المجالس السّنية ـ الجزء الرابع-

 
 

المجلس الرّابع والخمسون بعد المئتين

كان بنو حمدان من الشّيعة , وكانوا كما قال في ( يتيمة الدّهر ) : ملوكاً واُمراء ، وجوههم للصباحة وألسّنتهم للفصاحة ، وأيديهم للسماحة وعقولهم للرجاحة , منهم سيف الدولة ، ومنهم أبو فراس الذي قال في حقّه الصّاحب بن عباد : بدأ الشّعر بملك وخُتم بملك ( يعني : امرأ القيس وأبا فراس ) .

وكان في عصره رجل شاعر من بني العبّاس يُقال له محمَّد بن سكرة الهاشمي , فقال قصيدة يفتخر بها على الطالبيّين , فلمّا وقف عليها أبو فراس , قال يردّ عليه ويذكر مناقب الطالبيّين ومثالب العباسيّين بهذه القصيدة :

الدِّينُ  مُختَرَمٌ وَالحَقُّ iiمُهتَضَمُ      وَفَيءُ  آلِ رَسولِ اللَهِ iiمُقتَسَمُ
يـا  لِلرِجالِ أَما لِلَّهِ iiمُنتَصِرٌ      مِـنَ  الطُّغاةِ أَما لِلدِّينِ iiمُنتَقِمُ
بَـنو عَلِيٍّ رَعايا في iiدِيارِهِمُ      وَالأَمرُ تَملِكُهُ النِّسوانُ وَالخَدَمُ


الصفحة ( 314 )

مُـحلَّؤونَ فَـأَصفى شُـربِهِم iiوَشَلٌ      عِـندَ  الـوُرودِ وَأَوفى وُردَهِم iiلَمَمُ
فَـالأَرضُ إِلاّ عَـلى مُـلاّكِها سَعَةٌ      وَالـمالُ  إِلاّ عَـلى أَربـابِهِ iiدِيَـمُ
لِـلـمُتَّقينَ مِـنَ الـدُّنيا iiعَـواقِبِها      وَإِن تَـعَجَّلَ فـيها الـظالِمُ iiالأَثِـمُ
لايُـطغِيَنَّ بَـني الـعَبّاسِ iiمُـلكُهُمُ      بَـنو عَـلِيٍّ مَـواليهِم وَإِن iiزَعَموا
أَتَـفـخَرونَ عَـلَيهِم لا أَبـاً iiلَـكُمُ      حَـتّى كَـأَنَّ رَسـولَ الـلَهِ iiجَدُّكُمُ
وَمـا  تَـوازَنَ يَـوماً بَينَكُم iiشَرَفٌ      وَلا  تَـساوَتْ بِـكُمْ في مَوطِنٍ iiقَدَمُ
لَيسَ الرَشيدُ كَموسى في القِياسِ وَلا      مَأمونَكُم  كَالرِّضا إِنْ أَنصَفَ iiالحَكمُ
قـامَ  الـنَّبِيُّ بِـها يَومَ الغَديرِ iiلَهُمْ      وَالـلَهُ يَـشهَدُ وَالأَمـلاكُ iiوَالأُمَـمُ
حَتّى إِذا أَصبَحَت في غَيرِ iiصاحِبِها      بـاتَت تَـنازَعُها الـذُؤبانُ وَالرَّخَمُ
وَصُـيِّرَت  بَـينَهُم شـورى كَأَنَّهُمُ      لا يَـعـلمونَ وُلاةُ الأمـرِ iiأَيـنهُمُ
تَـاللَهِ مـا جَـهِلَ الأَقوامُ مَوضِعَها      لَـكِنَّهُم  سَـتَروا وَجهَ الَّذي iiعَلِموا
ثُـمَّ  ادَّعـاها بَـنو العَبّاسِ iiملكَهُمُ      وَمـا  لَـهُمْ قَـدَمٌ فـيها وَلا iiقِـدَمُ
أَمّـا عَـلَيٌّ فَـقَد أَدنـى iiقَـرابَتَكُمْ      عِـندَ  الـوِلايَةِ إِنْ لَـم تُكفَرِ iiالنِّعَمُ
هـل  iiيُـنكرُ الحَبرُ عبدُ الله نِعمَتَهُ      أَبـوكُـمُ  أَمْ عُـبَيدُ الـلَهِ أَمْ iiقـثَمُ
بِئسَ  الجَزاءَ جَزَيتُم في بَني iiحَسَنٍ      أَبـوهُـمُ الـعَلَمُ الـهادي iiوَأُمُّـهُمُ
لا بَـيعَةٌ رَدَعَـتكُمْ عَـن iiدِمـائِهِمُ      وَلا يَـمـينٌ وَلا قُـربى وَلا ذِمَـمُ
هَلاّ  صَفَحتُمْ عَنِ الأَسرى بِلا سَبَبٍ      لِـلصافِحينَ  بِـبَدرٍ عَـن iiأَسيرِكُمُ
هَـلاّ كَـفَفتُمْ عَـنِ الدِّيباجِ iiأَلسُنَكُمْ      وَعَـن بَـناتِ رَسـولِ اللَهِ iiشَتمَكُمُ
مـا نُـزِّهَت لِـرَسولِ اللَهِ iiمُهجَتُهُ      عَـنِ الـسِِّياطِ فَـهَلاّ نُـزِّهَ iiالحَرَمُ
ما نالَ مِنهُمْ بَنو حَربٍ وَإِنْ iiعَظُمَتْ      تِـلـكَ  الـجَرائِمُ إِلاّ دونَ iiنَـيلُكُمُ

يقول : جرائم بني اُميّة إلى آل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وإنْ كانت عظيمة ؛ كقتلهم حمزة يوم اُحد , ودسِّهم السّمَّ إلى الحسن بن علي (عليه السّلام) حتّى تقيّأ كبده قطعة قطعة , ومنعهم من دفنه عند جدِّه (صلّى الله عليه وآله) , وقتلهم الحسين (عليه السّلام) بتلك الحالة


الصفحة ( 315 )

الفظيعة , وسبيهم نساءه وأولاده , وقتلهم زيد بن علي (رضي الله عنه) وصلبه عارياً ثلاث سنوات حتّى عششت الفاختة في جوفه , وقتلهم يحيى بن زيد , إلى غير ذلك من فظائعهم , إلاّ أنّكم يا بني العبّاس قد اقتفيتم في ذلك آثار بني اُميّة وزدتم عليهم .

كَمْ غَدرَةٍ لَكُمُ في الدِّينِ واضِحَةٍ      وَكَمْ دَمٍ لِرَسولِ اللَهِ عِندَكُمُ

أَأَنتُمُ آلُهُ فيما تَرَونَ وَفي          أَظفارِكُمْ مِن بَنيهِ الطَّاهِرينَ دَمُ

فمن الدِّماء التي لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) عند بني العبّاس ؛ دماء أولاد الحسن السّبط (عليه السّلام) الذي قتلهم المنصور , بعضهم بالسّيف كمحمَّد وإبراهيم ابني عبد الله بن الحسن المثنى , وبعضهم هدم عليهم الحبس كعبد الله بن الحسن وباقي أولاده , وكانوا ثلاثة عشر رجلاً .

ومن الدِّماء التي لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) عند بني العبّاس ؛ دم موسى بن جعفر (عليه السّلام) الذي سمّه الرشيد بعد ما حبسه سبع سنين , ودم ولده علي بن موسى الرضا (عليه السّلام) الذي سمّه المأمون , ودم الحسين صاحب فخ , وغيرهم ممّن قتلوه بالسّيف أو السّمِّ , أو بنوا عليهم الحيطان وهم أحياء .

هَـيهاتَ لا قَرَّبَت قُربى وَلا iiرَحِمٌ      يَـوماً إِذا أَقصَتِ الأَخلاقُ iiوَالشِيَمُ
كـانَت  مَـوَدَّةُ سَـلمانٍ لَهُ iiرَحِما      وَلَـم  يَـكُن بَينَ نوحٍ وَاِبنِهِ iiرَحِمُ
بـاؤوا بِقَتلِ الرِّضا مِن بَعدِ iiبَيعَتِهِ      وَأَبصَروا بَعضَ يَومٍ رُشدَهُم فَعَموا
لَـبِئسَ مـا لَقِيَت مِنهُم وَإِنْ iiبَلِيَتْ      بِـجانِبِ الطَّفِّ تِلكَ الأَعظُمُ iiالرِمَم

ما كفى ما فعله بنو اُميّة من قتل الحسين (عليه السّلام) وأهل بيته وأنصاره ، ورضِّ جسده الشّريف , وسبي نسائه وذراريه من بلد إلى بلد , وحمل رأسه ورؤوس أصحابه فوق الرّماح حتّى جاءت بنو العبّاس فبنت على ما أسّسته بنو اُميّة وزادت عليه , ورامت أنْ تدرس قبر الحسين (عليه السّلام) وتعفي


الصفحة ( 316 )

أثره , فأدار المتوكّل الماء على القبر الشّريف , وأمر بحرثه وإعفاء أثره ، ومنع النّاس من زيارته : ( يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ )(1) .

بَنى لَهُمُ الماضونَ آساسَ هَذِهِ       فَعَلّوا عَلى آساسِ تِلكَ القَواعِدِ

أَلا لَيسَ فِعلُ الأَوَّلينَ وَإِنْ عَلا       عَلى قُبحِ فِعلِ الأَخَرينَ بِزائِدِ

إلى أن يقول أبو فراس رحمه الله , مخاطباً لبني العبّاس :

خَـلّوا الفَخارَ لِعَلاّمينَ إِنْ iiسُئِلوا      يَـومَ السُؤالِ وَعَمّالينَ إِنْ iiعَلِموا
لا يَغضَبونَ لِغَيرِ اللَهِ إِنْ غَضِبوا      وَلا يُضيعونَ حُكمَ اللَهِ إِنْ iiحَكَموا
تَـبدو  الـتِّلاوَةُ مِن أَبياتِهِم iiأَبَداً      وَفـي بُـيوتِكُمُ الأَوتـارُ iiوَالنَّغَمُ
مِـنكُم  عُـلَيَّةُ أَمْ مِنهُم وَكانَ لَهُم      شَـيخُ  الـمُغَنّينَ إِبراهيمُ أَمْ iiلَكُمُ
إذا تـلَـوا سورةً غنّى خطيبُكُمii      iiقـفْ بالدِّيارِ الّتي لمْ يعفِها القِدَمُ
مـا فـي دِيارِهِمُ لِلخَمرِ مُعتَصَرٌ      وَلا  بُـيوتُهُمُ لِـلسّوءِ iiمُـعتَصَمُ
الـبيتُ والرُّكنُ وَالأَستارُ مَنزِلُهُم      وَزَمزَمٌ  وَالصَّفا وَالخيفُ iiوَالحَرَمُ
ولـيس منْ قَسمٍ في الذِّكرِ نعرفُهُ      iiإلاّ وهُـمْ غـيرُ شكٍّ ذلكَ القَسمُ
صَـلّى  الإِلَهُ عَلَيهِم أَينَما iiذُكِروا      لأنَّـهُمُ  لِـلوَرى كَهفٌ iiوَمُعتَصَم

يقول أبو فراس رحمه الله :

البيتُ والرُّكنُ وَالأَستارُ مَنزِلُهُم      وَزَمزَمٌ وَالصَّفا وَالخيفُ وَالحَرَمُ

ألا لعن الله مَن أزعجهم عن منازلهم وطردهم منها , وأخاف أبا عبد الله الحسين (عليه السّلام) حتّى أخرجه عن مدينة جدِّه وهو يتلو : ( فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ )(2) . ولم يكتفِ بذلك حتّى أخافه وأخرجه عن البيت والركن ، وزمزم والصّفا ، والخيف والحرم ، ومنعه من إكمال الحجِّ وكان قد أحرم بالحجِّ

ــــــــــــــــــــــــــ

(1) سورة الصّف / 8 .

(2) سورة القصص / 21 .


الصفحة ( 317 )

فتحلّل بعمرة مفردة , وخرج من مكّة إلى العراق يوم التروية لمّا علم أنّ يزيد دسَّ مع الحاجّ ثلاثين رجلاً من شياطين بني اُميّة , وأمرهم بقتل الحسين (عليه السّلام) على أي حال اتّفق , وأنفذ عمرو بن سعيد بن العاص إلى مكّة في عسكر عظيم , وأمره بقبض الحسين (عليه السّلام) سرّاً , وإنْ لم يتمكن يقتله غيلة .

وقـدْ  iiانجلَى عنْ مكَّةٍ وهو ابنُها      وبـهِ  iiتـشرَّفتِ الحطيمُ وزَمْزمُ
لـمْ  iiيـدرِ أينَ يُريحُ بُدنَ ركابهِ      فـكـأنَّـمـا المأوَى عليهِ مُحرَّمُ

*  *  *
ولـمّا  iiرأوا بـعضَ الحياةِ مَذلَّة      عـليهمْ  iiوعزَّ الموتِ غيرَ مُحرَّمِ
أبَوا أنْ يذوقوا العيشَ والذّلُّ واقع      iiعـلـيـه ومـاتُوا ميتةً لمْ تُذمَمِ

المجلس الخامس والخمسون بعد المئتين

في كتاب عمدة الطّالب ، وكتاب الفرج بعد الشّدة للقاضي التّنوخي : حدثنا أبو الفرج علي المعروف بالأصبهاني , إملاء من حفظه ، قال : كان محمَّد بن زيد العلوي الحسيني الدّاعي بطبرستان ، الذي ملك بلاد طبرستان بعد أخيه الحسن بن زيد المُلقّب بالدَّاعي إلى الحقِّ والدّاعي الكبير , ويُلقّب هو بالدّاعي الصّغير ، إذا افتتح الخراج نظر إلى ما في بيت المال من خراج السّنة الماضية , ففرّقه في قبائل قريش ثمّ في الأنصار ، والفقهاء وأهل القرآن ، وسائر طبقات النّاس حتّى لا يبقى معه درهم .

 فجلس في بعض السّنين يفرّق فبدأ ببني هاشم ، فلمّا فرغ منهم , دعا سائر بني عبد مناف , فقام إليه رجل فقال له الدّاعي : من أي بني عبد مناف أنت ؟ قال : من بني اُميّة . قال : من أيِّهم ؟ فسكت , قال : لعلّك من ولد معاوية ؟ قال : نعم . قال : من أيِّ


الصفحة ( 318 )

ولده ؟ فسكت , قال : لعلّك من ولد يزيد ؟ قال : نعم . قال : بئسما اخترت لنفسك ! تقصد ولاية آل أبي طالب وعندك ثأرهم ؟! فإنْ كنت جئت جاهلاً بهذا , فما بعد جهلك جهل ، وإنْ كنت جئت مستهزئاً بهم , فقد خاطرت بنفسك . فنظر إليه العلويون نظراً شزراً , فصاح بهم محمَّد الدّاعي وقال : كفّوا عنه ، كأنّكم تظنّون أنّ في قتله إدراكاً لثأر الحسين جدِّي ! إنّ الله قد حرّم أنْ تطالب نفس بغير ما اكتسبت . والله , لا يعرض له أحد بسوء إلاّ جازيته بمثله . ثمّ أمر له بمثل ما أمر به لسائر بني عبد مناف , وبعث معه مَن يُوصله إلى مأمنه .

 وقال لمَن حضره : اسمعوا حديثاً اُحدّثكم به يكون لكم قدوة : حدثني أبي عن أبيه قال : عرض على المنصور جوهر فاخر وهو بمكّة فعرفه , وقال : هذا جوهر كان لهشام بن عبد الملك , وقد بلغني أنّه عند ابنه محمَّد ولم يبقَ منهم غيره . ثمّ قال للربيع حاجبه : إذا كان غداً وصلّيت بالنّاس في المسجد الحرام , فأغلق الأبواب كلَّها إلاّ باباً واحداً وقف عليه , ولا تُخرج إلاّ مَن تعرفه حتّى تظفر بمحمَّد بن هشام , فتأتيني به .

ففعل الربيع ذلك , وعرف محمَّد بن هشام أنّه هو المطلوب فتحيّر , وأقبل محمَّد بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السّلام) فرآه مُتحيّراً وهو لا يعرفه , فقال له : يا هذا , أراك متحيّراً فمَن أنت ؟ قال : ولي الأمان ؟ قال : لك أمان الله التّام والعام , وأنت في ذمّتي حتّى اُخلّصك . قال : أنا محمَّد بن هشام بن عبد الملك , فمَن أنت ؟ قال : أنا محمَّد بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب . فقال : عند الله أحتسب نفسي إذاً ! فقال : لا بأس عليك , ولكن تعذرني في مكروه أنا لك به ، وقبيح اُخاطبك به يكون فيه خلاصك بمشيئة الله تعالى . قال : افعل ما تُريد .

 فطرح رداءه على رأسه ووجهه ، وشدّه به وأقبل يجرّه , فلمّا أقبل على الربيع لطمه لطمات ، وقال للربيع : يا أبا الفضل , إنّ هذا الخبيث جمّال من أهل الكوفة ، أكراني جماله ذاهباً وراجعاً وقد هرب منّي ,


الصفحة ( 319 )

وأكرى جماله بعض قوّاد الخراسانية , ولي عليه بذلك بيّنة , فابعث معي حَرسيّين يصيران به معي إلى القاضي لئلاّ يهرب مني .

فبعث معه حرسيّين ، فلمّا بعد عن المسجد قال له : يا خبيث , تُؤدّي إليَّ حقِّي ؟ قال : نعم يابن رسول الله . فقال للحرسيّين : انصرفا . فانصرفا , فلمّا رجعا أطلقه ، فقبّل محمَّد بن هشام رأسه ، وقال : بأبي أنت واُمّي ! ( اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ )(1) . ثمّ أخرج جوهراً نفيساً فدفعه إليه , وقال : شرّفني بقبول هذا . فقال : إنّا أهل بيت لا نقبل على المعروف ثمناً , فانصرف راشداً .

وآل أبي طالب معادن العفو والحلم ، والصّفح وكرم الأخلاق , وعادتُهم ـ خلفاً عن سلفٍ ـ مقابلةُ الإساءة بالإحسان ، فكم قابلوا بني اُميّة على أعظم الإساءة بأعظم الحلم والإحسان في مواضع لا تُحصى ؛ بدأهم بذلك جدّهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) , وبهُداه اهتدوا ، وعلى منهاجه نهجوا .

 فقد كان من أشدِّ النّاس عليه بمكّة أبو سفيان بن حرب , فهو الذي جيّش الجيوش عليه يوم اُحد والأحزاب , وسَعتْ زوجته هند في قتل عمّه حمزة أسد الله وأسد رسوله , وبقرتْ بطنه عن كبده لتأكل منها فسُمّيت آكلة الأكباد , ووقف عليه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) , فقال : (( ما وقفت موقفاً أغيظ عليَّ منْ هذا الموقف )) . ومع ذلك لمّا فتح مكّة حلم وصفح ، وزاد بأنْ قال : (( مَن دخل دار أبي سفيان فهو آمن )) .

فجازى بنو اُميّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) على إحسانه هذا إليهم ؛ بأنْ أخافوا سبطه وريحانته الحسين بن علي (عليه السّلام) في بلد يأمن فيه الطّير والوحش , وهي مكّة بلد الله الحرام , فخرج منها يوم التروية خائفاً يترقّب , وكان قد أحرم للحجِّ فجعلها عمرة مفردة وأحلَّ من إحرامه , فكان النّاس يخرجون إلى منى والحسين خارج إلى العراق ؛ لأنّ يزيد دسّ إليه مع الحاجّ ثلاثين رجلاً من شياطين بني اُميّة ليقبضوا عليه أو يقتلوه , ثمّ جهّز عليه ابن زياد الجيوش بأمر يزيد , فأحاطوا به ومنعوه التَّوجه في بلاد الله العريضة , ومنعوه وأهله من ماء الفرات الجاري

ــــــــــــــــــــــــــ

(1) سورة الأنعام / 124 .


الصفحة ( 320 )

حتّى قتلوه عطشانَ ضامياً , وقتلوا أنصاره وأهله وأولاده , وسبوا نساءه من بلد إلى بلد , وأتوا بعلي بن الحسين زين العابدين (عليه السّلام) ـ وهو عليل ـ مُقيَّداً مُغلّلاً حتّى أدخلوه على يزيد .

ومع ذلك ، لمّا طرد أهل المدينة بني اُميّة منها في أيّام يزيد ؛ لِما رأوا من قبح أفعال يزيد وكفره وطغيانه ، وفي جملة المطرودين مروان بن الحكم , عرض مروان على جماعة من أهل المدينة أنْ يجعل أهله وعياله عندهم فأبوا , فعرض ذلك على علي بن الحسين (عليه السّلام) فأجابه إليه , وجعل عيال مروان مع عياله وحماهم وأكرمهم , ولكنْ الطّينة الاُمويّة أبت أنْ تُقابل الإحسان إلاّ بالإساءة ، كما قال الشّاعر :

ومَنْ يصنعُ المعروفَ مَعْ غيرِ أهلِهِ       يُجازَى كما جُوزي مُجيرُ اُمِّ عامرِ

وقال الآخر :

مـلكنَا فـكان الـعفوُ مـنَّا iiسـجيَّة       فـلمّا  مـلكتُمْ سـالَ بـالدَّمِ iiأبطحُ
وحَـلَّلْتُمُ قـتلَ الأسـارَى iiوطـالَما      غَدوْنا عن الأسْرى نَعفُّ ونصفَحُ(1)
فـحـسْبُكُمُ  هـذا الـتَّفاوتُ iiبـيْنَنا      وكـلُّ إِنـاءٍ بـالذي فـيهِ iiيَـنْضَحُ

فجازى بنو مروان زين العابدين (عليه السّلام) على إحسانه هذا ؛ بأنْ جفوا ولده زيد الشّهيد واهتضموه حتّى ظهر بالكوفة فقُتل , فنبشوه وصلبوه عارياً على جذعٍ بالكوفة أربع سنين ، ثمّ أنزلوه وأحرقوه . لبئسما جزوا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في آله وذرّيّته ! ولبئسما جزته اُمّة تواليهم !

 

فلا بلَّ أجداثاً لآلِ اُمـيَّةٍ      سُقيتْ ولا صَوبُ الغمامِ أصابَها

* * *

ليس هذا لرسولِ اللهِ يا       اُمّةَ الطُّغيانِ والبغي جزَا

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ورد البيت في مصدره الأساس بغير هذا النّحو ، والتغيير من ديوان الشاعر . ( موقع معهد الإمامَين الحسنَين )


الصفحة ( 321 )

 

المجلس السادس والخمسون بعد المئتين

إنّ فضيلة العلم وارتفاع درجته أمرٌ كفى انتظامه في سلك الضّرورة مؤنة الاهتمام ببيانه ؛ وما يورد في فضله إنّما هو لتحريك النّفوس وتنبيه الغافل , ويدلُّ على فضل العلم بعد الضّرورة عند جميع العقلاء , قوله تعالى : ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ )(1) . افتتح كلامه المجيد بذكر نعمة الإيجاد وأتبعه بذكر نعمة العِلم , فلو كان بعد نعمة الإيجاد نعمة أعلى من العلم لكانت أجدر بالذّكر , وقوله : ( وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ ) . يدلّ على أنّه سبحانه اُختص بوصف الأكرميّة ، وقوله : ( الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ . . . ) إلى آخره ، يدلّ على أنّ اختصاصه بوصف الأكرميّة ؛ لأنّه علّم الإنسان العِلم , وكفى بذلك دليلاً على فضل العِلم .

وقال تعالى : ( هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ )(2) . ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ )(3) . ( شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ )(4) . فقرن العلماء بنفسه وملائكته : ( يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ )(5) . والآيات الدالّة على فضل العلم كثيرة جداً .

وقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : (( طلبُ العِلمِ فريضةٌ على كلِّ مُسلمٍ ومُسلمة )) . (( اطلبوا العلمَ ولو بالصّين )) . (( فضلُ العالِمِ على العابد كفضلِ القمرِ على سائر النّجوم ليلة البدر )) . (( فضلُ العالِمِ على العابد كفضلي على أدناكم )) . (( نومُ العالِمِ أفضلُ من عبادة العابد )) . (( نومٌ مع علمٍ خيرٌ من صلاة مع جهل )) . (( ساعةُ العالِم يتَّكئ على فراشه ينظرُ في علمٍ خيرٌ من عبادة سبعين سنة )) . (( فقيهٌ واحد أشدُّ على

ــــــــــــــــــــــــــ

(1) سورة العلق / 1 ـ 5 .

(2) سورة الزّمر / 9 .

(3) سورة فاطر / 28 .

(4) سورة آل عمران / 18 .

(5) سورة المُجادلة / 11 .


 الصفحة ( 322 )

الشّيطان من ألف عابد )) .

وقال الباقر (عليه السّلام) : (( عالمٌ يُنتفع بعلمه أفضلُ من سبعين ألف عابد )) . وقال أيضاً : (( العالمُ كمَن معه شمعة تُضيء للنّاس , فكلّ مَن أبصر بشمعته دعا له بخير )) . وكذلك : (( العالمُ معه شمعة ، يزيل بها ظلمة الجهل والحيرة )) .

وقال الصّادق (عليه السّلام) : (( عُلماء شيعتنا مرابطون في الثغر الذي يلي إبليس وعفاريته ، يمنعونهم من الخروج على ضعفاء شيعتنا , ألا فمَنْ انتصب لذلك كان أفضل ممّن جاهد ألف ألف مرّة ؛ لأنّه يدفع عن أديان محبِّينا ، وذلك يدفع عن أبدانهم )) .

وقال الرضا (عليه السّلام) : (( يُقال للعابد يوم القيامة : نِعم الرجل كُنت ! همّتك ذات نفسك , وكفيت النّاس مؤنتك , فادخل الجنة . ويُقال للفقيه : قف حتّى تشفع لكلِّ مَن أخذ عنك أو تعلّم منك , ومَن أخذ ممّن أخذ عنك إلى يوم القيامة )) .

وقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : (( العلماءُ ورثة الأنبياء , إنّ الأنبياء لم يُورّثوا ديناراً ولا درهماً ( لأنّهم يموتون فقراء لزهدهم في الدُّنيا ) ، ولكنْ ورّثوا العلم )) . وقال (صلّى الله عليه وآله) : (( النّظر إلى العالِمِ عبادة )) .

وقال أمير المؤمنين (عليه السّلام) : (( كفى بالعلمِ شرفاً أنْ يدّعيه مَن لا يُحسنه ويفرح به إذا نُسب إليه , وكفى بالجهل ذمّاً أنْ يبرأ منه مَن هو فيه )) .

 وأيّ عالم أعلم من الإمام أبي عبد الله الحسين (عليه السّلام) وارث علوم جدّه وأبيه (صلوات الله وسلامه عليهما وآلهما) , ولم ترعَ له هذه الاُمّة حرمة ولم تعرف له حقّاً , بل ظلمته وأخّرته عن مقامه , وقدّمت عليه يزيد الفجور والخمور ، والقرود والفهود , وأرادته أنْ يبايع له بإمرة المؤمنين ؟!

ويـزيدُ لا مُـتهوِّدٌ        فيهمْ ولا مُتـبصِّرُ

يُدعَى أميرَ المؤمنيـْ       ـنَ يُطاعُ فيما يأمرُ

وكيف يُبايع سليل بيت الوحي ، وربيب حجر النّبوّة لسكّير بني اُميّة , ويعترف لأمير الكافرين والفاسقين بأنّه أمير المؤمنين ؟! إنّ هذا ما لا يجوز ولا يكون , فأبى عن بيعته وتوجّه نحو الكوفة , فأسلمه أهلها


 

الصفحة ( 323 )

إلى عدوّه بعد ما بايعه منهم عشرات الاُلوف , فقُتل شهيداً ظامياً ، غريباً وحيداً , وقُتلت أنصاره وأهل بيته ، وذُبحت أطفاله وسُبيت عياله .

خطبٌ تصاغرَ عندَهُ       كلُّ الخُطوبِ ويكبَرُ

لو كانَ أحمدُ حاضراً       لَشجاهُ ذاكَ المحضرُ

 

المجلس السابع والخمسون بعد المئتين

من الأخلاق النّبيلة المحمودة عند العقل وفي الشّرع الصّبر , وقد مُدح في القرآن الكريم في نيف وسبعين موضعاً , وأضاف الله تعالى أكثر الدرجات والخيرات إلى الصّبر وجعلها ثمرة له , فقال عزّ مَن قائل : ( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا )(1) . ( وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا )(2) . ( وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )(3) . ( اُولئك يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا )(4) .

 وما من قربة إلاّ وأجرها بتقدير وحساب إلاّ الصّبر , قال الله تعالى : ( إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ )(5) . ووعد الله الصّابرين بأنّه معهم , فقال تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ )(6) . وعلّق النّصرة على الصّبر ، فقال : ( بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ )(7) . وجمع الله تعالى للصابرين بين اُمور لم يجمعها لغيرهم , فقال : ( وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * اُولئك عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَاُولئك هُمْ الْمُهْتَدُونَ )(8) . إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الواردة في مدح الصّبر .

 وقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : (( الصّبر نصف الإيمان )) . وسُئل النّبيُّ (صلّى الله عليه وآله) عن الإيمان ، فقال : (( الصّبر

ــــــــــــــــــــــــــ

(1) سورة السّجدة / 24 .

(2) سورة الأعراف / 137 .

(3) سورة النّحل / 96 .

(4) سورة القصص / 54 .

(5) سورة الزّمر / 10 .

(6) سورة البقرة / 153 .

(7) سورة آل عمران / 125 .

(8) سورة البقرة / 155 ـ 157 .


الصفحة ( 324 )

والسّماحة )) . وهذا معنى كونه نصف الإيمان . وقال (صلّى الله عليه وآله) : (( الصّبر كنز من كنوز الجنّة )) . وأوحى الله تعالى إلى داود (عليه السّلام) : (( تخلّق بأخلاقي أنا الصّبور )) .

وإنّ الإمام أبا عبد الله الحسين (عليه السّلام) من خير مَن تجلّى بالصّبر ، ولمّا لقيه أبو هرّة الأزدي وقال له : يابن رسول الله , ما الذي أخرجك عن حرم الله وحرم جدِّك محمَّد (صلّى الله عليه وآله) ؟ قال له الحسين (عليه السّلام) : (( ويحك يا أبا هرّة ! إنّ بني اُميّة أخذوا مالي فصبرت , وشتموا عرضي فصبرت , وطلبوا دمي فهربت . وأيمُ الله , لتقتلني الفئة الباغية , وليلبسنّهم الله ذلاّ ً شاملاً وسيفاً قاطعاً )) .

وأعظم من هذا صبره يوم عاشوراء على قتال ثلاثين ألفاً بفئة قليلة , وعدم خنوعه للذلِّ والضّيم , وصبره على ضرب السّيوف وطعن الرماح ، ورمي السّهام حتّى قُتل عطشان ظامياً ، غريباً وحيداً .

وباسمِ الثَّغرِ والأبطالُ عابسةٌ     كأنَّ جدَّ المنايا عندهُ لَعبُ

 

المجلس الثامن والخمسون بعد المئتين

قال الله تعالى مُخاطباً لنبيِّه (صلّى الله عليه وآله) ومُثنياً عليه : ( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ )(1) . وسأل رجل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عن حسن الخُلق , فتلا قوله تعالى : ( خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ )(2) . ثمّ قال (صلّى الله عليه وآله) : (( هو أنْ تصل مَن قطعك ، وتُعطي مَن حرمك ، وتعفو عمّن ظلمك )) . وقال (صلّى الله عليه وآله) : (( إنّما بُعثت لاُتمِّمَ مكارمَ الأخلاق )) . وقال (صلّى الله عليه وآله) : (( أثقلُ ما يُوضع في الميزان يوم القيامة تقوى الله ، وحُسنُ الخُلق )) . وقال رجل لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) : أوصني . فقال : (( اتَّقِ اللهَ حيثُ كُنت )) . قال : زدني . قال : (( اتبع السّيئةَ الحسنة تمحها )) . قال : زدني . قال :

ــــــــــــــــــــ

(1) سورة القلم / 4 .

(2) سورة الأعراف / 199 .


الصفحة ( 325 )

(( خالق النّاس بخُلق حسن )) . وقيل له : يا رسول الله , إنّ فلانة تصوم النّهار وتقوم الليل وهي سيّئة الخُلق , تُؤذي جيرانها بلسانها . قال : (( لا خيرَ فيها , هي من أهل النّار )) . وقال أبو الدّرداء : سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول : (( أوّل ما يُوضع في الميزان حسن الخُلق والسّخاء )) . وقال (صلّى الله عليه وآله) : (( إنّكم لنْ تسعوا النّاس بأموالكم , فسعوهم ببسط الوجه وحُسن الخُلق )) . وقال (صلّى الله عليه وآله) : (( إنّ أحبَّكم إليَّ وأقربكم منّي مجلساً يوم القيامة , أحسنكم أخلاقاً )) .

وقد فصّل الإمام زين العابدين (عليه السّلام) مكارم الأخلاق ، ومرضى الأفعال في بعض أدعية الصّحيفة الكاملة , فقال : (( وَأَغْنِنِي وَلاَ تَفْتِنِّي بِالبطَرِ ، وَأَعِزَّنِي وَلا تَبْتَلِيَنِّي بِالْكِبْرِ ، وَعَبِّدْنِي لَكَ وَلاَ تُفْسِدْ عِبَادَتِي بِالْعُجْبِ ، وَأَجْرِ لِلنَّاسِ عَلَى يَدَيَّ الْخَيْرَ ، وَلا تَمْحَقْهُ بِالْمَنِّ ، وَهَبْ لِي مَعَـالِيَ الأخْـلاَقِ ، وَاعْصِمْنِي مِنَ الْفَخْرِ ، وَلا تَـرْفَعْنِي فِيْ النَّاسِ دَرَجَـةً إلاّ حَطَطْتَنِي عِنْدَ نَفْسِي مِثْلَهَا ، وَلا تُحْدِثْ لِي عِزّاً ظَاهِرَاً إلاّ أَحْدَثْتَ لِي ذِلَّةً بَاطِنَةً عِنْدَ نَفْسِي بِقَدَرِهَا .

أللَّهُمَّ ، لا تَدَعْ خَصْلَةً تُعَابُ مِنِّي إلاّ أَصْلَحْتَهَا ، وَلا عَائِبَةً اُؤَنَّبُ بِهَا إلاّ حَسَّنْتَهَا ، وَلاَ اُكْـرُومَـةً فِيَّ نَاقِصَةً إلاّ أَتْمَمْتَهَا ، وَوَفِّقْنِي لِطَاعَةِ مَنْ سَدَّدَنِي وَمُتَابَعَةِ مَنْ أَرْشَدَنِي ، وَسَدِّدْنِي لأنْ اُعَـارِضَ مَنْ غَشَّنِي بِالنُّصْـحِ ، وَأَجْـزِيَ مَنْ هَجَرَنِي بِالْبِرِّ ، وَاُثِيبَ مَنْ حَرَمَنِي بِالْبَذْلِ ، وَاُكَافِيَ مَنْ قَطَعَنِي بِالصِّلَةِ ، واُخَـالِفَ مَنِ اغْتَابَنِي إلَى حُسْنِ الذِّكْرِ ، وَأَنْ أَشْكرَ الْحَسَنَةَ وَاُغْضِيَ عَنِ السَّيِّئَـةِ ، وَحَلِّنِي بِحِلْيَـةِ الصَّالِحِينَ .

وَأَلْبِسْنِي زِينَةَ المُتَّقِينَ فِيْ بَسْطِ الْعَدْلِ وَكَظْمِ الْغَيْظِ ، وَإطْفَاءِ النَّائِرَةِ ، وَضَمِّ أَهْلِ الْفُرْقَةِ ، وَإصْلاَحِ ذَاتِ الْبَيْنِ ، وَإفْشَاءِ الْعَارِفَةِ ، وَسَتْرِ الْعَائِبَةِ ، وَلِينِ الْعَرِيكَةِ وَخَفْضِ الْجَنَـاحِ ، وَحُسْنِ السِّيرَةِ ، وَسُكُونِ الرِّيـحِ ، وَطِيْبِ الْمُخَالَقَـةِ ، وَالسَّبْقِ إلَى الْفَضِيلَةِ ، وإيْثَارِ التَّفَضُّلِ ، وَتَرْكِ التَّعْيِيرِ وَالإفْضَالِ عَلَى غَيْرِ الْمُسْتَحِقِّ ، وَالـقَوْلِ بِالْحَقِّ وَإنْ عَـزَّ ، وَاسْتِقْلاَلِ الخَيْـرِ وَإنْ كَثُـرَ مِنْ قَـوْلِي وَفِعْلِي ، وَاسْتِكْثَارِ الشَّرِّ وَإنْ قَلَّ مِنْ قَوْلِي وَفِعْلِي ،


الصفحة ( 326 )

وامنعني مِنْ السَّرَفِ ، وحصّنْ رزقي مِنْ التَّلفِ )) .

وأهل بيت الرسول (صلّى الله عليه وآله) هم أحسن النّاس أخلاقاً , لا يلحقهم في ذلك لاحق , ولا يسبقهم سابق ، ومنهم تعلّم النّاس مكارم الأخلاق ومحاسن الأفعال ، ومنهم مولانا الإمام أبو عبد الله الحسين (عليه السّلام) , وله في مكارم الأخلاق أخبار كثيرة تنبو عن الحصر , منها : إنّه مرّ بمساكين وهم يأكلون كسراً على كساء فسلّم عليهم , فدعوه إلى طعامهم فجلس معهم ، وقال : (( لولا أنّه صدقة لأكلتُ معكم )) . ثمّ قال : (( قوموا إلى منزلي )) . فأطعمهم وكساهم ، وأمر لهم بدراهم .

ومن مكارم أخلاقه ، إنّه جنى غلامٌ له جناية توجب العقاب فأمر بضربه , فقال : يا مولاي , ( وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ ) . قال : (( خلّو عنه )) . فقال : يا مولاي , ( وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ ) . قال : (( قد عفوتُ عنك )) . قال : يا مولاي , ( وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ )(1) . قال : (( أنت حُرٌّ لوجه الله , ولك ضعف ما كُنتُ أعطيك )) .

وحيّته جارية بطاقة ريحان , فقال لها : (( أنت حرّة لوجه الله تعالى )) . فقيل له : تجيئك بطاقة ريحان لا خطر لها فتعتقها ! قال : (( كذا أدّبنا الله ، قال الله تعالى : وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا(2) . وكان أحسنَ منها عتقُها )) .

 أمثل هذا الإمام في فضائله التي لا تُبارى , يُزال عن حقّه وتتعدّى عليه بنو اُميّة ، وتخفيه حتّى أخرجته من حرم جدّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إلى حرم الله , ثمّ دسّت إليه الرجال لتغتاله في الحرم ، فخرج إلى العراق فجهّز إليه الدعيُّ ابن الدعيِّ عبيد الله بن زياد الجيوش ـ بأمر يزيد بن معاوية ـ وضيّق عليه , ومنعه التوجّه في بلاد الله العريضة حتّى قُتل عطشان ظامياً ، وحيداً فريداً غريباً , وقُتلت أنصاره وسُبيت عياله ؟!

فعلتُمْ بأبناءِ النَّبيِّ ورهطهِ           أفاعيلَ أدناها الخيانةُ والغدرُ

* * *

ــــــــــــــــــــــــــ

(1) سورة النّساء / 86 .

(2) سورة آل عمران / 134 .

 
الصفحة السابقةالفهرسالصفحة اللاحقة

 

طباعة الصفحةبحث