراء ، جعل زهيراً على الميمنة ، فبرز راكباً على فرس ذَنوب وهو شاكٍ في السّلاح ، وجعل يرتجز ويقول :

أنَـا زُهيرٌ وأنا ابنُ iiالقَينِ   أذودُكمْ بالسّيفِ عنْ iiحُسينِ
إنّ حـُسيناً أحَـدُ 
iiالسّبطينِ   منْ عِترةِ البَرِّ التقيِّ iiالزَّينِ
ذاك رَسولُ اللهِ غيرُ 
iiالمَينِ   أضربكُمْ ولا أرَى منْ iiشَينِ

يا ليتَ نَفسيْ قُسمتْ قِسمينِ

فقاتل قتالاً شديداً حتّى قتل تسعة عشر رجلاً ثمّ قُتل رضوان الله عليه ، فقال الحسين (عليه السلام) حين صُرع زهير : (( لا يبعدك الله يا زهير )) .

وبرز حبيب بن مظاهر ( أو مظهر الأسدي ) ، وكان صحابيّاً رأى النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ، وصحب أمير المؤمنين (عليه السّلام) وشهد معه حروبه كلّها وكان من خاصّته وحملة علومه ، وكان حبيب ممَّن كاتب الحسين (عليه السلام) ، ولمّا ورد مسلم بن عقيل الكوفة وأخذت الأنصار تختلف إليه ، كان ممَّن خطب فيهم حبيب بن مظاهر ، وجعل هو ومسلم بن عوسجة يأخذان البيعة للحسين (عليه السّلام) في الكوفة . فلمّا خذل الخائنون مسلم بن عقيل ، اختفى حبيب ومسلم بن عوسجة ، فلمّا ورد الحسين (عليه السلام) كربلاء ، خرجا إليه يسيران الليل ويكمنان النّهار حتّى وصلا إليه . فلمّا كان القتال ، برز حبيب وهو يرتجز ويقول :


الصفحة ( 107 )

أنَـا حـبيبٌ وأبي iiمظهّرُ   فارسُ هيجاءٍ وحربٍ تسْعرُ
أنـتُمْ أعـدُّ عِـدَّةٍ وأكـثرُ   ونـحنُ أعلى حُجّةٍ 
iiوأظهرُ
وأنـتُمُ عـندَ الوفاءِ 
iiأغدَرُ   ونـحنُ أوفَى منكُمُ iiوأصبرُ

حـقّاً وأتْـقَى منكُمُ وأعذَرُ

فقاتل قتالاً شديداً وقتل جمعاً كثيراً ، فحمل عليه رجل من بني تميم فطعنه فذهب ليقوم فضربه الحُصين بن تميم على رأسه بالسّيف فوقع ، ونزل إليه التميمي فاحتزّ رأسه ، فهَدَّ مقتلُه الحسين (عليه السلام) وقال : (( عند الله أحتسب نفسي وحماة أصحابي )) .

جادُوا بأنْفسِهمْ عنْ نفسِ سيِّدهمْ   وقدْ رأوا لبثَهُمْ من بعدهِ عارَا

سبْعُون مولَى كريماً ما بكَى لهمُ   باكٍ ولا أحدٌ يوماً لهمْ وارَى

المجلس التاسع والخمسون

لمّا لم يبقَ مع الحسين (عليه السلام) سوى أهل بيته ، خرج علي بن الحسين الأكبر ، وكان من أصبح النّاس وجهاً وأحسنهم خلقاً ، وكان عُمرُه تسع عشرة سنة ، وقيل خمساً وعشرين سنة ، وفيه يقول الشاعر :

لمْ ترَ عينٌ نظرتْ مثلَهُ   منْ مُحتـَفٍ يمشيْ ومنْ ناعلِ

لا يُؤثرُ الدّنيا على دِينهِ   ولا يَبـيعُ الـحـقَّ بالباطـلِ

وهو أول قتيل يوم كربلاء من آل أبي طالب ، فاستأذن أباه في القتال فأذن له ، ثمّ نظر إليه نظرة آيس منه وأرخى عينيه فبكى ، ثمّ رفع سبّابتيه نحو السّماء وقال : (( اللهمَّ ، كنْ أنت الشهيد عليهم ، فقد برز إليهم غلام أشبه النّاس خَلقاً وخُلقاً ومَنطِقاً برسولك ، وكنّا إذا اشتقنا إلى نبيّك نظرنا إليه )) . ثمّ رفع صوته


الصفحة ( 108 )

وتلا : ( إِنّ اللّهَ اصْطَفَى‏ آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرّيّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ )(1) .

فشدّ عليٌ على النّاس وهو يقول :

 أنَا عليُ بنُ الحُسينِ بنِ عليْ   نحنُ وبـيتِ اللهِ أولـَى بالنَّـبيْ

تاللهِ لا يحكمُ فينا ابنُ الدَّعيْ   أضربُ بالسّيفِ اُحاميْ عن أبيْ

ضربَ غُلامٍ هاشميٍّ علويْ

فجعل يشد عليهم ثمّ يرجع إلى أبيه فيقول : يا أباه ، العطش . فيقول له الحسين (عليه السلام) : (( اصبر حبيبي ، فإنّك لا تمسي حتّى يسقيك رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بكأسه )) .

وفي رواية : أنّه قال : (( يا أبة ، العطش قتلني وثقل الحديد أجهدني ، فهل إلى شربة من الماء سبيل ؟ )) . فبكى الحسين (عليه السلام) وقال : (( يا غوثاه ! يا بُنَي ، من أين آتي لك بالماء ؟ قاتِل قليلاً فما أسرع ما تلقى جدّك محمّد (صلّى الله عليه وآله) فيسقيك بكأسه الأوفى شربةً لا تظمأ بعدها أبداً )) .

فجعل يكرّ كرّة بعد كرّة والأعداء يتّقون قتله ، فنظر إليه مرّة بن منقذ العبدي فقال : عليّ آثام العرب إنْ هو فعل مثل ما أراه يفعل ومرَّ بي إنْ لم أثكله اُمّه . فمرّ يشدّ على النّاس كما كان يفعل ، فاعترضه مرّة بن منقذ وطعنه بالرمح ، وقيل بل رماه بسهم فصرعه ، فنادى : يا أبتاه عليك السّلام ، هذا جدّي يُقرِئك السّلام ويقول لك : (( عجّل القدوم علينا )) . واعتوره النّاس فقطّعوه بأسيافهم ، فجاء الحسين (عليه السلام) حتّى وقف عليه وقال : (( قتل الله قوماً قتلوك يا بُنَي ، ما أجرأهم على الرّحمن وعلى انتهاك حُرمة الرّسول ! على الدّنيا بعدك العفا )) .

وخرجت زينب بنت علي (عليهما السّلام) وهي تنادي : يا حبيباه ! ويابن أخاه ! وجاءت فأكبّت عليه ، فجاء الحسين (عليه السلام) فأخذ بيدها وردّها إلى الفسطاط ، وأقبل بفتيانه وقال : (( احملوا أخاكم )) . فحملوه من مصرعه حتّى وضعوه بين يدَي الفسطاط الذي كانوا يقاتلون أمامه .

يا كوكباً مَا كان أقصرَ عُمرَهُ   وكذا تكونُ كواكِبُ الأسْحارِ

جاورتُ أعْدائـي وجاوَر ربَّهُ   شتّان بينَ جِـوارِهِ وجِواري

______________________
(1) سورة آل عمران / 33 ـ 34 .
 
 
الصفحة السابقةالفهرسالصفحة اللاحقة

 

طباعة الصفحةبحث