الصفحة ( 1 )
المجالس السَّـنيّة
في
مناقب ومصائب العترة النبويّة
تأليف :
المجتهد الأكبر السيّد محسن الأمين رضوان الله عليه
ـ
الجزء الثالث ـ
الطبعة الخامسة
1394 هـ ـ 1974 م
الصفحة
( 2 )
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين .
وبعد : فهذا هو الجزء الثالث من كتاب : ( المجالس
السَّـنيّة ) في ذكرى مصائب ومناقب العترة النبويّة ، تأليف أفقر العباد إلى عفو ربّه الغني ، محسن ابن المرحوم
السيّد عبد الكريم الأمين الحسيني العاملي نزيل دمشق ، عفا الله عن جرائمه
،
وحشره مع محمّد وآله الطاهرين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين .
الصفحة (3)
المجلس الرابع والأربعون بعد المئة
روى المسعودي في مروج الذهب ، بسنده عن المنذر بن
الجارود قال : لمّا قدم
علي (عليه السّلام) البصرة خرجت أنظر إليه ، فورد موكب نحو ألف فارس يقدمهم
فارس على فرس أشهب ، عليه قلنسوة وثياب بيض متقلّد سيفاً
ومعه راية ، وإذا
تيجان القوم الأغلب عليها البياض والصُّفرة ، مدجّجين في الحديد
والسّلاح ،
فقلت : مَن هذا ؟ فقيل : أبو أيوب الأنصاري صاحب رسول الله (صلّى الله
عليه وآله)
، وهؤلاء الأنصار وغيرهم . ثمّ تلاهم فارس آخر عليه عمامة صفراء وثياب
بيض ، متقلّد سيفاً متنكّب قوساً ، معه راية على فرس أشقر في نحو ألف
فارس ، فقلت : مَن هذا ؟ فقيل : هذا خُزيمة بن ثابت الأنصاري ذو
الشهادتين . ثمّ مرّ
بنا فارس آخر على فرس كميت ، معمّم بعمامة صفراء من تحتها قلنسوة بيضاء ،
وعليه قباء أبيض مصقول ، متقلّد سيفاً متنكّب قوساً في نحو ألف فارس من
النّاس ومعه راية ، فقلت : مَن هذا ؟ فقيل لي : أبو قتادة بن ربعي الأنصاري .
ثمّ مرّ
بنا فارس آخر على فرس أشهب ، عليه ثياب بيض وعمامة سوداء قد سدلها بين
يديه ومن خلفه ، شديد الأدمة ، عليه سكينة ووقار ، رافع صوته بقراءة
القرآن ، متقلّد سيفاً متنكّب قوساً ، معه راية بيضاء في ألف من النّاس مختلفي
التيجان ، حوله مشيخة وكهول وشباب كأنّ قد اُوقفوا للحساب ، أثر
السّجود قد
أثّر في جباههم ، فقلت : مَن هذا ؟ فقيل : عمّار بن ياسر في عدّة من
الصحابة ؛ من المهاجرين والأنصار وأبنائهم . ثمّ مرّ بنا فارس على فرس
أشقر ، عليه ثياب بيض وقلنسوة بيضاء وعمامة صفراء ، متنكّب قوساً
متقلّد سيفاً ، تخطّ رجلاه في الأرض في ألف من النّاس ، الغالب على تيجانهم الصُّفرة والبياض
، معه راية
خضراء ، فقلت : مَن
الصفحة
(4)
هذا ؟ قيل : هذا قيس بن سعد بن عبادة في الأنصار
وأبنائهم وغيرهم من قحطان . ثمّ مرّ بنا فارس على فرس أشهل ما رأينا
أحسن منه ، عليه ثياب بيض وعمامة سوداء قد سدلها بين يديه بلواء ، قلت
: مَن هذا ؟ قيل : هو عبد الله بن العبّاس في عدة من أصحاب رسول الله
(صلّى الله عليه وآله) . ثمّ تلاه موكب آخر فيه فارس أشبه النّاس
بالأوّلين ، قلت : مَن هذا ؟ قيل : قثم بن العبّاس . ثمّ أقبلت المواكب
والرايات يقدم بعضها بعضاً واشتبكت الرماح ، ثمّ ورد موكب فيه خلق من
النّاس عليهم السّلاح والحديد ، مختلفو الرايات ، كأنّما على رؤوسهم
الطير ، يقدمهم رجل كأنّما كُسر وجُبر ـ قال : وهذه صفة رجل شديد
الساعدين ، كذلك تخبر العرب في وصفها إذا أخبرت عن الرجل أنّه : كُسر
وجُبر ـ نظره إلى الأرض أكثر من نظره إلى فوق ، وعن يمينه شاب حسن
الوجه ، وعن شماله شاب حسن الوجه ، قلت مَن هؤلاء ؟ قيل : هذا علي بن
أبي طالب (عليه السّلام) ، وهذان الحسن والحسين (عليهما السّلام) عن
يمينه وشماله ، وهذا محمّد بن الحنفيّة بين يديه معه الراية العظمى ، وهذا
الذي خلفه عبد الله بن جعفر بن أبي طالب (عليه السّلام) ، وهؤلاء ولد عقيل وغيرهم من
فتيان بني هاشم ، وهؤلاء المشايخ أهل بدر من المهاجرين والأنصار.
فساروا حتّى نزلوا الموضع المعروف بـ ( الزاوية ) ،
فصلّى علي (عليه السّلام) أربع ركعات وعفّر خديه على التربة ـ وقد خالط ذلك دموعه
ـ ثمّ رفع يديه يدعو ، فقال :
((
اللهمّ ، ربّ السّماوات وما أظلّت ، والأرضين وما أقلّت ، وربّ العرش العظيم
، هذه
البصرة أسألك من خيرها ، وأعوذ بك من شرّها )) .
هذا دخول علي
(عليه السّلام) البصرة من أرض العراق
كما وصفه المنذر بن الجارود ، بما فيه من الجلالة والعظمة ، ولا يقتصر عنه في الجلالة والعظمة ، دخول ولده الحسين بن علي
(عليه السّلام) أرض العراق بأنصاره وأهل بيته
(عليهم السّلام) ، وهم نجوم الأرض من آل عبد مناف ، من ولد علي والحسن والحسين وجعفر وعقيل
(عليهم السّلام) ، الذين ليس لهم
على وجه الأرض شبيه . ولكن دخول
الصفحة
(5)
علي (عليه السّلام) البصرة انتهى بنصره على أعدائه ، أمّا دخول ولده الحسين
(عليه السّلام) أرض العراق
، فابتدأ بملاقاة الحُرّ بن يزيد له في ألف فارس ومنعه عن الرجوع ، ثمّ أخذه طريقاً لا يدخله الكوفة ولا يردّه
إلى المدينة حتّى جاء أمر بن مرجانة إلى الحُرّ بأن يُجعجع بالحسين
(عليه السّلام)
ويضيّق عليه ، ولا يُنزله إلاّ بالعراء في غير حصن وعلى غير ماء . وجعل
كلّما أراد المسير يمنعونه تارة ويسايرونه اُخرى حتّى ورد كربلاء ،
فقال :
(( أهذه كربلاء ؟ )) . قالوا : نعم يابن رسول الله . قال : ((
انزلوا ، فههنا مَحطُّ رحالنا ، وسفك دمائنا ، ومقتل
رجالنا )) .
وكما دعا أمير المؤمنين (عليه السّلام) عند نزوله ( الزاوية ) دعا
الحسين (عليه السّلام) لمّا صبّحته الخيل يوم عاشوراء ، فقال :
(( اللهمّ ، أنت ثقتي في كلّ كرب ، وأنت رجائي في
كلّ شدّة ، وأنت لي في كلّ أمر نزل بي ثقةٌ وعدةٌ . كم من كرب يضعف
عنه الفؤاد وتقلّ فيه الحيلة ، ويخذل فيه الصديق ويشمت فيه العدو
أنزلته بك وشكوته إليك ؛ رغبة منّي إليك عمّن سواك ، ففرّجته عنّي وكشفته
، فأنت وليُّ كلّ نعمة ، وصاحب كلّ حسنة ، ومنتهى كلّ رغبة ))
. ثمّ انتهى الأمر بقتل
الحسين (عليه السّلام) وقتل أنصاره وأبنائه وإخوته وأبناء عمومته .
فليتك يا أمير المؤمنين الذي قتل الأبطال وأفنى الرجال
يوم البصرة ، لا غبت عن ولدك الحسين (عليه السّلام) يوم كربلاء ، وقد بقي وحيداً
فريداً ، لا ناصر له ولا معين :
خِلـوٌ مـن الأنـصارِ غـير مُهنَّدٍ
صـافي الـغِرارِ وصـعْدةٍ سمْراءِ
مـنعُوهُ مـن مـاءِ الفُراتِ ووردِهِ وأبـوُهُ سـاقي الحوضِ يومَ جزاءِ
حتّى قضَى عَطشاً كما اشْتَهتْ العِدى بـأكـفِّ لا صِـيـدٍ ولا أكـفـاءِ
الصفحة
(6)
المجلس الخامس والأربعون بعد المئة
روى نصر بن مزاحم في كتاب صفّين : عن عبد الرحمن بن عوف الأحمر
، قال : لمّا
قدمنا على معاوية وأهل الشام بـ ( صفّين ) ، وجدناهم قد نزلوا منزلاً اختاروه
بساطاً واسعاً ، وأخذوا الشريعة(1) فهي في
أيديهم ، وقد صفّ أبو الأعور عليها الخيل والرجّالة ، وقد أجمعوا أنْ
يمنعونا الماء . ففزعنا إلى أمير المؤمنين (عليه السّلام) فأخبرناه بذلك ، فدعا
صعصعة بن صوحان ، فقال :
(( ائت معاوية ، فقل إنّا سرنا مسيرنا هذا ، وأنا أكره قتالكم قبل الإعذار
إليكم ، وإنّك قد قدمت
بخيلك فقاتلتنا قبل أنْ نقاتلك ، وبدأتنا بالقتال ونحن من رأينا الكفّ
حتّى ندعوك ونحتّج عليك ،
وهذه اُخرى قد فعلتموها ؛ حلتم بين النّاس وبين الماء ، فخلِّ
بينهم وبينه حتّى تنظر فيما قدمنا له ، وإنْ كان أحبّ إليك أنْ ندع ما جئنا
له ، و ندع النّاس يقتتلون على الماء حتّى يكون الغالب هو الشارب فعلنا
)) .
فقال معاوية لأصحابه : ما ترَون ؟ قال الوليد بن عقبة : امنعهم الماء كما
منعوه ابن عفّان ، اقتلهم عطشاً قتلهم الله . قال عمرو بن العاص
: خلِّ بين
القوم وبين الماء ؛ فإنّهم لن يعطشوا وأنت ريّان ، ولكن لغير الماء
فانظر . فأعاد الوليد مقالته وقال لعبد الله بن أبي سرح : امنعهم الماء إلى
الليل ؛ فإنّهم إنْ لمْ يقدروا عليه رجعوا وكان رجوعهم هزيمتهم ،
امنعهم الماء منعهم الله إيّاه يوم القيامة . فقال صعصعة : إنّما
يمنعه اللهُ يوم القيامة الكفرةَ الفجرة شَرَبة الخمر مثلك ومثل
هذا الفاسق ـ يعني : الوليد بن عقبة ـ . فوثبوا إليه يشتمونه ويتهدّدون
. فقال معاوية : كفّوا عن الرجل ؛ فإنّه رسول . فقال صعصة لمعاوية : ما تردّ عليّ ؟ قال
: سيأتيكم رأيي .
قال الراوي : فوالله ،
ما راعنا إلاّ تسوية الرجال والخيل والصفوف ، وأرسل إلى أبي
______________________
(1) الشريعة : منحدر الماء .
الصفحة
(7)
الأعور امنعهم الماء . فقام رجل من أهل الشام من همدان إلى معاوية
، وكان ناسكاً ، فقال : سبحان الله ! إنْ سبقتم القوم إلى الفرات تمنعوهم عنه
، أما
والله ، لو سبقوكم إليه لسقوكم منه ، أما تعلمون أنّ فيهم العبد والأجير والضعيف
؟! هذا والله ، أوّل الجور . فأغلظ له معاوية ، فسار الهمداني في سواد
الليل فلحق بعلي (عليه السّلام) .
ومكث علي (عليه السّلام) يوماً وليلة بغير ماء ، فخرج نحو رايات
مذحج وإذا رجل ينادي في سواد الليل :
أيَـمنَعُنا القومُ ماءَ الفُراتْ وفينا الرِّماحُ وفينا
الحَجَفْ
وفـينا عـليٌّ لـه سَورةٌ إذا خوَّفوهُ الرَّدى لمْ يَخَفْ
فـنحنُ الذينَ غَداةَ الزّبير وطلحةَ خضْنا غمارَ التَّلفْ
فما بالُنا أمسُ اُسدُ العرينْ وما بالُنا اليومَ شاءُ النَّجفْ
وجاء الأشعث إلى أمير المؤمنين (عليه السّلام) فقال : يا أمير
المؤمنين ، أيمنعنا القوم ماء الفرات وأنت فينا ومعنا السّيوف ؟ خلِّ
عنّا وعن القوم ، فوالله ، لا نرجع حتّى نردّه أو نموت . فقال (عليه
السّلام) : (( ذلك إليك ))
. فنادى الأشعث : مَن كان يريد
الماء أو الموت فميعاده الصبح . فأتاه اثنا عشر ألفا ً، فلمّا أصبح حمل هو والأشتر ، وجعل الأشتر يُلقي رمحه ويقول
: بأبي أنتم واُمّي ! تقدّموا قاب رمحي
هذا . فلم يزل كذلك حتّى خالط القوم ، وبعث إلى الأشعث : أنْ أقحم الخيل
.
فأقحمها حتّى وضعت سنابكها في الفرات ، وأخذت أهل الشام السّيوف فولّوا
مدبرين .
وقال معاوية لعمرو : ما ظنّك بعلي ؟ قال : ظنّي به أنّه لا يستحلّ منك ما
استحلّك منه ، وإنّ الذي جاء لَغير الماء . فقال أهل العراق : والله ،
لا نُسقيهم . فأرسل إليهم علي (عليه السّلام) : (( خذوا من الماء حاجتكم ، وخلّوا بينهم وبين
الماء ؛ فإنّ الله قد نصركم ببغيهم وظلمهم )).
وعلى هذه السُنّة جرى ابن زياد وأصحابه ـ أتباع يزيد بن
معاوية ـ يوم كربلاء ، فكما منع معاوية وأتباعه أمير المؤمنين (عليه
السّلام)
الصفحة (8)
وأصحابه يوم صفّين ماء الفرات ، منع الحسين (عليه
السّلام) وأصحابه ماء
الفرات يوم كربلاء ، وكتب ابن زياد إلى ابن سعد : أنْ حِل بين الحسين
وأصحابه وبين الماء ، فلا يذوقوا منه قطرة كما صُنع بالتقيِّ الزكيِّ عثمان
. فبعث عمر
بن سعد في الوقت عمرو بن الحجّاج في خمسمئة فارس ، فنزلوا على الشريعة وحالوا بين الحسين
(عليه السّلام) وأصحابه وبين الماء ، ومنعوهم أن يستقوا
منه قطرة ، وذلك قبل قتل الحسين (عليه السّلام) بثلاثة أيام .
لكنّ منع علي (عليه السّلام) وأصحابه الماء يوم صفّين انتهى
بانتصار أميرالمؤمنين (عليه السّلام) واستيلائهم على الشريعة ؛ ومنع الحسين
(عليه السّلام)
الماء يوم كربلاء انتهى بقتل الحسين (عليه السّلام) عطشان ظاميا ً، وقُتل أهل بيته
وأصحابه ، وسبي نسائه وذراريه :
منعوهُمُ ماءَ الفُراتِ ودونَهُ بسيوفِهمْ دمُهمْ يُطلُّ مُحلّلا
* * *
المجلس السّادس والأربعون بعد المئة
لمّا كان يوم صفّين صلّى علي (عليه السّلام) صلاة الغَداة ، ثمّ
زحف إلى أهل الشام ، فلمّا أبصروه قد خرج ، استقبلوه بزحوفهم فاقتتلوا
قتالاً شديداً ، ثمّ إنّ خيل أهل الشام حملت على خيل أهل العراق
فاقتطعوا من أصحاب علي ألف رجل أو أكثر ، فأحاطوا بهم وحالوا بينهم
وبين أصحابهم فلمْ يروهم ، فنادى علي (عليه السّلام) يومئذ : (( ألا رجل يشري نفسه لله ويبيع دنياه بآخرته
؟ )) . فأتاه رجل من جُعف يقال
له : عبد العزيز بن الحارث على فرس أدهم ، كأنّه غراب مقنّعاً في الحديد لا
يُرى منه إلاّ عيناه ، فقال : يا أمير المؤمنين ، مُرني بأمرك ، فوالله
، ما تأمرني بشيء إلاّ صنعته .
الصفحة (9)
فقال علي (عليه السّلام) :
سمحْتَ بأمرٍ لا يُطـاقُ حفيظةً وصِدقاً وإخوانُ الحفاظِ
قليلُ
جزاك إلهُ النّاسِ خيراً فقدْ وفَتْ يداكَ بفضلٍ ما هناكَ جزيلِ(1)
((
أبا الحارث ، شدّ الله ركنك ، احمل على أهل الشام حتّى تأتي أصحابك فتقول
لهم
: أمير المؤمنين يقرأ عليكم السّلام ، ويقول لكم : هلّلوا وكبّروا من ناحيتكم
،
ونُهلّل نحن ونكبّر من ناحيتنا ، واحملوا من جانبكم ، ونحمل نحن من جانبنا على
أهل الشام )) .
فضرب الجُعفي فرسه حتّى إذا قام على السنابك حمل على أهل الشام
المحيطين بأصحاب علي (عليه السّلام) ، فطاعنهم ساعة وقاتلهم ، فانفرجوا له حتّى
أتى أصحابه . فلمّا رأوه استبشروا به وفرحوا ، وقالوا : ما فعل أمير المؤمنين ؟ قال
: صالح
يقرؤكم السّلام ويقول لكم : هلّلوا وكبّروا واحملوا حملة رجل واحد من ذلك
الجانب ، ونهلّل نحن من جانبنا ونكبّر ونحمل من خلفكم . فهلّلوا وكبّروا وحملوا
، وهلّل علي (عليه السّلام) وأصحابه وكبّروا وحملوا على أهل الشام ، فانفرج أهل الشام عنهم
، فخرجوا وما اُصيب منهم رجل واحد ، ولقد قُتل من فرسان أهل الشام
يومئذ زهاء سبعمئة رجل . فقال علي (عليه السّلام) : (( مَن أعظم
النّاس غناءً
؟ )) . فقالوا : أنت يا
أمير المؤمنين . قال : (( كلاّ ، ولكنّه الجُعفي ))
.
إنّ مقام هذا الجُعفي بصفّين لمقامٌ
عظيمٌ ، وكفاه شهادة أمير المؤمنين (عليه السّلام) له بأنّه أعظم النّاس غناءً
، وما أشبه مقامه بمقام أبي الفضل العبّاس يوم كربلاء حين برز عمرو بن
خالد الصيداوي ، فقال : له الحسين (عليه السّلام) :
(( تقدّمْ فإنّا لاحقون بك عن ساعة )) . فحمل هو وسعد
مولاه ، وجنادة بن الحارث السلماني ، ومجمع بن عبد الله
العائذي ، فشدّوا مقدمين بأسيافهم على النّاس ، فلمّا وغلوا في أصحاب
ابن سعد قطعوهم عن أصحابهم وأحاطوا بهم ، فندب الحسين (عليه السّلام) لهم أخاه
العبّاس
ـــــــــــــــــــــــــــ
(1) في البيت إقواء بيّن .
(موقع معهد
الإمامَين الحسنَين)
الصفحة (10)
فحمل على القوم وحده ، فضرب فيهم بسيفه حتّى فرّقهم عن أصحابه
وخلص إليهم ، فسلّموا
عليه واستنقذهم وجاء بهم ولكنّهم كانوا جرحى ، فأبوا عليه أنْ يستنقذهم
سالمين ، فعاودوا القتال وحملوا فقاتلوا وهو يدفع عنهم حتّى قُتلوا
في مكان واحد ، فعاد العبّاس إلى أخيه وأخبره بخبرهم .
ولكنّ شتّان بين المقامين ؛ فالجُعفي حمل على أهل الشام مستعيناً بأمير المؤمنين
(عليه السّلام) وأصحابه حتّى استنقذوه ومَن معه ، وأبو الفضل العبّاس
حمل وحده على ثلاثين ألفاً من أهل الكوفة ، وضاربهم حتّى وصل إلى
أصحابه وأنصار أخيه الحسين (عليه السّلام) ، واستنقذهم وحده لم يساعده
أحد .
قرّت عينك يا أمير المؤمنين بولدك أبي الفضل العبّاس
الذي ورث منك الشجاعة والفروسية ، وقاتل بين يدي أخيه الحسين (عليه
السّلام) قتال الأبطال ، فلو ترآه وهو مقطوع اليدين ، مرضوخ الجبين ،
مشكوك العين بسهم ، مثخناً بالجراح ، وولدك أبو عبد الله الحسين (عليه
السّلام)
واقف عنده منحنياً ، ثمّ جلس عند رأسه يبكي حتّى فاضت نفسه الطاهرة :
أبا
حسَـنٍ أبنـاؤُكَ اليـومَ حلَّقتْ بقادمةِ الأسيافِ عـنْ خطَّةِ الخسف
ِ
سلْ الطَّفَّ عنهُمْ أين بالأمسِ طنَّبُوا
وأين استقلُّوا اليومَ عن عرْصةِ الطَّفِّ
* * *
ولـمّا رأوا بـعضَ الحياةِ
مذلَّةً عـليهمْ وعِـزَّ الموتِ غيرَ مُحرَّم
ِ
أبَوا أنْ يذوقُوا العيشَ والذي
واقعٌ عـليهِ ومـاتُوا مـيتةً لـم تُذمَّم
ِ
ولا عـجبٌ للاُسْدِ إنْ ظفرَتْ بها
كلابُ الأعادِي منْ فصيحٍ و أعجَم
ِ
فحربةُ وحشيٍّ سَقتْ حمزةَ الرَّدى وحتفُ عليٍّ من حسامِ ابنِ
مُلجَم
ِ
الصفحة
(11)
المجلس السّابع والأربعون بعد المئة
لمّا كان يوم صفّين برز رجل من أهل الشام اسمه كريب بن
الصبّاح الحِميري من آل ذي يزن ، ليس في أهل الشام يومئذ رجل أشهر منه
بشدّة البأس ، ثمّ نادى : مَن
يبارز ؟ فبرز إليه المرتفع بن الوضّاع الزبيدي فقتل المرتفع ، ثمّ نادى
: مَن
يبارز ؟ فبرز إليه الحارث بن الجلاّح فقتله ، ثمّ نادى مَن يبارز ؟ فبرز
إليه
عائذ بن مسروق الهمداني فقتل عائذاً ، ثمّ رمى بأجسادهم بعضها فوق بعض
، ثمّ قام عليها بغياً واعتداءً ، ثمّ نادى : هل بقي من مبارز ؟ فبدر
إليه علي (عليه السّلام) ، ثمّ ناداه : (( ويحك يا كريب ! إنّي
اُحذّرك وأدعوك
إلى سنّة الله وسنّة
رسوله . ويحك ! لا يدخلنّك ابن آكلة الأكباد النّار )) . فكان جوابه أن قال
: ما أكثر ما قد سمعنا هذه المقالة منك فلا حاجة لنا فيها ، أقدم إذا
شئت . مَن يشتري سيفي وهذا أثره ؟ فقال علي (عليه السّلام) :
(( لا حول ولا قوة إلاّ بالله )) . ثمّ مشى إليه فلمْ
يمهله أن ضربه ضربة خرّ منها قتيلاً يتشحّط في دمه .
ثمّ نادى علي (عليه السّلام) :
(( مَن يبارز ؟ ))
. فبرز إليه الحارث بن وداعة الحميري فقتل الحارث ، ثمّ نادى : (( مَن يبارز ؟ ))
. فلم يبرز إليه أحد ، ثمّ إنّ عليّاً (عليه السّلام) نادى :
(( يا معشر
المسلمين ،
الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ
وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا
عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ(1)
. ويحك يا معاوية ! هلُمّ إليّ فبارزني ، ولا يقتتلن
النّاس فيما بيننا
)) . فقال عمرو : اغتنمه منتهزاً ، قد قتل ثلاثة من أبطال العرب ، وإنّي أطمع أن
يظفرك الله به . فقال معاوية : ويحك يا عمرو ! والله ، إنْ تريد إلاّ أنْ
اُقتل
فتصيب الخلافة بعدي ، اذهب إليك عنّي ، فليس مثلي يُخدع .
قال زياد بن النّصر الحارثي :
ــــــــــــــــــــــــ
(1)
سورة البقرة / 194 .
الصفحة
(12)
شهدت مع علي (عليه السّلام)
بصفّين ، فاقتتلنا ثلاثة أيام وثلاث ليال حتّى تكسرت الرماح ونفدت
السّهام ، ثمّ صرنا إلى المسايفة ، فاجتلدنا بالسيوف إلى نصف الليل
حتّى صرنا نحن وأهل الشام في اليوم الثالث يعانق بعضنا بعضاً ، وقد
قاتلت تلك الليلة بجميع السّلاح فلمْ يبقَ شيء من السّلاح إلاّ قاتلت
به حتّى تحاثينا
بالتراب ، وتكادمنا بالأفواه حتّى صرنا قياماً ينظر بعضنا إلى بعض ، ما
يستطيع أحد من الفريقين أنْ ينهض إلى صاحبه ولا يقاتل . فلمّا كان نصف
الليل من الليلة الثالثة انحاز معاوية وخيله من الصف ، وغلب علي (عليه
السّلام) على القتلى تلك الليلة ، وأقبل على أصحاب محمّد (صلّى الله
عليه وآله) وأصحابه فدفنهم .
فأين كان أميرالمؤمنين (عليه السّلام) عن ولده الحسين
(عليه السّلام) وأصحابه يوم طفّ كربلاء ، فيصلّي عليهم ويدفنهم حتّى لا
يبقوا ثلاثة أيام بلياليها على وجه الصعيد كالأضاحي جثثاً بلا رؤوس ،
تسفي عليهم الرياح ، زوارهم الوحوش والطيور، وأكفانهم السّواقي من
الرمال ؟!
مُطرَّحينَ على الرَّمْضاءِ قد iiلبسُوا مـن الـمَهابةِ أبـراداً لـها iiقُشُبَا
مـُضرَّجينَ بـمحمرِّ النَّجيعِ iiبنَى نـَبلُ العِدى والقَنا من فوقِهمْ iiقُببَا
منْ كلِّ جسمٍ بوجهِ الأرضِ مطَّرحٍ وكلِّ رأسٍ برأسِ الرُّمحِ قدْ iiنُصبَا
وأين كان أمير المؤمنين (عليه السّلام) عن ولده الحسين
(عليه السّلام) حين نادى عمر بن
سعد : مَن يبتدر للحسين فيدوس صدره بحوافر فرسه ؟!
ما شفَى داءَ ضغْنِها القتلُ حتّى بالعوادي عادتْ ترضُّ
قُراهَا
الصفحة
(13)
المجلس الثامن والأربعون بعد المئة
لمّا كان يوم صفّين خرج رجل من أهل الشام يسأل المبارزة
، فخرج إليه رجل من أهل العراق ، فاقتتلا بين الصفّين قتالاً شديداً ،
ثمّ إنّ العراقي اعتنق
الشامي فوقعا جميعاً تحت قوائم فرسيهما ، فجلس العراقي على صدره وكشف المغفر عنه يريد ذبحه ، فلمّا رآه عرفه فاذا هو أخوه
. فصاح به أصحاب علي (عليه السّلام) : أجهز على الرجل . فقال : إنّه أخي
. قالوا : فاتركه
. فقال : حتّى يأذن لي أمير المؤمنين (عليه السّلام) . فاُخبر علي
(عليه السّلام) بذلك ، فأرسل إليه : (( دعْهُ )) . فتركه .
وكان لمعاوية مولىً يُقال له : حريث ، وكان فارس معاوية الذي يعدّه لكلّ
مبارز ولكلّ عظيم . وكان حريث يلبس سلاح معاوية متشبّهاً به ، فإذا قاتل قال
النّاس : ذاك معاوية . وإنّ معاوية دعاه وقال له : يا حريث ، اتّقِ
عليّاً وضع رمحك
حيث شئت . فأتاه عمرو بن العاص ، فقال : يا حريث ، لو كنت قرشيّاً لأحبَّ
معاوية أنْ تقتل عليّاً ، ولكن كره أنْ يكون لك حظَّها ، فإنْ رأيت فرصة لعلي فأقحم عليه وقاتله
.
قال : وخرج أمير المؤمنين (عليه السّلام) أمام الخيل
، فحمل
عليه حريث مولى معاوية ، وكان شديداً ذا بأس ، ونادى : يا علي ، هل لك
في المبارزة ؟ فأقدم أبا حسن إذا شئت . فأقبل أمير المؤمنين (عليه
السّلام) ، وهو يقول :
أنـا عـليٌّ و ابنُ عبدِ المُطَّلبْ نـحنُ لَعمرُ اللهِ أولى iiبالكُتُبْ
منّا النّبيُّ المُصطفَى غيرُ كذبْ أهـلُ اللواءِ والمقامِ iiوالحُجُبْ
يا أيُّها العبدُ الغريبُiالمُنتدِبْ اثـبتْ لـنا
يا أيُّها الكلبُ iالكَلِبْ
ثم ضربه علي (عليه السّلام) فقتله ، فجزع عليه معاوية جزعاً شديداً
،
الصفحة
(14)
وعاتب عمرو بن العاص في ذلك ، ثمّ أنشأ معاوية يقول :
حُـريثُ ألَمْ تعلمْ وجهلُك iiضائرُ بـأنّ عليّاً لـلفوارسِ iiقـاهرُ
وأنّ عليّاً لـمْ يـبارزه فارسٌ مـن
النّاس إلاّ أقصدتهُ الأظافرُ
أمـرتُك أمراً حازماً iiفعصيتَني فـجدّك إذْ لمْ تقبل النُّصحَ عاثرُ
ودلاّك عـمروٌ والحوادثُ iiجمَّةٌ غرُوراً وما جرَّتْ عليك iiالمقادرُ
وظنَّ حُريثٌ إنّ عمْراً نصيحُهُ وقد يُهلِكُ الإنسانَ مَن لا يحاذرُ
ولمّا قتل أمير المؤمنين (عليه السّلام) حريثاً ، برز عمرو بن الحصين السكسكي
ـ وهو من أهل الشام ـ ، فنادى بأعلى صوته : يا أبا حسن ، هلمّ
إلىّ المبارزة . فأنشأ علي (عليه السّلام) يقول :
مـا عـلَّتي وأنا جلدٌ iiحازمْ(1) وعـن يميني مَذحِجُ iiالقماقمْ
وعن يساري وائلُ iiالخضارِمْ والقلبُ حولي مُضرُ الجماجمْ
أقـسمتُ بالله الـعليِّ iiالعالِـمْ لا أنـثني إلاّ بـردِّ iiالرّاغمْ
ثمّ حمل عمرو بن الحصين على أمير المؤمنين (عليه
السّلام) ليضربه ، فبادر إليه سعيد بن قيس الهمداني ففلق صلبه ،
فقال أمير المؤمنين (عليه السّلام) :
دعـوتُ فلبّاني منَ القومِ iiعُصبةٌ فـوارِسُ مـن هَمْدانَ غيرُ iiلئام
ِ
فـوارسُ منْ همْدانَ ليسُوا بعزَّلٍ غَداةَ الوغَى من شاكرٍ وشِبامِ(2)
بكـلِّ رُديـنيٍّ وعَـضْبٍ تخالُهُ إذا اخـتلفَ الأقوامُ شَعْلَ ضِـرام
ِ
لـهمدانَ أخـلاقٌ ودينٌ iiيَزينهُمْ وبـأسٌ إذا لاقـَوْا وحدُّ iiخصام
ِ
وجِـدٌّ وصدقٌ في الحروبِ iiونجدةٌ وقـولٌ إذا قـالوا بـغيرِ أثـام
ِ
مـَتى تأتِهمْ في دارهِمْ iiتستَضفهُمْ تـَبِتْ نـاعماً في خِدمةٍ iiوطعام
ِ
_______________________
(1) في الشطر خلل عروضي ، وربما كان
صوابه بهذا النّحو : (
ما علّتي إذ ْ أنا جلد حازمْ
) .
(موقع معهد
الإمامَين الحسنَين)
(2) شاكر وشبام : بطنان من همدان .
الصفحة
(15)
جَزى اللهُ همْدانَ الجنانَ فإنّها سِمامُ العِدى في
كلِّ يوم زحام ِ
فلو كنتُ بوّابا على باب جنَّةٍ لقلـتُ لهمْـدانَ ادخلوا بسلام
ِ
وكانت قبيلة همدان من القبائل الموالية لأمير المؤمنين
(عليه السّلام) والمتفانية في حبّه ، وكفاهم قوله (عليه السّلام) :
فلو كنتُ بوّابا على باب جنَّةٍ لقلـتُ لهمْـدانَ ادخلوا بسلام
ِ
وكان منهم مع ولده الحسين (عليه السّلام) عدد غير
قليل ، منهم : أبو ثمامة الصائدي الذي قال للحسين (عليه السّلام) يوم
عاشوراء : يا أبا عبدالله ، نفسي لنفسك الفداء ! هؤلاء اقتربوا منك ،
لا والله ، لا تُقتل حتّى اُقتل دونك ، وأحبّ أنْ ألقى الله وقد صلّيت
هذه الصلاة معك . فرفع الحسين (عليه السّلام) طرفه إلى السّماء ، وقال
:
(( ذكرتَ الصلاة جعلك الله من المصلّين الذاكرين ، نعم هذا أوّل
وقتها )) . ثمّ قال (عليه السّلام) :
(( سلوهم أنْ يكفّوا عنّا حتّى نصلّي )) . ثمّ إنّ أبا ثمامة
قال للحسين (عليه السّلام) : يا أبا عبد الله ، إنّي قد هممت أنْ ألحق
بأصحابي وكرهت أنْ اتخلّف وأراك وحيداً من أهلك قتيلاً . فقال له
الحسين (عليه السّلام) : ((
تقدّم فإنّا لاحقون بك عن ساعة )) . فتقدّم فقاتل حتّى اُثخن بالجراحات
، ولمْ يزل يقاتل حتّى قُتل .
ومنهم : بُرير بن خضير الهمداني الذي جلس هو وعبد الرحمن بن عبد
ربّه الأنصاري على باب الفسطاط الذي دخله الحسين (عليه السّلام) يوم
عاشوراء ليصلّي ، فجعل برير يضاحك عبد الرحمن ، فقال له عبد الرحمن
: يا برير
، ما هذه ساعة باطل ! فقال برير : لقد علم قومي أنّي ما أحببت الباطل
كهلاً ولا شاباً ؛ وإنّما أفعل ذلك استبشاراً بما نصير إليه ، فوالله ،
ما هو إلاّ أنْ نلقى هؤلاء القوم بأسيافنا نعالجهم بها ساعة ، ثمّ
نعانق الحور العين :
فوارسُ اتخَذوا سُمرَ القنَا سَمَراً فكلَّما سجَعَتْ ورقُ القنَا طَربُوا
الصفحة
(16)
يسْتنجِعـُونَ الـرَّدى شَوقاً لغايتِهِ كأنّما الضربُ
في أفوهِها الضَرَبُ(1)
واستأثَرُوا بالرَّدى منْ دونِ سيِّدهِمْ
قصْـداً وما كلُّ إيثـارٍ به
الأربُ
* * *
المجلس التاسع والأربعون بعد المئة
لمّا كان يوم صفّين قام علي (عليه السّلام) بين الصفّين
، ونادى : (( يا معاوية )) ، يكررها . فقال معاوية
: اسألوه ما شأنه ؟ قال (عليه السّلام) : (( أحبّ أن يظهر لي
فاُكلّمه كلمة
واحدة )) . فبرز معاوية ومعه عمرو بن العاص ، فلمْ يلتفت إلى
عمرو . وقال (عليه السّلام) لمعاوية : ((
ويحك ! علامَ يُقتتل النّاس بيني وبينك ؟! ابرز إليّ فأيُّنا قتل صاحبه فالأمر له
)) . فالتفت معاوية إلى عمرو ، فقال : ما ترى يا أبا عبد الله ،
اُبارزه ؟ فقال عمرو : لقد أنصفك الرجل ، واعلم أنّك إنْ نكلت عنه لمْ تزل سُبّة عليك وعلى عقبك ما
بقي عربي . فقال معاوية : يا عمرو ، ليس مثلي يُخدع عن نفسه ، والله ، ما بارز
ابن أبي طالب رجلاً قطّ إلاّ سقى الأرض من دمه .
ثمّ انصرفا راجعين حتّى انتهيا إلى آخر الصفوف ، وحقَدها معاوية على عمرو
، وقال
: ما أظنّك إلاّ مازحاً ! فلمّا جلس معاوية مجلسه دخل عليه عمرو ، فقال
معاوية :
يا عمروُ إنّكَ
قدْ قشرتَ ليَ العَصا برضاكَ في وسَطِ العجاجِ
بِرازي
ولقدْ أعدْتَ فقُلـتُ مَزْحَـةُ مازحٍ والمَزْحُ يحملُـهُ مقـالُ الهـازي
____________________________
(1) الضرب : العسل وزناً ومعنىً
.
الصفحة (17)
فإذا الذي منَّتكَ نفسُكَ خالياً قتلِي جزاكَ بما نويتَ الجازي
فقال له عمرو
: أتجبن عن خصمك وتتهم نصيحك ؟ وقال مجيباً له :
مـعاويَ إنْ نـكلتَ عن البِرازِ لك الويلاتُ فانظُرْ في المخازي
وما ذنبي بـإنْ نادَى iiعليٌّ وكـبشُ الـقومِ يـُدعَى iiللبِرازِ
فـلَو بـارزْتـهُ بارزتَ
iiليثاً حـديدَ النَّابِ ينفذُ
كلَّ
iiبازِ
وتـزْعمُ أنّـني أضمرتُ غِشاً جـزاني بالذي أضمرتُ جازِ
وبرز عمرو بن العاص في بعض أيام
صفّين ، فاعترضه علي (عليه السّلام) ثمّ طعنه
فصرعه ، واتّقاه عمرو برجله فبدت عورته ، فصرف علي (عليه السّلام) وجهه عنه
، فقال القوم : أفلت الرجل يا أمير المؤمنين . قال (عليه
السّلام) : (( وهل تدرون مَن هو
؟ ))
. قالوا : لا . قال (عليه السّلام) : (( فإنّه عمرو بن
العاص تلقّاني بعورته فصرفت وجهي عنه )) . وإلى ذلك أشار أبو
فراس الحمداني بقوله :
ولا خيرَ في دفعِ الرَّدى بمذلّةٍ كما ردَّها يوماً بسوأتهِ عَمرو
ورجع عمرو إلى معاوية ، فقال له : ما صنعت ؟ قال : لقيني علي فصرعني فاتّقيته
بعورتي . قال : احمد الله وعورتك ، أمّا والله ، لو عرفته ما أقحمت عليه .
وقال معاوية في ذلك :
ألا لله مـنْ هـفواتِ عَمرٍو يـعاتبُني عـلى تركِي iiبِرازي
فـقدْ لاقـَى أبـا حـسنٍ iiعليّاً فـآبَ الـوائليُّ مـآبَ خازِ
فـلَو لـمْ يُـبدِ عورتَهُ iiللاقَى بـهِ لـيثاً يـذللُ كـلَّ iiنازِ
لــه كـفٌّ كـأنَّ iiبـراحتيْها منايا القومِ يخطِفُ خطفَ بازِ
فـإنْ تـكُنْ الـمنيَّةُ iiأخـطأتْهُ فـقدْ غـنَّى بـها أهلُ iiالحجازِ
الصفحة (18)
فغضب عمرو ، وقال : هل هو إلاّ رجل لقيه ابن عمّه فصرعه
، أفترى السّماء قاطرةً
لذلك دماً ؟! قال معاوية : ولكنّها تعقبك جبناً .
وبرز عُروة بن داود الدمشقي ، فقال : إنْ كان معاوية كره
مبارزتك يا أبا الحسن فهلمّ . فتقدّم إليه علي (عليه السّلام) فقال له أصحابه
: ذَر هذا الكلب ؛ فإنّه ليس لك بخطر . فقال (عليه السّلام) : (( والله
، ما معاوية اليوم بأغيظ لي منه
، دعوني وإيّاه )) . ثمّ حمل عليه فضربه فقطعه قطعتين ، سقطت
إحداهما يمنة والاُخرى يسرة ، فارتجّ العسكران لهول الضربة ، ثمّ قال
(عليه السّلام) : (( يا عُروة ، اذهب فأخبر قومك ، أما والذي بعث محمّداً
بالحقِّ لقد عاينت النّار وأصبحت من النّادمين )) .
وحمل ابن عمّ لعُروة على علي (عليه السّلام) فطعنه ، فضرب علي
(عليه السّلام) الرمح فبراه ، ثمّ قنّعه ضربة فألحقه بابن عمّه
، ومعاوية ينظر . فقال معاوية : تبّاً لهذه الرجال وقبحاً ! أما فيهم مَن يقتل
هذا ـ يعني : أميرالمؤمنين (عليه السّلام) ـ مبارزةً أو غيلة ، أو في اختلاط
الفيلق وثَوَران النّقع(1) ؟ فقال الوليد بن عقبة
: ابرز إليه أنت ؛ فإنّك أولى النّاس بمبارزته . فقال : والله ، لقد دعاني إلى البراز
حتّى استحييت من قريش
،
وإنّي والله ، لا أبرز إليه ؛ ما جُعل العسكر بين يدي الرئيس إلاّ وقاية له
. فقال عتبة بن أبي سفيان : الهوا عن هذا ، كأنّكم لم تسمعوا نداءه ، فقد علمتم أنّه
قتل حريثاً وفضح عمراً ، ولا يتحكّك به أحد إلاّ قتله . فقال معاوية لبُسر بن أرطاة
: أتقوم لمبارزته ؟ فقال : ما أحد أحقّ بها منك ، وإذا أبيتموه فأنا
له .
وكان عند بُسر ابنُ عمّ له قدم من الحجاز يخطب ابنته ، فقال لبُسر
: ما يدعوك إلى ذلك ؟ قال : الحياء . فضحك الغلام ، وقال :
تـنازلُهُ يـا بُسْرُ
إنْ كُنتَ مثلَهُ وإلاّ فـإنَّ الـليثَ لـلضبعِ
آكلُ
كـأنّك يا بُسْرُ بنَ أرطاةَ جاهلٌ بـآثارِهِ فـي الحربِ أو متجاهل
ُ
متَى تلْقِهِ فالموتُ في رأسِ رُمحِهِ وفـي سيفهِ شغلٌ لنفسك شاغل
ُ
____________________
(1) النّقع : الغبار .
الصفحة
(19)
فقال بُسر : هل هو إلاّ الموت ! فغدا علي (عليه السّلام) منقطعاً من خيله
ومعه الأشتر ، فناداه
بُسر : ابرز إليّ أبا حسن . فجاءه علي (عليه السّلام) بتؤدة(1)
غير مكترث ، فلمّا قاربه طعنه
وهو دارع فألقاه على الأرض ، ومنع الدرعُ السّنان أنْ يصل إليه فاتّقاه بُسر
، وقصد أنْ يكشف سوأته ليستدفع بأسه فانصرف علي (عليه السّلام) عنه مستدبراً له
، فقال له الأشتر : إنّه بُسر بن أرطاة ! عدو الله وعدوك يا أمير
المؤمنين . فقال (عليه السّلام) : (( دَعْه عليه لعنة الله
، أبَعد أنْ فعلها ! ))
.
ورجع بُسر ، فقال له معاوية : ارفع طرفك قد
أدال الله عمراً منك
.
فقال في ذلك النّضر بن الحارث :
أفـي كلِّ يـومٍ فارسٌ تندبُونهُ لـهُ عـورةٌ وسطَ العَجاجةِ باديهْ
يـكفُّ بـها عـنهُ عـليٌّ سِنانَهُ ويضحكُ منها في الخلاءِ مُعاويهْ
بدتْ أمسِ من عمرٍو فقنَّع رأسَهُ وعـورةُ بُـسرٍ مثلُها حَذْوَ حاذِيهْ
فقولا لعمرٍو وابنِ أرطأةَ أبصِرا سـبيلَكُما لا تَـلقَيا الـلَّيثَ ثانيهْ
ولا تَـحمدا إلاّ الحيا وخُصاكُما هُـما كـانتا واللهِ لـلَّنفس واقيهْ
فـلولاهما لـم تَـنجُوَا منْ سنانهِ وتـلك بما فيها عنْ العَودِ ناهيهْ
متَى تلقيا الخيلَ المُشيحةَ صُبْحةً وفـيها عليٌّ فاتْرُكا الخيلَ ناحيهْ
وكـونا بـعيداً حيثُ لا يبلغ القَنا نـحورَكُما إنّ الـتجاربَ كـافيهْ
وإنْ كان منهُ بعدُ في النَّفسِ حاجةٌ فـعُودا إلـى ما شئتُما هي ما هِيهْ
وعمرو هذا هو الذي دبّر الحيلة على مولانا أمير
المؤمنين (عليه السّلام) برفع المصاحف على رؤوس الرماح حتّى اغترّ
بذلك أهل العراق ، واضطرّ أمير المؤمنين (عليه السّلام) إلى القبول
بالتحاكم إلى القرآن وهو يقول لهم :
(( أنا
كتاب الله النّاطق ، وهذا كتاب الله الصامت )) . فلمْ يسمعوا
.
ولولا رفع تلك
المصاحف على رؤوس الرماح ، لم يُرفع رأس الحسين (عليه السّلام) ورؤوس أصحابه
على رؤوس الرماح يوم كربلاء ، يسار بها من بلد إلى بلد ، فمن كربلاء إلى
الكوفة ،
___________________
(1) أي : مشى مشياً وئيداً .
الصفحة (20)
ومن الكوفة إلى الشام أمام عينَي زين العابدين (عليه
السّلام) ، وأمام عينَي زينب وسائر
النّساء .
ولمّا قربوا من دمشق دنت اُمّ كلثوم من شمر ، فقالت له
: لي إليك حاجة . فقال : ما حاجتك ؟ قالت : إذا دخلت بنا البلد فاحملنا
في درب قليل النظّارة ، وتقدّم إليهم أنْ يخرجوا هذه الرؤوس من بين
المحامل وينحّونا عنها ؛ فقد خزينا من كثرة النّظر إلينا ونحن في
هذه الحال . فأمر في جواب سؤالها ، أنْ تجعل الرؤوس على الرماح في
أوساط المحامل بغيّاً منه وكفراً ، وسلك بهم بين النظّارة على تلك الصفة
:
لـيتَ المواكبَ والوصيُّ iiزعيمُها
وقـَفوا كـموقِفكُمْ عـلى صفّين
بالطفِّ كي يرَوا الاُولى فوق القنَا رُفـعتْ مـصاحفُها اتّقاءَ iiمنون
ِ
جـعلتْ رؤوسَ بني النّبيِّ مكانَها وشـفَتْ قـديمَ لواعجٍ iiوضغون
ِ
المجلس الخمسون بعد المئة
اجتمع عند معاوية بصفّين ليلةً عتبة بن أبي سفيان والوليد بن عقبة
ومروان
بن الحكم وغيرهم ، فقال عتبة : إنّ أمرنا وأمر علي لعجب ! ليس منّا
إلاّ موتور ؛ أمّا أنا فقتل جدّي وشرك في دم عمومتي يوم بدر ؛ وأمّا
أنت يا وليد ، فقتل أبوك يوم الجمل وأيتم إخوتك ؛ وأمّا أنت يا
مروان ، فكما قال الشاعر :
وأفَلتَهُنَّ(1) عِلباءٌ(2) جَريضاً(3) ولو أدرَكْنَهُ صَفِرَ الوِطابُ(4)
_____________________
(1) انفلت منهن .
(2) اسم رجل .
(3) الجريض : المغموم .
(4) الوطاب : جمع وطب ، وهو سقاء اللبن . وصفرت الوطاب
: أي خلت من اللبن
، ويكنّى
به عن الموت . يقال : صفرت وطابه : أي مات أو قُتل . وهذا البيت ضربه كالمثل لمروان ، أي : أنّه أفلت يوم الجمل بآخر رمق ،
ولو أدركه علي (عليه السّلام) لقتله . ـ المؤلّف ـ
الصفحة (21)
قال معاوية : هذا الإقرار فأين الغير ؟ قال مروان : أيّ غير تريد
؟ قال : اُريد أنْ
يشجر بالرماح . فقال : والله ، إنّك لهازل ولقد ثقلنا عليك . فقال الوليد
بن عقبة في ذلك :
يـقولُ لنا معاويةُ بنُ iiحربٍ أمَـا فـيكُمْ لِواترِكُمْ iiطَلُوبُ
يـشدُّ على أبي حسنٍ iiعليٍّ بـأسمرََ لـمْ تُهجِّنهُ الكُعوبُ
فقلتُ لهُ أتلعبُ يابنَ iiهندٍ كـانَّك وسْطَنا رجلٌ iiغريبُ
أتـأمرُنا بـحيَّةِ بـطنِ iiوادٍ إذا نَـهشَتْ فليس لها iiطبيبُ
ومـا ضَـبُعٌ أقام ببطنِ وادٍ اُتـيح لـه بـهِ أسدٌ iiمَهيبُ
بـأضعفَ حـيلةً منّا إذا iiما لَـقيناه وذا مـنَّا iiعَـجيبُ
سِـوى عمرٍو وقَتْهُ iiخُصيتاهُ نـجا ولِـقلبِهِ مـنها iiوَجيبُ
لعمر أبي معاويةَ بن حربٍ ومـا ظنِّي ستلحقهُ العيوبُ
لـقد نـاداهُ في الهيجا iiعليٌّ فـأسمعهُ ولـكنْ لا iiيُجيبُ
فغضب عمرو ، وقال : إنْ كان الوليد صادقاً ، فليلقَ
عليّاً أو ليقف حيث يسمع صوته . وقال عمرو :
يُـذكِّرُني الـوليدُ دُعَا iiعليٍّ وبـطنُ المرءِ يملؤهُ الوعيد
ُ
مَـتى تذكُرْ مشاهدَهُ قُريشٌ يَطِـرْ منْ خوفهِ القلبُ الشديد
ُ
فـأمّا فـي اللقاءِ فأين منهُ مـعاويةُ بنُ حربٍ iiوالوليد
ُ
وعـيَّرَني الوليدُ لقاءَ iiليثٍ إذا مـا زارَ هابَتْهُ الاُسودُ(1)
لـقيتُ ولـستُ أجهلُهُ iiعليّاً وقـدْ بُـلّتْ من العَلَقِ الكُبُود
ُ
فـأطعنُهُ ويـطعنُني خِلاساً ومـاذا بَـعد طـعنتِهِ iiاُريد
ُ
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) إنّ مفردة ( زار ) هنا مخففة عن ( زأر ) التي بمعنى : صاح عن صدره
. (موقع معهد
الإمامَين الحسنَين)
|