المجالسُ السَّنيّة - الجزء الاول

 
 

الصفحة ( 145 )

(( يابن معاوية وهند وصخر ، لقد كان جدّي عليُّ بن أبي طالب في يوم بدر واُحُد والأحزاب في يده راية رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وأبوك وجدّك في أيديهما رايات الكفّار )) . ثمّ قال علي بن الحسين (عليهما السّلام) : (( ويلك يا يزيد ! إنّك لو تدري ماذا صنعت ، وما الذي ارتكبت من أبي وأهل بيتي وأخي وعموتي ، إذاً لهربت في الجبال ، وافترشت الرماد(1) ، ودعوتَ بالويل والثبور ، أنْ يكون رأس أبي الحسين بن فاطمة وعلي منصوباً على باب مدينتكم ، وهو وديعة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فيكم ؟! )) .

ومـا رأتْ أنبياءُ اللهِ منْ iiمِحنٍ   وأوصـياؤهُمُ في سالفِ الحُقَبِ
كمِحنةِ السيّدِ السجّادِ حينَ 
iiأتتْ   يزيدَ نِسوتُهُ أسْرى على iiالنُّجبِ
أمـامَها رُفِعتْ فوقَ الأسنَّةِ 
iiمنْ   حُماتِها أرؤسٌ فاقتْ سَنا الشُّهبِ

المجلس الخامس والثمانون

لمّا جيء برأس الحسين (عليه السّلام) إلى يزيد بالشام ، دعا بقضيب خيزران وجعل ينكت به ثنايا الحسين (عليه السّلام) ويقول :

لـيتَ أشـياخي ببدرٍ iiشَهدوا   جَزعَ الخزْرجِ منْ وقْعِ الأسلْ
لأهـلّـوا واسْـتهلّوا فـرحاً   ثمّ قـالوا يـا يزيدُ لا 
iiتشلْ
قـد قـتلنا القَرمَ منْ 
iiساداتهمْ   وعـدلـناه بـبدرٍ فـاعتَدلْ
 

لـعبتْ هـاشمُ بـالمُلكِ iiفلا   خـبرٌ جـاء ولا وحيٌ iiنَزلْ
لـستُ من خِندفَ إنْ لم أنتقمْ   مِـن بني أحمدَ ما كانَ 
iiفعلْ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) وردت المفردة في مصادر اُخرى ( الرّمال ) ، ولعلها الأقرب ؛ تساوقاً مع المعنى ووحدة السياق ، وكذلك مفردتي ( أنْ يكون ) فقد وردتا ( أيكون ) وهو الأقرب أيضاً .  (موقع معهد الإمامين الحسنين)

الصفحة ( 146 )

فقامت زينب بنت علي (عليهما السّلام) فقالت : الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على رسوله وآله أجمعين ، صدق الله كذلك حيث يقول : ( ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوءَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُون )(1) . أظننتَ يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء ، فأصبحنا نُساق كما تُساق الإماء ، أنّ بنا هواناً على الله وبك كرامة ؟ وأنّ ذلك لعظم خطرك عنده ؟ فشمخت بأنفك ونظرت في عِطفك جذلان مسروراً ؛ حيث رأيت الدّنيا لك مستوسقة والاُمور متّسقة ، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا ، فمهلاً مهلاً ، أنسيت قول الله تعالى : ( ولاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ ِلأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ )(2) ؟

أمِن العدل يابن الطلقاء تخديرك حرائرك وإماءك ، وسوقك بنات رسول الله (صلّى الله عليه وآله) سبايا قد هتكت ستورهنَّ وأبديت وجوههنَّ ، تحدوا بهنّ الأعداء من بلد إلى بلد ، ويستشرفهنَّ أهل المناهل والمناقل ، ويتصفّح وجوههنّ القريب والبعيد والدّنيء والشريف ، ليس معهنَّ من حماتهنَّ حمي ولا من رجالهنّ وَلي ؟! وكيف ترتجى مراقبة ابن مَن لفط فوه أكباد الأزكياء ، ونبت لحمه بدماء الشهداء ؟! وكيف يستبطأ في بغضنا أهل البيت مَن نظر إلينا بالشنف والشنآن والإحن والأضغان ؟! ثمّ تقول غير متأثّم ولا مستعظم :

لأهلُّوا واستهلُّوا فَرحاً   ثُمّ قالوا يا يزيدُ لا تشَلْ

منحنياً على ثنايا أبي عبد الله سيّد شباب أهل الجنّة تنكتها بمخصرتك ! وكيف لا تقول ذلك وقد نكأت القرحة واستأصلت الشأفة بإراقتك دماء ذرّيّة محمّد (صلّى الله عليه وآله) ، ونجوم الأرض من آل عبد المطلب ؟! وتهتف بأشياخك زعمت أنّك تناديهم ! فلتردنّ وشيكاً موردَهم ، ولتودنّ أنّك شللت وبكمت ولم تكن قلت ما قلت وفعلت ما فعلت .

اللهمَّ ، خُذ لنا بحقّنا وانتقم ممَّن ظلمنا ، وأحلل غضبك بمَن سفك دماءنا وقتل حماتنا . فوالله ، ما فريتَ إلاّ جلدك ولا حززت إلاّ لحمك ، ولتردنّ على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بما تحمّلت من سفك دماء ذرّيّته ، وانتهكت من حرمته في عترته ولُحمته ،

______________________
(1) سورة الروم / 10 .
(2) سورة آل عمران / 178 .

الصفحة ( 147 )

( ولاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ )(1) . وحسبُك بالله حاكماً وبمحمّد (صلّى الله عليه وآله) خصيماً ، وسيعلم مَن سوّل لك ومكّنك من رقاب المسلمين أن بئس للظالمين بدلاً وأنّكم شرّ مكاناً وأضعف جنداً ! ولئن جرّت عليّ الدواهي مخاطبتك أنّي لأستصغر قدرك ، وأستعظم تقريعك ، وأستكبر توبيخك ، لكن العيون عَبرى والصدور حَرّى .

ألا فالعجب كلّ العجب لقتل حزب الله النّجباء بحزب الشيطان الطلقاء ! فهذه الأيدي تنظف من دمائنا ، والأفواه تتحلب من لحومنا ، وتلك الجثث الطواهر الزواكي تنتابها العواسل ، وتعقرها اُمّهات الفراعل(2) ، ولئن اتخذتنا مغنماً لتجدنّنا وشيكاً مغرماً حين لا تجد إلاّ ما قدّمت يداك ، وما ربّك بظلاّم للعبيد ، فإلى الله المشتكى وعليه المعوّل .

فكد كيدك واسعَ سعيك ، وناصب جهدك ، فوالله ، لا تمحو ذكرنا ولا تُميت وحينا ، ولا تدرك أمدنا ولا تدحض عنك عارها ، وهل رأيك إلاّ فَنَد ، وأيّامك إلاّ عدد ، وجمعك إلاّ بدد ، يوم يُنادي المنادي : ألا لعنة الله على الظالمين . فالحمد لله الذي ختم لأولنا بالسعادة والمغفرة ، ولآخرنا بالشهادة والرحمة ، ونسأل الله أنْ يكمل لهم الثواب ويوجب لهم المزيد ، ويحسن علينا الخلافة إنّه رحيم ودود ، وحسبنا الله ونعم الوكيل .

فقال يزيد مجيباً لها :

يـا صـيحةً تـُحمَدُ منْ iiصَوائحِ   مـا أهـونَ الـنَّوحِ على iiالنَّوائحِ

* * *

فـقُلْ لـسرايا شَيبةِ الحَمدِ ما iiلكمْ   قـعدتُمْ وقدْ ساروا بنسوتِكُمْ iiأسرَى
وأعـظمُ ما يُشجي الغيورَ 
iiدخولُها   إلى مجلسٍ ما بارحَ اللهوَ iiوالخمْرا
يـُقـارضُها فـيهِ يـزيدُ 
iiمَـسبَّةً   ويَصرفُ عنها وجهَهُ مُعرضاً كِبرا

المجلس السّادس والثمانون

لمّا اُدخل عيال الحسين (عليه السّلام) وبناته على يزيد بالشام ، نظر رجل من أهل الشام

______________________
(1) سورة آل عمران / 169 .
(2) العواسل ، جمع عاسل ، يقال عسل الذئب : إذا اضطرب في عدوه وهزّ رأسه . والفرعل كـ ( قنفذ ) : وَلد الضبع ، جمعه فراعل . واُمّهات الفراعل : الضباع .   ـ المؤلّف ـ

الصفحة ( 148 )

أحمر إلى فاطمة بنت الحسين (عليهما السّلام) فقال : يا أمير المؤمنين ، هب لي هذه الجارية . قالت فاطمة : فارتعدت وظننت أنّ ذلك جائز عندهم ، فأخذت بثياب عمّتي زينب وقلت : يا عمّتاه ! أوتمت واُستخدم ؟! وكانت عمّتي تعلم أنّ ذلك لا يكون ، فقالت عمّتي : لا حبّاً ولا كرامة لهذا الفاسق . وقالت للشامي : كذبت والله ولؤمت ، والله ما ذاك لك ولا له . فغضب يزيد وقال : كذبت ، إنّ ذلك لي ولو شئت أنْ أفعل لفعلت . قالت زينب : كلاّ والله ، ما جعل الله لك ذلك إلاّ أنْ تخرج من ملّتنا وتدين بغيرها . فاستطار يزيد غضباً وقال : إيّاي تستقبلين بهذا ! إنّما خرج من الدّين أبوك وأخوك . قالت زينب : بدين الله ودين أبي ودين أخي اهتديت أنت وجدّك وأبوك إنْ كنت مسلماً . قال : كذبتِ يا عدوّة الله . قالت له : أنت أمير تشتم ظالماً وتقهر بسلطانك . فكأنّه استحيا وسكت . فعاد الشامي فقال : هب لي هذه الجارية . فقال له يزيد : اعزب ، وهب الله لك حتفاً قاضياً .

وفي رواية : فقال الشامي : مَن هذه الجارية ؟ فقال : هذه فاطمة بنت الحسين ، وتلك زينب بنت علي . فقال الشامي : الحسين بن فاطمة وعلي بن أبي طالب ؟! فقال : نعم . فقال الشامي : لعنك الله يا يزيد ، تقتل عترة نبيّك وتسبي ذرّيّته ! والله ، ما توهّمت إلاّ أنّهم من سبي الروم . فقال يزيد : والله لألحقنّك بهم . ثمّ أمر به فضُربت عنقه .

أفَتدَّعي الإسلامَ قومٌ حاربَتْ   آلَ الـنَّبيِّ ولمْ تـُراعِ وصاتَا

وسَبتْ ذَراري أحمدٍ ونساءَهُ   أسرَى تجوبُ بها رُبىً وفلاتَا

المجلس السّابع والثمانون

لمّا جيء بسبايا أهل البيت (عليه السّلام) إلى يزيد بالشام ، أمر يزيد بمنبر وخطيب ، وأمر الخطيب أنْ يصعد المنبر فيذمّ الحسين وأباه صلوات الله عليهما ، فصعد


الصفحة ( 149 )

الخطيب المنبر فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ بالغ في ذمّ أمير المؤمنين والحسين الشهيد ، وأطنب في مدح معاوية ويزيد فذكرهما بكلّ جميل ، فصاح به علي بن الحسين (عليهما السّلام) : (( ويلك أيّها الخاطب ! اشتريت مرضاة المخلوق بسخط الخالق ، فتبوّأ مقعدك من النار )) . ثم قال علي بن الحسين (عليهما السّلام) : (( يا يزيد ، أتأذن لي حتّى أصعد هذه الأعواد فأتكلّم بكلمات لله فيهنّ رضىً ولهؤلاء الجلساء فيهنّ أجر وثواب ؟ )) . فأبى يزيد عليه ذلك ، فقال النّاس : يا أمير المؤمنين ، ائذن له فليصعد المنبر فلعلّنا نسمع منه شيئاً . فقال : إنّه إنْ صعد لم ينزل إلاّ بفضيحتي وفضيحة آل أبي سفيان . فقيل له : وما قدر ما يُحسن هذا ؟ فقال : إنّه من أهل بيت زقّوا العلم زقّاً . فلم يزالوا به حتّى أذِن له ، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ خطب خطبة أبكى فيها العيون وأوجل منها القلوب ، ثمّ قال : (( أيّها النّاس ، اُعطينا ستّاً وفُضّلنا بسبع ؛ اُعطينا العلم والحلم ، والسّماحة والفصاحة ، والشجاعة والمحبّة في قلوب المؤمنين ، وفُضلّنا بأنّ منّا النبيّ المختار محمّداً (صلّى الله عليه وآله ) ، ومنّا الصدّيق ومنّا الطيّار ، ومنّا أسد الله وأسد رسوله ، ومنّا سيّدة نساء العالمين ، ومنّا سبطا هذه الاُمّة .

مَن عرفني فقد عرفني ومَن لم يعرفني أنبأته بحسبي ونسبي . . . )) فلم يزل يقول : (( أنا . . . أنا )) حتّى ضجّ النّاس بالبكاء والنحيب ، وخشي يزيد أنْ تكون فتنة ، فأمر المؤذّن فقطع عليه الكلام ، فلمّا قال المؤذّن : الله أكبر ، الله أكبر . قال علي بن الحسين (عليهما السّلام) : (( لا شيء أكبر من الله )) . فلمّا قال : أشهد أنْ لا إله إلاّ الله ، قال علي بن الحسين (عليه السّلام) : (( شهد بها شعري وبشري ولحمي ودمي )) . فلمّا قال المؤذّن : أشهد أنّ محمّداً رسول الله . التفت (عليه السّلام) من فوق المنبر إلى يزيد فقال : (( محمّد هذا جدّي أم جدّك يا يزيد ؟ فإنْ زعمت أنّه جدّك فقد كذبت وكفرت ، وإنْ زعمت أنّه جدّي فلِم قتلت عترته ؟ )) .

ولقد أحسن ابن سنان الخفاجي حيث يقول :

يـا اُمّـةً كفرتْ وفي أفواهِها القُر   آنُ فـيهِ ضَـلالُها iiورشَـادُها
أعَـلَى الـمنابرِ تُـعلِنونَ 
iiبـسبِّهِ   وبـسيفِهِ نُـصبتْ لـكُمْ iiأعوادُها
تـلكَ الـضَّغائنُ لمْ تَزلْ 
iiبـَدريةً   قـُتِل الـحُسينُ وما خبتْ أحقادُها

* * *
يُصلّى على المبعوثِ منْ آلِ هاشمٍ   ويـُغـزَى بـنوهُ إنّ ذا 
iiلـعجيبُ


الصفحة ( 150 )

المجلس الثامن والثمانون

دعا يزيد يوماً بعلي بن الحسين (عليهما السّلام) وعمرو بن الحسن (عليه السّلام) ، وكان عمرو غلاماً صغيراً يقال أنّ عمره إحدى عشرة سنة ، فقال له : أتصارع هذا ؟ يعني ابنه خالداً . فقال له عمرو : لا ، ولكن أعطني سكّيناً وأعطه سكّيناً ، ثمّ اُقاتله . فقال يزيد :

شَنْشنةٌ أعرفُها من أخزمِ   هلْ تلدُ الحيَّةُ إلاّ الحيَّهْ

وخرج زين العابدين (عليه السّلام) يوماً يمشي في أسواق دمشق فاستقبله المنهال بن عمرو ، فقال له : كيف أمسيت يابن رسول الله ؟ قال : (( أمسينا كمَثل بني إسرائيل في آل فرعون ؛ يُذبِّحون أبناءهم ويَستحيون نساءهم . يا منهال ، أمستْ العرب تفتخر على العجم بأنّ محمّداً عربي ، وأمستْ قريش تفتخر على سائر العرب بأنّ محمّداً منها ، وأمسينا معشر أهل بيته ونحن مغصوبون مقتولون مشرّدون ، إنّا لله وإنّا إليه راجعون ممّا أمسينا فيه يا منهال )) .

يُعظّمـونَ لهُ أعوادَ مِنبرهِ   وتحتَ أرجُلهِمْ أولادُهُ وُضِعوا

بأيِّ حـُكمٍ بَنوهُ يتْبعونكُمُ   وفخركُـمُ أنّكمْ صحبٌ لهُ تَبعُ

وكان يزيد وعد علي بن الحسين (عليهما السّلام) يوم دخولهم عليه أنْ يقضي له ثلاث حاجات ، فقال له : اذكر حاجاتك الثلاث اللاتي وعدتك بقضائهن . فقال له (عليه السّلام) : (( الاُولى : أنْ تُريني وجه سيّدي ومولاي وأبي الحسين (عليه السّلام) ، فأتزوّد منه وأنظر إليه واُودّعه ، والثانية : أنْ تردّ علينا ما اُخذ منّا ، والثالثة : إنْ كنتَ عزمتَ على قتلي ، أنّ توجّه مع هؤلاء النّساء مَن يردّهنّ إلى حرم جدّهنّ (صلّى الله عليه وآله) )) . فقال : أمّا وجه أبيك فلن تراه أبداً ؛ وأمّا قتلك فقد عفوت عنك ؛ وأمّا النّساء فما يردّهنّ غيرك إلى المدينة ؛ وأمّا ما اُخذ منكم فأنا اُعوّضكم عنه أضعاف قيمته . فقال (عليه السّلام) : (( أمّا مالَك فلا نُريده وهو موفّر عليك ، وإنّما طلبتُ ما اُخذ منّا ؛ لأنّ فيه مغزل فاطمة بنت محمّد (صلّى الله عليه وآله) ومقنعتها وقلادتها وقميصها )) .


الصفحة ( 151 )

لـقدْ تـَحمّلَ مِن أرزائِها iiمِحناً   لـمْ يحْتَملْها نَبيٌّ ووصيُّ iiنَبي
وإنّ أعـظَمَ مـا لاقاهُ 
iiمُحتَسباً   عـندَ الإلهِ فسَامَى كلَّ مُحتَسبِ
حملُ الفواطِمِ أسرَى للشآمِ 
iiعلى   عُجفِ النِّياقِ تُقاسي نَهسةَ القَتَبِ

المجلس التاسع والثمانون

لمّا رجع أهل البيت (عليهم السّلام) من الشام إلى المدينة ، قالوا للدليل : مُر بنا على طريق كربلاء . فلمّا وصلوا إلى موضع المصرع ، وجدوا جابر بن عبد الله الأنصاري ، وجماعة من بني هاشم ، ورجالاً من آل الرسول (صلّى الله عليه وآله) قد وردوا لزيارة قبر الحسين (عليه السّلام) ، فتوافوا في وقت واحد وتلاقوا بالبكاء والحزن واللطم ، وأقاموا المآتم واجتمع عليهم أهل ذلك السّواد ، وأقاموا على ذلك أياماً .

وعن الأعمش عن عطيّة العوفي قال : خرجت مع جابر بن عبد الله الأنصاري (رضي الله عنه) زائراً قبر الحسين (عليه السّلام) ، فلمّا وردنا كربلاء ، دنا جابر من شاطئ الفرات فاغتسل ثمّ ائتزر بإزار وارتدى بآخر ، ثمّ فتح صرّة فيها سعد فنثرها على بدنه ، ثمّ لمْ يخطُ خطوة إلاّ ذكر الله تعالى ، حتّى إذا دنا من القبر قال : المسنيه يا عطيّة . فألمسته إيّاه ، فخرّ على القبر مغشيّاً عليه ، فرششت عليه شيئاً من الماء ، فلمّا أفاق قال : يا حسين ! ( ثلاثاً ) ثمّ قال : حبيب لا يُجيب حبيبه . ثمّ قال : وأنّى لك بالجواب وقد شُخبت أوداجك على أثباجك وفُرّق بين بدنك ورأسك ، أشهد أنّك ابن خير النبيّين وابن سيّد المؤمنين ، وابن حليف التّقوى وسليل الهدى ، وخامس أصحاب الكسا وابن سيّد النّقبا وابن فاطمة سيّدة النّساء ، وما لك لا تكون هكذا وقد غذّتك كفّ سيّد المرسلين ، وربيت في حجر المتّقين ، ورضعت من ثدي الإيمان وفطمت بالإسلام ، فطبت حيّاً وطبت ميتاً ، غير أنّ قلوب المؤمنين غير طيّبة بفراقك ، ولا شاكّة في حياتك ، فعليك سلام الله ورضوانه ، وأشهد أنّك مضيت على ما مضى عليه أخوك يحيى بن زكريّا (عليه السّلام) .

 ثمّ جال ببصره


الصفحة ( 152 )

حول القبر وقال : السّلام عليكم أيّتها الأرواح التي حلّت بفِناء الحسين (عليه السّلام) وأناختْ برحله ، أشهد أنّكم أقمتم الصّلاة وآتيتم الزكاة ، وأمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر ، وجاهدتم الملحدين وعبدتم الله حتّى أتاكم اليقين . والذي بعث محمّداً بالحقّ لقد شاركناكم فيما دخلتم فيه .

قال عطيّة : فقلت لجابر : فكيف ولمْ نهبط وادياً ولمْ نعلُ جبلاً ولمْ نضرب بسيف ، والقوم قد فُرّق بين رؤوسهم وأبدانهم ، واُوتمت أولادهم ، واُرملت الأزواج ؟! فقال لي : يا عطيّة ، سمعت حبيبي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول : (( مَن أحبّ قوماً حُشر معهم ، ومَن أحبّ عمل قوم اُشرك في عملهم )) . والذي بعث محمّداً (صلّى الله عليه وآله) بالحقّ ، إنّ نيّتي ونيّة أصحابي على ما مضى عليه الحسين (عليه السّلام) وأصحابه .

قال عطيّة : فبينما نحن كذلك وإذا بسواد قد طلع من ناحية الشام ، فقلت : يا جابر ، هذا سواد قد طلع من ناحية الشام . فقال جابر لعبده : انطلق إلى هذا السّواد واتنا بخبره ؛ فإنْ كانوا من أصحاب عمر بن سعد فارجع إلينا لعلّنا نلجأ إلى ملجأ ، وإنْ كان زين العابدين فأنت حُرّ لوجه الله تعالى .

قال : فمضى العبد فما كان بأسرع من أنْ رجع وهو يقول : يا جابر ، قُم واستقبل حرم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، هذا زين العابدين (عليه السّلام) قد جاء بعمّاته وأخواته . فقام جابر يمشي حافي الأقدام مكشوف الرأس إلى أنْ دنا من زين العابدين (عليه السّلام) ، فقال الإمام : (( أنت جابر ؟ )) . قال : نعم يابن رسول الله . فقال : (( يا جابر ، هاهنا والله قُتلت رجالنا وذُبِحت أطفالنا ، وسُبيت نساؤنا وحُرقت خيامنا )) .

ولكَـمْ مَررتُ بكـربلا مُتمَثلاً   شُهداءَها صَرعى على رَبواتِها

فوقفْتُ واسْتوقَفتُ فيها عُصبةً   وقَفوا نواظرَهُمْ عـلى عبَراتِها

المجلس التسعون

لمّا رجع علي بن الحسين (عليهما السّلام) بعمّاته وأخواته من الشام ، مرّوا على كربلاء ثمّ انفصلوا عنها طالبين المدينة .

قال بشير بن جذلم : فلمّا قربنا منها ، نزل علي بن


الصفحة ( 153 )

الحسين (عليهما السّلام) فحطّ رحله وضرب فسطاطه وأنزل نساءه ، وقال : (( يا بشير ، رحم الله أباك لقد كان شاعراً ، فهل تقدر على شيء منه ؟ )) . قلت : بلى يابن رسول الله ، إنّي لشاعر . قال : (( فادخل المدينة وانعَ أبا عبد الله )) .

قال بشير : فركبت فرسي وركضت حتّى دخلت المدينة ، فلمّا بلغت مسجد النّبي (صلّى الله عليه وآله) ، رفعت صَوتي بالبكاء وأنشأت أقول :

يا أهلَ يثربَ لا مُقامَ لكُمْ بها   قُتل الحُسينُ فأدمُعي مِدرارُ

الجسمُ منهُ بكربلاءَ مُضرّجٌ   والرأسُ منهُ على القناةِ يُدارُ

ثم قلت : يا أهل المدينة ، هذا علي بن الحسين (عليهما السّلام) مع عمّاته وأخواته قد حلّوا بساحتكم ونزلوا بفنائكم ، وأنا رسوله إليكم اُعرّفكم مكانه . قال : فما بقيت بالمدينة مخدّرة ولا محجّبة إلاّ برزن من خدورهن ، مكشوفة شعورهن ، مخمشة وجوههن ، ضاربات خدودهن يدعين بالويل والثبور ، ولمْ يبقَ بالمدينة أحد إلاّ خرج وهم يضجّون بالبكاء ، فلم أرَ باكياً أكثر من ذلك اليوم ولا يوماً أمرّ على المسلمين منه بعد وفاة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وسمعتُ جارية تنوح على الحسين (عليه السّلام) وتقول :

نـعَى سيّدي نـاعٍ نـَعاهُ iiفأوجَعا   وأمـرَضَـني نـاعٍ نـَعاهُ iiفـأفجَعا
فـعينَيَّ جـُودا بـالدموعِ 
iiوأسـكبا   وجـُودا بـدمعٍ بـعدَ دمْعِـكُما iiمَعا
على مَنْ دهَى عرشَ الجليلِ فزَعْزعا   فـأصبحَ هـذا المجدُ والدّينُ 
iiأجدَعا
عـلى ابـن نـبيِّ اللهِ وابنِ 
iiوصيِِّهِ   وإنْ كـان عـنَّا شاحطَ الدّارِ iiأشْسَعا

ثم قالت : أيّها الناعي ، جدّدت حزننا بأبي عبد الله (عليه السّلام) ، وخدشت منّا قروحاً لمّا تندمل ، فمَن أنت رحمك الله ؟ فقلت : أنا بشير بن جذلم ، وجّهني مولاي علي بن الحسين (عليهما السّلام) وهو نازل بموضع كذا وكذا مع عيال أبي عبد الله الحسين (عليه السّلام) و نسائه . قال : فتركوني مكاني وبادروني ، فضربت فرسي حتّى رجعت إليهم ، فوجدت النّاس قد أخذوا الطريق والمواضع ، فنزلت عن فرسي وتخطّأت رقاب النّاس حتّى قربت من باب الفسطاط ، وكان علي بن الحسين (عليهما السّلام) داخلاً


الصفحة ( 154 )

فخرج ومعه خرقة يمسح بها دموعه وخلفه خادم معه كرسي ، فوضعه له وجلس عليه وهو لا يتمالك من العبرة ، وارتفعت أصوات النّاس بالبكاء من كلّ ناحية يعزّونه ، فضجّت تلك البقعة ضجّة شديدة ، فأومأ بيده أنْ اسكتوا ، فسكنت فورتهم ، فقال : (( الحمد لله ربّ العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدّين بارئ الخلائق أجمعين ، الذي بعُد فارتفع في السّماوات العُلا وقَرُب فشهد النّجوى ، نحمده على عظائم الاُمور وفجائع الدهور ، وألم الفجائع ومضاضة اللواذع ، وجليل الرزء وعظيم المصائب الفاظعة الكاظّة الفادحة الجائحة .

أيّها القوم ، إنّ الله وله الحمد ابتلانا بمصائب جليلة وثلمة في الإسلام عظيمة ؛ قُتل أبو عبد الله وعترته ، وسُبي نساؤه وصبيته ، وداروا برأسه في البلدان من فوق عامل السّنان ، وهذه الرزيّة التي لا مثلها رزيّة .

 أيّها النّاس ، فأيّ رجالات منكم يُسرّون بعد قتله ؟! أم أيّ فؤاد لا يحزن من أجله ؟! أم أيّ عين منكم تحبس دمعها وتضنّ عن انهمالها ؟! فلقد بكتْ السّبع الشّداد لقتله ، وبكتْ البحار بأمواجها ، والسّماوات بأركانها والأرض بأرجائها ، والأشجار بأغصانها والحيتان في لُجج البحار ، والملائكة المقرّبون وأهل السّماوات أجمعون .

أيّها النّاس ، أيّ قلب لا ينصدع لقتله ؟! أم أيّ فؤاد لا يحنّ إليه ؟! أم أيّ سمع يسمع هذه الثّلمة التي ثلمت في الإسلام ولا يصم ؟!

أيّها النّاس ، أصبحنا مطرودين مشرّدين مذودين شاسعين عن الأمصار من غير جرم اجترمناه ، ولا مكروه ارتكبناه ، ولا ثلمة في الإسلام ثلمناها ، ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين إنْ هذا إلاّ اختلاق ! والله ، لو أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) تقدّم إليهم في قتالنا كما تقدّم إليهم في الوصاية بنا ، لما زادوا على ما فعلوا بنا ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون من مصيبة ما أعظمها وأوجعها ، وأكظّها وأفظعها ، وأمرّها وأفدحها ، فعند الله نحتسب فيما أصابنا وما بلغ بنا ، إنّه عزيز ذو انتقام )) .

ثم دخل زين العابدين (عليه السّلام) المدينة فرآها مُوحشة باكية ، ووجد ديار أهله خالية تنعى أهلها وتندب سكّانها .


الصفحة ( 155 )

مَررتُ علـى أبياتِ آلِ محمّدٍ   فلَمْ أرَها أمثالـَها يـَوم حُـلَّتِ

فـلا يُبعدُ الله الـدّيارَ وأهلَها   وإنْ أصبحتْ منهم برغم تخَلَّتِ

المجلس الواحد والتسعون

قال الصادق (عليه السّلام) : (( البكّاؤون خمسة : آدم ، ويعقوب ، ويوسف ، وفاطمة بنت محمّد ، وعلي بن الحسين (عليه السّلام) ؛ فأمّا آدم (عليه السّلام) فبكى على الجنّة ؛ أمّا يعقوب فبكى على يوسف (عليه السّلام) حتّى ذهب بصره ، وحتّى قيل له : تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنْ الْهَالِكِينَ ؛ وأمّا يوسف فبكى على يعقوب (عليه السّلام) حتّى تأذّى به أهل السّجن فقالوا : إمّا أنْ تبكي بالنّهار وتسكت بالليل ، وإمّا أنْ تبكي بالليل وتسكت بالنّهار ، فصالحهم على واحد منهما ؛ وأمّا فاطمة بنت محمّد (صلّى الله عليه وآله) فبكت على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حتّى تأذّى بها أهل المدينة ، وقالوا لها : قد آذيتنا بكثرة بكائك ، فكانت تخرج إلى مقابر الشهداء فتبكي حتّى تقضي حاجتها ثمّ تنصرف ؛ وأمّا علي بن الحسين (عليه السّلام) فبكى على أبيه الحسين أربعين سنة ، وما وُضع بين يدَيه طعام إلاّ بكى حتّى قال له مولىً له : جُعلت فداك يابن رسول الله إنّي أخاف عليك أنْ تكون من الهالكين . قال : إنّما أشكو بثّي وحُزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون ، إنّي لم أذكر مصرع بني فاطمة إلاّ خنقتني العبرة )) .

وعن الصادق (عليه السّلام) أنّه بكى على أبيه الحسين (عليه السّلام) أربعين سنة صائماً نهاره قائماً ليله ، فإذا حضره الإفطار جاء غلامه بطعامه وشرابه فيضعه بين يدَيه ، فيقول : (( قُتل ابن رسول الله جائعاً ، قُتل ابن رسول الله عطشان )) . فلا يزال يكرّر ذلك ويبكي حتّى يبل طعامه من دموعه ثمّ يمزج شرابه بدموعه ، فلم يزل كذلك حتّى لحق بالله عزّ وجل .


الصفحة ( 156 )

وفي رواية : أنّه كان إذا حضر الطعام لإفطاره ، ذكر قتلاه وقال : (( وآ كربلاء ! )) يُكرّر ذلك ويقول : (( قُتل ابن رسول الله جائعاً ، قُتل ابن رسول الله عطشان )) حتّى يبل بالدموع ثيابه .

وحدّث مولى له : أنّه برز يوماً إلى الصحراء ، قال : فتبعته فوجدته قد سجد على حجارة خشنة ، فوقفت وأنا أسمع شهيقه وبكاءه ، وأحصيت عليه ألف مرّة وهو يقول : (( لا إله إلاّ الله حقّاً حقّاً ، لا إله إلاّ الله تعبّداً ورقّاً ، لا إله إلاّ الله إيماناً وصدقاً )) . ثمّ رفع رأسه من سجوده وإذا لحيته ووجهه قد غمرا بالماء من دموع عينيه ، فقلت : يا سيّدي ، أما آن لحزنك أنْ ينقضي ولبكائك أنْ يقل ؟ فقال لي : (( ويحك ! إنّ يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم كان نبيّاً ابن نبي ، له اثنا عشر ابناً ، فغيّب الله واحداً منهم فشاب رأسه من الحزن ، واحدودب ظهره من الغمّ ، وذهب بصره من البكاء ، وابنه حيّ في دار الدّنيا ! وأنا رأيت أبي وأخي وسبعة عشر من أهل بيتي صرعى مقتولين ، فكيف ينقضي حزني ويقلّ بكائي ؟! )) .

لله أعباءُ صبرٍ قدْ تَحمَّلهَا   لمْ يحْتملْها نـبيٌّ ووصـيُّ نبي

هذي المصائِبُ لا ما كان في قِدمٍ   لآلِ يعـقوبَ منْ حُزنٍ ومن كُربِ(1)

المجلس الثاني والتسعون

لمّا قُتل الحسين (عليه السّلام) ، أتى عبد الله بن الزّبير فدعا ابن عبّاس إلى بيعته فامتنع ابن عبّاس ، وظنّ يزيد أنّ امتناع ابن عبّاس تمسّك منه ببيعته ، فكتب إليه : أمّا بعد ، فقد بلغني أنّ الملحد ابن الزّبير دعاك إلى بيعته والدخول في طاعته لتكون له على الباطل ظهيراً وفي المآثم شريكاً ، وأنّك اعتصمت ببيعتنا وفاءً منك لنا وطاعة لله لما عرَّفك من حقِّنا ، فجزاك الله عن ذي رحم خير ما يجزي الواصلين لأرحامهم ، الموفين بعهودهم ، فما أنسَ من الأشياء فلست بناسٍ بِرّك وتعجيل صلتك بالذي

ــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ورد البيتان في المجالس بهذا النحو :

هذي المصائبُ لا مصائب آلِ يَعـْ   ـقوبَ وإنْ صدعَ الهوى إلمامَها

لقدْ تحـمّلَ مـنْ أرزائـِها مِحـناً   لمْ يحْتملْها نـبيٌّ ووصـيُّ نبيْ

وفيهما من الخلل العروضي ما لا يخفى ، وقد اعتمدنا تثبيتهما على مصدرهما الأساس بعد أن وجدناهما ضمن قصيدة للمرحوم عبد الحسين شكر متألفة من 37 بيتاً .  (موقع معهد الإمامين الحسنين)

الصفحة ( 157 )

أنت له أهل من القرابة من الرّسول ، فانظر مَن طلع عليك من الآفاق ممَّن سحرهم ابن الزّبير بلسانه وزُخرف قوله ، فأعلمهم برأيك ؛ فإنّهم منك أسمع ولك أطوع ، والسّلام .

فكتب إليه ابن عبّاس : أمّا بعد ، فقد جاءني كتابك تذكر فيه دعاء ابن الزّبير إيّاي إلى بيعته والدخول في طاعته ، فإنْ يكن ذلك كذلك ، فإنّي والله ما أرجو بذلك برّك ولا حمدك ، ولكنّ الله بالذي أنوي به عليم . وزعمت أنّك غير ناسٍ برّي وتعجيل صلتي ، فاحبس أيّها الإنسان برّك وتعجيل صلتك فإنّي حابس عنك ودّي ، فلَعمري ما تؤتينا ممّا لنا قِبلك من حقِّنا إلاّ اليسير ، وأنّك لتحبس عنّا منه العريض الطويل . وسألت أنْ أحثّ النّاس إليك وأنْ اُخذّلهم عن ابن الزّبير ، فلا ولاء و لا سرور ولا حباء ، إنّك تسألني نصرتك وتحثّني على ودّك وقد قتلت حسيناً (عليه السّلام) وفتيان عبد المطّلب مصابيح الهدى ونجوم الأعلام ، غادرتْهم خيولك بأمرك في صعيد واحد مرمّلين بالدّماء ، مسلوبين بالعراء ، لا مكفّنين ولا موسّدين ، تسفي عليهم الرياح وتنتابهم عرج الضّباع حتّى أتاح الله بقوم لم يشركوا في دمائهم كفّنوهم وأجنوهم ، وجلست مجلسك الذي جلست ! فما أنسى من الأشياء فلستُ بناسٍ طرادك حسيناً (عليه السلام) من حرم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إلى حرم الله وتسييرك إليه الرجال لتقتله في الحرم ، فما زلتَ بذلك وعلى ذلك حتّى أشخصته من مكّة إلى العراق ، فخرج خائفاً يترقّب ، فزلزلت به خيلك ؛ عداوةً منك لله ولرسوله ولأهل بيته الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً ، اُولئك لا كآبائك الجلاّف الجفاة أشباه الحمير . فطلب إليكم الحسين (عليه السلام) الموادعة وسألكم الرّجعة ، فاغتنمتم قلّة أنصاره واستئصال أهل بيته ، فتعاونتم عليه كأنّكم قتلتم أهل بيت من الترك ، فلا شيء أعجب عندي من طلبتك وُدّي وقد قتلتَ ولد أبي وسيفك يقطر من دمي ، وأنت أحد ثأري ! وإنشاء الله لا يبطل لديك دمي ولا تسبقني بثأري ، وإنْ سبقتني في الدّنيا فقبل ذلك ما قُتل النبيّون وآل النبيّين فيطلب الله بدمائهم ، فكفى بالله للمظلومين ناصراً ومن الظالمين منتقماً .

ألا وإنّ من أعجب الأعاجيب ، وما عسى أنْ أعجب ، حملك بنات عبد المطّلب وأطفالاً صغاراً من ولده إليك بالشام كالسبي المجلوب ، تُري النّاس أنّك


الصفحة ( 158 )

قهرتنا ، وأنت تمنّ علينا وبنا مَنّ الله عليك ! ولعمر الله ، فلئن كنت تصبح آمناً من جراحة يدي إنّي لأرجو أنْ يعظّم الله جرحك من لساني ونقضي وإبرامي . والله ، ما أنا بآيس من بعد قتلك ولد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنْ يأخذك أخذاً أليماً ، ويُخرجك من الدّنيا مذموماً مدحوراً ، فعش لا أباً لك ما استطعت ، فقد والله أرداك ما اقترفت ، والسّلام على من اتّبع الهدى .

فلمّا وصل الكتاب إلى يزيد ، غضب غضباً شديداً وهمّ أنْ يقتل ابن عبّاس ، ولكن شغلته عنه قضيّة ابن الزّبير ، ثمّ أخذه الله أخذ عزيز مقتدر .

نصرتَ ابنُ عبّاسٍ حسينَ بنَ فاطمٍ   بحدِّ لسانٍ ما عنْ السّيفِ يَنقصُ

دعـتْكَ إليه شِيـمةٌ هـاشـمـيّةٌ   فحقّاً لأنتَ الهاشميُّ المُخـلَصُ

المجلس الثالث والتسعون

روى الشيخ الطوسي رحمه الله في الأمالي قال : بلغ المتوكّل جعفر بن المعتصم أنّ أهل السّواد يجتمعون بأرض نينوى لزيارة قبر الحسين (عليه السّلام) ، فيصير إلى قبره منهم خلق كثير ، فأنفذ قائداً من قوّاده وضمّ إليه جنداً كثيفاً ليحرث قبر الحسين (عليه السّلام) ويمنع النّاس من زيارته والاجتماع إلى قبره . فخرج القائد إلى الطفّ وعمل بما أمر ، وذلك في سنة سبع وثلاثين ومئتين ، فثار أهل السّواد به واجتمعوا عليه وقالوا : لو قُتلنا عن آخرنا لما أمسك مَن بقي منّا عن زيارته ، ورأوا من الدلائل ما حملهم على ما صنعوا ، فكتب بالأمر إلى الحضرة ، فورد كتاب المتوكّل إلى القائد بالكفّ عنهم والمسير إلى الكوفة مظهراً أنّ ذلك في مصالح أهلها .

فمضى الأمر على ذلك حتّى كانت سنة مئتين وسبع وأربعين ، فبلغ المتوكّل أيضاً مصير النّاس من أهل السّواد والكوفة إلى كربلاء لزيارة قبر الحسين (عليه السّلام) ، وأنّه قد كثر جمعهم


الصفحة ( 159 )

لذلك وصار لهم شوق كثير ، فأنفذ قائداً في جمع كثير من الجند ، وأمر منادياً ينادي : أنْ برئت الذمّة ممَّن زار قبر الحسين (عليه السّلام) ، وأمر بنبش القبر وحرث أرضه ، وانقطع النّاس عن الزيارة .

ما كفى ما فعلته بنو اُميّة من قتل الحسين (عليه السّلام) وأهل بيته وأنصاره ، ورضّ جسده الشريف ، وسبي نسائه وذراريه من بلد إلى بلد ، وحمل رأسه ورؤوس أصحابه فوق الرماح حتّى جاءت بنو العبّاس فبنت على ما أسّسته بنو اُميّة وزادت عليه ، ورامت أنْ تدرس قبر الحسين (عليه السّلام) وتعفي أثره ، وتمنع النّاس من زيارته ! ( يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاّ أَن يُتِمّ نُورَهُ )(1) .

بنَى لهمُ الماضُونَ آساسَ هذهِ   فعلَوا على آساسِ تلك القواعدِ

ألا ليسَ فعلُ الأولينَ وإنْ عَلا   على قُبحِ فعلِ الآخرينَ بزائدِ

وكان بعض المحبّين قد حضر لزيارة الحسين (عليه السّلام) حين أمر المتوكّل بحرث القبر الشريف ، فلم تمكنه الزيارة ، فتوجّه نحو بغداد وهو يقول :

تاللهِ إنْ كـانت اُمـيّةُ قـدْ iiأتتْ   قَـتلَ ابـنِ بـنتِ نبيِّها iiمظلُوما
فـلقدْ أتـاكَ بـنو أبـيهِ 
iiبمثلِها   هــذا لَـعمركَ قـبرُهُ مـهدُوما
أسِـفوا على أنْ لا يكونوا 
iiشايَعوا   فــي قـتلِهِ فـتتبَّعُوهُ iiرَمـيْما

* * *
تـَتبَّعوكُمْ ورامُـوا محوَ 
iiفضلِـكُمُ   وخـيَّبَ اللهُ مـَن في ذلكُمْ طَمعا
أنَّى وفي الصلواتِ الخمسِ ذكركُمُ   لـدَى الـتَّشهدِ لـلتوحيدِ قدْ 
iiشفَعا

المجلس الرابع والتسعون

روي عن الصادق (عليه السّلام) أنّه قال : (( ما اكتحلت هاشميّة ولا اختضبت ، ولا رئي في دار هاشمي دخان خمس سنين حتّى قُتل عبيد الله بن زياد )) .

وعن فاطمة بنت

______________________
(1) سورة التوبة / 31 .

الصفحة ( 160 )

علي أمير المؤمنين عليها وعلى أبيها السّلام أنّها قالت : ما تحنّأت امرأة منّا ، ولا أجالت في عينها مروداً ، ولا امتشطت حتّى بعث المختار برأس عبيد الله بن زياد .

ولمّا قتل ابراهيمُ بن مالك الأشتر عبيد الله بن زياد ، بعث برأسه ورؤوس قوّاده ـ وفيها رأس الحُصين بن تميم ـ إلى المختار بالكوفة ، فقدموا عليه وهو يتغدّى فحمد الله على الظفر ، فلمّا فرغ من الغداء قام فوطئ وجه ابن زياد بنعله ، ثمّ رمى بها إلى غلامه وقال : اغسلها ، فإنّي وضعتها على وجه بَحسٍ كافر . ووُضعت الرؤوس في المكان الذي وضع فيه رأس الحسين (عليه السّلام) ورؤوس أصحابه ، ونصب المختار رأس ابن زياد في المكان الذي نصب فيه رأس الحسين (عليه السّلام) .

وروى ابن الأثير في الكامل عن الترمذي في جامعه : أنّه لمّا وُضع رأس ابن زياد أمام المختار ، جاءت حيّة دقيقة فتخلّلت الرؤوس حتّى دخلت في فم عبيد الله بن زياد ثمّ خرجت من منخره ، ودخلت في منخره وخرجت من فيه ، فعلت هذا مراراً ، ثمّ بعث المختار برأس عبيد الله بن زياد إلى علي بن الحسين (عليهما السّلام) وكان يومئذ بمكّة ، فاُدخل عليه وهو يتغدّى ، فسجد شكراً لله ، وقال : (( الحمد لله الذي أدرك لي ثأري من عدوّي ، وجزى الله المختار خيراً . اُدخلت على ابن زياد وهو يتغدّى ، ورأس أبي بين يدَيه ، فقلتُ : اللهمَّ ، لا تُمتني حتّى تريني رأس ابن زياد )) .

وكان قتل ابن زياد وأشياعه في يوم عاشوراء ، في اليوم الذي قُتل فيه الحسين (عليه السّلام) ، ولمْ يُقتل من أهل الشام بعد وقعة صفين مثلما قُتل في هذه الوقعة ؛ قُتل منهم سبعون ألفاً .

أيا ابنَ زيادٍ بـُؤ بما قدْ جنيتهُ   وذُقْ حدَّ ماضي الشّفرتينِ صَقيلِ

جزى اللهُ خيراً شرطةَ اللهِ إنّهُمْ   شفـَوا بعـُبـيدِ اللهِ كـلَّ غلـيلِ

المجلس الخامس والتسعون

روى الشيخ الطوسي في الأمالي بإسناده عن المنهال بن عمرو ، قال : دخلت على


الصفحة ( 161 )

علي بن الحسين (عليهما السّلام) منصرفي من مكّة ، فقال : (( يا منهال ، ما صنع حرملة بن كاهلة ؟ )) . فقلت : تركته حيّاً بالكوفة . فرفع يدَيه جميعاً ثمّ قال : (( اللهمَّ ، أذقه حرّ الحديد . اللهمَّ ، أذقه حرّ النّار )) . فقدمت الكوفة وقد ظهر المختار بن عبيدة الثقفي ، وكان لي صديقاً ، فكنت في منزلي أياماً حتّى انقطع النّاس عنّي وركبت إليه فلقيته خارجاً من داره ، فقال : يا منهال ، لمْ تأتنا في ولايتنا هذه ، ولم تهنّئناها ، ولمْ تشركنا فيها ! فأعلمته أنّي كنت بمكّة وأنّي قد جئت الآن .

وسايرته ونحن نتحدث حتّى أتى الكناس ( وهي الساحة التي يجتمع فيها النّاس بالكوفة ) فوقف كأنّه ينتظر شيئاً ، وقد كان اُخبر بمكان حرملة بن كاهلة فوجّه في طلبه ، فلمْ يلبث أنْ جاء قوم يركضون وقوم يشتدّون حتّى قالوا : أيّها الأمير البشارة ، قد اُخذ حرملة بن كاهلة . فما لبثنا أنْ جيء به ، فلمّا نظر إليه قال لحرملة : الحمد لله الذي أمكنني منك . ثمّ قال : الجزّار الجزّار . فاُتي بجزّار ، فقال له : اقطع يدَيه . فقُطعتا ، ثمّ قال : النّار النّار . فاُتي بنار وقصب فاُلقي إليه فأشعل فيه النّار ، فقلت : سبحان الله ! فقال لي : يا منهال ، إنّ التسبيح لحسن ، ففيم سبّحت ؟ فقلت : أيّها الأمير ، دخلت في سفرتي هذه منصرفي من مكّة على علي بن الحسين (عليهما السّلام) ، فقال لي : (( يا منهال ، ما فعل حرملة بن كاهلة الأسدي ؟ )) . فقلت : تركته حيّاً بالكوفة . فرفع يدَيه جميعاً فقال : (( اللهمَّ ، أذقه حرّ الحديد . اللهمَّ ، أذقه حرّ النّار )) . فقال لي : أسمعت علي بن الحسين يقول هذا ؟ فقلت : والله ، لقد سمعته . قال : فنزل عن دابّته وصلّى ركعتين فأطال السجود ثمّ قام فركب ، وقد احترق حرملة .

وركبت معه وسرنا ، فحاذيت داري فقلت : أيّها الأمير ، إنْ رأيت أنْ تشرّفني وتكرمني وتنزل عندي وتحرم بطعامي . فقال : يا منهال ، تُعلمني أنّ علي بن الحسين (عليهما السّلام) دعا بأربع دعوات فأجابه الله على يدَي ، ثمّ تأمرني أنْ كلّ ؟! هذا يوم صوم شكراً لله عزّ وجلّ على ما فعلته بتوفيقه .

وحرملة هذا رمى يوم الطفّ ثلاثة من آل بيت الرسول (صلّى الله عليه وآله) ؛ أحدهم أبو بكر بن الحسن ، فإنّه خرج إلى الحرب وقاتل حتّى قُتل ، رماه حرملة هذا بسهم فقتله ، والثاني عبد الله الرضيع ، وذلك لمّا


الصفحة ( 162 )

أخذه أبوه الحسين (عليه السّلام) وأجلسه في حجره وأومأ إليه ليقبّله ، فرماه حرملة بن كاهلة بسهم فوقع في نحره فذبحه ، فقال (عليه السّلام) لزينب : (( خذيه )) . ثمّ تلقّى الدم بكفّيه ، فلمّا امتلأتا رمى بالدم نحو السماء ، ثمّ قال : (( هوّن عليّ ما نزل بي أنّه بعين الله )) .

والثالث عبد الله بن الحسن ، فإنّه خرج من عند النّساء وهو غلام ، فلحقته زينب وامتنع امتناعاً شديداً ، وجاء يشتد إلى عمّه الحسين (عليه السّلام) حتّى وقف إلى جنبه وقال : لا اُفارق عمّي . فأهوى بحر بن كعب إلى الحسين (عليه السّلام) بالسيف ، فقال الغلام : ويلك يابن الخبيثة ! أتقتل عمّي ؟! فضربه بحر بالسيف فاتّقاها الغلام بيده فأطنّها إلى الجلد فإذا هي معلّقة ، فنادى الغلام : يا عمّاه ! ـ أو يا اُمّاه ! ـ فأخذه الحسين (عليه السّلام) فضمّه إلى صدره وقال : (( يابن أخي ، اصبر على ما نزل بك واحتسب في ذلك الخير ، فإنّ الله يلحقك بآبائك الصالحين ؛ برسول الله وعلي وحمزة وجعفر والحسن صلّى الله عليهم أجمعين )) . فرماه حرملة بسهم فذبحه وهو في حجر عمّه ، فرفع الحسين (عليه السّلام) يدَيه وقال : (( اللهمَّ ، امسك عنهم قطر السّماء ، وامنعهم بركات الأرض . اللهمَّ ، فإنْ متّعتهم إلى حين ، ففرّقهم فرقاً واجعلهم طرائق قدداً ولا ترض الولاة منهم أبداً ؛ فإنّهم دعونا لينصرونا ثمّ عدوا علينا فقتلونا )) .

هَـبُوا أنّكُمْ قاتلتمُ فقتلتُمُ   فما بالُ أطفال تُقاسي نبالَها


الصفحة ( 163 )

وليكن هذا آخر الجزء الأول من كتاب المجالسُ السَّنيّة في ذكرى مناقب ومصائب العترة النبويّة ، ويليه الجزء الثاني .

ووافق الفراغ منه أولاً ضحى يوم السبت الثاني عشر من شهر ذي القعدة الحرام ، عام ألف وثلاثمئة واثنين وأربعين من الهجرة بمدينة دمشق الشام ، صانها الله تعالى عن طوارق الحدثان . ووافق الفراغ من إعادة النظر فيه ثانياً ، عند إرادة تمثيله للطبع للمرّة الثانية وتغيير بعض ترتيبه والزيادة عليه والإنقاص منه ، ضحى يوم الجمعة الخامس عشر من شهر ذي الحجّة الحرام عام الف وثلثمئة وخمسين من الهجرة بقرية شقراء من جبل عامل ، حماه الله من الغوائل . ووافق الفراغ من إعادة النظر فيه ثالثاً ، عند إرادة تمثيله للطبع هذه المرّة ، في اليوم الرابع عشر من شهر رمضان المبارك عام 1364 من الهجرة بمنزلي في دمشق الشام ، وقاها الله من حوادث الأيام ، في شارع الأمين حماه الله من كلّ ما يضرّ ويشين .

وكتب بيده الفانية مؤلّفه الفقير إلى عفو ربّه الغني محسن ابن المرحوم السيّد عبد الكريم الأمين الحسيني العاملي ، نزيل دمشق ، تجاوز الله عن سيّئاته حامداً مصلّياً مسلّماً ، وكان الفراغ من تجديده وإعادة طبعه للمرّة الخامسة على يد حسن الأمين ، ولد المؤلف ، في الثامن من ذي الحجّة عام 1382 في بيروت .

والحمد لله رب العالمين

 
الصفحة السابقةالفهرسالصفحة اللاحقة

 

طباعة الصفحةبحث