المجالس السّنية ـ الجزء الثالث ـ

 
 

المجلس الثالث والسّبعون بعد المئة

في كتاب بلاغات النّساء : إنّه لمّا قُتل علي بن أبي طالب (عليه السّلام) ، بعث معاوية في طلب شيعته ، فكان في مَن طلب عمرو بن الحمق الخزاعي ، فراغ منه ، فأرسل إلى امرأته آمنة بنت الشريد ، فحبسها في سجن دمشق سنتين ، ثمّ إنّ عبد الرحمن بن الحكم ظفر بعمرو بن الحمق في بعض الجزيرة ، فقتله وبعث برأسه الى معاوية ، وهو أوّل رأس حُمل في الإسلام .

قال الأعمش : أوّل رأس اُهدي من بلد إلى بلد في الإسلام ، رأس عمرو بن الحمق .

فلمّا أتى معاوية الرسولُ بالرأس ، بعث به إلى آمنة في السجن ، وقال للحرَسي : احفظ ما تتكلم به حتّى تؤدّيه إليّ ، واطرح الرأس في حجرها . ففعل هذا ، فارتاعت له ساعةً ، ثمّ وضعت يدها على رأسها وقالت : نفيتموه عنّي طويلاً ، وأهديتموه إليّ قتيلا ً، فأهلاً وسهلاً بمَن كنتُ له غير قالية ، وأنا له اليوم غير ناسية . ارجع به أيها الرسول إلى معاوية ، فقل له : أيتمَ الله وُلدك ، وأوحش منك أهلك ، ولا غفر لك ذنباً .

فرجع الرسول إلى معاوية فأخبره بما قالت ، فأرسل إليها فأتته ، وعنده نفر فيهم أياس بن حسل ، وكان في شدقيه انتفاخ لعظم كان في لسانه . فقال لها معاوية : أأنت يا عدوّة الله ، صاحبة الكلام الذي بلغني ؟ قالت : نعم ، غير نازعة عنه ولا


الصفحة (80)

معتذرة منه ولا منكرة له ، فلَعمري ، لقد اجتهدت في الدعاء إنْ نفع الإجتهاد ، وإنّ الحقّ لمِن وراء العباد ، وما بلغت شيئاً من جزائك ، وإنّ الله بالنّقمة من ورائك .

فأعرض عنها معاوية ، فقال أياس : اقتل هذه يا أمير المؤمنين ، فوالله ، ما كان زوجها أحقّ بالقتل منها . فالتفتت إليه ، وقالت : تباً لك ! ويلك ! بين لحييك كجثمان الضفدع ، ثمّ أنت تدعوه إلى قتلي كما قتل زوجي بالأمس ، ( إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ )(1) ! فضحك معاوية ، ثم قال : لله درّك ! اخرجي ، ثمّ لا أسمع بك في شيء من الشام . قالت : وأبي ، لأخرجنّ ، ثمّ لا تسمع بي في شيء من الشام ، فما الشام لي بحبيب ، ولا أعرج فيها على حميم ، وما هي لي بوطن ، ولا أحنّ فيها إلى سكن ، ولقد عظم فيها ديني ، وما قرّت فيها عيني ، وما أنا فيها إليك بعائدة ، ولا حيث كنت بحامدة .

فأشار معاوية إليها ببنانه اخرجي ، فخرجت وهي تقول : وآعجبي لمعاوية ! يكفّ عنّي لسانه ، وهو يشير إلى الخروج ببنانه ! أما والله ، ليعارضنّه عمرو بكلام مؤيّد سديد ، أوجع من نوافذ الحديد ، أو ما أنا بابنة الشريد . فخرجت وتلقّاها الأسود الهلالي ، وكان أسود أصلع أبرص ، فسمع مقالها ، فقال : لمَن تعني هذه ـ عليها لعنة الله ـ ؟ فقالت : خزياً لك وجدعاً ، أتلعنني واللعنة بين جنبيك ! وما بين قرنيك إلى قدميك ! اخسأ يا هلمة الصعل ، ووجه الجعل . فبهت الأسود ينظر إليها ، ثمّ سأل عنها فاُخبر ، فأقبل يعتذر إليها ؛ خوفاً من لسانها .

ثمّ التفت معاوية إلى عبيد بن أوس ، فقال : ابعث إليها ما تقطع به عنّا لسانها ، وتقضي به ما ذكرت من دَينها ، وتخفّ به إلى بلادها . فلمّا أتاها الرسول بما أمر به معاوية ، قالت : يا عجبي لمعاوية ! يقتل زوجي ، ويبعث إليّ بالجوائز ! فأخذت ذلك وخرجت تريد الجزيرة ، فمرّت بحِمص فقتلها الطاعون . فبلغ ذلك الأسود ، فأقبل إلى معاوية كالمبشرّ له ،

ـــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة القصص / 19 .

الصفحة (81)

فقال : قد استُجيبت دعوتك في ابنة الشريد ، وقد كُفيتَ شرّ لسانها ، مرّت بحِمص فقتلها الطاعون . قال معاوية : فنفسك فبشرّ ؛ فإنّ موتها لم يكن على أحد أروح منه عليك ، ولَعمري ، ما انتصفت منها حين أفرغت عليك شؤبوباً وبيلاً . فقال الأسود : ما أصابني من حرارة لسانها شيء ، إلاّ وقد أصابك مثله ، وأشدّ منه .

أقول : وعمرو بن الحمق هذا من خيار أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، ومن السّابقين الذين رجعوا إلى أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، وأخلصوا في محبته .

وكتب الحسين (عليه السّلام) إلى معاوية ـ بعد قتله عمرو بن الحمق ـ جواباً عن كتاب : (( أوَلست قاتلَ عمرو بن الحمق صاحب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، العبد الصالح الذي أبلته العبادة ، فنحُل جسمه واصفرّ لونه ، بعدما أمّنته وأعطيته من عهود الله ومواثيقه ما لَو أعطيته طائراً لنزل إليك من رأس جبل ، ثمّ قتلته ؛ جرأةً على ربّك ، واستخفافاً بذلك العهد ؟! )) .

وقُتل عمرو ببلاد الموصل ، وقُطع رأسه واُرسل إلى معاوية ، فأرسله معاوية ـ كما سمعت ـ إلى امرأته وهي في السجن ، وأمر أنْ يُطرح في حجرها . وبه اقتدى ولده يزيد في قطع رؤوس سادات المسلمين ، وحملها إليه من بلد إلى بلد ، فإنّه لمّا قُتل الحسين (عليه السّلام) وأصحابه ، أمر عامله عبيد الله بن زياد أنْ يحمل إليه رأس الحسين (عليه السّلام) ، ورؤوس أصحابه ، وسبايا أهل بيت النّبوّة ففعل . وكان الرأس الشريف بمرأى ومنظر من نساء الحسين (عليه السّلام) ، وأخواته ، وبناته طول مدة الطريق ، من العراق إلى الشام .

وكما طرح معاوية رأس عمرو بن الحمق في حجر زوجته بعد قتله ؛ بغياً وعتوّاً ، وشدّة بغضه لأمير المؤمنين (عليه السّلام) وشيعته ، أحضر ولده يزيد رأس الحسين (عليه السّلام) بين يديه ، بمحضرٍ من نساء الحسين (عليه السّلام) ، وأخواته وبناته ، فأخذت الرباب زوجة


الصفحة (82)

الحسين (عليه السّلام) الرأسَ الشريف ، ووضعته في حجرها وقبّلته ، وقالت :

وآ حُسينا فلا نَسيتُ حُسيناً   أقصَدتْـهُ أسنَّـةُ الأعـداءِ

غـادَرُوهُ بكربَلاءَ صَريعاً   لا سقَى اللهُ جانِبـَي كربلاءِ

وأما زينب (عليها السّلام) ، لمّا رأت رأس أخيها بين يدي يزيد ، هوت إلى جيبها فشقّته ، ثمّ نادت بصوت حزين يقرح القلوب : يا حسيناه ! يا حبيب رسول الله ! يابن مكّة ومنى ! يا بن فاطمة الزهراء سيّدة النّساء ! يابن بنت المصطفى ! فأبكت كلّ مَن كان حاضراً في المجلس .

 رقَّ لهَا الشامتُ ممّا بِها   ما حالُ مَنْ رقَّ لها الشامتُ

* * *

المجلس الرابع والسّبعون بعد المئة

قال المُرزُباني ، قال الحسن البصري : أربع خصال كنّ في معاوية ، لو لم يكنّ فيه إلاّ واحدة منهن ، كانت موبقة : انتزاؤه على هذه الاُمّة بالسُفهاء ، وفيها بقايا الصحابة وذوو الفضل ، وادّعاؤه زياداً ، وقد قال النّبي (صلّى الله عليه وآله) : (( الولد للفراش ، وللعاهر الحجر )) ، واستخلافه يزيداً من بعده ، سكّيراً خمّيراً ، يزوج بين الدّب والذئب ، والكلب والضبع ؛ ينظر ما يخرج بينهما ، وقتله حجر بن عدي وأصحابه . فيا ويله ! ثمّ يا ويله !

قال المُرزُباني : كان حِجر بن عدي بن الأدبر الكندي ـ رحمة الله عليه ـ وفد على النّبي (صلّى الله عليه وآله) وشهد القادسية ، وهو الذي فتح مَرج عذراء . وشهد مع علي (عليه السّلام) الجمل وصفّين ، وهو من العُبّاد الثقات المعروفين ، روى عن النّبي (صلّى الله عليه وآله) .

وتكلّم زياد بن أبيه يوماً على المنبر ، فقال : إنّ من حقّ أمير المؤمنين ، أعادها


الصفحة (83)

مراراً ، فقال حِجر : كذبت ، ليس كذلك . فسكت زياد ساعة ، ثمّ أخذ في كلامه حتّى غاب عنه ما جرى ، فقال : إنّ من حقّ أمير المؤمنين ، فأخذ حِجر كفاً من حصى فحصبه ، وقال : كذبت ، عليك لعنة الله . فانحدر زياد عن المنبر ودخل دار الإمارة ، وانصرف حِجر ، فبعث إليه زياد الخيل والرجال ، فقالوا : أجب . فقال : إنّي والله ، ما أنا بالذي يخاف ، ولا آتيه أخافه على نفسي .

وقال ابن سيرين : لو مال لمال أهل الكوفة معه ، غير أنّه كان رجلاً ورعاً . وأبى زياد أنْ يرفع عنه الخيل حتّى سلسله ، وأنفذه مع اُناس من أصحابه ـ وكانوا ثلاثة عشر(1) ـ إلى معاوية . فلمّا سار حِجر ، أتبعه زياد بريداً ، فقال : اركض إلى معاوية ، وقل له : إنْ كان لك في سلطانك حاجة ، فاكفني حِجراً . فلمّا قدم عليه حِجر ، قال : السّلام عليك يا أمير المؤمنين . قال : وأمير المؤمنين أنا ! وجعل يكرر ذلك ، وأمر بإخراج حِجر وأصحابه إلى عذراء ، وقتلهم هناك .

قال ابن الأثير : كان حجر وأصحابه ـ الذين بعث بهم زياد إلى معاوية ـ أربعة عشر رجلاً ، فحُبسوا بمرج عذراء ، وتشفّع أصحاب معاوية في ستّة منهم فأطلقهم ، وتشفّع بعضهم في حِجر فلم يطلقه ، وطلب اثنان منهم أنْ يرسلوهما إلى معاوية ، وقالا : إنّا نقول في هذا الرجل ـ أي :علي ـ مثل مقالته . فقال لأحدهما : ما تقول في علي ؟ قال : أقول فيه قولك . قال : أتبرأ من دين علي الذي يدين الله به ؟ فسكت ، فتشفّع فيه بعض الحاضرين ، فنفاه إلى الموصل فمات بها .

وقال للآخر : ما تقول في علي ؟ قال دعني لا تسألني ، فهو خير لك . قال : والله لا أدعك . قال : أشهد أنّه كان من الذاكرين الله كثيراً ، من الآمرين بالحقّ ، والقائمين بالقسط ، والعافين عن النّاس . . . إلى أنْ

____________________

(1) سيأتي في رواية ابن الأثير : إنّهم أربعة عشر ، فلعّل مراد المُرزُباني : إنّهم ثلاثة عشر ، ما عدى حجر ، ومعه أربعة عشر .

الصفحة (84)

قال له معاوية : قتلت نفسك . قال : بل إيّاك قتلت . فردّه إلى زياد وأمره أن يقتله شرّ قتلة ، فدفنه حيّاً ، ثمّ قُتل حجر وأصحابه بمرج عذراء ، وكانوا ستّة ، والذي دفنه زياد حيّاً ، فهؤلاء سبعة ونجا منهم سبعة .

وبعث معاوية رجلاً أعور اسمه هدبة القضاعي ، ومعه رجلان ليقتلوا مَن أمروا بقتله ، فأتوا مساءً ، فقالوا لهم : إنّا قد اُمرنا أنْ نعرض عليكم البراءة من علي (عليه السّلام) واللّعن له ، فإنْ فعلتم تركناكم ، وإنْ أبيتم قتلناكم . فقالوا : لسنا فاعلي ذلك . فحُفرت لهم القبور واُحضرت الأكفان ، وقام حِجر وأصحابه يُصلّون عامّة الليل ، كما قام الحسين (عليه السّلام) وأصحابه ليلة العاشر من المُحرّم يصلّون عامّة الليل ، ويذكرون الله تعالى ويدعون ويستغفرون ، وهم يعلمون أنّهم في صبيحة تلك الليلة مقتولون لا محالة ، كما يعلم حِجر وأصحابه أنّهم في صبيحة ليلتهم مقتولون لا محالة ، فما أشبه الأبناء بالآباء ، والخلف بالسلف .

وكان للحسين (عليه السّلام) وأصحابه في تلك الليلة دوي كدوي النّحل ، وباتوا ما بين قائم وقاعد وراكع وساجد :

 سمةُ العبيـدِ منَ الخشوعِ عليهمُ   للهِ إنْ ضمَّتهُـمُ الأسحـارُ

فإذا ترجَّلت الضُّحَى شهِدتْ لهُمْ   بيضُ القواضبِ أنّهمْ أحرارُ

ولمّا كان الغد ، قُدّم حجر وأصحابه الستّة فقُتلوا ، وصُلّي عليهم ودُفنوا ، ولمّا كان الغد من يوم عاشوراء ، وقُتل الحسين (عليه السّلام) وأصحابه ، لم يُصلّى عليهم ولم يُدفنوا ، بل إنّ عمر بن سعد صلّى على أصحابه ودفنهم ، وترك الحسين (عليه السّلام) وأصحابه مطرَّحين على الرمضاء بغير دفن ، جثثاً بلا رؤوس حتّى جاء بنو أسد بعد ثلاثة أيام ، فصلّوا على تلك الجثث الطواهر الزواكي ودفنوها .

فيا أقبُراً خُطَّتْ على أنجُمٍ هوتْ   وفُرّقنَ في الأطرافِ مُغترباتِ

وليسَ قبوراً هُنّ بل هُنّ روضةٌ   مُنوَّرةٌ مُخـضـرَّةُ الجنـباتِ


الصفحة (85)

المجلس الخامس والسّبعون بعد المئة

قال الأعمش : أوّل قتيل قُتل في الإسلام صبراً حِجر بن عدي .

قال المُرزُباني : لمّا بعث زياد بن أبيه بحِجر بن عدي وأصحابه إلى معاوية بالشام ، أمر معاوية بإخراجهم إلى عذراء وقتلهم هناك ، فلمّا قدم حِجر عذراء ، قال : ما هذه القرية ؟ فقيل : عذراء . فقال : الحمد لله ، أما والله ، إنّي لأوّل مسلم ذكر الله فيها وسجد ، وأوّل مسلم نبح عليه كلابها في سبيل الله ، ثمّ أنا اليوم اُحمل إليها مُصفّداً في الحديد .

ثمّ قال حجر للذي أمر بقتلهم : دعني اُصلّي ركعتين . فصلّى ركعتين خفيفتين ، فلمّا سلّم انفتل إلى النّاس ، فقال : لولا أنْ يقولوا جزع من الموت ، لأحببت أنْ تكونا أنفس ممّا كانتا ، وأيم الله ، لئن لم تكن صلاتي فيما مضى تنفعني ، ما هاتان بنافعتي شيئاً . ثمّ أخذ ثوبه فتحزّم به ، ثمّ قال لمَن حوله من أصحابه : لا تحلّوا قيودي ، فإنّي أجتمع أنا ومعاوية على هذه المحجّة .

ثم مشى إليه هدبة الأعور بالسيف ، فشخص له حجر ، فقال : ألم تقل إنّك لا تجزع من الموت ؟ فقال : أرى كفناً منشوراً ، وقبراً محفوراً ، وسيفاً مشهوراً ، فما لي لا أجزع ؟! أما والله ، لئن جزعت ، لا أقول ما يسخط الربّ . فقال له : فابرأ من عليٍّ ، وقد أعدّ لك معاوية جميع ما تريد إنْ فعلت . فقال : ألم أقل إنّي لا أقول ما يسخط الربّ ؟ والله ، لقد أخبرني حبيبي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بيومي هذا . ثمّ قال : إنْ كنتَ أمرت بقتل ولدي(1) فقدّمه . فقدّمه فضربت عنقه ، فقيل له :

______________________

(1) لم يذكر غير المُرزُباني إنّ ولد حِجر كان من جملة المقتولين ، ولعلّه جاء مع أبيه لوداعه أو لغير ذلك فقُتل ، ولم يكن من الذين بعث بهم زياد ؛ فلذلك لم يذكره المؤرّخون ، والله أعلم .  ـ المؤلّف ـ

الصفحة (86)

تعجّلت الثكل . فقال : خفت أنْ يرى هول السّيف على عنقي فيرجع عن ولاية علي (عليه السّلام) ، فلا نجتمع في دار المقامة التي وعدها الله الصابرين .

فلله درّ حِجر ! ما أعظم نفسه ، وأجلّ مقامه ، وأشدّ تهالكه في حبّ أهل بيت نبيّه (صلّى الله عليه وآله) ، وفي طاعة ربه !

وإذا كانتْ النّفوسُ كِباراً   تعبتْ في جِوارها الأجسامُ

فانظر إليه كيف ثبت في هذا المقام الرهيب وسلّم نفسه للقتل ، ولم يبرأ من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السّلام) ! مقام عظيم وأيَم الله ، وأيُّ مقام ! فتسليم النّفس للقتل ليس بالأمر الهيّن . ولم يكتفِ بتسليم نفسه للقتل حتّى قدّم ابنه للقتل أمامه ؛ خوفاً عليه من أنْ يرجع عن ولاية علي (عليه السّلام) . والولد قطعة من الكبد ، ولا يعدل النفس شيئاً إلاّ الولد .

ولهذا لمّا برز علي الأكبر يوم كربلاء ، لم يملك أبوه الحسين (عليه السّلام) دمعته مع ما اُوتيه من الصبر العظيم ، وأرخى عينيه بالدموع وبكى ، ثمّ رفع سبابتيه نحو السّماء ، وقال : (( اللهمّ ، كُنْ أنت الشهيد عليهم ، فقد برز إليهم غلام أشبه النّاس خَلْقاً وخُلقاً برسولك ، وكنّا إذا اشتقنا إلى نبيَّك نظرنا إليه )) .

 يا كوكباً ما كان أقصرَ عُمرُهُ   وكذا تكونُ كواكبُ الأسحارِ

ولهذا أيضاً ، لمّا وصل الخبر إلى بشر بن عمرو الحضرمي يوم عاشوراء : أنّ ابنه اُسّر بثغر الري ، قال : عند الله أحتسبه ونفسي ، ما كنت أحبّ أنْ يُؤسر وأبقى بعده . فسمع الحسين (عليه السّلام) مقالته ، فقال له : (( رحمك الله ، أنت في حلٍّ من بيعتي ، فاذهب واعمل في فكاك ابنك )) . فقال : أكلتني السباع حيّاً إنْ فارقتك . قال (عليه السّلام) : (( فأعطِ ابنك هذا هذه الأثواب البُرود ؛ يستعين بها في فداء أخيه )) . فأعطاه خمسة أثواب بُرود قيمتها ألف دينار ، فحملها مع ولده .


الصفحة (87)

لقدْ صَبرُوا صبْرَ الكرامِ وقدْ قضَوا   على رغبةٍ منهُمْ حقوقَ المكارمِ

قسـاورةٌ يـومَ القـراعِ رماحُهُـمْ   تكفَّلنَ أرزاقَ النّسـورِ القشاعمِ

* * *

المجلس السّادس والسّبعون بعد المائة

لمّا بعث زياد بن أبيه بحِجر بن عدي الكندي وأصحابه إلى معاوية بالشام ، أمر معاوية بأخذهم إلى عذراء ـ وهي قرية شرقي دمشق ـ وقتلهم هناك ، فحُملوا إليها .

قال المُرزُباني : فلمّا أرادوا قتلهم ، اجتمع إلى حِجر أصحابه ليودّعوه ، فأنشأ حِجر يقول :

 فمَنْ لكُمُ مثلـي لـدَى كلِّ غارةٍ   ومَنْ لكمُ مثلي إذا البأسُ أصحَرا

ومَن لكُمُ مثلي إذا الحربُ قُلّصتْ   وأوضع فيها المُسْتميـتُ وشمَّرا

ولمّا حُمل عبد الرحمن بن حسّان العنزي ، وكريم بن عفيف الخثعمي ـ وكانا من أصحاب حجر ـ ، قال العنزي : يا حِجر ، لا تبعُد ولا يبعُد ثوابك ، فنعم أخو الإسلام كنت ! وقال الخثعمي : يا حِجر ، لا تبعُد ولا تُفقد ، ولقد كنت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر . ثمّ ذُهب بهما إلى القتل ، فأتبعهما حِجر بصره ، وقال :

كفَى بسفاهِ القبرِ بُعداً لهالكٍ   وبالموتِ قطّاعاً لحبلِ القرائِنِ

قال المُرزُباني : لمّا قُتل حِجر بنُ عدي ، قالت امرأة من كندة ترثيه :

ترفَّعْ أيُّها القمرُ المُنيرُ   لعلّكَ أنْ ترَى حِجْراً يسيرُ


الصفحة (88)

يسيرُ إلى معاويةَ بنِ iiصخرٍ   لـيقتلُهُ كـما زعـمَ iiالأميرُ
ألا يا حجْرُ حجْرَ بني 
iiعديٍّ   ومَنْ أخلاقُهُ كرمٌ وخيرُ
(1)
ألا يا ليتَ حِجراً مات 
iiموتاً   ولـمْ يُنحرْ كما نُحرَ iiالبعيرُ
تـجبَّرتْ الجبابرُ بعد حِجْرٍ   وطابَ لها الخورنقُ والسَّديرُ

وقالت عائشة لمعاوية حين قتل حِجراً وأصحابه : أما والله ، لقد بلغني أنّه سيُقتل بعذراء سبعة نفر ، يغضب الله لهم وأهل السّماء .

قال ابن الأثير : كان النّاس يقولون : أوّل ذلّ دخل الكوفة موت الحسن بن علي ، وقتل حِجر ، ودعوة زياد . وقيل : إنّ حِجراً لمّا قُدّم ليُقتل ، قيل له : مد عنقك . فقال : ما كنتُ لأعين الظالمين .

ما أشبه ما جرى لحِجر بما جرى لهاني بن عُروة ، الذي قُتل في حبّ أهل البيت (عليهم السّلام) ونصرتهم ؛ فإنّه لمّا جيء به ليُقتل ، قيل له : امدد عنقك . فقال : ما أنا بها سخي ، وما أنا بمعينكم على نفسي . فضربه مولى لعبيد الله بن زياد تركي ، اسمه رشيد ، بالسّيف فلم يصنع شيئاً ، فقال له هاني : إلى الله المعاد . اللهمّ ، إلى رحمتك ورضوانك . ثمّ ضربه اُخرى فقتله .

فإنْ كُنتِ لا تدرينَ ما الموتُ فانظُري   إلـى هـانئٍ في السّوقِ وابنِ iiعقيلِ
إلـى بـطلٍ قـدْ هشَّمَ السَّيفُ 
iiوجهَهُ   وآخـرَ يـهوِي مـنْ طـمارِ iiقتيلِ
تَـرَي جـسداً قـدْ غيَّرَ الموتُ 
iiلونَهُ   ونـضْحَ دمٍ قـدْ سـال كلَّ iiمسيلِ

_____________________
(1) هذا البيت لم يذكره المُرزُباني ، وأورد ابن الأثير بدل الشطر الأخير : ( تلقّتك السلامة والسُّرور ) .  ـ المؤلّف ـ

الصفحة (89)

فتىً كانَ أحَيا منْ فتاةٍ حييَّةٍ   وأقطعَ منْ ذي شفْرَتينِ صَقيلِ

* * *

المجلس السّابع والسّبعون بعد المئة

قال المُرزُباني : كان الأحنف بن قيس التميمي ـ رحمه الله ـ من خيار أصحاب علي (عليه السّلام) . روي : أنّ النّبي (صلّى الله عليه وآله) أنفذ رجلاً يدعو بني سعد إلى الإسلام ، والأحنف فيهم ، فقال : والله ، إنّه يدعو إلى خير ، وما أسمع إلاّ حسناً ، وإنّه ليدعو إلى مكارم الأخلاق ، وينهى عن ملائمها . فذُكر ذلك الرجل للنبيِّ (صلّى الله عليه وآله) مقاله ، فقال (صلّى الله عليه وآله) : (( اللهمّ ، اغفر للأحنف )) . وكان يقول : هذا منْ أرجى عملي عندي .

وحضر عند معاية فتكلّم جلساؤه ، والأحنف ساكت ، فقال له معاوية : ما لك لا تتكلّم يا أبا بحر ؟ فقال : أخاف الله إنْ كذبت ، وأخافكم إنْ صدقت . وقال له معاوية مرّة : أنت صاحبنا بصفّين ، ومخذّل النّاس عن اُمّ المؤمنين . فقال : والله ، إنّ قلوبنا التي أبغضناك بها يومئذ لفي صدورنا ، وإنّ سيوفنا التي قاتلناك بها لعلى عواتقنا ، ولئن دنوت إلينا شبراً من غدر ، لندنونّ إليك ذراعاً من ختر ، ولئن شئت لتصفونّ لك قلوبنا بحلمك عنّا . قال : قد شئت .

وكان عنده يوماً ، إذ دخل رجل من أهل الشام ، فقام خطيباً ، فكان آخر كلامه أنْ سبّ عليّاً (عليه السّلام) ، فأطرق النّاس ، فتكلم الأحنف وقال مخاطباً لمعاوية : إنّ هذا القائل ما قال لو يعلم أنّ رضاك في شتم الأنبياء والمرسلين لما توقّف عن شتمهم ، فاتّقِ الله ودع عنك عليّاً ؛ فقد لقي ربّه بأحسن ما عمل عامل . كان والله ، المبرّز في سبقه ، الطاهر في خُلُقه ، الميمون النقيبة ، العظيم المصيبة ، أعلم العلماء


الصفحة (90)

وأحلم الحلماء ، وأفضل الفضلاء ، ووصي خير الأنبياء . فقال معاوية : لقد أغضيت العين عن القذى ، وقلت بما لا ترى ، وأيَم الله ، لتصعدنّ المنبر فتلعنه طوعاً أو كرهاً . فقال : إنْ تعفيني ، فهو خير لك ، وإنْ تجبرني على ذلك ، فوالله ، لا يجري به لساني أبداً . فقال : لا بدّ أنْ تركب المنبر وتلعن عليّاً . فقال : إذاً والله ، لأنصفنّك وأنصفنّ عليّاً . قال : تفعل ماذا ؟ قال : أحمد الله واُثني عليه واُصلّي على نبيّه (صلّى الله عليه وآله) ، وأقول : أيها النّاس ، إنّ معاوية أمرني أنْ ألعن عليّاً ، وأنّ عليّاً ومعاوية اقتتلا وادّعى كلّ منهما أنّه كان مبغياً عليه وعلى فئته ، فإذا دعوت فأمّنوا على دعائي ، ثمّ أقول : اللهمّ ، العن أنت وملائكتك ، وأنبياؤك ورسلك ، وجميع خلقك ، الباغي منهما على الآخر ، والعن اللهمّ ، الفئة الباغية على الفئة المبغي عليها آمين ربّ العالمين . اللهمّ ، العنهم لعناً وبيلاً ، وجدد العذاب عليهم بكرة وأصيلاً . قال : بل أعفيناك يا أبا بحر .

وقال يوماً معاوية لجلسائه : ألستم تعلمون كتاب الله ؟ قالوا : بلى . فتلا قوله تعالى : ( وَإِن مّن شَيْ‏ءٍ إِلاّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزّلُهُ إِلاّ بِقَدَرٍ مَعْلُومِ )(1) . فقال : كيف تلومونني بعد هذا ؟ فقام الأحنف ، فقال : ما نلومك على ما في خزائن الله ، إنّما نلومك على ما أنزل الله لنا من خزائنه فأغلقت عليه بابك . فسكت معاوية ولم يحرِ جواباً .

هكذا تكون حال المخلصين في ولائهم ، الذين أخذوا على أنفسهم نصرة الحقّ في حالتي الأمن والخوف ، والشدّة والرخاء ، أمثال الأحنف من أهل النفوس الكبيرة والهمم السامية ، وأمثال أنصار الحسين (عليه السّلام) الذين تلقّوا السيوف والرماح والسّهام بنحورهم ووجوههم وصدورهم ، لم يثنهم عن نصرة الحقّ خوف الردى ، ولم تتغير حالهم في تلك المواقف الرهيبة المخيفة .

ولمّا خطبهم الحسين (عليه السّلام) بكربلاء ، فقال (عليه السّلام) : (( إنّه قد نزل بنا من الأمر ما قد ترون ، وإنّ الدنيا قد تغيّرت وتنكّرت وأدبر معروفها ، ولم يبقَ منها إلاّ صُبابة

______________________

(1) سورة الحِجر / 21 .


الصفحة (91)

كصبابة الإناء ، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل . ألاَ ترون إلى الحقّ لا يُعمل به ، وإلى الباطل لا يُتناهى عنه ؟! ليرغب المؤمن في لقاء ربه محقاً ؛ فإنّي لا أرى الموت إلاّ سعادة والحياة مع الظالمين إلاّ برماً )) .

قام زهير بن القين ، فقال : قد سمعنا ـ هداك الله ـ يابن رسول الله مقالتك ، ولو كانت الدنيا لنا باقية ، وكنّا فيها مخلّدين لآثرنا النّهوض معك على الإقامة فيها . ووثب نافع بن هلال الجملي ، فقال : والله ، ما كرهنا لقاء ربّنا ، وإنّا على نياتّنا وبصائرنا نوالي مَن والآك ، ونُعادي مَن عاداك . وقام برير بن خضير ، فقال : والله يابن رسول الله ، لقد منّ الله بك علينا أنْ نقاتل بين يديك ، وتُقطع فيك أعضاؤنا ، ثمّ يكون جدك شفيعنا يوم القيامة .

وخطبهم ليلة العاشر من المُحرّم فقال (عليه السّلام) ـ من جملة خطبته ـ : (( ألاّ وإنّي قد أذنت لكم ، فانطلقوا جميعاً في حلٍّ ليس عليكم مني ذمام ، وهذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملاً ، وليأخذ كلّ واحد منكم بيد رجل من أهل بيتي ، وتفرّقوا في سواد هذا الليل وذروني وهؤلاء القوم ؛ فإنّهم لا يُريدون غيري )) . فقال له إخوته وأبناؤه ، وبنو أخيه وأبناء عبد الله بن جعفر : ولِمَ نفعل ذلك ؟ لنبقى بعدك ! لا أرانا الله ذلك أبداً . بدأهم بهذا القول العبّاس بن أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، وأتبعه الجماعة عليه ، فتكلّموا بمثله ونحوه .

وقام مسلم بن عوسجة الأسدي فقال : أنحن نخلّي عنك وقد أحاط بك هذا العدو ؟! وبمَ نعتذر إلى الله في أداء حقّك ؟! لا والله ، لا يراني الله أبداً وأنا أفعل ذلك حتّى أكسر في صدورهم رمحي ، واُضاربهم بسيفي ما ثبت قائمه بيدي ، ولو لم يكن معي سلاح اُقاتلهم به ، لقذفتهم بالحجارة ولم اُفارقك أو أموت معك . وقام سعيد بن عبد الله الحنفي ، فقال : لا والله يابن رسول الله ، لا نخلّيك أبداً حتّى يعلم الله إنّا قد حفظنا فيك وصية رسول الله محمّد (صلّى الله عليه وآله) . والله ، لو علمت أنّي اُقتل فيك ثمّ اُحيا ، ثمّ اُحرق   


الصفحة (92)

حيّاً ثمّ اُذرّى ، يُفعل فيَّ ذلك سبعين مرّة ، ما فارقتك حتّى ألقى حمامي دونك ، وكيف لا أفعل ذلك وإنّما هي قتلة واحدة ، ثمّ أنال الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً ؟! وقام زهير بن القَين ، وقال : والله يابن رسول الله ، لوددت أنّي قُتلت ثمّ نُشرت ألف مرّة وأنّ الله تعالى يدفع بذلك القتل عن نفسك ، وعن أنفس هولاء الفتيان من إخوانك وولدك وأهل بيتك .

وتكلّم جماعة أصحابه بكلام يشبه بعضه بعضاً ، وقالوا : أنفسنا لك الفداء ! نقيك بأيدينا ووجوهنا ، فإذا نحن قُتلنا بين يديك ، نكون قد وفّينا لربّنا وقضينا ما علينا .

قَـلَّ الصّحابـةُ غـيرَ أنّ   قليلـَهُمْ غـيرُ القَلـيلِ

منْ كلِّ أبيضَ واضحِ الـ   ـحَسَبينِ مَعدُومِ المثيلِ

* * *

المجلس الثامن والسّبعون بعد المئة

قال ابن قتيبة في الإمامة والسياسة : لم يكن أحد أحبّ إلى معاوية أنْ يلقاه من أبي الطفيل الكناني ، وهو عامر بن وائلة ، وكان فارس أهل صفّين وشاعرهم ، وكان من أخصّ النّاس بعلي (عليه السّلام) . فقدم أبو الطفيل الشام يزور ابن أخ له من رجال معاوية ، فاُخبر معاوية بقدومه ، فأرسل إليه فأتاه ، وهو شيخ كبير ، فلمّا دخل عليه ، قال له معاوية : أنت أبو الطفيل عامر بن وائلة ؟ قال : نعم . قال معاوية : أكنت ممّن قتل أمير المؤمنين عثمان ؟ قال : لا ، ولكن ممّن شهده فلم ينصره . قال : ولمَ ؟ قال : لم ينصره المهاجرون والأنصار . فقال معاوية : أما والله ، إنّ نُصرته كانت عليك وعليهم حقّاً واجباً ، وفرضاً لازماً ، فإذا ضيّعتموه فقد فعل الله بكم ما أنتم أهله ،


الصفحة (93)

وأصاركم إلى ما رأيتم . فقال أبو الطفيل : فما منعك يا أمير المؤمنين ، إذ تربّصت به ريب المنون ، أنْ تنصره ، ومعك أهل الشام ؟ فقال معاوية : أوَما ترى طلبي لدمه ؟! فضحك أبو الطفيل ، وقال : ويلي ! ولكنّي وإيّاك كما قال عبيد بن الأبرص :

لأعرِفنّكَ بعدَ الموتِ تنْدبُني   وفي حَياتي ما زَوَّدتَني زادِي

فدخل مروان بن الحكم وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحكم ، فلمّا جلسوا نظر إليهم معاوية ، ثمّ قال : أتعرفون هذا الشيخ ؟ قالوا : لا . فقال معاوية : هذا خليل علي بن أبي طالب ، وفارس صفّين ، وشاعر أهل العراق ، هذا أبو الطفيل . قال سعيد بن العاص : قد عرفناه ، فما يمنعك منه وشتمه القوم ؟ فزجرهم معاوية ، وقال : مهلاً ، فربَّ يومٍ ارتفع عن السُّباب ، قد ضقتم به ذرعاً . ثمّ قال : أتعرف هؤلاء يا أبا الطفيل ؟ قال : ما أنكرهم من سوء ، ولا أعرفهم بخير .

وأنشد شعراً :

فإنْ تكنْ العداوةُ قدْ أكنَّتْ   فشرُّ عداوةِ المرءِ السُّبابُ

فقال معاوية : يا أبا الطفيل ، ما أبقى لك الدهر من حبّ علي ؟ قال : حبّ اُمّ موسى ، وأشكو إلى الله التقصير . فضحك معاوية ، وقال : ولكن والله ، هؤلاء الذين حولك لو سُئلوا عنّي ما قالوا هذا . فقال مروان : أجل ، والله ، لا نقول الباطل . قال : ولا الحقّ تقولون ؟ ثمّ جهّزه معاوية وألحقه بالكوفة .

وسعيد بن العاص هذا ، هو والد عمرو بن سعيد بن العاص الذي كان والياً على المدينة من قِبل يزيد حين قُتل الحسين (عليه السّلام) ؛ فلمّا بلغه قتله ، وسمع واعية بني هاشم في دورهم على الحسين (عليه السّلام) حين سمعوا النداء بقتله ، ضحك وتمثّل بقول عمرو بن معد يكرب الزبيدي :

عجَّتْ نساءُ بني زيادٍ عجَّة ً  كعجيجِ نسوتُنا غداةَ الأرنَبِ


الصفحة (94)

ثمّ قال عمرو : هذه واعية بواعية عثمان . ثمّ صعد المنبر وخطب النّاس ، وأعلمهم قتل الحسين (عليه السّلام) ، وقال في خطبته : إنّها لدمَة بلدمة وصدمة بصدمة ، كم خطبة بعد خطبة وموعظة بعد موعظة ، حكمة بالغة فما تُغني النّذر ، والله ، لوددت أنّ رأسه في بدنه وروحه في جسده ، أحياناً كان يسبّنا ونمدحه ، ويقطعنا ونصله كعادتنا وعادته ، ولمْ يكن من أمره ما كان ، ولكن كيف نصنع بمَن سلّ سيفه يريد قتلنا إلاّ أنْ ندفعه عن أنفسنا .

فقام عبد الله بن السائب ، فقال : لو كانت فاطمة حيّةً ، فرأت رأس الحسين (عليه السّلام) لبكت عليه . فجبهه عمرو بن سعيد ، وقال : نحن أحقّ بفاطمة منك ؛ أبوها عمّنا ، وزوجها أخونا ، وابنها ابننا . لو كانت فاطمة حيّةً ، لبكت عينها ، وحرّت كبدها ، وما لامت مَن قتله ودفعه عن نفسه .

وأحالُوا على المقاديرِ في قَتْـ   ـلِكَ لو أنّ عذرَهُمْ مقبولُ

ما أطاعُوا فيـكَ النَّبيَّ وقدْ ما   لتْ بأسيافهمْ إليكَ الدُخولُ

* * *

المجلس التاسع والسّبعون بعد المئة

كان خُزيمة بن ثابت ـ رضي الله عنه ـ من أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الذين رجعوا إلى أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، شهد بدراً وما بعدها من المشاهد ، وجعل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) شهادته كشهادة رجلين ؛ فسُمّي : ( ذو الشهادتين ) . شهد مع أمير المؤمنين (عليه السّلام) الجمل وصفّين ، واستشهد بين يديه بصفّين .

قال المُرزُباني : روي : أنّ ابن أبي ليلى قال : كنت بصفّين ، فرأيت رجلاً


الصفحة (95)

أبيض اللحية معتمّاً متلثّماً ، لا يُرى منه إلاّ أطراف لحيته ، يُقاتل أشدّ قتال ، فقلت : يا شيخ ، تُقاتل المسلمين ؟! فحسر لثامه ، وقال : أنا خُزيمة ، سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول : (( قاتل مع عليٍّ جميعَ مَن يقاتل )) .

ولخُزيمة :

إذا نـحنُ بـايَعْنا عليّاً iiفحسبُنا   أبـو حسنٍ ممَّا نخافُ منَ iiالفِتَنْ
وجـدناهُ أولَى النّاسِ بالنّاسِ 
iiإنّهُ   أطـبُّ قُـريشٍ بالكتابِ وبالسُّننْ
وفـيه الـذي فيهمْ من الخيرِ كلِّهِ   وما فيهمُ بعضُ الذي فيهِ منْ حَسَنْ

وله أيضاً :

ما كنتُ أحسبُ هذا الأمرَ iiمُنتقلاً   عنْ هاشمٍ ثُمَّ منها عنْ أبي iiحَسنِ
 ألـيسَ أوّلَ مَـنْ صـلَّى 
iiلقبلتِهمْ   وأعـلمَ النّاسِ بالقُرآن iiوالسُّننِ
وآخـرَ النّاسِ عَهداً بالنَّبيِّ 
iiومَنْ   جبريلُ عونٌ لهُ في الغُسلِ والكَفَنِ
وفـيهِ مـا فـيهمُ لا يَمتَرون بهِ   وليس في القومِ ما فيهِ منَ 
iiالحَسَنِ
مـاذا الـذي ردَّكُـمْ عنهُ 
iiفنعلَمُهُ   هـا إنَّ بـيعتكُمْ منْ أغبنِ iiالغبَنِ
(1)

وعن الأصبغ بن نباتة ، قال : نشد علي (عليه السّلام) النّاس : (( مَن سمع النبيَّ (صلّى الله عليه وآله) قال يوم غدير خُمٍّ ما قال إلاّ قام )) . فقام بضعة عشر رجلاً ، فيهم : أبو أيوب الأنصاري ، وخُزيمة بن ثابت ذو الشهادتين ، وسهل بن حنيف الأنصاري وغيرهم ، فقالوا : نشهد إنّا سمعنا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، يقول : (( ألاَ إنّ

ــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ورد المصراع الثاني بنحو آخر ، هو : ها إنّ ذا غَبَنٌ منْ أعظمِ الغَبَنِ .


الصفحة (96)

الله عزّ وجل وليِّي ، وأنا وليُّ المؤمنين ، ألاَ فمَن كنتُ مولاه ، فعليٌّ مولاه . اللهمّ ، والِ مَن والاه ، وعادِ مَن عاداه ، وأحبَّ مَن أحبَّه ، وأبغض مَن أبغضه ، وأعنْ مَن أعانه )) . كما عن اُسد الغابة في أحوال الصحابة وغيره .

ومن الصحابة الذين رجعوا إلى أمير المؤمنين (عليه السّلام) قرظة بن كعب الأنصاري ، كان من الرّواة ، وحارب مع أمير المؤمنين (عليه السّلام) وولاّه فارس . وولدُهُ عمرو بن قرظة الأنصاري كان من أنصار الحسين (عليه السّلام) الذين بالغوا في نصرته ، ولمّا كان يوم عاشوراء ، استأذن الحسين (عليه السّلام) في القتال فأذن له ، فبرز وهو يقول :

 قدْ عَلمَـتْ كتيبَـةُ الأنصـارِ   أنّي سأحمـي حوزةَ الذُّمّارِ

ضربَ غُلامٍ غيرِ نكسٍ شاري   دونَ حُسينٍ مُهجَتي وداري

فقاتل قتال المشتاقين إلى الجزاء ، وبالغ في خدمة سلطان السّماء حتّى قتل جمعاً كثيراً من حزب ابن زياد ، وجمع بين سداد وجهاد . وكان لا يأتي إلى الحسين (عليه السّلام) سهمٌ إلاّ اتّقاه بيده ، ولا سيف إلا تلقّاه بمهجته ، فلم يكن يصل إلى الحسين (عليه السّلام) سوء حتّى اُثخن بالجراح ، فالتفت إلى الحسين (عليه السّلام) ، وقال : يابن رسول الله ، أوَفيت ؟ قال (عليه السّلام) : (( نعم ، أنت أمامي في الجنّة ، فاقرأ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عنّي السّلام ، وأعلمه أنّي في الأثر )) . فقاتل حتّى قُتل رضوان الله عليه .

 

 وتبادَرتْ تلْقَى الأسنَّةَ لا تَرى الْـ   ـغمرات إلاّ المائِساتِ الغيدَا

وكأنّما قصـدَ القـنّا بنحـورِهـمْ   دُرراً يُفصِّلُهـا الفنـاءُ عُقودَا

* * *

 
الصفحة السابقةالفهرسالصفحة اللاحقة

 

طباعة الصفحةبحث