المجالس السّنية ـ الجزء الرابع-

 
 

 الصفحة ( 244 )

ماذا يرتجي المرء من زمان يكون الخليفة فيه على المسلمين , والحاكم في دمائهم وأموالهم ، والحامل لقب أمير المؤمنين , هو يزيد بن معاوية المتجاهر بالفجور وشرب الخمور ، وضرب العود واللعب بالنّرد والفهود ؟!

قال ابن الفوطي في تاريخه : كان ليزيد قرد يُكنيّه أبا قيس , ويسقيه فضل كأسه , ويُركبه على أتان وحشيّة قد رُيّضت له , ويسابق بها الجياد في الحلبة .

وقال فيه بعض الشّعراء :

تمسَّـك أبا قـيسٍ بفضلِ زِمامِها      فليس عليها إنْ سقطْتَ ضمانُ

ألا مَن رأى القُردَ الذي سبقتْ بهِ     جـيادَ أمـيرِ المؤمنـينَ أتانُ

وقد قلبته الرّيح يوماً عن ظهرها فمات , فحزن عليه يزيد حزناً شديداً , وأمر بتكفينه ودفنه ، وأمر النّاس أن يُعزُّوه به , وأنشأ يقول :

ما شيخُ قومٍ كرامٍ ذو مـحافَظةٍ       إلاّ أتانا يُعزِّي في أبي قيسِ

لا يُبـعدُ اللهُ قبراً أنـتَ ساكنُهُ       فيه جمالٌ وفيه لحيةُ التَّيسِ

وأي زمان أسوأ من زمانٍ قدّم يزيد ـ الذي هذه بعض صفاته وقبائحه , فضلاً من مجاهرته بالكفر والإلحاد ـ على سبط الرّسول (صلّى الله عليه وآله) ، ونجل الزّهراء البتول (عليها السّلام) , أحد السّبطين والرّيحانتين ، سيّد المسلمين في عصره ، مَن حاز من جميع الصّفات أفضلها وأعلاها ، وأكملها وأسناها ، الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السّلام) حتّى مكّن منه جيش يزيد بن معاوية ـ جيش الضّلال والفساد ، والكفر والإلحاد ـ فقتله عطشان ظامياً ، وحيداً فريداً غريباً , وقتل جميع أنصاره وأهل بيته ، وساق حَرمَه كالسّبايا , وطاف برأسه ورؤوس أهل بيته في


 الصفحة ( 245 )

البُلدان , فحقّ لنا أن نقول :

قلتُ ما ترتجيهِ من دهرِ سوءٍ      iiيـرتضي عنْ حُسينهِ بيزيدِ
بـنديمِ iiالشَّرابِ والعودِ والنَّرْ      دِ  iiوربِّ الـقرودِ ربِّ الفهودِ
وهـو  iiاختارَ قبل ذاكَ سفاهاً      عـنْ  iiعليٍّ سليلَ هنْدِ الهنودِ
لم تُصدِّقْ  اُميّةُ iiبالنَّبيِّ المُصْ      طفى iiوهيَ لمْ تَزلْ في جحودِ
أظـهرتْ  iiسِلمَها نفاقاً وخوفاً      منْ سيوفٍ تجْتَثَّ حبلَ الوريد

كان أبو سفيان أعدى النّاس لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) , وقد قاد الجيوش لحربه يوم اُحد ويوم الخندق , وأسلم يوم الفتح كارهاً هو وولده , حتّى أنّه لمّا أجاره العبّاس يوم الفتح ، وأركبه خلفه على بغلة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) , وقال له النّبي (صلّى الله عليه وآله) : (( ألم يأنَ لك أنْ تعلم أنّي رسول الله ؟! )) . قال : أمّا هذه ففي النّفس منها شيء . فقال له العبّاس : ويحك ! أسلم قبل أنْ تُقتل . فأظهر الإسلام خوفاً على خيط رقبته .

ولمّا بويع الخليفة الثّالث ، قال : تلقَّفوها يا بني اُميّة ؛ فوالله , ما من جنّة ولا نار . ووقف على قبر حمزة فرفسه برجله , وقال : يا أبا عمارة , إنّ الذي تقاتلنا عليه يوم بدر قد صار في أيدي صبياننا .

قَتلَتْ حمزةَ لدَى يومِ اُحدٍ     أسدَ اللهِ خيرَ ميتٍ شهـيدِ

وبـهِ مثَّلتْ عِناداً وبغـياً      وشفتْ غيظَها بأكلِ الكُبودِ

كان حمزة بن عبد المطّلب ـ عمّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ـ من أشجع بني هاشم , وكان ناصرَ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، والمحامي عنه في المشاهد التي شهدها يوم بدر واُحد , وكان يُلقّب : أسد الله وأسد رسوله . وهو الذي برز مع ابن أخيه علي بن أبي طالب (عليه السّلام) ، وابن عمّه عبيدة بن الحارث بن المطّلب يوم بدر لمبارزة عتبة بن ربيعة ، وأخيه شيبة ، وابنه الوليد بن عتبة حين طلبوا أكفاءهم من قريش ؛ فقتل حمزة عتبة وأعانه على قتله علي(عليه السّلام) , وقتل علي (عليه السّلام) الوليد , وضرب


الصفحة ( 246 )

عبيدة رأس شيبة ففلقه ، وكرّ حمزة وعلي (عليهما السّلام) على شيبة فأجهزا عليه . ولمّا اُخّر علي(عليه السّلام) عن مقامه ، كان يقول : (( وا حمزتاه ! ولا حمزة لي اليوم )) .

ولمّا كان يوم اُحد , جعلت هند بنت عتبة ـ زوجة أبي سفيان ـ لوحشي جعلاً إنْ قتل أحد الثّلاثة : رسول الله أو حمزة أو عليّاً , فقال : أمّا محمَّد فلا حيلة لي فيه ؛ لأنّ أصحابه يطيفون به ؛ وأمّا علي فلأنّه أحذر من الذّئب ؛ وأمّا حمزة فإنّي أطمع فيه ؛ لأنّه إذا غضب لم يُبصر بين يديه .

وكان حمزة قد أعلم بريشة نعامٍ في صدره , وهو يهدّ النّاس بسيفه ، ما يلقى أحداً يمرّ به إلاّ قتله , فرماه وحشيٌّ بحربةٍ غيلة فقتله . ومثّلت هند بحمزة ؛ فبقرت عن كبده فلاكتها , فلم تستطع أنْ تسيغها فلفظتها . وصارت تُلقّب بآكلة الأكباد , وصار وَلدها يُعيِّرونه بذلك , وجدعت أنف حمزة وأذنيه .

ثُـمَّ  iiعادتْ فأظهَرتْ ما أجنَّتْ      مُذْ غدا المُصطفَى رهينَ اللِّحودِ
يـومَ صـفِّـينَ يومَ بدْرٍ واُحدii      iiوعـلـيـهِ مـا فيها من مَزيدِ
لـعَـنتْ حيدراً على مِنبرِ  iiالْ      إسـلامِ فـي كلِّ iiمجمعٍ مشهودِ
وهـي فـي لعْنِها تُكنِّي وتعنِيii      خـاتـمَ الأنـبْياءِ فخْرَ الوُجودِ
فغدتْ للحضيضِ تهْوي صغاراًii      أبـداً  iiوهو لمْ يزلْ في صُعودِ
ما  iiصَعدتُمْ منْ ذي المنابرِ لولا      سـيـفُهُ يا اُمـيّة iiفـوقَ عُود

لمّا توفّي النّبي (صلّى الله عليه وآله) , وجد بنو اُميّة سبيلاً إلى الانتقام من الإسلام ومن نبيّ الإسلام ، وسائر بني هاشم , فاجتهدوا جهدهم في ذلك ، وحاربوا الإسلام ووصيَّ النّبيِّ رسول الإسلام بسيف الإسلام ، وتحت لواء الإسلام ، فنابذ صاحب الشّام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السّلام) , وفرّق كلمة المسلمين ، وجيّش الجيوش عليه يوم صفّين ؛ مظهراً للطلب بدمّ الخليفة الثّالث .

وصاحب الشّام هو الذي خذله لمّا استنصره , وكان يعلم براءة علي (عليه السّلام) من ذلك


الصفحة ( 247 )

براءة الذّئب من دمِ يوسف .

فكما حارب بنو اُميّة الإسلام يوم بدر واُحد تحت راية الكفر , وحاربوا الإسلام يوم صفّين تحت راية الإسلام , وهذا معنى قوله :

يـومَ صفِّينَ يـومَ بدْرٍ واُحدٍ      وعـليهِ مـا فـيها مـن مَزيدِ

ثمّ سنَّ بنو اُميّة لَعْن علي بن أبي طالب (عليه السّلام) على المنابر في الأعياد والجُمُعات , فجعلوه فرضاً كفرض الصّلاة , وإنّما هم يعنون بذلك نبيّ الإسلام (صلّى الله عليه وآله) ؛ ولمّا لم يمكنهم التّصريح بذلك , كنّوا عنه بلعن علي بن أبي طالب (عليه السّلام) . وقد قال النّبي (صلّى الله عليه وآله) لعلي(عليه السّلام) : (( يا علي , مَن سبّك فقد سبّني )) . فهذه المنابر التي سبّوه فوق أعوادها هي منابر الإسلام الذي قام بسيف علي بن أبي طالب (عليه السّلام) , ولولا سيفه ما تسنَّم بنو اُميّة ذروة هذه المنابر , ولكن سبّهم له ما زاده إلاّ رفعة وسمّواً , وما زادهم إلاّ ذلّة وصغاراً .

قال عبد الله بن عروة بن الزّبير لابنه : يا بُني , عليك بالدِّين ؛ فإنّ الدُّنيا ما بنت شيئاً إلاّ هدمه الدّين , وإذا بنى الدِّين شيئاً لا تستطيع الدُّنيا هدمه . ألا ترى علي بن أبي طالب وما يقول فيه خطباء بني اُميّة من ذمّه وغيبته ؟! والله , لكأنّما يأخذون بناصيته إلى السّماء . ألا تراهم كيف يندبون موتاهم ويرثيهم شعراؤهم ؟! والله , لكأنّما يندبون جيف الحمر .

ثُمَّ دسَّت سُمَّاً إلى الحسنِ السِّبْـ      ـطِ وخانتْ ما أوثقَتْ من عُهودِ

لمّا صالح الحسن بن علي (عليهما السّلام) معاوية , شرط عليه أنْ لا يعهد بعده بالخلافة إلى أحد ، فلمّا أراد أنْ يعهد بالخلافة إلى ابنه يزيد , دسّ السّمَّ إلى الحسن (عليه السّلام) على يد زوجته جعدة بنت الأشعث , فقضى (عليه السّلام) شهيداً بذلك السّمِّ .


الصفحة ( 248 )

وتمادَى الزَّمانُ حتَّى انتهَى الـْ     أمرُ لبلوى حبَّابةٍ ويزيدِ

هو يزيد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم .

في كتاب الأغاني : إنّ يزيد هذا لمّا ولي الخلافة , قال : ما تقرّ عيني بما اُوتيت من الخلافة حتّى أشتري سلاّمة وحبّابة ـ وهما جاريتان مُغنّيتان ـ فاشتُريتا له , وغنّته حبّابة يوماً وهو يشرب , فطرب وأخذ منه الشّراب , وجعل يدور في القصر ويصيح وشقَّ حلّته , وقال لها : أتأذنين أنْ أطير ؟ قالت : وإلى مَن تدعْ النّاسَ ؟ قال : إليكِ . وطرب يوماً من غناء حبّابة , فأخذ وسادة فصيّرها على رأسه ، وقام يدور في الدّار ويرقص حتّى دار الدّار كلّها .

وقال ابن الأثير : قال يزيد بن عبد الملك يوماً ـ وقد طرب وعنده حبّابة وسلاّمة ـ : دعوني أطير . قالت حبّابة : على مَن تدَع الاُمّة ؟ قال : عليك .

وغنَّته يوماً :

وبينَ التَّراقي واللّهاةِ حَرارةٌ      مكانَ الشَّجا ما إنْ تبوحُ فتبْرَدُ(1)

فأهوى ليطير ، فقالت : يا أمير المؤمنين , إنّ لنا فيك حاجة . فقال : والله , لأطيرنَّ . فقالت : على مَن تخلف الاُمّة والمُلك ؟ قال : عليك والله . وقبّل يدها .

وخرجت معه إلى متنزه فرماها بحبة عنب فدخلت حلقها , فشرقت ومرضت وماتت , فتركها ثلاثة أيّام لم يدفنها حتّى أنتنَّت وهو ينظر إليها ويبكي ، فكُلّم في أمرها حتّى أذن في دفنها . وبقي بعدها خمسة عشر يوماً ومات , ودُفن إلى جانبها .

وامتَلأَ الكونُ بالفضائحِ واسوَدْ       دَ بها وجهُهُ لفعلِ الوليدِ

هو الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان .

قال ابن الأثير : لمّا ولي هشام بن عبد الملك الخلافة , ظهر من الوليد مجون ، وشرِبَ الشّرابَ ، واتَّخذ له ندماء . فأراد هشام أنْ يقطعهم عنه فولاّه الحجَّ , فحمل معه كلاباً

ــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ورد المصراع الثاني من البيت بهذا النّحو : وما ضَمِنتْ ماءً يسوغُ فتبْرَدَا . والتغيير من ديوان كثيِّر عزّة . ( موقع معهد الإمامَين الحسنَين )

الصفحة ( 249 )

في صناديق ، وعمل قبّة على قدر الكعبة ليضعها على الكعبة ، وحمل معه الخمر . وأراد أنْ ينصب القبّة على الكعبة ويشرب فيها الخمر , فخوَّفه أصحابه وقالوا : لا نأمن النّاس عليك وعلينا .

وقال ابن الأثير أيضاً : مما اشتُهر عنه ، أنّه فتح المصحف فخرج ( وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ )(1) . فألقاه ورماه بالسّهام , وقال :

تُهـددُني بـجـبَّارٍ عنـيدِ      فها أنَا ذاك جـبَّارٌ عنيدُ

إذا ما جِئتَ ربَّكَ يومَ حشرٍ       فقُلْ يا ربِّ مزَّقَني الوليدُ

ومن أعمال الوليد هذا , أنّه لمّا قُتل يحيى بن زيد بن علي بن الحسين (عليهم السّلام) ، وبُعث برأسه إلى الوليد , بعث به الوليد إلى المدينة ، فجُعل في حجر اُمّه ريطة , فنظرت إليه وقالت : شرَّدتموه عنّي طويلاً وأهديتموه إليّ قتيلاً ! صلوات الله عليه وعلى آبائه بكرة وأصيلاً .

فهذه مفخرةٌ من مفاخر بني اُميّة تُضاف إلى باقي مفاخرهم .

فلْتُفاخِرْ أشياعُهُمْ ما استَطاعتْii      ولـتُناضلْ iiبـما لها من جُهودِ
بـوجـوهٍ iiمـنَ الـقبائحِ سُودٍ      iiوبـجـمعٍ من المَخازي عتيدِ
لـيسَ ما قدْ أتتْ اُمـيّةُ iiمـمّا      قــدْ iiأتـاهُ مـنْ بعدِهمْ ببعيدِ
تـبـعَ الـلاحقونَ فيما جَنوهُii      iiمـا أتَـى السَّابقون منْ تمهيدِ
وسَرَوا مُعنقينَ في ظُلْمِ أهلِ ال      iiبـيـتِ مـنْ مُبدئٍ لهمْ ومُعيدِ
اُمـراءٌ لـلـمـسلمينَ تسَمَّواii      يـا لـها خِزْيةً وتعسَ iiجـدودِ
مـنْ iiكـفورٍ بالمُنكراتِ جهورٍ      وعـنودٍ  iiعنْ الصَّوابِ جَحودِ
أيْ لَـعمرِي فليس هذا عجيباًii      iiمـن اُمـيَّ الشَّقا وآلِ الطَّريدِ
قـتلتْ iiهـاشمٌ اُميَّاً على الإسْ      لامِ فـي كـلِّ iiيومِ حربٍ مُبيدِ
فـتلظَّتْ  iiبـالغيظِ منها قلوبٌ      وامـتَلتْ iiمـن ضغائنٍ وحقودِ

ـــــــــــــــــــــ

(1) سورة إبراهيم / 15 .


الصفحة ( 250 )

فـمُذْ استمْكَنتْ جزتْها بسيفِ الْ      كُـفـرِ iiذاك الـمُـخبَّأِ المغمُودِ
إنَّـمـا أعـجبُ العجيبِ اُناسٌii      iiآمـنُـوا بـالـرَّسولِ والتَّوحيدِ
آمـنُوا بالكتابِ والحشرِ والنَّشْii      رِ وبـالـوعد iiكـلِّـها والوعيدِ
يـتـولَّونَ مِنْ اُمـيَّـةَ iiمَـنْ ذ      لـــكَ  iiمِـنْ فـعلِهِ بلا تفْنيدِ
بعضُهمْ عنْ عمَى قلوبٍ وبعضٍii      iiعـنْ عـنـادٍ والبعضُ بالتَّقليدِ
زعَـمُوا  خيرَ اُمَّةٍ iiاُخرجت للنَّا      iiسِ هُـمُ لا وربِّـنـا الـمعبودِ
اُمَّــةٌ  iiتـلعنُ الوصيَّ ترَى ذ      لـك دِيْـنـاً نَـأتْ عنْ التَّسديدِ
اُمَّــةٌ  iiيـغـتَدي خليفتُها مثلَ      يــزيـدٍ  iiمـا حـظّها بسعيدِ
اُمَّـةٌ  iiتقتلُ ابنَ بنتِ رسولِ ال      لــهِ  iiظُـلماً لشرِّ بيضٍ وسودِ
إنَّـما خيرُ  اُمَّةٍ iiخُصَّ أهلِ البيْ      ت  ِعـنـدَ التَّخصيصِ والتَّقييدِ
بـمَـا تـلـقَونَ أحمداً وجعلتُمii      يــومَ  iiقـتلِ ابنهِ لكمْ يوم َعيدِ
لـمْ يـكُـنْ فيكُمُ ابنُ بنْتِ نبيٍّii      iiغـيـرَ هـذا ولا لـهُ منْ نديدِ
أيُّ ظـامٍ قـتـلـتـمُ بيدِ البغْii      ي  iiمُـحـلىً عن الفُراتِ مذودِ
صـال فـيهمْ وما لهُ منْ نصيرٍii      غـيرِ  iiرُمـحٍ لدُنْ وسيفٍ حديدِ
مـثلُهُ  iiالسَّيفِ في مضاءٍ وعزم      وثَـباتٍ  iiعـندَ اصطدامِ الجُنودِ
إنَّـمـا الـسَّيفُ مثلُ حاملِهِ يمْii      ضــي  iiبـيمْنَى مُشيَّعٍ صِنديدِ
مُـفـرَدٍ في الوغَى يُقاتلُ جيشاًii      مــنْ  iiعـداهُ ذا عـدَّةٍ وعديدِ
شـدَّ فـيـهـمْ وهُمْ ثلاثونَ ألفاً      فـدعا  جـمعَهم إلـى iiالـتَّبديدِ
تركَ الجمعَ كالهشيمِ سفتْهُ الريْii      حُ  iiسـفْـواً مـنْ قائمٍ وحصيدِ
يُـوردُ  iiالسَّيفَ والقنا من دماهُمْ      والـحشَا  مـنهُ في ظماً للورودِ
وغــدا  iiبـينهُمْ وحيداً بنفسِي      وبـأهـلي  iiفـديـتُهُ منْ وحيدِ
قـتـلُوا  iiخـيرَ مَنْ تُظلُّ سماءٌ      يا جبالُ انهاري ويا أرضُ ميدي
مـنْ iiقـتيلٍ بقتلِهِ هُدَّ ركنُ الدِّيْ      نِ iiفـيـهـمْ وغاب نجمُ السّعود


الصفحة ( 251 )

أرعَدوا منهُ وهو مُلقىً على البوii      غــاءِ iiارعـادَ خـائفٍ رعديدِ
مــا  iiسـمـعْنا منْ قبلِهِ بقتيلٍ      iiوصـريـعٍ مُـجـبِّـنٍ للاُسودِ
دهرُ سوءٍ أجرى على أشرفِ الْ      iiسـاداتِ في العالمينَ حُكمَ العبيدِ
نـالـتِ iiالـفوزَ عصبةٌ نصرتْهُ      iiبـذلـتْ في فداهُ أقصَى الجُهودِ
ورجـالٌ مـنْ هـاشمٍ كسيوفٍii      مُـرهفاتٍ  iiقدْ جُرِّدتْ منْ غُمودِ
كـلُّ غضِّ الشباب أحيا من العذ      راءِ  iiأجـرا منْ ضيغمٍ ذي لَبودِ
مـتـرعٍ  iiبـالـنَّدا بيومِ عطاءٍ      مُـسـرعٍ  iiلـلنَّدا إذا هو نُودي
أريـحيُ الفؤادِ أمضَى منَ الصَّاii      رمِ  iiأندَى منْ عارضٍ ذي رعودِ
مـادجَـتْ ظُـلمةٌ منَ النَّقعِ إلاّii      شـقَّـهـا مـنْ حُـسامِهِ بعمودِ
وقَــفـتْ iiدونَـهُ تـقيهِ المنايا      يــا  iiلـهُ مـنْ مقامِ عزٍّ مجيدِ
قــال  iiصـبراً فلا لقيتُمْ هوانا      بـعـدَ  iiهـذا وعزُّكُمْ في خُلودِ
فـتـهـاوَوا على الثَّرى كدرارٍii      iiنـثـرتْـها بروجُها في الصَّعيدِ
مــن  iiقـتـيلٍ مُضرَّج بدماءٍ      iiوعـلـيـلٍ مُـصفَّدٍ في القيودِ
سُـعدوا مُذْ تبوَّأوا في جنانِ  iiالْ      خُـلـدِ iiداراً فـي ظلِّها الممدودِ
آلُ بـيـتِ النَّبيِّ نُخبةُ هذا الكوْii      نِ مـــن iiسـائـدٍ بهِ ومَسُودِ
فـهُمُ  iiالضَّاربونَ في يومِ حربٍ      وهُـمُ  iiالـمُنعمونَ في يومِ جُودِ
وهُـمُ الـقـائلونَ في يومِ نُطقٍii      iiلـمـقـالٍ كـنـظـمِ دُرٍّ فريدِ
وهُـمُ زيَّـنـوا الـمـنابرَ لمّاii      iiخـطـبوا فوقَ جمعِها المحشودِ
وهُـمُ عـلَّـموا الخطابةَ والسَّعْii      يَ لـهـا كـلَّ iiخـاطبٍ معدودِ
وهُـمُ الـصـائمونَ يومَ هجيرٍii      iiوهُـمُ الـمـؤثـرونَ بالموجودِ
وهُـمُ الـقائمونَ قدْ أحيَوا الليْii      لَ iiابـتـهـالاً منْ رُكَّعٍ وسُجودِ
وهُــمُ iiالـعاملونَ إنْ جهلَ العا      iiلـمُ والـمُـطعمونَ عندَ الوفودِ
وهُـمُ بـعدَ أحمدَ خيرِ خلقِ الْii      لـهِ طُـرّاً بـرغمِ كـلِّ iiحسودِ


الصفحة ( 252 )

وهُـمُ iiالثابتونَ إنْ زلَّتِ الأقْ      دامُ في الرَّوعِ يومَ خفقِ البُنودِ
ما دجا الخطبُ في البريَّةِ إلاّii    iiكـشـفـوهُ بكلِّ رأيٍ سديدِ
مِـدَحٌ  فـيهمُ بها الذِّكرُ نادَى      أرغمتْ  أنفَ كلِّ iiخصمٍ عنيدِ

 

المجلس السّادس والعشرون بعد المئتين

كان الحسين (عليه السّلام) سيّد أهل زمانه ، وأفضلهم في علمه وعبادته وشدّة خوفه من الله تعالى , وكرمه وسخائه ، ورأفته بالفقراء والمساكين وإحسانه إليهم , وتواضعه وحلمه ، وفصاحته وبلاغته , وغير ذلك في صفات الكمال .

أمّا إباؤه للضيم ، ومقاومته للظُلم ، وعدم مبالاته بالقتل في سبيل الحقّ والعز , فقد ضُربت به الأمثال ، وسارت به الرّكبان ، ومُلئت به المؤلّفات , وخطبت به الخُطباء ونظمته الشُعراء . وكان قدوة لكلِّ أبيٍّ ، ومثالاً يتبعه كلُّ ذي نفس عالية وهمّة سامية ، وكان فعلُه منوالاً ينسج عليه أهل الإباء في كلّ عصر وزمان , وطريقاً يسلكه كلُّ مَن أبتْ نفسه الرّضا بالدنيَّة ، وتحمّل الذّل والخنوع للظلم . وقد أتى الحسين (عليه السّلام) في ذلك بما حيّر العقول وأذهل الألباب ، وأدهش النّفوس وملأ القلوب هيبة وروعة , وأعيا الاُمم عن أنْ يُشاركه مشارك فيه , وأعجز العالم أنْ يشابهه أحد في ذلك أو يضاهيه , واُعجب به أهل كلِّ عصر , وبقي ذكره خالداً ما بقي الدّهر .

 أبى أنْ يُبايع يزيدَ بن معاوية السكّير الخمّير , صاحب القيان والطّنابير , واللاعب بالقرود والفهود , والمُجاهر بالكفر والإلحاد والاستهانة بالدّين , قائلاً لمروان حين أشار عليه ببيعة يزيد : (( وعلى الإسلام السّلام ؛ إذ قد بُليت الاُمّة


الصفحة ( 253 )

براع مثل يزيد )) .

وقائلاً لإخيه محمَّد بن الحنفيّة : (( والله , لو لم يكن في الدُّنيا ملجأٌ ولا مأوى , لَما بايعتُ يزيدَ بن معاوية )) . في حين أنْ لو بايعه لنال من الدُّنيا الحظَّ الأوفر والنّصيب الأوفى , ولكان مُعظَّماً مُحترماً عنده ، مرعيَ الجانب محفوظَ المقام , لا يردُّ له طلب ولا تُخالف له إرادة ؛ لِما كان يعلمه يزيد من مكانته بين المسلمين , وما كان يتخوفه من مخالفته له , وما سبق من تحذير أبيه معاوية له من الحسين (عليه السّلام) . فكان يبذل في إرضائه كلَّ رخيص وغالٍ ، ولكنّه أبى الانقياد له , قائلاً : (( إنّا أهل بيت النّبوّة ومعدن الرّسالة ومختلف الملائكة ، بنا فتح الله وبنا ختم ، ويزيد رجل فاسق شارب الخمر ، قاتل النّفس المحترمة ، ومثلي لا يُبايع مثله )) .

 فخرج من المدينة بأهل بيته وعياله وأولاده , مُلازماً للطَّريق الأعظم لا يحيد عنه , فقال له أهل بيته (عليهم السّلام) : لو تنكّبته كما فعل ابن الزّبير الذي ذهب على طريق الفرع ؛ لئلاّ يلحقك الطّلب . فأبت نفسه أنْ يُظهر خوفاً أو عجزاً , وقال : (( والله , لا اُفارقه حتّى يقضي الله ما هو قاضٍ )) .

ولمّا قال له الحُرُّ : اُذكّرك الله في نفسك ؛ فإنّي أشهد لئن قاتلت لتُقْتلنَّ ، أجابه الحسين (عليه السّلام) مُظهراً له استهانة الموت في سبيل الحقِّ ونيل العزِّ , فقال له : (( أفبالموتِ تُخوفني ؟! وهل يعدو بكم الخطبُ أنْ تقتلوني ؟ وسأقول كما قال أخو الأوس وهو يُريد نُصرة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) , فخوّفه ابن عمّه وقال : أين تذهب فإنّك مقتول . فقال :

سأمضِي وما بالموتِ عارٌ على الفتَى      إذا مــا نـوَى حـقّاً وجاهدَ مُسلمَا
اُقـــدِّمُ  iiنـفـسي لا اُريدُ بقاءَها      لـتلقَى  iiخميساً في الوغَى وعرمرَما
فـإنْ  iiعشتُ لمْ أندمْ وإنْ متُّ لمْ اُلَمْ      كـفى  بك ذلاّ ً أنْ تعيشَ فتُرغَما ii))

يقول الحسين (عليه السّلام) : ليس شأني شأن مَن يخاف الموت , ما أهون الموت عليّ في سبيل نيل العزِّ وإحياء الحقّ . ليس الموت في سبيل ذلك إلاّ حياة


الصفحة ( 254 )

خالدة , وليست الحياة مع الذّل إلاّ الموت الذّي لا حياة معه , (( أفبالموتِ تخوفني ؟! )) هيهات ! طاش سهمك وخاب ظنّك , أنا لستُ من الذين يخافون الءئموت ويختارون حياة الذّل خوف الموت ؛ إنّ نفسي لأكبر من ذلك ، وهمّتي لأعلى من أنْ أحمل الضّيم خوفاً من الموت . .

وهل تقدرون على أكثر من قتلي ؟ مرحباً بالقتل في سبيل الله , ولكنّكم لا تقدرون على هدم مجدي ومحو عزّي وشرفي , وما دام ذلك سالماً لي فلا اُبالي بالقتل . وهو القائل : (( موتٌ في عزٍّ , خيرٌ من حياة في ذلّ )) . وكان يحمل يوم الطّفِّ ويقول :

الموتُ خيرٌ منْ ركوبِ العار       ِ والعارُ أولَى منْ دخولِ النَّارِ

واللهِ مِنْ هذا وهذا جاري

ولمّا اُحيط به بكربلاء وقيل له : انزل على حكم بني عمّك . قال : (( لا والله , لا اُعطيكم بيدي إعطاء الذّليل ، ولا أقرُّ إقرار العبيد )) . وشهد له بالشّمم والإباء وعزّة النّفس أعداؤه ؛ فلمّا كتب ابن زياد إلى ابن سعد عليهما لعائن الله : أنْ اعرض على الحسين وأصحابه النّزول على حُكمي ؛ فإنْ فعلوا فابعث بهم إليّ سلماً , وإنْ أبوا فازحف إليهم حتّى تقتلهم وتمثّل بهم . قال ابن سعد : لا يستسلم والله حسين ؛ إنّ نفس أبيه بين جنبيه .

أجل ، إنَّ نفس أبيه (عليه السّلام) بين جنبيه ، وهو القائل : (( ألا إنّ الدَّعيَّ ابن الدَّعيِّ قد رَكزَ بين اثنتين ؛ بين السلّة والذلّة ، وهيهات منّا الذلّة ، يأبى الله ذلك لنا ورسولُه والمؤمنون ، وجدودٌ طابت وحجورٌ طهُرت ، واُنوف حميّة ونفوس أبيّة لا تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام )) .

 أقدم الحسين (عليه السّلام) على الموت مُقدّماً نفسه وأولاده ، وأطفاله وأهل بيته للقتل قُرباناً ، وفداءً لدين جدّه (صلّى الله عليه وآله) بكلِّ سخاءٍ وطيبِ نفس ، وعدم تردّد وتوقف , قائلاً بلسان حاله :

إنْ كانَ دينُ محمَّدٍ لمْ يستقمْ       إلاّ بقتلِي يا سيوفُ خُذيني

* * *

فأبَى أنْ يعيشَ إلاّ عَزيزاً       أو تَجلَّى الكِفاحُ وهو صَريعُ

 
الصفحة السابقةالفهرسالصفحة اللاحقة

 

طباعة الصفحةبحث