المجالسُ السَّنيّة - الجزء الاول

 
 

الصفحة ( 75 )

الآن غير ما أتتني به كتبكم وقدمتْ عليّ رُسُلكم ، انصرفت عنكم )) . فقال له الحُرّ : أنا والله ، ما أدري ما هذه الكتب والرسل التي تذكر . فقال الحسين (عليه السّلام) لبعض أصحابه : (( يا عقبة بن سمعان(1) ، اخرج الخرجين اللذين فيهما كتبهم إليّ )) . فأخرج خرجين مملوءين صحفاً فنثرت بين يديه ، فقال له الحُرّ : إنّا لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك ، وقد اُمرنا إذا نحن لقيناك ، لا نفارقك حتّى نقدمك الكوفة على عبيد الله . فقال له الحسين (عليه السّلام) : (( الموت أدنى إليك من ذلك )) . ثمّ قال لأصحابه : (( قوموا فاركبوا )) . فركبوا وانتظر هو حتّى ركبت نساؤه .

بأبي أنت وأمي يا أبا عبد الله ! لمْ ترضَ أنْ تركب ولا أنْ تسير قدماً واحداً قبل ركوب النّساء ، مع أنّ الذين يركبونهنّ مثل علي الأكبر والعبّاس بن أمير المؤمنين وسائر بني هاشم ! فياليتك لا غبت عن نسائك وأخواتك وبناتك يوم الحادي عشر من المحرّم حين جاؤوا إليهنّ بالجمال ، وليس معهنّ ولي ولا كافل غير ولدك زين العابدين (عليه السّلام) ـ وهو مريض لا يستطيع النّهوض ـ وابن أخيك الحسن بن الحسن الذي كان مثخناً بالجراح وأطفال صغار ، وأظنّ أنّ المتولّية لذلك كانت اُختك زينب ، فهي التي ركّبت العليل والجريح والنّساء والأطفال ، وقامت في ذلك مقام الرجال حتّى لم يبقَ مَن يُركبها ، فركبت بنفسها .

لمَنْ السّبايا المُعْجلاتُ ضَجرنّ منْ   إدلاجِ عـُجفٍ تشتكي عثراتِها

اللهُ أكـبرُ يـا لهَا مـنْ وقْـعَـةٍ   ذابتْ لها الأحشاءُ في حُرُقاتِها

______________________

(1) هو مولى الرباب ابنة امرئ القيس الكلبيّة زوجة الحسين (عليه السّلام) ، ولمّا قُتل الحسين (عليه السّلام) أخذه عمر بن سعد فقال : مََن أنت ؟ فقال : أنا عبد مملوك . فخلّى سبيله . ولم ينجُ من أصحاب الحسين (عليه السّلام) غيره ، وغير رجل آخر ؛ ولذلك كان كثير من روايات الطفّ منقولاً عنه .  ـ المؤلّف ـ

الصفحة ( 76 )

المجلس الواحد والأربعون

لمّا التقى الحسين (عليه السّلام) مع الحُرّ وأصحابه ، ومنعه الحُرّ من الرجوع ، قال الحُرّ : إنّي لمْ اُؤمر بقتالك ، إنّما اُمرت أنْ لا اُفارقك حتّى اُقدمك الكوفة ، فإذا أبيت فخذ طريقاً لا يدخلك الكوفة ولا يردّك إلى المدينة حتّى أكتب إلى الأمير عبيد الله بن زياد .

فتياسر الحسين (عليه السّلام) وسار والحُرّ يسايره ، فقال له الحُرّ : إنّي اُذكّرك الله في نفسك ، فإنّي أشهد لئن قاتلت لتُقتلن . فقال الحسين (عليه السّلام) : (( أفبالموت تخوفني ؟! وهل يعدو بكم الخطب أنْ تقتلوني ؟ وسأقول كما قال أخو الأوس لابن عمّه ، وهو يريد نصرة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فخوّفه ابن عمّه وقال : أين تذهب ؟ فإنّك مقتول . فقال :

سأمضي وما بالموتِ عارٌ على الفتَى   إذا مـا نـَوى حـقّاً وجـاهدَ مُسلمَا
وواسـَى الـرّجالَ الصّالحينَ 
iiبنفسِهِ   وفــارقَ مـثبوراً وودّعَ مـُجرمَا
اُقــدّمُ نـفسي لا اُريـدُ 
iiبـقاءَها   لـتلقَى خَميساً في الوغَى iiوعرمْرَمَا
فـإنْ عشتُ لمْ أندمْ وإنْ متُّ لمْ 
iiاُلَمْ   كـفَى بـكَ ذلاّ ً أنْ تـعيشَ iiوتُرغمَا

ولم يزل الحسين (عليه السّلام) سائراً حتّى انتهوا إلى العذيب ، فإذا هم بأربعة نفر قد أقبلوا من الكوفة لنصرة الحسين (عليه السّلام) على رواحلهم ، وهم : عمرو بن خالد الصيداوي ، ومجمع العائذي ، وابنه عبد الله ، وجنادة بن الحارث السّلماني ، ويجنبون فرساً لنافع بن هلال الجملي يقال له : الكامل ، قد اُرسل معهم . وقيل : أنّ نافعاً كان معهم ومعه فرسه ، ومعهم موليان لعمرو ، والحارث ، ودليل يقال له الطرمّاح بن عدي كان قد جاء إلى الكوفة يمتار لأهله طعاماً فسار بهم على غير الجادّة ، فأراد الحُرّ أنْ يعارضهم ، فمنعه الحسين (عليه السّلام) من ذلك ، وقال لهم الحسين (عليه السّلام) : (( هل لكم علم برسولي قيس بن مسهّر ؟ )) . قالوا : نعم ، قتله ابن زياد . فترقرقت عينا الحسين (عليه السّلام) ولم يملك دمعته ، ثمّ قال : (( مِنْهُم مّن قَضَى‏ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدّلُوا تَبْدِيلاً(1) .

______________________
(1) سورة الأحزاب / 23 .  

الصفحة ( 77 )

اللهمَّ ، اجعل لنا ولهم الجنّة نُزلاً ، واجمع بيننا وبينهم في مستقرّ من رحمتك ، ورغائب مذخور ثوابك )) . وقال الحسين (عليه السّلام) لأصحابه : (( هل فيكم أحد يعرف الطريق على غير الجادّة ؟ )) . فقال الطرمّاح : نعم يابن رسول الله ، أنا أخبر الطريق . قال (عليه السّلام) : (( سر بين أيدينا )) . فسار الطرمّاح أمامهم ، وجعل يرتجز ويقول(1) :

يا ناقَتِي لا تَذعَريْ منْ زجْري   وامضِي بنا قبلَ طُلوعِ iiالفجْرِ
بـخيرِ فـتيانٍ وخـيرِ 
iiسَفْرِ   آلِ رســولِ الله آلِ iiالـفخْرِ
الـسَّادةِ البيضِ الوجوهِ 
iiالزُّهرِ   الـطَّاعنينَ بـالرّماحِ iiالسُّمْرِ
الـضَّاربينَ بـالسُّيوفِ 
iiالبُترِ   حتّى تـحلِّي بـكريمِ iiالنَّجْرِ
الـماجدِ الجدِّ الرحيبِ 
iiالصَّدرِ   أصـابـهُ اللهُ بـخـيرِ iiأمْـرِ
عـمَّـرهُ اللهُ بـقاءَ 
iiالـدَّهرِ   يـا مـالكَ النَّفعِ معاً iiوالضُّرِّ
أيـِّدْ حـُسيناً سيّدي 
iiبالنَّصرِ   عـلى الـطُّغاةِ من بقايا iiالكفْرِ

ولم يزل الحسين (عليه السّلام) سائراً حتّى انتهى إلى قصر بني مقاتل فنزل به ، ثمّ

______________________

(1) في بعض الروايات : إنّه لمّا قارب الحسين (عليه السّلام) مع أصحابه الأربعة جعل يحدو بهم ويقول :

يا ناقَتي لا تَذعَري منْ زَجْري   وشـمِّري قـبلَ طُلوعِ iiالفجْرِ
بـخيرِ رُكـبانٍ وخـيرِ 
iiسَفْرِ   حتّى تـحلِّي بـكريمِ iiالنَّجْرِ
الـماجدِ الحُرِّ الرّحيبِ 
iiالصَّدرِ   أتـى بـه اللهُ لـخيرِ iiأمـرِ

ثـَمَّـةَ أبـقاهُ بـقاءَiiالـدَّهرِ

وقوله : ( حتّى تحلِّي بكريم النَّجْرِ ) يدلّ على أنّه قالها قبل ملاقاة الحسين (عليه السّلام) ، فيمكن أنْ يكون أعادها ثانياً ، أو أعاد بعضها وزاد عليها ، ووقع اشتباه من الرواة فيها . ويمكن أنْ يكون قد زيد فيها من غيره ، والله أعلم .   ـ المؤلّف ـ

الصفحة ( 78 )

ارتحل منه ليلاً .

قال عقبة بن سمعان : فخفق (عليه السّلام) وهو على ظهر فرسه خفقة ، ثمّ انتبه وهو يقول : (( إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، والحمد لله رب العالمين )) . ففعل ذلك مرتين أو ثلاثاً . فأقبل إليه ابنه علي الأكبر (عليهما السّلام) فقال : يا أبة ، جُعلت فداك ! مِمَّ حمدت واسترجعت ؟ قال (عليه السّلام) : (( يا بُني ، إنّي خفقت خفقة فعنّ لي فارس على فرس وهو يقول : القوم يسيرون والمنايا تسير إليهم . فعلمتُ أنّها أنفسنا نُعيت إلينا )) . فقال له : يا أبة ، لا أراك الله سوأً ، ألسنا على الحقّ ؟ قال (عليه السّلام) : (( بلى ، والذي إليه مرجع العباد )) . قال : إذاً لا نُبالي أنْ نموت محقّين . فقال له الحسين (عليه السّلام) : (( جزاك الله من ولد خير ما جزى ولداً عن والده )) .

أفدي القـرومَ الاُولَى سارتْ ركائبُهُمْ   والموتُ خلفَهُمُ يسري على الأثرِ

سلْ كرْبلا كَمْ حَوتْ منهُمْ بدورَ دُجىً   كـأنـّهـا فَلَكٌ للأنْجُـمِ الزُّهـرِ

المجلس الثاني والأربعون

لمّا كان الحُرّ يساير الحسين (عليه السّلام) ، لم يزل يسايره حتّى انتهوا إلى نينوى ، فجاء كتاب عبيد الله بن زياد إلى الحُرّ : أمّا بعد ، فجعجع بالحسين ( أي : ضيّق عليه ) ولا تنزله إلاّ بالعراء في غير حصن وعلى غير ماء . فمنعهم الحُرّ وأصحابه من المسير ، وأخذهم بالنّزول في ذلك المكان على غير ماء ولا قرية . فقال الحسين (عليه السّلام) : (( ألمْ تأمرْنا بالعدول عن الطريق ؟ )) . قال : بلى ، ولكن كتاب الأمير عبيد الله قد وصل يأمرني فيه بالتضييق عليك ، وقد جعل عليّ عيناً يطالبني بذلك . فقال له الحسين (عليه السّلام) : (( دعنا ـ ويحك ـ ننزل في هذه القرية أو هذه )) : يعني نينوى والغاضرية . فقال : لا أستطيع ، هذا رجل قد بعث عليّ عيناً . فقال زهير بن القَين للحسين (عليه السّلام) : إنّي والله ، لا أرى أنْ يكون بعد الذي ترون إلاّ أشدّ ممّا ترون يابن رسول الله . إنّ قتال هؤلاء السّاعة أهون علينا من قتال مَن يأتينا بعدهم ، فلعمري ليأتينا من


الصفحة ( 79 )

بعدهم ما لا قِبَل لنا به . فقال الحسين (عليه السّلام) : (( ما كنتُ لأبدأهم بالقتال )) . فقال له زهير : فسرْ بنا يابن رسول الله حتّى ننزل كربلاء ، فإنّها على شاطئ الفرات فنكون هناك ؛ فإنْ قاتلونا قاتلناهم واستعنّا الله عليهم .

قال : فدمعت عينا الحسين (عليه السّلام) ، ثمّ قال : (( اللهمَّ ، إنّي أعوذ بك من الكرب والبلاء )) . ثم قام الحسين (عليه السّلام) خطيباً في أصحابه ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال : (( إنّه قد نزل بنا من الأمر ما قد ترون ، وأنّ الدّنيا تغيّرت وتنكّرت وأدبر معروفها ، واستمرّت حذّاءَ(1) ولم يبقَ منها إلاّ صُبابة كصبابة الإناء ، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل . ألا ترون إلى الحقّ لا يُعمل به ، وإلى الباطل لا يُتناهى عنه ؟! ليرغب المؤمن في لقاء ربّه مُحقّاً ؛ فإنّي لا أرى الموت إلاّ سعادة والحياة مع الظالمين إلاّ برما )) .

فقام زهير بن القَين فقال : قد سمعنا ـ هداك الله يابن رسول الله ـ مقالتك ، ولو كانت الدّنيا لنا باقية ، وكنّا فيها مخلّدين ، لآثرنا النّهوض معك على الإقامة فيها . ووثب نافع بن الهلال الجملي ، فقال : مَن نكث عهده وخلع بيعته فلنْ يضرّ إلاّ نفسه ، والله مغنٍ عنه . فسر بنا راشداً معافىً ، مشرّقاً إنْ شئتَ وإنْ شئتَ مغرّباً ، فوالله ، ما أشفقنا من قَدر الله ، ولا كرهنا لقاء ربّنا ، وإنّا على نيّاتنا وبصائرنا نوالي مَن والاك ونعادي من عاداك . وقام برير بن خضير ، فقال : والله ، يابن رسول الله ، لقد مَنّ الله بك علينا ؛ أنْ نُقاتل بين يديك وتُقطّع فيك أعضاؤنا ، ثمّ يكون جدّك شفيعنا يوم القيامة .

ثم إنّ الحسين (عليه السّلام) قام وركب ، وكلمّا أراد المسير ، يمنعونه تارة ويسايرونه اُخرى حتّى بلغ كربلاء في اليوم الثاني من المحرّم ، فلمّا وصلها ، قال : (( ما اسم هذه الأرض ؟ )) . فقيل : كربلاء . فقال : (( اللهمَّ ، إنّي أعوذ بك من الكرب والبلاء )) . ثمّ أقبل على أصحابه

______________________

(1) الحذّاء ، بالحاء المهملة والذال المعجمة المشدّدة : النّاقة الخفيفة الذنب ، أو السّريعة الخفيفة ، أو السّريعة الماضية التي لا يتعلّق بها شيء ، أو الرحم التي لمْ تُوصل . فمعنى استمرّت حذّاء : أي لم يبقَ منها إلاّ مثل ذنب الأحذ ، أو حذّاء : سريعة الإدبار ، أو سريعة خفيفة ، أو قد انقطع آخرها كالرحم المقطوعة .  ـ المؤلّف ـ

الصفحة ( 80 )

فقال : (( النّاس عبيد الدّنيا ، والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درّت معايشهم ، فإذا مُحّصوا بالبلاء ، قلّ الديّانون )) . ثمّ قال : (( أهذه كربلاء ؟ )) . قالوا : نعم ، يابن رسول الله . فقال : (( هذا موضع كرب وبلاء . انزلوا ، هاهنا مناخ ركابنا ، ومحطّ رحالنا ، ومقتل رجالنا ، ومسفك دمائنا )) . فنزلوا جميعاً ، ونزل الحُرّ وأصحابه ناحية .

ثم إنّ الحسين (عليه السّلام) جمع ولده وإخوته وأهل بيته ، فنظر إليهم ساعة ثمّ قال : (( اللهمَّ ، إنّا عترة نبيّك محمّد (صلّى الله عليه وآله) ، وقد اُزعجنا وطُردنا واُخرجنا عن حرم جدّنا ، وتعدت بنو اُميّة علينا . اللهمَّ ، فخُذ لنا بحقّنا وانصرنا على القوم الظالمين )) .

هي كربلاءُ فقفْ على عرَصاتِها   ودَعْ الـجفونَ تسحُّ في iiعَبراتِها
سـلْها بأيِّ قِرىً تعاجلتْ الاُولَى   نـزلُوا ضُـيوفاً عند قفرِ 
iiفلاتِها
مـا بـالُها لمْ تَروِهمْ من 
iiمائِها   حتّى تـروَّتْ منْ دِما رَقَباتِها

المجلس الثالث والأربعون

لمّا نزل الحسين بأرض كربلاء ، دعا جوناً مولى أبي ذر الغفاري ، فجعل جون يصلح له سيفه استعداداً للحرب ، والحسين (عليه السّلام) يقول(1) :

يا دهرُ اُفٍّ لك منْ خليلِ   كمْ لك بالإشراقِ والأصيلِ

مِن طالبٍ وصاحبٍ قتيلِ   والدَّهـرُ لا يقـنعُ بالبديلِ

______________________

(1) في بعض الروايات : أنّ الحسين (عليه السّلام) جلس يصلح سيفه ويقول هذه الأبيات ، وفي رواية اُخرى : أنّ المُصلح للسيف هو جون ، وهو الأقرب إلى الاعتبار ؛ فإنّ موالي الحسين (عليه السّلام) وخدمه لم يكونوا ليدعوه يصلح سيفه ويعالجه بيده وهم ينظرون ، والرواية الاُولى اشتباه من قول الراوي : وعنده جون وهو يصلح سيفه ؛ فلذاك اعتمدنا على الرواية الثانية .   ـ المؤلّف ـ

الصفحة ( 81 )

وكلُّ حيٍّ سالكٌ سبيلي   ما أقربَ الوعدَ من الرحيلِ

وإنَّما الأمرُ إلى الجليلِ

فسمعت اُخته زينب بنت فاطمة (عليهما السّلام) ذلك ، فقالت : يا أخي ، هذا كلام مَن أيقن بالقتل ! فقال (عليه السّلام) : (( نعم يا اُختاه )) . فقالت زينب : وآ ثكلاه ! ينعى الحسين إليَّ نفسه ! وبكت النّسوة ، وجعلت اُمّ كلثوم تنادي : وآ محمّداه ! وآ عليّاه ! وآ اُمّاه ! وآ أخاه ! وآ حسيناه ! وآضيعتنا بعدك يا أبا عبد الله ! فعزّاها الحسين (عليه السّلام) ، ثمّ قال : (( يا اُختاه يا اُمّ كلثوم ، وأنت يا زينب ، وأنت يا فاطمة ، وأنت يا رباب ، انظرن إذا أنا قُتلت ، فلا تشققن عليّ جيباً ، ولا تخمشن عليّ وجهاً ، ولا تقلن هجراً )) .

وفي رواية عن زين العابدين (عليه السّلام) : أنّ الحسين (عليه السّلام) قال هذه الأبيات عشيّة اليوم التاسع من المحرّم .

قال علي بن الحسين (عليهما السّلام) : (( إنّي جالس في تلك الليلة التي قُتل أبي في صبيحتها ، وعندي عمّتي زينب تمرّضني ، إذ اعتزل أبي في خباء له وعنده جون مولى أبي ذر الغفاري ، وهو يعالج سيفه ويصلحه ، وأبي ينشد تلك الأبيات ، فأعادها مرّتين أو ثلاثاً حتّى فهمتها وعرفت ما أراد ، فخنقتني العبرة فرددتها ولزمت السكوت ، وعلمت أنّ البلاء قد نزل . وأمّا عمّتي ، فإنّها لمّا سمعتْ ما سمعتُ ـ وهي امرأة ، ومن شأن النّساء الرقّة والجزع ـ لم تملك نفسها أنْ وثبتْ تجرّ ثوبها حتّى انتهت إليه ، و نادت : وآ ثكلاه ! ليت الموت أعدمني الحياة ، اليوم ماتت اُمّي فاطمة وأبي علي وأخي الحسن ، يا خليفة الماضي وثمال الباقي ! فنظر إليها الحسين (عليه السّلام) ، وقال : يا اُخيّه ، لا يذهبنّ حلمك الشيطان . فقالت : بأبي واُمّي ! أتستقل ؟! نفسي لك الفداء . فردت عليه غصّته ، وترقرقت عيناه بالدموع ، ثمّ قال : لو تُرك القطا ليلاً لنام . فقالت : يا ويلتاه ! أفتغتصب نفسك اغتصاباً ، فذلك أقرح لقلبي وأشدّ على نفسي ؟! وخرّت مغشيّة عليها ، فقام إليها الحسين (عليه السّلام) فصبّ على وجهها الماء حتّى أفاقت ، فقال لها الحسين (عليه السلام) : يا اُختاه ، تعزَّي بعزاء الله ؛ فإنّ سكّان السّماوات يفنون ، وأهل الأرض كلّهم يموتون ، وجميع البريّة يهلكون ، وكلّ شيء هالكٌ إلاّ وجهه الذي خلق بقدرته ، ويبعث


الصفحة ( 82 )

الخلق ويعيدهم وهو فرد وحده . جدّي خيرٌ منّي ، وأبي خيرٌ منّي ، واُمّي خيرٌ منّي ، وأخي خيرٌ منّي ، و لي ولكلّ مسلم برسول الله (صلّى الله عليه وآله) اُسوة . ثمّ قال لها : يا اُختاه ، إنّي أقسمت عليك فأبرّي قسمي ، لا تشقّي عليّ جيباً ، ولا تخمشي عليّ وجهاً ، ولا تدعي عليّ بالويل والثبور إذا أنا هلكت )) .

اُخـتُ يـا زينبُ iiاُوْ   صيكِ وصايَا iiفاسمعي
إنّـنيْ فـي هذهِ 
iiالْـ   أرضِ مُلاقٍ مصرعي
فانظُمي حالَ 
iiاليتامَى   بـعد فقْدي iiواجمَعي
واصْبري فالصَّبرُ 
iiمنْ   خـِيمِ كـرامِ المَنزعِ
كــلُّ حـيٍّ سـيُنَحْـ   ـحِيـهِ عن الأحياءِ حَينْ
واجمَعي شملَ 
iiاليتامَى   بـعدَ فـَقدي وانظُمِي
أطْعمِي مَن جاعَ 
iiمنهُمْ   ثمّ روِّي مَـن ظَمِي
واعـلَمِي أنـِّيَ فـيْ   حـفظِهمُ طُـلَّ 
iiدمِي
لـيـتَـني 
iiبـيـنهُمُ   كالأنفِ بين iiالحاجبَينْ

المجلس الرابع والأربعون

لمّا بلغ عبيد الله بن زياد نزول الحسين (عليه السّلام) بكربلاء ، ندب عمر بن سعد بن أبي وقّاص لقتاله ، وكان قد ولاّه الرَّي ، فاستعفاه من قتال الحسين (عليه السّلام) ، فقال : نعم ، على أنْ تردَّ علينا عهدنا بولاية الرَّي . فشاور عمر نُصحاءه فنهوه عن ذلك ، فلمْ يقبل واختار الدّنيا على الآخرة .

وسار ابن سعد لقتال الحسين (عليه السّلام) ومعه أربعة آلاف ، وما زال ابن زياد يمدّه بالعساكر حتّى تكمّل عنده عشرون ألف فارس لستِّ ليال خلون من المحرّم ، وأتبعه ببقيّة العسكر فكمُل عنده ثلاثون ألفاً ، وأرسل ابن سعد إلى الحسين (عليه السّلام) رسولاً يسأله ما الذي جاء به ، فقال


الصفحة ( 83 )

له الحسين (عليه السّلام) : (( كتب إليّ أهل مصركم هذا أنْ اقدم ، فأمّا إذا كرهتموني ، فإنّي أنصرف عنكم )) . فانصرف إلى ابن سعد فأخبره ، فقال : أرجو أنْ يعافيني الله من أمره . وكتب إلى ابن زياد بذلك ، فلمّا قرأ الكتاب قال :

الآنَ إذْ عَلَقتْ مخالبُنا بهِ   يرجُو النَّجاةَ ولاتَ حينَ مناصِ

ثم كتب إلى ابن سعد : أنْ أعرض على الحسين أنْ يبايع ليزيد هو وجميع أصحابه ، فإذا هو فعل ذلك رأينا رأْينا . فقال ابن سعد : قد خشيتُ أنْ لا يقبل ابن زياد العافية .

وورد كتاب ابن زياد في الأثر إلى ابن سعد : أنْ حِل بين الحسين وأصحابه وبين الماء ، فلا يذوقوا منه قطرة كما صُنع بالتقي الزكي عثمان بن عفّان . فبعث عمر في الوقت عمرو بن الحجّاج الزبيدي في خمسمئة فارس فنزلوا على الشريعة ، وحالوا بين الحسين (عليه السّلام) وأصحابه وبين الماء ، فمنعوهم أنْ يستقوا منه قطرة ، وذلك قبل قتل الحسين (عليه السّلام) بثلاثة أيام .

وجاء تميم بن الحُصين الفزاري ، فنادى : يا حسين ، ويا أصحاب الحسين ، أما ترون ماء الفرات يلوح كأنّه بطون الحيّات ؟ والله ، لا ذقتم منه قطرة حتّى تذوقوا الموت جرعاً .

منعـُوهُ مـنْ مـاءِ الفـُراتِ ووردِهِ   وأبوهُ ساقِي الحوْضِ يومَ جزاءِ

حتّى قضَى عَطشاً كما اشتَهتْ العِدى   بأكـفِّ لا صِيـدٍ ولا أكـفاءِ

المجلس الخامس والأربعون

لمّا ضيّق القوم على الحسين (عليه السّلام) حتّى نال منه العطش ومن أصحابه ، قال له برير بن خضير الهمداني : يابن رسول الله ، أتأذن لي أنْ أخرج إلى القوم ؟ فأذن له فخرج إليهم ، فقال : يا معشر النّاس ، إنّ الله عزّ وجلّ بعث محمّداً بالحقّ بشيراً ونذيراً ، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً ، وهذا ماء الفرات تقع فيه خنازير السّواد وكلابه ، وقد حيل بينه وبين ابنه . فقالوا : يا برير ، قد أكثرت الكلام فاكفف ، والله ،


الصفحة ( 84 )

ليعطش الحسين كما عطش مَن كان قبله . فقال الحسين (عليه السّلام) : (( اقعد يا برير )) . ثمّ وثب الحسين (عليه السّلام) متوكّئاً على قائم سيفه ، ونادى بأعلى صوته فقال : (( اُنشدكم الله ، هل تعرفونني ؟ )) . قالوا : نعم ، أنت ابن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وسبطه . قال : (( اُنشدكم الله ، هل تعلمون أنّ جدّي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ؟ )) . قالوا : اللهمَّ نعم . قال : (( اُنشدكم الله ، هل تعلمون أنّ اُمّي فاطمة بنت محمّد (صلّى الله عليه وآله) ؟ )) . قالوا : اللهمَّ نعم . قال : (( اُنشدكم الله ، هل تعلمون أنّ أبي علي بن أبي طالب (عليه السّلام) ؟ )) . قالوا : اللهمَّ نعم . قال : (( اُنشدكم الله ، هل تعلمون أنّ جدّتي خديجة بنت خويلد أول نساء هذه الاُمّة إسلاماً ؟ )) . قالوا : اللهمَّ نعم . قال : (( اُنشدكم الله ، هل تعلمون أنّ سيّد الشهداء حمزة عمّ أبي ؟ )) . قالوا : اللهمَّ نعم . قال : (( اُنشدكم الله ، هل تعلمون أنّ الطيّار في الجنّة عمّي ؟ )) . قالوا : اللهمَّ نعم . قال : (( فاُنشدكم الله ، هل تعلمون أنّ هذا سيف رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنا متقلّده ؟ )) . قالوا : اللهمَّ نعم . قال : (( اُنشدكم الله ، هل تعلمون أنّ هذه عمامة رسول الله أنا لابسها ؟ )) . قالوا : اللهمَّ نعم . قال : (( اُنشدكم الله ، هل تعلمون أنّ عليّاً أول القوم إسلاماً وأعلمهم علماً وأعظمهم حلماً ، وأنّه وليّ كلّ مؤمن ومؤمنة ؟ )) . قالوا : اللهمَّ نعم . قال : (( فبِمَ تستحلّون دمي وأبي الذائد عن الحوض ، يذود عنه رجالاً كما يُذاد البعير الصاد(1) عن الماء ، ولواء الحمد في يد أبي

______________________

(1) قال الزمخشري في الفائق : قال النبي (صلّى الله عليه وآله) لعلي (عليه السّلام) : (( أنت الذائد عن حوضي يوم القيامة ، تذود عنه الرجال كما يُذاد البعير الصاد )) .
الصاد ( بلفظ حرف الهجاء ) : أصله الصَّيد ( بكسر الياء ) فقُلبت ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها : وهو الذي به داء الصَّيد ، وهو داءٌ يأخذ في رأس البعير لا يقدر منه أنْ يلوي عُنقه وبه شُبّه المتكبّر ، فقيل : أصيد ـ كذا يُفهَم من الفائق ـ . قال : ويجوز أنْ يروى بكسر الدال ويكون فاعلاً من الصدى ، وهو العطش ـ اهـ ـ .
وفيه : أنّ الصَّادي لا يُذاد عن الماء عادة بل يُسقى ، وفي القاموس : الصاد والصَّيد ( بالكسر ويحرّك ) : داء يصيب الإبل فتسيل اُنوفها فتسمو برأسها . وبعير صاد : أي ذو صاد ، والصَّاد : عرق بين عينَي البعير ومنه يصيبه الصَّيد ـ اهـ ـ وإنّما يُذاد لئلاّ يعدي غيره ، أو لأنّ الماء يضرّه . وبعض يقولها : الصادر ، وهو خطأ مخالف للرواية مع أنّ الصادر لا يحتاج إلى الذياد .   ـ المؤلّف ـ

الصفحة ( 85 )

يوم القيامة ؟! )) . قالوا : علمنا ذلك كلّه ، ونحن غير تاركيك حتّى تذوق الموت عطشاً .

فلمّا خطب هذه الخطبة وسمعت بناته واُخته زينب كلامه ، بكين وارتفعت أصواتهن ، فوجّه إليهنّ أخاه العبّاس وعليّاً ابنه ، وقال لهما : (( سكّتاهن ، فلعمري ليكثرن بكاؤهن )) .

يرى الفُراتَ ولا يحْظَى بموردِهِ   ليتَ الفراتَ غدا منْ بعدهِ يَبسَا

تحوطُهُ من بني عدنانَ أغلمةٌ   بيضُ الوجوهِ كرامٌ سادةٌ رُؤسا

المجلس السّادس والأربعون

لمّا رأى الحسين (عليه السّلام) نزول العسكر مع عمر بن سعد بنينوى ومددهم لقتاله ، أنفذ إلى عمر بن سعد : (( إنّي اُريد أنْ ألقاك ليلاً )) . فاجتمعا ليلاً بين العسكرين وتناجيا طويلاً ، ثمّ كتب عمر إلى ابن زياد : أمّا بعد ، فإنّ الله تعالى قد أطفأ النائرة وجمع الكلمة وأصلح أمر الاُمّة ؛ هذا الحسين قد أعطاني أنْ يرجع إلى المكان الذي منه أتى ، أو أنْ يسير إلى ثغر من الثغور فيكون رجلاً من المسلمين ، له ما لهم وعليه ما عليهم ، أو أنْ يأتي أمير المؤمنين يزيد فيضع يده في يده فيرى فيما بينه وبينه رأيه ، وفي هذا لك رضىً وللاُمّة صلاح .

وعن عقبة بن سمعان أنّه قال : والله ، ما أعطاهم الحسين (عليه السّلام) أنْ يضع يده في يد يزيد ، ولا أنْ يسير إلى ثغر من الثغور ، ولكنّه قال : (( دعوني أرجع إلى المكان الذي أقبلت منه ، أو أذهب في هذه الأرض العريضة )) .

فلمّا قرأ ابن زياد الكتاب ، قال : هذا كتاب ناصح لأميره ، مشفق على قومه . فقام شمر(1) بن ذي الجوشن وقال : أتقبل هذا منه وقد نزل بأرضك وإلى جنبك ؟! والله ، لئن رحل من بلادك ولم يضع يده في

______________________

(1) شَمِرْ كـ ( كَتِفْ ) ، والعامّة تلفظ بالكسر فالسكون ، والظاهر أنّه غلط .   ـ المؤلّف ـ

الصفحة ( 86 )

يدك ، ليكوننّ أولى بالقوّة والعزّة ولتكوننّ أولى بالضعف والعجز ، ولكن لينزل على حُكمك هو وأصحابه ، فإنْ عاقبت فأنت أولى بالعقوبة ، وإنْ عفوت كان ذلك لك . فقال له ابن زياد : نِعم ما رأيت ! الرأي رأيك ، اخرج بهذا الكتاب إلى عمر بن سعد فليعرض على الحسين وأصحابه النّزول على حكمي ، فإذا فعلوا فليبعث بهم إليّ سلماً ، وإنْ أبوا فليقاتلهم ، فإنْ فعل فاسمع له وأطع ، وإنْ أبى فأنت أمير الجيش ، فاضرب عنقه وابعث إليّ برأسه .

وكتب إلى ابن سعد : إنّي لم أبعثك إلى الحسين لتكفّ عنه ، ولا لتطاوله ، ولا لتمنّيه السّلامة والبقاء ، ولا لتعتذر عنه ، ولا لتكون له عندي شافعاً ، انظر فإنْ نزل الحسين وأصحابه على حُكمي واستسلموا فابعث بهم إليّ سِلماً ، وإنْ أبوا فازحف إليهم حتّى تقتلهم وتُمثّل بهم ؛ فإنّهم لذلك مُستحقّون . فإنْ قتلت الحسين فأوطئ بالخيل صدره وظهره ؛ فإنّه عاقّ شاقّ ظلوم ، ولستُ أرى أنّ هذا يضرّ بعد الموت شيئاً ، ولكن عليّ قولٌ قد قلتُه : لو قد قتلتُه لفعلتُ هذا به . فإنْ أنت مضيت لأمرنا جزيناك جزاء السّامع المطيع ، وإنْ أبيت فاعتزل عملنا وجُندنا ، وخلّ بين شمر بن ذي الجوشن وبين العسكر ، فإنّا قد أمّرناه بأمرنا ، والسّلام .

فلمّا قرأ ابن سعد الكتاب ، قال له : ما لك ويلك ! لا قرّب الله دارك ، وقبّح الله ما قدمت به عليّ . والله ، إنّي لأظنّك أنت الذي نهيته أنْ يقبل ما كتبتُ به إليه ، وأفسدت علينا أمراً كنّا قد رجونا أنْ يصلح . لا يستسلم والله ، حسين ؛ إنّ نفس أبيه لَبين جنبيه . فقال له شمر : أخبرني بما أنت صانع ، أتمضي لأمر أميرك وتُقاتل عدوّه ، وإلاّ فخلّ بيني وبين الجند والعسكر ؟ قال : لا ، ولا كرامة لك ، ولكن أنا أتولّى ذلك دونك ، فكُنْ أنت على الرجّالة .

سامَوهُ أنْ يـردَ الهوانَ أو المنيـْ  ـيَة والمسوَّدُ لا يكون مَسودَا

فانصاعَ لا يعْـبَأ بهمْ عن عدّةٍ   كـثُرتْ عليه ولا يخافُ عديدَا

* * *


الصفحة ( 87 )

المجلس السّابع والأربعون

لمّا كان اليوم التاسع من المحرّم ، جاء شمر حتّى وقف على أصحاب الحسين (عليه السّلام) فقال : أين بنو اُختنا ؟ يعني العبّاس وجعفر وعبد الله وعثمان أبناء علي (عليه السّلام) . فقال الحسين (عليه السّلام) : (( أجيبوه وإنْ كان فاسقاً ؛ فإنّه بعضُ أخوالكم )) : وذلك إنّ اُمّهم كانت من عشيرته . فقالوا له : ما تريد ؟ فقال لهم : أنتم يا بني اُختي آمنون ، فلا تقتلوا أنفسكم مع أخيكم الحسين ، والزموا طاعة يزيد . فقالوا له : لعنك الله ولعن أمانك ، أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له ؟!

وفي رواية : فناداه العبّاس بن أمير المؤمنين (عليهما السّلام) : تبّت يداك ولُعن ما جئتنا به من أمانك يا عدوّ الله ، أتأمرنا أنْ نترك أخانا وسيّدنا الحسين بن فاطمة ، وندخل في طاعة اللعناء وأولاد اللعناء ؟! فرجع شمر إلى عسكره مغضباً .

ثم نادى عمر بن سعد : يا خيل الله اركبي وبالجنّة أبشري . فركب النّاس خيولهم ، ثمّ زحف نحوهم بعد العصر ، والحسين (عليه السّلام) جالس أمام بيته محتب بسيفه إذ خفق برأسه على ركبته ، فسمعت اُخته زينب الضجّة ، فدنت من أخيها ، فقالت : يا أخي ، أما تسمع هذه الأصوات قد اقتربت ؟ فرفع الحسين (عليه السّلام) رأسه ، فقال : (( إنّي رأيت السّاعة جدّي محمّداً وأبي علياً واُمّي فاطمة وأخي الحسن ، وهم يقولون : يا حسين إنّك رائح إلينا عن قريب )) .

وقال له العبّاس : يا أخي ، أتاك القوم . فنهض ثمّ قال (عليه السّلام) : (( يا عبّاس ، اركب بنفسك أنت حتّى تلقاهم وتقول لهم : ما بالكم ؟ وما بدا لكم ؟ )) . فأتاهم في نحو عشرين فارساً فيهم زهير بن القَين وحبيب بن مظاهر ، فسألهم فقالوا : قد جاء أمر الأمير أنْ نعرض عليكم أنْ تنزلوا على حكمه أو نناجزكم . قال : فلا تعجلوا حتّى أرجع إلى أبي عبد الله فأعرض عليه ما ذكرتم . فلمّا أخبره العبّاس بقولهم ، قال له : (( ارجع إليهم ، فإنْ استطعت أنْ تؤخّرهم إلى غدوة وتدفعهم عنّا العشيّة لعلّنا نصلّي لربّنا الليلة وندعوه ونستغفره ؛ فهو يعلم أنّي كنت اُحبّ الصّلاة له ، وتلاوة كتابه ، وكثرة


الصفحة ( 88 )

الدعاء والإستغفار )) . فسألهم العبّاس ذلك ، فتوقّف ابن سعد ، فقال له عمر بن الحجّاج الزبيدي : سبحان الله ! والله ، لو أنّهم من التُرك أو الدّيلم وسألونا مثل ذلك لأجبناهم ، فكيف وهم آل محمّد ! فأجابوهم لذلك .

وفتيةٍ منْ رجالِ اللهِ قدْ صَبَروا   على الجلادِ وعانَوا كلَّ محذورِ

حتّى تـراءتْ لهُمْ عدنٌ بزينتِها   مآتماً كُـنَّ عُرْسَ الخُرَّدِ الحُورِ

المجلس الثامن والأربعون

لمّا كانت ليلة العاشر من المحرّم ، جمع الحسين أصحابه عند قرب المساء ، قال علي بن الحسين (عليهما السّلام) : (( فدنوت منه لأسمع ما يقول لهم ـ وأنا إذ ذاك مريض ـ فسمعت أبي يقول لأصحابه : أثني على الله أحسن الثناء ، وأحمده على السرّاء والضرّاء . اللهمَّ ، إنّي أحمدك على أنْ أكرمتنا بالنبوّة ، وعلّمتنا القرآن ، وفقّهتنا في الدّين ، وجعلت لنا أسماعاً وأبصاراً وأفئدة ، فاجعلنا لك من الشاكرين . أمّا بعد ، فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي ، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي ، فجزاكم الله عنّي خيراً ، ألا وإنّي لأظنّ يوماً لنا من هؤلاء القوم ، ألا وإنّي قد أذنتُ لكم فانطلقوا جميعاً في حلّ ليس عليكم منّي ذمام ، وهذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملاً ، وليأخذ كلّ واحدٍ منكم بيد رجلٍ من أهل بيتي وتفرّقوا في سواد هذا الليل ، وذروني وهؤلاء القوم ؛ فإنّهم لا يريدون غيري )) .

فقال له إخوته وأبناؤه وبنو أخيه وأبناء عبد الله بن جعفر : ولِم نفعل ذلك ؟! لنبقى بعدك ! لا أرانا الله ذلك أبداً . بدأهم بهذا القول العبّاس بن أمير المؤمنين وأتبعه الجماعة عليه فتكلّموا بمثله ونحوه .

ثم نظر إلى بني عقيل ، فقال : (( حسبُكم من القتل بصاحبكم مسلم ، اذهبوا فقد أذنتُ لكم )) . قالوا : سبحان الله ! فما يقول النّاس لنا وماذا نقول لهم ؟! إنّا تركنا شيخنا وسيّدنا وبني عمومتنا خير الأعمام ، ولمْ نرمِ معهم بسهم ، ولمْ نطعن


الصفحة ( 89 )

معهم برُمح ، ولمْ نضرب معهم بسيف ، ولا ندري ما صنعوا ! لا والله ، ما نفعل ، ولكنّا نفديك بأنفسنا وأموالنا وأهلينا ، ونُقاتل معك حتّى نرد موردك ، فقبّح الله العيش بعدك .

وقام إليه مسلم بن عوسجة الأسدي ، فقال : أنحن نخلّي عنك وقد أحاط بك هذا العدوّ ؟! وبِم نعتذر إلى الله في أداء حقّك ؟! لا والله ، لا يراني الله أبداً وأنا أفعل ذلك حتّى أكسر في صدورهم رمحي ، واُضاربهم بسيفي ما ثبت قائمه بيدي ، ولو لمْ يكن معي سلاح اُقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة ، ولمْ اُفارقك أو أموت معك . وقام سعيد بن عبد الله الحنفي ، فقال : لا والله يابن رسول الله ، لا نخلّيك أبداً حتّى يعلم الله أنّا حفظنا فيك وصيّة رسوله محمّد (صلّى الله عليه وآله) . والله ، لو علمت أنّي اُقتل فيك ثمّ اُحيا ، ثمّ اُحرق حيّاً ثمّ اُذرّى ، يُفعل فيَّ ذلك سبعين مرّة ، ما فارقتك حتّى ألقى حمامي دونك ، وكيف لا أفعل ذلك وإنّما هي قتلة واحدة ، ثمّ أنال الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً ؟! وقام زهير بن القَين ، وقال : والله يابن رسول الله ، لوددت أنّي قُتلت ثمّ نُشرت ألف مرّة وأنّ الله تعالى يدفع بذلك القتل عن نفسك ، وعن أنفس هولاء الفتيان من إخوانك وولدك وأهل بيتك . وتكلّم جماعة أصحابه بكلام يشبه بعضه بعضاً ، وقالوا : أنفسنا لك الفداء ! نقيك بأيدينا ووجوهنا ، فإذا نحن قُتلنا بين يديك ، نكون قد وفّينا لربّنا وقضينا ما علينا .

ووصل خبر إلى محمّد بن بشير الحضرمي في تلك الحال بأنّ ابنه قد اُسر بثغر الرّي ، فقال : عند الله أحتسبه ونفسي ، ما كنتُ اُحبّ أنْ يُؤسر وأبقى بعده . فسمع الحسين (عليه السّلام) قوله ، فقال : (( رحمك الله ، أنت في حلّ من بيعتي ، فاعمل في فكاك ابنك )) . فقال : أكلتني السّباع حيّاً إنْ فارقتك . قال : (( فأعطِ ابنك هذا هذه الأثواب البُرود يستعين بها في فداء أخيه )) . فأعطاه خمسة أثواب بُرود قيمتها ألف دينار ، فحملها مع ولده .

أبتْ الحميّةُ أنْ تُفارقَ أهلَهَا   وأبَى العزيزُ بأنْ يعيشَ ذليلا

وأقام الحسين (عليه السّلام) وأصحابه الليل كلّه وهم يصلّون ويستغفرون ، ويدعون ويتضرّعون ، وباتوا ولهم دويّ كدويّ النّحل ما بين راكع وساجد ، وقائم وقاعد .


الصفحة ( 90 )

سمـةُ العبيدِ من الخشوعِ عليهمُ   لله إنْ ضمّـتْهُمُ الأسحارُ

فإذا ترجّلتِ الضُّحى شَهدتْ لهُمْ   بيضُ القواضبِ أنّهمْ أحرارُ

فعبر إليهم في تلك الليلة من عسكر ابن سعد اثنان وثلاثون رجلاً ، فلمّا كان وقت السّحر خفق الحسين (عليه السّلام) برأسه خفقة ثمّ استيقظ ، فقال : (( رأيت كأنّ كلاباً قد شهدت لتنهشني ، وفيها كلب أبقع رأيته أشدّها عليّ ، وأظنّ أنّ الذي يتولّى قَتلي رجل أبرص . ثمّ إنّي رأيت جدّي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ومعه جماعة من أصحابه وهو يقول : يا بُني ، أنت شهيد آل محمّد ، وقد استبشر بك أهل السّماوات وأهل الصفيح الأعلى . . . ))(1) .

إيهٍ مصارعَ كربلا كَمْ غصّةٍ   جرّعـتِ آلَ محمّد كُرُباتـِها

وافـتْكِ رايةُ سِبطهِ منشورةً   فطويتِها وحَطَمتِ صدرَ قناتِها

المجلس التاسع والأربعون

لمّا أصبح الحسين (عليه السّلام) يوم عاشوراء ، عبّأ أصحابه للقتال ، وكانوا اثنين وثلاثين فارساً وأربعين راجلاً ، فجعل زهير بن القَين في الميمنة ، وحبيب بن مظاهر في الميسرة ، وأعطى الراية العبّاس أخاه ، وأمر الحسين (عليه السّلام) بفسطاط فضُرب ، وأمر بجفنة فيها مسك كثير وجعل عندها نورة ، ثمّ دخل ليطلي .

فروي أنّ بُرير بن خضير الهمداني وعبد الرحمن بن عبد ربّه الأنصاري وقفا على باب

______________________

(1) اذا وجد القارئ المجال متّسعاً ، وأراد أنْ يضمّ إلى هذا المجلس ما تقدّم في المجلس الثالث والأربعين من قوله : ( قال علي بن الحسين (عليه السلام) : إنّي لجالس . . . إلى آخره ) فلا مانع . وإذا وصل إلى قوله : ( وأبي ينشد تلك الأبيات ) ، فليقل بَدَله : ( وأبي يقول : يا دهرُ أفٍّ لك منْ خليلِ ) إلى آخر الأبيات والحديث .   ـ المؤلّف ـ

الصفحة ( 91 )

الفسطاط ليطليا بعده ، فجعل بُرير يُضاحك عبد الرحمن ، فقال له عبد الرحمن : يا بُرير ، ما هذه ساعة باطل ! فقال بُرير : لقد علم قومي أنّي ما أحببت الباطل كهلاً ولا شابّا ، وإنّما أفعل ذلك استبشاراً بما نصير إليه .

قال علي بن الحسين (عليه السلام) : (( لمّا صبحت الخيل الحسين (عليه السلام) ، رفع يديه وقال : اللهمَّ ، أنت ثقتي في كلّ كرب ، وأنت رجائي في كلّ شدّة ، وأنت لي في كلّ أمر نزلَ بي ثقة وعدّة . كم من كرب يضعف فيه الفؤاد وتقلّ فيه الحيلة ، ويخذل فيه الصّديق ويشمت فيه العدوّ أنزلته بك وشكوتُه إليك ؛ رغبةً منّي إليك عمّن سواك ، ففرّجتَه عنّي و كشفتَه ، فأنت وليّ كلّ نعمة وصاحب كلّ حسَنَة ومُنتهى كلّ رغبة )) .

وقُرّب إلى الحسين (عليه السّلام) فرسه ، فاستوى عليه وتقدّم نحو القوم في نفر من أصحابه ، وبين يديه بُرير بن خضير ، فقال له الحسين (عليه السلام) : (( كلّم القوم )) . فتقدّم بُرير فقال : يا قوم ، اتّقوا الله فإنّ ثقل محمّد (صلّى الله عليه وآله) قد أصبح بين أظهركم ، هؤلاء ذرّيّته وعترته وبناته وحرمه ، فهاتوا ما عندكم وما الذي تريدون أنْ تصنعوه بهم ؟ فقالوا : نريد أنْ نمكّن منهم الأمير ابن زياد فيرى رأيه فيهم . فقال لهم برير : أنسيتم كتبكم وعهودكم التي أعطيتموها وأشهدتم الله عليها ؟ يا ويلكم ! أدعوتم أهل بيت نبيّكم وزعمتم أنّكم تقتلون أنفسكم دونهم ، حتّى إذا أتَوكم أسلمتموهم وحلأتموهم عن ماء الفرات ، بئس ما خلّفتم نبيّكم في ذرّيّته ! ما لكم لا سقاكم الله يوم القيامة ، فبئس القوم أنتم ! فقال له نفر منهم : يا هذا ، ما ندري ما تقول .

وقال بُرير : الحمد لله الذي زادني فيكم بصيرة . اللهمَّ ، إنّي أبرأ إليك من فعال هؤلاء القوم . اللهمَّ ، ألقِ بأسهم بينهم حتّى يلقوك وأنت عليهم غضبان . فجعل القوم يرمونه بالسّهام ، فرجع إلى ورائه .

قسَتْ القلوبُ فلمْ تَملْ لهدايةٍ   تبّاً لهاتيكَ القُلوبِ القاسيَهْ

* * *

* * *

 
الصفحة السابقةالفهرسالصفحة اللاحقة

 

طباعة الصفحةبحث