الصفحة ( 255 )
المجلس السّابع والعشرون بعد المئتين
روى المدائني : أنّ الإمام الحسن (عليه السّلام) لمّا صالح معاوية , قال أخوه
الحسين (عليه السّلام)
: (( لقد كُنتُ كارِهاً
لِما كانّ طَيِّبُ النّفسِ على سَبيلِ
أبي حتَّى عَزمَ عليَّ أخي
فأطعتُهُ , وكأنّما يُجَذُّ أنفي بالمَواسي )) .
وقال ابن أبي الحديد : سيّد
أهل
الإباء الذي علّم النّاس الحميّة ، والموت تحت ضلال السّيوف اختياراً
له على الدّنيّة ؛ أبو عبد الله الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السّلام)
، عُرض عليه
الأمان وأصحابه , فأنف من الذلِّ ، وخاف من ابن زياد أنْ يناله بنوع من الهوان
مع أنّه لا يقتله , فاختار الموت على ذلك . وهو الذي سنّ للعرب الإباء
، واقتدى
به مَن جاء بعده مثل أبناء الزّبير وبني المهلّب وغيرهم , وكان مصعب بن
الزّبير يقول وهو يحارب
جيش عبد الملك :
وإنَّ الاُلى بالطفِّ من آلِ هاشمٍ
تآسَوا فسنُّوا للكرامِ التآسيَا
ولكن أين أبناء الزّبير من آل أبي طالب ؟! مصعب أسلمه ابنه , وعبد الله بن
الزّبير أسلمه أخوه , ولمّا
قتله الحجّاج , أمسى ويد الحجّاج في يد أخي عبد
الله بن الزّبير . أمّا آل أبي طالب فأبوا مفارقة الحسين (عليه
السّلام) وقد أذن
لهم بالانصراف حتّى قُتلوا دونه .
قال ابن أبي الحديد : وسمعت النّقيب أبا زيد
يحيى بن زيد العلوي البصري يقول
: كأنّ أبيات أبي تمّام في محمَّد بن حميد الطّائي , ما قيلت إلاّ في الحسين
(عليه السّلام) :
الصفحة ( 256
)
وَقَـد كانَ فَوتُ المَوتِ سَهلاً iiفَرَدَّهُ إِلَـيهِ الـحِفاظُ المُرُّ وَالخُلُقُ iiالوَعرُ
وَنَـفسٌ تَـعافُ الـعارَ حَتّى iiكَأَنَّهُ هُوَ الكُفرُ يَومَ الرَوعِ أَو دونَهُ الكُفرُ
فَـأَثبَتَ فـي مُستَنقَعِ المَوتِ iiرِجلَهُ وَقالَ لَها مِن تَحتِ أَخمُصِكِ الحَشرُ
تَـرَدّى ثِيابَ المَوتِ حُمراً فَما iiأَتى لَها اللَيلُ إِلاّ وَهيَ مِن سُندُسٍ خُضرُ
وقال ابن أبي الحديد في شرح النّهج أيضاً : ومَن مِثلُ الحسين بن علي
(عليهما السّلام) قالوا [ عنه ]
يوم الطّفِّ : ما رأينا مكثوراً قد اُفرِد من إخوته وأهلِه وأنصاره أشجَع منه
, كان كاللّيث المِحْرَب يَحطِمُ الفرسان حَطْماً . وما ظنُّك برجلٍ
أبتْ نفسه الدّنيّة وأنْ يُعطي بيده , فقاتل حتّى قُتل هو وبَنوه ،
وإخوته وبنو عمِّه بعد بذل الأمان لهم ، والتّوثِقة بالأيمان المُغلّظة
.
كريمٌ أبى شمَّ الدنيَّة أنفُه فأشمَمه شوكَ الوشيجِ المُسدَّدِ
وقال قفِي يا نفسُ وقفةَ واردٍ حياضَ الرَّدَى لا وقفةَ المُتَردِّدِ
المجلس الثّامن والعشرون بعد المئتين
كان الحسين (عليه السّلام) سيّد أهل زمانه , وأفضلهم علماً وعملاً
، وحلماً
وعبادة ، وزهداً وتواضعاً وإباء وبلاغة وفصاحة وغير ذلك . أمّا شجاعته فقد
أنست شجاعة الشّجعان وبطولة الأبطال , وفروسية مَن مضى ومَن يأتي إلى يوم
القيامة .
فهو الذي دعا النّاس إلى المبارزة , فلم يزل يقتل كلَّ مَن برز
إليه
حتّى قتل مقتلة عظيمة , وهو الذي
قال فيه بعض الرّواة : والله ، ما رأيت
مكثوراً قطْ قد قُتل وُلده وأهل بيته وأصحابه ، أربط جأشاً
، ولا
أمضى جناناً ، ولا أجرأ مقدماً منه . والله ، ما رأيت قبله ولا بعده مثله
؛ إنْ
الصفحة ( 257 )
كانت الرجّالة لتشدّ عليه فيشدّ عليها بسيفه ، فتنكشف
عن يمينه وعن شماله انكشاف المعزى إنْ شدّ فيها الذئب . ولقد كان يحمل
فيهم ، وقد تكمّلوا ثلاثين ألفاً ، فينهزمون من بين يدَيه كأنّهم
الجراد المنتشر .
وهو الذي حين سقط
عن فرسه إلى الأرض ، وقد اُثخن بالجراح , قاتل راجلاً قتال الفارس الشّجاع
؛ يتَّقي الرّمية ، ويفترص العورة ، ويشدّ على الشّجعان وهو
يقول : (( أعلى قتلي تجتمعون ؟! )) . وهو الذي جبّن الشّجعان وأخافهم وهو بين الموت والحياة
حين بدر
خولي ليحتزَّ رأسَه ، فضعف وأرعد . وفي ذلك
يقول السيّد حيدر الحلي :
عفيراً متى عاينتْهُ الكُماةُ
يخـتطفُ الرُّعبُ ألوانَها
فما أجلتِ الحربُ عنْ مثلِهِ
قتيلاً يُجـبُّنُ شُجـعانَها
وهو الذي صبر على طعن الرّماح وضرب السّيوف ورمي
السّهام حتّى صارت السّهام في درعه كالشّوك في جلد القنفذ ؛ وحتّى وجد
في ثيابه مئة وعشرون رمية بسهم , وفي جسده ثلاث وثلاثون طعنة برمح ،
وأربع وثلاثون ضربة بسيف .
ومُجـرّح مـا غيَّـرتْ مـنُهُ القَنا
حُسناً ولا أخلفنَ منه جَديدَا
قد كانَ بدْراً فاغتَدَى شمسَ الضُّحَى مُذْ ألبستهُ يدُ الدِّماءِ لـبودَا
المجلس التاسع والعشرون بعد المئتين
كان أهل بيت الحسين (عليه السّلام) من أبنائه وإخوته ، وبني أخيه وبني
عمومته ,
الصفحة ( 258
)
خيرةَ أهل الأرض وفاءً وإباءً ، وشجاعة وإقداماً , وعلوَّ هممٍ
، وشرفَ نفوسٍ ، وكرمَ طباع
.
فلله درّهم من عصبة رفعوا منار الفخر , ولبسوا ثياب العزِّ غير مشاركين فيها
, وتجلببوا جلباب الوفاء , وضمّخوا أعوام الدّهر بعاطر ثنائهم , ونشروا راية
المجد والشّرف تخفق فوق رؤوسهم , وجلوا جيد الزّمان بأفعالهم الجميلة , وأمسى
ذكرهم حيّاً مدى الأحقاب والدّهور مالئاً المشارق والمغارب , ونقشوا على
صفحات الأيّام سطور مدح لا تُمحى وإنْ طال العهد , وعاد سنا أنوارهم يمحو
دُجى الظّلمات ، ويعلو نور الشّمس والكواكب !
وهم الذين قال فيهم الحسين (عليه
السّلام) في خطبته ليلة العاشر : (( إنّي لا
أعلم أهل بيتٍ أبرَّ ، ولا أوصل من أهل بيتي )) . أبوا أنْ يُفارقوا الحسين
(عليه السلام) وقد
أذن لهم , وفدوه
بنفوسهم وبذلوا دونه مهجهم , وقالوا
لمّا أذن لهم في الانصراف : ولِمَ نفعل
ذلك ؟ لنبقى بعدك ! لا أرانا الله ذلك أبداً .
ولمّا
قال لبني عقيل :
(( حسبُكُمْ من القتل بصاحبكم مسلم , اذهبوا فقد
أذنت لكم )) . قالوا : سبحان الله ! فما يقول النّاس لنا ، وما
نقول لهم ؟ إنّا تركنا شيخنا وسيِّدنا وبني عمومتنا خير الأعمام , ولم
نرمِ معهم بسهم ولم نطعن معهم برمح , ولم نضرب معهم بسيف ولا ندري ما
صنعوا . لا والله , ما نفعل ولكنْ نفديك بأنفسنا وأموالنا وأهلينا ,
ونقاتل معك حتّى نرد موردك ، فقبّح الله العيش بعدك . فقُتلوا جميعاً بين يديه
مقبلين غير مدبرين , وهو الذي كان
يقول لهم ـ وقد حمي الوطيس واحمرّ البأس
, مبتهجاً بأعمالهم ـ : (( صبراً يا بني عمومتي
, صبراً يا أهل بيتي , فو الله , لا رأيتم هواناً بعد هذا اليوم أبداً
)) .
صالُوا وجالُوا وادَّوا حقَّ سيِّدِهمْ في موقفٍ عقَّ فيه الوالدَ الولدُ
وشاقهُمْ ثمرُ العُقبَى فأصـبحَ في صدورِهمُ شجرُ الخطيِّ يختضدُ
الصفحة ( 259
)
المجلس الثّلاثون بعد المئتين
الأصحاب الأوفياء قليلون ، وإنّما يُعرف وفاء الأصحاب عند الشّدائد
, والأصدقاء في اليسر والرّخاء كثيرون ، وعند العسر والبلاء قليلون ، والصّداقة
الخالصة والمحبّة الصّادقة هي التي تدوم في اليسر والعسر ، والشّدة والرّخاء
.
وقد تجلّى الإخلاص والوفاء وحسن الصّحبة في أصحاب الحسين
(عليه السّلام)
, فقد
كانوا خير أصحاب فارقوا الأهل والأحباب ، وجاهدوا دونه جهاد الأبطال ,
وتقدّموا مسرعين إلى ميدان القتال , وصالوا صولة الاُسود الضّارية ، قائلين له
: أنفسنا لك الفداء ! نقيك بأيدينا ووجوهنا . يُضاحك بعضهم بعضاً ؛ قلّة مبالاة
بالموت ، وسروراً بما يصيرون إليه من النّعيم .
ولمّا أذن لهم في الانصراف , أبوا وأقسموا بالله لا
يُخلّونه أبداً ولا ينصرفون عنه , قائلين : أنحن نُخلّي عنك وقد أحاط
بك هذا العدو ! وبم نعتذر إلى الله في أداء حقك ؟! وبعضهم يقول : لا
والله , لا يراني الله وأنا أفعل ذلك حتّى أكسر في صدورهم رمحي ، واُضاربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي , ولو لم
يكن معي سلاح اُقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة ، ولم اُفارقك أو أموت معك
. وبعضهم
يقول : والله , لو علمت
أنّي اُقتل فيك ثمّ اُحيا ثمّ اُحرق حيّاً , يُفعل بي ذلك سبعين مرّة
ما فارقتك .
وبعضهم يقول : والله
, لوددت أنّي قُتلت
ثمّ نُشرت ألف مرّة ، وأنّ الله يدفع بذلك
القتل عنك وعن أهل بيتك . وبعضهم
يقول : أكلتني السّباع حيّاً
إنْ فارقتك . ولم يدعوا أنْ يصل إليه أذى وهم في الأحياء ، ومنهم من جعل نفسه كالتّرس
له ، فما زال يرمى بالسّهام حتّى سقط . وأبدوا يوم عاشوراء من الشّجاعة
والبسالة ما لم يُر مثله , فأخذت
الصفحة ( 260
)
خيلهم تحمل ، وإنّما هي اثنان وثلاثون فارساً , فلا
تحمل على جانب من خيل أهل الكوفة إلاّ كشفته .
قـلَّ الـصَّحابةُ غيرَ أنْ نَ قـليلَهُمْ غـيرَ القليلِ
من كلِّ أبيضَ واضحِ الْ حـسـبينِ معْدُومِ المثيلِ
وردُوا على الظمأِ الرَّدَىii وُردَ iiالـزُّلالِ السَّلسبيلِ
وثَـووا على الرمضاءِii منْ iiكـابٍ ومـنعفرٍ جديلِ
المجلس الواحد والثّلاثون بعد المئتين
قد قضى العقل والدّين باحترام عظماء الرّجال أحياءً وأمواتاً
, وتجديد
الذّكرى لوفاتهم وإظهار الحزن عليهم , لا سيَّما مَن بذل نفسه وجاهد حتّى قُتل
؛ لمقصد سام وغاية نبيلة , وقد جرت على ذلك الاُمم في كلِّ عصر وزمان , وجعلته
من أفضل أعمالها وأسنى مفاخرها . فحقيقٌ بالمسلمين ، بل جميع الاُمم أنْ
يُقيموا الذّكرى للحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السّلام) ؛ فإنّه من عظماء
الرّجال وأعاظمهم في نفسه ، ومن الطّراز الأوّل ؛ جمع أكرم الصّفات وأحسن
الأخلاق , وأعظم الأفعال وأجلّ الفضائل والمناقب ، علماً وفضلاً , وزهادة
وعبادة ، وشجاعة وسخاء ، وسماحة وفصاحة , ومكارم أخلاق ، وإباء للضيم ومقاومة
للظلم .
وقد جمع إلى كرم الحسب شرف العنصر والنّسب , فهو
أشرف النّاس أباً
واُمّاً ، وجدّاً وجدّةً ، وعمّاً وعمّةً ، وخالاً وخالة ؛ جدّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) سيّد النّبيِّين وأفضل ولد آدم , وأبوه علي أمير المؤمنين وسيّد
الوصيين , واُمّه فاطمة الزّهراء سيّدة نساء العالمين , وأخوه الحسن المُجتبى
, وعمّه
الصفحة ( 261
)
جعفر الطيّار مع ملائكة السّماء , وعمُّ أبيه حمزة سيّد الشّهداء
, وجدّته خديجة
بنت خويلد أوّل نساء هذه الاُمّة
إسلاماً , وعمّته اُم
هانيء , وخاله إبراهيم ابن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) , وخالته زينب بنت رسول الله
(صلّى الله عليه وآله) .
وقد جاهد لنيل أسمى المقاصد وأنبل الغايات , وقام
بما لم يقم بمثله أحد قبله ولا بعده ؛ فبذل نفسه وماله وآله في سبيل
إحياء الدّين وإظهار فضائح المنافقين , واختار المنية على الدّنية , وميتة
العزّ على حياة الذّل , ومصارع الكرام على طاعة اللئام . وأظهر من إباء الضّيم
وعزّة النّفس , والشّجاعة والبسالة ، والصّبر والثّبات ما بهر العقول وحيّر
الألباب , واقتدى به في ذلك كلُّ مَن جاء بعده حتّى قال القائل :
وإنَّ الاُلى بالطفِّ من آلِ هاشمٍ
تآسَوا فسنُّوا للكرامِ التآسيَا
وحتّى قال آخر : كأن أبيات أبي تمّام ما
قيلت إلاّ في الحسين (عليه السّلام) :
وَقَـد كانَ فَوتُ المَوتِ سَهلاً iiفَرَدَّهُ إِلَـيهِ الـحِفاظُ المُرُّ وَالخُلُقُ iiالوَعرُ
وَنَـفسٌ تَـعافُ الـعارَ حَتّى iiكَأَنَّهُ هُوَ الكُفرُ يَومَ الرَوعِ أَو دونَهُ الكُفرُ
فَـأَثبَتَ فـي مُستَنقَعِ المَوتِ iiرِجلَهُ وَقالَ لَها مِن تَحتِ أَخمُصِكِ الحَشرُ
تَـرَدّى ثِيابَ المَوتِ حُمراً فَما iiأَتى لَها اللَيلُ إِلاّ وَهيَ مِن سُندُسٍ خُضرُ
وحقيق بمَن كان كذلك أنْ تُقام له الذّكرى في كلِّ عام , وتبكي له العيون دماً
بدل الدّموع ؛ وأيُّ رجُل في الكون قام بما قام به الحسين (عليه السلام)
؟!
الحسين قدّم نفسه للقتل ، وقدّم أبناءه حتّى ولده
الرّضيع وإخوته ، وأبناء أخيه
وأبناء عمّه للقتل , وأمواله للنّهب وعياله للأسر ؛ ليفدي دين جدّه بنفسه وبهم
, ويستنقذه من أنْ يقضي عليه يزيد ، المُجاهر بالكفر والفجور وشرب الخمور
، والقائل :
الصفحة ( 262
)
لـيـتَ أشياخي ببدرٍ شَهدواii جزعَ الخزْرجِ منْ وقعِ الأسلْ
لأهـلُّـوا واسـتـهلُّوا فَرحاً ثُــمَّ iiقـالوا يا يزيدُ لا تشلْ
لـعـبتْ iiهـاشمُ بالمُلكِ فلا خـبرٌ iiجـاءَ ولا وحيٌ نزل
الحسين مُعظَّم حتّى عند الخوارج أعداء أبيه وأخيه , فهم
يُقيمون له مراسم الذّكرى والحزن يوم عاشوراء في كلّ عام . وليس أعجب ممّن يتخذ يوم عاشوراء
يوم فرح وسرور ، واكتحال وتوسعة على العيال ؛ لأخبارٍ اُفتريت في زمن المُلك العضوض اعترف بكذبها النّقاد , وسُنّةٍ سنّها
الحجّاج بن يوسف عدوُّ الله وعدوُّ
رسوله .
وأيُّ مُسلم تُطاوعه نفسه أو يُساعده قلبه على إظهار الفرح في يومٍ
قُتل ابن بنت نبيه وريحانته ، وابن وصيه ؟! وبماذا يواجه رسول الله (صلّى
الله عليه وآله) ، وبماذا يعتذر إليه ؟ وهو مع ذلك يدّعي محبّة الرّسول
(صلّى الله عليه وآله) , ومن شروط المحبّة الفرح لفرح المحبوب ، والحزن لحزنه
. ولو أنصف باقي المسلمين ما عادَوا طريقة الشّيعة في إقامة الذّكرى للحسين
(عليه السّلام) كلّ عام , وإقامة مراسم الحزن يوم عاشوراء , فهل
كان الحسين (عليه السّلام) دون
امرأةٍ يُقيم لها الفرنسيون الذكرى كلّ عام ؟ وهل
عمِلتْ لاُمّتها ما عمله
الحسين (عليه السّلام) لاُمّته أو دونه ؟
الحسين (عليه السّلام) سنّ للناس درساً نافعاً , ونهج
لهم سبيلاً مهيعاً في تعلّم الإباء والشّمم , وطلبِ الحُرّية والاستقلال ,
ومقاومة الظّلم ومعاندة الجور , وطلب العزّ ونبذ الذّل , وعدم المبالاة بالموت
في سبيل نيل الغايات السّامية والمقاصد الغالية ، وأبان فضائح المنافقين
, ونبّه الأفكار إلى التّحلي بمحاسن الصّفات ، وسلوك طريق الاُباة والاقتداء
بهم , وعدم الخنوع للظلم والجور والاستعباد .
وبكى زين العابدين (عليه السّلام) على مصيبة أبيه الحسين
(عليه السّلام)
أربعين سنة , وكان الصّادق (عليه السّلام) يبكي لتذكّر مصيبة الحسين
(عليه السّلام) , ويستنشد
الشّعر في رثائه ويبكي ، وكان الكاظم (عليه السّلام) إذا دخل شهر المُحرّم لا يُرى
ضاحكاً , وتغلب عليه الكآبة حتّى تمضي عشرة أيّام منه , فإذا كان اليوم
العاشر كان يوم مصيبته وحزنه .
وقال الرّضا (عليه السّلام)
الصفحة ( 263
)
: (( إنّ يوم الحسين أقرح جفوننا وأسال دموعنا
، وأورثنا الكرب والبلاء إلى يوم الانقضاء )) .
وقد حثّوا شيعتهم وأتباعهم على البكاء ، وإقامة الذّكرى
لهذه الفاجعة الأليمة في كلّ عام , وهم نعم القدوة وخير مَن اتُّبع ,
وأفضل مَن اُقتفي أثره واُخذت منه سنّة الرّسول (صلّى الله عليه وآله)
؛ فهم أحد الثّقلين الذّين اُمرنا باتِّباعهما والتّمسك بهما , ومثل
باب حطّة الذي مَن دخله كان آمناً , ومفاتيح باب مدينة العلم الذي لا
تًؤتى إلاّ منه .
هُمُ السَّفينةُ فاز الرَّاكبونَ بها ومَنْ تخلَّف عنها ضلَّ في تيهِ
المجلس الثّاني والثّلاثون بعد المئتين(1)
وفد على يزيد بن معاوية وفدٌ من أهل المدينة , فلمّا
رجعوا قالوا : قدمنا من
عند رجل ليس له دين ؛ يشرب الخمر ويضرب بالطّنابير , وتعزف عنده القيان
، ويلعب بالكلاب . فخلعوه وأخرجوا عامله على المدينة ، وحصروا بني
اُميّة في دار مروان وكانوا ألف رجل ، فكتبوا إلى يزيد يستغيثون به ،
ثمّ أخرجوهم من المدينة بعدما أخذوا علهيم العهود أنْ لا يعينوا عليهم
، ولا يدلّوا على عوراتهم .
فبعث يزيد إلى عمرو بن سعيد بن العاص ليرسله في جيش إلى
المدينة ، فلم يقبل , فبعث إلى عبيد الله بن زياد يأمره بالمسير إلى
المدينة
ــــــــــــــــــــــــــ
(1) تُنقل هذه الوقعة عن تاريخ الطبري ، والكامل في
التاريخ لابن الأثير ، والفخري ، والإمامة والسّياسة ، والأخبار الطّوال
، والعقد الفريد ، والأغاني
وغيرها . ـ المؤلّف ـ
الصفحة ( 264
)
وإلى ابن الزّبير بمكّة , فقال
: والله , لا جمعتُها للفاسق ؛ قتل ابن رسول الله
وغزو المدينة والكعبة ! واعتذر إليه .
وكان معاوية
قال ليزيد : إنّ لك من
أهل المدينة يوماً , فإنْ فعلوا فارمهم بأعور بني مُرّة ( يعني مسلم بن عقبة المُرّي )
، وكان أعور ، وكان أحد جبابرة العرب وشياطينهم . فأمره يزيد بالمسير
إلى المدينة , وكان مريضاً وهو شيخ كبير ، ثمّ أراد يزيد إعفاءه لمرضه
, فقال
:
يا أمير المؤمنين
, أنشدك الله لا تحرمني أجراً ساقه الله لي . فلم يطِقْ أنْ يركب مع
الوجع ، فحُمل على سرير على أعناق الرّجال , وبعث يزيد معه اثني عشر
ألفاً ، فسار مسلم بالجيش ، فلقيه بنو اُميّة في الطّريق فدلّوه على
عورات أهل المدينة ورجعوا معه .
وجعل أهل المدينة في كلّ منهلٍ بينهم وبين أهل
الشّام زقّاً من قطران , فكان من قدر الله تعالى أنْ مطرت السّماء , فلم يستقوا
بدلوٍ حتّى وردوا المدينة . وأوصى يزيد مسلم بن عقبة , فقال
: إذا ظهرت على
أهل المدينة فأبحها ثلاثاً ، وكلُّ ما فيها من مال أو دابة ، أو سلاح أو طعام
فهو للجُند ، وانظر علي بن الحسين فاكفف عنه واستوص به خيراً ؛ فإنّه لم يدخل
مع النّاس وقد أتاني كتابه .
وكان مروان ، لمّا أخرج أهل المدينة بني اُميّة منها
, طلب من عبد الله بن عمر أنْ يُغيّب أهله عنده فلم يقبل , فقال لعلي بن
الحسين (عليهما السّلام) : إنّ لي رحماً ، وحرمي تكون مع حرمك . فقال
: (( افعل ))
.
فبعث
بامرأته وحرمه إلى علي بن الحسين (عليهما السّلام) ، فخرج علي (عليه
السّلام) بحرمه وحرم مروان إلى ينبع , وقيل بل أرسل حرم مروان إلى الطّائف
, وأرسل معهم ابنه عبد الله
.
هكذا كانت عادة أهل البيت (عليهم السّلام) في الحلم
والصّفح ، والمجازاة على الإساءة بالإحسان , وعلى ذلك جرى علي بن الحسين
(عليهما السّلام) مع مروان
؛ فمروان هو الذي عادى أمير المؤمنين (عليه السّلام) وحاربه يوم الجمل
, فلمّا ظفر به أمير المؤمنين (عليه السّلام) عفا عنه
، وهو الذي أشار على
الوليد ـ أمير
الصفحة ( 265
)
المدينة ـ بقتل الحسين (عليه السّلام) حين طلب منه الوليد البيعة ليزيد
, فقال
مروان : والله , لئن فارقك الحسين السّاعة ولم يُبايع , لا قدرت منه على مثلها
أبداً حتّى تكثر القتلى بينكم وبينه , ولكن احبس الرّجل فلا يخرج من عندك
حتّى يُبايع أو تضرب عنقه ، وهو الذي أخذ رأس الحسين (عليه السّلام) بعد قتله فوضعه
بين يديه ، وقال :
يا حبَّذا بُردُكَ في اليَدَيْنِ ولونُك الأحمـرُ في الخدَّينِ
كأنّـما حُفَّ بـوردتينِ شفيتُ نفسي من دمِ الحُسينِ
والله , لكأنّي أنظر إلى أيّام عثمان . فجازاه على ذلك
علي بن الحسين (عليهما السّلام) بأنْ حفظ حرمه ونساءه ، وحماهم بعدما
عرض ذلك على ابن عمر فلم يقبل .
ولم ينس زين العابدين (عليه السّلام) ما فعله بنو اُميّة معه من قتلهم
أباه الحسين (عليه السّلام) , وسبيهم نساء أهل بيته , وأخذه معهم أسيراً والغلُّ
في عنقه حتّى اُدخلوا على مجلس يزيد بتلك الحالة ، ولكن أبت له أعراقُه الكريمة , وهو
ابنُ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وابنُ وصيه ، وإمامُ أهل البيت
الطّاهر , إلاّ أنْ يُجازي عن الإساءة بالإحسان , فحامى عن نساء مَن سبوا نساءه
، وحفظهنَّ .
وما مَثَلُ بني هاشم وبني اُميّة في ذلك ، إلاّ كما قال الشاعر :
ملكنَا فكان العفوُ منَّا سجـيَّةً
فلمّا ملكتُمْ سال بالدَّمِ أبطحُ
فحسْبُكُمُ هذا التَّفـاوتُ بيْنَنا
وكلُّ إِناءٍ بالذي فيهِ يَنْضَحُ
المجلس الثّالث والثّلاثون بعد المئتين
لمّا خلع أهل المدينة يزيد بن معاوية حين بلغهم أنّه يشرب الخمر
،
الصفحة ( 266
)
ويضرب بالطّنابير ، وتغني عنده المُغنّيات ويلعب
بالكلاب , أرسل إليهم مسلم بن عقبة المُرّي في اثني عشر ألفاً , فسار
بهم حتّى وصل إلى المدينة , وكان أهلها قد أمّروا عليهم عبد الله بن
حنظلة غسيل الملائكة ؛ وذلك أنّ أباه حنظلة قُتل يوم اُحد , فرأى
النّبي (صلّى الله عليه وآله) الملائكة تُغسّله ؛ لأنّه كان جُنباً
فسُمّي غسيل الملائكة .
ووضع لمسلم بن عقبة كرسي بين الصفّين
, فجلس عليه وهو مريض , وقال
:
يا أهل الشّام
, قاتلوا عن أميركم . وجعل يحرّضهم
, واشتدّ القتال , فجعل عبد الله بن حنظلة يُقدّم أولاده واحداً بعد واحد حتّى قُتلوا بين يديه
، وكانوا ثمانية
, ثمّ كُسر غمد سيفه وقاتل حتّى قُتل ، وانهزم
أهل المدينة . فقُتل بضعة وسبعون رجلاً من قريش ، وبضع وسبعون رجلاً من
الأنصار , وقُتل من النّاس نحو من أربعة آلاف ، وسُمّي مسلم بعد تلك الوقعة
مُسرفاً , وتُسمّى وقعة الحرّة(1) .
وأباح مسرف المدينة ثلاثاً ؛ يقتلون النّاس وينهبون
الأموال ، ويفتضّون النّساء حتّى وُلد في تلك السّنة ألف مولود لا يُعرف لهم أب
, وكان الرّجل من أهل المدينة بعد ذلك إذا أراد أنْ يُزوّج ابنته لا يضمن
بكارتها , ويقول : لعله أصابها شيءٌ في وقعة الحرَّة
.
وكما أرسل يزيد الجيوش
لمحاصرة مدينة الرّسول (صلّى الله عليه وآله) , ومحاربة أصحاب رسول الله
(صلّى الله عليه وآله) من المهاجرين والأنصار , فقد قاد جدّه أبو سفيان
الجيوش لحرب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأصحابه من المهاجرين
والأنصار , ومحاصرة المدينة يوم اُحد والأحزاب ، وكما قتلت جدّتُه هندٌ
أسد
الله حمزة ـ عمّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ـ على يد وحشي يوم اُحد
, وبقرت بطنه ، وأكلت من كبده ومثّلت به ، قتل يزيد سبطَ رسول الله (صلّى
الله عليه وآله) على يد عمر بن سعد , وقطع رأسه ، وأوطأ الخيل جسده ومثّل به
ــــــــــــــــــــــــــ
(1) الحُرّة : أرضٌ ذات حجارة سود خشنة , وكانت الوقعة
في أرض بتلك الصِّفة . ـ المؤلّف ـ
الصفحة ( 267
)
وبأصحابه ، وعلى نهج الآباء مشت الأبناء , وإنّ العصا من العُصيّة(1)
, ولا تلد الحيّةُ إلاّ حيَّة .
بَنى لَهُمُ الماضونَ آساسَ هَذِهِ
فَعَلّوا عَلى آساسِ تِلكَ القَواعِدِ
ودعا مسرف النّاس إلى البيعة ليزيد على أنّهم عبيد له ،
يحكم في دمائهم وأموالهم وأهليهم ما شاء ؛ إنْ شاء وهب ، وإنْ شاء أعتق
، وإن ْشاء استرقّ , ومَن امتنع من ذلك قتَله ، فامتنع جماعةٌ فقُتلوا
.
وجاء مروان بعليِّ بن الحسين (عليه السّلام) يمشي بينه وبين ابنه عبد الملك حتّى جلس بينهما , فدعا مروان بشراب ليتحرّم
بذلك فشرب منه ، ثمّ ناوله عليَّ بن الحسين (عليه السّلام) , فقال له مسلم : لا
تشرب من شرابنا . فامتنع , فقال مسلم : جئتَ تمشي بينهما لتأمن عندي ؟ والله , لو كان
إليهما أمر
لقتلتُك ، ولكن أمير المؤمنين أوصاني بك وأخبرني أنّك كاتبته , فإنْ شئت فاشرب
. فشرب , ثمّ أجلسه معه على السّرير , ثمّ
قال له : لعلّ أهلك فزعوا
؟ قال (عليه السّلام) : (( إي والله ))
.
فأمر بدابة فاُسرجت له وردَّهُ ، ولم يلزمه بالبيعة ليزيد كما شرط على أهل
المدينة , بل بايعه على أنّه أخوه وابنُ عمّه .
هذا مسلم بن عقبة مع كفره
وطغيانه وتجبره ، قال لعلي بن الحسين (عليه السّلام) : لعلّ
أهلك فزعوا . وشمر
بن ذي الجوشن حمل يوم كربلاء حتّى بلغ فسطاط الحسين (عليه السّلام) ، فطعنه
بالرّمح ، ونادى : عليّ بالنّار حتّى أحرق هذا البيت على أهله . فأفزع مُخدَّرات بيت
النّبوّة وأخافهن ، فصاحت النّساء وخرجن , وصاح به الحسين (عليه السّلام) :
(( أنت تحرق بيتي على أهلي ؟! أحرقك الله
بالنّار )) . فقال
حميد بن مسلم : أتقتل الولدان
ــــــــــــــــــــــــــ
(1) العصا : فرس جُذيمة الأبرش . والعُصيّة ، بصيغة
التّصغير : اُمّها . مثل يُضرب للشيء يُشبه أصله .
الصفحة ( 268
)
والنّساء ؟! والله , إنّ في قتل الرّجال
لَما يرضى به أميرك . فلم يقبل , فأتاه شبث بن ربعي ، فقال : أفزعنا
النّساء ثكلتك اُمّك ! فاستحيا وانصرف .
يا اُمّةً
ولـيَ الشَّيـطانُ رايتَها ومكَّنَ البغيّ منها كلَّ تمكينِ
ما المُرتضى وبنُوه منْ مُعاويةٍ ولا الفواطمُ منْ هندٍ وميسونِ
ولمّا فرغ مسرف من وقعة الحرّة
, بعث برؤوس
أهل المدينة إلى يزيد ، وكتب إليه
يخبره بما صنع , فلمّا
اُلقيت الرؤوس بين يديه , قال :
لـيتَ أشـياخي ببدرٍ شَهدوا جزعَ الخزْرجِ منْ وقعِ الأسلْ
لأهلُّـوا واسـتـهلُّوا فَـرحاً ثُمَّ قـالوا يـا يزيدُ لا تشلْ
وقد تمثّل بهذا الشّعر أيضاً لمّا
جيء إليه برأس الحسين بن علي (عليهما
السلام) ، وبسبايا أهل البيت (عليهم السّلام) , وزاد فيه :
لعـبتْ هاشـمُ بالمُلكِ فلا خبرٌ جاء ولا وحيٌ نزلْ
قدْ قتلنَا القَرمَ من ساداتِهمْ وعدلنَا ميلَ بدرٍ فاعتَدلْ
فقامت زينب بنت علي (عليهما السّلام) ، وخطبت خطبتها
الشّهيرة التي قالت من جملتها : تهتف بأشياخك تزعم أنّك تُناديهم ؟!
فلترِدنَّ وشيكاً موردَهم , ولتودّنَّ أنّك شُللت وبُكمت , ولم تكُن
قلتَ ما قُلتْ ، وفعلتَ ما فعلتْ .
يا آلَ أحـمدَ كمْ يُكابـدُ فـيكُمُ كبـَدي خُطوباً للقلوبِ نواكي
كبَدي بكُمْ مقروحةٌ ومـدامعي مسفوحةٌ وجوى فؤادِي ذاكي
* * *
الصفحة ( 269
)
المجلس الرابع والثّلاثون بعد المئتين
كان الحضين(1) بن المنذر الرّقاشي من ربيعة البصرة
, وكان مع علي أمير
المؤمنين (عليه السّلام) بصفّين , ولمّا
نافس شقيق بن ثور خالد بن معمر السّدوسي على راية ربيعة ـ وكانت مع خالد ـ , اصطلحا على أنْ يولّياها الحضين
ـ وكان يومئذ شاباً حدث السّن ـ ، فأقبل وهو غلام يزحف بها وكانت حمراء , فأعجب
علياً (عليه السّلام) زحفه وثباته , فقال :
لـمَـنْ رايـةٌ حـمراءُ يخْفقُ ظلُّهاii إذا iiقِـيـل قـدِّمـهَا حُضينُ تَقدَّما
ويـدنُو بها في الصَّفِّ حتّى iiيَديرها iiحِـمـامُ المنايا تَقطُر الموتَ والدَّما
تــراهُ iiإذا مَـا كـان يومُ عظيمةٍ iiأبَـى فـيـهِ إلاّ عِـزَّةً وتـكـرُّما
جـزى iiاللهُ قوماً صابَرُوا في لقائِهمْ لَـدَى iiالـبأسِ حُرّاً ما أعفّ وأكرَما
وأحزمَ صبْراً حِينَ تُدعَى إلى الوغَى إذا iiكـانَ أصـواتُ الـكُماةِ تغمْغُما
وكفى الحضين فخراً مدح علي (عليه السّلام) له بهذا الشّعر , وكفى
قبيلة ربيعة فخراً مدح علي (عليه السّلام) لها بما سمعت .
وروي عن الحضين أنّه
قال : أعطاني علي (عليه السّلام)
راية ربيعة , وقال
: (( بسم الله سر
يا حُضين , واعلم أنّه لا يخفق على رأسك راية مثلها أبداً ؛ هذه راية
رسول الله (صلّى الله عليه وآله) )) .
وذكر المُبرّد في
ــــــــــــــــــــــــــ
(1) بالضاد المعجمة , وليس للعرب حُضين بالمعجمة غيره .
ـ المؤلّف ـ
الصفحة ( 270
)
الكامل : إنّه لمّا فتح قتيبة بن مسلم سمرقند
, أفضى
إلى أثاثٍ وآلات لم يُرَ
مثلها , فأراد أنْ يُري النّاس عظيم ما أنعم به الله عليه , فأمر بدار ففُرشت
، وفي صحنها قدور يُرتقى إليها بالسّلالم , فإذا بالحضين بن المنذر الرّقاشي
قد أقبل ـ وهو شيخ كبير ـ والنّاس جلوس على مراتبهم , فلمّا
رآه عبد الله بن
مسلم ـ أخو قتيبة ـ قال لقتيبة
: ائذن لي في معاتبته . قال
له : لا تفعل ؛ لأنّه
خبيث الجواب . فألحّ عليه , فأذن له ـ وكان عبد الله ضعيف العقل ـ فأقبل على الحضين
، فقال : أمنَ الباب دخلت
يا أبا ساسان ؟ ( وهي كُنية الحضين )
قال : أجل
، أسنَّ عمّك عن تسوّر الحيطان ( وكان عبد الله تسوّر حائطاً إلى امرأة )
. قال : أرأيت هذه القدور
؟ قال : هي أعظم من أنْ تُرى
. قال : ما أحسب بكر بن وائل ( وهو
جدّ قبيلة الحضين ) رأى مثلها
؟ قال
:
أجل ، ولا عيلان ( وهو جدّ قبيلة عبد الله )
، ولو رآها لسُمّي شبعان ولم يُسمّ عيلان . قال عبد الله : أتعرف الذي يقول :
كأنَ فقاحَ الأزدِ حولَ ابنِ مسْمعٍ إذا عُرفتْ
أفواهُ بكرِ بنِ وائلِ ؟
قال : نعم أعرفه ، وأعرف الذي يقول :
قـومٌ قتيبةُ اُمُّـهمْ وأبـوهُمُ لولا قتيـبةُ أصـبحُوا في مجـهلِ
قال : أمّا الشّعر فأراك ترويه , فهل
تقرأ من القرآن شيئاً
؟ قال
:
أقرأ منه
الأكثر الأطيب : (
هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا
مَذْكُورًا )(1)
.
( يشير إلى خمولهم قِبل قتيبة ) ، فغضب عبد الله , وقال
:
والله , لقد بلغني أنّ
امرأة الحضين حُملت إليه وهي حامل من غيره . قال : فما تحرّك الشّيخ عن هيئته الاُولى , ثمّ قال على رسله
: وما يكون تلد غلاماً على فراشي , فيُقال
فلان بن الحضين كما يُقال عبد الله بن مسلم
. فأقبل قتيبة على أخيه عبد الله ، وقال : لا يبعد الله غيرك .
وكانت باهلة من أخسِّ قبائل العرب
ــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة
الإنسان / 1 .
الصفحة ( 271
)
وأوضعها نسباً , وكانت العرب تُعيِّر مَن ينتسب إلى باهلة , ولهم في ذلك أشعار
كثيرة ، قال بعضهم :
إِذا باهِلِيٌّ تَحتَهُ حَنظَـلِيَّةٌ لَهُ وَلَدٌ مِنهـا فَذاكَ المُذَرَّعُ
والمُذرّع : الذي اُمّه أشرف من أبيه .
وقال الآخر :
وما ينفعُ الأصـلُ منْ هاشمٍ إذا كانتْ النّفـسُ منْ باهلهْ
وقال الآخر :
ولو قيلَ للكلبِ يا باهـليْ عوى الكلـبُ منْ لؤمِ هذا النَّسبِ
وروي : أنّ الأشعث بن قيس قال
للنّبيِّ (صلّى الله عليه وآله) : أتتكافأ
دماؤنا ؟ قال
: (( نعم , ولو قتلتَ رجُلاً من باهلة ,
لقتلتُك )) . وقيل لرجل : أيسرّك أنْ
تدخل الجنّة وأنت باهلي ؟ قال
:
بشرط أنْ لا يعلم أهلُها بذلك . وكانت باهلة
مع ذلك منحرفة عن أهل البيت (عليهم السّلام) , مواليه لبني اُميّة ، كما كانت
ربيعة مع شرفها من القبائل الموالية لأمير المؤمنين (عليه السّلام) , وأبلت معه
بصفّين بلاءً حسناً .
ومسلم
بن عمرو الباهلي أبو قتيبة هو الذي قال لمسلم بن عقيل ما قال
, حين اُتي بابن عقيل أسيراً إلى ابن زياد بالكوفة ؛ وذلك أنّ مسلماً
لمّا اُسر بالكوفة بعد محاربته مع ابن الأشعث , حُمل
إلى ابن زياد
, فلمّا وصل إلى باب القصر وقد اشتدَّ به العطش ، وعلى باب القصر ناس جلوس
فيهم عمرو بن حريث ، ومسلم بن عمرو الباهلي , وإذا قلّةٌ فيها ماء بارد ,
قال مسلم بن عقيل : اسقوني من هذا الماء . فقال
له مسلم بن عمرو الباهلي : أتراها
ما أبردها ؟ لا والله , لا تذوق منها قطرة حتّى تذوق الحميم في نار جهنّم
. فقال له مسلم بن عقيل
: ويلك ! مَن أنت
؟ قال : أنا الذي عرف الحقّ
إذ أنكرته
, ونصح لإمامه إذ غششته , وأطاعه إذ خالفته ؛ أنا مسلم بن
الصفحة ( 272
)
عمرو الباهلي . فقال له ابن عقيل : لاُمّك الثّكل ! ما
أجفاك وأفظّك وأقسى قلبك ! أنت يابن باهلة أولى بالحميم والخلود في نار
جهنم منّي .
ثمّ جلس فتساند إلى الحائط ، وبعث عمرو بن حريث غلامه فأتاه بقلّة عليها منديل وقدح
, فصب
فيه ماءً فقال له : اشرب . فأخذ كلمّا شرب امتلأ القدح دماً من فمه ،
فلا يقدر أنْ يشرب ـ وكان قد ضربه بكر بن حمران بالسّيف على فمه فقطع
شفته العليا ، وأسرع السّيف في السّفلى ، وفُصلت لها ثنيّتان ـ ففعل
ذلك مرّة أو مرّتين , فلمّا ذهب في الثّالثة ليشرب , سقطت ثناياه في
القدح , فقال : الحمد لله ، لو كان لي من الرّزق المقسوم لشربته .
يـا مُـسلمُ بنَ عقيلٍ لا أغبَّ iiثرَى ضـريحِكَ الـمُزنُ هـطّالاً iiوهتّانا
بـذلتَ نـفْسكَ فـي مرضاةِ iiخالِقِها حـتّى قـضيتَ بسيفِ البغْي iiظمْآنا
كـأنَّـما نفسُك اختارتْ لها عَطشاًii لمّا دَرتْ أنْ سيقضِي السِّبطُ عطْشَانا
فـلَمْ تُطقْ أنْ تسيغَ الماءَ عن ظمأٍii مـنْ ضـربةٍ ساقـها بكرُ بنُ حمرانا
|