المجالس السّنية ـ الجزء الثالث ـ

 
 

الصقحة (136)

المجلس الرابع والتسعون بعد المئة

في غاية المرام : عن مسند أحمد بن حنبل بسنده ، عن سفينة مولى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال : أهدت امرأة من الأنصار إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) طيرين بين رغيفين ، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : (( اللهمّ ، ائتني بأحبّ خلقك إليك وإلى رسولك )) . فجاء علي (عليه السّلام) فرفع صوته ، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : (( مَن هذا ؟ )) . فقلت : علي . قال (صلّى الله عليه وآله) : (( فافتح له )) . ففتحت له فأكل مع النّبيِّ (صلّى الله عليه وآله) من الطيرين حتّى كفيا .

وفي غاية المرام : عن ابن المغازلي الشافعي في المناقب بسنده ، عن أنس بن مالك قال : اُهدي إلى النِّبيِّ (صلّى الله عليه وآله) نُحامة(1) ، فقال (صلّى الله عليه وآله) : (( اللهمّ ، ابعث إليّ أحبّ خلقك إليك وإلى نبيّك ، يأكل معنا هذه المائدة )) . قال : فأتى علي ، فقال : (( استأذن لي على رسول الله )) . فقلت : النّبيُّ عنك مشغول . فرجع علي (عليه السّلام) ، ولمْ يلبث أنْ جاء ، فقال : (( استأذن لي على رسول الله )) . فقلت : النّبيُّ عنك مشغول . فرجع علي (عليه السّلام) ولمْ يلبث أنْ جاء ، فهممت أنْ أقول مثل قولي الأوّل والثاني ، فسمع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من داخل الحجرة كلام علي (عليه السّلام) ، فقال : (( ادخل يا أبا الحسن ، ما الذي أبطأ بك عنّي ؟ )) . قال (عليه السّلام) : (( قد جئتُ يا رسول الله مرّتين وهذه الثالثة ، كلّ ذلك يردّني أنس ، يقول : النّبيّ عنك مشغول )) . فقال (صلّى الله عليه وآله) : (( يا أنس ، ما حملك على هذا ؟ )) . فقلت : يا رسول الله ، سمعت الدعوة فأحببت أن يكون رجلاً من قومي . فقال النّبي (صلّى الله عليه وآله) : (( كلٌ يُحبّ قومه يا أنس )) .

وروي حديث الطائر المشوي في غاية المرام أيضاً ، عن سنن

__________________________________

(1) النُّحَام : طائر كالأوز . وغلّظ الجوهري : في فتحه وشدّه .  ـ المرلف ـ

الصفحة (137)

أبي داود وموفّق بن أحمد الحموئي والسّمعاني وغيرهم ، بطرق كثيرة تبلغ الستّة وثلاثين طريقاً ، كلّها من طرق أهل السُّنّة ، ورواه بثمانية طرق من طرق أهل الشيعة خاصّة .

وقال الصاحب بن عبّاد ـ رحمه الله تعالى ـ :

يـا أميرَ المؤمنينَ iiالمُرتَضى   إنّ قـلبي عـندكُمْ قـدْ iiوَقَـفَا
مَـنْ كـمولايَ عـليٍّ 
iiزاهـدٌ   طـلَّقَ الـدُّنيا ثـلاثاً iiووفَـى
مَـنْ دُعِـي للطِّيرِ كيْ 
iiيأكلُهُ   ولـنَا فـي بعضِ هذا iiمُكتَفَى
مَـنْ وصيُّ المُصطفَى 
iiعندكُمُ   فوصيُّ المُصطَفَى مَنْ يُصْطفَى

وفضائل أمير المؤمنين (عليه السّلام) ومناقبه لا يُحيط بها الحصر . وقد احتجّ الحسين (عليه السّلام) على أهل الكوفة يوم كربلاء بفضائل أبيه أمير المؤمنين (عليه السّلام) ـ في جملة ما احتجّ به ـ ، فقال (عليه السّلام) : (( ألستُ ابنَ بنت نبيّكم ، ، وابنَ وصيّه وابن عمّه ، وأوّل المؤمنين به والمُصدِّقين برسول الله (صلّى الله عليه وآله) وبما جاء به منْ عند ربّه ؟! )) .

وقال (عليه السّلام) في مقام آخر : (( أنشدكم الله ، هل تعلمون أنّ عليّاً كان أوّل القوم إسلاماً ، وأعلمهم علماً وأعظمهم حلماً ، وأنّه وليُّ كلِّ مؤمن ومؤمنة ) . قالوا : اللهمّ نعم . قال (عليه السّلام) : (( فبِمَ تستحلّون دمي وأبي الذائد عن الحوض ، يذود عنه رجالاً كما يُذاد البعير الصادر(1) عن الماء ، ولواء الحمد بيد أبي يوم القيامة ؟ )) . قالوا : قد علمنا ذلك كلّه ، ونحن غير تاركيك حتّى تذوق الموت عطشاً .

قسَتْ القلوبُ فلمْ تَملْ لهدايةٍ   تبّاً لهاتيكَ القُلوبِ القاسيَهْ

ما ذاقَ طعْمَ فُراتِهمْ حتَّى قَضَى   عَطشاً وغُسِّلَ بالدِّماءِ القَانِيهْ

* * *

______________________________
(1) مرّ عن الزمخشري : أنّه الصاد . ووجدناه : الصادر ، وله وجهُ صحّةٍ فأبقيناه .  ـ المؤلّف ـ

الصفحة (138)

المجلس الخامس والتسعون بعد المئة

قال الله تعالى في سورة المائدة : ( إِنّمَا وَلِيّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالّذِينَ آمَنُوا الّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَن يَتَوَلّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالّذِينَ آمَنُوا فَإِنّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ )(1) . اتّفق المفسرون على أنّها نزلت في حقّ علي بن أبي طالب (عليه السّلام) حين مرّ سائل ، وهو راكع ، في المسجد فأعطاه خاتمه . ورُوي في الجمع بين الصحاح الستّة من صحيح النسائي ، عن ابن سلام ، قال : أتينا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، فقلنا : إنّ قومنا حادّونا لمّا صدّقنا الله ورسوله ، وأقسموا أنْ لا يُكلّمونا . فأنزل الله تعالى : ( إِنّمَا وَلِيّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالّذِينَ آمَنُوا الّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) . ثُمّ أذّنَ بلال لصلاة الظهر ، فقام النّاس يُصلّون ؛ فمِنْ بين ساجد وراكع وسائل ، إذ سائل يسأل ، فأعطاه علي (عليه السّلام) خاتمه وهو راكع ، فأخبر السّائل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، فقرأ علينا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : ( إِنّمَا وَلِيّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ . . . ) إلى آخر الآية .
وروى الثعلبي في تفسيره بسنده : إنّ أبا ذر ـ رضي الله عنه ـ قال : أيّها النّاس مَن عرفني فقد عرفني ، ومَن لم يعرفني فأنا جندب بن جنادة البدري ، أبو ذر الغفاري ، سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بهاتين ـ وإلاّ صُمّتا ـ ورأيته بهاتين ـ وإلاّ فعميتا ـ يقول : (( عليٌّ قائد البررة ، وقاتل الكفرة ، منصور مَن نصره ، مخذول مَن خذله )) . أما إنّي صلّيت مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يوماً من الأيام صلاة الظهر ، فسأل سائل في المسجد فلَمْ يعطِه أحد ، فرفع السّائل يده إلى السّماء ، وقال : اللهمّ ، اشهد إنّي سألت في مسجد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فلمْ يعطني أحدٌ شيئاً . وكان علي راكعاً ، فأومأ إليه بخنصره اليُمنى ـ وكان يتختّم فيها ـ ، فأقبل السّائل حتّى أخذ الخاتم من

____________________

(1) سورة المائدة / 55 ـ 56 .


الصفحة (139)

خنصره ، وذلك بعين النّبي (صلّى الله عليه وآله) ، فلمّا فرغ [ النبيُّ ] من صلاته ، رفع رأسه إلى السّماء ، وقال : (( اللهمّ ، موسى سألك فقال : رَبّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً من لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي* وَاجْعَل لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي(1) . فأنزلت عليه قرآناً ناطقاً : سَنَشُدّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا(2) . اللهمّ ، وأنا محمّد نبيّك وصفيّك . اللهمّ ، فاشرح لي صدري ، ويسّر لي أمري ، واجعل لي وزيراً عليّاً ، اشدد به ظهري )) .

قال أبو ذر : فما استتم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الكلمة حتّى نزل جبرائيل (عليه السّلام) من عند الله تعالى ، فقال : يا محمّد ، اقرأ . قال (صلّى الله عليه وآله) : (( ما أقرأ ؟ )) . قال : اقرأ : ( إِنّمَا وَلِيّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالّذِينَ آمَنُوا الّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ )(3) .

وكما جاد أمير المؤمنين (عليه السّلام) بخاتمه في صلاته ، جاد ولده الحسين (عليه السّلام) بخاتمه بعد قتله ؛ وذلك لمّا أقبل القوم على سلب الحسين (عليه السّلام) فأخذ خاتمه بجدل بن سليم الكلبي . ولكنّ فرق عظيم بين المقامين ؛ فأمير المؤمنين (عليه السّلام) أشار إلى السّائل ـ وهو في صلاته ـ أنْ يأخذ الخاتم من يده فأخذه ؛ وأمّا الحسين (عليه السّلام) ، فجاء بجدل بن سليم الكلبي ليسلبه بعد قتله ـ مع الذين جاؤوا إلى سلبه ـ فوجد الخاتم في يده وقد جمدت عليه الدماء ، فلمْ يستطعْ نزعه من يده الشريفة ، فقطع إصبعه مع الخاتم .

ومُبدَّدُ الأوصالِ لازَمَ حزُنُهُ   شملَ الكمالِ فلازم التّبديدَا

ومجرحٌ ما غيَّرتْ منه القنَا   حُسناً وما أخلقْنَ منه جديدَا

____________________

(1) سورة طه / 25 ـ 32 .

(2) سورة القصص / 35 .

(3) سورة المائدة / 55 .


الصفحة (140)

المجلس السّادس والتسعون بعد المئة

في غاية المرام : عن مسند أحمد بن حنبل بسنده : أنّ النّبيّ (صلّى الله عليه وآله) آخى بين النّاس وترك عليّاً ، فقال (عليه السّلام) : (( يا رسول الله ، آخيت بين النّاس وتركتني ! )) . قال (صلّى الله عليه وآله) : (( ولِمَن تراني تركتك ؟ إنّما تركتك لنفسي . أنت أخي وأنا أخوك ، فإنْ فاخرك أحد ، فقل : أنا عبد الله وأخو رسول الله . لا يدّعيها أحدٌ غيرك إلاّ كذاب )) .

وفيه عن مسند أحمد بن حنبل أيضاً ، وذُكر مؤاخاة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بين الصحابة ، فقال علي (عليه السّلام) للنبيّ (صلّى الله عليه وآله) : (( لقد ذهبت روحي وانقطع ظهري حين رأيتك فعلت بأصحابك ما فعلت غيري ، فإنْ كان هذا من سَخَطٍ منك ، فلك العُتبى والكرامة ؟ )) . فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : (( والذي بعثني بالحقّ نبيّاً ، ما اخّرتك إلاّ لنفسي ، فأنت منِّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي ، وأنت أخي ووارثي )) . قال (عليه السّلام) : (( وما أرث منك يا رسول الله ؟ )) . قال (صلّى الله عليه وآله) : (( ما ورث الأنبياء قبلي )) . قال (عليه السّلام) : (( ما ورث الأنبياء قبلك ؟ )) . قال (صلّى الله عليه وآله) : (( كتاب الله وسنّة نبيّهم . وأنت معي في الجنّة ، وأنت أخي ورفيقي )) . ثمّ تلا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : ( إِخْوَاناً عَلَى‏ سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ )(1) : المُتحابّون في الله ينظر بعضهم إلى بعض .

وقال صفي الدين الحلّي ـ رحمه الله ـ :

أنت سرُّ النّبيِّ والصنوُ وابنُ الـْ   ـعمِّ والصهرُ والأخُ المُستَجادُ

لـو رأى مثـلَكَ النّبيُّ لآخـا   هُ وإلاّ فـأخـطَأَ الانـتـقـادُ

وعن جابر بن عبد الله ، قال : سمعت عليّاً يُنشد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) شعراً :

أنا أخو المُصطفَى لا شكَّ في نسَبي   معْهُ رُبيتُ وسِبطاهُ هُما ولدِي

جـدِّي وجـدُ رسـول الله منفـردٌ(2)   وفاطمٌ زوجَتي لا قول ذي فَنَدِ

ـــــــــــــــ
(1)
سورة الحجر / 47 .

(2) هكذا وردت كلمة ( منفرد ) في أكثر من مصدر ، ولعل الصحيح ( مُتّحد ) .  ( موقع معهد الإمامَين الحسنَين )


الصفحة (141)

صدقتُهُ وجميعُ النّاسِ في بُهَمٍ   من الضَّلالةِ والإشراكِ والنكَدِ

فالحمدُ للهِ شُكراً لا شريكَ لهُ   البَـرّ بالعبدِ والباقِـي بـلا أمدِ

ولمّا بات علي (عليه السّلام) على فراش رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ليلة الغار ، أوحى الله عزّ وجل إلى جبرائيل وميكائيل : (( إنّي قد آخيت بينكما ، وجعلتُ عُمرَ أحدكما أطول من عُمرِ صاحبه ، فأيّكما يُؤثر أخاه ؟ )) . فكلاهما كره الموت ، فأوحى الله إليهما : (( عبديَّ ، ألا كُنتما مثلَ وليي علي بن أبي طالب ؛ آخيتُ بينه وبين نبيي فآثره بالحياة على نفسه ، ثمّ رقَد على فراشه يُفديهِ بمهجته ؟ اهبطا إلى الأرض فاحفظاه منْ عدوّه )) . فهبط جبرائيل فجلس عند راسه ، وميكائيل عند رجليه ، وجعل جبرائيل يقول : بخٍ بخٍ ، مَنْ مثلك يابنَ أبي طالب والله عزّ وجل يُباهي بك الملائكة ! 

ودرجة الإخوّة درجة عظيمة ومنزلتها منزلة رفيعة ؛ ولهذا لمّا بعث الحسين (عليه السّلام) ابن عمّه مسلم بن عقيل إلى أهل الكوفة ، كتب إليهم معه : (( وأنا باعثٌ إليكم أخي وابن عمّي ، وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل )) . وقد قام مسلم بأعباء هذه الإخوّة وحقّق ظنّ الحسين (عليه السّلام) فيه ، ولمّا خذله أهل الكوفة وتفرّقوا عنه ، وأرسل إليه ابن زياد سبعين رجلاً مع محمّد بن الأشعث ، وسمع مسلم وقع حوافر الخيل وأصوات الرجال ، علم أنّه قد اُتي في طلبه فخرج إليهم بسيفه ، واقتحموا عليه الدار ، فشدّ عليهم يضربهم بسيفه حتّى أخرجهم من الدار ، ثمّ عادوا إليه ، فشدّ عليهم كذلك ، فأخرجهم مراراً وقتل منهم جماعة ، فلَمّا رأوا ذلك ، أشرفوا عليه من فوق البيت يرمونه بالحجارة ، ويُلهبون النّار في القصب ويرمونها عليه ، فخرج عليهم مُصلتاً سيفه في السّكة ، وهو يقول :

أقسمتُ لا اُقتلُ إلاّ حُرّا   وإنْ رأيتُ الموتَ شيئاً نُكْرَا

وتكاثروا عليه بعدما اُثخن بالجراح ، فطعنه رجل من خلفه فخرّ إلى


الصفحة (142)

الأرض فاُخذ أسيراً . فقال ابن زياد : اصعدوا به فوق القصر فاضربوا عنقه ، ثمّ اتبعوه جسده . ففُعل به ذلك ، فلمّا بلغ خبره الحسين (عليه السّلام) ، استعبر باكياً ، ثمّ قال : (( رحم الله مُسلماً ، فلقد صار إلى رَوح الله وريحانه ، وتحيّاته ورضوانه ، أما أنّه قد قضى ما عليه وبقي ما علينا ))

يا مُسلمُ بنَ عقيلٍ لا أغبَّ ثرَى   ضريحِكَ المُزنُ هطّـالاً وهتّانا

بذلتَ نفْسكَ في مرضاةِ خالِقِها   حتّى قضيتَ بسيفِ البغْي ظمْآنا

* * *

المجلس السّابع والتسعون بعد المئة

لمّا بُويع أمير المؤمنين (عليه السّلام) بالخلافة ، خرج إلى المسجد مُتعمّماًً بعمامة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، لابساً بُردة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، مُنتعلاً نعل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، مُتقلّداً سيف رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، فصعد المنبر فجلس عليه متمكّناً ، ثمّ شبك بين أصابعه فوضعها أسفل بطنه ، ثمّ قال : (( يا معشر النّاس ، سلوني قبل أنْ تفقدوني ، هذا سفطُ العلم ، هذا لعاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، هذا ما زقّني رسول الله (صلّى الله عليه وآله) زقاًّ . سلوني فإنّ عندي علم الأوّلين والآخرين . أمَا والله ، لو ثُنيت لي الوسادة(1) وجلست عليها ، لأفتيتُ أهلَ التَّوراة بتوراتهم ، وأهلَ الإنجيل بإنجيلهم ، وأهلَ القُرآن بقرآنهم حتّى ينطق كلُّ واحدٍ من هذه الكتب ، فيقول : صدقَ عليٌّ ما كذب ، لقد أفتاكم بما أنزل الله فيَّ . وأنتم تتلون القرآن ليلاً ونهاراً ، فهل فيكم أحدٌ يعلم ما أنزل الله فيه ؟ ولولا آيةٌ في كتاب الله عزّ وجل ، لأخبرتُكم بما كان وبما يكون وبما هو كائن إلى يوم القيامة )) . وهي هذه الآية : ( يَمْحُوا اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ

______________________

(1) أو : لو ثُنيت لي وسادة .  ـ المولف ـ


الصفحة (143)

اُمّ الْكِتَابِ )(1) . ثمّ قال : (( سلوني قبل أنْ تفقدوني ، فوالذي فَلَقَ الحبّة وبرأ النّسمة ، لو سألتموني عن أيّةِ آية ، في ليلٍ نزلت أو في نهار ، مكِّيِّها ومدنيِّها ، سفريِّها وحضريِّها ، ناسخها ومنسوخها ، محكمها ومتشابهها ، وتأويلها وتنزيلها ، لأخبرتكم )) . فقام إليه رجل يُقال له : ذعلب ، وكان ذرب اللسان بليغاً في الخطب شجاع القلب ، فقال : لقد ارتقى ابن أبي طالب مرقاة صعبة ، لاُخجِّلنّه اليوم لكم في مسألتي إيّاه ، فقال : يا أمير المؤمنين ، هل رأيت ربّك ؟ فقال : (( ويلك يا ذعلب ! لمْ أكنْ بالذي أعبدُ ربّاً لَمْ أره )) . قال : كيف رأيته ؟ صفه لنا ؟ قال : (( ويلك ! لمْ ترَه العيون بمشاهدة الأبصار ، ولكنْ رأته القلوب بحقائق الإيمان . ويلك يا ذعلب ! إنّ ربّي لا يُوصف بالبُعد ولا بالقُرب ، ولا بالحركة ولا بالسّكون ، ولا بقيام قيام انتصابٍ ولا بجيئة وذهاب . لطيفُ اللّطافة لا يُوصف باللّطف ، عظيمُ العظمة لا يُوصف بالعظم ، كبيرُ الكبر لا يُوصف بالكبر ، جليلُ الجلالة لا يُوصف بالغلظ ، رؤوفُ الرحمة لا يُوصف بالرّقة . مؤمنٌ لا بعبادة ، مدركٌ لا بمحسّة ، قائلٌ لا بلفظ ، هو في الأشياء على غير ممازجة ، خارجٌ عنها على غير مباينة ، فوق كلِّ شي ولا يُقال له فوق ، أمام كلّ شيء ولا يُقال له أمام ، داخلٌ في الأشياء لا كشيء في شيء داخل ، وخارج منها لا كشيء من شيء خارج )) .

فخرّ ذعلب مغشيّاً عليه ، ثُمّ قال : تَاللهِ ، ما سمعت بمثل هذا الجواب ، والله ، لا عُدت إلى مثلها أبداً . ثُمّ قال (عليه السّلام) : (( سلوني قبل أنْ تفقدوني )) . فقام إليه رجل من أقصى المسجد متوكّئاً على عكّازه ، فلمْ يزلْ يتخطّى النّاس حتّى دنا منه ، فقال : يا أمير المؤمنين ، دلّني على عمل إذا أنا عملته نجّاني الله من النّار ؟ فقال (عليه السّلام) له : (( اسمع يا هذا ، ثمّ افهم ثمّ استيقن ، قامت الدنيا بثلاثة : بعالمٍ ناطق مستعملٍ لعلمه ، وبغنيٍّ لا يبخل بماله عن أهل دين الله عزّ وجل ، وبفقير صابر ؛ فإذا كتم العالمُ علمه ، وبخل الغنيُّ ، ولمْ يصبرْ الفقير ، فعندها الويل والثبور ! وعندها

_____________________

(1) سورة الرعد / 39 .


الصفحة (144)

يعرف العارفون بالله أنّ الدار قد رجعت إلى بدئها . أيّها السّائل ، لا تغترنّ بكثرة المساجد ، وجماعة أقوام أجسادُهم مجتمعة وقلوبهم شتّى . أيّها السّائل ، إنّما النّاس ثلاثة : زاهد ، وراغب ، وصابر ؛ فأمّا الزاهد فلا يفرح بشيء من الدنيا أدركه ، ولا يحزن على شيء منها فاته ؛ وأمّا الصابر فيتمنّاها بقلبه ، فإنْ أدرك منها شيئاً صرف عنها نفسه ؛ لِمَا يعلم من سوء عاقبتها ؛ وأمّا الراغب فلا يُبالي مِن حلٍّ أصابها ، أمْ من حرام )) . قال : يا أمير المؤمنين ، فما علامة المؤمن في ذلك الزمان ؟ قال (عليه السّلام) : (( ينظر إلى ما أوجب الله عليه من حقٍّ فيتولاّه ، وينظر إلى ما خالفه فيتبرّأ منه وإنْ كان حبيباً قريباً )) . قال : صدقت والله ، يا أمير المؤمنين .

* * *

المجلس الثامن والتسعون بعد المئة

وقال الأصبغ بن نباتة : أتى أمير المؤمنين (عليه السّلام) ومعه قنبر البزّازين(1) ، فساوم غلاماً بثوبين ، فماكسه الغلام حتّى اتّفقا على سبعة دراهم ؛ ثوباً بأربعة دراهم ، وثوباً بثلاثة دراهم . وقال لقنبر : (( اختر أحد الثوبين )) . فاختار الذي بأربعة ولبس هو الذي بثلاثة ، وقال (عليه السّلام) : (( الحمد لله الذي رزقني ما اُواري به عورتي ، واتجمّل به في خلقه )) . ثمّ أتى المسجد فكوّم كومةً من حصىً فاستلقى عليها ، فجاء أبو الغلام فقال : إنّ ابني لَمْ يعرفك ، وهذان الدرهمان ربحهما فخذهما . فقال (عليه السّلام) : (( ما كنتُ لأفعل ، فقد ماكسته وماكسني واتّفقنا على رضا )) .

وروي : أنّ أمير المؤمنين (عليه السّلام) أتى

____________________________

(1) الذين يبيعون البز ، أي : القماش .  ـ المؤلّف ـ

الصفحة ( 145 )

سوق الكرابيس(1) فإذا هو برجل وسيم(2) ، فقال (عليه السّلام) : (( يا هذا ، عندك ثوبان بخمسة دراهم ؟ )) . فوثب الرجل فقال : يا أمير المؤمنين ، عندي حاجتك . فلمّا عرفه مضى عنه ، فوقف على غلام ، فقال (عليه السّلام) : (( يا غلام ، عندك ثوبان بخمسة دراهم ؟ )) . قال : نعم ، عندي ثوبان . فأخذ ثوبين أحدهما بثلاثة دراهم والآخر بدرهمين ، فقال (عليه السّلام) : (( يا قنبر ، خُذ الذي بثلاثة دراهم )) . فقال : أنت أولى به ؛ تصعد المنبر وتخطب النّاس . قال (عليه السّلام) : (( وأنت شابٌّ ولك شره الشباب ، وأنا أستحي من ربّي أنْ أتفضّل عليك . سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول : البسوهُم ممّا تلبسون ، وأطعموهُم ممّا تأكلون )) .

وقال المفيد ـ عليه الرحمة ـ في الإرشاد : من آيات الله الخارقة للعادة في أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، أنّه لمْ يعهد لأحد من مبارزة الأقران ومنازلة الأبطال ما عُرف له على مَرّ الزمان ، ولمْ يُوجد في ممارسي الحروب إلاّ مَن أصابته بشرٍّ أو جراحة أو شين إلاّ أمير المؤمنين (عليه السّلام) ؛ فإنّه لمْ ينلْه مع طول زمان حروبه جراحٌ من عدو ، ولا شينٌ ، ولا وصل إليه بسوء حتّى كان من اغتيال ابن ملجم له ما كان ، وهذه اُعجوبة أفرده الله في الآية فيها ، ودلّ بذلك على مكانه منه ، وتخصّصه بكرامته التي بان بفضلها من كافّة الأنام .

قال : ومن آيات الله تعالى فيه ، أنّه لا يوجد ممارس للحروب إلاّ وهو ظافر بعدوه مرّة ، وغير ظافر به اُخرى ، ومَن جرح منهم خصمه ؛ فمرّة يموت من جرحه ، ومرّة يُعافى ، ولمْ يعهدْ شخص لمْ يفلتْ منه قَرنٌ ، ولا نجا من ضربته أحدٌ إلاّ أمير المؤمنين (عليه السّلام) ؛ فإنّه لا مرية في ظفره بكلِّ قَرن بارزه ، وإهلاكه كلَّ بطلٍ نازله ، وهذا ما انفرد

____________________________
(1) الكرابيس : جمع كرباس ، بوزن مصباح ، وهو الخام الغليظ .
(2) جميل الصورة .    ـ المؤلّف ـ

الصفحة ( 146 )

به من كافّة الأنام ، وخرق الله ـ عزّ وجل ـ به العادة في كلّ حين وزمان ، وهو من دلائله الواضحة .

قال : ومِن آيات الله تعالى فيه ، أنّه مع طول ممارسته للحروب ، وكثرة مَن حاربه من الشجعان واحتيالهم عليه ، وبذلهم الجُهد في الفتك به ، ما ولّى أحداً منهم ظهره ، ولا تزحزح عن مكانه ، ولا هاب أحداً من أقرانه ، ولمْ يلقَ أحدٌ سواه خصماً له في حربٍ إلاّ كان مرّة يثبت له ومرّة ينحرف عنه ، وتارة يقدم عليه وتارة يحجم عنه .

قال : ومِن آياته التي انفرد بها ، ظهور مناقبه في الخاصّة والعامّة مع كثرة المنحرفين عنه ، وتوفر الأسباب إلى كتمان فضله ، وكون الدُّنيا في يد خصومه . وقد استفاض عن الشعبي أنّه كان يقول : لقد كنتُ أسمع خطباء بني اُميّة يسبّون أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السّلام) على منابرهم وكإنّما يُشال إلى السّماء ؛ ويمدحون أسلافهم على منابرهم وكأنّهم يكشفون عن جيفة .

وقال الوليد بن عبد الملك لبنيه : عليكم بالدِّين ؛ فإنّي لمْ أرَ الدِّينَ بَنى شيئاً فهدمته الدنيا ، ورأيت الدُّنيا قد بنت بُنياناً فهدمه الدين . مازلتُ أسمع أهلنا يسبّون علي بن أبي طالب ويدفنون فضائله ، ويحملون النّاس على شنآنه ، فلا يزيده ذلك في القلوب إلاّ قُرباً ، ويجتهدون في تقريبهم من نفوس الخلق ، فلا يزيدهم ذلك من القلوب إلاّ بُعداً .

قال المفيد : وفيما انتهى إليه الأمر من دفن فضائل أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، والحيلولة بين العلماء ونشرها ، ما لا شبهة فيه على عاقل ، حتّى كان الرجل إذا أراد الرواية عنه لمْ يستطع أن يذكر اسمه ، فيقول : حدّثني رجلٌ من أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، أو رجل من قريش ، ومنهم مَن يقول : حدّثني أبو زينب .

وروى عكرمة عن بعض اُمّهات المؤمنين حديثاً فيه : فخرج رسول الله (صلّى الله عليه وآله) متوكّئاً على رَجُلين من أهل بيته ؛ أحدهما الفضل بن العبّاس . فحكى ذلك عكرمة لابن عبّاس ، فقال له : أتعرف


الصفحة ( 147 )

الرجل الآخر ؟ قال : لا ، لمْ تُسمّه لي . قال : ذاك علي بن أبي طالب (عليه السّلام) ، وما كانت اُمّناً تذكره بخير وهي تستطيع .

وكانت ولاة الجور تضرب بالسّياط مَنْ ذكره ، بل تضرب الرقاب على ذلك وتحرّض النّاس على البراءة منه . والعادة جارية ، أنّ مَن يُتّفق له ذلك لا يُذكر بخير فضلاً عن أنْ تُذكر له مناقب .

قال : ومِن آيات الله تعالى فيه ، أنّه لمْ يبتلِ أحدٌ في ولده وذرّيّته بمثل ما ابتُلي به (عليه السّلام) في ذرّيّته ؛ وذلك أنّه لمْ يُعرف خوفٌ شمل جماعة من ولد نبيٍّ ولا إمام ، ولا ملكٍ ولا برٍّ ولا فاجر ، كالخوف الذي شمل ذرّيّة أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، ولا لحق أحداً من القتل والطرد عن الأوطان والإخافة ما لحق ذرّيّته وولده ، ولم يجرِ على طائفة من النّاس من ضروب النِّكال ما جرى عليهم ؛ فقُتلوا بالفتك والغيلة والاحتيال ، وبُني على بشرٍ منهم من البنيان وهم أحياء ، وعُذّبوا بالجوع والعطش حتّى ماتوا ، وأحوجهم ذلك إلى مفارقة الأوطان والتغرّب في البلدان ، وكتمان نسبهم والاستخفاء حتّى عن أحبّائهم ، وجانبهم النّاس مخافة على أنفسهم وذراريهم من جبابرة الزمان ؛ وكلُّ ذلك يُوجب قلّة عددهم وانقطاع نسلهم ، وهم مع ذلك أكثر ذرّيّة أحد من الأنبياء والأولياء وسائر النّاس ، وفي ذلك خرق للعادة .

أقول : وكفى في ذلك أنّ بني اُميّة قد قتلوا في يوم كربلاء من آل الرسول (صلّى الله عليه وآله) مع الحسين (عليه السّلام) سبعة عشر رجلاً ، وقتلوا جماعة من الأطفال ، وقتلوا مسلم بن عقيل بالكوفة ، ولمْ يبقَ منهم غيرُ العليل زين العابدين (عليه السّلام) وثلاثة أو أربعة من الصبيان ، وسمّوا الحسن (عليه السّلام) ، وقتلوا زيد بن علي ، ويحيى بن زيد وغيرهم من بني هاشم .

وقتل بنو العبّاس الكثيرين منهم ، وبنَوا على بعضهم الحيطان وهدموا عليهم الحبوس ، وما زادهم الله بذلك إلاّ بركةً ونموّاً .


الصفحة (148)

تَتبْعوكُـمْ ورامُـوا محْوَ فضـلِكمُ   وخيّبَ اللهُ مَنْ في ذلكُمْ طمِعا

أنّى وفي الصلواتِ الخمسِ ذكْركُمُ   لدى التَّشهُّـدِ للتوحيدِ قدْ شَفعا

* * *

المجلس التاسع والتسعون بعد المئة

قال الإمام علي لابنه الحسن (عليهما السّلام) : (( لا تدعونَّ إلى مبارزةٍ ، فإنْ دُعيت إليها فأجبْ ؛ فإنّ الداعي إليها باغٍ مقتول )) . قيل : أنّه (عليه السّلام) ما دعا إلى مبارزة قط ، وإنّما كان يُدعى هو بعينه ، أو يُدعى : مَن يبارز ؟ فيخرج إليه فيقتله .

دعا بنو ربيعة بن عبد شمس بني هاشم إلى البراز يوم بدر ، فخرج علي (عليه السّلام) فقتل الوليد ، واشترك هو وحمزة في قتل عتبة بن ربيعة . ودعا طلحة إلى البراز يوم اُحد ، فخرج (عليه السّلام) إليه فقتله . ودعا مرحب إلى البراز يوم خيبر ، فخرج (عليه السّلام) إليه فقتله . ودعا عمرو بن عبد ود يوم الخندق إلى البراز ، فخرج (عليه السّلام) إليه فقتله .

قال ابن أبي الحديد : وإنّ خروجه إلى عمرو يوم الخندق أجلُّ من أنْ يُقال جليلة ، وأعظم من أنْ يُقال عظيمة ، وما هي إلاّ كما قال أبو الهذيل ، وقد سأله سائل : أيّما أعظم منزلة عند الله علي أمْ غيره ؟ فقال : يا ابن أخي ، والله ، لَمبارزة علي عمراً يوم الخندق تعِدل أعمال المهاجرين والأنصار وطاعتهم ، وتُربي عليها ، فضلاً عن رجل واحد .

وروي عن ربيعة بن مالك ، قال : أتيت حذيفة بن اليمان ، فقلت : يا أبا عبد الله ، إنّ النّاس يتحدّثون عن علي بن أبي طالب ومناقبه ، فيقول لهم أهل البصرة : إنّكم لتفرّطون في تقريض هذا الرجل ، فهل أنت مُحدّثي بحديث عنه


الصفحة (149)

أذكره للناس ؟ فقال : يا ربيعة ، ما الذي تسألني عن علي ؟ وما الذي اُحدثك عنه ؟ والذي نفس حذيفة بيده ، لو وُضع جميع أعمال اُمّة محمّد (صلّى الله عليه وآله) في كفّة ، منذ بعث الله محمّداً (صلّى الله عليه وآله) إلى يوم النّاس هذا ، ووُضع عمل واحد من أعمال علي في الكفّة الاُخرى ، لرجح على أعمالهم كلِّها . فقال ربيعة : ما هذا المدح الذي لا يُقام له ولا يُقعد ولا يُحمل ؟! إنّي لأظنّه إسرافاً يا أبا عبد الله . فقال حذيفة : يا لُكَع(1) ! وكيف لا يُحمل ؟! وأين كان المسلمون يوم الخندق وقد عبر إليهم عمرو وأصحابه فملكهم الهلع والجزع ، ودعا إلى المبارزة فأحجموا عنه حتّى برز إليه عليٌّ فقتله ؟! والذي نفس حذيفة بيده ، لَعملُه ذلك اليوم أعظمُ أجراً من أعمال اُمّة محمّد (صلّى الله عليه وآله) إلى هذا اليوم ، وإلى أنْ تقوم القيامة .

وقال جابر بن عبد الله الأنصاري ـ رضي الله عنه ـ : والله ، ما شبهت يوم الأحزاب قتل علي عمراً ، وتخاذل المشركين بعده إلاّ بما قصّه الله تعالى من قصة طالوت وجالوت في قوله تعالى : ( فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ )(2) . وقال أبو بكر بن عيّاش : لقد ضرب عليُّ بن أبي طالب (عليه السّلام) ضربةً ما كان في الإسلام أيمن منها ، ولقد ضُرب عليٌّ (عليه السّلام) ضربة ما كان في الإسلام أشأم منها ؛ وهي ضربة عبد الرحمن بن ملجم .

أقول : وهي الضربة التي شقّت رأس أمير المؤمنين (عليه السّلام) إلى موضع سجوده ، وهو في صلاته ، فنادى (عليه السّلام) : (( قتلني اللعين ابن اليهوديّة . فُزتُ وربّ الكعبة )) . أجل والله ، لمْ يكنْ في الإسلام أشأم من تلك الضربة ، فهي التي هدّمت أركان الهُدى وفصمت العُروة الوثقى ، وسدّت باب مدينة علم المصطفى .

وهناك ضربات اُخرى في الإسلام مشؤومة ؛ وهي ضربة مالك بن النّسر الكندي للحسين بن علي (عليه السّلام)

__________________

(1) لكع : لئيم أو ذليل .    ـ المؤلّف ـ
(2) سورة البقرة / 251 .

الصفحة (150)

بالسّيف على رأسه ، وكان على رأسه برنس فقطع البرنس ووصل السّيف إلى رأسه ، فامتلأ البرنس دماً ، فقال له الحسين (عليه السّلام) : (( لا أكلت بيمينك ولا شربت بها ، وحشرك الله مع القوم الظالمين )) .

وضربة زرعة بن شريك له على كتفه الأيسر ، وضربة رجل له بالسّيف على عاتقه المُقدّس ضربةً كبا بها لوجهه ، وكان قد أعيا فجعل يقوم ويكبو ، وضربة شمر بن ذي الجوشن حين جاء إليه فاحتزّ رأسه الشريف ، وهو يقول : والله ، إنّي لأحتزّ رأسك وأعلم أنّك السيّد المُقدّم ، وابن رسول الله ، وخير النّاس أباً و اُمّاً .

قتلُوهُ بعدَ علمٍ منهُمُ   أنّهُ خامسُ أصحابِ العَبا

* * *

يابنَ الذينَ توارَثُوا iiالـ   ـعـلْيَا قَـبيلاً عنْ iiقبيلِ
والـسّـابقينَ
iiبـمجدهمْ   فـي كلِّ جيلٍ كلَّ iiجيلِ
إنْ تُـمسَّ مُنكسِـرَ 
iiاللّوا   ملقىً على وجهِ iiالرُّمولِ
فـلـقدْ قُـتلتَ 
iiمُـهذَّباً   منْ كلِّ عيبٍ في iiالقتيلِ
جـمُّ الـمِناقبِ لـمْ 
iiتكُنْ   تُـعطي العِدا كفَّ iiالذليلِ
يُـهدَى لك الذِّكرُ الجميـْ   ـلُ على الزَّمانِ المُستطيلِ

* * *


الصفحة ( 151 )

المجلس المئتين

في كتاب روضة الواعظين بإسناد ذكره : أنّ قريشاً أصابتهم أزمة(1) شديدة ، وكان أبو طالب ذا عيال كثير ، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) للعبّاس عمّه ـ وكان من أيسر بني هاشم ـ : (( يا عبّاس ، إنّ أخاك أبا طالب كثير العيال ، وقد أصاب النّاس ما ترى من هذه الأزمة ، فانطلق بنا نخفّف عنه من عياله ؛ آخذ من بنيه رجلاً ، وتأخذ من بنيه رجلاً ، فنكفهما عنه )) . قال العبّاس : نعم . فانطلقا حتّى أتيا أبا طالب ، فقالا : إنّا نُريد أنْ نخففّ عنك عيالك حتّى ينكشف عن النّاس ما هم فيه . فقال أبو طالب : إنْ تركتما لي عقيلاً ، فاصنعا ما شئتما . فأخذ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عليّاً (عليه السّلام) فضمّه إليه ، وأخذ العبّاس جعفراً فضمّه إليه . فلَمْ يزل علي بن أبي طالب (عليه السّلام) مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حتّى بعثه الله نبيّاً ، واتّبعه عليٌّ وآمن به وصدّقه ، ولَمْ يزل جعفر مع العبّاس حتّى أسلم واستغنى عنه .

قال الصادق (عليه السّلام) : (( أوّل جماعة كانت ، أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كان يُصلّي وأمير المؤمنين معه ، إذ مرّ أبو طالب به وجعفر معه ، قال : يا بُني ، صِلْ جناحَ ابن عمِّك . فلمّا أحسّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) تقدَّمَهما ، وانصرف أبو طالب مسروراً ، وهو يقول :

إنّ عليّاً وجـعفـراً ثِقـتِي   عندَ مُلمِ الزَّمانِ والكُرَبِ

لا تخْذُلا وانْصُـرا ابنَ عمِّكُما   أخي لاُمِّي منْ بينهمْ وأبي

__________________
(1) الأزْمَة ، بالفتح فالسكون : الشِّدَّة ، ويجوز : أزَمَة بفتحتين .  ـ المؤلّف ـ

الصفحة (152)

واللهِ لا أخذلُ النّبيَّ ولا   يخذلُهُ منْ بنيَّ ذو حسبِ

قال أبو الحسن المدائني : كتب معاوية إلى أمير المؤمنين (عليه السّلام) : يا أبا الحسن ، إنّ لي فضائل كثيرة ؛ كان أبي سيّداً في الجاهليّة ، وصُيّرت ملكاً في الإسلام ، وأنا صهر رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وخال المؤمنين ، وكاتب الوحي . فلمّا قرأ أمير المؤمنين (عليه السّلام) كتابه ، قال : (( أبالفضائلِ يفخر عليّ ابنُ آكلة الأكباد ؟! يا غُلام اكتب )) . وأملى عليه :

مـحمّدٌ النّبيُّ أخي iiوصنوي   وحـمزةُ سيّدُ الشُّهداءِ iiعمِّي
وجعفرٌ الذي يُضحي ويُمسي   يَطيرُ معَ الملائكةِ ابنُ 
iiاُمِّي
وبنتُ مُحمّدٍ سَكنِي 
iiوعُرسي   مَـنوطٌ لحمُها بدَمِي iiولحمي
وسِـبطا أحـمدٍ إبْنايَ منٍها   فـمَنْ منكُمْ له سهمٌ 
iiكسهْمِي
سبقتُكمُ إلـى الإسلامِ 
iiطُرَّاً   غُلاماً ما بلغُتُ أوانَ iiحِـلْمي
وأوجـبَ ليْ ولايتَهُ 
iiعليكُمْ   رسـولُ اللهِ يـومَ غديرِ خُمِّ
فـويلٌ ثمّ ويـلٌ ثمّ 
iiويلٌ   لـمَنْ يلقَى الإلهَ غداً iiبظُلمي

فلمّا قرأه معاوية ، قال : مزّقه يا غلام ، لا يقرأه أهل الشام فيميلون نحو ابن أبي طالب .

قال عامر الشعبي : تكلّم أمير المؤمنين علي (عليه السّلام) بتسع كلمات ارتجلهنَّ ارتجالاً ، فقأن عيون البلاغة ، وأيتمن جواهر الحكمة ، وقطعن جميع الأنام عن اللحاق بواحدة منهنّ ؛ ثلاث منها في المناجاة ، وثلاث منها في الحكمة ، وثلاث منها في الأدب : فأمّا اللائي في المناجاة ، فقال (عليه السّلام) : (( إلهي ، كفى بي عزّاً أنْ أكون لك عبداً ، وكفى بي فخراً أنْ تكون لي ربّاً . أنت كما اُحبّ فاجعلني كما تُحب )) ؛ وأمّا اللائي في الحكمة ، فقال (عليه السّلام) : (( قيمةُ كلِّ امرئٍ ما يُحسنه ، وما هلك امرؤٌ عرف قدره ، والمرء مخبوء تحت لسانه )) ؛ وأمّا اللائي في الأدب ، فقال (عليه السّلام) : (( امنُنْ على مَن شئتَ


الصفحة (153)

تكُنْ أميرَه ، واحتج إلى مَن شئتَ تكُنْ أسيرَه ، واستغنِ عمَّنْ شئتَ تكُنْ نظيرَه )) . وعلي وأولاده (عليهم السّلام) هُم معادن الحكمة ، ومنابع الفصاحة والبلاغة ، كما أنّهم ليوث الشجاعة .

ولمّا كان يوم كربلاء ، خطب ولده الحسين (عليه السّلام) في أهل الكوفة خُطباً كثيرةً ، ووعظهم بمواعظ جمّة ، فلمْ يُسمع متكلّمٌ قطّ قبله ولا بعده أبلغ في منطقٍ منه .

لهُ منْ عليٍّ في الحُروبِ شجاعةٌ   ومِنْ أحمدٍ عندَ التّكلمِ قيلُ

* * *

للسـانهِ وسـنانـهِ   صدقانِ من طعنٍ وقيلِ

خلطَ البَراعةَ بالشَّجا   عةِ فالصَّليلُ عنْ الدليل ِ

وتقدّم في بعض المواقف حتّى وقف بإزاء القوم ، فجعل ينظر إلى صفوفهم كأنّهم السّيل ، ونظر إلى ابن سعد واقفاً في صناديد الكوفة ، فخطب فيهم فقال :

(( الحمد لله الذي خلق الدّنيا فجعلها دار فناء وزوال ، متصرّفة بأهلها حالاً بعد حال ، فالمغرور مَنْ غرّته والشقيّ مَنْ فتنته ، فلا تغرّنكم هذه الدّنيا ؛ فإنّها تقطع رجاء مَنْ ركن إليها وتخيب طمع مَنْ طمع فيها . وأراكم قد اجتمعتم على أمر قد أسخطتم الله فيه عليكم ، وأعرض بوجهه الكريم عنكم ، وأحلّ بكم نقمتة وجنّبكم رحمته ، فنعم الربّ ربّنا وبئس العبيد أنتم ! أقررتم بالطّاعة وآمنتم بالرسول محمّد (صلّى الله عليه وآله) ، ثمّ إنّكم زحفتم إلى ذريّته وعترته تريدون قتلهم ، لقد استحوذ عليكم الشيطان فأنساكم ذكر الله ، فتبّاً لكم ولِما تُريدون ! إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، هؤلاء قوم كفروا بعد إيمانهم ، فبُعداً للقوم الظالمين )) . فقال ابن سعد : ويلكم كلّموه ! فإنّه ابن أبيه . فوالله ، لَو وقف فيكم هكذا يوماً جديداً ، لما انقطع ولما حصر .

فتقدّم شمر فقال : يا حسين ، ما هذا الذي تقول ؟ أفهمنا حتّى


الصفحة (154)

نفهم . فقال : (( أقول : اتّقوا الله ربّكم ولا تقتلوني ؛ فإنّه لا يحلّ لكم قتلي ولا انتهاك حرمتي ؛ فإنّي ابن بنت نبيّكم ، وجدّتي خديجة زوجة نبيّكم ، ولعلّه قد بلغكم قول نبيّكم : الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة )) . ثمّ قال : (( فإنْ كنتم في شكّ من هذا ، أفتشكّون في أنّي ابن بنت نبيّكم ؟ فوالله ، ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبيّ غيري فيكم ولا في غيركم . ويحكم ! أتطلبونني بقتيل منكم قتلتُه أو مال لكم استهلكتُه أو بقصاص من جراحة ؟! )) . فأخذوا لا يكلّمونه ، فنادى : (( يا شبث بن ربعي ، ويا حجّار بن أبجر ، ويا قيس بن الأشعث ، ويا يزيد بن الحارث ، ألم تكتبوا إليّ : أنْ قد أينعت الثّمار واخضرّت الجنان ، وإنّما تقدم على جند لك مجنّدة ؟ )) . فقال له قيس بن الأشعث : ما ندري ما تقول ، ولكن انزل على حكم بني عمّك فإنّهم لنْ يرَوك إلاّ ما تُحب . فقال الحسين (عليه السّلام) : (( لا والله ، لا اُعطيكم بيدي إعطاء الذّليل ، ولا أقرّ لكم إقرار العبيد )) .

بأبي أبيّ الضّيمِ لا يُعطيْ العِدى   حذَرَ المنيّةِ منه فضلَ قـيادِ

* * *

فأبَى أنْ يعيشَ إلاّ عزيزاً   أو تَجلَّى الكفاحُ وهو صريع ُ

رُمْحُهُ من بَنانِهِ وكأنّ منْ   عزمـهِ حدُّ سيفهِ مطبوع ُ

* * *

 
الصفحة السابقةالفهرسالصفحة اللاحقة

 

طباعة الصفحةبحث