الصفحة (116)
المجلس السّابع والثمانون بعد المئة
روى المُرزُباني : أنّ عبد الله بن العبّاس ـ رضي الله عنه
ـ مرّ بمكّة ـ بعدما كُفّ
بصره ـ بصفة زمزم ، وإذا قوم من أهل الشام يسبّون عليّاً (عليه
السّلام) ، فوقف
عليهم ، فقال : أيّكم السّاب الله ؟ قالوا : سبحان الله ! ما فينا أحد سبّ الله
. قال : فأيّكم السّاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ؟ قالوا : سبحان الله ! ما
فينا أحد سبّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) . قال : فأيّكم السّاب علي بن
أبي طالب (عليه السّلام) ؟ قالوا : أمّا هذا فقد كان . قال : أشهد على رسول
الله (صلّى الله عليه وآله) لسمعتُه يقول : (( مَن سبّ عليّاً فقد سبّني
، ومَن سبّني
فقد سبّ الله ، ومَن سبّ الله أكبّه الله على منخره في نار جهنّم ))
. ثمّ توّلى
عنهم . فقال لابنه : كيف تراهم ؟ فقال له ابنه :
نَظَرُوا إليك بأعْينٍ مُحمرَّةٍ نظرَ التّيوسِ
إلى شفارِ الجازِرِ
فقال لابنه : زدني . فقال :
خزرُ العُيونِ نواكسٌ أبصارُهُمْ
نظًرُ الذَّليلِ إلى العزيزِ القاهِرِ
فقال له : زدني . فقال : ليس عندي زيادة .
فقال عبد الله :
أحياؤُهُمْ عارٌ على أمواتِهمْ والميِّتونَ مسبَّةٌ للغابِرِ
وكان ابن عباس ـ رحمه الله ـ مبرّزاً في الفقه والتفسير
، والشعر والأنساب ، وأيام العرب ووقائعها ، وكان يُسمّى الحَبْر ؛ لكثرة علمه
، وكان فصيحاً قوي
الحُجّة ، ثابت الجنان ، وله مواقف مشهورة في ذلك مع معاوية وعبد الله بن
الزّبير وعائشة ، ومع الخوارج وغيرهم ، وشهد مع أمير المؤمنين (عليه
السّلام) حروب الجمل وصفّين والنّهروان . وأراد علي (عليه السّلام)
الصفحة (117)
أنْ يختاره يوم الحكمين ، فلمْ يمكّنه أهل العراق من ذلك
. ونظر
إليه
معاوية يوماً ، وهو يتكلم ، فقال : متمثّلاً :
إذا قالَ لَمْ يتْـرُكْ مقـالاً لقائلٍ
مُصيبٍ ولَمْ يَثنِ اللّسانَ على هُجرِ
يُصرِّفُ بالقولِ اللّسانَ إذا انْتَحَى
وينظرُ في أعْطَافِهِ نَظَـرَ الصَّقْـرِ
وكُفّ بصره في آخر عمره ، فقال :
إنْ يأخـذْ اللهُ منْ عينيَّ نُورَهُمَا
ففي لسانِـي وقَلبِـي منهُما نُورُ
قلبِي ذكيٌّ وعقلي غيرُ ذي دَخَلٍ
وفي فمي صارمٌ كالسَّيفِ مأثُورُ
وهو الذي كتب إلى يزيد بن معاوية ـ بعد قتل الحسين
(عليه السّلام)
ـ ذلك
الكتاب العظيم ، وذلك أنّ عبد الله بن الزّبير ـ بعد قتل الحسين (عليه
السّلام) ـ دعا ابن عبّاس
إلى بيعته ، فامتنع ، فظنّ يزيد أنّ امتناعه تمسك منه
ببيعته ، فكتب إليه كتاباً يشكره فيه على ذلك ، ويَعده البرّ والصلة .
فأجابه ابن عبّاس بكتاب يقول فيه : أتراني ناسياً لك
قتل الحسين بن علي (عليهما السّلام) وفتيان بني عبد المطلب ، مضرَّجين بالدماء ، مسلوبين
بالعراء ، تسفي عليهم
الرياح وتنتابهم الذئاب والضّباع حتّى أتاح الله لهم قوماً أجنوهم .
ومهما نسيتُ فما أنسى لك طرد الحسين (عليه السّلام) من حرم الله ، وكتابك إلى ابن مرجانة أنْ يتلّقاه بالجيوش طمعاً في قتله . وإنّي لأرجو أنْ يأخذك الله حين قتلت ذرّيّة
نبيّه (صلّى الله عليه وآله) ، [ الذين ] أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً ، لا
كآبائك الأجلاف الجفاة ، أشباه الحمير . فطلب إليكم الحسين (عليه
السّلام) الموادعة
، فاغتنمتم قلّة أنصاره وأعوانه ، فتعاونتم عليه كأنّكم قتلتم أهل بيتٍ من
التُرك .
ولا شيء أعجب عندي من طلبك وُدّي وقد قتلتَ وُلدَ أبي ،
وسيفك يقطر من دمي ، وأنت أحد ثأري ! فإنْ شاء الله لا يُطلّ لديك دمي
، ولا
الصفحة
(118)
تسبقني بثأري ، وإنْ سبقتني في الدّنيا فقبل ذلك ما
قُتل النبيّون وأبناء النبيّين ، والله الطالب بدمائهم ، وكفى بالله
للمظلومين ناصراً ، ومن الظالمين منتقماً .
إلى أنْ قال : ألا وإنّ من أعجب
العجب ، وما عسى أنْ أعجب ، حملك آل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأطفالاً صغاراً من
ولده إليك إلى الشام كالاُسارى المجلوبين ، تُري الأوباش ومَن خرج عن
ملّة جدّهم (صلّى الله عليه وآله) أنّك قهرتنا وأنك تمنّ علينا ، وبنا مَنّ الله عليك
وعلى أبيك ! ولَعمر الله ، لئن تُصبح آمناً من
جراحة يدي فقد عظّم الله جرحك من لساني ، ونقضي وإبرامي . والله
، ما أنا بآيس من بعد قتلك عترة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنْ يأخذك
الله أخذاً أليماً ، ويُخرجك من الدّنيا مذموماً مدحوراً ، فعش لا أباً لك ما استطعت
،
فقد والله ، أرداك ما اقترفت ، والسّلام على من اتّبع الهدى .
إذا مـا ابنُ عبّاسٍ بدَا لكَ iiوجهُهُ رأيـتَ لهُ في
كلِّ أحوالِهِ iiفَضْلا
إذا قـالَ لـمْ يـتْرُكْ مقالاً iiلقائلٍ بـمُنتظماتٍ لا ترَى بينَها iiفَصْلا
كفَى وشفَى ما في النُّفوسِ فلَمْ يدعَْ لذي إربةٍ في القولِ جدَّاً iiولا هَزْلا
* * *
المجلس الثامن والثمانون بعد المئة
قال الله تعالى في كتابه العزيز :
(
إِنّمَا
يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ
وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً )(1)
.
قال السّيوطي في كتاب الدرّ المنثور في تفسير كتاب
الله بالمأثور : أخرج ابن جَرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني
، وابن مردويه
، عن اُمّ سلمة ـ زوج النّبي (صلّى الله عليه وآله) ـ أنّ رسول الله
(صلّى الله عليه وآله) كان ببيتها على
منامة له ، عليه كساء خيبري ، فجاءت فاطمة ببرمة(2)
________________________
(1) سورة الأحزاب / 32 .
(2) أي : إناء مخصوص .
الصفحة
(119)
فيها خزيرة(1) .
وفي رواية للطبراني : جاءت فاطمة (عليها السّلام) إلى أبيها بثريدة
تحملها في طبق لها حتّى وضعتها بين يديه ، فقال (صلّى الله عليه وآله) لها : (( أين
ابنُ عمِّك ؟ )) . قالت :
(( هو في البيت )) . قال (صلّى الله عليه
وآله) :
(( اذهبي ، فادعيه وابنيك حسناً وحسيناً ))
.
فجاءت تقود ابناها ، كلّ واحد منهما في يد ، وعليٌّ يمشي في
إثرهما حتّى دخلوا على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، فاجلسهما في حجره ، وجلس
علي (عليه السّلام) عن يمينه ، وجلست فاطمة (عليها السّلام) عن يساره . فبينما
هم يأكلون ، إذ نزلت على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : (
إِنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ
وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً )(2)
. فأخذ النّبي (صلّى الله عليه وآله) بفضلة إزاره فغشاهم إيّاها ، ثمّ أخرج يده من
الكساء وأومأ بها إلى السّماء ، ثمّ قال : (( هؤلاء أهل بيتي وخاصّتي ، فاذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً ))
.
قالها ثلاث مرات . قالت اُمّ سلمة : فأدخلت رأسي في السّتر ، فقلت
: يا رسول الله ، وأنا معكم ؟ قال (صلّى الله عليه وآله) : ((
إنّك إلى خير )) . مرّتين .
وفي رواية : فرفعت الكساء لأدخل معهم ، فجذبه من يدي
، وقال (صلّى الله عليه وآله) : (( إنّك إلى خير )) . وفي رواية
: قالت اُمّ سلمة : فأنا معكم يا رسول الله ؟ قال (صلّى الله عليه
وآله) : (( أنت مكانك ، وإنّك على خير ))
.
قال : وأخرج ابن مردويه ، عن أبي سعيد الخدري قال :
لمّا دخل علي بفاطمة (عليهما السّلام) ، جاء النّبي (صلّى الله
عليه وآله) أربعين صباحاً إلى
بابها ، يقول : (( السّلام
عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته . الصلاة رحمكم الله ،
إِنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ
وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً
. أنا حربٌ لمَنْ حاربتم ، وأنا سلمٌ لمَنْ سالمتم
)) .
قال : وأخرج ابن جرير وابن مردويه ، عن أبي الحمراء
[ قال ] : حفظت من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ثمانية أشهر بالمدينة ، ليس من مرّة يخرج إلى
صلاة الغداة إلاّ أتى إلى باب علي (عليه السّلام) ، فوضع يده على جنبتي الباب ، ثمّ
قال (صلّى الله عليه وآله) :
(( الصلاة الصلاة
!
إِنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ
وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً ))
.
قال : وأخرج ابن مردويه ، عن ابن عبّاس [ قال ] : شهدنا رسول
الله (صلّى الله عليه وآله) تسعة أشهر ، يأتي كلّ يوم باب علي بن أبي طالب
(عليه السّلام) وقت
كلّ صلاة ، فيقول (صلّى الله عليه وآله) : (( السّلام
________________________
(1) أي : الثريد .
(2) سورة الأحزاب / 32 .
الصفحة
(120)
عليكم ورحمة الله وبركاته أهل البيت ،
إِنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ
وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً . الصلاة رحمكم الله
)) . كلّ يوم خمس مرّات .
وفي أصحاب الكساء ، يقول الشاعر مخاطباً أمير المؤمنين
(عليه السّلام) :
أنتَ
ثاني ذَوي الكِساءِ ولَعمْري أفضلُ الخلقِ مَن حواهُ
الكِساءُ
قال آخر :
يُزاحمُهُ جبْريلُ تحتَ عباءةٍ
لها قيلَ: كلُّ الصَّيدِ في جانبِ الفرَا
وفيهم يقول المؤلّف :
وكانَ لهُمْ جبريلُ في الفضلِ سادِساً
وهُمْ خمسةٌ مِنْ فوقِهمْ مُدَّتْ العَبا
وفيهم يقول الآخر :
ذُرِّيَّةٌ مثلُ ماءِ المُزنِ قدْ طَهُرُوا
وطُهِّروا فصفتْ أخلاقُ ذاتِهمُ
وكفى شرفاً وفضلاً لأهل البيت (عليهم السّلام) نزول آية الطهارة فيهم ،
شرف ما فوقه شرف ، وفضل لا يُدانيهِ فضل . فالويل ثمّ الويل لاُمّة أخّرتهم عن مقامهم
! ودفعتهم عن مراتبهم التي رتَّبهم الله فيها ! وظلمتهم وقتلتهم ! فمضى أمير المؤمنين علي
(عليه السّلام) شهيداً بالسّيف في
محرابه ، ومضت زوجتُه البضعة الزهراء ، سيّدة النّساء ، حزينة كئيبة مغضبة ،
لَمْ تُرَ بعد وفاة أبيها ضاحكةً ولا كاشرةً :
وهـيَ العُرْوةُ التي ليسَ iiينجُو غـيرُ مُـسْتعصمٍ بحبلِ iiوَلاهَا
لـمْ يَـرَ اللهُ الـرِّسالةَ iiأجـراً غـيرَ حفظِ الزَّهراءِ في iiقُرباهَا
فَمَضتْ وهيَ أعظمُ النّاسِ وجْدَاً فـي فمِ الدَّهرِ غصةً منْ جواهَا
وثوَتْ لا يَرى لها النّاسُ
iiمثوىً أيُّ قُــدسٍ يـضمُّهُ iiمـثْواهَا
ومضى ولداها الحسن والحسين (عليهما السّلام) ، ريحانتا رسول الله
(صلّى الله عليه وآله) وسيّدا
الصفحة
(121)
شباب أهل الجنة ، أحدهما شهيداً بالسُمّ ، ومُنع من دفنه
عند جدّه (صلّى الله عليه وآله) ، ومضى أخوه الحسين شهيداً بالسّيف ، غريباً ظامياً بأرض كربٍ
وبلاءٍ ، وسُبيت عيالُه وأطفالُه ، وداروا برأسه في البلدان مِنْ
فوق عالي السّنان .
ليـسَ هـذا لرسولِ اللهِ يا اُمَّةَ الطُّغيـانِ والبغْـي جَزَا
* * *
فَعلْتـُم ْبأبناءِ النَّبيِّ ورهطِهِ أفاعيلَ أدْناهَا الخيانةُ والغدْرُ
* * *
المجلس التاسع والثمانون بعد المئة
روى مسلم في ( صحيحه ) ، وأحمد بن حنبل في ( مسنده
) بسنديهما ، عن زيد بن أرقم
قال : قام رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فينا خطيباً بماء يُدعى : خماساً ، بين مكّة والمدينة
، فحمد الله وأثنى عليه ، ووعظ وذكّر ، ثمّ قال (صلّى الله عليه وآله) :
(( أمّا بعد ، أيّها النّاس ، فإنّما أنا
بشر يوشك أنْ يأتيني رسول ربّي فاُجيب ، وأنا تاركٌ فيكم ثِقْلين ؛ أوّلهما
كتاب
الله فيه الهدى ، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به )) .
فحثّ على كتاب الله ورغّب فيه ، ثمّ قال (صلّى الله عليه وآله) : (( وأهل بيتي ،
اُذكّركم الله في أهل بيتي ! اُذكّركم الله في أهل بيتي ! اُذكّركم الله في أهل بيتي
! )) .
فقال الراوي : ومَن أهل بيته يا زيد ؟ نساؤه من
أهل بيته ؟ فقال : لا ، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده .
وروى مسلم حديث
الثقلين بثلاثة طرق اُخرى ، وفي أحدهما قلنا : منْ أهل بيته نساؤه ؟ قال
: لا ، إنّ
المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ، ثمّ يُطلّقها فترجع إلى أبيها وقومها
. أهل بيته أصلُه وعصبته .
وأخرج أحمد بن حنبل في ( مسنده ) حديث الثقلين بعدّة طرق
، عن النّبي (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال : (( إنّي قد تركتُ فيكم ما
إنْ أخذتم به ـ أو تمسكتم
به ـ لنْ تضلَوا بعدي ، الثقلين
الصفحة
(122)
أحدهما أكبر من الآخر ؛ كتاب الله عزَّ وجل حبلٌ ممدودٌ من السّماء إلى الأرض
، وعترتي أهل بيتي ، وإنّ اللطيف الخبير أخبرني أنّهما لَنْ يفترقا حتّى يردا
عليّ الحوض ، فانظروا بِمَ تُخلّفوني فيهما ؟ ))
أو (( كيف تُخلّفوني فيهما ؟ ))
.
دلّت هذه
الأحاديث على عصمة أهل البيت (عليهم السّلام) ؛ لأنّه عليه الصلاة والسّلام
أوجب التمسك بالعترة كما أوجب التمسك بالكتاب ، وأخبر أنّ المتمسك بهما لنْ
يضلّ ، وأنّهما لنْ يفترقا ، فلا يفارق الكتاب العترةَ ، ولا تفارق العترةُ الكتابَ
إلى يوم القيامة ، ولا يكون ذلك إلاّ مع عصمة العترة . فدلّ على أنّ المراد
بالعترة : ليس جميع بني هاشم ؛ لأنّ كثيراً منهم تصدر منهم الذنوب ، ويفارقون
القرآن ، فالمتمسك بهم لا يأمن من الضلال ، بل هم الأئمة الاثنا عشر
؛ للاتّفاق على عدم عصمة غيرهم من بني هاشم .
وقد دلّ قوله (صلّى الله عليه وآله) : ((
أنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض )) . على وجود إمام
معصوم من العترة في كلّ زمان ، ولا توجد هذه الصفة في غير الأئمة الاثني عشر بالاتّفاق
. ولشدّة اهتمام النّبي (صلّى الله عليه وآله) بأهل بيته ،
وتخوّفه من أنْ لا تقوم الاُمّة بواجب حقّهم ، كرّر قوله : ((
اُذكّركم الله في أهل بيتي
)) ثلاثاً .
وقال (صلّى الله عليه وآله) : (( فانظروا
بِمَ تُخلّفوني فيهما ؟ )) . أنا اُخبرك يا رسول الله بما خلّفتك
الاُمّة في أهل
بيتك : قتلوا وصيَّك وصهرك وابن عمّك عليّاً (عليه السّلام) ، وهو في محرابه بعدما دفعوه عن
حقّه ، وحاربوه وجرّعوه الغصص ، وسمّوا ولدك الحسن (عليه السّلام) حتّى تقيّأ كبده في الطست
، وقتلوا ولدك الحسين (عليه السّلام) أفظع قتلةٍ وأفجعها ، وسبوا ذرّيّتك وبناتك على أقتاب
الجمال من بلد إلى بلد حتّى صار جلساء يزيد يطلبون منه بعض بنات
النّبوّة أنْ تكون خادمة لهم ؛ وحتى قال له طغام أهل الشام لمّا استشارهم ما
يصنع بأهل بيتك ؟ قالوا ممّا لا يطيق اللسان النّطق به .
وحُملت رؤوس أبنائك
وذرّيّتك على الرماح ، وجعل ابن مرجانة وابن هند ينكتان ثغر ولدك الحسين
(عليه السّلام) ، الذي
الصفحة
(123)
طالما قبّلته وشممته ، بالخيزران .
جاشَتْ على آلهِ ما ارتاحَ واحدُهُمْ
منْ قهرِ أعداه حتّى ماتَ مَقْهُورا
قضَى أخوهُ خضيبَ الرأسِ وابْنتُهُ
غَضْبَى وسبطاهُ مَسْموماً ومنْحُورا
* * *
المجلس التسعون بعد المئة
قال ابن حجر في ( صواعقه ) : جاء من طرق عديدة كثيرة
يقوّي بعضُها بعضاً ، عن النّبي (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال : (( إنّما مثل أهل بيتي فيكم
ـ أو مثل
أهل بيتي فيكم ـ كمثل سفينة نوح ، مَن ركبها نجا )) . وفي
رواية مسلم : (( ومَن تخلّف
عنها غرق )) . وفي رواية : (( هَلك ))
. وأنّه قال : (( إنّما مثل أهل بيتي فيكم ـ أو مثل أهل
بيتي ـ مثل باب حطّة في بني إسرائيل ، مَن دخله غُفر له )) .
وروى ابن حجر في
(صواعقه) عن أحمد بن حنبل وغيره ، عن النّبي (صلّى الله عليه وآله) أنّه
قال : (( النّجوم أمانٌ لأهل السّماء
، إذا ذهبت النّجوم
ذهبوا ، وأهل بيتي أمانٌ
لأهل الأرض ، إنْ ذهب أهلُ بيتي ذهب أهل الأرض )) . وقال ابن حجر
: إنّه صحّ عن النّبي (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال : (( النّجوم أمانٌ لأهل الأرض من
الغرق ، وأهل بيتي أمانٌ لاُمّتي من الاختلاف )) .
ولله در
القائل :
هُمُ السَّفينةُ فازَ الرَّاكبُونَ بهَا
ومَنْ تخلَّفَ عنها ضلَّ في تَيهِ
وقد ورد في عدّة روايات ، عن النّبي (صلّى الله عليه
وآله) أنّه قال :
(( إنّي
تارك فيكم ما إنْ تمسكتم به لنْ تضلّوا بعدي ، الثقلين ؛ كتاب الله وعترتي أهل
بيتي ، وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليَّ الحوض ، فانظروا بما تُخلّفوني فيهما
؟ )) أو (( كيف تُخلّفوني فيهما ؟ )) .
أنا اُخبرك يا رسول الله ، إنّ اُمّتك لم يُخلّفوك
الصفحة
(124)
بخير في عترتك وأهل بيتك ، تركوهم بين قتيل وشريد ،
وأعظم ما فعلوه يا رسول الله ، قتلهم ولدك الحسين (عليه السّلام) ، ونساؤه ينظُرنّ إليه
، بعد أنْ منعوه من ماء الفرات الجاري ، تشربه اليهود
والنّصارى ، وتلِغ فيه خنازير السّواد وكلابه ، وحملوا أبناءك ونساء
أهل بيتك سبايا على أقتاب المطايا من بلد إلى بلد .
فَعلْتـُم ْبأبناءِ النَّبيِّ ورهطِهِ أفاعيلَ أدْناهَا الخيانةُ والغدْرُ
فجئتُمْ بها بكراً عواناً ولمْ يكنْ
لها قبلَها مَثلاً عونٌ ولا بكرُ
المجلس الحادي والتسعون بعد المئة
ينبغ في الأزمان على تعاقبها نوابغ يمتازون عن سائر أهل زمانهم
، ولكن
هؤلاء النوابغ متفاوتون في نبوغهم وصفاتهم التي ميّزتهم عمّن سواهم ، سُنّة
الله في خلقه . ومهما تكثّر النابغون في الأزمان المتطاولة ، فنابغة
الإسلام ، بل نابغة الكون المتفرّد في صفاته الفاضلة ومزاياه الكاملة
، في علمه وحلمه ، وسياسته وعدله ، وفصاحته وبلاغته ، وشجاعته وإقدامه ،
وجهاده وصبره ، وجلده وقوته ، وأيده وزهده ، وعبادته واجتماع محاسن الأضداد
فيه ؛ هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السّلام) ، ربيب رسول
الله (صلّى الله عليه وآله) أكمل الخلائق ، وخرّيجُه .
ذات علي (عليه السّلام) ذاتٌ فذّة ، يعسر أو يمتنع على الإنسان
، مهما أطال
ومهما دقّق ، أنْ يُحيط بجميع ما فيها من سموٍّ وتميّز على سائر الخلق . ومهما
حاول الإنسان أنْ يُحيط بجميع صفاته قعد به العجز ، واستولى
الصفحة
( 125 )
عليه البهر ، ولكن لا يُترك الميسور بالمعسور .
نشأ علي (عليه السّلام) في حجر رسول الله (صلّى الله
عليه وآله) ، وتأدّب
بآدابه ورُبّي بتربيته ، وسبق النّاس إلى الإسلام . بُعث النّبي (صلّى
الله عليه وآله) يوم الاثنين ، وأسلم عليٌّ (عليه السّلام)
يوم الثلاثاء ، ثمّ أسلمت خديجة ، وأقام مع النّبي (صلّى الله عليه
وآله) بعد البعثة
ثلاثاً وعشرين سنة ، منها : ثلاث عشرة سنة في مكّة قبل الهجرة ، مشاركاً له
في مِحنه كلّها ، متحملاً عنه أكثر أثقاله ، وعشر سنين بالمدينة بعد الهجرة يُكافح عنه ويُجاهد دونه
، وقتل
الأبطال ، وضرب بالسيف بين يدي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وهو بين العشرين إلى الخمس
والعشرين سنة .
هاجر إلى المدينة في المهاجرين الأوّلين ، وشهد بدراً
واُحداً ، والخندق وبيعة الرّضوان ، وجميع المشاهد مع رسول الله (صلّى
الله عليه وآله) إلاّ تبوك
، وله في الجميع بلاء عظيم وأثر لم يكن لأحد من النّاس .
وإذا نظرنا إلى علمه ، وجدناه العالم الربّاني الذي يقول
على ملاء من النّاس : (( سلوني قبل أنْ تفقدوني ))
. ومَن ذا الذي يجرؤ من النّاس أنْ يقول هذا
الكلام ، فوق المنبر ، على حشدٍ من اُلوف الخلق ؟ وما يُؤمنه أنْ يسأله سائل
سؤالاً لا يكون عنده جوابه فيخجله فيه ، لا يجرؤ على هذا القول إلاّ مَن
يكون واثقاً من نفسه بأنّ عنده جواب كلّ ما يُسأل عنه . وهل تنحصر المسألة
في علم من العلوم ، أو ناحية من النّواحي حتّى يجرؤ أحد على هذا القول
، لا
يكون مؤيَّداً بتأييد إلهي ، وواثقاً من نفسه كلّ الوثوق بأنّه لا يغيب عنه
جواب مسألة مهما دقّت واُشكلت ؟ إنّ هذا المقام يقصر العقل عن الإحاطة به
.
ويُسأل ، وهو على المنبر ، عن مسافة ما بين المشرق والمغرب ، فيُجيب بـ
(( إنّه مسير
يوم للشمس )) . ويُسأل عمّا بين
الصفحة
( 126 )
الحقّ والباطل ، فيقول : (( مسافة
أربع أصابع ؛ الحقّ أنْ تقول رأيت بعيني ، والباطل
أنْ تقول سمعت باُذني )) . ويُسأل عن رجلين جلسا يتغدّيان
، ومع أحدهما خمسة
أرغفة ، ومع الآخر ثلاثة . فجلس معهما رجل وأكلوا الأرغفة الثمانية ، فطرح
إليهما الرجل ثمانية دراهم عوضاً عمّا أكل . فقال صاحب الخمسة الأرغفة
: لي خمسة دراهم ولك ثلاثة . فقال صاحب الثلاثة الأرغفة : لا أرضى إلاّ أنْ
تكون الدراهم بيننا نصفّين .
فيحكم علي (عليه السّلام) : (( إنّ لصاحب الثلاثة درهماً
واحداً ، ولصاحب الخمسة سبعة دراهم )) ؛ وذلك لأنّ الثمانية الأرغفة
: أربعة
وعشرون ثُلثاً ، لصاحب الثلاثة منها تسعة أثلاث ، أكل منها ثمانية وأكل
الضيف واحداً ، ولصاحب الخمسة خمسة عشر ثُلثاً ، أكل منها ثمانية وأكل الضيف
سبعة . فهذه المسألة لو أجاب عنها أمهر رجل في الحساب بعد طول الفكرة
والرويّة ، وأصاب فيها ، لكان له الفخر .
ويُؤتى عمر بن الخطاب بامرأة ولدت لستّة أشهر ، فيهّم برجمها ، فيقول له
علي (عليه السّلام) :
(( إنْ خاصمتك بكتاب
الله خصمتك ؛ إنّ الله تعالى يقول :
(
وَحَمْلُهُ
وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً
)(1)
. ويقول :
(
وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ
)(2)
. فإنْ كانت مدّة الرّضاعة
حولين كاملين ، والحمل والفصال ثلاثون شهراً ، كان الحمل فيها ستّة أشهر
)) . فخلّى عمر سبيلها ، وثبت الحكم بذلك ، فعمل به الصحابة
والتابعون ، ومَن أخذ عنهم إلى يومنا هذا .
ويُؤتى عمر بمجنونة زنت ، فيأمر بجلدها الحدّ ، فيقول له علي
(عليه السّلام) :
(( إنّ النّبي (صلّى الله عليه وآله) قد رفع القلم عن المجنون حتّى يفيق
)) . فيقول عمر : فرّج الله عنك ، لقد كدتُ أهلك في جلدها .
ويُؤتى عمر بحامل قد زنت ، فيأمر برجمها ، فيقول له علي
(عليه السّلام) :
(( هبْ أنّ لك سبيلاً عليها ، أي سبيل لك على ما في بطنها
؟ احتط عليها
ــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الأحقاف / 15 .
(2) سورة البقرة / 233 .
الصفحة
( 127 )
حتّى تلد ، فإذا ولدت ، ووجدت لولدها مَن يكفّله
، فأقم عليها الحدّ
)) . فيقول عمر : لا عشت لمعضلة لا يكون لها أبو الحسن .
ويجيء أبو الأسود الدُّؤلي فيُخبره بأنّه سمع مَن يُلحن في
القرآن ، فيضع له أصول النّحو في كلمات معروفة ، ويقول له : (( انحُ هذا النّحو
)) . فيزيد عليها أبو الأسود ، وتُضبط لغة العرب بعلم النَّحو إلى
اليوم .
وإذا نظرنا إلى شجاعته ، وقد ضُربت بها الأمثال ، وجدنا
أنّه باشر الحرب
وعمره عشرون سنة أو فوقها بقليل ، وظهرت شجاعته الخارقة في مبيته على
الفراش ليلة الغار ، والنّفر من قريش محيطون بالدار ليفتكوا بمَن في الفراش
، وظهرت شجاعته الخارقة أيضاً لمّا سار بالفواطم عند الهجرة ، وليس معه
إلاّ
أيمن بن اُمّ أيمن وأبو واقد الليثي ، فلحقه سبعة فرسان من قريش أمامهم
جناح مولى حرب بن اُميّة ، فأهوى إليه جناح بالسّيف ، وهو فارس وعلي
راجل ، فحاد علي (عليه السّلام) عن ضربته ، وضربه لمّا انحنى على كتفه فقطعه نصفّين
حتّى وصلت الضربة إلى قربوس فرسه ، وانهزم الباقون .
وقتل يوم بدر الوليد بن عتبة ، وشرك في قتل عتبة ، وقتل
جماعة من صناديد المشركين حتّى رُوي أنّه قتل نصف المقتولين . وفي يوم
أحد قتل أصحاب اللواء ، وهم سبعة . ولمّا فرّ المسلمون ، ثبت فيمن ثبت مع
النّبي (صلّى الله عليه وآله) يحامي عنه ، وكلّما شدّ
جماعة على النّبي (صلّى الله عليه وآله) ، تقدّم إليهم فقاتلهم وقتل فيهم . وفي يوم الخندق
بارز عمرو بن عبد ود بعدما جبن عنه النّاس جميعاً ، وانهزم المشركون بقتله
. وفي يوم خيبر قتل مرحباً وهزم اليهود ، واقتلع الباب وفتح الحصن ، وكان
الفتح على يديه .
وفي جميع الوقائع والغزوات كان له المقام الأسمى في الشجاعة
الصفحة
( 128 )
والثبات . وفي يوم الجمل وصفّين والنّهروان باشر الحرب بنفسه
، وقتل صناديد
الأبطال وجدّل أبطال الرجال ، ولم يهرب في موطن قط . وكانت ضرباته وتراً
، إذا علا قدَّ ، وإذا اعترض قطَّ .
ولم يُبارز قَرناً فسلم القرن منه ، ولا دُعي إلى
مبارزة فنكل ، وهذا كلّه من الاُمور العجيبة التي لمْ تتفق لغير علي بن أبي
طالب (عليه السلام) . وشجاعته ملحقة بالبديهات ، يقبح بالإنسان إطالة
الكلام فيها ، وإكثار الشواهد عليها .
وإذا نظرنا إلى حلمه ، كفانا لإثبات بلوغه أعلى درجات الحلم حلمه عن
أهل
الجمل عموماً ، وعن مروان بن الحكم وعبد الله بن الزّبير خصوصاً ، وشدّة
عداوتهما له معلومة ، وإيصاؤه جيوشه بأنْ لا يتبعوا مُدبراً ، ولا يجهزوا على
جريح ، وعدم منعه الماء لعسكر معاوية يوم صفّين لمّا استولى عليه بعدما
منعوه منه .
وإذا نظرنا إلى عدله لمْ نجد له نظيراً .
وفي ( الإستيعاب ) : إنّه كان إذا ورد عليه مال لمْ
يُبقِ منه شيئاً إلاّ قسّمه ، ولا يترك في بيت المال منه إلاّ ما يعجزعن
قسمته في يومه ذلك ، ولمْ يكن يستأثر من الفيء بشيء ، ولا يخصّ به
حميماً ولا قريباً ، ولا يخصّ بالولايات ألاّ أهل الديانات والأمانات ، واذا بلغه عن أحدهم خيانة
، كتب إليه : ((
قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمٌْ(1)
. أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُوا
النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ *
بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا
عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ(2)
.
أذا أتاك كتابي
هذا ، فاحتفظ بما في يديك من عملنا حتّى نبعث إليك مَن يتسلّمه منك ))
.
وإذا نظرنا إلى فصاحته وبلاغته ، وجدناه إمام الفصحاء وسيّد البلغاء
، وحسبُك
أنْ يُقال في كلامه : إنّه بعد كلام الرسول (صلّى الله عليه وآله) ، فوق
كلام
ـــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة
يونس / 57 .
(2)
سورة هود /
85 ـ 86
.
الصفحة
( 129 )
المخلوق ودون كلام الخالق .
ويقبح بنا أنْ نُقيم شيئاً من الشواهد والأدلّة على ذلك ؛
فإنّه كإقامة الدليل على الشمس الضاحية .
وليسَ يصحُّ في الأذهانِ شيءٌ إذا احتاجَ النَّهارُ الى دليلِ
ولا أدلّ على ذلك ممّا اُثر عنه وجمع من كلامه ، كنهج
البلاغة وغيره .
وإذا نظرنا إلى زهده في الدّنيا ، أخذَنا العجب والبهر من رجل في يده
الدنيا كلّها ـ عدا الشام ـ ؛ العراق وفارس ، والحجاز ومصر ، وهو يلبس الخشن ويأكل الجشب
؛ مواساة للفقراء ، ويقول (( يا دُنيا غرِّي غيري
)) !
ومِن عجيب أحواله ، إنّه اجتمعت في صفاته الأضداد ، فبينما هو يمارس الحروب
، ويبارز الأقران ويقتل الشجعان ، ومَن تكون هذه صفته لابدّ أنْ يكون قاسي
القلب شرس الخُلق ، بينا نراه كذلك ، إذا به أعبد العُبّاد ؛ يقضي ليله
بالصلاة والعبادة ، والتضرع والإبتهال والخشوع لله تعالى ، وإذا به أحسن
النّاس خُلقاً ، وأرقّهم طبعاً ، وألينهم عَريكة .
لمْ يكن جهاد أمير المؤمنين علي (عليه السّلام) وحروبه في الإسلام
لغاية دنيويّة ؛ من طلب إمارة أو شهرة بين النّاس أو منزلة عندهم . ما كان جهاده ولا كانت حروبه إلاّ نصرة للحقّ ومحاماة عن الدين
. ولم يكن زهده في الدنيا طلباً لمدح أو منزلة في قلوب النّاس ، بل
إرشاداً للاُمّة إلى ما يُصلحها ، وتعليماً لها ما ينفعها ، كيف لا ، وهو
القائل لابن عبّاس في نعل كان يخصفها : (( والله
، لهي ـ أي : النعل ـ أحبّ إليّ
منْ إمرتكم هذه ، إلاّ أنْ اُقيم حقّاً أو أدفع باطلاً ))
.
لكن هذه الاُمّة لمْ تعرف لعلي (عليه السّلام) حقّه في جهاده
،
الصفحة
( 130 )
ومحاماته عن الدّين في سبيل سعادتها ، وإرشادها إلى ما يُصلحها
، ولمْ تحفظه في أولاده وذرّيّته ، ولمْ ترعَ لهم حرمة من بعده ، فأخّرته
عن مقامه ، وآل بها الأمر إلى أنْ قتلته وهو يُصلّي في محرابه ، بيد أشقى
الأوّلين والآخرين ؛ عبد الرحمن بن ملجم المرادي .
وتركت ولديه من بعده ، سيّدي شباب أهل الجنّة ، بين
قتيل بالسُّم ، ومُضرّج بالدّم ، فدسّت إلى ولده الحسن (عليه السّلام) ، أحد السّبطين
والريحانتين ، السُّمَّ على يد جعدة بنت الأشعث بن قيس حتّى لفظ كبده في
الطست قطعاً ، وجهّزت الجيوش إلى أخيه الحسين (عليه السّلام) ، ثاني السّبطين
والريحانتين ، بعدما قدّمت عليه يزيد الخمور والفجور ، اللاعب بالقرود
والفهود ، وأحاطت به من كلّ جانب ، ومنعته الذهاب في بلاد الله العريضة
، وقتلت آله وأنصاره ، ومنعته من ورود الماء حتّى قتلته
عطشان ظامياً ، وذبحت أطفاله ، وسبت نساءه وعياله :
يا اُمّةً باعتْ بضائعَ ديْنِها يومَ الطُّفوفِ بخيْبةٍ وشَقاءِ
خانتْ عهودَ محمّدٍ في آلهِ من بعدِهِ وجزتْهُ شرَّ جزاءِ
* * *
المجلس الثاني والتسعون بعد المئة
قال عُروة بن الزّبير : كنّا جلوساً في مجلس في مسجد رسول الله
(صلّى الله عليه وآله) ، فتذاكرنا أحوال أهل بدر ، وبيعة الرضوان ، فقال أبو الدّرداء
: يا قوم ، ألاَ اُخبركم بأقلِّ القوم مالاً ، وأكثرهم ورعاً ، وأشدهم اجتهاداً في
العبادة ؟ قالوا : مَن هو ؟ قال : علي بن أبي طالب .
قال : فوالله ، إنْ كان في جماعة
أهل المجلس
الصفحة
( 131 )
إلاّ معرض عنه بوجهه ، ثمّ انتُدب له رجل من الأنصار ، فقال له
: يا عُويمر ، لقد
تكلّمت بكلمة ما وافقك عليها أحد منذ أتيت بها . فقال أبو الدرداء
: يا قوم
، إنّي قائل ما رأيته ، وليقل كلُّ قوم ما رأوا . شهدت علي بن أبي طالب
(عليه السّلام) بسويحات بني النّجار
، وقد اعتزل عن مواليه ، واختفى ممّن يليه ، واستتر ببُعيلات النّخل ، فافتقدته وبعُد عليَّ مكانه
، فقلت : لحق بمنزله . فإذا أنا بصوت
حزين ونغمة شجي ، وهو يقول : (( إلهي ، كمْ من موبقةٍ حملتُها فقابلتَها بنعمتك
، وكم من جريرة تكرّمتَ عن كشفها بكرمك . إلهي ، إنْ طال في عصيانك عُمري ، وعظم في
الصُّحف ذنبي ، فما أنا مؤمّلٌ غير غفرانك ، ولا أنا براجٍ غير رضوانك
)) .
فشغلني الصوت ، واقتفيت الأثر ، فإذا هو علي بن أبي طالب
(عليه السّلام) بعينه ، فاستترت له لأسمع كلامه ، وأخملت الحركة ، فركع ركعات
في جوف الليل الغابر ، ثمّ فزع إلى الدعاء والتّضرع والبكاء ، والبثّ
والشكوى ، فكان ممّا به ناجى أنْ قال : (( إلهي
، اُفكّر في عفوك فتهون عليَّ خطيئتي ،
ثمّ أذكر العظيم من أخذك فتعظم
عليّ بليتي )) . ثمّ قال
:
(( آهٍ إنْ أنا قرأت في الصحف سيئةً ، أنا ناسيها وأنت مُحصيها ! فتقول
: خذوه . فيا له من مأخوذٍ لا تُنجيه عشيرتُه ، ولا تنفعه قبيلتُه ،
يرحمه الملأ إذا أذن فيه بالنّداء ))
. ثمّ قال :
(( آهٍ من نار تنضج الأكباد
والكِلى ! آهٍ من نار نزّاعة للشوى ! آهٍ من غمرةٍ من مُلتهبات لظى ! )) .
ثمّ انغمر في البكاء ، فلمْ أسمع له حسّاً ولا حركة ، فقلتُ
: غلب عليه النّوم لطول السهر ، اُوقظه لصلاة الفجر .
قال أبو الدّرداء : فأتيته ، فإذا هو كالخشبة المُلقاة ، فحرّكته فلمْ
يتحرّك ، وزويته فلم ينزوِ . قلت : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، مات والله
، علي بن
أبي طالب . فأتيت منزله مبادراً أنعاه إليهم ، فقالت فاطمة (عليها
السّلام) : (( يا
أبا الدّرداء ، أخبرنا ما كان من شأنه وقصّته ؟ )) . فأخبرتها
الخبر ، فقالت : ((هي
والله ، الغشية التي تأخذه من خشية الله )) . ثمّ أتوه بماء
الصفحة
( 132 )
فنضحوه على وجهه ، فأفاق ونظر إليَّ وأنا أبكي ، فقال :
(( ممّ بكاؤك يا أبا الدّرداء ؟ )) . فقلت : ممّا أراه تُنزله بنفسك . فقال
:
(( يا أبا الدّرداء ، فكيف لو رأيتني
وقد دُعي بي إلى الحساب ، وأيقن أهل الجرائم بالعذاب ، واحتوشتني ملائكةٌ
غلاظ وزبانية فظاظ ، فوقفتُ بين يدَي الملك الجبّار ، قد أسلمتني الأحبّاء
، ورحمني أهل الدنيا ، لكنتَ أشدَّ رحمة لي بين يديّ مَنْ لا تخفى عليه
خافية )) . قال أبو الدّرداء : فوالله ، ما رأيتُ ذلك لأحد من أصحاب
رسول الله (صلّى الله عليه وآله) .
أقول : كلّ مَنْ يُغمى عليه يؤتى إليه بالماء ، فيُنضح على وجهه
حتّى يفيق ، إلاّ غريب كربلاء أبو عبد الله الحسين (عليه السّلام) ؛ فإنّه لمّا سقط عن
ظهر جواده إلى الأرض ، واُغمي عليه ساعة ، لمْ يُنضح على وجهه الماء حتّى يفيق
، وإنّما أفاق على ضرب السّيوف وطعن الرماح ، وهو مع ذلك يطلب جرعة من الماء
، وهم يقولون : لنْ تذوق الماء ـ أبا عبد الله ـ حتّى تذوق الموت عطشاً
.
فعزَّ أنْ تتلظَّى بينَهُمْ عَطشاً والماءُ يصدرُ عنه الوحشُ ريّانا
ونظر أمير المؤمنين (عليه السّلام) ذات يوم إلى امرأة وعلى كتفها قربة ماء
مملوءة ، فحملها معها إلى منزلها ، ثمّ سألها عن شأنها ، قالت : بعث علي بن
أبي
طالب (عليه السّلام) بصاحبي إلى بعض الثغور فقُتل ، وترك عليّ صبياناً يتامى وليس عندي شيء
، وقد ألجأتني الضرورة إلى خدمة النّاس .
فمضى أمير المؤمنين (عليه السّلام) وبات
تلك الليلة قلقاً ، فلمّا أصبح حمل زنبيلاً مملوءاً من الدقيق واللحم
والتمر على كتفه ، فقال له بعض أصحابه : أعطني أحمل عنك هذا ؟ فقال :
(( مَن يحمل عنّي وزري يوم القيامة ؟ ))
. ثمّ أتى إلى باب تلك الامرأة وقرع الباب ، قالت : مَن في الباب
؟ قال : (( أنا العبد الذي حمل معك القربة
، افتحي الباب ؛ فإنّ معي شيئاً
للصبيان )) . فقالت : رضي الله عنك ،
الصفحة
( 133 )
وحكم بيني وبين علي بن أبي طالب .
ثمّ فتحت له الباب ودخل ، وقال لها :
(( يا أمة
الله ، إنّي أحببت اكتساب الثواب ، فاختاري بين أنْ تعجني وتخبزي ، وبين
أنْ
تُعللي الصبيان لأخبز أنا لهم ؟ )) . قالت : يا عبد الله ، أنا
بالخبز أبصر وعليه أقدر ، دونك الصبيان فعلّلهم .
فعمدت الامرأة إلى الدقيق تعجنه ، وعمد أمير المؤمنين
(عليه السّلام) إلى اللحم فطبخه ، وجعل يُلقم الصبيان من ذلك اللحم والتمر ،
وكلّما ناول صبياً منهم ، قال له : (( يا بُني
، اجعل علي بن أبي طالب في
حلّ ممّا أمر في أمركم )) . ولمّا اختمر العجين ، قالت الامرأة
: قُم يا عبد الله ، اسجر التّنور . فلمّا أشعل النّار لفحت وجهه
، فجعل يقول :
(( ذُق يا علي ، هذا جزاء
مَن ضيَّع الأرامل واليتامى )) . فدخلت امرأة من خارج الدار فعرفته
، فقالت : ويحك ! هذا
الإمام علي بن أبي طالب (عليه السّلام) . فبادرت إليه الامرأة ووقعت على
قدميه تُقبّلهما ، وهي تقول : وا حيائي منك يا أبا الحسن ! فقال
:
(( بل وا حيائي منك
يا أمة الله ، فيما قصّرتُ في أمرك ! )) .
أمير المؤمنين (عليه السّلام) حمل اللحم والتمر والدقيق
إلى يتامى بعض أصحابه ، فأين كان أمير المؤمنين (عليه السّلام) عن
يتامى ولده أبي عبد الله الحسين (عليه السّلام) ليلة الحادي عشر من
المُحرّم ، حين باتوا تلك الليلة بلا محامٍ ولا كفيل ، وهم عطاشى جياعى
؟!
قـُمْ يا عليُّ فما هذا القعْودُ iiوما عَهْدي تَغضُّ على الأقذاءِ أجفانَا
وانهضْ لعلّكَ منْ أسرٍ أضرَّ iiبنَا تَـفكَّنا أو تـولَّى دفْـنَ iiقتلانَا
هـذا حسينٌ بلا غُسلٍ ولا iiكَفنٍ عـارٍ تجولُ عليه الخيلُ iiميدانَا
الصفحة
( 134 )
المجلس الثالث والتسعون بعد المئة
في (غاية المرام) ، عن ابن المغازلي الشافعي في ( المناقب
) ، بعدّة طرق ، عن جابر
بن عبد الله الأنصاري قال : أخذ النّبي (صلّى الله عليه وآله) بعضد علي (عليه السّلام)
، وقال : (( هذا أمير البررة ، وقاتل الكفرة
ـ أو
الفجرة ـ منصور مَن نصره ، مخذول مَن خذله )) . ثمّ مدّ بها صوته
ـ أو قال : مدّ بصوته ـ فقال : (( أنا مدينة
العلم وعليٌّ بابها ، فمَن أراد العلم
ـ أو فمَن أراد المدينة
ـ فليأتِ الباب
)) .
وفي رواية : (( أنا مدينة وعليٌّ بابها
، ولا تُؤتى البيوت إلاّ من أبوابها )) . وفي رواية : (( يا علي
، أنا مدينة العلم وأنت الباب ، كذب مَن زعم أنّه يصل
إلى
المدينة إلاّ من الباب )) . وفي ذلك يقول الصفي الحلّي ـ
رحمه الله تعالى ـ :
مدينةُ علمٍ وابنُ عمِّكَ بابُها فمِنْ غيرِ ذاكَ البابِ لمْ يُؤتَ سُورُها
وفي (غاية المرام) ، عن مسند أحمد بن حنبل بسنده عن زيد بن أرقم
، قال
: كان لنفر من أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أبواب شارعة في المسجد ، فقال يوماً
: (( سدّوا هذه الأبواب إلاّ باب علي
)) . فتكلّم في ذلك اُناس ، فقام رسول الله (صلّى الله عليه
وآله) فحمد
الله وأثنى عليه ، ثمّ قال :
(( أمّا بعد ، فإنّي أمرت بسدّ هذه الأبواب غير باب علي
، فقال فيه قائلكم . والله ، ما سددتُ شيئاً ولا فتحتُه ، ولكنّي اُمرتُ بشيء فاتّبعتُه )) .
وفي رواية ابن
المغازلي الشافعي : فأتاه العبّاس ، فقال : يا رسول الله ، سددت أبوابنا
وتركت باب علي ؟! قال : (( ما أنا فتحتُها ، ولا أنا سددتُها
)) .
وروى ابن المغازلي الشافعي بسنده عن سعد بن أبي وقاص ، قال
: كانت لعليٍّ مناقبُ لمْ تكن لأحد ؛ كان يبيت في المسجد ، وأعطاه النّبي
(صلّى الله عليه وآله) الراية يوم خيبر ، وسدّ الأبواب كلّها إلاّ باب علي .
وجاء في عدّة روايات ، عن النّبي (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال :
(( يا علي ، أنت
الصفحة
( 135 )
قسيم النّار ؛ تقول : هذا لي ، وهذا لكِ
)) . وفي رواية : (( إنّك قسيم الجنّة والنّار
)) . وفي ذلك يقول الشاعر :
علـيٌّ حُـبـُّهُ جُـنَّةْ قسيمُ النَّارِ والجَـنَّةْ
وصـيُّ المُصطفَى حقَّاً
إمامُ الإنسِ والجِـنَّةْ
وفي (غاية المرام) ، عن موفق بن أحمد عن النّبي (صلّى
الله عليه وآله)
أنّه قال لعلي (عليه السّلام) : (( أنا أوّل مَن تنشقُّ الأرض عنه يوم القيامة وأنت معي
، ومعي لواء
الحمد ، وهو بيدك تسير به أمامي ، وتسبق به الأوّلين والآخرين
)) . وفيه ، عن الزمخشري في الفائق : إنّ
النّبي (صلّى الله عليه وآله) قال لعلي (عليه السّلام)
: (( أنت الذائدُ عن
حوضي يوم القيامة ، تذود عنه الرجالَ كما يُذاد البعير الصاد(1)
)) .
ولهذا لمّا ضيّق أهل
الكوفة على الحسين (عليه السّلام) يوم كربلاء ، ومنعوه من الماء حتّى
نال العطش منه ومن أصحابه ، قام متوكّئاً على قائم سيفه ، وذكّرهم بفضائله
فاعترفوا بها ، فقال لهم : (( فبِمَ تستحلّون دمي وأبي الذائد عن الحوض ،
يذود عنه رجالاً كما يُذاد البعير الصاد عن الماء ، ولواء الحمد في يد أبي
يوم القيامة ؟! ))
. قالوا : قد علمنا ذلك كلّه
، ونحن غير تاركيك حتّى تذوق الموت عطشاً
. قسَتْ القلوبُ فلمْ
تَملْ لهدايةٍ تبّاً لهاتيكَ القُلوبِ
القاسيَهْ
ما ذاقَ طعْمَ فُراتِهمْ حتَّى قَضَى
عَطشاً وغُسِّلَ بالدِّماءِ القَانِيهْ
ـــــــــــــــــــــــــ
(1) أي : الذي به الصَّيَد ، وهو داء يلوي العُنق .
* * * |