المجالسُ السَّنيّة - الجزء الاول

 
 

الصفحة ( 127 )

وبناتك سبايا ، إلى الله المشتكى وإلى محمّد المصطفى وإلى علي المرتضى وإلى فاطمة الزهراء وإلى حمزة سيّد الشهداء . يا محمّداه ! هذا حسين بالعرا تسفي عليه ريح الصبا ، وآ حزناه ! وآ كرباه عليك يا أبا عبد الله ! اليوم مات جدّي رسول الله . يا أصحاب محمّد ، هؤلاء ذرّيّة المصطفى يُساقون سَوق السبايا ! وفي بعض الروايات : وآ محمّداه ! بناتك سبايا وذرّيّتك مقتّلة تسفي عليهم ريح الصّبا ، وهذا حسين محزوز الرأس من القفا ، مسلوب العمامة والرّدا ، بأبي مَن أضحى عسكره يوم الاثنين نهباً ، بأبي مَن فسطاطه مقطّع العرى ، بأبي مَن لا غائب فيرتجى ولا جريح فيداوى ، بأبي مَن نَفسي له الفدا ، بأبي المهموم حتّى قضى ، بأبي العطشان حتّى مضى ، بأبي مَن شيبته تقطر بالدما ، بأبي مَن جدّه رسول إله السما ، بأبي مَن هو سبط نبي الهدى ، بأبي محمّد المصطفى ، بأبي خديجة الكبرى ، بأبي علي المرتضى بأبي فاطمة الزهرا .

قال فأبكتْ والله كلّ عدوّ وصديق . ثم إنّ سكينة بنت الحسين (عليه السّلام) اعتنقت جسد أبيها فاجتمع عدّة من الأعراب حتّى جرّوها عنه .

ونـواعٍ خَرجتْ منْ خِدرِها   تـلزمُ الأيـديَ أكباداً iiوجَالا
كمْ على النَّعي لها منْ 
iiحنّةٍ   كحَنينِ النّيبِ فارقنَ الفصَالا
كبناتِ الدّوحِ تَبكي 
iiشجْوَها   وغوادي الدّمعِ تنهلّ iiانهلالا

المجلس الثالث والسّبعون

لمّا كان يوم عاشوراء وبعث ابن سعد بالرؤوس إلى الكوفة ، قام فصلّى على القتلى من أصحابه ودفنهم ، وترك الحسين (عليه السّلام) وأصحابه بغير دفن ، منبوذين بالعراء تسفي عليهم ريح الصبا .

إنْ يبقَ ملقىً بلا دفنٍ فإنّ لهُ   قبراً باحشاء مَن والاهُ محفورَا


الصفحة ( 128 )

فبقيت جثّة الحسين (عليه السّلام) وجثث أصحابه بلا دفن ثلاثة أيّام .

تهابُهُ الوحشُ أنْ تدنُو لمصرعِهِ   وقد أقام ثلاثاً غيرَ مقبورِ

* * *

ما إنْ بقيتَ منَ الهوانِ على الثَّرى   ملقىً ثلاثاً في رُبىً ووهـادِ

لكـنْ لكي تَقضي عليـكَ صلاتَها   زُمرُ الملائكِ فوق سبعِ شدادِ

فلمّا رحل ابن سعد عن كربلاء ، خرج قوم من بني أسد ـ كانوا نزولاً بالغاضريّة ـ إلى الحسين (عليه السّلام) وأصحابه فصلّوا على تلك الجثث الطواهر ودفنوها ؛ فدفنوا الحسين (عليه السّلام) حيث قبره الآن ، ودفنوا ابنه عليّاً الأكبر عند رجليه ، وحفروا للشهداء من أهل بيته ولأصحابه الذين صُرعوا حوله ممّا يلي رجلَي الحسين (عليه السّلام) ، فجمعوهم فدفنوهم جميعاً في حفيرة واحدة وسووا عليهم التراب ؛ ولذلك يمتنع أهل المعرفة من المرور من جهة رجلَي الحسين (عليه السّلام) ؛ خوفاً من المشي فوق قبورهم الشريفة .

وقال : إنّ أقربهم دفناً إلى الحسين (عليه السّلام) ولده علي الأكبر ، ودفنوا العبّاس بن علي (عليهما السّلام) في موضعه الذي قُتل فيه على المسنّاة بطريق الغاضريّة حيث قبره الآن ، ودفنوا بقيّة الشّهداء حول الحسين (عليه السّلام) في الحائر ، ودفنت بنو أسد حبيب بن مظاهر الأسدي عند رأس الحسين (عليه السّلام) حيث قبره الآن اعتناء بشأنه ، ودفنت بنو تميم الحُرّ بن يزيد الرياحي التميمي على نحو ميل من مدفن الحسين (عليه السّلام) حيث قبره الآن اعتناء به .

ويقال : إنّهم منعوا من قطع رأسه وحملوه من مصرعه ودفنوه هناك .

يا أقبراً بعراصِ الطفِّ هجتِ لنَا   حزناً يؤجـجُ في أحـشائنِا نارا

مازرتُ أرضَكِ إلاّ هيَّجتْ شَجناً   ومدمعاً فاض منْ عَينيَّ مِدرارا

وسار ابن سعد بسبايا أهل بيت الرسول (صلّى الله عليه وآله) ومَن تخلّف من عيال الحسين (عليه السّلام) ، وحمل نساءه على أحلاس الأقتاب بغير وطاء ، وهنّ ودائع خير


الصفحة ( 129 )

الأنبياء .

فلمّا قاربوا الكوفة اجتمع أهلها للنظر إليهنّ ، فأشرفت امرأة من الكوفيّات وقالت : من أي الاُسارى أنتن ؟ فقلن لها : نحن اُسارى آل (محمّد صلّى الله عليه وآله) . فنزلت من سطحها فجمعت لهنّ ملاء واُزراً ومقانع :

لهفَ نفسي يا آلَ طه عليكُمُ   لهفةً كسـبُها جـوىً وخَبالُ

قطعتْ وُصلةَ النّبيِّ بأنْ تُقـْ   ـطعَ من أهلِ بيتهِ الأوصالُ

المجلس الرابع والسّبعون

لمّا جيء بسبايا أهل البيت إلى الكوفة ، جعل أهل الكوفة ينوحون ويبكون .

قال بشر بن خزيم الأسدي : ونظرتُ إلى زينب بنت علي (عليهما السّلام) يومئذ فلمْ أرَ خَفِرة أنطق منها ، كأنّها تُفرع عن لسان أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، وقد أومَأت إلى النّاس أنْ اسكتوا ، فارتدّت الأنفاس وسكنتْ الأجراس ، ثمّ قالت : الحمد لله والصلاة على محمّد وآله الطاهرين ، أمّا بعد ، أتبكون ؟! فلا رقأت الدّمعة ولا قطعت الرنّة ، إنّما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوّة أنكاثاً ، تتّخذون أيمانكم دَخَلاً بينكم ، ألا وهل فيكم إلاّ الصلف النّظف والصدر الشنف ، وملق الإماء وغمز الأعداء ، أو كمرعى على دمنة أو كفضة على ملحودة ، ألا ساء ما قدّمتْ لكم أنفسُكم أنْ سخطَ الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون .

أتبكون وتنحبون ؟! إي والله ، فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً ، فلقد ذهبتم بعارها وشنارها ، ولن ترحضوها بغسل بعدها أبداً ، وأنّى ترحضون قتل سليل خاتم النبوّة ومعدن الرسالة وسيّد شباب أهل الجنّة ، وملاذ


الصفحة ( 130 )

حيرتكم ومفزع نازلتكم ، ومنار حجتكم ومِدْرَه(1) سنتكم ، ألا ساء ما تزرون وبُعداً لكم وسُحقاً ، فلقد خاب السّعي وتبّت الأيدي وخسرت الصفقة وبؤتم بغضب من الله ، وضُربتْ عليكم الذلّة والمسكنة .

ويلكم ! أتدرون أيّ كبد لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) فريتم ؟! وأيّ كريمة له أبرزتم ؟! وأيّ دم سفكتم ؟! وأيّ حُرمة له انتهكتم ؟! لقد جئتم بها صلعاء عنقاء سوداء فقماء نأناء خرقاء شوهاء كطلاع الأرض أو ملء السماء ، أفعجبتم أنْ مطرت السّماء دماً ؟ فلعذاب الآخرة أخزى وأنتم لا تُنصرون . فلا يستخفّنكم المهل ؛ فإنّه لا يحفزه البدار ولا يخاف فوت الثار وإنّ ربكم لبالمرصاد .

قال : فوالله ، لقد رأيت النّاس يومئذ حيارى يبكون وقد وضعوا أيديهم في أفواههم ، ورأيتُ شيخاً واقفاً إلى جنبي يبكي حتّى اخضلّت لحيته ، وهو يقول : بأبي أنتم واُمّي ! كهولكم خير الكهول ، وشبابكم خير الشّباب ، ونساؤكم خير النّساء ، ونسلكم خير نسل لا يُخزى ولا يبزى .

آلُ الرّسولِ ونِعمَ أكـْ   ـفاءُ العُلا آلُ الرّسـولِ

خيرُ الفُروعِ فروعُهُمْ   واُصولُهـمْ خيرُ الاُصولِ

المجلس الخامس والسّبعون

لمّا جيء بسبايا أهل البيت (عليهم السّلام) إلى الكوفة ، خطبت فاطمة الصغرى (عليها السّلام) فقالت : الحمد لله عدد الرمل والحصى وزنة العرش إلى الثرى ، أحمده واُؤمن به وأتوكّل عليه ، وأشهد أنْ لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً عبده ورسوله وأنّ

______________________

(1) المِدْرَه كـ ( منبر ) : السيّد الشريف ، والمقدّم في اللسان واليد عند الخصومة ، والقتّال .  ـ المولّف ـ

الصفحة ( 131 )

أولاده ذُبِحوا بشطّ الفرات بغير ذحل ولا ترات . اللهمَّ ، إنّي أعوذ بك أنْ أفتري عليك الكذب ، أو أنْ أقول عليك خلاف ما أنزلت عليه من أخذ العهود لوصيّة علي بن أبي طالب (عليه السّلام) ، المسلوب حقّه ، المقتول من غير ذنب كما قُتِل ولده بالأمس في بيت من بيوت الله ، فيه معشر مسلمة بألسنتهم ، تعساً لرؤوسهم ! ما دفعت عنه ضيماً في حياته ولا عند مماته حتّى قبضته إليك محمود النّقيبة طيّب العريكة ، معروف المناقب مشهور المذاهب ، لم تأخذه فيك اللهمَّ لومة لائم ولا عذلُ عاذل ، هديته اللهمَّ للإسلام صغيراً ، وحمدت مناقبه كبيراً ، ولمْ يزل ناصحاً لك ولرسولك حتّى قبضته إليك زاهداً في الدّنيا غير حريص عليها ، راغباً في الآخرة ، مجاهداً لك في سبيلك ، رضيته فهديته إلى صراط مستقيم .

أمّا بعد ، يا أهل المكر والغدر والخُيَلاء ، فإنّا أهل بيت ابتلانا الله بكم وابتلاكم بنا ، فجعل بلاءنا حسناً ، وجعل علمه عندنا وفهمه لدينا ، فنحن عَيبة علمه ووعاء فهمه وحكمته وحجّته على الأرض في بلاده لعباده ، أكرمنا الله بكرامته وفضّلنا بنبيّه محمّد (صلّى الله عليه وآله) على كثير ممَّن خلق تفضيلاً بيّناً ، فكذّبتمونا وكفرتمونا ورأيتم قتالنا حلالاً وأموالنا نهباً كما قتلتم جدّنا بالأمس ، وسيوفُكم تقطر من دمائنا أهل البيت لحقد متقدّم ، قرّت لذلك عيونكم وفرحت قلوبكم افتراءً على الله ومكراً مكرتم والله خير الماكرين . فلا تدعونّكم أنفسكم إلى الجذل بما أصبتم من دمائنا ونالت أيديكم من أموالنا ؛ فإنّ ما أصابنا من المصائب الجليلة والرزء العظيم ِ( في كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ )(1) .

تبّاً لكم ! فانتظروا اللعنة والعذاب ، فكأنّ قد حلّ بكم ، وتواترت من السّماء نقمات فتسحتكم بما كسبتم ، ويذيق بعضكم بأس بعض ثمّ تخلدون في العذاب الأليم يوم القيامة بما ظلمتمونا ، ألا لعنة الله على الظالمين . ويلكم ! أتدرون أي يد طاعنتنا منكم ؟! وأيّة نفس نزعت إلى قتالنا ؟! أم بأيّة رِجل مشيتم إلينا تبغون محاربتنا ؟! والله ، قست قلوبكم وغلظت أكبادكم وطُبع على أفئدتكم ، وخُتم على سمعكم وعلى بصركم غشاوة فأنتم لا تهتدون .

فتبّاً لكم ! أي ترات لرسول الله

ـــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الحديد / 22 ـ 23 .

الصفحة ( 132 )

(صلّى الله عليه وآله) قِبلكمْ ؟! وذحول له لديكم بما غدرتم بأخيه علي بن أبي طالب جدّي وبنيه وعترته الطيّبين الأخيار ؟! وافتخر بذلك مفتخر من الظالمين ، فقال :

نحنُ قتلْنا عليّاً وبني عليٍّ   بسيوفٍ هنديّةٍ ورِماحِ

وسَبيْنا نساءَهُمْ سَبيَ تُركٍ   ونَطحناهُمُ فأيُّ نِطاحِ

بفيك أيّها القائل الكثكث والأثلب ! افتخرت بقتل قوم زكّاهم الله وطهّرهم وأذهب عنهم الرجس ! فاكظم وأقع كما أقعى أبوك فإنّما لكلّ امرئ ما اكتسب وما قدّمت يداه . أحسدتمونا ـ ويلكم ـ على ما فضّلنا الله ؟!

فمَا ذنبُنا إنْ جاشَ دهراً بُحورُنا   وبحرُكَ ساجٍ ما يُواري الدّعامِصَا

ذلك فضل الله يؤتيه مَن يشاء ، ومَن لمْ يجعل الله له نوراً فما له من نور .

فارتفعت الأصوات بالبكاء والنّحيب وقالوا : حسبك يابنة الطيّبين ، فقد أحرقت قلوبنا وأنضجت نحورنا وأضرمت أجوافنا . فسكتت .

لقدْ قطعَ الأكبادَ حُزناً مُصابُها   وقدْ غادرَ الأحشاءَ تهفُو وترجفُ

فللهِ منْ خطبٍ لهُ كلُّ مهجةٍ   يحـقُّ من الوجـدِ الـمُبرَّحِ تُتلفُ

المجلس السّادس والسّبعون

لمّا جيء بسبايا أهل البيت (عليهم السّلام) إلى الكوفة ، خطبت اُمّ كلثوم بنت علي (عليه السّلام) في ذلك اليوم من وراء كلّتها رافعة صوتها بالبكاء ، فقالت : يا أهل الكوفة ، سوأة لكم ! ما لكم خذلتم حسيناً وقتلتموه ، وانتهبتم أمواله وورثتموه ، وسبيتُم نساءه ونكبتموه ؟! فتبّاً لكم وسُحقاً لكم ! أيّ دواه دهتكم ؟ وأيّ وزر على


الصفحة ( 133 )

ظهوركم حملتم ؟ وأيّ دماء سفكتموها ؟ وأيّ كريمة أصبتموها ؟ وأيّ صبية سلبتموها ؟ وأيّ أموال انتهبتموها ؟ قتلتم خير رجالات بعد النّبي (صلّى الله عليه وآله) ، ونُزعت الرّحمة من قلوبكم ، ألا إنّ حزب الله هم المفلحون وحزب الشّيطان هم الخاسرون .

ثمّ قالت :

قتلتُمْ أخيْ ظُلماً فويلٌ لاُمّكمْ   ستُجزَونَ ناراً حرُّها يتوقّدُ

سفكتُمْ دماءً حرّمَ اللهُ سفْكَهَا   وحرَّمَها القُرآنُ ثُمّ محمّد

فضجّ النّاس بالبكاء والنّحيب ، ونشر النّساء شعورهن ، ووضعن التراب على رؤوسهن ، وخمشن وجوههن ولطمن خدودهن ، ودعون بالويل والثبور ، وبكى الرجال فلم يُرَ باكٍ وباكية أكثر من ذلك اليوم .

 ثم إنّ زين العابدين (عليه السّلام) أومأ إلى النّاس أنْ اسكتوا فسكتوا ، فقام قائماً فحمد الله وأثنى عليه ، وذكر النّبي (صلّى الله عليه وآله) بما هو أهله فصلّى عليه ، ثمّ قال : (( أيّها النّاس ، مَن عرفني فقد عرفني ومَن لمْ يعرفني فأنا اُعرّفه بنفسي : أنا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، أنا ابن من انتُهك حريمه وسُلب نعيمه وانتُهب ماله وسُبي عياله ، أنا ابن المذبوح بشطّ الفرات من غير ذحل ولا ترات ، أنا ابن مَن قُتل صبراً وكفى بذلك فخراً . أيّها النّاس ، ناشدتكم بالله هل تعلمون أنّكم كتبتم إلى أبي وخدعتموه ، وأعطيتموه من أنفسكم العهد والميثاق والبيعة وقاتلتموه وخذلتموه ؟ فتبّاً لما قدّمتم لأنفسكم وسوأة لرأيكم ! بأيّة عين تنظرون إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إذ يقول لكم : قتلتم عترتي وانتهكتم حرمتي فلستم من اُمّتي ؟! )) .

فارتفعت أصوات النّاس بالبكاء من كلّ ناحية ، وقال بعضهم لبعض : هلكتم وما تعلمون . فقال (عليه السّلام) : (( رحم الله امرأً قبل نصيحتي وحفظ وصيّتي في الله ورسوله وأهل بيته ؛ فإنّ لنا في رسول الله (صلّى الله عليه وآله) اُسوة حسنة )) .

لا غِروَ إنْ قُتلَ الحُسينُ فشيخُهُ   قدْ كان خيراً منْ حُسينٍ وأكرَما

قتيـلٌ بشطِّ النَّهرِ روحي فداؤهُ   جزاءُ الذي أرْداهُ نـارُ جهـنَّما

* * *


الصفحة ( 134 )

يا ليتَ شِعريْ ما اعتذارهمُ إلى الزْ   زَهراءِ في أبنائـِها وبناتـِها

علّقـتمُـوها بالنـَّبيِّ خـصومـةً   ستَرَون في عقباكمُ تبعاتِها

المجلس السّابع والسّبعون

لمّا جيء بالسبايا والرؤوس إلى ابن زياد في الكوفة ، جلس في قصر الإمارة وأذن للناس إذناً عامّاً ، وأمر بإحضار رأس الحسين (عليه السّلام) فوُضع بين يدَيه فجعل ينظر إليه ويبتسم ، وكان في يده قضيب فجعل يضرب به ثناياه ويقول : إنّه كان حسن الثغر . وفي رواية : أنّه قال : لقد أسرع الشيب إليك يا أبا عبد الله . ثمّ قال : يوم بيوم بدر . وكان عنده أنس بن مالك فبكى وقال : كان أشبههم برسول الله (صلّى الله عليه وآله) وكان مخضوباً بالوسمة .

وكان إلى جانبه زيد بن أرقم صاحب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وهو شيخ كبير ، فلمّا رآه يضرب بالقضيب ثناياه قال له : ارفع قضيبك عن هاتين الشّفتين ، فو الله الذي لا إله غيره ، لقد رأيت شفتي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ما لا اُحصيه كثرةً يقبلهما . ثمّ انتحب باكياً ، فقال له ابن زياد : أبكى الله عينيك ، أتبكي لفتح الله ! والله ، لولا أنّك شيخ قد خرفت وذهب عقلك لضربتُ عنقك . فنهض زيد بن أرقم من بين يديه وسار إلى منزله ، وفي رواية : أنّه نهض وهو يقول : أيّها النّاس ، أنتم العبيد بعد اليوم ؛ قتلتم ابن فاطمة وأمّرتم ابن مرجانة ! والله ، ليقتلن خياركم وليستعبدن شراركم فبُعداً لمَن رضي بالذّل والعار . ثمّ قال : يابن زياد ، لاُحدثنّك حديثاً أغلظ عليك من هذا ، رأيتُ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أقعد حسناً على فخذه اليمنى وحسيناً على فخذه اليسرى ثمّ وضع يده على يافوخيهما ، ثمّ قال : (( اللهمَّ ، إنّي أستودعك إيّاهما وصالح المؤمنين )) . فكيف كانت وديعة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عندك يابن زياد ؟!

فعلتُمْ بأبناءِ النَّبيِّ ورهطِهِ   أفاعيلَ أدناهَا الخيانةُ والغدرُ


الصفحة ( 135 )

المجلس الثامن والسّبعون

لمّا اُدخل نساء الحسين (عليه السّلام) وصبيانه على ابن زياد بالكوفة ، لبست زينب (عليها السّلام) أرذل ثيابها وتنكّرت ، ومضت حتّى جلست ناحية من القصر وحفّ بها إماؤها ، فقال ابن زياد : مَن هذه ؟ فلمْ تجبه ، فأعاد الكلام ثانياً وثالثاً يسأل عنها ، فلمْ تجبه ، فقال له بعض إمائها : هذه زينب بنت فاطمة بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) . فأقبل عليها ابن زياد فقال لها : الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وأكذب اُحدوثتكم . فقالت زينب : الحمد لله الذي أكرمنا بنبيّه محمّد (صلّى الله عليه وآله) وطهّرنا من الرجس تطهيراً ، إنّما يُفتضح الفاسق ويكذب الفاجر وهو غيرنا . فقال : كيف رأيت فعل الله بأخيك وأهل بيتك ؟ فقالت : ما رأيت إلاّ جميلاً ، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم وسيجمع الله بينك وبينهم فتُحاج وتُخاصم فانظر لمَن الفلج يومئذ ، هبلتك اُمّك يابن مرجانة ! فغضب ابن زياد واستشاط وكأنّه همّ بها ، فقال له عمرو بن حريث : أيّها الأمير ، إنّها امرأة لا تؤاخذ بشيء من منطقها ولا تُذم على خطئها . فقال لها ابن زياد : لقد شفى الله قلبي من طاغيتك الحسين والعصاة المَرَدة من أهل بيتك . فرقّتْ زينب وبكتْ وقالت له : لعمري لقد قتلت كهلي وأبرزت أهلي ، وقطعت فرعي واجتثثتَ أصلي ، فإنْ كان هذا شفاؤك فقد اشتفيت . فقال ابن زياد : هذه سجّاعة ، ولَعمري لقد كان أبوها سجّاعاً شاعراً . فقالت : ما للمرأة والسّجاعة ؟! إنّ لي عن السّجاعة لشغلاً ، ولكنّ صدري نفث بما قلت .

فـقُلْ لـسرايَا شَيبةِ الحمدِ ما iiلكُمْ   قـعدّتُمْ وقدْ سارُوا بنسوتِكمْ iiأسرَى
وأعـظمُ ما يُشجي الغيورَ 
iiدخولُهُا   إلى مجلسٍ ما بارحَ اللهوَ iiوالخَمَرا
يـُقارضُها فـيهِ الـدّعيُّ مـسبّةً   ويصرفُ عنْها وجهَهُ مُعرضاً ِكبْرا


الصفحة ( 136 )

وعُرض عليه علي بن الحسين (عليهما السّلام) فقال له : مَن أنت ؟ فقال : (( أنا علي بن الحسين )) . فقال : أليس قد قتل الله علي بن الحسين ؟ فقال له علي (عليه السّلام) : (( قد كان لي أخ يسمّى عليّاً قتله النّاس )) . قال : بل الله قَتله . فقال علي بن الحسين (عليهما السّلام) : (( اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا(1) )) . فغضِب ابن زياد وقال : وبك جرأة لجوابي ، وفيك بقيّة للردّ عليّ ؟! اذهبوا به واضربوا عنقه . فتعلّقت به عمّته زينب وقالت : يابن زياد ، حسبك من دمائنا . واعتنقته وقالت : لا والله لا اُفارقه ، فإنْ قتلتَه فاقتلني معه . فنظر ابن زياد إليها وإليه ساعة ثمّ قال : عجباً للرحم ! والله ، إنّي لأظنّها ودّت أنْ قتلتها معه ، دعوه فإنّي أراه لما به . وفي رواية : أنّ علي بن الحسين (عليهما السّلام) قال لعمّته : (( اسكتي يا عمّة حتّى اُكلّمه )) . ثمّ أقبل عليه فقال : (( أبِالقتل تهدّدني يابن زياد ؟! أما علمت أنّ القتل لنا عادة وكرامتنا الشّهادة ؟! )) .

ثم أمر ابن زياد بعلي بن الحسين (عليهما السّلام) وأهل بيته فحُملوا إلى دار بجنب المسجد الأعظم .

ومـخدّراتٍ مـا اُذيـعَ iiحـديثُها   أضـحتْ أحـاديثاً لـمَنْ iiيتحدّثُ
سُبيتْ على عُجفٍ تعثّر في السّرَى   يـحـدُو بـها مـُستعجلٌ 
iiلا يلبثُ
تـعساً لـمَنْ تـَسبي بـناتَ 
iiنبيِّها   فـبـأيِّ عـُـذرٍ عـنده iiتـتشبّثُ

المجلس التاسع والسّبعون

لمّا قُتل الحسين (عليه السّلام) صعد ابن زياد المنبر ، فقال : الحمد لله الذي أظهر الحقّ وأهله ، ونصر أمير المؤمنين يزيد وحزبه ، وقتل الكذّاب ابن الكذّاب وشيعته . فما زاد على هذا الكلام شيئاً حتّى قام إليه عبد الله بن عفيف الأزدي ـ وكان من خيار الشّيعة وزهّادها وكانت عينُه اليسرى ذهبت في حرب الجمل والاُخرى في يوم صفّين ، وكان يُلازم المسجد الأعظم يصلّي فيه إلى الليل ثمّ ينصرف ـ فقال : يابن

ــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الزُّمر / 42 .

الصفحة ( 137 )

مرجانة ، إنّ الكذّاب ابن الكذّاب أنت وأبوك ومَن استعملك وأبوه . يا عدوّ الله ، أتقتلون أبناء النبيّين وتتكلّمون بهذا الكلام على منابر المسلمين ؟! فغضب ابن زياد وقال : مَن هذا المتكلّم ؟ فقال : أنا المتكلّم يا عدوّ الله ، أتقتل الذرّيّة الطاهرة التي قد أذهب الله عنها الرجس وطهّرها تطهيراً ، وتزعم أنّك على دين الإسلام ؟! وآغوثاه ! أين أولاد المهاجرين والأنصار ينتقمون منك ومن طاغيتك اللّعين ابن اللّعين على لسان محمّد رسول ربّ العالمين ؟ فازداد غضب ابن زياد حتّى انتفخت أوداجُه وقال : عليّ به . فتبادرت إليه الجلاوزة من كلّ ناحية ليأخذوه ، فقامت الأشراف من الأزد من بني عمّه فخلّصوه منهم وأخرجوه من باب المسجد وانطلقوا به إلى منزله .

فقال ابن زياد : اذهبوا إلى هذا الأعمى أعمى الأزد ، أعمى الله قلبه كما أعمى عينيه ، فائتوني به . فلمّا بلغ ذلك الأزد اجتمعوا واجتمعت معهم قبائل اليمن ليمنعوا صاحبهم ، وبلغ ذلك ابن زياد فجمع قبائل مضر وضمّهم إلى محمّد بن الأشعث وأمره بقتال القوم ، فاقتتلوا قتالاً شديداً حتّى قتل بينهم جماعة من العرب ، ووصل أصحاب ابن زياد إلى دار عبد الله بن عفيف فكسروا الباب واقتحموا عليه ، فصاحت ابنته : أتاك القوم من حيث تحذر . فقال : لا عليك ، ناوليني سيفي . فناولته إيّاه ، فجعل يذبّ عن نفسه ويقول :

أنا ابنُ ذي الفضلِ عفيفِ الطّاهرِ   عفيفُ شيخـي وابنُ اُمِّ عامرِ

كـمْ دارعٍ مـنْ قـومِكُمْ وحاسرِ   وبطـلٍ جـدّلـتُـهُ مـُغاورِ

وجعلت ابنته تقول : يا أبت ، ليتني كنت رجلاً اُخاصم بين يديك اليوم هؤلاء الفجرة ، قاتِلي العترة البررة . وجعل القوم يدورون عليه من كلّ جهة وهو يذبّ عن نفسه ، فليس يقدم عليه واحد ، وكلمّا جاؤوه من جهة قالت ابنته : يا أبت جاؤوك من جهة كذا حتّى تكاثروا عليه وأحاطوا به ، فقالت ابنته : وآذلاّه ! يُحاط بأبي وليس له ناصر يستعين به . فجعل يدير سيفه ويقول :

اُقسمُ لو يُفسحُ ليْ عنْ بَصرِي   ضاقَ عليكُمْ موْرِدي ومصدَري


الصفحة ( 138 )

قال : فما زالوا به حتّى أخذوه ، ثمّ حُمل فاُدخل على ابن زياد ، فلمّا رآه قال : الحمد لله الذي أخزاك . فقال له عبد الله : يا عدوّ الله ، وبماذا أخزاني ؟

اُقسمُ لو يُفسحُ ليْ عنْ بَصرِي   ضاقَ عليكُمْ موْرِدي ومصدَري

فقال له ابن زياد : يا عدوّ الله ، ما تقول في عثمان بن عفّان ؟ قال : يا عبد بني علاج ، يابن مرجانة ، ـ وشتمه ـ ما أنت وعثمان ، أساء أم أحسن وأصلح أم أفسد ؟ والله تبارك وتعالى وليّ خلقه يقضي بينهم وبين عثمان بالعدل والحقّ ، ولكن سلني عن أبيك وعنك وعن يزيد وأبيه . فقال ابن زياد : والله ، لا أسألك عن شيء أو تذوق الموت غصّة بعد غصّة . فقال عبد الله بن عفيف : الحمد لله ربّ العالمين ، أما إنّي قد كنت أسأل الله ربّي أنْ يرزقني الشّهادة من قبل أنْ تلدك اُمّك ، وسألتُ الله أنْ يجعل ذلك على يد ألعن خلقه وأبغضهم إليه ، فلمّا كفّ بصري يئستُ من الشّهادة ، والآن فالحمد لله الذي رزقنيها بعد اليأس منها ، وعرّفني الإجابة منه في قديم دعائي . فقال ابن زياد : اضربوا عنقه . فضُربت عنقه وصُلب في السّبخة .

أبـَتْ الحميّةُ أنْ تُفارقَ أهلَها   وأبَى العزيزُ بأنْ يعيشَ ذَليلا

* * *

فيا وقعةً لمْ يُوقعْ الدّهرُ مثلَها   وفادحةً تُنسى لديها فوادحُهْ

المجلس الثمانون

لمّا جيء برأس الحسين (عليه السّلام) إلى ابن زياد بالكوفة ، أمر ابن زياد فطيف به في سكك الكوفة كلّها وقبائلها ، ولمّا فرغ القوم من التطواف به في الكوفة ، ردّوه إلى باب القصر .

وكتب ابن زياد إلى يزيد يخبره بقتل الحسين (عليه السّلام) وخبر أهل بيته ، وتقدّم إلى عبد الملك بن الحارث السلمي فقال : انطلق حتّى تأتي عمرو بن


الصفحة ( 139 )

سعيد بن العاص بالمدينة ـ وكان أميراً عليها وهو من بني اُميّة ـ فتُبشّره بقتل الحسين ، وقال : لا يسبقنّك الخبر إليه .

قال عبد الملك : فركبت راحلتي وسرت نحو المدينة ، فلقيني رجل من قريش فقال : ما الخبر ؟ قلت : عند الأمير تسمعه . قال : إنّا لله وإنّا إليه راجعون قُتل والله الحسين . ولمّا دخلت على عمرو بن سعيد ، قال : ما وراءك ؟ قلت : ما يسرّ الأمير ، قُتل الحسين بن علي . فقال : اخرج فنادِ بقتله . فناديت فلم أسمع واعية قط مثل واعية بني هاشم في دورهم على الحسين بن علي حين سمعوا النّداء بقتله ، فدخلت على عمرو بن سعيد فلمّا رآني تبسّم إلي ضاحكاً ، ثمّ تمثّل بقول عمرو بن معد يكرب الزبيدي ، وقيل : إنّه لمّا سمع أصوات نساء بني هاشم ضحك وتمثّل بذلك ، فقال :

عجّتْ نِساءُ بَني زيادٍ عجّةً   كعجيجِ نِسوَتِنا غداةَ الأرنَبِ

ثم قال عمرو : هذه واعية بواعية عثمان . ثمّ صعد المنبر وخطب النّاس وأعلمهم قتل الحسين (عليه السّلام) وقال في خطبته : إنّها لدمَة بلدمة وصدمة بصدمة ، كم خطبة بعد خطبة وموعظة بعد موعظة ، حكمة بالغة فما تغني النّذر ، والله لوددت أنّ رأسه في بدنه وروحه في جسده ، أحياناً كان يسبّنا ونمدحه ، ويقطعنا ونصله كعادتنا وعادته ، ولمْ يكن من أمره ما كان ، ولكن كيف نصنع بمَن سلّ سيفه يريد قتلنا إلاّ أنْ ندفعه عن أنفسنا .

فقام عبد الله بن الصائب فقال : لو كانت فاطمة (عليها السّلام) حيّة فرأت رأس الحسين (عليه السّلام) لبكت عليه . فجبهه عمرو بن سعيد وقال : نحن أحقّ بفاطمة منك ؛ أبوها عمّنا وزوجها أخونا وابنها ابننا ، لو كانت فاطمة حيّة لبكت عينها وحرّت كبدها ، وما لامت مَن قتله ودفعه عن نفسه .

وخرجت اُمّ لقمان بنت عقيل بن أبي طالب حين سمعت نعي الحسين (عليه السّلام) حاسرةً ومعها أخواتها ؛ اُمّ هانئ وأسماء ورملة وزينب بنات عقيل بن أبي طالب تبكي قتلاها بالطفّ ، وهي تقول :

ماذا تقولونَ إنْ قال النّبيُّ لكُمْ   ماذا فعلـتُمْ وأنـتُمْ آخِـرَ الاُمَمِ

بعترَتي وبأهـلي بعدَ مُفتَقَدي   منهُمْ اُسارى وقتلى ضُرّجوا بدَمِ


الصفحة ( 140 )

المجلس الواحد والثمانون

كان ابن زياد كتب إلى يزيد كتاباً يُخبره فيه بقتل الحسين (عليه السّلام) ، فلمّا وصل إليه الكتاب أجابه يأمره بحمل رأس الحسين (عليه السّلام) ورؤوس مَن قُتل معه ، وحمل أثقاله ونسائه وعياله إلى الشام .

فأرسل ابن زياد الرؤوس مع زحر بن قيس ، ثمّ أمر بنساء الحسين (عليه السّلام) وصبيانه فجُهّزوا وأمر بعلي بن الحسين (عليهما السّلام) فغُلّ إلى عنُقه ، وفي رواية : في يدَيه ورقبته ، ثمّ سرّح بهم في أثر الرؤوس مع محفر بن ثعلبة العائدي وشمر بن ذي الجوشن ، وحملهم على الأقتاب وساروا بهم كما يسار بسبايا الكفّار ، فانطلق بهم حتّى لحقوا بالقوم الذين معهم الرؤوس ، فلم يُكلّم علي بن الحسين (عليهما السّلام) أحداً منهم في الطريق بكلمة حتّى بلغوا دمشق . فلمّا انتهوا إلى باب يزيد ، رفع محفر صوته فقال : هذا محفر بن ثعلبة أتى أمير المؤمنين باللئام الفجرة . فأجابه علي بن الحسين (عليهما السّلام) : (( ما ولدت اُمّ محفر أشرّ )) .

وسمع يزيد غراباً ينعب فأنشد :

لمّا بَـدتْ تلك الحُـمولُ وأشـرَقتْ   تلك الشُّموسُ على رُبى جَيرونِ

نعبَ الغُرابُ فقلتُ صِحْ أو لا تَصحْ   فلقدْ قضيتُ من الغـريمِ دِيوني

ولمّا قربوا من دمشق ، دنت اُمّ كلثوم من شمر فقالت له : لي إليك حاجة . فقال : ما حاجتك ؟ قالت : إذا دخلت بنا البلد فاحملنا في درب قليل النظّارة ، وتقدّم إليهم أنْ يخرجوا هذه الرؤوس من بين المحامل وينحونا عنها ؛ فقد خُزينا من كثيرة النّظر إلينا ونحن في هذه الحال . فأمر ـ في جواب سؤالها ـ أنْ تُجعل الرؤوس على الرّماح في أوساط المحامل ؛ بغياً منه وكفراً ، وسلك بهم بين النظّارة على تلك الصفة حتّى أتى بهم باب دمشق ، فوقفوا على درج باب المسجد الجامع حيث يقام


الصفحة ( 141 )

السبي .

وجاء شيخ فدنا من نساء الحسين (عليه السّلام) وعياله ، وقال : الحمد لله الذي أهلككم وقتلكم وأراح البلاد من رجالكم وأمكن أمير المؤمنين منكم . فقال له علي بن الحسين (عليهما السّلام) : (( يا شيخ ، هل قرأت القرآن ؟ )) . قال : نعم . قال : (( فهل عرفت هذه الآية : قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاّ الْمَوَدّةَ فِي الْقُرْبَى(1) ؟ )) . قال : قد قرأت ذلك . فقال له علي (عليه السّلام) : (( فنحن القربى يا شيخ . فهل قرأت في سورة بني إسرائيل : وَآتِ ذَا الْقُرْبَى‏ حَقّهُ(2) ؟ )) . فقال : قد قرأت ذلك . فقال علي (عليه السّلام) : (( فنحن القربى يا شيخ . فهل قرأت الآية : واعْلَمُوا أَنّمَا غَنِمْتُم مِن شَيْ‏ءٍ فَأَنّ للّهِ‏ِ خُمُسَهُ وَلِلرّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى(3) ؟ )) . قال : نعم . فقال علي (عليه السّلام) (( فنحن القربى يا شيخ . ولكن هل قرأت : إِنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً(4) ؟ )) . قال : قد قرأت ذلك . فقال علي (عليه السّلام) : (( فنحن أهل البيت الذين خصّنا الله بآية الطهارة يا شيخ )) .

قال : فبقي الشيخ ساكتاً نادماً على ما تكلّم به ، وقال : بالله إنّكم هم ؟ فقال علي بن الحسين (عليهما السّلام) : (( تالله ، إنّا لنحن هم من غير شكّ وحقّ جدِّنا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إنّا لنحن هم )) . فبكى الشيخ ورمى عمامته ثمّ رفع رأسه إلى السّماء وقال : اللهمَّ ، إنّي أبرأ إليك من عدوّ آل محمّد . ثمّ قال : هل لي من توبة ؟ فقال (عليه السّلام) له : (( نعم ، إنْ تبتَ تاب الله عليك وأنت معنا )) . فقال : إنّي تائب . فبلغ يزيد بن معاوية حديث الشيخ فأمر به فقُتل .

وأجـلُّ يومٍ بعد يومِكَ حلَّ في iiالْـ   إسـلامِ مـنهُ يـشيبُ كـلُّ iiجَنينِ
يومٌ سَرتْ أسرَى كما شاءَ 
iiالعِدى   فـيهِ الـفواطمُ مـن بني iiياسينِ
لا طابَ عيشُكَ يا زمانُ ولا جَرتْ   أنـهارُ مـائِكَ لـلورَى 
iiبـمعينِ

المجلس الثاني والثمانون

عن سهل بن سعد أنّه قال : خرجت إلى بيت المقدس حتّى توسطت الشام ، فإذا أنا بمدينة مطّردة الأنهار كثيرة الأشجار وقد علّقوا السّتور والحُجب والديباج

______________________
(1) سورة الشورى / 23 .
(2) سورة الإسراء / 26 .
(3) سورة الأنفال / 41 .
(4) سورة الأحزاب / 33 .

الصفحة ( 142 )

وهم فرحون مستبشرون وعندهم نساء يلعبن بالدفوف والطبول ، فقلت في نفسي : ترى لأهل الشام عيد لا نعرفه نحن ! فرأيت قوماً يتحدّثون فقلت : يا قوم ، ألكم بالشام عيد لا نعرفه نحن ؟ قالوا : يا شيخ ، نراك غريباً . فقلت : أنا سهل بن سعد قد رأيت محمّداً (صلّى الله عليه وآله) . قالوا : يا سهل ، ما أعجب السّماء لا تمطر دماً والأرض لا تنخسف بأهلها ! قلت : ولِم ذاك ؟ قالوا : هذا رأس الحسين عترة محمّد (صلّى الله عليه وآله) يُهدى من أرض العراق . فقلت : وآ عجباً يُهدى رأس الحسين (عليه السّلام) والنّاس يفرحون ! وقلت : من أيّ باب يدخل ؟ فأشاروا إلى باب يقال له باب السّاعات ، فبينا أنا كذلك حتّى رأيت الرايات يتلو بعضها بعضاً ، فإذا نحن بفارس بيده لواء منزوع السّنان عليه رأس من أشبه النّاس وجهاً برسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، فإذا من ورائه نسوة على جمال بغير وطاء ، فدنوت من اُولاهن فقلت : يا جارية ، مَن أنت ؟ فقالت : أنا سكينة بنت الحسين . فقلت لها : ألك حاجة إليّ فأنا سهل بن سعد ممَّن رأى جدّك وسمعت حديثه ؟ قالت : يا سهل ، قُل لصاحب هذا الرأس أنْ يُقدّم الرأس أمامنا حتّى يشتغل النّاس بالنظر إليه ، ولا ينظروا إلى حرم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) . قال سهل : فدنوت من صاحب الرأس فقلت له : هل لك أنْ تقضي حاجتي وتأخذ منّي أربعمئة دينار ؟ قال : ما هي ؟ قلت : تقدّم الرأس أمام الحرم . ففعل ذلك ودفعت إليه ما وعدته .

وروي أنّ بعض فضلاء التابعين ، وهو خالد بن معدان ، لمّا شاهد رأس الحسين (عليه السّلام) بالشام ، أخفى نفسه شهراً من جميع أصحابه ، فلمّا وجدوه بعد إذ فقدوه وسألوه عن سبب ذلك ، فقال : ألا ترون ما نزل بنا ؟! ثمّ أنشأ يقول :

جاؤوا برأسِكَ يابنَ بنتِ محمّد   مـُتـرمّلاً بـدمـائِهِ iiتَـرمِيلا
وكـأنّما بكَ يابنَ بنتِ 
iiمحمّد   قَـتلوا جَـهاراً عامِدينَ iiرَسُولا
قـتلُوكَ عـَطشاناً ولمّا 
iiيَرقُبوا   فـي قـتلِكَ التّأويلَ iiوالتّنْزيلا
ويـُكبّرونَ بـأنْ قُـتلتَ 
iiوإنّما   قـتلوا بـكَ الـتّكبيرَ iiوالتّهليلا

* * *


الصفحة ( 143 )

المجلس الثالث والثمانون

لمّا اُدخل ثقل الحسين (عليه السّلام) ونساؤه ومَن تخلّف من أهله على يزيد ، وهم مقرونون في الحبال وزين العابدين (عليه السّلام) مغلول ، ووقفوا بين يدَيه وهم على تلك الحال ، قال له علي بن الحسين (عليهما السّلام) : (( اُنشدك الله يا يزيد ، ما ظنّك برسول الله (صلّى الله عليه وآله) لو رآنا على هذه الصفة ؟ )) . فلم يبقَ في القوم أحد إلاّ وبكى ، فأمر يزيد بالحبال فقُطعت وأمر بفكّ الغلّ عن زين العابدين (عليه السّلام) ، ثم وضع رأس الحسين (عليه السّلام) بين يدَيه وأجلس النّساء خلفه ؛ لئلاّ ينظرن إليه ، فجعلت فاطمة وسكينة يتطاولان لينظرا إلى الرأس ، وجعل يزيد يتطاول ليستر عنهما الرأس ، فلما رأينَ الرأس صِحن فصاحت نساء يزيد وولولت بنات معاوية ، فقالت فاطمة بنت الحسين (عليه السّلام) : أبنات رسول الله سبايا يا يزيد ؟ فبكى النّاس وبكى أهل داره حتّى علت الأصوات .

وأمّا زينب (عليها السّلام) ، فإنّها لمّا رأته أهوت إلى جيبها فشقّته ، ثمّ نادت بصوت حزين يُقرح القلوب : يا حسيناه ! يا حبيب رسول الله ! يابن مكّة ومِنى ! يابن فاطمة الزهراء سيّدة النّساء ! يابن بنت المصطفى !

قال الراوي : فأبكت والله كلّ مَن كان حاضراً في المجلس ويزيد ساكت ، ثمّ جعلت امرأة من بني هاشم كانت في دار يزيد تندب الحسين(عليه السّلام) وتنادي : يا حبيباه ! يا سيّد أهل بيتاه ! يابن محمّداه ! يا ربيع الأرامل واليتامى ! يا قتيل أولاد الأدعياء ! فأبكت كلّ مَن سمعها .

وكان في السّبايا الرباب بنت امرئ القيس زوجة الحسين (عليه السّلام) ، وهي اُمّ سكينة بنت الحسين (عليه السّلام) واُمّ عبد الله الرضيع المقتول بكربلاء ، وهي التي يقول فيها الحسين (عليه السّلام) .

لـعَمرُكَ إنّـني لاُحبُّ iiداراً   تـَحلُّ بـها سَكينَةُ والرَّبابُ
اُحِـبُّهُما وأبذلُ فوقَ جهدي   ولـيس لعاذلٍ عندي 
iiعِتابُ
ولستُ لهمْ وإنْ عَتبوا مُطيعاً   حَـياتي أو يُغيّبُني 
iiالتُّرابُ
 


الصفحة ( 144 )

فقيل : إنّ الرّباب أخذت الرأس ووضعته في حجرها وقبّلته ، وقالت :

وآ حُسينا فلا نَسيتُ حُسيناً   أقصَدتْـهُ أسنَّـةُ الأعـداءِ

غـادَرُوهُ بكربَلاءَ صَريعاً   لا سقَى اللهُ جانِبـَي كربلاءِ

المجلس الرابع والثمانون

لمّا وُضعت الرؤوس بين يدي يزيد وفيها رأس الحسين (عليه السّلام) ، جعل يتمثل بقول الحُصين بن الحمام المُرّي :

صَبرْنا وكان الصّبرُ منّا سَجيّةً   بـأسيافِنا تَفرينَ هاماً iiومِعصَمَا
أبَى قومُنا أنْ يُنصفونا فأنصَفتْ   قواضِبُ في أَيمانِنا تَقطرُ 
iiالدِّمَا
نـُفلّقُ هَـاماً منْ رجالٍ 
iiأعزّةٍ   عـلينا وهُمْ كانوا أعقَّ وأظلمَا

ودعا بقضيب خيزران وجعل ينكت به ثنايا الحسين (عليه السّلام) ، ثمّ قال : يوم بيوم بدر . وكان عنده أبو برزة الأسلمي فقال : ويحك يا يزيد ، أتنكت بقضيبك ثغر الحسين بن فاطمة ؟! أشهد لقد رأيت النّبي (صلّى الله عليه وآله) يرشف ثناياه وثنايا أخيه الحسن ويقول : (( أنتما سيّدا شباب أهل الجنّة ، فقتل الله قاتلكما ولعنه وأعدّ له جهنّم وساءت مصيراً )) . فغضب يزيد وأمر بإخراجه فاُخرج سحباً .

وفي رواية : أنّ يزيد دعا أشراف أهل الشام فأجلسهم حوله ، ثمّ دعا بعلي بن الحسين (عليهما السّلام) وصبيان الحسين (عليه السّلام) ونسائه فاُدخلوا عليه والنّاس ينظرون ، ثمّ قال يزيد لعلي بن الحسين (عليهما السّلام) : يابن الحسين ، أبوك قطع رحِمي وجهل حقّي ونازعني سُلطاني ، فصنع الله به ما قد رأيت . فقال علي بن الحسين (عليهما السّلام) : (( مَا أَصَابَ مِن مُصِيَبةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلاّ فِي كِتَابٍ مِن قَبْلِ أَن نَبْرَأَهَا إِنّ ذلِكَ عَلَى‏ اللّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْ لاَ تَأْسَوْا عَلَى‏ مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللّهُ لاَ يُحِبّ كُلّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ(1) )) .

وقال علي بن الحسين (عليهما السّلام) :

______________________
(1) سورة الحديد / 22 ـ 23 .
 
الصفحة السابقةالفهرسالصفحة اللاحقة

 

طباعة الصفحةبحث