المجالس السّنية ـ الجزء الرابع-

 
 

الصفحة ( 293 )

المجلس الخامس والأربعون بعد المئتين

لمّا أمر المنصور بحمل بني الحسن إلى العراق , حملهم رياح ـ عامل المدينة ـ إلى الرّبذة , مكبّلين مغلولين عليهم المسوح , فخرج المنصور راكباً بغلة شقراء ومعه وزيره الربيع , فناداه عبد الله بن الحسن : يا أبا جعفر , ما هكذا فعلنا بأسراكم يوم بدر . فقال له المنصور : اخسأ . ولم يعرج عليه .

 ثمّ إنّ المنصور حبسهم بالعراق في مكان يُقال له قصر ابن هبيرة ـ شرقي الكوفة ـ ، وكانوا لا يعرفون الليل من النّهار , ولا يعرفون أوقات الصّلاة إلاّ بأحزابٍ من القرآن يقرأها بعضهم , وإذا مات منهم أحد تُرك في مكانه . فلمّا خرج عليه محمَّد بن عبد الله بن الحسن , أمر بهدم الحبس عليهم , ولمّا اُدخل عليه محمَّد بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن ، وكان يُسمى الديباج لجماله ، نظر إليه المنصور , فقال له : أنت الديباج الأصغر ؟ قال : نعم . قال : أما والله ، لأقتلنّك قتلةً ما قتلتها أحداً من أهل بيتك . فأمر أنْ تُبنى عليه إسطوانة وهو حي .

وكان معهم رجل من ولد عثمان ـ وهو أخو عبد الله بن الحسن لاُمّه ؛ اُمّهما جميعاً فاطمة بنت الحسين بن علي (عليهما السّلام) ـ فلمّا اُدخل على المنصور , وعليه قميص وإزار رقيق تحت القميص , جرى بينهما كلام لا يليق ذكره , فغضب عليه المنصور وأمر بشقِّ ثيابه , فشُقَّ قميصه عن إزاره فأشف عن عورته(1) , ثمّ أمر به فضُرب مئتين وخمسين سوطاً , وهو في أثناء الضّرب يفتري عليه ويشتمه , فأصاب سوط منها وجهه ، فقال : ويحك ! اكفف عن وجهي ؛ فإنّ له حرمة برسول الله (صلّى الله عليه وآله) . فأغرى المنصور به الجلاّد , فقال : الرأس الرأس . فضرب على رأسه نحو من ثلاثين

ــــــــــــــــــــــــ
(1) هكذا وردت العبارة في المصدر الأساس ، ولعلها ( فكُشفت عورته ) . ( موقع معهد الإمامَين الحسنَين )

الصفحة ( 294 )

سوطاً , فأصاب سوط منها إحدى عينيه فسالت , ثمّ اُخرج كأنّه زنجيٌّ ، قد غيّرت السّياط لونه وأسالت دمه , فقام مولى له وألقى عليه رداءه وأجلسه إلى جانب أخيه لاُمّه عبد الله بن الحسن , فعطش ممّا ناله فطلب ماء , فقال أخوه عبد الله : يا معشر المسلمين , مَن يسقي ابن رسول الله ؟ فتحاماه النّاس , فما سقوه حتّى جاء خراساني بماء فسقاه .

 الله أكبر ! أما كان يوجد يوم كربلاء رجل مثل عبد الله بن الحسن فيُنادي : يا معشر المسلمين , مَن يسقي إمامه وابنَ بنت نبيه ، وابن رسول الله الماء ؟! وما كان يوجد رجل مثل هذا الخراساني فتأخذه الغيرة من أبي عبد الله الحسين (عليه السّلام) , فيأتي له بالماء ؟! بلى والله , لقد كثر طلب الماء يوم عاشوراء من أهل الكوفة للحسين (عليه السّلام) وعياله وأطفاله , فما رقّت قلوبهم . فممّن طلبه منهم برير بن خضير الهمداني ، فقالوا له : قد أكثرت الكلام يا برير , فوالله ، ليعطش الحسين كما عطش مَن كان قبله .

 وقد طلب منهم الحسين (عليه السّلام) الماء مراراً عديدة , وهم يقولون : والله , لا تذوق الماء حتّى تذوق الموت عطشاً . وآخر مرّة طلب فيها الماء وهو يجود بنفسه , فقال له قائل : والله , لا تذوق الماء حتّى ترد الحامية فتشرب من حميمها . فقال له : (( أنا أرد الحامية فأشرب من حميمها ؟! لا والله , بل أردُ على جدِّي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) , وأسكن معه في داره في مقعد صدقٍ عند مليكٍ مُقتدر , وأشرب من ماء غيرِ آسن , وأشكو إليه ما ارتكبتُم منّي وفعلتم بي )) .

فعزَّ أنْ تتلظَّى بينَهُمْ عَطشاً      والماءُ يصدرُ عنهُ الوحشُ ريَّانا

 

المجلس السادس والأربعون بعد المئتين

روى الشّريف المرتضى رضي الله عنه في الغُرر والدُّرر , قال : قدم


الصفحة ( 295 )

على الرشيد رجل من الأنصار يُقال له نفيع , فحضر باب الرشيد يوماً ومعه عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز , وحضر موسى بن جعفر (عليهما السّلام) على حمار له , فتلقّاه الحاجب بالبشر والإكرام ، وأعظمه مَن كان هناك وعجّل له الإذن , فقال نفيع لعبد العزيز : مَن هذا الشّيخ ؟ قال : أو ما تعرفه ؟! قال : لا . قال : هذا شيخ آل أبي طالب ؛ هذا موسى بن جعفر . فقال نفيع : ما رأيت أعجز من هؤلاء القوم ( يعني : بني العبّاس ) , يفعلون هذا برجلٍ يقدر أنْ يُزيلهم عن السّرير , أما إنْ خرج لأسوأنّه . فقال له عبد العزيز : لا تفعل ؛ فإنّ هؤلاء أهل بيت قلّ ما تعرض لهم أحد في خطاب إلاّ وسموه في الجواب سمةً يبقى عارها عليه مدى الدهر .

قال : وخرج موسى بن جعفر (عليه السّلام) ، فقام إليه نفيع الأنصاري فأخذ بلجام حماره ، ثم قال له : مَن أنت ؟ فقال : (( يا هذا , إنْ كُنتَ تُريد النّسب , فأنا ابن محمَّد حبيب الله بن إسماعيل ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله ، وإنْ كُنتَ تُريد البلد , فهو الذي فرض الله على المسلمين وعليك ـ إنْ كُنتَ منهم ـ الحجَّ إليه ، وإنْ كُنتَ تُريد المفاخرة , فوالله , ما رضي مشركو قومي مسلمي قومك أكفّاءً لهم حتّى قالوا : يا محمَّد , اخرج إلينا أكفّاءنا من قريش ، ـ وذلك لمّا برز شيبة بن ربيعة ، وأخوه عتبة ، وولده الوليد بن عتبة يوم بدر وطلبوا المُبارة , فبرز إليهم جماعة من الأنصار , فقالوا : يا محمَّد , اخرج إلينا أكفّاءنا من قريش . فبرز إليهم حمزة بن عبد المطّلب ، وعبيدة بن الحارث بن المطّلب ، وعلي بن أبي طالب (عليه السّلام) ـ وإنْ كُنتَ تُريد الصّيت والاسم , فنحنُ الذين أمر الله تعالى بالصّلاة علينا في الصّلوات الفرائض في قوله : اللهمّ صلِّ على محمَّد وآل محمَّد . ونحنُ آل محمَّد . خلِّ عن الحمار )) . فخلّى عنه ويده ترتعد وانصرف بخزي , فقال له عبد العزيز : ألم أقل لك ؟

ثمّ آل الأمر بالرشيد إلى أنْ قبض على الإمام موسى بن جعفر (عليه السّلام) وهو قائم يُصلّي عند رأس النّبيِّ (صلّى الله عليه وآله) ,


الصفحة ( 296 )

فقطع عليه صلاته وأخذه فحبسه , ثمّ أرسله إلى البصرة فحبسه فيها عند عيسى بن جعفر بن المنصور , فبقي محبوساً عنده سنة , ثمّ أخذه منه فحبسه عند الفضل بن الربيع , ثمّ سلّمه إلى السّندي بن شاهك فحبسه عنده حتّى مضت عليه أربع سنوات وهو محبوس , ثمّ سمّه الرشيد وهو في المجلس . فلمّا توفِّي في يد السّندي بن شاهك , حُمل على نعش ونودي : هذا إمام الرّافضة فاعرفوه . فلمّا اُتي به مجلس الشّرطة , أقام أربعة نفر فنادوا عليه بنداء فظيع : ألا مَن أراد أنْ يرى الخبيث ابن الخبيث موسى بن جعفر فليخرج .

 وخرج سُليمان بن المنصور ـ عمّ الرشيد ـ من قصره إلى الشّطِّ , فسمع الصّياح والضّوضاء , فقال لغلمانه وولده : ما هذا ؟ قالوا : السّندي بن شاهك يُنادي على موسى بن جعفر على نعشه . فقال لغلمانه وولده : يُوشك أنْ يفعل هذا به في الجانب الغربي , فإذا عبر به فانزلوا وخذوه من أيديهم , فإنْ مانعوكم فاضربوهم وخرّقوا عليهم سوادهم . فلمّا عبروا به , نزلوا إليهم وأخذوه من أيديهم ووضعوه في مفرق أربع طرق , وأقام سُليمان المنادين ينادون : ألا مَن أراد أنْ يرى الطّيب ابن الطّيب موسى بن جعفر فليخرج .

وحضر الخلقُ ، وغُسّل وحُنّط بحنوطٍ فاخر , وكفّنه سُليمان بكفن فيه حبرة استُعملت له بألفين وخمسمئة دينار عليها القرآن كلّه , واحتفى ومشى في جنازته مُتسلّباً مشقوق الجيب إلى مقابر قريش فدفنه هناك , وكتب إلى الرشيد بخبره , فكتب إليه الرشيد : وصلتك رَحمٌ يا عم , وأحسن الله جزاءك . واعتذر بأنَّ ما فعله السّندي لم يكن عن أمره .

أما كان يوجد يوم كربلاء رجل مثل سُليمان , فيُصلّي على الحسين (عليه السّلام) ويُشيّعه ويدفنه حتّى لا يبقى ثلاثة أيّام بلا دفن , تسفي عليه الرياح وتصهره الشّمس ؟!

ما إنْ بقيتَ منَ الهوانِ على الثَّرَى      مُـلقىً ثلاثاً في رُبىً ووهـادِ

إلاّ لكَي تَقـضي عليكَ صلاتَـها        زُمـرُ الملائـكِ فوقَ سبعِ شدادِ


الصفحة ( 297 )

 

المجلس السابع والأربعون بعد المئتين

روى الصّدوق في العيون بسنده : أنّ المأمون قال : أتدرون مَن علّمني التشيّع ؟ فقالوا : لا . قال : علّمنيه الرشيد . قالوا : كيف والرشيد كان يقتل أهل هذا البيت ؟! قال : كان يقتلهم على المُلك , ولقد حججتُ معه سنة ، فلمّا ورد المدينة قال لحُجّابه : لا يدخلنَّ عليَّ رجلٌ إلاّ نسب نفسه . فكان يُعطيهم على قدَرِ شرفهم وهجرة آبائهم ، من خمسة آلاف دينار إلى مئتي دينار .

 فدخل عليه يوماً الربيع , فقال : على الباب رجل يزعم أنّه موسى بن جعفر . فأقبل الرشيد عليَّ وعلى الأمين والمؤتمن والقوّاد , ونحن قيام على رأسه , فقال : احفظوا عليَّ أنفسكم . ثمّ قال لآذنِهِ : ائذن له ولا ينزل إلاّ على بساطي .

 فأقبل شيخٌ مُصفرُّ اللون قد نهكته العبادة ، وكلِمَ من السّجود وجهُهُ وأنفُه , فلمّا رأى الرشيد رمى بنفسه عن حمار كان راكبه , فقال الرشيد : لا والله , إلاّ على بساطي . فمنعه الحُجّاب من الترجّل , ونظرنا إليه بالإجلال والإعظام , فما زال يسير على حماره حتّى صار إلى البساط , والحُجّاب والقوّاد محدقون به , فنزل فقام إليه الرشيد واستقبله إلى آخر البساط , وقبّل وجهه وعينيه ، وأخذ بيده فأجلسه معه في صدر المجلس , وجعل يُحدّثه ويُقبل بوجهه عليه ويسأله عن أحواله , ثم قال له : يا أبا الحسن , ما عليك من العيال ؟ قال : (( يزيدون على الخمسمئة )) . قال : أولادك كلّهم ؟ قال : (( لا , أكثرهم موالي وحشم ؛ فأمّا الوِلد فلي نيف وثلاثون ، والذّكران منهم كذا والنّسوان كذا )) . قال : فلِم لا


الصفحة ( 298 )

تُزوج النّسوان من بني عمومتهنَّ وأكفائهنّ ؟ قال : (( اليد تقصر عن ذلك )) . قال : فما حال الضّيعة ؟ قال : (( تُعطي في وقت وتمنع في آخر )) . قال : فهل عليك دَين ؟ قال : (( نعم )) . قال : كم ؟ قال : (( نحو من عشرة آلاف دينار )) . فقال الرشيد : يابن عم , أنا اُعطيك من المال ما تُزوّج الذكران والنّسوان , وتقضي الدَّين وتُعمّر الضّياع . فقال له : (( وصلتك رحمٌ يابن عم , وشكر الله لك هذه النّية الجميلة . والرَّحمُ ماسَّة ، والقرابةُ واشجة ، والنّسب واحد , والعبّاس عمُّ النّبيِّ (صلّى الله عليه وآله) وصنو أبيه , وعمُّ عليّ بن أبي طالب وصنو أبيه )) . قال : أفعل ذلك يا أبا الحسن وكرامة .

ثمّ قام ، فقام الرشيد لقيامه وقبّل عينيه ووجهه , ثمّ أقبل عليَّ وعلى الأمين والمؤتمن , فقال : يا عبد الله ، ويا محمَّد ، ويا إبراهيم , امشوا بين يدي عمِّكم وسيّدكم ؛ خذوا بركابه وسوّوا عليه ثيابه وشيِّعوه إلى منزله . فأقبل عليَّ أبو الحسن موسى بن جعفر (عليه السّلام) سرّاً بيني وبينه ، فبشّرني بالخلافة , فقال لي : (( إذا ملكتَ هذا الأمر , فأحسنْ إلى وُلدي )) . ثمّ انصرفنا .

وكنتُ أجرأ ولد أبي عليه , فلمّا خلا المجلس قلتُ : يا أمير المؤمنين , مَن هذا الرجل الذي قد أعظمته وأجللته , وقمت من مجلسك إليه فاستقبلته وأقعدته في صدر المجلس وجلست دونه , ثمّ أمرتنا بأخذ الركاب له ؟ قال : هذا إمام النّاس ، وحُجّةُ الله على خلقه ، وخليفتُهُ على عباده . فقلت : أوَ ليست هذه الصّفات كلها لك وفيك ؟ فقال : أنا إمام الجماعة في الظّاهر والغلبة والقهر , وموسى بن جعفر إمامٌ بحقّ . والله يا بُني , إنّه لأحقُّ بمقام رسول الله (صلّى الله عليه وآله) منّي ومن الخلق جميعاً . والله , لو نازعتني في هذا الأمر , لأخذتُ الذي فيه عيناك ؛ فإن المُلك عقيم .

فلمّا أراد الرحيل , أرسل إليه صرّة مع الفضل فيها مئتا دينار , وقال : قُل له , يقول لك أمير المؤمنين : نحن في ضيقة , وسيأتيك برّنا . فقلت : يا أمير المؤمنين , تُعطي سائر النّاس خمسة آلاف دينار إلى ما دونها , وتُعطي موسى بن جعفر وقد أعظمته وأجللته مئتي دينار , أخسّ عطيّة


الصفحة ( 299 )

أعطيتها أحداً من النّاس ! فقال : اسكُتْ لا اُمّ لك , لو أعطيته ما وعدته لم آمنه أنْ يضرب وجهي غداً بمئة ألف سيف من شيعته ومواليه , وفقرُ هذا وأهل بيته أسلم لي ولكم .

فلمّا نظر إلى ذلك مخارق المُغنِّي اغتاظ ، فقال : يا أمير المؤمنين , أكثر أهل المدينة يطلبون منّي شيئاً ، فإنْ لم أقسم فيهم شيئاً لم يتبيّن لهم تفضّل أمير المؤمنين عليّ . فأمر له بعشرة آلاف دينار , فقال : بناتي اُريد أنْ اُزوّجهنّ . فأمر له بعشرة آلاف دينار , فقال : لا بدّ لي من غلّة . فأمر بإقطاعه ما غلَّته عشرة آلاف دينار وعجّلها له .

 فقام مخارق من فوره وقصد موسى بن جعفر (عليه السّلام) , وقال له : قد وقفتُ على ما عاملك به هذا , وقد احتلتُ لك عليه وأخذتُ منه ثلاثين ألف دينار , وقطاعاً يغلّ عشرة آلاف دينار , ولا والله يا سيّدي , ما أحتاج إلى شيء منه وما أخذته منه إلاّ لك . قال : (( بارك الله لك في مالك وأحسنَ جزاءك , ما كنتُ لآخذ منه درهماً واحداً , وقد قبلت صلتك وبرّك , فانصرِف راشداً ولا تُراجعني )) . فقبّل يده وانصرف .

أمثل هذا الإمام في علمه وزهده وفضله , يُنقل من حبس إلى حبس ؛ فتارة في حبس عيسى بن المنصور , وتارة في حبس الفضل بن الربيع , وتارة في حبس السّندي بن شاهك حتّى مضت عليه أربع سنوات وهو محبوس , وهو إمام أهل البيت الطّاهر النّبوي في عصره , وسيّد بني هاشم ، ووارث علوم جدّه (صلّى الله عليه وآله) ؟!

 ولمّا نُقل إلى السّندي بن شاهك ضيّق عليه في الحبس , ثمّ دسّ إليه الرشيد السّمَّ , فمضى إلى ربّه مسموماً شهيداً ، صابراً مُحتسباً ، كما مضى جدّه الحسين بن علي (عليهما السّلام) شهيداً بالسّيف ، قتيلاً ظامياً ، صابراً مُحتسباً , وفدى دين جدّه بنفسه .

فإنّ أهل البيت (عليهم السّلام) كما قال زين العابدين (عليه السّلام) , لمّا أمر ابن زياد بقتله : (( أبالقتل تُهدّدُني ؟! أمَا علمت أنّ القتل لنا عادة ، وكرامتَنا من اللهِ الشّهادة ؟ )) .


الصفحة ( 300 )

تَتبَّعُـوكُمْ ورامُـوا مـحْوَ فضلِكُمُ       وخيَّبَ اللهُ مَنْ في ذلكُمْ طَمَعا

أنَّى وفي الصّلواتِ الخمسِ ذكْركُمُ       لدَى التَّشهدِ للتوحيدِ قدْ شفَعَا

 

المجلس الثامن والأربعون بعد المئتين

روى المفيد في الإرشاد ، والصّدوق في العيون عن ياسر الخادم : إنّ المأمون كتب إلى الرضا (عليه السّلام) يستدعيه ويستقدمه إلى خراسان , فاعتلّ عليه بعلل كثيرة , فما زال المأمون يكاتبه ويسأله حتّى علم الرضا (عليه السّلام) أنّه لا يكفّ عنه ، فخرج فلمّا وصل إلى مرو , عرض عليه المأمون أنْ يتقلّد الخلافة ، فأبى ذلك , فقال المأمون : فولاية العهد . فأجابه إلى ذلك على شروط , فكتب الرضا (عليه السّلام) : (( إنّي أدخل في ولاية العهد , على أنْ لا آمر ولا أنهى ، ولا أقضي ولا اُغيّر شيئاً ممّا هو قائم )) . فأجابه المأمون إلى ذلك ، ودعا المأمون القضاة والقوّاد ، والشّاكرية وبني العبّاس إلى ذلك , فأضربوا عليه , فأخرج أموالاً كثيرة وأعطى القوّاد وأرضاهم , إلاّ ثلاثة نفر أبوا ذلك فحبسهم .

 وبويع الرضا (عليه السّلام) وكتب بذلك إلى البلدان , وضُربت الدنانير والدراهم باسمه ، وخُطب له على المنابر , وأنفق المأمون على ذلك أموالاً كثيرة . فلمّا حضر العيد , بعث المأمون إلى الرضا (عليه السّلام) يسأله أنْ يركب ويحضر العيد لتطمئنَّ قلوبُ النّاس ، ويعرفوا فضله ، وتقرّ قلوبهم على هذه الدولة المباركة , فبعث إليه الرضا (عليه السّلام) : (( قد علمتَ ما كان بيني وبينك من الشّروط في دخولي في هذا الأمر )) . فقال المأمون : إنّما اُريد أنْ يرسخ في قلوب النّاس هذا الأمر ؛ فيقرّوا بما فضّلك الله تعالى به . فلمّا ألحّ عليه , قال : (( إنْ أعفيتني من ذلك فهو أحبُّ


الصفحة ( 301 )

إلي , وإنْ لم تعفني خرجتُ كما كان يخرج رسول الله (صلّى الله عليه وآله) , وكما كان يخرج أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السّلام) )) . فقال المأمون : اخرج كما تُحب .

وأمر المأمون القوّاد والنّاس أنْ يُبكّروا إلى باب الرضا (عليه السّلام) , فعدّ النّاس لأبي الحسن الرضا (عليه السّلام) في الطّرقات والسّطوح من الرجال والنّساء والصّبيان , واجتمع القوّاد على باب الرضا (عليه السّلام) , فلمّا طلعت الشّمس قام الرضا (عليه السّلام) فاغتسل وتعمّم بعمامةٍ بيضاء من قطن , وألقى طرفاً منها على صدره وطرفاً بين كتفيه وتشمّر , ثمّ قال لجميع مواليه : (( افعلوا مثلما فعلت )) . فأخذ بيده عكّازه وخرج ونحن بين يديه , وهو حافٍ قد شمّر سراويله إلى نصف السّاق وعليه ثياب مشمّرة , فلمّا قام ومشينا بين يديه , رفع رأسه إلى السّماء وكبّر أربع تكبيرات , فخُيّل إلينا أنّ الهواء والحيطان تجاوبه ، والقوّاد والنّاس على الباب وقد تزيّنوا ولبسوا السّلاح وتهيَّؤوا بأحسن هيئة , فلمّا طلعنا عليهم بهذه الصّورة حفاة قد تشمّرنا ، وطلع الرضا (عليه السّلام) وقف وقفة على الباب , وقال : (( الله أكبر الله أكبر ، الله أكبر على ما رزَقَنا من بهيمة الأنعام , والحمد لله على ما أبلانا )) . ورفع بذلك صوته ورفعنا أصواتنا , فتزعزعت مرو من البكاء والصّياح , فقالها ثلاث مرّات , فسقط القوّاد عن دوابّهم ورموا بخفافهم لمّا نظروا إلى أبي الحسن (عليه السّلام) , وصارت مرو ضجّةً واحدةً ، ولم يتمالك النّاس من البكاء والضجّة .

وكان أبو الحسن (عليه السّلام) يمشي ويقف في كلّ عشر خطوات وقفه , فيكبّر الله أربع مرّات , فيُخيّل إلينا أنّ السّماء والأرض والحيطان تجاوبه , فبلغ المأمون ذلك , فقال له الفضل بن سهل ذو الرئاستين : إنْ بلغ الرضا المُصلّى على هذا السّبيل افتتن به النّاس ، وخفنا كلُّنا على دمائنا , فالرأي أنْ تسأله أنْ يرجع . فبعث إليه المأمون : قد كلّفناك شططاً وأتعبناك فارجع , وليصلِّ بالنّاس مَن كان يُصلّي بهم . فدعا بخُفِّه فلبسه ورجع .

ودخل دعبل بن علي الخُزاعي على الرضا (عليه السّلام) بمرو , فقال له : يابن رسول الله , إنّي قد


الصفحة ( 302 )

قلت فيك قصيدة , وآليت على نفسي أنْ لا أنشدها أحداً قبلك . فقال (عليه السّلام) : (( هاتها )) . فأنشده :

مَدارِسُ آياتٍ خَلَت مِن تِلاوَةٍ      وَمَنزِلُ وَحيٍ مُقفِرُ العَرَصاتِ

فلمّا بلغ إلى قوله :

أَرى فَيئَهُم في غَيرِهِم مُتَقَسَّماً     وَأَيديهُمْ مِن فَيئِهِمْ صَفِراتِ

بكى أبو الحسن الرضا (عليه السّلام) , وقال له : (( صدقت يا خُزاعي )) .

فلمّا بلغ إلى قوله :

إِذا وُتـِروا مَدّوا إِلى واتِريهِمُ       أَكُفّاً عَنِ الأَوتـارِ مُنقَبِضاتِ

جعل أبو الحسن (عليه السّلام) يقلب كفيه ويقول : (( أجل والله منقبضات )) .

فلمّا بلغ إلى قوله :

لَقَد خِفتُ في الدُّنيا وَأَيّامِ سَعيِها      وَإِنّي لأَرجو الأَمنَ بَعدَ وَفاتي

قال الرضا (عليه السّلام) : (( آمنك الله يوم الفزع الأكبر )) .

فلمّا انتهى إلى قوله :

وَقَبـرٌ بِبَغدادٍ لِنَفسٍ زَكِيَّةٍ        تَضَمَّنَها الرَحمَنُ في الغُرُفاتِ

قال له الرضا (عليه السّلام) : (( أفلا اُلحقُ لك بهذا الموضوع بيتين بهما تمامُ قصيدتك ؟ )) . فقال : بلى يابن رسول الله . فقال (عليه السّلام) :

وَقَبرٌ بِطوسٍ يا لَها مِن مُصيبَةٍ       تُوقَّـدُ في الأحشاءِ بالحُرقاتِ

إلى الحشرِ حتّى يبعثَ اللهُ قائماً      يُفـرّجُ عـنّا الهمَّ والـكُرباتِ

فقال دعبل : يابن رسول الله , هذا القبر الذي بطوس قبر مَن هو ؟ فقال الرضا (عليه السّلام) : (( قبري , ولا تنقضي الأيّام واللّيالي حتّى تصير طوس مختلف شيعتي وزوّاري . ألا فَمنْ زارني في غُربتي بطوس كان معي في درجتي يوم


الصفحة ( 303 )

القيامة مغفوراً له )) . وفي هذه القصيدة يقول دعبل رحمه الله :

أَفـاطِمُ  لَـو خِلتِ الحُسَينَ iiمَجَدَّلاً      وَقَـد  مـاتَ عَطشاناً بِشَطِّ iiفُراتِ
إِذاً لَـلَطَمتِ الـخَدَّ فـاطِمُ iiعِـندَهُ      وَأَجـرَيتِ دَمعَ العَينِ في الوَجَناتِ
أَفـاطِمُ  قومي ياِبنَةَ الخَيرِ iiوَاِندُبي      نُـجومَ سَـماَواتٍ بِـأَرضِ iiفَـلاةِ
قُبورٌ بِجَنبِ النَّهرِ مِن أَرضِ كَربَلا      مُـعَـرَّسُهُم فـيها بِـشَطِّ فُـراتِ
تُـوُفّوا عِـطاشاً بِـالفُراتِ فَلَيتَني      تُـوفِّيتُ فـيهِم قَـبلَ حينِ iiوَفاتي

المجلس التاسع والأربعون بعد المئتين

روى الصّدوق في عيون أخبار الرضا (عليه السّلام) : أنّ المأمون لمّا جعل علي بن موسى الرضا (عليهما السّلام) ولي عهده , قصده الشّعراء ، ووصلهم بأموال جمّة حين مدحوا الرضا (عليه السّلام) وصوّبوا رأي المأمون فيه دون أبي نَوّاس ؛ فإنّه لم يقصده ولم يمدحه , فدخل أبو نَوّاس على المأمون , فقال له : يا أبا نَوّاس , قد علمت مكان علي بن موسى الرضا منّي وما أكرمته به , فلماذا أخّرت مدحه وأنت شاعر زمانك وقريع دهرك ؟! فأنشأ يقول :

قيلَ ليْ أنتَ أوحدُ النَّاسِ طُرَّاً      فـي iiفـنونٍ من الكلامِ النَّبيهِ
لـكَ مـن جوهرِ الكلامِ بديعٌ      يُـثمرُ  iiالدُّرُ في يدَي مُجتنيِهِ
فعلامَ تركتَ مدحَ ابنِ موسَىii      والـخصالَ  iiالّتي تجمَّعنَ فيِهِ
قـلـتُ لا أهتدِي لمدحِ إمامٍii      كــان iiجـبريلُ خادماً لأبيهِ

فقال له المأمون : أحسنت . ووصله من المال بمثل ما وصل به كافّة


الصفحة ( 304 )

الشّعراء ، وفضلّه عليهم .

وفي عيون أخبار الرضا (عليه السّلام) أيضاً ، قال : نظر أبو نَوّاس إلى أبي الحسن علي بن موسى الرضا (عليه السّلام) ذات يوم , وقد خرج من عند المأمون على بغلة له , فدنا منه أبو نَوّاس فسلّم عليه , وقال : يابن رسول الله , قد قلتُ فيك أبياتاً فاُحبّ أنْ تسمعها منّي . قال : (( هات )) . فأنشأ يقول :

مـطـهَّرونَ نَـقِـيَّاتٌ iiثـيابُهُمْ      تجري الصَّلاةُ عليهِمْ أَينما ذُكِروا
مَـن لَـم يَكُنْ علويّاً حينَ تَنسُبُهُ      فـمالَهُ  iiفـي قديمِ الدَّهرِ مُفتخَرُ
فاللهُ لـمّـا بـدا خـلـقاً فأتْقَنهُii      صـفاكُمُ  iiواصطفاكُمْ أيُّها البشرُ
فـأنـتُمُ iiالـمَلأُ الأعلى وعندَكُمُ      iiعلمُ الكتابِ وما جاءتْ بهِ السُّوَرُ

فقال الرضا (عليه السّلام) : (( قد جئتنا بأبيات ما سبقك إليها أحد )) . ثم قال : (( يا غُلام , هل معك من نفقتنا شيء ؟ )) . فقال : ثلاثمئة دينار . فقال : (( اعطه إيّاها )) . ثمّ قال : (( لعله استقلّها يا غلام , سقْ إليه البغلة )) .

وفي العيون أيضاً بسنده عن أبي العبّاس محمَّد بن يزيد المُبرّد , قال : خرج أبو نَوّاس ذات يوم من دار , فبصر براكب قد حاذاه , فسأل عنه ولم يرَ وجهه , فقيل : إنّه علي بن موسى الرضا (عليه السّلام) , فأنشأ يقول :

إذا أبصرتكَ العينُ منْ بعدِ غايةٍ      وعارضَ فيكَ الشَّكُ أثبتكَ القلبُ

ولـو أنّ قوماً أمَّـموكَ لقادَهُمْ       نسيمُكَ حتّى يستدلُّ بكَ الـرَّكبُ

وقال الرضا (عليه السّلام) : (( إنّي مقتولٌ ومسمومٌ ومدفونٌ بأرض غُربة , أعلمُ ذلك بعهد عهده إليَّ أبي عن آبائه عن علي بن أبي طالب عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) . ألا فمَنْ زارني في غُربتي كنتُ وآبائي شفعاءَه يوم القيامة , ومَنْ كُنَّا شُفعاءَه نجا ولو كان عليه وزرُ الثَّقلين )) .

ولله درّ القائل :

حُفَـرٌ بطيْبَةَ والغريِّ وكرْبـَلا    وبطـوسَ والزَّورَا وسامَراءِ

ما جئْتهُمْ في حـاجةٍ إلاّ انْقَضتْ     وَتـَبَـدَّل الضَّرّاءُ بِالسَّرّاءِ


الصفحة ( 305 )

بأبي واُمّي تلك الحفر ومَن فيها ! لقد تركتهم الأعداءُ شتّى مصارعهم ، متفرقة قبورهم ، متباعدة ضرائحهم :

بـعـضٌ  بـطيْبَةَ مدفونٌ وبعضُهُمُ      iiبـكـربـلاءَ وبـعـضٌ بالغريَّينِ
وأرضُ  iiطوسٍ وسامَرا وقدْ ضَمِنتْ      iiبـغـدادُ بـدْرَينِ حلاّ وسطَ قبرينِ
يـا  سـادَتي ألِمَنْ أنعي أسىً ولمَنْ      iiأبـكـي بجَفْنينِ من عَينَيْ قرِيحَينِ
أبكي على الحسنِ المسمُومِ مُضْطَهدَاً      أمْ iiلـلـحُـسينِ لُقىً بينَ الخمِيسينِ
أبكي  iiعليهِ خضيبَ الشَّيبِ منْ دَمهِ      مُـوزَّعَ  iiالـجسْمِ محزوزَ الورِيدَينِ

* * *
مـصائبٌ شـتَّتْ شملَ النَّبيِّ 
فَفِي        قـلبِ الـهُدى أسْهُمٌ ينطقنَ بالتَّلَفِ

 

المجلس الخمسون بعد المئتين

روى المفيد رحمه الله في الإرشاد بسنده : أنّه لمّا أراد المأمون أنْ يُزوّج ابنته اُمّ الفضل أبا جعفر محمَّد بن علي الجواد (عليه السّلام) , بلغ ذلك العباسيّين فعظم عليهم ، وخافوا أنْ ينتهي الأمر إلى ما انتهى إليه مع أبيه الرضا (عليه السّلام) , فاجتمع أهل بيته الأدنون وناشدوه الله أنْ يصرف نفسه عن تزويج ابن الرضا , وقالوا : نخاف أنْ تُخرج به عنّا أمراً قد ملّكنا الله إيّاه ؛ فقد عرفت ما كان بيننا وبين هؤلاء القوم قديماً وحديثاً , وما كان عليه الخلفاء قبلك من تبعيدهم , وقد كنّا في خوف من عملك مع الرضا حتّى كفانا الله المهم من ذلك , فاصرف رأيك عن ابن الرضا , وأعدل إلى مَن تراه من أهل بيتك يصلح لذلك .

فقال : أمّا ما بينكم وبين آل أبي طالب ، فأنتم السّبب


الصفحة ( 306 )

فيه ؛ وأمّا ما كان يفعله مَن كان قبلي بهم , فقد كان به قاطعاً للرحم , وأعوذ بالله من ذلك ؛ وأمّا أبو جعفر محمَّد بن علي فقد اخترتُه لتقدّمه على كافّة أهل العلم مع صُغر سنّه , والاُعجوبة فيه بذلك . فقالوا : إنّه وإنْ راقك منه هديه ، فإنّه صبيٌّ لا معرفة له ولا فقه , فأمهله ليتأدَّب ويتفقّه . فقال : إنّي أعرف به منكم , وإنّ هذا من أهل بيت علْمُهم من الله , فإنْ شئتم فامتحنوه .

فأجمع رأيهم أنْ يطلبوا من يحيى بن أكثم ـ وهو يومئذٍ قاضي القُضاة ـ أنْ يسأله مسألةً لا يعرف الجواب فيها , ووعدوه بأموال نفيسة . فحضر يحيى بن أكثم , وأمر المأمون أنْ يُفرش لأبي جعفر دست ويُجعل له فيه مسوّرتان ( أي : وسادتان ) , ففُعل ذلك , وخرج أبو جعفر ـ وهو يومئذ ابن سبع سنين وأشهر ـ فجلس بين المسوّرتين وجلس يحيى بن أكثم بين يديه , وقام النّاس في مراتبهم والمأمون جالس في دست متّصل بدست أبي جعفر , فقال يحيى للمأمون : أتأذن لي أنْ أسال أبا جعفر ؟ قال : استأذنه في ذلك . فقال : أتأذن لي ـ جُعلت فداك ـ في مسألة ؟ قال (عليه السّلام) : (( سلْ إنْ شئت )) . قال : ما تقول ـ جعلني الله فداك ـ في مُحرِمٍ قتلَ صيداً ؟

 فقال أبو جعفر (عليه السّلام) : (( قتله في حلٍّ أمْ حَرَمْ ؟ عالماً أمْ جاهلاً ؟ عمداً أم خطأً ؟ حُرَّاً كان أمْ عبداً ؟ صغيراً أمْ كبيراً ؟ مُبتدِئاً بالقتل أمْ مُعيداً ؟ منْ ذواتِ الطّير كان الصّيدُ أمْ منْ غيرها ؟ من صغار الصّيد أمْ من كباره ؟ مُصرّاً على ما فعل أو نادماً ؟ مُحرماً بالعُمرة أمْ الحجِّ ؟ )) . فتحيّر يحيى وبان في وجهه العجز .

 فقال المأمون : الحمد لله على هذه النّعمة والتوفيق لي في الرأي . ثمّ قال لهم : أعرفتم الآن ما كنتم تُنكرونه ؟! ثمّ قال لأبي جعفر (عليه السّلام) : إنْ رأيت ـ جُعلت فداك ـ أنْ تذكر الفقه فيما فصّلته ؟ فقال (عليه السّلام) : إنّ المُحرِمَ إذا قتل صيداً في الحلِّ , وكان الصّيدُ من ذوات الطّير من كبارها , فعليه شاة , فإنْ أصابه في الحَرَمِ فعليه الجزاء مضاعفاً , فإذا قتل فرخاً في الحلِّ فعليه حملٌ قد فُطم من اللّبن , وإذا قتله في الحَرم فعليه الحملُ وقيمةُ الفرخ , وإنْ كان من الوحش


الصفحة ( 307 )

وكان حمار وحشٍ , فعليه بقرة , وإنْ كان نعامة فعليه بُدنة ( أي : بعير أو ناقة ) , وإنْ كان ظبياً فعليه شاة , فإنْ قتل شيئاً من ذلك في الحَرَم , فعليه الجزاء مُضاعفاً هدياً بالغ الكعبة . وإذا أصاب المُحرِم ما يجب عليه الهديُ فيه , وكان إحرامه بالحجِّ ، نحرَه بمنى , وإنْ كان إحرامُه بالعمرة نحره بمكّة . وجزاءُ الصّيد على العالم والجاهل سواء , وفي العمد عليه الإثم ، ولا إثم في الخطأ ، والكفّارة على الحُرِّ في نفسه , وعلى السيّد في عبده , والصّغير لا كفارة عليه , والنّادم يسقط عنه عقاب الآخرة , والمُصرُّ عليه العقاب في الآخرة )) . قال المأمون : أحسنت يا أبا جعفر , أحسن الله إليك بما رأى .

[ ثُمّ ] قال المأمون : إنّ أهل هذا البيت خُصّوا بما ترَون من الفضل , ولا يمنعهم صغر السّن من الكمال ؛ أما علمتم أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) افتتح دعوته بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب وهو ابن عشر سنين , وقَبِل منه الإسلام وحكم له به , ولم يدعُ أحداً في سنِّه غيره ؟ وبايع الحسنَين وهما ابنا دون ستِّ سنين ولم يُبايع صبياً غيرهما ؟ ( ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ )(1) . يجري لآخرهم ما يجري لأوّلهم . قالوا : صدقت يا أمير المؤمنين .

ألا قاتل الله مَنْ لم يعرف فضل أهل البيت (عليهم السّلام) , فدفعهم عن مقامهم وأزالهم عن مراتبهم التي رتَّبهم الله فيها , وظلمهم وقتلهم ونازعهم حقَّهم , كما فعل بنو اُميّة بالحسَنين (عليهما السّلام) ريحانتَي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) , وولديه اللذين بايعهما وهما صغيران ، كما قاله المأمون .

قد دسوا السّمَّ إلى الحسن (عليه السّلام) حتّى أخرج كبده قطعة قطعة , وقتلوا الحسين (عليه السّلام) وسبعة عشر رجلاً من أهل بيته بكربلاء عطشان ظامياً ، غريباً وحيداً , لا ناصر له ولا معين :

يـابنَ الذينَ توارَثُوا الْii      عُـليَا  iiقـبيلاً عنْ قَبيلِ
والـسَّـابقينَ  iiبـفضْلِهمْ      فـي  كلِّ جيلٍ كلَّ iiجيلِ
إنْ تُـمسِ مُنْكسرَ iiالـلّوا      مُلقىً  iiعلى وجهِ الرَّمولِ
فـلـقدْ  iiقُـتـلتَ مُهذَّباً      منْ  كُلِّ iiعيبٍ في القتيلِ
يُـهدَى  لكَ الذِّكرُ الجَميْ      لُ على الزَّمانِ المُستَطيلِ

ـــــــــــــــــ
(1) سورة آل عمران / 34 .

الصفحة ( 308 )

 

المجلس الواحد والخمسون بعد المئتين

في مروج الذهب للمسعودي , قال : سُعي إلى المتوكّل بعليِّ بن محمَّد الجواد (عليهما السّلام) : إنّ في منزله كُتباً وسلاحاً من شيعته من أهل قم , وأنّه عازم على الوثوب بالدولة .

فبعث إليه جماعة من الأتراك , فهجموا على داره ليلاً فلم يجدوا فيها شيئاً , ووجدوه في بيت مُغلق عليه وعليه مدرعة من صوف , وهو جالس على الرَّمل والحصى , وهو متوجهٌ إلى الله يترنّم بآيات من القرآن في الوعد والوعيد . فحُمل على حاله تلك إلى المتوكّل , وقالوا للمتوكّل : لم نجد في بيته شيئاً , ووجدناه يقرأ القرآن مستقبل القبلة . وكان المتوكّل جالساً في مجلس الشّراب , فاُدخل عليه والكأس في يد المتوكّل ، فلمّا رآه هابه وأعظمه ، وأجلسه إلى جانبه , وقال له : أنشدني شعراً . فقال (عليه السّلام) : (( إنّي قليلُ الرّواية للشعر )) . فقال : لا بُدَّ من ذلك . فأنشده (عليه السّلام) يقول :

بـاتُوا على قُلَلِ الأجبالِ تحرسُهُمْii      iiغُـلـبُ الرِّجالِ فما أغنتهُمُ القُلَلُ
واسـتَنْزَلوا  iiبعد عزٍّ منْ معاقلِهمْ      واُسـكنوا  حُفراً يا بئسَ ما نَزلوا
نـاداهُـمُ صـارخٌ منْ بعدِ دَفنِهمُ      أيـنَ  iiالأسـرَّةُ والتِّيجانُ والحُلَلُ
أيـنَ الـوجوهُ الّتي كانتْ مُنعَّمةًii      iiمنْ دونِها تُضرب الأستارُ والكلَلُ
فـأفصحَ iiالقبرُ عنهُمْ حينَ ساءَلهُمْ      iiتـلـكَ الوجوهُ عليها الدُّودُ يقتتلُ
قـدْ طالَما أكلُوا دهراً وما شَربواii      فأصبحوا بعدَ طُولِ الأكلِ قدْ اُكلُوا

قال : فبكى المتوكّل حتّى بلّت دموعه لحيته , وبكى الحاضرون , وأمر


الصفحة ( 309 )

برفع الشّراب ثمّ ردّه إلى منزله مُكرَّماً .

هذا إمام قد اُدخل إلى مجلس الشّراب ، وهو علي الهادي (عليه السّلام) , واُدخل إمام آخر إلى مجلس الشّراب ، وهو جدُّه علي بن الحسين زين العابدين (عليه السّلام) , ولكن شتّان ما بين الدّخولين ؛ أمّا علي الهادي (عليه السّلام) فاُدخل على المتوكّل وحده ولم يكن معه نساء ولا أطفال , ولمّا دخل على المتوكّل أعظمه وحيّاه ، وردّه إلى منزله مُكرَّماً ؛ وأمّا جدّه زين العابدين (عليه السّلام) فاُدخل على يزيد هو ونساؤه ومَن تخلّف من أهل بيته , وهم مُقرَّنون في الحبال ، وزين العابدين (عليه السّلام) مغلول بغلّ إلى عُنقه ، فلمّا وقفوا بين يديه وهم على تلك الحال ، قال له علي بن الحسين (عليه السّلام) : (( أنشدك الله يا يزيد ، ما ظنّك برسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، لو رآنا على هذه الصّفة ؟! )) . فلمْ يبقَ في القوم أحد إلاّ وبكى ، فأمر يزيد بالحبال فقُطعت ، وأمر بفكّ الغُلّ عن زين العابدين (عليه السّلام) .

ثمّ وضع رأس الحسين (عليه السّلام) بين يديه ، وأجلس النّساء خلفه لئلاّ ينظرنَ إليه , فجعلت فاطمة وسكينة يتطاولان لينظرا إلى الرأس , فلمّا رأين الرأس صحن ، فصاحت نساء يزيد وولولت بنات معاوية , فقالت فاطمة بنت الحسين على أبيها وعليها السّلام : أبنات رسول الله سبايا يا يزيد ؟! فبكى النّاس وبكى أهل داره حتّى علت الأصوات , ورآه علي بن الحسين (عليه السّلام) فلم يأكل الرؤوس بعد ذلك أبداً .

يا رأسَ مُفترسِ الضَّياغمِ في الوغَى     كـيفَ اغتَديتَ فريسةَ الأوغادِ

يا مُخـمداً لَهبَ العِدى كيفَ انتحتْ       نُوبُ الخـطوبِ إليكَ بالإخمادِ

 

المجلس الثاني والخمسون بعد المئتين

روى الشّيخ المفيد عليه الرحمة في الإرشاد بسنده : أنّه سعى رجل


الصفحة ( 310 )

بأبي الحسن (عليه السّلام) إلى المتوكّل , وقال : عنده أموال وسلاح . فتقدم المتوكّل إلى سعيد الحاجب أنْ يهجم عليه ليلاً , ويأخذ ما يجده عنده من الأموال والسّلاح ويحمله إليه .

قال سعيد الحاجب : صرت إلى دار أبي الحسن (عليه السّلام) بالليل ومعي سُلّم ، فصعدت منه إلى السّطح ونزلت من الدرجة في الظّلمة , فلم أدرِ كيف أصل إلى الدار , فناداني أبو الحسن (عليه السّلام) من الدار : (( يا سعيد , مكانك حتّى يأتوك بشمعة )) . فلم ألبث أنْ أتوني بشمعة , فنزلت فوجدت عليه جُبّة صوف وقلنسوة منها , وسجادة على حصير بين يديه , وهو مقبلٌ على القبلة , فقال لي : (( دونك البيوت )) . فدخلتها وفتّشتها فلم أجد فيها شيئاً , ووجدت بدرة من المال مختومة بخاتم اُمّ المتوكّل وكيساً مختوماً معها , فقال لي أبو الحسن : (( دونك المُصلّى )) . فرفعته فوجدت سيفاً في جفن , فأخذت ذلك وصرت إليه .

 فلمّا نظر إلى خاتم اُمّه على البدرة بعث إليها ، فخرجت إليه , فسألها عن البدرة , فقالت : كنتُ نذرت في علّتك إنْ عوفيت أنْ أحمل إليه من مالي عشرة آلاف دينار , فحملتُها إليه , وهذا خاتمي على الكيس ما حرَّكه . وفتح الكيس الآخر فإذا فيه أربعمئة دينار , فأمر أنْ يضمَّ إلى البدرة بدرة اُخرى , وقال لي : احمل ذلك إلى أبي الحسن , وأردُد عليه السّيف والكيس بما فيه . فحملتُ ذلك إليه واستحييت منه , فقلت له : يا سيّدي ، عزّ عليّ دخولي دارك بغير إذنك , ولكنّي مأمور . فقال لي : (( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ(1) )) .

هذا فعل المتوكّل مع علي الهادي (عليه السّلام) , فإنّه لمّا علم براءة ساحته ممّا نُسب إليه , أمر ببدرة فحُملت إليه , وردّ عليه السّيف والمال ؛ أمّا فعل يزيد مع جدّه علي بن الحسين (عليه السّلام) , فإنّه أمر بإدخاله عليه هو وثقل الحسين (عليه السّلام) ونساؤه ومَن تخلف من أهله , فاُدخلوا عليه وهم مُقرَّنون في الحبال ، وزين العابدين (عليه السّلام) مغلول ، فلمّا وقفوا بين يديه وهم على تلك الحال ، قال له علي بن الحسين (عليه السّلام) : (( أنشدك

 ـــــــــــــــــــ

(1) سورة الشّعراء / 227 .


الصفحة ( 311 )

الله يا يزيد ، ما ظنّك برسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، لو رآنا على هذه الصّفة ؟! )) . فلمْ يبقَ في القوم أحد إلاّ وبكى ، فأمر يزيد بالحبال فقُطعت ، وأمر بفكّ الغُلّ عن زين العابدين (عليه السّلام) .

ثمّ وضع رأس الحسين (عليه السّلام) بين يديه ، وأجلس النّساء خلفه لئلاّ ينظرنَ إليه , فجعلت فاطمة وسكينة يتطاولان لينظرا إلى الرأس , وجعل يزيد يتطاول ليستر عنهما الرأس ، فلمّا رأين الرأس صحن ، فصاحت نساء يزيد وولولت بنات معاوية , فقالت فاطمة بنت الحسين (عليهما السّلام) : أبنات رسول الله سبايا يا يزيد ؟! فبكى النّاس وبكى أهل داره حتّى علت الأصوات , ورآه علي بن الحسين (عليه السّلام) فلم يأكل الرؤوس بعد ذلك أبداً .

يا رأسَ مُفترسِ الضَّياغمِ في الوغَى     كـيفَ اغتَديتَ فريسةَ الأوغادِ

يا مُخمداً لَهبَ العِدى كيفَ انتحتْ       نُـوبُ الخـطوبِ إليكَ بالإخمادِ

 

المجلس الثّالث والخمسون بعد المئتين

قال ابن الأثير : كان المتوكّل شديد البغض لعلي بن أبي طالب (عليه السّلام) ولأهل بيته , وكان يقصد مَن كان يبلغه عنه أنّه يتولّى عليّاً وأهله (عليهم السّلام) بأخذ المال والدّم , وكان يُبغض مَن تقدَّمه من الخلفاء ـ المأمون والمعتصم والواثق ـ في محبتهم لعلي وأهل بيته (عليهم السّلام) , وإنّما كان ينادمه ويجالسه جماعةٌ قد اشتهروا بالنّصب والبغض لعليٍّ (عليه السّلام) .

 وكان من جماعة ندمائه عبادة المخنّث , وكان يشدُّ على بطنه تحت ثيابه مخدّة ، ويكشف رأسه ـ وهو أصلع ـ ويرقص بين يدي المتوكّل ، والمُغنُّون يُغنّون :


الصفحة ( 312 )

قد أقبلَ الأصلعُ البطينْ     خليفةُ المُسلمينْ !

يحكي بذلك عليّاً (عليه السّلام) والمتوكّل يشرب ويضحك , ففعل ذلك يوماً والمُنتصر ولده حاضر , فأومأ إلى عبادة يتهدده ، فسكت خوفاً منه , فقال المتوكّل : ما حالك ؟ فقام وأخبره , فقال المُنتصر : يا أمير المؤمنين ، إنّ الذي يحكيه هذا الكلب ويضحك منه النّاس , هو ابن عمِّك وشيخُ أهل بيتك وبه فخرك , فكُلْ أنت لحمَه إذا شئت ، ولا تُطعم هذا الكلبَ وأمثاله منه .

 فقال المتوكّل للمغنِّين : غنّوا جميعاً : غارَ الفتَى لابنِ عمّه . في كلام آخر قبيح .

فكان هذا من جملة الأسباب التي استحلّ بها المنتصر قتلَ المتوكّل .

من شدّة بغض المتوكّل لعلي وأهل بيته (عليهم السّلام) ؛ أنْ أمر بهدم قبر الحسين (عليه السّلام) وهدم ما حوله من المنازل والدور , وأنْ يُبذر ويُسقى موضع قبره ، وأنْ يمنع النّاس من إتيانه , فنادى بالنّاس في تلك النّاحية : مَن وجدناه عند قبره بعد ثلاثة حبسناه في المطبق . فهرب النّاس وتركوا زيارته , وحُرث وزُرع .

 وفي كتاب جواهر المطالب لأبي البركات شمس الدِّين محمَّد الباغندي , قال : ذكر ابن الكلبي إنّ الماء اُجري على قبر الحسين (عليه السّلام) ليعفى قبرُه وأثره ، فنضب الماء أربعين يوماً , فجاء أعرابيٌّ من بني أسد فجعل يأخذ من التُّراب قبضةً قبضة ويشمُّها حتّى وقع على قبر الحسين (عليه السّلام) , فشمَّ رائحةً أزكى من المسك فبكي ، وقال : بأبي أنت واُمّي ! ما أطيبك وأطيب تربتك وما حوت ! ثمّ أنشد :

أرادوا ليُخفُوا قبرَهُ عنْ وليِّهِ      وطيبُ تُرابِ القبرِ دلَّ على القبرِ

ولم يكفِ ما جرى على الحسين (عليه السّلام) من طُغاة بني اُميّة حتّى جاء


الصفحة ( 313 )

فراعنة بني العبّاس ، وقفوا على أعمال بني اُميّة , واقتدوا بهم في قبائح أفعالهم من أهل البيت (عليهم السّلام) , كما قال الشّريف الرضي :

أَلا لَيسَ فِعلُ الأَوَّلينَ وَإِن عَلا    عَلى قُبحِ فِعلِ الأَخَرينَ بِزائِدِ

ولله درّ القائل :

تـاللَهِ  إِنْ كـانَتْ أُمَيَّةُ قَد iiأَتَتْ      قَـتلَ  اِبـنِ بِنتِ نَبِيِّها iiمَظلوما
فَـلَقَد أَتـاهُ بَـنو أَبـيهِ بِـمِثلِهِ      هـذا لَـعَمرُكَ قَـبرُهُ iiمَـهدوما
أَسِفوا عَلى أَن لا يَكونوا شارَكوا      فــي قَـتلِهِ فَـتَتَبَعوهُ iiرَمـيما

 
الصفحة السابقةالفهرسالصفحة اللاحقة

 

طباعة الصفحةبحث