الصفحة ( 109 )
المجلس الستّون
لمّا كان يوم عاشوراء ، ولمْ يبقَ مع الحسين (عليه
السّلام) سوى أهل بيته ، خرج القاسم بن
الحسن بن علي بن أبي طالب (عليهم السّلام) ، وهو غلام لم يبلغ الحُلم ، فلمّا
نظر الحسين (عليه السّلام) إليه قد برز ، اعتنقه وجعلا يبكيان ، ثمّ استأذن عمّه في
المبارزة فأبى أنْ يأذن له ، فلمْ يزل الغلام يُقبّل يدَيه ورجليه حتّى
أذن له
، فخرج ودموعُه تسيل على خدّيه وهو يقول :
إنْ تنْكرُونيْ فأنَا إبنُ(1) الحَسنْ
سبطِ النّبيِّ المُصطفَى والمُؤتمَنْ
هذا حُسينٌ كالأسيرِ المُرْتهنْ بين
اُناسٍ لا سُقوْا صَوبَ المُزنْ
فقاتل قتالاً شديداً .
قال حميد بن مسلم : خرج علينا غلام كأنّ وجهُه شقّة
قمر ، وفي يده سيف وعليه قميص و إزار وفي رجليه نعلان ، فمشى يضرب بسيفه
، فانقطع شِسْعُ إحدى نعليه ـ ولا أنسى أنّها كانت اليسرى ـ فوقف ليشدّها
، فقال
لي عمرو بن سعد بن نُفَيل الأزدي : والله ، لأشدّنّ عليه . فقلتُ : سُبحان الله
! وما
تريد بذلك ؟ والله ، لو ضربني ما بسطتُ إليه يدي ، يكفيك هؤلاء الذين تراهم قد
احتوشوه . فقال : والله ، لأشدّن عليه . فشدّ عليه فما ولّى حتّى ضرب رأسه بالسيف
ففلقه ، ووقع الغلام إلى الأرض لوجهه ونادى : يا عمّاه ! فجلى الحسين
(عليه السّلام) كما
يجلي الصقر ، ثمّ شدّ شدّة ليث أغضب فضرب عمرو بن سعد بن نُفيل بالسيف
فاتّقاها بالسّاعد فقطعها من لدن المرفق ، فصاح صيحةً سمِعها أهل العسكر
، ثمّ تنحّى عنه الحسين (عليه السّلام) . وحمل أهل الكوفة ليستنقذوه فوطئت الخيل عَمراً حتّى
مات ، وانجلت الغبرة فإذا بالحسين (عليه السّلام) قائم على رأس الغلام وهو يفحص
برجليه ، والحسين (عليه السّلام) يقول : (( بُعداً لقوم قتلوك
، ومَن خصمهم يوم القيامة فيك
جدّك وأبوك )) .
ـــــــــــــــــــــــــــ
(1) قُطعت همزة ( ابن ) للضرورة الشعرية ، على أنّ بعض
المصادر ذكرت الشطر بنحو آخر ، هو ( . . . فأنا فرع الحسن ) .
(موقع معهد الإمامين الحسنين)
الصفحة
( 110 )
ثم قال (عليه السّلام) : (( عزّ والله على عمّك أنْ تدعوه فلا يجيبك
، أو يجيبك فلا ينفعك
، صوتٌ والله كثُر واتره وقلّ ناصره )) . ثمّ حمله ووضع صدره على صدره
، وكأنّي أنظر إلى رجلَي الغلام يخطّان الأرض ، فجاء به حتّى ألقاه مع ابنه علي والقتلى من
أهل بيته . فسألتُ عنه ، فقيل لي هو القاسم بن الحسن بن علي بن أبي طالب
(عليهم السّلام) .
وصاح الحسين (عليه السّلام) في تلك الحال : (( صبراً يا بني عُمومتي
،
صبراً يا أهل بيتي ، فوالله ، لا رأيتم هواناً بعد هذا اليوم أبداً )) .
تـحُوطُهُ من بنيْ عدنانَ iiأغلمةٌ بيضُ الوجُوهِ كرامٌ سادةٌ iiرُؤسَا
وكـلُّ ذيْ طلعةٍ غرّاءَ iiمُشرقةٍ من نورِ طلعتِهِ بدرُ السّما اقتبَسا
يلقَى السّيوفَ بوجهٍ شانَ iiطلعتَهُ وقعُ السّيوفِ ونحرٍ بالقَنا iiغُرسَا
المجلس الواحد والستّون
وُلد العبّاس بن أمير المؤمنين (عليه السّلام) سنة ست وعشرين من الهجرة ، وعاش مع أبيه
أمير المؤمنين (عليه السّلام) أربع عشرة سنة ، وحضر بعض الحروب فلمْ يأذن له أبوه في
النّزال . قُتل مع أخيه الحسين (عليه السّلام) بكربلاء وعمره أربع وثلاثون سنة
،
وكان يكنّى أبا الفضل ، ويُلقَّب بالسّقاء وقمر بني هاشم ، وقُتل معه بكربلاء ثلاثة
إخوة لاُمّه وأبيه ، وكانت له يوم كربلاء مقامات مشهودة ومواقف عظيمة .
كانت
له صفات عالية وأعمال جليلة امتاز بها ؛ منها أنّه كان صاحب لواء الحسين
(عليه السّلام) ، واللواء هو العلم الأكبر ولا يحمله إلاّ الشجاع الشريف في العسكر
، ومنها أنّه كان أيّداً ( أي قويّاً ) شجاعاً فارساً وسيماً جسيماً ، يركب الفرس
المطهَّم ورجلاه تخطّان في الأرض ،
ومنها أنّه لمّا جمع الحسين (عليه السّلام) أهل بيته
وأصحابه ليلة العاشر من المحرّم وخطبهم فقال في خطبته :
(( أمّا بعد ، فإنّي لا
أعلم أصحاباً
الصفحة ( 111 )
أوفى ولا خيراً من أصحابي ، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي
، وهذا
الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملاً ، وليأخذ كلّ واحد منكم بيد رجل من أهل بيتي
، وتفرّقوا في سواد هذا الليل وذروني وهؤلاء القوم ؛ فإنّهم لا يريدون غيري
)) ،
قام إليه العبّاس (عليه السّلام) فقال : ولِمَ نفعل ذلك ؟! لنبقى بعدك ! لا أرانا الله ذلك
أبداً . ثمّ تكلّم أهل بيته وأصحابه بمثل هذا ونحوه .
ومنها أنّه لمّا أخذ
عبد الله بن حرام ، ابن خال العبّاس ، أماناً من ابن زياد للعبّاس وإخوته من
اُمّه ، قالوا : لا حاجة لنا في الأمان ؛ أمان الله خير من أمان ابن سميّة
،
ومنها أنّه نادى شمر : أين بنو اُختنا ؟ أين العبّاس وإخوته ؟ فلم يُجبه
أحد
، فقال لهم الحسين (عليه السّلام) : (( أجيبوه وإنْ كان فاسقاً
؛ فإنّه بعض أخوالكم )) . قال له
العبّاس : ما تريد ؟ فقال : أنتم يا بني اُختي آمنون . فقال له العبّاس : لعنك الله
ولعن أمانك ، أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له ؟! وتكلّم إخوته بنحو كلامه
ثمّ رجعوا .
ومنها أنّه لمّا اشتدّ العطش بالحسين (عليه السّلام) وأصحابه ، أمر أخاه
العبّاس فسار في عشرين راجلاً يحملون القِرب وثلاثين فارساً ، فجاؤوا ليلاً
حتّى دنوا من الماء ، وأمامهم نافع بن هلال الجملي يحمل اللواء ، فقال عمرو
بن الحجّاج : مَن الرجل ؟ قال : نافع . قال : ما جاء بك ؟ قال : جئنا نشرب من هذا
الماء الذي حلأتمونا عنه . قال : فاشرب هنيئاً . قال : لا والله ، لا أشرب منه
قطرة والحسين عطشان هو وأصحابه . فقالوا : لا سبيل إلى سقي هؤلاء ، إنّما
وُضعنا في هذا المكان لنمنعهم الماء . فقال نافع لرجاله : إملؤوا قِربكم
. فملؤوها ، وثار إليهم عمرو بن الحجّاج وأصحابه ، فحمل عليهم العبّاس ونافع بن
هلال فكشفوهم وأقبلوا بالماء ، ثمّ عاد عمرو بن الحجّاج وأصحابه وأرادوا
أنْ
يقطعوا عليهم الطريق ، فقاتلهم العبّاس وأصحابه حتّى ردّوهم ، وجاؤوا بالماء
إلى الحسين (عليه السّلام) .
ومنها أنّه لمّا نشبت الحرب تقدّم أربعة من أصحاب الحسين
(عليه السّلام) وهم الذين جاؤوا من الكوفة ومعهم فرس نافع بن هلال ، فشدّوا على
النّاس بأسيافهم ، فلمّا وغلوا فيها عطف عليهم النّاس واقتطعوهم عن أصحابهم ، فندب
الحسين (عليه السّلام) لهم أخاه العبّاس ، فحمل على القوم وحده فضرب فيهم بسيفه حتّى
فرّقهم عن أصحابه ، ووصل إليهم فسلّموا عليه
الصفحة ( 112 )
وأتى بهم ولكنّهم كانوا جرحى ، فأبوا عليه أنْ يستنقذهم سالمين ، فعاودوا
القتال وهو يدفع عنهم حتّى قُتلوا في مكان واحد ، فعاد العبّاس إلى أخيه
وأخبره بخبرهم .
ومنها أنّه شبه عمّه جعفر الطيّار الذي قُطعت يمينه ويساره
في حرب مؤتة مجاهداً في سبيل الله ، وكذلك العبّاس قُطعت يمينه ويساره
مجاهداً في سبيل الله في نصرة أخيه الحسين (عليه السّلام) يوم عاشوراء :
لا تَـنسَ لـلعبّاسِ حُسنَ iiمَقامِهِ فـي الرّوعِ عندَ الغارةِ iiالشَّعواءِ
واسَـى أخـاهُ بـها وجادَ iiبنفْسِهِ فـي سَـقي أطفال لهُ iiونساءِ
ردَّ الاُلوفَ على الاُلوفِ مُعارضاً حـدّ الـسّيوفِ بـجبهةٍ غَـرّاءِ
المجلس الثاني والستّون
قال أمير المؤمنين (عليه السّلام) لأخيه عقيل ـ وكان نسّابة عالماً بأخبار
العرب وأنسابهم ـ : (( ابغني امرأة قد ولدَتها الشّجعان من العرب ؛ لأتزوّجها فتلد
لي غلاماً فارساً )) . فقال له : أين أنت عن فاطمة بنت حزام الكلابية ـ وهي
المكنّاة اُمّ البنين ـ فإنّه ليس في العرب أشجع من آبائها ولا أفرس . فتزوّجها
أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، فولدت له العبّاس ثمّ عبد الله ثمّ جعفر ثمّ عثمان
.
وحضر
هؤلاء الإخوة الأربعة مع أخيهم الحسين (عليه السّلام) يوم كربلاء وأبلَوا في نصرته
بلاءً حسناً ، وجاهدوا أمامه حتّى قُتلوا جميعهم ، وكان أحسنهم بلاءً وأعظمهم
جهاداً ومواساة لأخيه الحسين (عليه السّلام) أبو الفضل العبّاس ، وهو أكبرهم وكان عمره
يومئذ أربعاً وثلاثين سنة .
ولمّا رأى العبّاس (عليه السّلام) كثرة القتلى من أهله ، قال
لإخوته الثلاثة هؤلاء : يا بني اُمّي ، تقدّموا لأحتسبكم عند الله . وفي
رواية : حتّى أراكم قد نصحتم لله ورسوله . فتقدّم عبد الله بن علي ، وعمره خمس
وعشرون سنة فقاتل قتالاً شديداً حتّى قُتل ، فتقدّم بعده
الصفحة ( 113 )
أخوه جعفر بن علي ، وعمره تسع عشرة سنة فقاتل حتّى قُتل ،
فبرز بعده
أخوهما
عثمان بن علي ، وعمره إحدى وعشرون سنة فقام مقام إخوته وقاتل حتّى قُتل ، وبرز من بعدهم أخوهم أبو الفضل العبّاس وقاتل قتالاً شديداً ، واشتدّ العطش
بالحسين (عليه السّلام) ، فركب المسنّاة يريد الفرات وبين يديه أخوه العبّاس ، فأحاط
القوم بالعبّاس فاقتطعوه ، فجعل العبّاس (عليه السّلام) يُقاتلهم وحده ، فضربه زيد بن
ورقاء الحنفي على يمينه فقطعها ، فأخذ السّيف بشماله وهو يرتجز ويقول :
واللهِ إنْ قَطعْتمُوا يَمينِي إنّي
اُحامي أبداً عنْ دِيني
وعنْ إمامٍ صادقِ اليقينِ نجلِ
النَّبيِّ الطّاهرِ الأمينِ
فضربه حكيم بن الطفيل على شماله فقطعها ، فقال :
يا نفسُ لا تَخشَي منَ الكفّارِ
وأبشِري برحمةِ الجبّارِ
مـعَ النبيِّ السيّدِ المُخـتارِ
قدْ قَطعُوا ببغيهمْ يَساري
فأصلِهمْ يا ربِّ حَرَّ النّارِ
فضربه آخر بعمود من حديد فقتله ، فبكى الحسين (عليه
السّلام) لقتله بكاءً شديداً
.
ولنعم ما قال القائل :
أحـقُّ النّاس أنْ يُبكى iiعليهِ فتىً أبكى الحسينَ iiبكربلاءِ
أخـوهُ وابـنُ والـدِهِ iiعليٍّ أبو الفضلِ المُضرّجِ بالدّماءِ
ومَـنْ واساهُ لا يُثنيهِ iiشيءٌ وجـادَ لهُ على عَطشٍ iiبماءِ
وكانت اُمّ البنين ـ اُمّ هؤلاء الإخوة الأربعة ـ بعد قتلهم تخرج كلّ يوم
إلى
البقيع وتحمل معها عبيد الله ابن ولدها العبّاس ، فتندب أولادها الأربعة
خصوصاً العبّاس أشجى ندبة وأحرقها ، فيجتمع النّاس و يستمعون بكاءها
وندبتها ، فكان مروان
الصفحة ( 114 )
ابن الحكم ـ على شدّة عداوته لبني هاشم ـ يجئ فيمن يجئ فلا يزال يسمع ندبتها
ويبكي .
رَقََّ لها الشّامتُ ممّا بها ما حالُ مَنْ رقَّ لهُ الشّامتُ
فممّا كانت ترثي به ولدها العبّاس قولها :
يا مَنْ رأى العبّاسَ
iiكرْ رَ على جماهير النَّقَدْ(1)
ووراهُ مـنْ أبناءِ iiحيـْ ـدَرِ كـلُّ ليثٍ ذي iiلُبدْ
اُنـبئتُ أنّ ابني اُصيـْ ـبَ بـرأسهِ مقطوعَ iiيدْ
ويـليْ على شبليْ iiأمَا لَ برأسهِ ضربُ iiالعَمدْ
لـو كان سيفُكَ في يديـْ ـكَ لـمَا دَنـا منهُ iiأحدْ(2)
ومن رثائها في أولادها الأربعة قولها :
لا تـدعونّيْ ويـكِ اُمّ الـبنينْ تـذكّريني بـليوثِ iiالـعرينْ
كـانتْ بـنونٌ لـي اُدعى بهمْ والـيوم أصبحتُ ولا منْ iiبنينْ
أربـعةٌ مـثلُ نـسورِ iiالرُّبى قد واصلوا الموتَ بقطعِ الوتينْ
تـنازعُ الـخرصانُ iiأشلاءَهُمْ وكـلُّهمْ أمـسَى صريعاً iiطعينْ
يـا لـيتَ شعري أكما iiأخبرُوا بـأنّ عـباساً قـطيعُ iiاليمينْ
* * *
______________________
(1) النَقَد : جنس من الغنم قصار الأرجل قباح الوجوه ،
وزاد البيت حسناً أنّ العبّاس من أسماء الأسد . ـ المؤلّف
ـ
(2) هكذا ورد البيت في مصدره الأساس ومَن أخذ عنه ،
ولعل ضمائر المخاطَب في بعض مفرداته تكون الى ضمائر الغائب أقرب ؛
تساوقاً مع الأبيات المتقدّمة . (موقع معهد الإمامين الحسنين)
الصفحة ( 115 )
المجلس الثالث والستّون(1)
لما رأى العبّاس بن علي (عليه السّلام) وحدة أخيه الحسين
(عليه السّلام) بعد قتل أصحابه وجملة
من أهل بيته ، قال لإخوته الثلاثة من اُمّه و أبيه ؛ عبد الله وجعفر وعثمان
: تقدّموا لأحتسبكم عند الله تعالى . فتقدّموا حتّى قُتِلوا ، فجاء إلى
أخيه
الحسين (عليه السّلام) واستأذن في القتال فقال له : (( أنت حامل لوائي
)) . فقال له : ضاق صدري
وسئمت الحياة . فقال له الحسين (عليه السّلام) : (( إنْ عزمت
فاستسق لنا ماءً
)) . فأخذ قربته
وحمل على القوم حتّى ملأ القربة ، واغترف من الماء غرفة ثمّ ذكر عطش أخيه
الحسين (عليه السّلام) فرمى بها ، وقال :
يانفسُ منْ بعدِ الحُسينِ هُوني وبعدَهُ لا كُنتِ
أنْ تكوني
هــذا حُسيـنٌ واردُ المَنونِ وتشرَبينَ بـاردَ المَعـينِ
ثم عاد فأخذوا عليه الطريق ، فجعل يضربهم بسيفه وهو يقول :
لا أرهبُ الموتَ إذا الموتُ رَقَى
حتّى اُوارَى في المصاليت لقَى
إنـّي أنا العبّاسُ أغـدو بالـسّقَا
ولا أهـابُ الموتَ يـومَ المُلتقَى
ففرقهم ، فضربه حكيم بن الطفيل على يمينه فبراها ، فأخذ اللواء بشماله وهو
يقول :
واللهِ إنْ قَطعتمُوا يَميني إنّي اُحامي
أبداً عنْ دِيني
______________________
(1) هذه رواية ثانية في مقتل العبّاس (عليه السّلام) وإخوته غير الرواية
السّابقة في المجلس السّابق . ـ المؤلّف ـ
الصفحة ( 116 )
فضربه زيد بن ورقاء على شماله فبراها ، فضمّ اللّواء إلى صدره وهو يقول :
ألا ترَونَ معشرَ الفُجّارِ قدْ قطَعوا ببغيهمْ يساري
فضربه رجل بعمود على رأسه فخرّ صريعاً إلى الأرض ، ونادى بأعلى صوته
: أدركني يا أخي . فانقضّ عليه أبو عبد الله (عليه السّلام) كالصقر ، فرآه مقطوع
اليمين واليسار مرضوخ الجبين مشكوك العين بسهم مثخناً بالجراحة ، فوقف
عليه منحنياً وجلس عند رأسه يبكي حتّى فاضت نفسه الزكيّة .
ثمّ حمل على
القوم فجعل يضرب فيهم يميناً وشمالاً فيفرّون منه كما تفرّ المَعزى إذا شدّ
فيها الذئب .
عبّاسُ كبشَ كتيْبَتي iiوكنانَتي وسَريَّ قومي بلْ أعزَّ iiحُصوني
يـا ساعدي في كلِّ مُعتركٍ بهِ أسـطو وسيفَ حمايَتي iiبيَميني
لمَنْ اللِوا اُعطي ومَن هو جامعٌ شَملي وفي ضنَكِ الزّحامِ iiيَقيني
المجلس الرابع والستّون
روي عن أبي عبد الله الصادق (عليه السّلام) أنّه قال :
(( كان عمّنا العبّاس بن
علي نافذ البصيرة صلب الإيمان ، جاهد مع أبي عبد الله الحسين (عليه
السّلام) وأبلى
بلاءً حسناً ومضى شهيداً )) . وروي عن علي بن الحسين (عليه
السّلام) أنّه نظر يوماً إلى
عبيد الله بن العبّاس بن علي (عليه السّلام) فاستعبر ، ثمّ قال :
(( ما من يوم أشدّ على رسول
الله (صلّى الله عليه وآله) من يوم اُحُد ؛ قُتل فيه عمّه حمزة بن عبد المطّلب
أسد الله وأسد رسوله ، وبعده يوم مؤته ؛ قُتل فيه ابن عمّه جعفر بن
أبي طالب ، ولا يوم كيوم الحسين (عليه السّلام) ؛ ازدلف إليه ثلاثون ألف رجل يزعمون
أنّهم من هذه الاُمّة ، كلٌّ يتقرب إلى الله عزّ وجلّ بدمه ، وهو يذكّرهم بالله فلا
يتّعظون حتّى قتلوه بغياً وظلماً وعدواناً )) . ثمّ قال :
(( رحم الله
الصفحة ( 117 )
العبّاس ، فلقد آثر وأبلى وفدى أخاه بنفسه حتّى قُطِعت يداه
. وإنّ للعبّاس عند
الله تبارك وتعالى منزلة يغبطه بها جميع الشّهداء يوم القيامة ))
.
ولَنعم
ما قال حفيده الفضل بن محمّد بن الفضل بن الحسن بن عبيد الله بن العبّاس
:
إنّـي لأذكـرُ لـلعبّاسِ
iiمـوقفَهُ بـكربلاءَ وهـامُ القومِ iiتُختطفُ
يحمي الحُسينَ ويحميهِ على iiظمأٍ ولا يُـولّي ولا يُـثْنَى iiفـيختلفُ
ولا أرى مـشهداً يـوماً iiكمشهدِهِ مع الحُسينِ عليه الفضلُ والشرفُ
أكـرمْ بـهِ مشهداً بانتْ iiفضيلتُهُ ومـا أضـاعَ لـهُ أفـعالهُ iiخلفُ
* * *
واذكرْ أبا الفضلِ هلْ تُنسَى فضائلُهُ فـي كربلا حينَ جدَّ الأمرُ والتَبسا
واســَى أخـاهُ وفـاداهُ بـمُهجتِهِ وخاضَ في غَمَرات الموتِ iiمُنغمسا
ففزْ أبا الفضلِ بالفضل العظيم ِiiبما أسـديتهُ فـعليكَ الفضلُ قدْ iiحُبسا
قـضيتَ حـقَّ الإخا والدينِ مبتذلاً لـلنفسِ فـي سَقي أطفال له iiونِسا
المجلس الخامس والستّون
لمّا قُتل جميع أنصار الحسين (عليه السّلام) وأهل بيته ، خرج غلام من خباء من
أخبية الحسين (عليه السّلام) ، وهو محمّد بن أبي سعيد بن عقيل بن أبي طالب ، وفي اُذنيه
درّتان ، فأخذ بعود من عيدان الخباء وهو مذعور ، فجعل يلتفت يميناً وشمالاً
وقرطاه يتذبذبان ، فحمل عليه هانئ بن ثبيت الحضرمي فضربه بالسيف فقتله
، فصارت اُمّه شهربانويه تنظر إليه ولا تتكلم كالمدهوشة .
ونادى الحسين (عليه السّلام)
: (( هل من ذابٍّ يذبّ عن حرم رسول الله
(صلّى الله عليه وآله) ؟ هل من موحّدٍ
يخاف الله فينا ؟ هل من مغيث
الصفحة ( 118
يرجو الله في إغاثتنا ؟ هل من معين يرجو ما عند الله في
إعانتنا ؟ )) . وتقدّم إلى باب الخيمة وقال لزينب :
(( ناوليني وَلَدي الصغير حتّى اُودّعه ))
. فاُتي بابنه
عبد الله ـ واُمّه الرباب بنت امرئ القيس ـ فأخذه وأجلسه في حجره ، وأومأ إليه لِيقَبّله
فرماه حرملة بن كاهل ـ أو كاهن ـ الأسدي بسهم فوقع في نحره فذبحه
، فقال (عليه السّلام) لزينب : (( خذيه )) . ثمّ تلقّى الدّم بكفّيه
، فلّما امتلأتا رمى بالدّم نحو السّماء
، ثمّ قال : (( هوّن عليّ ما نزل به أنّه بعين الله
)) . وفي رواية : أنّه صَبّه في الأرض
، ثمّ قال : (( يا ربِّ ، إنْ حبَستَ عنّا النّصر من السّماء
، فاجعل ذلك لما هو خير منه )) . ثمّ حمله حتّى وضعه مع قتلى أهل بيته
. وفي رواية : أنّه حفر له بجفن سيفه
ورمّله بدمه فدفنه .
ومنعـطفاً أهـوَى لتقـبيلِ طفلِهِ
فقبّلَ منه قبلَهُ السّهمُ منْحرَا
لقدْ ولِدا في ساعةٍ هو والرّدَى
ومَن في نحرِهِ السّهمُ كبّرَا
* * *
صبيٌّ وهو بين يدي أبيهِ اُصيبَ فأيُّ ذنبٍ للصَّبيِّ
المجلس السّادس والستّون
لمّا قُتل أنصار الحسين (عليه السّلام) وأهل بيته وبقي وحيداً فريداً وقد أحاط به
القوم ، خرج من عند النّساء عبد الله بن الحسن بن علي (عليهم
السّلام) ، وهو
غلام لم يراهق ، فلحقته زينب بنت علي (عليهما السّلام) لتحبسه ، فقال لها
الحسين (عليه السّلام) : (( احبسيه يا اُختي )) . فأبى وامتنع عليها امتناعاً شديداً
، وجاء يشتد
إلى عمّه الحسين (عليه السّلام) حتّى وقف إلى جنبه وقال : لا اُفارق
عمّي . فأهوى بحر بن كعب إلى الحسين (عليه السّلام)
الصفحة ( 119 )
بالسّيف ، فقال له الغلام : ويلك يابن الخبيثة ! أتقتل عمّي ؟! فضربه بحر بالسيف
فاتّقاها الغلام بيده فأطنّها إلى الجلد فإذا هي معلّقة ، فنادى الغلام
: يا
عمّاه ! ـ أو يا اُمّاه ! ـ فأخذه الحسين (عليه السّلام) فضمّه إلى صدره وقال :
(( يابن أخي ، اصبر
على ما نزل بك واحتسب في ذلك الخير ، فإنّ الله يلحقك بآبائك الصالحين
؛ برسول الله (صلّى الله عليه وآله) وعلي وحمزة وجعفر والحسن صلّى الله
عليهم أجمعين )) . فرماه حرملة بسهم فذبحه وهو في حجر عمه .
لم يُنجِّ الكهولَ سنٌّ ولا الشّبـْ
ـان زهدٌ ولا نجا الأطفال
* * *
هَـبُوا أنّكُمْ قاتلتمُ فقتلتُمُ فما بالُ
أطفال
تُقاسي نبالَها
المجلس السّابع والستّون
لمّا قُتل أنصار الحسين (عليه السّلام) وأهل بيته ، دعا
النّاس إلى البراز
، فلم يزل يقتل
كلَّ مَن برز إليه حتّى قتل مقتلةً عظيمة ، ثمّ حمل على الميمنة وهو يقول :
القتلُ أولَى من ركوبِ العارِ
والعارُ أولى من دخولِ النّارِ
واللهِ منْ هذا وهذا جاري
ثم حمل على الميسرة وهو يقول :
أنا الحسينُ بنُ عليْ آلـيتُ
أنْ لا أنـثنـي
أحمي عيالاتِ أبي
أمضي على دينِ النّبي
ولمّا بقي في ثلاثة من أهله ، قال :
(( ابغوني ثوباً لا يرغب فيه أحد
أجعله تحت
الصفحة ( 120 )
ثيابي ؛ لئلاّ اُجرّد منه بعد قتلي ، فإنّي مقتول مسلوب
)) . فاُتي بتبّان(1)
، قال :
(( لا
، ذاك لباس مَن ضُربت عليه الذلّة ، ولا ينبغي لي أنْ ألبسه ))
. فأخذ ثوباً خَلِقاً
فخرّقه وجعله تحت ثيابه ، فلمّا قُتل جرّدوه منه ، ثمّ استدعى بسراويل من حبرة
يمانية يلمع فيها البصر ، ففزرها ولبسها ؛ وإنّما فزرها لئلاّ يسلبها بعد
قتله ، فلمّا قُتل (عليه السّلام) سلبها منه بحر بن كعب وتركه مجرّداً . وأقبل الحسين
(عليه السّلام) على القوم يدفعهم عن نفسه ، والثلاثة الذين معه يحمونه حتّى قُتل
الثلاثة وبقي وحده ، وقد اُثخن بالجراح في رأسه وبدنه ، فجعل يضاربهم بسيفه
،
وحمل النّاس عليه عن يمينه وشماله ، فحمل على الذين عن يمينه فتفرّقوا ،
ثمّ حمل على الذين عن يساره فتفرّقوا .
قال بعض الرواة : فوالله ، ما رأيت
مكثوراً ( أي مغلوباً ) قط قد قُتل وُلده وأهل بيته وأصحابه ، أربط جأشاً
، ولا
أمضى جناناً ، ولا أجرأ مقدماً منه . والله ، ما رأيت قبله ولا بعده مثله
؛ إنْ كانت الرجّالة لتشدّ عليه فيشدّ عليها بسيفه فتنكشف عن يمينه وعن شماله
انكشاف المعزى إنْ شدّ فيها الذئب . ولقد كان يحمل فيهم ، وقد تكمّلوا ثلاثين
ألفاً ، فينهزمون من بين يدَيه كأنّهم الجراد المنتشر ، ثمّ يرجع إلى مركزه وهو
يقول : (( لا حول ولا قوّة إلا بالله ))
.
فلمّا رأى شمر
ذلك ، استدعى الفرسان فصاروا في ظهور الرجّالة ، وأمر الرّماة أنْ يرموه فرشقوه بالسّهام حتّى صار
كالقنفذ ، فأحجم عنهم فوقفوا بإزائه ، وجاء شمر في جماعة من أصحابه فحالوا
بينه وبين رَحله الذي فيه ثقله وعياله ، فصاح الحسين (عليه السّلام) :
(( ويلكم يا شيعة
آل أبي سفيان ! إنْ لمْ يكن لكم دِين وكنتم لا تخافون يوم المعاد ، فكونوا
أحراراً في دنياكم هذه ، وارجعوا إلى أحسابكم إنْ كنتم عُرُباً كما تزعُمون
)) . فناداه شمر : ما تقول يابن فاطمة ؟ فقال :
(( أقول : إنّي اُقاتلكم وتقاتلونني والنّساء ليس عليهنّ جُناح ، فامنعوا عُتاتكم وجُهّالكم وطغاتكم من التعرّض
لحَرَمي ما دمتُ حيّاً )) . فقال شمر : لك ذلك يابن فاطمة . ثمّ صاح
: إليكم عن حَرَم
الرجل واقصدوه بنفسه ، فلَعمري هو كفؤ
______________________
(1) تُبّان ، بوزن رُمّان : سروال صغير يستر العورة . ـ المؤلّف ـ
الصفحة ( 121 )
كريم . فقصدوه بالحرب ، وجعل شمر يحرّضهم على الحسين
(عليه السّلام) ، فجعلوا يحملون على
الحسين (عليه السّلام) والحسين يحمل عليهم فينكشفون عنه ، وهو في ذلك يطلب شربة من
الماء فلا يجد ، وكلمّا حمل بفرسه على الفرات ، حملوا عليه بأجمعهم حتّى
أجلَوه عنه .
يرى الفراتَ ولا يحظَى بموردِهِ
ليت الفراتَ غدا منْ بعدِهِ يبسَا
المجلس الثامن والستّون
لمّا اُثخن الحسين (عليه السّلام) بالجراح وبقي كالقنفذ ، طعنه
صالح بن وهب المزني على خاصرته طعنة فسقط (عليه السّلام) عن فرسه إلى الأرض على
خدّه الأيمن ، ثمّ قام وخرجت اُخته زينب إلى باب الفسطاط وهي تنادي :
وآ أخاه ! وآ سيّداه ! وآ أهل بيتاه
! ليت
السّماء اُطبِقت على الأرض ، وليت الجبال تدكدكت على السّهل . ودنا عمر بن سعد
، فقالت : يا عمر ، أيقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه ؟! فدمعت عيناه حتّى سالت
دموعه على خدّيه ولحيته ، وصرف وجهه عنها ولم يُجبها بشيء ، فنادت : ويلكم
! أما
فيكم مسلم ؟! فلم يُجبها أحد بشيء .
وقاتل (عليه السّلام) راجلاً قتال الفارس الشجاع
يتّقي الرّمية ويفترص العورة ، ويشدّ على الخيل وهو يقول :
(( أعَلى قتلي تجتمعون
؟! أما والله لا تقتلون بعدي عبداً من عباد الله ، الله اسخط عليكم لقتله
مني ، وايم الله ، إنّي لأرجو أنْ يكرمني الله بهوانِكم ثمّ ينتقم لي منكم من
حيث لا تشعرون ، أما والله ، لو قتلتموني لألقى اللهُ بأسَكم بينكم وسفك
دماءكم ثمّ لا يرضى لكم بذلك حتّى يُضاعف لكم العذاب الأليم ))
. ولمْ يزل يُقاتل
حتّى أصابته عشرات الجراحات ، فوقف يستريح ساعة وقد ضعف عن القتال ، فبينا
هو واقف إذ أتاه حَجر فوقع على جبهته ، فأخذ الثوب ليمسح الدّم عن جبهته
فأتاه سهم مسموم له ثلاث شعب فوقع على قلبه ، فقال (عليه السّلام) :
(( بسم الله وبالله
وعلى ملّة رسول الله صلى الله عليه وآله )) . ثمّ رفع رأسه إلى السّماء
الصفحة ( 122 )
وقال : (( إلهي ، تعلم أنّهم يقتلون رجلاً ليس على وجه الأرض ابن بنت نبيٍّ غيره ))
، ثمّ أخذ السّهم فأخرجه من وراء ظهره ، فانبعث الدّم كأنّه ميزاب فضعف ووقف .
سهمٌ أصابَ حشاكَ يابنَ المُصطفَى
سهمٌ به كبَدُ الهدايةِ قدْ رُميْ
المجلس التاسع والستّون
لمّا قُتل جميع أنصار الحسين (عليه السّلام) وأهل بيته ولم يبقَ معه أحد ، أقبل شمر في
جماعة من أصحابه فأحاطوا بالحسين (عليه السّلام) ، فضربه مالك بن النّسر الكندي على
رأسه الشريف بالسّيف ـ وكان على رأسه برنس ـ فقطع البرنس ووصل السّيف إلى
رأسه فامتلأ البرنس دماً ، ثمّ ألقى البرنس ودعا بخرقة فشدّ بها رأسه
واستدعى بقلنسوة اُخرى فلبسها واعتمّ عليها . ورجع شمر ومَن معه عن الحسين
(عليه السّلام) إلى مواضعهم ، فمكثوا هُنيهة ثمّ عادوا إليه ، فأخذ الحسين
(عليه السّلام) يشدّ عليهم
فينكشفون عنه ، ثمّ إنّهم أحاطوا به ، ثمّ ضارب الرجّالة حتّى انكشفوا عنه
، وكان
قد ضعف عن القتال .
وتحاماه النّاس فمكث طويلاً من النّهار ، وكلّما جاءه أحد
انصرف عنه ؛ كراهية أنْ يلقى الله بدمه . فصاح شمر بالفرسان والرجّالة :
ويحكم ! ما تنتظرون بالرجل ؟ اقتلوه ثكلتكم اُمّهاتكم . فحملوا عليه من كلّ جانب
، فضربه زرعة بن شريك على كتفه اليسرى ، وضرب الحسين (عليه السّلام) زرعة فصرعه ، وضربه
آخر على عاتِقه بالسّيف ضربة كبا بها لوجهه ، وكان قد أعيا وجعل يقوم ويكبو
، وطعنه سنان بن أنس النخعي في ترقوته ثمّ انتزع الرّمح فطعنه في بواني(1) صدره
ورماه بسهم فوقع في نحره ، فسقط وجلس قاعداً فنزع السّهم من نحره
، وقرن كفيه جميعاً
______________________
(1) البواني : الأضلاع المقدّمة في الصدر . ـ المؤلّف ـ
الصفحة ( 123 )
فكلّما أمتلأتا من دمائه خضّب بها رأسه ولحيته ، وهو يقول :
(( هكذا ألقى الله
مخضَّباً بدمي مغصوباً عليَّ حقّي )) .
قال هلال بن نافع : إنّي لواقف مع أصحاب عمر بن سعد إذ
صرخ صارخ : أبشر أيّها الأمير ، فهذا شمر قد قتل الحسين
. فخرجتُ
بين الصفّين فوقفت عليه وإنّه ليجود بنفسه ، فوالله ، ما رأيت قتيلاً مضمّخاً
بدمه أحسن منه ولا أنور وجهاً ، ولقد شغلني نور وجهه وجمال هيئته عن
الفكرة في قتله ، فاستسقى في تلك الحال ماءً ، فسمعت رجلاً يقول : والله
، لا
تذوق الماء حتّى ترد الحامية فتشرب من حميمها . فسمعته يقول :
(( أنا أرد
الحامية فأشرب من حميمها ؟! لا والله ، بل أرد على جدّي رسول الله
(صلّى الله عليه وآله) وأسكن معه في داره في مقعد صدق عند مليك مقتدر ، وأشرب من
ماء غير آسن ، وأشكو إليه ما ارتكبتم منّي وفعلتم بي )) . فغضبوا بأجمعهم
حتّى
كأنْ الله لم يجعل في قلب أحد منهم من الرحمة شيئاً .
وقال سنان لخولي(1) بن زيد : احتز رأسه
. فبدر خولي ليحتزّ رأسه فضعف وأرعد
، فقال له سنان
ـ وقيل : شمر ـ : فتّ الله في عضدك ، ما لك ترعد ؟ ونزل سنان ـ وقيل : شمر
ـ إليه فذبحه
ثمّ احتزّ رأسه الشريف ، وهو يقول : والله ، إنّي لأحتز رأسك وأعلم أنّك السيّد
المقدّم وابن رسول الله وخير النّاس أباً واُمّاً . ثمّ دفع الرأس الشريف
إلى
خولي ، فقال : احمله إلى الأمير عمر بن سعد .
رأسُ ابنِ بنْتِ محمّد
iiووصيِّهِ لـلنّاظرينَ عـلى قَناةٍ يُرفعُ
والـمُسلمونَ بمَنظَرٍ iiوبمَسمَعٍ لا مُـنكرٌ مـنْهُمْ ولا iiمُتوجِّعُ
كُحِلتْ بمَنظرِكَ العُيونُ عمايةً وأصمَّ رزؤكَ كلَّ اُذنٍ iiتَسمعُ
* * *
______________________
(1) خولي ، بخاء معجمة مفتوحة وواو ساكنة ولام مكسورة وياء بهيئة
المنسوب
. ـ المؤلّف ـ
الصفحة ( 124 )
المجلس السّبعون
لمّا قُتل الحسين (عليه السّلام) ، أقبل القوم على سلبه ، فأخذ قميصه إسحاق بن
حوية الحضرمي ، ووُجد في قميصه (عليه السّلام) مئة وبضع عشرة ما بين رمية
وطعنة وضربة ، وقيل : وُجد في ثيابه مئة وعشرون رمية بسهم ، وفي جسده
الشريف ثلاث وثلاثون طعنة برمح وأربع وثلاثون ضربة بسيف .
وعن الإمام الصادق (عليه السّلام) : (( أنّه وُجد بالحسين
(عليه السّلام) ثلاث وثلاثون طعنة وأربع
وثلاثون ضربة )) . وعن الإمام الباقر (عليه السّلام) : (( أنّه وُجد به ثلاثمئة وبضعة وعشرون جراحة
)) . وفي رواية : ثلاثمئة وستّون جراحة .
وأخذ سراويله بحر بن كعب التميمي
، وأخذ ثوبه أخ لإسحاق بن حوية ، وأخذ قطيفة له كانت من خز قيس بن
الأشعث بن قيس ، وأخذ عمامته الأخنس ، وأخذ بُرنسه مالك بن النّسر وكان
من خز ، فلمّا قدم على أهله أخذ يغسل عنه الدّم ، فقالت له امرأته : أسلب ابن
رسول الله تُدخل بيتي ؟! اخرجه عنّي .
وأخذ نعليه الأسود بن خالد ، وأخذ
درعه البتراء عمر بن سعد ، فلمّا قُتل عمر أعطاها المختار لقاتله
، وأخذ
سيفه الفلافس النّهشلي ، وأخذ القوس الرجيل بن خيثمة الجعفي ، وأخذ
خاتمه بجدل بن سليم الكلبي ، ومال النّاس على الفراش والحلل والإبل
فانتهبوها وانتهبوا رَحله وثقله وسلبوا نساءه .
وصِيحَ في رَحلهِ نَهباً وما تَركُوا
على عقائلَ بيتِ الوَحي منْ حُجبِ
* * *
لمْ يَسلبُوه الدّرعَ إلاّ بعدَما
تركتْهُ أسهُمُ بَغيهِمْ كالقُنفذِ
الصفحة ( 125 )
المجلس الواحد والسّبعون
لمّا قُتل الحسين (عليه السّلام) ، وضعت اُمّ كلثوم يدها على اُمِّ رأسها ونادت :
وآ محمّداه ! وآ جعفراه ! وآ حمزتاه ! وآ حسناه ! هذا حسين بالعرا ، صريع بكربلاء ، محزوز الرأس
من القفا ، مسلوب العمامة والرّدا .
وأقبل القوم على نهب بيوت آل بيت
الرّسول وقرّة عين الزهراء البتول (عليها السّلام) . قال حميد بن مسلم : رأيت
امرأة من
بكر بن وائل كانت مع زوجها في أصحاب عمر بن سعد ، فلمّا رأت القوم قد
اقتحموا على نساء الحسين (عليه السّلام) في فسطاطهن وهم يسلبونهن ، أخذت سيفاً
وأقبلتْ نحو الفسطاط ، وقالت : يا آل بكر بن وائل ، أتُسلب بنات رسول الله
؟! لا
حكم إلاّ لله ، يا لثارات رسول الله ! فأخذها زوجها وردّها إلى رحله
.
وانتهوا إلى علي بن الحسين زين العابدين (عليه السّلام) وهو منبسط على فراش وهو
شديد المرض ، وكان مريضاً بالذرب (أي الإسهال) وقد أشرف على الموت ، ومع
شمر جماعة من الرجّالة فقالوا له : ألا نقتل هذا العليل ؟ فأراد شمر قتله
، فقال له حميد بن مسلم : سبحان الله ! أتقتل الصبيان ؟! إنّما هو صبيّ وأنّه لما
به . فلم يزل يدفعهم عنه حتّى جاء عمر بن سعد فصاحت النّساء في وجهه وبكين
، فقال لأصحابه : لا يدخل أحد منكم بيوت هؤلاء ولا تتعرضوا لهذا الغلام
المريض ، ومَن أخذ من متاعهنّ شيئاً فليردّه . فلم يردّ أحد شيئاً .
وفي رواية : أنّهم أشعلوا النّار في الفسطاط فخرجن منه
النّساء باكيات مُسلَّبات
.
ونادى عمر بن سعد في أصحابه : مَن ينتدب للحسين فيوطئ الخيل ظهره وصدره
؟ فانتدب
منهم عشرة ، فداسوا الحسين (عليه السّلام) بحوافر خيولهم حتّى رضّوا ظهره
وصدره ، وجاء هؤلاء العشرة حتّى وقفوا على ابن زياد ، فقال أحدهم :
نحنُ رَضضْنا الصَّدرَ بعدَ الظَّهرِ
بكلِّ يَعبُوبٍ شديدِ الأسرِ
الصفحة ( 126 )
فقال ابن زياد : مَن أنتم ؟ قالوا : نحن الذين وطأنا بخيولنا ظهر الحسين حتّى
طحنّا جناجن صدره . فأمر لهم بجائزة يسيرة . وهؤلاء أخذهم المختار فشدّ
أيديهم وأرجلهم بسكك الحديد ، وأوطأ الخيل ظهورهم حتّى هلكوا .
ما شَفَى داءَ ضِغْنِها القتلُ حتّى
بالعَوادي عـَادتْ ترضُّ قُراهَا
وأباحـتْ بيتَ النـّبوةِ للـنَّهـْ
ـبِ وللأمرِ في يدَي لعْناهـَا
المجلس الثاني والسّبعون
لمّا كان يوم عاشوراء ، سرّح عمر بن سعد ذلك اليوم برأس الحسين
(عليه السّلام) مع خولي
بن يزيد إلى عبيد الله بن زياد .
قال الطبري وابن الأثير وغيرهما : فوجد القصر مغلقاً ، فأتى بالرأس إلى منزله فوضعه تحت إجّانة ودخل فراشه
، وقال لامرأته : جئتك بغنى الدّهر ، هذا رأس الحسين معكِ في الدّار . فقالت
: ويلك ! جاء النّاس بالذّهب والفضّة وجئت برأس ابن بنت رسول الله
(صلّى الله عليه وآله) ! والله ، لا يجمع رأسي ورأسك بيت . وقامت من الفراش فخرجت
إلى الدار .
وأمر ابن سعد برؤوس الباقين من أصحاب الحسين (عليه
السّلام) وأهل بيته
فقُطّعت ـ وكانت اثنين وسبعين رأساً ـ وسرّح بها إلى ابن زياد ، وأقام بقيّة
اليوم العاشر واليوم الحادي عشر إلى الزوال ثمّ توجّه إلى الكوفة . وحمل
معه نساء الحسين (عليه السّلام) وبناته وأخواته ومَن كان معه من الصبيان وفيهم علي
بن الحسين (عليهما السّلام) قد نهكته العلّة ، فقالت النّسوة : بحقّ الله إلاّ ما
مررتم بنا على مصرع الحسين (عليه السّلام) . فمرّوا بهم على الحسين
(عليه السّلام) وأصحابه وهم
صرعى ، فلمّا نظرت النّسوة إلى القتلى ، صحن وضربن وجوههن .
قال الرّاوي : فوالله
، لا أنسى زينب بنت علي (عليهما السّلام) وهي تندب الحسين (عليه
السّلام) وتنادي بصوت حزين وقلب كئيب
: يا محمّداه ! صلّى عليك مليك السّماء ، هذا حسينك مرمّل بالدماء ، مقطّع الأعضاء
، |