المجالس السَّنيّة - الجزء الثاني

 
 

الصفحة ( 243 )

المجلس الثّلاثون بعد المئة

كان أبو ذر الغفاري ـ واسمه جندب بن جنادة ـ من خيار أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) , الموالين لأمير المؤمنين (عليه السّلام) والهاتفين بفضائله . وفي الإستيعاب : كان من كبار الصّحابة قديم الإسلام . وقال علي (عليه السّلام) : (( وعى أبو ذر علماً عجز النّاس عنه , ثُمّ أوكأ عليه فلم يخرج شيئاً منه )) . وقال النّبي (صلّى الله عليه وآله) : (( أبو ذر في اُمّتي على زهد عيسى بن مريم (عليه السّلام) )) . وقال النّبي (صلّى الله عليه وآله) : (( ما أظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر )) . روي ذلك كلّه في الإستيعاب وغيره .

قال الامام الصّادق (عليه السّلام) : (( أرسل عثمان إلى أبي ذر مولَيَين له ومعهما مئتا دينار , فقال لهما : إنطلقا بها إلى أبي ذر فقولا له : عثمان يقرؤك السّلام ويقول لك : هذه مئتا دينار فاستعن بها على ما نابك . فقال أبو ذر : فهل أعطى أحداً من المسلمين مثلما أعطاني ؟ فقالا : لا . قال : فأنا رجل من المسلمين , يسعني ما يسع المسلمين . فقالا : إنّه يقول : هذا من صلب مالي ، و بالله الذي لا إله إلا هو ، ما خالطها حرام , ولا بعثت إليك إلاّ من حلال . فقال : لا حاجة لي فيها وقد أصبحت يومي هذا وأنا من أغنى النّاس . فقالا له : عافاك الله واصلحك ! ما نرى في بيتك قليلاً ولا كثيراً مما تستمتع به . فقال : بلى , تحت هذا الأكاف(1) الذي ترونه رغيف شعير قد أتى عليه أيام , فما أصنع بهذه الدّنانير ؟ لا والله , حتّى يعلم الله أنّي لا أقدر على قليل ولا كثير , ولقد أصبحت غنيّاً بولاية علي بن أبي طالب وعترته الهادين المهديين الرّاضين المرضيين , الذين يهدون بالحقّ وبه يعدلون .

وكذلك سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول : إنّه لقبيح بالشّيخ أنْ يكون كذّاباً . فرِدّاها عليه واعلماه أنّه لا حاجة لي فيها , ولا فيما عنده حتّى ألقى الله ربّي , فيكون هو الحاكم فيما بينه وبيني )) .

ــــــــــــــــــــ
(1) الأكاف : الجلال الذي يوضع على الحمار .

الصفحة ( 244 )

ونُفي أبو ذر أولاً إلى الشّام , فجعل يُحدّث النّاس بفضائل علي وأهل بيته (عليهم السّلام) وينتقد أعمال بني اُميّة ، فرُدّ إلى المدينة . وقيل له : أيّ البلاد أبغض إليك أنْ تكون فيها ؟ قال : الرّبذة التّي كنت فيها على غير دين الإسلام . فنفي إلى الرّبذة .

 وقال له رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في غزاة تبوك : (( يا أبا ذر ، تعيش وحدك ، وتموت وحدك ، وتُبعث وحدك )) . ودخل عليه قوم من أهل الرّبذة يعودونه , فقالوا : ما تشتكي ؟ قال : ذنوبي . قالوا : فما تشتهي ؟ قال : رحمة ربي . قالوا : فهل لك بطبيب ؟ قال : الطّبيب أمرضني .

ولمّا نُفي إلى الرّبذة , ماتت بها زوجته(1) , ومات بها ولده ، فوقف على قبره فقال : رحمك الله يا بُني , لقد كنت كريم الخلق بارّاً بالوالدين , وما عليّ في موتك من غضاضة , وما بي إلى غير الله من حاجة , وقد شغلني الإهتمام لك عن الاعتماد بك . ثُمّ قال : اللهمَّ , إنّك فرضت لك عليه حقوقاً وفرضت لي عليه حقوقاً , فإنّي قد وهبت له ما فرضت عليه من حقوقي فهب له ما فرضت عليه من حقوقك , فإنّك أولى بالحقّ والكرم منّي .

أين وقوف أبي ذر على ولده بعد موته من وقوف أبي عبد الله الحسين (عليه السّلام) على ولده علي الأكبر يوم كربلاء ؟ وذلك حين حمل على أهل الكوفة وجعل يشدّ على النّاس , فاعترضه مُرّة بن مُنقذ وطعنه بالرّمح . وقيل : بل رماه بسهم فصرعه فنادى : يا ابتاه ! عليك السّلام ، هذا جدّي رسول الله يقرؤك السّلام ، ويقول لك : (( عجّل القدوم علينا )) . واعتوره النّاس فقطّعوه بأسيافهم , فجاء الحسين (عليه السّلام) حتّى وقف عليه ، وقال : (( قتل الله قوماً قتلوك يا بُني , ما أجرأهم على الرّحمن وعلى انتهاك حُرمة الرّسول ! على الدّنيا بعدك العفا )) . وخرجت زينب بنت علي (عليه السّلام) وهي تُنادي : يا حبيباه ! ويابن أخاه ! وجاءت فأكبّت عليه , فجاء الحسين (عليه السّلام) فأخذ بيدها وردّها إلى الفسطاط ، وأقبل بفتيانه وقال : (( احملوا أخاكم )) . فحملوه من مصرعه حتّى وضعوه بين يدي الفسطاط الذي كانوا يقاتلون أمامه .

وأعضاءُ مجدٍ ما توزّعت الظّبا  بتوزيعهـا إلاّ النّـدى والمعاليا

لئن فرّقتهـا آلُ حربٍ فلم تكُنْ  لتجمع حتّى الحشر إلاّ المخاريا

ــــــــــــــــــ
(1) وقيل : زوجته بقيت بعد وفاته .

الصفحة ( 245 )

 

المجلس الواحد والثّلاثون بعد المئة

قال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة : إنّ عثمان لمّا أعطى مروان بن الحكم وغيره بيوت الأموال ، واختصّ زيد بن ثابت بشيء منها , جعل أبو ذر يقول بين النّاس وفي الطّرقات والشّوارع : بشّر الكافرين بعذاب أليم . ويرفع بذلك صوته ويتلو قوله تعالى : ( وَالّذِينَ يَكْنِزُونَ الذّهَبَ وَالْفِضّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ )(1) . فرُفع ذلك إلى عثمان مراراً وهو ساكت , ثُمّ إنّه أرسل إليه : أنْ انتهِ عمّا بلغني عنك . فقال أبو ذر : أينهاني عن قراءة كتاب الله تعالى وعيب مَن ترك أمر الله ؟! فوالله ، لإنْ اُرضي الله بسخط عثمان أحبّ إليّ وخير لي من أنْ أسخط الله برضى عثمان . فاغضب عثمان ذلك , فتصابر إلى أنْ قال عثمان يوماً والنّاس حوله : أيجوز للامام أنْ يأخذ من المال شيئاً قرضاً , فاذا أيسر قضى ؟ فقال كعب الأحبار : لا بأس بذلك . فقال أبو ذر : يابن اليهوديين ، أتعلّمنا ديننا ؟! فقال عثمان : قد كثر أذاك لي وتولّعك بأصحابي , الحقْ بالشّام . فأخرجه إليها .

 وكان معاوية يومئذٍ بالشّام والياً عليها من قِبل عثمان , فكان أبو ذر ينكر على معاوية أشياء يفعلها , فبعث إليه معاوية يوماً ثلاثمئة دينار , فقال أبو ذر لرسوله : إنْ كانت من عطائي الذي حرمتمونيه من عامي هذا ، أقبلها ، وإنْ كانت صلة , لا حاجة لي فيها وردّها عليه .

 ثُمّ بنى معاوية الخضراء بدمشق , فقال أبو ذر : يا معاوية , إنْ كانت هذه من مال الله فهي الخيانة ، وإنْ كانت من مالك فهي الإسراف .

 وكان أبو ذر يقول بالشّام : والله , لقد حدثت أعمال ما أعرفها . والله , ما هي في كتاب الله ولا سنة نبيه (صلّى الله عليه وآله) . والله , إنّي لأرى حقّاً يُطفأ ، وباطلاً يحيا ، وصادقاً مكذَّباً , واثرة بغير تقىً ، وصالحاً مستأثَراً عليه .

وروي عن ابن جندل الغفاري قال : جئت يوماً إلى معاوية فسمعت صارخاً على باب داره يقول : أتتكم القطار بحمل النّار . اللهمّ , إلعن الآمرين بالمعروف التاركين

ـــــــــــــــــــ
(1) سورة التوبة / 34 .

الصفحة ( 246 )

له . اللهمّ , إلعن النّاهضين عن المنكر المرتكبين له . فازبأرّ معاوية وتغيّر لونه , وقال لي : أتعرف الصّارخ ؟ فقلت : لا . قال : من عذيري من جندب بن جنادة , يأتينا كلّ يوم فيصرخ على باب قصرنا بما سمعت . ثُمّ قال : ادخلوه عليّ . فجيء بأبي ذر بين قوم يقودونه حتّى وقف بين يديه , فقال له معاوية : يا عدو الله وعدو رسوله , تأتينا في كلّ يوم فتصنع ما تصنع ! أما إنّي لو كنت قاتل رجل من أصحاب محمّد من غير إذن أمير المؤمنين عثمان لقتلتك , ولكنّي أستأذن فيك . فقال أبو ذر : ما أنا بعدو لله ولا لرسوله , بل أنت وأبوك عدوّان لله ولرسوله ؛ أظهرتما الإسلام وأبطنتما الكفر , ولقد لعنك رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ودعا عليك مرّات أنْ لا تشبع .

 فأمر معاوية بحبسه وكتب إلى عثمان فيه , فكتب عثمان إلى معاوية : احمل جندباً إليّ على أغلظ مركب وأوعره . فوجّه به مع مَن سار به الليل والنّهار ، وحمله على شارف ـ أي ناقة صغيرة صعبة ليس عليها إلاّ قتب ـ حتّى قدم به المدينة وقد سقط لحم فخذيه من الجهد . ولمّا اُدخل أبو ذر على عثمان , قال له : أنت الذي فعلت وفعلت ؟ فقال أبو ذر : نصحتك فاستغششتني , ونصحت صاحبك فاستغشّني . قال عثمان : كذبت , ولكنّك تريد الفتنة وتحبّها . قال أبو ذر : والله , ما وجدت لي عذراً إلاّ الأمر بالمعروف والنّهي عن المُنكر . فغضب عثمان وقال : أشيروا عليّ في هذا الشّيخ الكذّاب , إمّا أنْ أضربه أو أحبسه أو أقتله أو أنفيه من أرض الإسلام ؟ فتكلّم علي (عليه السّلام) ، وكان حاضراً ، فقال : (( أشير عليك بما قال مؤمن آل فرعون : وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّاب(1) )) . فغضب عثمان .

 قال : ومنع عثمان النّاس أنْ يُجالسوا أبا ذر ويكلّموه , فمكث كذلك أياماً , ثُمّ اُتي به فوقف بين يديه , فقال عثمان : اخرج عنّا من بلادنا . فقال أبو ذر : ما أبغض إليّ جوارك , فإلى أين أخرج ؟ قال : إلى البادية . قال : أصير بعد الهجرة إعرابياً ؟! قال أبو ذر : فأخرج إلى بادية نجد . قال عثمان : بل إلى الشّرق الأبعد ، أقصى فأقصى , امضِ على وجهك هذا , فلا تعدون الرّبذة . فخرج إليها .

فلمّا حضرته الوفاة , قال لامرأته أو ابنته : إذبحي شاة من غنمك واصنعيها , فإذا نضجت فاقعدي على قارعة الطّريق ، فأوّل ركب ترينهم

ــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة غافر / 28 .

الصفحة ( 247 )

قولي : يا عباد الله الصالحين ، هذا أبو ذر صاحب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قد قضى نحبه ولقي ربّه ، فأعينوني فأجنوه(1) .

قال محمّد بن علقمة : خرجت في رهط اُريد الحجّ منهم مالك بن الحارث الأشتر حتّى قدمنا الرّبذة ، فإذا امرأة على قارعة الطّريق , تقول : عباد الله المُسلمين ! هذا أبو ذر صاحب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قد هلك غريباً ، وليس لي أحد يعينني عليه . قال : فنظر بعضنا إلى بعض , فحمدنا الله على ما ساق إلينا واسترجعنا لعظيم المصيبة , ثُمّ أقبلنا معها فجهّزناه وتنافسنا في كفنه حتّى اُخرج من بيننا بالسّواء , ثُمّ تعاونّا على غسله حتّى فرغنا منه , ثُمّ قدمنا مالك الأشتر فصلّى بنا عليه , ثُمّ دفنّاه . فقام الأشتر على قبره , ثُمّ قال : اللهمّ , إنّ هذا أبو ذر صاحب رسولك , عبدك في العابدين ، وجاهد فيك المشركين , لم يُغيّر ولم يُبدّل ، لكنّه رأى مُنكراً فغيّره بلسانه وقلبه حتّى جفي ونفي ، وحرم واحتقر , ثُمّ مات وحيداً غريباً . اللهمّ , فاقصم مَن حرمه ونفاه من مهاجره وحرم رسولك .

قال : فرفعنا أيدينا جميعاً وقلنا آمين . ثم قدّمت الشّاة التّي صنعت , فقالت : أيها الصّالحون ، قد اقسم عليكم أنْ لا تبرحوا حتّى تتغدّوا ، فتغدّينا وارتحلنا .

أفما كان يوجد يوم عاشوراء مَن يقف على قارعة طريق كربلاء , لمّا بقي الحسين (عليه السّلام) ثلاثة أيام بلا دفن فيُنادي : أيّها المسلمون , هذا إمامكم وابن بنت نبيّكم الحسين , قد قُتل غريباً ، وتُرك على وجه الصّعيد عرياناً سليباً , لم يصلَّ عليه ، ولم يُدفن فهلمّوا إلى مواراته ودفنه ؟!

 لقد تعس اُولئك المسلمون وخسروا وخابوا وما ظفروا , خذلوا ابن بنت نبيّهم وقتلوه ، وأطاعوا ابن مرجانة ونصروه .

لله ملقىً على الرّمضاء غصَّ بهِ  فـمُ الـرّدى بعد إقدامٍ iiوتشميرِ
تـحنو عليه الرّبى ظلاً 
iiوتسترهُ  عـن النّواظر أذيالُ iiالأعاصيرِ
تهابه الوحشُ أنْ تدنو 
iiلمصرعهِ  وقـد أقـام ثـلاثاً غير iiمقبورِ

ـــــــــــــــــــــ
(1) أي واروه في التّراب .

الصفحة (248)

المجلس الثّاني والثّلاثون بعد المئة

روى ابن أبي الحديد عن ابن عباس قال : لمّا اُخرج أبو ذر إلى الرّبذة , أمر عثمان فنودي في النّاس أنْ لا يُكلِّم أحد أبا ذر ولا يشيّعه , وأمر مروان بن الحكم أنْ يخرج به ، فخرج به وتحاماه النّاس : أي اجتنبوه . إلاّ عليّاً (عليه السّلام) وعقيلاً أخا علي ، وحسناً وحسيناً (عليه السّلام) وعمّاراً , فإنّهم خرجوا معه يشيّعونه , فجعل الحسن (عليه السّلام) يُكلّم أبا ذر , فقال له مروان بن الحكم : ايهاً يا حسن ، ألا تعلم إنّ أمير المؤمنين عثمان قد نهى عن كلام هذا الرجل ؟ فإنْ كُنت لا تعلم فاعلم ذلك . فحمل علي (عليه السّلام) على مروان ، فضرب بالسّوط بين اذني راحلته , وقال : (( تنحَّ لحاك الله إلى النّار )) .

فرجع مروان مُغضباً إلى عثمان فاخبره الخبر ، فتلظّى على علي (عليه السّلام) . ووقف أبو ذر فودّعه القوم ، ومعه ذكوان مولى اُمّ هاني بنت أبي طالب , قال ذكوان : فَحفِظتُ كلام القوم ـ وكان حافظاً ـ فقال علي (عليه السّلام) : (( يا أبا ذر ، إنّك غضبت لله فارجُ مَن غضبت له . إنّ القوم خافوك على دنياهم وخفتهم على دينك , فاترك في أيديهم ما خافوك عليه واهرب بما خفتهم عليه , فما أحوجهم إلى ما منعتهم وما أغناك عمّا منعوك , وستعلم مَن الرّابح غداً والأكثر حسداً . ولو أنّ السّماوات والأرض كانتا على عبد رتقاً ثُمّ اتقى الله ، لجعل الله له منها مخرجاً . لا يؤنسنك إلاّ الحقّ ولا يوحشنّك إلاّ الباطل . فلو قبلت دنياهم لأحبّوك ، ولو قرضت منها لأمنوك )) .

 ثُمّ قال لأصحابه : (( ودّعوا عمّكم )) . وقال لعقيل : (( ودّع أخاك )) . فتكلم عقيل , فقال : ما عسى أنْ نقول يا أبا ذر , وأنت تعلم إنّا نحبك وأنت تحبنا , فاتّقِ فإنّ التقوى نجاة ، واصبر فإنّ الصّبر كرم . واعلم إنّ استثقالك الصّبر من الجزع ، واستبطاءك العافية من اليأس , فدع اليأس والجزع .

ثُمّ تكلم الحسن (عليه السّلام) فقال : (( يا عمّاه , لولا أنّه لا ينبغي للمودّع أنْ يسكت , وللمشيّع إلاّ أنْ ينصرف , لقصُر الكلام وإنْ طال الأسف . وقد أتى القوم إليك ما ترى ، فضع


الصفحة ( 249 )

عنك الدّنيا بتذكّر فراغها ، وشدّة ما اشتدّ منها برجاء ما بعدها , واصبر حتّى تلقى نبيك (صلّى الله عليه وآله) وهو عنك راضٍ )) .

ثُمّ تكلم الحسين (عليه السّلام) , فقال : (( يا عمّاه , إنّ الله تعالى قادر أنْ يُغيّر ما قد ترى , والله كلّ يوم هو في شأن , وقد منعك القوم دنياهم ومنعتهم دينك , فما أغناك عمّا منعوك وأحوجهم إلى ما منعتهم , فاسأل الله الصّبر والنّصر ، واستعذ به من الجشع والجزع , فإنّ الصّبر من الدّين والكرم , وإنّ الجشع لا يُقدّم رزقاً ، والجزع لا يؤخّر أجلاً )) .

ثُمّ تكلم عمّار رحمه الله مُغضباً , فقال : لا آنس الله مَن أوحشك ، ولا آمن مَن أخافك . أما والله , لو أردّت دنياهم لأمّنوك ، ولو رضيت أعمالهم لأحبّوك ، وما منع النّاس أنْ يقولوا بقولك إلاّ الرّضا بالدّنيا والجزع من الموت , ومالوا إلى ما سلطان جماعتهم عليه ، والملك لمَن غلب , فوهبوا لهم دينهم ومنحهم القوم دنياهم , فخسروا الدّنيا والآخرة ، ألا ذلك هو الخُسران المبين .

فبكى أبو ذر رحمه الله وكان شيخاً كبيراً , وقال : رحمكم الله يا أهل بيت الرّحمة , إذا رأيتكم ذكرت بكم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) , مالي بالمدينة سكن ولا شجن غيركم . إنّي ثقلت على عثمان بالحجاز كما ثقلت على معاوية بالشّام , فسيّرني إلى بلد ليس لي به ناصر ولا دافع إلاّ الله . والله , ما اُريد إلاّ الله صاحباً وما أخشى مع الله وحشة .

 ولمّا نُفي أبو ذر إلى الرّبذة حضره الموت , قيل له : يا ابا ذر ، ما مالك ؟ قال : عملي . قالوا : إنّما نسألك عن الذّهب والفضة . قال : ما أصبح فلا اُمسى وما اُمسى فلا أصبح ، لنا كندوج فيه حرّ متاعنا . سمعت خليلي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول : (( كندوج المرء قبره )) : والكندوج ، شبه المخزن .

 وقيل : كانت لأبي ذر غُنيمات يعيش بها فأصابها داء فماتت , فأصاب أبا ذر وابنته الجوع وماتت أهله , قالت ابنته : أصابنا الجوع وبقينا ثلاثة أيام لم نأكل شيئاً , فقال لي أبي : يا بنية ، قومي بنا إلى الرّمل نطلب القتّ : وهو نبت له حب . فصرنا إلى الرّمل فلم نجد شيئاً , فجمع أبي رملاً ووضع رأسه عليه ، ورأيت عينيه قد انقلبتا , فبكيت وقلت له : يا ابتِ , كيف أصنع بك وأنا وحيدة .

وفي رواية , أنّ التّي كانت معه هي زوجته فبكت , فقال لها : وما يبكيك ؟ فقالت : ومالي لا أبكي ، وأنت تموت بفلاة من الأرض وليس عندي ثوب


الصفحة ( 250 )

يسعك كفناً ! فقال لها : لا تخافي ، فإنّي إذا متّ جاءك من أهل العراق مَن يكفيك أمري , فإذا أنا متّ فمدّي الكساء على وجهي , ثُمّ اقعدي على طريق العراق , فإذا أقبل ركب فقومي إليهم وقولي : هذا أبو ذر صاحب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قد توفّي .

 قالت ابنته : فلمّا مات مددت الكساء على وجهه , ثُمّ قعدت على طريق العراق ، فجاء نفر فيهم مالك الأشتر , فقلت لهم : يا معشر المسلمين , هذا أبو ذر صاحب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قد توفّي . فنزلوا ومشوا يبكون فجاؤوا فغسّلوه , وكفّنه الأشتر في حلّة قيمتها أربعة آلاف درهم , وصلّوا عليه ودفنوه .

أقول : لِمَ لا وقفت سُكينة يوم العاشر من المُحرّم على قارعة طريق كربلاء حين بقي الحسين (عليه السّلام) ثلاثة أيام بلا دفن , ونادت : يا معشر المسلمين , هذا إمامكم وابن بنت نبيكم الحسين سيّد شباب أهل الجنّة , قد قُتل غريباً وتُرك على وجه الأرض عرياناً سليباً لم يُصلَّ عليه ولم يُدفن , فهلمّوا إلى مواراته ودفنه ؟!

بلى , لمّا طعنه صالح بن وهب على خاصرته فسقط إلى الأرض على خدّه الأيمن , خرجت اُخته زينب بدل سُكينة ، ونادت : وا أخاه ! وا سيّداه ! وا أهل بيتاه ! ليت السّماء اطبقت على الأرض , وليت الجبال تدكدكت على السّهل .

ثُمّ قالت لعمر بن سعد : أيُقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه ؟! فدمعت عيناه حتّى سالت دموعه على خدّيه ولحيته المشومة , وصرف وجهه عنها ولم يجبها بشيء , فنادت : ويلكم ! أما فيكم مسلم ؟! فلم يجبها أحد .

لقد تعس اُولئك المسلمون وما ينفعهم إسلامهم , وقد فعلوا بذرّيّة نبيِّهم ما فعلوا !

لم أنسَ زينب وهي تدعو بينهمْ  يا قومُ ما في جمعكم من مسلم ِ

إنّا بنات المُصطفـى ووصـيِّهِ  ومخدّراتِ بني الحطيـم وزمزم ِ

* * *


الصفحة ( 251 )

المجلس الثّالث والثّلاثون بعد المئة

ذكر المفيد عليه الرّحمة في إرشاده , من جملة غزوات أمير المؤمنين علي (عليه السّلام) غزاة ذات السّلاسل .

 قال : وإنّما سُمّيت بذلك ؛ لأنّه اُتي بالأسرى مُكتّفين بالحبال كأنّهم في السّلاسل , وكان السّبب في هذه الغزاة : إنّ إعرابياً أتى إلى النّبي (صلّى الله عليه وآله) , فقال : يا رسول الله , إنّ جماعة من العرب اجتمعوا بوادي الرّمل على أنْ يبيّتوك في المدينة . 

فأمر بالصّلاة جماعة فاجتمعوا وعرّفهم ذلك , وقال : (( مَن لهم ؟ )) . فابتدرت جماعة من أهل الصّفة(1) وغيرهم ، وعدّتهم ثمانون رجلاً , وقالوا : نحن , فولِّ علينا مَن شئت .

فاستدعى رجلاً من المهاجرين , وقال له : (( امضِ )) . فمضى فاتبعهم القوم فهزموهم وقتلوا جماعة كثيرة من المسلمين , وانهزم ذلك الرّجل وجاء إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، فبعث آخر من المُهاجرين فهزموه , فساء ذلك النّبي (صلّى الله عليه وآله) ، فقال عمرو بن العاص : ابعثني يا رسول الله , فإنّ الحرب خدعة ولعلّي أخدعهم . فانفذه مع جماعة ، فلمّا صاروا إلى الوادي , خرجوا إليه فهزموه وقتلوا من أصحابه جماعة .

 ثُمّ دعا أميرَ المؤمنين (عليه السّلام) وبعثه , وقال : (( أرسلته كرّاراً غير فرّار )) . ودعا له وخرج معه مشيّعاً إلى مسجد الأحزاب , وعلي (عليه السّلام) على فرس أشقر عليه بُردان يمانيان وفي يده قناة خطيّة , فانفذ معه جماعة منهم المرسلان أولاً وعمرو بن العاص , فسار بهم نحو العراق متنكّباً للطريق حتّى ظنّوا أنّه يُريد غير ذلك الوجه , ثُمّ أخذ بهم على طريق غامضة واستقبل الوادي من فمه , وكان يسير الليل ويكمن النّهار , فلمّا قرب من الوادي , أمر أصحابه

ــــــــــــــــــ
(1) الصّفة : سقيفة في مسجد النّبي (صلّى الله عليه وآله) كانت مسكن الغُرباء والفُقراء . وأهل الصّفة من المُهاجرين لم يكن لهم منازل ولا أموال فكانوا يسكنونها.

الصفحة ( 252 )

أنْ يخفوا أصواتهم , وأوقفهم في مكان وتقدّم أمامهم ناحية , فلمّا رأى عمرو بن العاص فعله , لم يشكّ في كون الفتح له , فقال للمرسل أولاً : إنّ هذه أرض ذات سباع ، كثيرة الحجارة , وهي أشدّ علينا من بني سليم ، والمصلحة أنْ نعلو الوادي ، وأراد فساد الحال على أمير المؤمنين (عليه السّلام) , فأمره أنْ يقول ذلك لأمير المؤمنين (عليه السّلام) فقال له ذلك , فلم يجبه أمير المؤمنين (عليه السّلام) بحرف , فرجع إلى عمرو وقال : لم يجبني .

 فقال عمرو بن العاص للمرسل ثانياً : امضِ أنت فخاطبه بذلك . ففعل فلم يجبه أمير المؤمنين (عليه السّلام) بشيء , فقال عمرو : أنضيّع أنفسنا ؟ إنطلقوا بنا نعلو الوادي . فقال المسلمون : إنّ النّبي أمرنا أنْ نُطيع عليّاً ولا نخالفه , فكيف تُريد منّا أنْ نُخالفه ؟! وما زالوا حتّى طلع الفجر فكبس المسلمون القوم وهم غافلون فامكنهم الله منهم , ونزلت على النّبي (صلّى الله عليه وآله) سورة ( وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً . . . ) قسماً بخيل أمير المؤمنين (عليه السّلام) .

وعرف النّبي الحال ففرح وبشرّ أصحابه بالفتح وأمرهم بالاستقبال لأمير المؤمنين (عليه السّلام) , فخرجوا والنّبي (صلّى الله عليه وآله) يتقدّمهم , فلمّا رأى أمير المؤمنين (عليه السّلام) النبيَّ (صلّى الله عليه وآله) , ترجّل عن فرسه فوقف بين يديه , فقال النّبي (صلّى الله عليه وآله) : (( لولا أنّي أشفق أنْ تقول فيك طوائف من اُمتّي ما قالت النصارى في المسيح , لقلتُ فيك اليوم مقالاً لا تمرّ بملأ إلاّ أخذوا التُراب من تحت قدميك , فإنّ الله ورسوله راضيان عنك )) .

 فياليت أمير المؤمنين (عليه السّلام) كان حاضراً يوم عاشوراء , وقد أحاطت الأعداء بولده الحسين (عليه السّلام) وأهل بيته من كلّ جانب ومكان , وهو بينهم وحيد فريد لا ناصر له ولا معين , يستغيث فلا يُغاث إلاّ بضرب السّيوف وطعن الرّماح ورشق السّهام , وهو يطلب جرعة من الماء فلا يجد إلى ذلك سبيلاً .

أبا حسـنٍ أبنـاؤك اليـوم حلّقـتْ  بقادمةِ الأسيـاف عن خطّة الخسـفِ

سلْ الطّفَّ عنهم أين بالأمس طنّبوا  وأين استقلّوا اليومَ عن عرصة الطّفِّ

* * *


الصفحة ( 253 )

المجلس الرّابع والثّلاثون بعد المئة

قال الله تعالى في سورة آل عمران : ( إِنّ مَثَلَ عِيسَى‏ عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * الْحَقّ مِن رَبّكَ فَلاَ تَكُن مِنَ الْمُمْتَرِينَ * فَمَنْ حَاجّكَ فِيهِ مِن بَعْدِمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمّ نَبْتَهِل فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ )(1) . نزلت في وفد نجران ، ونجران : بلد بنواحي اليمن كان أهله نصارى ، فارسلوا وفداً منهم إلى النّبي (صلّى الله عليه وآله) , فلمّا وفدوا على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وحضر وقت صلاتهم , أقبلوا يضربون بالنّاقوس وصلّوا إلى المشرق , فقال أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : يا رسول الله , هذا في مسجدك ! فقال : (( دعوهم )) . فلمّا فرغوا قالوا : يا محمّد ، إلى ما تدعو ؟ قال : (( إلى شهادة أنْ لا إله إلاّ الله , وأنّي رسول الله , وأنّ عيسى عبدٌ مخلوق )) . فقالوا : هل رأيت ولداً من غير ذكر ؟ فنزلت هذه الآيات , فردّ الله عليهم قولهم في المسيح أنّه ابن الله , فقال : إنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم في خلقه إيّاه من غير أب ولا اُمّ . فقرأها عليهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ودعاهم إلى المُباهلة فاستنظروه إلى صبيحة غد , فقال لهم الأسقف : انظروا محمّداً في غد , فإنْ جاء بولده وأهله فاحذروا مباهلته , وإنْ غدا باصحابه فباهلوه ؛ فإنّه على غير شيء .

 فلمّا كان الغد ـ وهو الرّابع والعشرون من ذي الحجّة ـ جاء النّبي (صلّى الله عليه وآله) آخذاً بيد علي بن أبي طالب ، والحسن والحسين بين يديه ، وفاطمة خلفه . وخرج النّصارى يقدمهم أسقفهم ولم يباهلوه , وصالحوه على ألفَي حلّة وعلى أنْ يضيّفوا رسله , وعلى عارية ثلاثين درعاً وثلاثين رمحاً وثلاثين فرساً عند الحرب , وأنْ لا يأكلوا الرّبا . ثُمّ إنّ السيّد والعاقب رجعا فاسلما .

والمُراد بـ ( أَبْنَاءَنَا ) في هذه الآية : الحسن والحسين (عليهما السّلام) ، وبـ َ( نِسَاءَنَا ) : فاطمة ( عليها السّلام) ، وبـ ( أَنْفُسَنَا ) : علي (عليه السّلام) . ولا يجوز أنْ يُراد بـ َ( أَنْفُسَنَا )

ـــــــــــــــــــ
(1) سورة آل عمران / 59 ـ 61 .

الصفحة ( 254 )

النّبي (صلّى الله عليه وآله) ؛ لأنّه هو الدّاعي ولا يجوز أنْ يدعو الإنسان نفسه بل يدعو غيره , فيدلّ على أنّ عليّاً (عليه السّلام) أفضل النّاس بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ؛ حيث جعله نفس الرّسول (صلّى الله عليه وآله) .

وصحّ عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ـ كما في البحار ـ أنّه سُئل عن بعض أصحابه , فقال له قائل : فعليّ ؟ قال : (( إنّما سألتني عن النّاس ولم تسألني عن نفسي )) .

وروى مسلم في صحيحه عن عائشة : إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) خرج غداة وعليه مِرط(1) مُرجل(2) من شعر أسود , فجاء الحسن بن علي (عليه السّلام) فأدخله ، ثُمّ جاء الحسين (عليه السّلام) فدخل معه , ثُمّ جاءت فاطمة (عليها السّلام) فأدخلها ، ثُمّ جاء علي (عليه السّلام) فأدخله , ثُمّ قال : ( إِنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً )(3) . ورواه الزّمخشري وغيره .

 أعلمت يا رسول الله ما جرى على هذه الوجوه التّي أردت المباهلة بها ، والتّي لو دعت الله على جبل لأزاله ؟! أمّا أخوك ونفسك علي بن أبي طالب (عليه السّلام) , فقد ضربوه ـ وهو في محرابه يُصلّي ـ بسيف مسموم فلق هامته إلى محل سجوده حتّى قضى شهيداً ؛ وأمّا ابنتك الزّهراء (عليها السّلام) فما برحت بعدك مُعصبة الرأس ناحلة الجسم باكية حزينة حتّى اُلحقت بربّها ودُفنت سرّاً لم يشهد أحد جنازتها ؛ وأمّا ولدك الحسن (عليه السّلام) فقد قضى شهيداً بالسمِّ , ومُنع من دفنه عندك وإلى جانبك ؛ وأمّا ولدك الحسين (عليه السّلام) فقد قضى شهيداً بالسّيف غريباً عطشان وحيداً فريداً , يستجير فلا يُجار ، ويستغيث فلا يُغاث , وقُتلت أطفاله وسُبيت عياله , وداروا برأسه في البُلدان من فوق عالي السّنان .

جاشت على آله ما ارتاح واحدُهمْ  من قهر أعـداه حتّى مات مقهورا

قضى أخوه خضيبَ الرّأس وابنتُهُ  غضبى وسبطـاه مسموماً ومنحورا

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــ
(1) المرط بالكسر : كساء من صوف , أو خز .
(2) فيه ألوان تخالف لونه .
(3) سورة الأحزاب / 33 .

الصفحة ( 255 )

المجلس الخامس والثّلاثون بعد المئة  

لمّا كانت حَجّة الوداع ـ وهي آخر حجّة حجّها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ـ كان معه سبعون ألفاً ، وقيل : تسعون ألفاً ، وقيل : مئة ألف ، وقيل أكثر .

 ولعلّ الذين خرجوا معه من المدينة وأطرافها كانوا سبعين ألفاً , وبلغوا مع الذي انضمّوا إليه في الطّريق تسعين ألفاً , وبلغوا في عرفات مع أهل مكّة وأطرافها ومَن جاؤوا مع علي (عليه السّلام) من اليمن مئة ألف أو أزيد .

 وخطبهم خطبة طويلة وعرّفهم مناسكهم وأحكام دينهم , وكان قد أرسل عليّاً (عليه السّلام) إلى اليمن ليُخمّس أموالها ويقبض ما صالح عليه أهل نجران من الحلل وغيرها , وأنْ يوافيه إلى الحجّ .

فأحرم النّبي (صلّى الله عليه وآله) وعقد إحرامه بسياق الهدي , وأحرم علي (عليه السّلام) كاحرام رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وساق الهدي , ولم يكُن يعلم كيف أحرم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) . وكان الذين خرجوا مع النّبي (صلّى الله عليه وآله) منهم مَن ساق الهدي ومنهم لم يسق , فأنزل الله تعالى : ( وَأَتِمّوا الْحَجّ وَالْعُمْرَةَ للّهِ )(1) .

فأمر النّبي(صلّى الله عليه وآله) مَن لم يسق الهدي أنْ يحلّ إحرامه ويجعلها عُمرة , ومَن ساق الهدي أنْ يبقى على إحرامه , وكان عليّ ممّن ساق الهدي فبقي على إحرامه . أمّا الذين لم يسوقوا الهدي فمنهم مَن أطاع ومنهم مَن خالف , وقالوا : رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أغبر أشعث ونحن نلبس الثّياب ونقرب النّساء وندهن ! فأنكر عليهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) , فرجع قوم وأصرّ قوم .

ولمّا رجع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من حجّة الوداع ووصل إلى محل يُقال له غدير خُم , أنزل الله تعالى عليه : ( يَا أَيّهَا الرّسُولُ بَلّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبّكَ ) : يعني في علي ( وَإنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ )(2) . وكان ذلك يوم الثّامن عشر من ذي الحجّة ، وكان يوماً شديد الحرِّ , فأمر (صلّى الله عليه وآله) بدوحات هُناك ، والدّوحة : الشّجرة العظيمة . فكُنس ما تحتها ووضعت له الأحمال بعضها فوق بعض شبه المنبر , وأمر مُناديه فنادى الصّلاة جامعة فاجتمع النّاس , فصعد على تلك الأحمال

ــــــــــــــــــــ
(1) سورة البقرة / 196 .
(2) سورة المائدة / 67 .

الصفحة ( 256 )

وأصعد عليّاً (عليه السّلام) معه , ثُمّ خطب النّاس ووعظهم ونعى إليهم نفسه , وقال : (( إنّي مُخلّف فيكم ما إنْ تمسكتم به لن تضلّوا من بعدي ؛ كتاب الله وعترتي أهل بيتي , فإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض )) .

 ثُمّ نادى (صلّى الله عليه وآله) بأعلى صوته : (( ألست أولى بكم من أنفسكم ؟ )) . قالوا : اللهمّ بلى . فقال ـ وقد أخذ بعضدي علي (عليه السّلام) فرفعهما حتّى بان بياض أبطيهما ـ : (( فمَن كنت مولاه فهذا عليّ مولاه ، اللهمّ وال مَن والاه وعادِ مَن عاداه ، وانصر مَن نصره واخذل مَن خذله )) .

ثُمّ نزل فصلّى ركعتين ، ثُمّ زالت الشّمس فصلّى بهم الظّهر وجلس في خيمته , وأمر عليّاً (عليه السّلام) أنْ يجلس في خيمة له بازائه , ثُمّ أمر المُسلمين أنْ يدخلوا عليه فيهنئوه ويسلّموا عليه بامرة المؤمنين , ثُمّ أمر أزواجه ونساء المسلمين بذلك .

 وقال له بعض الصّحابة : بخ بخ لك يا علي ، أصبحت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة .

وانزل الله تعالى عليه في ذلك المكان : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً )(1) . وجاء حسان بن ثابت ـ شاعر النّبي (صلّى الله عليه وآله) ـ فاستأذنه أنْ يقول في ذلك شعراً فأذن له , فوقف على مكان مرتفع , وقال :

يُـناديهمُ يـومَ الـغدير نبيُّهمْ  بـخمٍّ وأسـمعْ بـالنّبيِّ iiمُناديا
فـقال فـمَن مـولاكمُ 
iiووليُّكمْ  فقالوا ولمْ يُبدوا هناك iiالتعاميا
إلـهُك مـولانا وأنـت 
iiوليُّنا  ولنْ تجدنْ منّا لك اليوم عاصيا
فـقال لـه قُـمْ يا عليُّ 
iiفإنّني  رضيتُك من بعدي إماماً iiوهاديا
فـمَن كـنت مولاه فهذا 
iiوليُّهُ  فـكونوا له أتباعَ صدقٍ iiمواليا
هُـناك دعـا اللهمَّ والِ 
iiوليَّهُ  وكُـنْ للذي عادى عليّاً iiمُعاديا

فهل درى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بما جرى على وصيّه وابن عمّه من بعده حتّى آل الأمر إلى أنْ تجرّأ عليه أشقى الأشقياء عبد الرّحمن بن ملجم المُرادي , وضربه على رأسه في مُحرابه , ضربة فلق بها هامته إلى موضع سجوده , ضربة هدّمت أركان الدّين وفتّت في عضد المُسلمين , وقرّحت قلوب المؤمنين ، وفرّحت قلوب المُنافقين ؟!

ـــــــــــــــــــ
(1) سورة المائدة / 3 .

الصفحة ( 257 )

يـا لَـقومٍ إذْ يـقتلون iiعليّاً  وهـو لـلمَحل بـينهمُ iiقتّالُ
ويُسرّون بغضَهُ وهو لا 
iiتُقـ  ـبــلُ إلاّ بـحبّه iiالأعـمالُ
ولـَسبطينِ تـابعيه 
iiفمسمو  مٌ عـليه ثـرى البقيعِ يُهالُ
وشهيدٍ بالطّفِّ أبكى 
iiالسّماوا  تِ وكـادت له تزول iiالجبالُ
يـا غليلي له وقد حُرّمَ 
iiالما  ءُ عليه وهو الشّراب iiالحلالُ
قُطعتْ وُصلة النّبيِّ بأنْ 
iiتُقـ  ـطـعَ من آل بيته iiالأوصالُ
لم تُنجِّ الكهولَ سنٌّ ولا الشّبـ  ـانَ زهـدٌ ولا نـجا 
iiالأطفال
لهف نفسي يا آلَ طه 
iiعليكمْ  لـهفةً كـسبها جوى iiوخبالُ

 

المجلس السّادس والثّلاثون بعد المئة

أتت أسماء بنت يزيد الأنصارية إلى النّبي (صلّى الله عليه وآله) وهو بين أصحابه , فقالت : بأبي واُمّي أنت يا رسول الله ! أنا وافدة النّساء إليك , إنّ الله عزّ وجل بعثك إلى الرّجال والنّساء كافّة فآمنّا بك وبالهك ، وإنّا معشر النّساء محصورات مقصورات قواعد بيوتكم وحاملات أولادكم , وأنّكم معاشر الرّجال فُضّلتم علينا بالجمع والجماعات , وعيادة المرضى وشهود الجنائز والحجّ بعد الحجّ , وأفضل من ذلك الجهاد في سبيل الله عزّ وجل , وأنّ أحدكم إذا خرج حاجّاً أو مُعتمراً أو مُجاهداً , حفظنا لكم أموالكم وغزلنا أثوابكم وربّينا أولادكم , أفما نشارككم في هذا الأجر والخير ؟ 

فالتفت النّبي (صلّى الله عليه وآله) إلى أصحابه بوجهه كلّه , ثُمّ قال : (( هل سمعتم مسألة امرأة قط أحسن من مسألتها هذه في أمر دينها ؟ )) . فقالوا : يا رسول الله , أيّ امرأة تهتدي إلى مثل هذا ؟! فالتفت


الصفحة ( 258 )

إليها النّبي (صلّى الله عليه وآله) وقال : (( إفهمي أيتها المرأة وأعلمي من خلفك من النّساء , إنّ حُسن تبعّل المرأة لزوجها وطلبها مرضاته واتّباعها امره , يعدل ذلك كُلّه )) .

فانصرفت وهي تهلل حتّى وصلت إلى نساء قومها من العرب , وعرضت عليهنّ ما قاله رسول الله (صلّى الله عليه وآله) , ففرحن وآمنّ جميعهن ، وسُمّيت رسول نساء العرب إلى النّبي (صلّى الله عليه وآله) .

والنّساء فيهنّ كثير من العاقلات الكاملات اللواتي سبقن الرّجال بكمالهنّ وعقلهنّ وحسن أفعالهنّ , فمنهن اُمّ وهب بن حباب الكلبي , وكان من أصحاب الحسين (عليه السّلام) وكانت معه اُمّه وزوجته , فقالت اُمّه : قُم يا بُني فانصر ابن بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) . فقال : أفعل يا اُمّاه ولا اُقصّر . ثُمّ حمل ولم يزل يُقاتل حتّى قتل جماعة , ثُمّ رجع وقال : يا اُمّاه أرضيتِ ؟ فقالت : ما رضيت حتّى تُقتل بين يدي الحسين (عليه السّلام) . فقالت امرأته : بالله عليك ، لا تفجعني بنفسك . فقالت له اُمّه : يا بُني ، اعزب عن قولها وارجع فقاتل بين يدي ابن بنت نبيك تنل شفاعة جدّه يوم القيامة .

فرجع فلم يزل يُقاتل حتّى قُطعت يداه ، وأخذت امرأته عموداً وأقبلت نحوه , وهي تقول : فداك أبي واُمّي ! قاتل دون الطّيبين ، حرم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) . فاقبل كي يردّها إلى النّساء , فاخذت بجانب ثوبه وقالت : لن أعود دون أنْ أموت معك . فقال الحسين (عليه السّلام) : (( جُزيتم من أهل بيتٍ خيراً , ارجعي إلى النّساء رحمك الله )) . فانصرفت إليهنّ , ولم يزل الكلبي يُقاتل حتّى قُتل رضوان الله عليه .

فـهبّوا إلى حربٍ تقاعَس iiاُسدُها  تخالس طرفاً للوغى غيرَ iiناعسِ
فخاضوا لظاها مُستميتينَ لا ترى  عـيونُهمُ الـفرسان غيرَ 
iiفرائسِ
ضراغمُ غيلٍ لم تهبْ رشقَ راجلٍ  بـنبلٍ ولا ترتاع من طعن 
iiفارسِ

* * *


الصفحة ( 259 )

المجلس السّابع والثّلاثون بعد المئة

في شرح رسالة ابن زيدون وغيرها , قال : حُكي عن علي بن أبي طالب (عليه السّلام) أنّه قال يوماً : (( سُبحان الله ! ما أزهد كثيراً من النّاس في خير ! عجباً لرجل يجيئه أخوه المُسلم في حاجة فلا يرى نفسه للخير أهلاً , فلو كان لا يرجو ثواباً ولا يخلف عقاباً لكان ينبغي له أنْ يُسارع إلى مكارم الأخلاق , فإنّها تدّل على سبيل النّجاح !)) . فقام إليه رجل ، وقال : يا أمير المؤمنين , أسمعته من النّبي (صلّى الله عليه وآله) ؟ قال : (( نعم , لمّا اُتي بسبايا طيء , وقفت جارية عيطاء لعساء فلمّا تكلمت , أنسيت جمالها بفصاحتها ، قالت : يا محمّد , إنْ رأيت أنْ تخلّي عنّي ولا تشمت بي أحياء العرب ؛ فإنّني ابنة سيّد قومي ، وإنّ أبي كان يفكّ العاني ، ويُشبع الجائع ويكسو العاري , ويحفظ الجار ويحمي الذّمار ، ويُفرّج عن المكروب , ويُطعم الطّعام ويُفشي السّلام ، ويعين على نوائب الدّهر , ولم يرد طالب حاجة قط . أنا ابنة حاتم الطّائي . وكان اسمها سفانة .

 فقال النّبي (صلّى الله عليه وآله) : (( يا جارية ، هذه صفة المؤمن حقّاً , ولو كان أبوك مسلماً لترحّمنا عليه . خلّوا عنها فإنّ أباها كان يحبّ مكارم الأخلاق )) . وقال فيها : (( ارحموا عزيزاً ذلّ ، وغنياً افتقر ، وعالماً ضاع بين جُهّال )) . فأطلقها ومَنّ عليها بقومها .

فاستأذنته في الدّعاء له , فأذن لها ، وقال لأصحابه : (( اسمعوا وعوا )) . فقالت : أصاب الله ببرك مواقعه ولا جعل لك إلى لئيم حاجة , ولا سلب نعمة عن كريم قوم إلاّ وجعلك سبباً في ردّها عليه .

فلمّا أطلقها أتت أخاها عديّاً بدومة الجندل , فقالت : يا أخي ، ائت هذا الرّجل قبل أنْ تعلقك حبائله , فإنّي قد رأيت هدياً ورأياً وسيغلب أهل الغلبة . رأيت خصالاً تعجبني ؛ رأيته يحب الفقير ويفكّ الأسير ويرحم الصّغير ويعرف قدر الكبير , وما رأيت أجود ولا أكرم منه , وإنّي أرى أنْ تلحق به ؛ فإنْ يكُ نبيّاً فللسابق فضله ، وإنْ يكُ مَلكاً فلنْ تزال في عزّ اليمن .

 فقدم عدي إلى النّبي (صلّى الله عليه وآله) فأسلم ، وأسلمت اُخته سفانة )) .

 
 
الصفحة السابقةالفهرسالصفحة اللاحقة

 

طباعة الصفحةبحث