المجالس السّنية ـ الجزء الرابع-

 

 

المجلس السّابع عشر بعد المئتين

قال الله تعالى في سورة البقرة : ( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ ) إلى قوله تعالى : ( شَهْرُ رَمَضَانَ الّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنّاسِ وَبَيّنَاتٍ مِنَ الْهُدى‏ وَالْفُرْقَانِ )(1) .

قال الإمام الباقر (عليه السّلام) : (( خطب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) النّاس في آخر جمعة من شعبان , فحمد الله وأثنى عليه , ثمّ قال : أيّها النّاس , قد أظلّكم شهرٌ فيه ليلةُ القدرِ خيرٌ من ألفِ شهرٍ ، وهو شهر رمضان ؛ فرض الله صيامه ، وجعل قيام ليلة فيه بتطوِّعٍ صلاة سبعين ليلة , فمَن تطوَّع فيها كان كمَن تطوَّع بصلاة سبعين ليلة فيما سواه من الشّهور , وجعل لِمَن تطوّع فيه بخصلةٍ من خصال الخير والبرِّ كأجر مَنْ أدّى فريضةً من فرائضِ الله , ومَن أدّى فيه فريضةً من فرائضِ الله كان كمَنْ أدّى سبعين فريضة فيما سواه من الشّهور ، وهو شهرٌ يزيد الله فيه رزق المؤمنين . ومَنْ فطّر فيه مؤمناً صائماً كان له بذلك عند الله عزّ وجل عتقُ رقبةٍ ، ومغفرةُ الذّنوب فيما مضى .

فقيل : يا رسول الله , ليس كلّنا نقدر أنْ نُفطّر صائماً . فقال : إنّ الله تبارك وتعالى كريم , يُعطي هذا الثّواب منكم مَنْ لم يقدر إلاّ على مذقةٍ من لبن ففطّر بها صائماً ، أو شربةِ ماءٍ عذبٍ ، أو تُميراتٍ لا يقدر على أكثر من ذلك . ومَن خفَّف فيه عن مملوكه ، خُفِّف عنه حسابه .

ــــــــــــــــــــــ

(1) سورة البقرة / 183 ـ 185.


الصفحة ( 224 )

وهو شهر أوّله رحمة ، ووسطه مغفرة ، وآخره إجابة والعتق من النّار . ولا غنى بكم فيه عن أربع خصال : خصلتين ترضون الله بهما , وخصلتين لا غنى بكم عنهما ؛ أمّا اللتان ترضون الله بهما ، فشهادة أنْ لا إله إلاّ الله وأنّي رسول الله ؛ وأمّا اللتان لا غنى بكم عنهما ، فتسألون الله حوائجكم والجنّة , وتسألون فيه العافية , وتتعوذون فيه من النّار )) .

ألا لعن الله ابن ملجم الذي فجع الإسلام والمسلمين بسيّد الأوصياء في شهر رمضان , فضربه وهو يُصلّي في محرابه ضربة وصلت إلى موضع سجوده .

أفـي شهرِ الصِّيامِ فجَعْتمُوناii      بـخيرِ  iiالنَّاسِ طُرّاً أجمعينَا
ومـنْ بعدِ النَّبيِّ فخيرُ نفسii      iiأبـو حسنٍ وخيرُ الصَّالحينَا
لقدْ علمتَ قريشٌ حيثُ كانتْ      بـأنّكَ  iiخـيرُها حسَباً ودينَا

المجلس الثّامن عشر بعد المئتين

قال أمير المؤمنين (عليه السّلام) : (( خطَبنا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) , فقال : أيّها النّاس , إنّه قد أقبل إليكم شهر الله بالبركة والرّحمة والمغفرة , شهر هو عند الله أفضل الشّهور ، وأيّامه أفضل الأيّام ، ولياليه أفضل الليالي ، وساعاته أفضل السّاعات . [ شهرٌ ] دُعيتم فيه إلى ضيافة الله وجُعلتم فيه من أهل كرامته ؛ أنفاسكم فيه تسبيح ، ونومكم فيه عبادة ، وعملكم فيه مقبول ، ودعاؤكم فيه مُستجاب , فاسألوا ربّكم بنيّات صادقة وقلوب طاهرة أنْ يُوفقكم لصيامه وتلاوة كتابه ؛ فإنّ الشّقي مَن حُرم غفران الله في هذا الشّهر العظيم . واذكروا بجُوعكم وعطشكم فيه جُوعَ يوم القيامة وعطشه , وتصدّقوا على فقرائكم ومساكنيكم , ووقّروا


الصفحة ( 225 )

كباركم ، وارحموا صغاركم ، وصلوا أرحامكم ، واحفظوا ألسنتكم , وغضّوا عمّا لا يحلُّ النّظر إليه أبصاركم ، وعمّا لا يحلُّ الاستماع إليه أسماعكم ، وتحنَّنوا على أيتام النّاس يُتحنَّن على أيتامكم , وتوبوا إلى الله من ذنوبكم , وارفعوا إليه أيديكم بالدّعاء في أوقات صلواتكم ؛ فإنّها أفضل السّاعات ، ينظر الله عزَّ وجل فيها بالرّحمة إلى عباده , يُجيبهم إذا ناجوه ، ويُلبِّيهم إذا نادوه ، ويُعطيهم إذا سألوه ، ويستجيبُ لهم إذا دعوه .

يا أيّها النّاس , إنّ أنفسكم مرهونةٌ بأعمالِكم ففكّوها باستغفاركم , وظهورَكم ثقيلةٌ من أوزاركم فخفِّفوا عنها بطول سُجودكم . واعلموا أنّ الله تعالى ذكرُه أقسم بعزَّته أنْ لا يُعذِّب المُصلِّين والسّاجدين , وأنْ لا يُروِّعهم بالنّار يوم يقومُ النّاس لربِّ العالمين .

أيّها النّاس , مَن فطّر منكم صائماً مؤمناً في هذا الشّهر كان له بذلك عتق رقبة ، ومغفرة لِما مضى من ذنوبه . فقيل : يا رسول الله , وليس كُلّنا يقدر على ذلك . فقال (صلّى الله عليه وآله) : اتّقوا الله ولو بشق تمرة , اتّقوا الله ولو بشربة من ماء .

أيّها النّاس ، مَن حسّنَ منكم في هذا الشّهر خُلقَه , كان له جواز على الصّراط يوم تزلُّ فيه الأقدام ، ومَن خفّف في هذا الشّهر عمّا ملكت يمينه , خفّف الله عنه حسابه ، ومَن كفّ فيه شرّه , كفّ الله عنه غضبه يوم يلقاه ، ومَن أكرم فيه يتيماً , أكرمه الله يوم يلقاه ، ومَن وصل فيه رحِمه , وصله الله برحمته يوم يلقاه ، ومَن قطع فيه رحمه , قطع الله عنه رحمته يوم يلقاه ، ومَن تطوَّع فيه بصلاة , كتب الله له براءة من النّار ، ومَن أدّى فيه فرضاً , كان له ثواب مَن أدّى سبعين فريضة فيما سواه من الشّهور ، ومَن أكثر فيه من الصّلاة عليَّ , أثقل الله ميزانه يوم تخفُّ الموازين ، ومَن تلا فيه آية من القرآن , كان له مثلُ أجرِ مَن ختم القرآن في غيره من الشّهور .

أيّها النّاس , إنّ أبواب الجنان في هذا الشّهر مُفتَّحةٌ , فاسألوا ربّكم أنْ لا يغلقها عنكم ، والشّياطين مغلولةٌ , فاسألوا ربّكم أنْ لا يُسلِّطها عليكم )) .

فقال أمير


الصفحة ( 226 )

المؤمنين (عليه السّلام) : (( فقمت وقلتُ : يا رسول الله , ما أفضل الأعمال في هذا الشّهر ؟ فقال : يا أبا الحسن , أفضلُ الأعمال في هذا الشّهر الورع عن محارم الله . ثمّ بكى ، فقلتُ : يا رسول الله , ما يُبكيك ؟ قال : يا علي , أبكي لِما يُستحلُّ منك في هذا الشّهر ؛ كأنّي بك وأنت تُصلِّي لربّك وقد [ انبعث ] أشقى الأوّلين والآخرين شقيق عاقر ناقة ثمود , فضربك ضربةً على قرنك فخضب منها لحيتك )) . قال أمير المؤمنين (ع ) : (( فقلتُ : يا رسول الله , وذلك في سلامة من ديني ؟ فقال : في سلامة من دينك . ثمّ قال (صلّى الله عليه وآله) : يا علي , مَن قتلك فقد قتلني ، ومَن أبغضك فقد أبغضني ، ومَن سبّك فقد سبّني ؛ لأنّك منّي كنفسي ، روحك من روحي وطينتك من طينتي . إنّ الله خلقني واصطفاني وإيّاك ، واختارني للنّبوة واختارك للإمامة )) .

لقد أراقُوا ليلةََ القدرِ دماًii      دماؤُها انصببن iiبانصبابِهِ
غادرُهُ ابنُ مُلجمٍ ووجهُهُii      مُخضَّبٌ بالدَّمِ في محْرابِهِ
قتلتُمُ iiالصَّلاةَ في مِحْرابِها      iiيا قاتلِيهِ وهوَ في محرابِهِ

المجلس التاسع عشر بعد المئتين

جاء أعرابي إلى النّبي (صلّى الله عليه وآله) في عام جدب , فقال : أتيناك ولم يبقَ لنا صبيٌّ يرتضع ، ولاشارف ( أي : ناقة ) تجتر .

ثمّ أنشد :

أتـيناكَ والـعذراءُ يَدمَى  iiلبانُها      وقد شُغِلتْ اُمُّ الرَّضيعِ عن الطَّفلِ
وألـفَى بكفَّيهِ الفتَى   iiلاسـتكانةٍٍ      من الجُوعِ حتّى ما يُمِرُّ ولا يُحلي
ولـيـسَ لـنـا إلاّ إليكَ فِرارُناii      وأينَ  فرارُ النَّاسِ إلاّ إلى iiالرُّسْل
ِ

فقام النّبي (صلّى الله عليه وآله) يجرّ رداءه حتّى صعد المنبر ، فحمد


 الصفحة ( 227 )

الله وأثنى عليه , وقال : (( اللهمّ , اسقنا غيثاً مغيثاً ، مريئاً هنيئاً ، مريعاً سحّاً ، سجّالاً غدقاً , تُحيي به الأرض وتُنبتُ به الزّرع وتدرُّ به الضّرع , واجعله سقياً نافعاً عاجلاً غير رائث )) . فما ردّ يده إلى نحره حتّى ألقت السّماء أرواقها ، وجاء النّاس يضجون : الغرق الغرق يا رسول الله ! فقال : (( اللهمّ ، حوالينا ولا علينا )) . فانجاب السّحاب عن المدينة حتّى استدار حولها كالإكليل , فضحك رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حتّى بدت نواجذه , ثمّ قال : (( لله درّ أبي طالب ! لو كان حيّاً لقرّت عينُه . مَن يُنشدنا قوله ؟ )) . فقام علي (عليه السّلام) , فقال : (( يا رسول الله , لعلك أردت : وأبيضَ يُستسقَى الغَمامُ بوجهِهِ ؟ )) . فقال : (( أجل )) . فأنشده أبياتاً من هذه القصيدة , ورسول الله (صلّى الله عليه وآله) يستغفر لأبي طالب على المنبر .

وفي هذه القصيدة يقول أبو طالب :

وأبيضَ يُستسقَى الغَمامُ بوجهِه      ثِـمالُ iiاليَتامَى عصمةٌ للأراملِ
تـلوذُ بهِ الهُلاّكِ منْ آلِ iiهاشم      iiفـهُمْ عندَهُ في نعمة ٍوفواضلِ
كذبتُمْ  وبيتِ اللهِ نُخْلي iiمحمَّداً      ولـمّا  نُطاعنْ  دونَهُ iiونُناضلِ
ونـنصرُهُ حتّى نُصرَّعَ iiحولَهُ      iiونـذهلُ عن أبنائِنا والحلائِل

ثمّ قام رجل من كنانة فأنشده :

لك الحمدُ والحمدُ ممَّنْ شَكَرْ      سُـقينا  بوَجهِ النَّبيِّ المَطرْ
دعــا  iiاللهَ خـالقَهُ دعْوةً      إليهِ  iiوأشخصَ منهُ البصَرْ
فـما  iiكـانَ إلاّ كما ساعةٍ      أو اقْصرَ حتّى iiرأينا الدِّرَرْ
فـكـانَ كـمـا قالَهُ عمُّهُii      أبـو iiطالبٍ ذو رواءٍ غَزَرْ
بـه يسَّرَ اللهُ صوتَ الغَمامْii      فـهـذا العيانُ وذاك الخَبَرْ
فمَنْ  iiيشْكُرِ اللهَ يلقَ المزيدَ      ومَـنْ  iiيكفُرِ اللهَ يلقَ الغِيَرْ

فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : (( إنْ يكُ شاعرٌ أحسنَ فقدْ أحسنتْ )) .

وللشعر في


الصفحة ( 228 )

مدح النّبي وآله (صلّى الله عليه وآله) مزيّة عالية .

قال الإمام الصّادق (عليه السّلام) لأبي عمارة المنشد : (( أنشدني في الحسين بن علي )) . قال : فأنشدتُه فبكى , ثمّ أنشدتُه فبكى ، فوالله , ما زلتُ أنشده فيبكي حتّى سمعت البكاء من الدّار .

وأنشد دعبل [ الخُزاعي الإمامَ ] الرّضا (عليه السّلام) قصيدته التّائية التي يقول فيها :

مدارسُ آياتٍ خَلَتْ منْ تلاوةٍ    ومنزلُ وحيٍ مُقفَرُ العَرَصاتِ

فلمّا بلغ إلى قوله :

لقدْ خفتُ في الدُّنيا وأيّام سَعْيها   وإنّي لأرجُو الأمنَ بعدَ وفاتي

قال الرّضا (عليه السّلام) : (( آمنك الله يوم الفزَعِ الأكبر )) . وحسبُ دعبلٍ هذا الدّعاء من الرّضا (عليه السّلام) .

بكَتْ السَّماءُ دماً عليهِ فليسَ منْ    عُذرٍ لذي طرفٍ بدمعٍ يبخَلُ

 

المجلس العشرون بعد المئتين

قال الله تعالى مُخاطباً نبيّه (صلّى الله عليه وآله) : ( فَأَمّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ )(1) . أي : لا تقهره على ما له فتذهب بحقّه لضعفه كما كانت تفعل العرب في أمر اليتامى . والخطابُ للنبيِّ (صلّى الله عليه وآله) والمراد جميع المُكلّفين . وكان النّبي (صلّى الله عليه وآله) يُحسن إلى اليتامى ويبرّهم ويُوصي بهم .

وأتى النّبيَّ (صلّى الله عليه وآله) غلامٌ , فقال : غلامٌ يتيمٌ ، واُخت لي يتيمة ، واُمّ لي أرمَلة , أطعمنا ممّا أطعمك الله ، أعطاك الله ممّا عنده حتّى ترضى . قال : (( ما أحسن ما قلتَ يا غُلام ! اذهب يا بلال فائتنا بما كان عندنا )) . فجاء بواحدة وعشرين تمرة , فقال (صلّى الله عليه وآله) : (( سبعٌ لك ، وسبعٌ لاُختك ، وسبعٌ لاُمّك )) .

ــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الضّحى / 9 .

الصفحة ( 229 )

فقام إليه معاذ بن جبل فمسح رأسه , وقال : جَبرَ اللهُ يتمك ، وجعلك خلفاً من أبيك ـ وكان من أبناء المهاجرين ـ . فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : (( رأيتُك يا معاذ وما صنعت )) . قال : رحمته . قال (صلّى الله عليه وآله) : (( لا يلي أحدٌ منكم يتيماً فيُحسن ولايته ، ووضع يده على رأسه إلاّ كتب الله له بكلِّ شعرةٍ حسنة , ومحى عنه بكلِّ شعرةٍ سيئة , ورفع له بكلِّ شعرة درجة )) . وعنه (صلّى الله عليه وآله) : (( مَن مسح على رأس يتيم , كان له بكلِّ شعرةٍ تمرُّ على يده نورٌ يوم القيامة )) . وقال (صلّى الله عليه وآله) : (( أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنّة إذا اتّقى الله عزّ وجل )) . وأشار بالسّبابة والوسطى . وعنه (صلّى الله عليه وآله) : (( إنّ اليتيم إذا بكى اهتزّ لبكائه عرش الرّحمن )) .

فليت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لا غاب عن يتامى ولده أبي عبد الله الحسين (عليه السّلام) ليلة الحادي عشر من المُحرّم حين باتوا عطاشى جياعى ، بلا محامٍ ولا كفيل ، قد علا بكاؤهم وارتفع صراخهم لفقد الكافل والمحامي , وهم يرون كافلهم والمحامي عنهم ملقىً على وجه الصّعيد جثّة بلا رأس , وكفيلهم بعده زين العابدين (عليه السّلام) عليل مريض لا يستطيع النّهوض , وليس عندهم غير نساء دأبهنَّ النّوح والبكاء ، ولكن زينب العقيلة ، لبوة أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، قامت باُمورهم , فمرّضت العليل ، وسكّتت الطّفل ، وسلّت الحزين ، وقامت في ذلك مقام الرّجال .

هذي يتاماكُمْ تلوذُ ببعضِها    ولكمْ نساءٌ تلتجي لنِساءِ

 

المجلس الواحد والعشرون بعد المئتين

روى المدائني قال : لمّا كان زمن علي بن أبي طالب (عليه السّلام) , ولي زياد بن أبيه بلاد فارس فضبطها ضبطاً صالحاً ، وجبى خراجها وحماها , وعرف


الصفحة ( 230 )

ذلك معاوية فكتب إليه : وأمّا بعد , فإنّه غرّتك قلاع تأوي إليها ليلاً كما تأوي الطّير إلى وكرها ، وأيم الله , لولا انتظاري بك ما الله أعلم به لكان لك منّي ما قاله العبد الصّالح ( أي : سُليمان عليه السّلام ) ( فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لاَ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ )(1) .

فلمّا ورد الكتاب على زياد , قام فخطب النّاس وقال : العجب من ابن آكلة الأكباد ورأس النّفاق ، يُهددني وبيني وبينه ابن عمِّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) , وزوج سيّدة نساء العالمين ، وأبو السّبطين , وصاحب الولاية والمنزلة والإخاء في مئة ألف من المهاجرين والأنصار ، والتّابعين لهم بإحسان ! أما والله , لو تخطَّى هؤلاء أجمعين إليّ لوجدني ضرّاباً بالسّيف . ثمّ كتب إلى أمير المؤمنين (عليه السّلام) بذلك ، وبعث بكتاب معاوية في كتابه .

فكتب أليه أمير المؤمنين (عليه السّلام) : (( أمّا بعد , فإنّي قد ولّيتُكَ ما ولّيتك وأنا أراك لذلك أهلاً , وإنّ معاوية كالشّيطان الرّجيم يأتي المرء من بين يديه ومن خلفه ، وعن يمينه وعن شماله , فاحذره ثمّ احذره , والسّلام )) .

فلم يزل زياد في عمله حتّى قُتل علي (عليه السّلام) ، فخاف معاوية جانبه وأشفق من ممالأته الحسنَ بن علي (عليهما السّلام) , فكتب إليه : من أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان إلى زياد بن عبيد : أمّا بعد , فإنّك عبدٌ كفرت النّعمة , وظننت أنّك تخرج من قبضتي ولا ينالك سلطاني ، هيهات ! ما كلّ ذي لبٍّ يُصيب رأيه ، ولا كلّ ذي رأي ينصح في مشورته . أمس عبد واليوم أمير ، خطّة ما ارتقاها مثلك يابن سُميّة , فإذا أتاك كتابي هذا , فخُذ النّاس بالطّاعة والبيعة , والسّلام .

 فلمّا ورد الكتاب على زياد , غضب غضباً شديداً ، وجمع النّاس وصعد المنبر ، فحمد الله ، ثمّ قال : ابن آكلة الأكباد وقاتلة أسد الله , ومظهر الخلاف ومسرّ النّفاق ورئيس الأحزاب , ومَن أنفق ماله في إطفاء نور الله , كتب إليّ
ـــــــــــــــــــــــ
(1) سورة النّمل / 37 .

الصفحة ( 231 )

يرعد ويبرق عن سحابة جفل(1) لا ماء فيها , وعمّا قليل تُصيّرها الرّياح فزعاً(2) , كيف أرهبه وبيني وبينه ابن بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ( يعني : الحسن عليه السّلام ) ، وابن ابن عمّه في مئة ألف من المهاجرين والأنصار ؟! والله , لو أذن لي فيه أو ندبني إليه لأريته الكواكب نهاراً . الكلام اليوم ، والجمع غداً ، والمشورة بعد ذلك إن شاء الله .

ثمّ نزل وكتب إلى معاوية : أمّا بعد , فقد وصل إليّ كتابك يا معاوية , وفهمت ما فيه , فوجدتك كالغريق يُغطّيه الموج فيتشبث بالطُحلُب(3) ( وهو : الخضرة التي تعلو الماء المزن ) ، ويتعلّق بأرجل الضّفادع طمعاً في الحياة , فامض الآن لطيّتك(4) ، واجتهد جهدك , ولا أجتهد إلاّ فيما يسوؤك , والسّلام .

 فلمّا ورد كتاب زياد على معاوية غمّه وأحزنه , وبعث إلى المغيرة بن شعبة فخلا به , وقال : يا مغيرة , إنّي اُريد مشاورتك في أمر أهمّني . قال المغيرة : وما ذاك ؟ قال : إنّ زياداً قد أقام بفارس , وهو رجل ثاقب الرّأي ، ماضي العزيمة ، جوّال الفكر , وقد خفت منه الآن ما كنت آمنُه إذ كان صاحبه حيّاً ، وأخشى ممالأته حسناً , فكيف السّبيل إليه ؟ قال المغيرة : أنا له إنْ لم أمت ، إنّ زياداً رجل يُحب الشّرف والذّكر وصعود المنابر , فلو لاطفته المسألة وألنت له الكتاب , لكان لك أميل وبك أوثق , فاكتب إليه وأنا الرّسول .

فكتب إليه معاوية : من معاوية بن أبي سفيان إلى زياد بن أبي سفيان ، أمّا بعد ، فإنّ المرء ربما طرحه الهوى في مطارح العطب , وحملك سوء ظنّك بي وبغضك لي على أنْ عققت قرابتي ، وقطعت رحمي ، وبتّت نسبي حتّى كأنّك لست

ـــــــــــــــ

(1) سحابة جَفْل ، بالفتح فالسكون : أي أمطرت ماءها .
(2) القزع ، بفتحتين : قطع من السّحاب .
(3) بضم الطّاء واللام أو كسرهما أو بضم الطّاء وفتح اللام .
(4) لحاجتك .  ـ المولّف ـ

الصفحة ( 232 )

أخي ، وليس صخر بن حرب أباك وأبي , وشتّان ما بيني وبينك ؛ أطلب بدم ابن أبي العاص ( يعني عثمان ) وأنت تُقاتلني ؟! فاعلم أبا المغيرة , إنّك لو خضت البحر في طاعة القوم ، فتضرب بالسّيف حتّى ينقطع متنه لما ازددت منهم إلاّ بُعداً ؛ فإنّ بني عبد شمس أبغض إلى بني هاشم من الشّفرة إلى الثّور الصّريع وقد اُوثق للذبح ، فارجع إلى أصلك واتّصل بقومك . ووعده بالإمرة والصّلة .

فرحل المغيرة بكتاب معاوية حتّى قدم على زياد , فدفع إليه الكتاب فجعل يتأمّله ويضحك , ثمّ جمع النّاس بعد يومين أو ثلاثة , فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال : أيّها النّاس , ادفعوا البلاء ما اندفع عنكم , وارغبوا إلى الله في دوام العافية لكم , فقد نظرتُ في اُمور النّاس منذ قُتل عثمان وفكّرت فيهم ، فوجدتهم كالأضاحي في كلّ عيد يُذبحون , ولقد أفنى هذا اليومان ـ يوم الجمل وصفّين ـ ما ينيف على مئة ألف , كلّهم يزعم أنّه طالب حقٍّ وتابع إمام وعلى بصيرة من أمره , فإنْ كان الأمر هكذا , فالقاتل والمقتول في الجنّة . كلاّ ليس كذلك ، ولكن أشكل الأمر والتبس على القوم , وإنّي لخائف أنْ يرجع الأمر كما بدأ , وقد نظرت في أمر النّاس فوجدتُ أحمَدَ العاقبتين العافية , وسأعمل في اُموركم ما تحمدون عاقبته ومغبّته إنشاء الله . ثمّ نزل ، وكتب إلى معاوية :

 أمّا بعد ، فقد وصل كتابك مع المغيرة بن شعبة وفهمت ما فيه , فالحمد لله الذي عرّفك الحقَّ وردّك إلى الصّلة , ولقد قمتُ يوم قرأتُ كتابك مقاماً يعبأ به الخطيب المِدْرَه ( أي : المُقدِم في اللسان ) , فتركت مَن حضر لا أهلَ وردٍ ولا صدر , كالمتحيرين بمهمهٍ ضلَّ بهم الدّليل , وأنا على أمثال ذلك قدير .

وكتب في أسفل الكتاب :

إذا معشَري لمْ ينْصفُوني وجدْتَني      iiاُدافـعُ عنِّي الضَّيمَ ما دُمْتُ باقيا
اُدافـعُ بـالـحلمِ الجَهولَ مكيدةًii      واُخفي  iiله تحتَ العَصاةِ الدَّواهيا


الصفحة ( 233 )

فإنْ تدنُ منِّي أدنُ منكَ وإنْ  تَبنْ    تـجدْني إذا لـمْ تدنُ منِّي  نائيا

 

فكتب إليه معاوية بخطِّ يده ما وثق به .

فدخل زياد الشّام ، فقرّبه معاوية وأدناه ، واستلحقه فجعله أخاه ؛ لأنّ أبا سفيان كان زنى باُمّه سُميّة وهي تحت عبيد , وولدته على فراش عبيد , وأثبت ذلك بشهادة جماعة , منهم : أبو مريم السّلوي ، وكان خمّاراً في الجاهليّة ، وخالف قول النّبي (صلّى الله عليه وآله) : (( الولد للفراشِ وللعاهر الحَجَر )) . وأقرّه على ولايته بفارس , ثمّ استعمله بعد ذلك والياً على العراق وضمّ إليه البصرة , فكان يتتبع الشّيعة كما أمره معاوية ، وهو بهم عارف ؛ لأنّه كان منهم أيّام أمير المؤمنين (ع ) , فقتلهم تحت كلّ حجر ومدر , وأخافهم وهدم دورهم , وقطع الأيدي والأرجل , وسمل العيون وصلبهم على جذوع النّخل , وطردهم وشرّدهم عن العراق , فلم يبقَ بها معروف منهم .

ولم يزل الأمر على ذلك حتّى ولي العراقَين نغله عبيد الله بن زياد , فاقتدى بأبيه في بغض أهل البيت (عليهم السّلام) وقتلِ شيعتهم وإيذائهم , حتّى كان ما كان من قتله مسلم بن عقيل بإلقائه من أعلى القصر حتّى تكسّرت عظامه , وقتل هاني بن عروة في حُبّ أهل البيت (عليهم السّلام) ، حتّى تجرّأ على ما هو أعظم من ذلك وأفضع ؛ من تجييش الجيوش لقتال الحسين ابن بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) .

وبلغ به الخُبث والعداوة لأهل البيت (عليهم السّلام) إلى أنْ منع الحسين (ع ) ، وأطفاله وعياله من شرب الماء حتّى قتله وأهل بيته عطاشى ، ولم يكتفِ بذلك حتّى كتب إلى عمر بن سعد : فإنْ قتلت حسيناً , فأوطئ الخيل صدره وظهره ؛ فإنّه عاقٌّ شاقٌّ قاطعٌ ظلوم , ولست أرى أنّ هذا يضرّ بعد الموت شيئاً ، ولكن على قول قد قُلتُه : لو قد قتلتُه لفعلت هذا به .

فامتثل عمر بن سعد أمره ، ونادى في أصحابه لمّا قُتل الحسين (ع ) : مَن ينتدب للحسين فيوطئ الخيل ظهره وصدره ؟ فانتدب منهم عشرة فوارس ، فداسوا الحسين (ع ) بحوافر خيلهم حتّى


الصفحة ( 234 )

رضّوا ظهره وصدره ، وجاء هؤلاء العشرة حتّى وقفوا على ابن زياد , فقال أحدهم :

نحنُ رضَضْنا الصَّدرَ بعدَ الظَّهرِ    بكلِّ يَعْبوبٍ شديدِ الأسرِ

* * *

تطَأُ الصَّواهلُ جسْمَهُ وعلى القنا    منْ رأسِهِ المرفوعِ بدرُ سماءِ

 

المجلس الثّاني والعشرون بعد المئتين

في شرح النّهج لابن أبي الحديد : كان سعيد بن سرح شيعةً لعلي بن أبي طالب (ع ) , فلمّا قدم زياد الكوفة والياً عليها أيّام معاوية , طلب سعيدَ بنَ سرح وأخافه , فأتى سعيدٌ الحسنَ بن علي (عليهما السّلام) مستجيراً به , فوثب زياد على أخيه وولده وامرأته فحبسهم ، وأخذ ماله ونقض داره .

فكتب الحسن بن علي (عليهما السّلام) إلى زياد : (( من الحسن بن علي إلى زياد : أمّا بعد , فإنّك عمدتَ إلى رجل من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم , فهدمت داره وأخذت ماله ، وحبست أهله وعياله , فإذا أتاك كتابي هذا ، فابني له داره واردد عليه عياله وشفّعني فيه ؛ فقد أجرته , والسّلام )) .

فلمّا ورد الكتاب على زياد , كتب إلى الحسن (ع ) : من زياد بن أبي سفيان إلى الحسن بن فاطمة , أمّا بعد ، فقد أتاني كتابك تبدأ فيه بنفسك قبلي وأنت طالب حاجة ، وأنا سلطان وأنت سوقة ( أي : رعية ) , وتأمرني فيه بأمر المُطاع المُسلّط على رعيته . كتبت إليّ في فاسق آويته ؛ إقامة منك على سوء الرّأي ورضاً منك بذلك . وأيم الله , لا تسبقني به ولو كان بين


الصفحة ( 235 )

جلدك ولحمك , وإنْ نلت بعضك غير رفيق بك ولا مرع عليك(1) ؛ فإنَّ أحبّ لحم إليّ أنْ آكله اللحم الذي أنت منه , فسلّمه بجريرته إلى مَن هو أولى به منك , فإنْ عفوتُ عنه لم أكن شفّعتك فيه , وإنْ قتلتُه لم أقتله إلاّ لحبّه أباك , والسّلام .

فلمّا ورد الكتاب على الحسن (ع ) , قرأه وتبسّم ، وكتب جواب كتابه كلمتين لا ثالثة لهما : (( من الحسن بن فاطمة إلى زياد بن سُميّة : أمّا بعد ، فإنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال : الولد للفراش وللعاهر الحجر , والسّلام )) .

وقد اقتدى بزياد بن سُميّة في بغضه لعلي (عليه السّلام) وشيعته نغلُه عبيد الله بن مرجانة , فقد قتل ميثم التّمار على حبّه لعلي (ع ) ؛ فإنّه لمّا اُدخل عليه , قيل له : هذا كان من آثرِ النّاس عند علي (ع ) . فأخذه وصلبه ، ثمّ فعل ما فعل بسبط رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الحسين بن علي (ع ) , فجيّش عليه الجيوش , ومنعه وأهله من شرب الماء حتّى قُتل عطشان بشطِّ الفرات , ولم يكتفِ بذلك حتّى أمر أن يُداس جسده الشّريف بحوافر الخيل , وطاف برأسه الشّريف في سكك الكوفة وشوارعها , وطاف به في البلدان .

سُميّةُ أمسَى نسلُها عددَ الحصَى     وبنتُ رسولِ اللهِ ليس لها نسلُ

 

المجلس الثّالث والعشرون بعد المئتين

في كامل ابن الأثير قال : في سنة ستٍّ وخمسين بايع النّاس يزيد بن

ــــــــــــــــــــ

(1) أي : غير مشفق عليك ولا راحم لك .

الصفحة ( 236 )

معاوية بولاية عهد أبيه , وكان أوّل ذلك من المغيرة بن شعبة ؛ فإنّ معاوية أراد أن يعزله عن الكوفة ويولّيها سعيد بن العاص , فقال المغيرة : الرّأي أنْ أذهب إلى معاوية فاستعفيه ليظهر للناس كراهتي للولاية . فدخل على يزيد , وقال : ما يمنع أمير المؤمنين أن يعقد لك البيعة ؟ قال : أترى ذلك يتم ؟ قال : نعم . فدخل يزيد على أبيه وأخبره , فأحضر المغيرة فأشار عليه ببيعة يزيد , قال معاوية : ومَن لي بهذا ؟ قال المغيرة : أنا أكفيك أهل الكوفة , ويكفيك زياد أهل البصرة . قال : ارجع إلى عملك . فرجع إلى أصحابه , فقالوا : مه . قال : لقد وضعت رجل معاوية في غرز بعيد الغاية على اُمّة محمَّد ( والغرز : ركاب من جلد ) , وفتقت عليهم فتقاً لا يُرتق أبداً , وأنشد :

بمثلِي شاهدِي النَّجْوى وغالَى     بيَ الأعداءُ والخصمُ الغِضابا

وقد صدق المغيرة في أنّه فتق على اُمّة محمَّد فتقاً لا يُرتق أبداً ؛ جرأة منه على الله تعالى واتّباعاً للهوى . وقدم المغيرة الكوفة وذاكر شيعة بني اُميّة بذلك فأجابوه , فأوفد منهم عشرة وأعطاهم ثلاثين ألف درهم وجعل عليهم ابنه , فقدموا على معاوية وزيّنوا له بيعة يزيد , وادّعوا أنّه إنّما استخفّهم إليه النّظر لاُمّة محمَّد (صلّى الله عليه وآله) . فقال معاوية : لا تعجلوا بإظهار هذا . وقال لابن المغيرة سرّاً عنهم : بِكَم اشترى أبوك من هؤلاء دينهم ؟ فقال : بثلاثين ألف درهم . فقال : لقد هان عليهم دينهم , ولقد وجد أبوك دينهم عندهم رخيصاً . واستشار معاوية زياداً فأشار بالتؤدة .

وكتب معاوية إلى مروان : إنّي قد كبرت سنِّي ، وخشيت الاختلاف على الاُمّة بعدي , وقد رأيت أن أتخيّر لهم مَن يقوم بعدي , فأعرض ذلك وأخبرني بما يردّون عليك . فأخبرهم ، فقالوا : أصاب . فكتب إلى معاوية بذلك ، فأجابه بأنّه اختار لهم يزيد . فقال عبد الرّحمن بن أبي بكر : كذبت يا مروان , وكذب معاوية ، ما الخيار أردتما لاُمّة محمَّد (صلّى الله عليه وآله) ، ولكنّكم


الصفحة ( 237 )

تُريدون أنْ تجعلوها هرقلية . فقال مروان : هذا الذي أنزل الله فيه : ( وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا )(1) . فقالت عائشة : كذبت ، والله ما هو به ، ولكنّك أنت فضض من لعنة نبي الله . ( أي : أَنّ النّبي (صلّى الله عليه وآله) لعن أباك وأنت فضض من لعنته . أي : قطعة وطائفة منها ) . وقام الحسين بن علي (عليه السّلام) فأنكر ذلك ، وفعل مثله ابن عمر وابن الزّبير .

فكتب مروان بذلك إلى معاوية ، وكان معاوية قد كتب إلى عمّاله بمدح يزيد وأنْ يُوفدوا إليه الوفود , فكان فيمن أتاه الأحنف بن قيس في وفد أهل البصرة , فقال معاوية للضّحاك بن قيس الفهري لمّا اجتمع الوفود عنده : كُن أنت الذي تدعو إلى بيعة يزيد . فقام الضّحاك فمدح يزيد ودعا معاوية إلى بيعته ، وتكلّم مَن حضر من الوفود , فقال معاوية للأحنف : ما تقول يا أبا بحر ؟ فقال : نخافكم إنْ صدقنا , ونخاف الله إنْ كذبنا . وتفرّق النّاس يحكون قول الأحنف .

وكان معاوية يُعطي المقارب ويداري المُباعد حتّى استوسق له أكثر النّاس , فلمّا بايعه أهل العراق والشّام , سار إلى الحجاز في ألف فارس , فلمّا دنا من المدينة , لقيه الحسين بن علي (عليه السّلام) ، ثمّ لقيه ابن الزّبير ، ثمّ عبد الرّحمن بن أبي بكر وعبد الله بن عمر فجفاهم ووبّخهم , فخرجوا إلى مكّة فأقاموا بها .

وخطب معاوية بالمدينة ومدح يزيد , ثمّ خرج إلى مكّة فجمع هؤلاء الأربعة , وقال لهم : قد اُعذر من أنذر ، إنّي قائم بمقالةٍ فاُقسم بالله , لئن ردّ عليَّ أحدكم كلمة في مقامي هذا , لا ترجع إليه كلمة غيرها حتّى يسبقها السّيف إلى رأسه . ثمّ دعا صاحب حرسه , فقال : أقم على رأس كلّ رجل من هؤلاء رجلين ، ومع كلّ واحد سيف , فإنْ ذهب رجل منهم يردّ عليَّ , فليضرباه بسيفهما . ثمّ قال : إنّ هؤلاء الرّهط سادة المسلمين وخيارهم , وأنّهم قد رضوا وبايعوا يزيداً ، فبايعوا على اسم الله . فبايع النّاس ، ثمّ ركب رواحله وانصرف إلى المدينة , وبايعه أهل المدينة ، وانصرف إلى الشّام .

وجفا بني هاشم ، فأتاه ابن عباس , فقال له : ما بالك جفوتنا ؟ قال : إنّ

ــــــــــــــــ

(1) سورة الأحقاف / 17 .


الصفحة ( 238 )

صاحبكم لم يُبايع ليزيد , فلم تنكروا ذلك عليه . فقال : يا معاوية , إنّي لخليق أنْ أنحاز إلى بعض السّواحل فاُقيم به , ثمّ أنطلق حتّى أدع النّاس كلّهم خوارج عليك . قال : يا أبا العبّاس , تعطون وترضون .

هكذا كانت بيعة يزيد بالقهر والغلبة ، وتأميره على اُمّة محمَّد (صلّى الله عليه وآله) ـ كما كانت بيعة أبيه ـ وهو يشرب الخمور ويرتكب الفجور ، ويلعب بالقرود والفهود , وأصبح أمر الخلافة كما قال الأمير أبو فراس الحمداني :

حتَّى إذا أصبحتْ في غيرِ صاحبِها    باتتْ تُنازعُها الذؤبانُ والرَّخمُ

وكما قال أبو العلاء المعرِّي :

دعِ الأيّـام تـفعلُ ما iiتُريد      فما أنا في العجائبِ مستزيدُ
أليس  قريشكُمْ قتلتْ iiحُسيناً      وكـان  على خلافتِكُمْ يزيدُ

فلمّا مات معاوية , كتب يزيد إلى ابن عمّه الوليد بن عتبة ـ أمير المدينة ـ بأخذ البيعة على الحسين (ع ) , ويقول : إنْ أبى عليك ، فاضرب عنقه وابعث إليّ برأسه .

 فامتنع الحسين (عليه السّلام) من بيعته ، ثمّ خرج ليلاً متوجّهاً إلى مكّة , فدسّ إليه يزيد بن معاوية مع الحاجّ في تلك السّنة ثلاثين رجلاً من شياطين بني اُميّة , وأمرهم بقتل الحسين (ع ) على أي حال اتّفق . فلمّا علم الحسين (ع ) بذلك ، وكان قد أحرم بالحجِّ , جعلها عمرة مفردة ؛ لأنّه لم يتمكّن من إتمام الحجِّ مخافة أنْ يُقبض عليه . فخرج من مكّة إلى العراق , فكان النّاس يخرجون إلى الحجِّ والحسين (ع ) خارج إلى العراق , فأرسل إليه ابن زياد الحُرَّ في ألف فارس , فأراد الحسين (عليه السّلام) الانصراف , فحال القوم بينه وبين الانصراف , ثمّ أخذ طريقاً لا يدخله الكوفة ولا يردّه إلى المدينة , ولم يزل سائراً حتّى انتهى إلى نينوى , فجاء رسول عبيد الله بن زياد إلى الحُرِّ يأمره بالتّضييق على الحسين (ع ) , وأنْ يُنزله بالعراء في غير حصن وعلى غير ماء .

وذلك من


الصفحة ( 239 )

هوان الدُّنيا على الله أنْ يكون عبيد الله ـ نغل مرجانة ـ ابن زياد نغل سُميّة يفعل هذا بابن بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) , فمنعه الحُرُّ من المسير , ولم يزل الحُرُّ يُسايره تارة ، ويمنعه اُخرى حتّى بلغ كربلاء , فلمّا بلغها قال : (( أهذه كربلاء ؟ )) . قيل : نعم يابن رسول الله . فقال : (( هذا موضعُ كربٍ وبلاء . انزلوا ، ها هنا مناخُ ركابنا ومحطُّ رحالنا ، ومقتلُ رجالنا ومسفكُ دمائنا )) .

ثمّ جمع ولده وإخوته وأهل بيته , ثمّ نظر إليهم فبكى ساعة , ثمّ قال : (( اللهمّ , إنّا عترة نبيّك وقد اُزعجنا وطُردنا واُخرجنا عن حرم جدِّنا , وتعدَّت بنو اُميّة علينا . اللهمّ , فخذ لنا بحقِّنا وانصرنا على القوم الظّالمين )) .

ولم تزل الجيوش تأتي لقتاله إلى كربلاء حتّى بلغت ثلاثين ألفاً , وورد كتاب ابن زياد إلى ابن سعد : أنْ حِلْ بين الحسين وأصحابه وبين الماء , فلا يذوقوا منه قطرة . فبعث خمسمئة فارس فنزلوا على الشّريعة وحالوا بين الحسين (عليه السّلام) وأصحابه وبين الماء , ومنعوهم أنْ يستقوا منه قطرة , وذلك قبل قتل الحسين (ع ) بثلاثة أيّام , ثمّ زحفوا إليه فقتلوا أنصاره وأهل بيته واحداً بعد واحد ، وجماعة بعد جماعة , بعدما أبلوا البلاء العظيم في نصرته , وأظهروا من الوفاء والشّجاعة الفائقة ما لا مزيد عليه .

ولمّا بقي وحيداً فريداً نادى : (( هل مِن ذابٍّ يذبُّ عن حرم رسول الله ؟ هل مِن مُوحّدٍ يخاف الله فينا ؟ هل مِن مُغيث يرجو الله في إغاثتنا ؟ هل مِن مُعين يرجو ما عند الله في إعانتنا ؟ )) . فارتفعت أصوات النّساء بالعويل , وقد اُثخن بالجراح في رأسه وبدنه , فجعل يُضاربهم بسيفه , وحمل النّاس عليه عن يمينه وشماله , فحمل على الذين عن يمينه فتفرّقوا , ثمّ حمل على الذين عن يساره فتفرّقوا .

قال بعض الرّواة : فوالله ، ما رأيت مكثوراً قطْ قد قُتل وُلده وأهل بيته وأصحابه ، أربط جأشاً ولا أمضى جناناً ولا أجرأ مقدماً منه . والله , ما رأيت قبله ولا بعده مثله ! وإنْ كانت الرجّالة لتشدّ عليه فيشدّ عليها بسيفه ، فتنكشف عنه انكشاف المعزى إذا شدّ


الصفحة ( 240 )

فيها الذئب . ولقد كان يحمل فيهم ، وقد تكمّلوا ثلاثين ألفاً ، فينهزمون من بين يدَيه كأنّهم الجراد المنتشر ، ثمّ يرجع إلى مركزه وهو يقول : (( لا حول ولا قوّة إلاّ بالله )) . إلى أن قتلوه عطشان ظامياً ، واحتزّوا رأسه ورفعوه على رأس رمحٍ , وسلبوه ثيابه ودرعه ، وانتهبوا رحله وثقله , وداسوا جسده الشّريف بحوافر الخيل , ولم يدعوا من أمر فظيع حتّى فعلوه .

خـلتِ الـحميَّةُ يا اُميّةُ فاخلعي      حُللَ الحَيا وبثوبِ بغيكِ iiفارفُلِي
سوَّدتِ وجهَ حفائظِ العَرَبِ iiالتي      كرُمتْ إذا ظفرتْ برجلٍ مُفضلِ

* * *

ليس هذا لرسولِ اللهِ يا      اُمّةَ الطُّغيانِ والبغي جزَا

 

المجلس الرّابع والعشرون بعد المئتين

روى ابن قتيبة في الإمامة والسّياسة ، وابن حجّة الحموي في ثمرات الأوراق وغيرهما من المؤرخين : أنّ يزيد بن معاوية شكا إلى وصيفٍ لأبيه , تركَ أبيه النّظر في شأنه , فأخبر الوصيفُ معاوية بذلك , فأرسل إلى يزيد فقال : ما الذي أضعنا من أمرك وقد علمت أنّي تخطّيتُ النّاس كلَّهم في تقديمك , ونصبتُك إماماً على أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ؟! فقال يزيد : قد كان ما تُحدّث به من جمال اُرينب بنت إسحاق , فرغبتُ إليك في نكاحها , فتركتَ ذلك حتّى تزوّجت . فقال معاوية : اكتم أمرك .

وكانت اُرينب مثلاً في جمالها وكثرة مالها , فتزوّجها ابن عمِّها عبد الله بن سلام , وكان من معاوية بالمنزلة


الصفحة ( 241 )

الرّفيعة ، وكان عامله على العراق . فكتب إليه معاوية : أنْ أقبل لأمرٍ حظّك فيه كامل . فلمّا قدم الشّام , قال معاوية لأبي هريرة وأبي الدّرداء : قد بلغت لي بنتٌ أردت تزويجها ليقتدي بي مَن بعدي , وقد رضيت لها عبد الله بن سلام لدينه وفضله , فاذكرا له ذلك عنّي .

وقال معاوية لابنته : إذا ذُكر لك ذلك , فقولي : كفؤ كريم , لكن عنده اُرينب بنت إسحاق , وأخاف أنْ يعرض لي [ من ] الغيرة ما يعرض للنساء , فأسخط الله فيه , ولستُ بفاعلة حتّى يُفارقها . فذكرا ذلك لعبد الله فسُرّ به ، وبعثهما إلى معاوية خاطبين , فقال : قد علمتما رضاي به ، فادخلا عليها وأعلماها بطلاق عبد الله زوجته . فقالت : إنّه في قريش لرفيع غير أنّ التّزويج هَزلُه جدٌّ وجدُّه ندمٌ , والأناة في الاُمور أوفق ، وإنّي سائلة عنه .

فلمّا أعلما عبد الله بقولها , تمثّل وقال :

فإنْ يكُ صدرُ هذا اليومِ ولّى       فإنَّ غداً لناظرُهُ قريبُ

وتحدّث النّاس بذلك ولم يشكّوا في غدر معاوية بعبد الله , فاستحثَّ عبد الله أبا هريرة وأبا الدّرداء فأتياها , فقالت : قد سألتُ عنه فوجدته غير موافق مع اختلاف مَن استشرته فيه ؛ فمنهم النّاهي عنه ، ومنهم الآمر به , واختلافهم أوّل ما كرهته . فعلم عبد الله أنّه قد خُدع ، وشاع أمره في النّاس وعظم لومهم لمعاوية , فقال : لَعمري , ما خدعته .

فلمّا انقضت أقراء اُرينب , وجّه معاوية أبا الدّرداء إلى العراق خاطباً لها على ابنه يزيد , فقدمها وبها يومئذ الحسين بن علي (عليهما السّلام) ـ وهو سيّد أهلها فقهاً وجوداً ـ فقال أبو الدّرداء : هذا ابن بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) , وسيّد شباب أهل الجنّة , فلست بناظر في شيء قبل التّسليم عليه . فلمّا رآه الحسين (ع ) ، قام إليه فصافحه ورحَّب به , فأخبره أبو الدّرداء بما جاء له , وأنّه رأى أنْ


الصفحة ( 242 )

لا يبدأ بشيء قبل التّسليم عليه , فشكر له الحسين (عليه السّلام) ذلك , وقال : (( اخطب رحمك الله عليَّ وعليه ، وأعطاها من المهر مثل ما بذل لها )) . فلمّا دخل عليها , قال : خطبك أمير هذه الاُمّة وولي العهد يزيد بن معاوية , وابنُ بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وابن أوّل مَن آمن به ، وسيّد شباب أهل الجنّة .

فقالت : قد فوّضت أمري بعد الله إليك . فقال : ابن بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أحبّهما إلي , وقد رأيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) واضعاً شفتيه على شفتي الحسين (عليه السّلام) , فضعي شفتَك حيث وضعها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) . قالت : قد رضيتُه . فتزوّجها الحسين (عليه السّلام) , وبلغ ذلك معاوية فتعاظمه .

 وكان عبد الله بن سلام قد استودعها بدراً من المال , وكان معاوية قد جفاه لسوء قوله فيه , فرجع إلى العراق وهو يخاف جحودها لِما سلف منه ، فلمّا قدم لقي الحسين (ع ) وذكر له ذلك , فأخبرها الحسين (ع ) به ، فقالت : إنّه لمطبوعٌ عليه بطابعه . فأدخله عليها ، فأخرجت البدر ووضعتها بين يديه , وخرج الحسين (عليه السّلام) , فحثا لها عبد الله من ذلك الدّر حثوات , وقال : خُذي هذا ، فهو قليل منّي . واستعبرا جميعاً ، فدخل الحسين (عليه السّلام) وقد رقّ لهما , فقال : (( اُشهد الله أنّها طالق . اللهمّ , إنّك تعلم أنّي لم أتزوّجها رغبة في مالها وجمالها , وإنّما أردت إرجاعها إلى بعلها , فأوجب لي بذلك الأجر )) . ولم يأخذ ممّا ساق إليها شيئاً , فتزوّجها عبد الله بن سلام .

ومن هذا وشبهه كانت الأحقاد تزداد في قلب يزيد على الحسين (ع ) ، حتّى أظهر الشّماتة والفرح يوم جيء إليه برأس الحسين (ع ) ونسائه ، ومَن تخلّف من أهل بيته , فوضع الرّأس الشّريف بين يديه ، وأجلس النّساء خلفه لئلاّ ينظرنَ إليه , فجعل يقول :

لـيـتَ أشياخي ببدرٍ شَهدواii      جَزعَ الخزْرجِ منْ وقْعِ الأسلْ
لأهـلّـوا واسْـتـهلّوا فرحاً      ثــمّ iiقـالوا يا يزيدُ لا تشلْ
قـدْ قـتلْنا القَرمَ منْ ساداتِهمii      وعَـدلْـناهُ بـبـدْرٍ فاعتَدَلْ 


الصفحة ( 243 )

لـعبتْ هـاشمُ بـالمُلكِ فلا      خـبرٌ جـاء ولا وحيٌ نـَزلْ

وكان في السّبايا الرّباب زوجة الحسين (ع ) , وهي التي يقول فيها الحسين (عليه السّلام) وفي ابنتها سكينة :

لَـعـمرُكََ إنَّني لاُحبُّ داراًii      تـحـلُّ بها سُكينةُ والرَّبابُ
اُحـبُّهُما  وأبذلُ فوقَ جَهدي      iiولـيسَ لعاذلٍ عندي عِتابُ
ولستُ لهمْ وإنْ عتبُوا مُطيعاً      حـياتي  iiأو يُغيِّبُني التُّرابُ

فيُقال : إنّ الرّباب أخذت الرّأس ووضعته في حجرها وقبّلته ، وقالت :

وا حُسيناً فلا نسيتُ حُسينا      أقـصدتْهُ  أسـنَّةُ iiالأعداءِ
غـادرُوهُ بكربلاءَ iiصريعاً      لا سقَى اللهُ جانبي iiكربلاءِ

المجلس الخامس والعشرون بعد المئتين

من قصيدة لمؤلف الكتاب :

أقصرِي عن ملامِهِ أو فزيديii      أيُّ  لـومٍ يُجدي بصبِّ عميدِ
رحلوا  بالشّموسِ وهي وجوهٌ      iiفـي قبابٍ على الجِمالِ القودِ
لستُ  iiأدري هوادجٌ أمْ بروجٌ      iiيـتـهادَينَ في عراضِ البيدِ
فـتَـزوَّد منهمُ ليومٍ سيمضِي      وتــزوّد  iiمـنهمُ ليومٍ جديدِ
لـو يـقولون ما الذي تتَمنىii      قُلتُ  iiأيّامنا بذي البانِ عودي
يـا خـلـيلَيَّ عرِّجا بزرودٍii      iiحـبَّـذا وقـفةٌ برملٍ زرودِ
وخـليلٌ أمسَى يذمُّ لي الدَّهرَii      ويُـزري  iiبـفعلِ دهرٍ كنودِ
قلتُ ما ترتجيهِ منْ دهرِ سُوءٍ      يـرتضي  iiعن حُسينهِ بيزيدِ
بـنديمِ الشَّرابِ والعودِ والنرْii      دِ  وربِّ الـقُرودِ ربِّ الفهود

 

الصفحة السابقةالفهرسالصفحة اللاحقة

 

طباعة الصفحةبحث