الصفحة ( 58 )
ابن الأشعث فأخبره ، فأقبل عبد الرحمن حتّى أتى أباه ـ وهو عند ابن زياد
ـ فسارّه ، فعرف ابن زياد سراره فقال : قم فأتي به السّاعة . وبعث معه
عبيد الله
بن العبّاس السّلمي في سبعين رجلاً من قيس حتّى أتوا الدار التي فيها مسلم
،
فلّما سمع مسلم وقع حوافر الخيل وأصوات الرجال ، علم أنّه قد اُتي فخرج
إليهم بسيفه ، واقتحموا عليه الدار ، فشدّ عليهم يضربهم بسيفه حتّى أخرجهم من
الدار ، ثمّ عادوا إليه فشدّ عليهم كذلك ، فاختلف هو وبكر بن حمران الأحمري
ضربتين ؛ فضرب بكر فم مسلم فقطع شفته العليا وأسرع السّيف في السفلى وفصلت
له ثنيتاه ، وضربه مسلم في رأسه ضربة منكرة وثنّاه باُخرى على حبل العاتق
كادت تطلع إلى جوفه . فلمّا رأوا ذلك ، أشرفوا عليه من فوق البيت وأخذوا
يرمونه بالحجارة ، ويلهبون النّار في أطناب القصب ثمّ يرمونها عليه من فوق
البيت ، فلمّا رأى ذلك خرج مصلتا سيفه في السكّة ، فقال محمّد بن
الأشعث
: لك
الأمان ، لا تقتل نفسك . فقال مسلم : وأيّ أمان للغدرة ؟! ثمّ أقبل يقاتلهم وهو
يرتجز ويقول :
أقـسمت لا اُقـتلُ إلاّ iiحُرّا وإنْ رأيتُ الموتَ شيئاً نُكرا
أكـرهُ أنْ اُخـدعَ أو iiاُغـرّا أو أخـلطَ الـباردَ سخناً iiمُرّا
ردَّ شُـعاعُ الـنَّفسِ فاسْتَقرّا كـلُّ امرئٍ يوماً يُلاقي شَرّا
أضـربُكُمْ ولا أخـافُ ضَرّا
فنادوه : إنّك لا تُكذب ولا تُغر . فلمْ يلتفت إلى ذلك إلى أنْ
قتل منهم واحداً
وأربعين رجلاً ـ على ما رواه ابن شهر آشوب ـ ، وتكاثروا عليه بعد أنْ
اُثخن
بالجراح ، فطعنه رجل من خلفه فخرّ إلى الأرض ، فاُخذ أسيراً .
وفي رواية المفيد : أنّه أخذ بالأمان بعد أنْ عجز عن
القتال . فاُتي ببغلة فحُمل عليها واجتمعوا حوله وانتزعوا سيفه ،
فكأنّه عند ذلك يئس من نفسه ، فدمعت عيناه ثمّ قال : هذا أول الغدر .
فقال له محمّد بن الأشعث : أرجو أنْ لا يكون عليك بأس . فقال : وما هو
إلاّ الرجاء ، أين أمانكم ؟ إنّا لله وإنّا إليه راجعون . وبكى ، فقال
له عبيد الله بن العبّاس السلمي : إنّ مَن يطلب مثل الذي تطلب ، إذا
نزل به مثل ما نزل بك لم يبكِ . فقال : والله ،
الصفحة ( 59 )
ما لنفسي بكيت ولا لها من القتل أرثي ، وإنْ كنت لم اُحبّ لها طرفة عين تلفاً
،
ولكنّي أبكي لأهلي المقبلين ؛ أبكي الحسين وآل الحسين (عليهم السّلام) . ثمّ أقبل على
محمّد بن الأشعث فقال : يا عبد الله ، إنّي أراك والله ستعجز عن أماني
، فهل عندك خير
؟ تستطيع أنْ تبعث من عندك رجلاً على لساني أنْ يبلّغ حسيناً ، فإنّي لا
أراه
إلاّ وقد خرج اليوم أو هو خارج غداً وأهل بيته ، ويقول له أنّ ابن عقيل
بعثني إليك وهو أسير في أيدي القوم ، لا يرى أنّه يمسي حتّى يُقتل ، وهو يقول لك
ارجع ـ فداك أبي واُمّي ـ بأهل بيتك ، ولا يغررك أهل الكوفة ؛ فإنّهم أصحاب
أبيك الذي كان يتمنّى فراقهم بالموت أو القتل . إنّ أهل الكوفة قد كذّبوك
وليس لمكذوب رأي ؟ فقال ابن الأشعث : والله ، لأفعلن ولأعلمنّ ابن زياد
أنّي
قد آمنتك .
لاقاكَ جمعُهُمُ في الدّارِ iiمُنفرداً كما تُلاقي بُغاثُ الطَّيرِ iiعُقبانَا
فَـعُدتَ تـنثرُ بالهنديِّ هامَهُمُ والرّمحُ ينظمهُمْ مثنىً ووحدانَا
حتّى غدوتَ أسيراً في iiأكفِهمُ وكان منْ نُوَبِ الأيّامِ ما iiكانَا
المجلس الواحد والثلاثون
لمّا أسّر محمّد بن الأشعث مسلم بن عقيل ، أقبل به حتّى انتهى إلى باب قصر
الأمارة وقد اشتد بمسلم العطش ، وعلى باب القصر ناس جلوس ينتظرون الإذن فيهم عمرو بن حريث ومسلم بن عمرو الباهلي
، وإذا قلّة ماء باردة موضوعة
على الباب ، فقال مسلم : اسقوني من هذا الماء . فقال له مسلم بن عمرو الباهلي
: أتراها ما أبردها ؟ لا والله ، لا تذوق منها قطرة حتّى تذوق الحميم في نار
جهنّم . فقال له ابن عقيل : لاُمّك الثكل ! ما أجفاك وأفظّك وأقسى قلبك
! أنت يابن باهلة أولى بالحميم والخلود في نار جهنّم منّي
.
ثم جلس فتساند إلى
الحائط ، وبعث عمرو بن حريث غلاماً له فأتاه بقلّة عليها منديل وقدح ، فصبّ
فيه ماء ، فقال له : اشرب . فأخذ كلّما شرب امتلأ القدح دماً من فمه ولا يقدر
أنْ يشرب ، ففعل ذلك مرّة أو مرّتين ، فلمّا ذهب في الثالثة
الصفحة ( 60 )
ليشرب ، سقطت ثناياه في القدح ، فقال : الحمد لله ، لو كان لي من الرزق
المقسوم
لشربته .
كأنّما نفـسُك اختارتْ لهَا عَطشاً
لمّا دَرتْ أنْ سيقضي السّبطُ عَطشانَا
فلمْ تُطقْ أنْ تسيغَ الماءَ عنْ ظمأٍ
منْ ضربةٍ ساقَهـا بكرُ بنُ حمرانَـا
وخرج رسول ابن زياد وأمر بإدخاله إليه ، فلمّا دخل لمْ يسلّم عليه بالإمرة
، فقال له الحرسي : لِم لا تسلّم على الأمير ?
قال : اسكت ويحك ! والله ، ما هو لي
بأمير . فقال ابن زياد : لا عليك ، سلّمت أم لمْ تسلّم فإنّك مقتول . فقال له مسلم
: إنْ قتلتني ، فلقد قتل مَن هو شرّ منك مَن هو خيرٌ منّي . فقال له ابن زياد
:
قتلني الله إنْ لمْ أقتلك قتلة لم يقتلها أحد في الإسلام . فقال مسلم : أما
إنّك أحقّ مَن أحدث في الإسلام ما لمْ يكن ، وإنّك لا تدع سوء القتلة
وقبح المثلة ، وخبث السّريرة ولؤم الغلبة لأحد أولى بها منك . فقال ابن زياد
: يا
عاق يا شاق ، خرجت على إمامك وشققت عصا المسلمين وألقحت الفتنة . فقال مسلم
:
كذبت إنّما شقّ عصا المسلمين معاوية وابنه يزيد ، وأمّا الفتنة فإنّما
ألقحتها أنت وأبوك زياد بن عبيد ، عبد بني علاّج من ثقيف ، وأنا أرجو أنْ
يرزقني الله الشهادة على يدي شرّ بريّته . فقال له ابن زياد : منّتك نفسك
أمراً حال الله دونه وجعله لأهله . فقال له مسلم : ومَن أهله يابن مرجانة إذا لم نكن نحن أهله ؟! فقال له ابن زياد : أهله أمير المؤمنين
يزيد . فقال مسلم : الحمد لله على كلّ حال ، رضينا بالله حكماً بيننا وبينكم
. فقال له
ابن زياد : أتظنّ أنّ لك في الأمر شيئاً ؟ فقال له مسلم : والله ، ما هو
الظنّ ولكنّه اليقين .
وقال له ابن زياد : إيه ابن عقيل ، أتيت النّاس وهم
جميع أمرهم ملتئم ، فشتتّ أمرهم بينهم وفرّقت كلمتهم وحملت بعضهم على بعض
.
قال : كلاّ لست لذلك أتيت ، ولكنّكم أظهرتم المنكر ودفنتم المعروف ، وتأمّرتم
على النّاس بغير رضىً منهم ، وحملتموهم على غير ما أمركم الله به ، وعملتم
فيهم بأعمال كسرى وقيصر ؛ فأتيناهم لنأمر فيهم بالمعروف وننهى عن المنكر
، وندعوهم إلى حكم الكتاب والسنّة ، وكنّا أهل ذلك . فقال له ابن زياد : وما
أنت وذاك يا فاسق ؟ لِم لمْ تعمل بذلك إذ أنت بالمدينة تشرب الخمر ؟ قال
مسلم : أنا أشرب الخمر ؟! أما والله ، إنّ الله
الصفحة ( 61 )
ليعلم أنّك تعلم أنّك غير صادق ، وأنّك أحقّ بشرب الخمر منّي
، وأولى مَن يلغ في
دماء المسلمين ولغاً فيقتل النّفس التي حرّم الله قتلها ، ويسفك الدم الذي
حرّم الله على الغضب والعداوة وسوء الظن ، وهو يلهو ويلعب كأنْ لمْ يصنع
شيئاً . فأخذ ابن زياد يشتمه ويشتم عليّاً وعقيلاً والحسن والحسين
(عليهم السّلام) ، وأخذ مسلم لا يكلّمه . وفي رواية : أنه قال له : أنت وأبوك أحقّ
بالشتيمة ، فاقضِ ما أنت قاضٍ يا عدو الله .
ثم قال ابن زياد : اصعدوا به فوق
القصر فاضربوا عنقه ، ثمّ اتبعوه جسده . ثمّ قال : أين هذا الذي ضرب ابن عقيل
رأسه بالسّيف ؟ فدعي بكر بن حمران فقال له : اصعد فلتكن أنت الذي تضرب عنقه
. فصعد بمسلم وهو يكبّر ويستغفر الله ويصلّي على رسول الله (صلّى الله
عليه وآله) ويقول : اللهمَّ ، احكم بيننا وبين قوم غرّونا وكذّبونا وخذلونا
.
وأشرفوا به على موضع من القصر فضُربت عنقه واُتبع رأسه جثّته .
يا مُسلمُ بنَ عقيلٍ لا أغبّ ثرَى ضـريحِكَ المُزنُ هطّالاً iiوهتّانا
نصرتَ سبطَ رسولِ اللهِ iiمُجتَهداً وذقْـتَ في نصرِهِ للضُّرِّ iiألوانا
ورامَ تقريعَكَ الرّجسُ الدّعيُّ بما قـدْ كـان لـفَّقهُ زُوراً وبُهتانا
ألـقمتَهُ بـجوابٍ قاطعٍ iiحَجراً ولـلجهولِ بهِ أوضحتَ بُرهانا
المجلس الثاني والثلاثون
لمّا قُتل ابن عقيل ، قام محمّد بن الأشعث إلى عبيد الله بن زياد فكلّمه في
هاني بن عروة ـ وكان محمّد بن الأشعث وأسماء بن خارجة هما اللذان أتيا
بهاني إلى ابن زياد وقالا له : أنّه قد ذكرك ، وأقسما عليه أنْ يركب معهما
،
ولمْ يكن أسماء يعلم بشيء ممّا كان ، وكان ابن الأشعث عالماً به ـ فقال ابن
الأشعث لابن زياد : إنّك قد عرفت منزلة هاني في المصر وبيته في العشيرة
، وقد علم قومه أنّي وصاحبي أتينا به إليك ، وأنشدك الله لما وهبته لي
، فإنّي
أكره عداوة المصر وأهله .
الصفحة ( 62 )
فوعده أنْ يفعل ، ثمّ بدا له وأمر بهاني في الحال فقال :
اخرجوه إلى السّوق فاضربوا عنقه .
فاُتي به إلى مكان من السّوق كان يباع فيه الغنم وهو مكتوف
، فجعل يقول : وآ مذحجاه ! ولا مذحج لي اليوم . يا مذحجاه ! أين مذحج ؟ فلمّا رأى أنّ أحداً لا ينصره ، جذب يده فنزعها من الكتف ثمّ قال : أما من عصا
أو سكّين أو
حجارة أو عظم يحاجز بها رجل عن نفسه ؟ ووثبوا إليه فشدّوه وثاقاً ثمّ قيل له
: امدد عنقك . فقال : ما أنا بها سخي ، وما أنا بمعينكم على نفسي . فضربه مولى
لعبيد الله اسمه رشيد ، فلم يصنع شيئاً ، فقال له هاني : إلى الله المعاد
، اللهمَّ إلى رحمتك ورضوانك . ثمّ ضربه اُخرى فقتله . وأمر ابن زياد بجثّتي
مسلم وهاني فصلبتا في الكناسة(1) وبعث برأسيهما
إلى يزيد بن
معاوية .
قال سبط ابن الجوزي : كان رأس مسلم أول رأس حمل من رؤوس بني هاشم ، وجثّته
أول جثّة صُلبت .
فإنْ كنتِ ما تدرينَ ما الموتُ فانظُري إلى هانئٍ في
السّوق وابنِ iiعقيلِ
إلى بـطلٍ قـدْ هشَّمَ السّيفُ
iiوجهَهُ وآخـرَ يـَهوي مـنْ طـمارِ قـتيلِ
أصـابهُما فـرخُ الـبغيِّ iiفـأصبحَا أحـاديثَ مَـن يـسري بـكلِّ iiسبيلِ
تَـرَي جـسداً قـدْ غيّر الموتُ iiلونَهُ ونـضحَ دمٍ قـدْ سـال كـلَّ iiمسيلِ
فـتىً كـان أحْـيا مـنْ فـتاةٍ iiحَييَّةٍ وأقـطعَ مـن ذي شَـفرتينِ iiصقيلِ
المجلس الثالث والثلاثون
لمّا قُتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة رضوان الله عليهما ، أمر ابن زياد
كاتبه عمرو بن نافع أن يكتب إلى يزيد ما كان من أمر مسلم وهاني ، فكتب
الكاتب فأطال ـ وكان أول مَن أطال في الكتب ـ فلمّا نظر فيه عبيد الله ، كرهه
وقال : ما هذا التطويل ؟ وما هذا الفضول ؟ اكتب : أمّا بعد ، فالحمد لله الذي
أخذ
لأمير
______________________
(1) موضع بالكوفة ، يظهر أنّه كان محلّ اجتماع النّاس . ـ المؤلّف ـ
الصفحة ( 63 )
المؤمنين حقّه وكفاه مؤونة عدوّه . أخبر أمير المؤمنين أنّ مسلم بن عقيل لجأ
إلى دار هاني بن عروة المرادي ، وإنّي جعلت عليهما المراصد والعيون ودسست
إليهما الرجال وكدتهما حتّى أخرجتهما وأمكن الله منهما ، فقدّمتهما وضربت
أعناقهما ، وقد بعثت إليك برأسيهما مع هانئ بن أبي حيّة الوداعي والزبير
بن الأروح التميمي وهما من أهل السّمع والطاعة والنّصيحة ، فليسألهما أمير
المؤمنين عمّا أحب من أمرهما ؛ فإنّ عندهما علماً وصدقاً وورعاً ، والسّلام .
فكتب إليه يزيد : أمّا بعد ، فإنّك لمْ تعد إنْ كنت كما
اُحب ، عملت عمل الحازم
وصلت صولة الشجاع الرابط الجأش ، وقد أغنيت وكفيت ، وصدّقت ظنّي بك ورأيي فيك
، وقد دعوت رسولَيك فسألتهما وناجيتهما فوجدتهما في رأيهما وفضلهما كما
ذكرت فاستوص بهما خيراً ، وأنّه قد بلغني أنّ حسيناً قد توجّه إلى العراق
، فضع
المناظر والمسالح واحترس ، واحبس على الظنّة واقتل على التهمة ، واكتب إليّ
فيما يحدث من خير إنْ شاء الله .
ولمّا بلغ الحسين (عليه السّلام) مقتل
مسلم وهاني ، قال : (( إنّا لله وإنّا إليه راجعون
، رحمة الله عليهما )) ، يردّد ذلك
مراراً . ولقيه الفرزدق الشاعر فسلّم عليه وقال : يابن رسول الله ، كيف
تركن إلى أهل الكوفة وهم الذين قتلوا ابن عمّك مسلم بن عقيل وشيعته
؟! فاستعبر الحسين (عليه السّلام) ثمّ قال : (( رحم الله مسلماً
، فلقد صار إلى رَوح
الله وريحانه ، وتحيّاته ورضوانه ، أما أنّه قد قضى ما عليه وبقي ما علينا
)) ، ثمّ أنشأ يقول :
فـإنْ تـكُنْ الدُّنيا تـُعدُّ iiنـفيسةً فـإنّ ثـوابَ اللهِ أعـلى iiوأنـبلُ
وإنْ تـكُنْ الأبـدانُ للموتِ اُنشئتْ فقتلُ امرئٍ بالسّيفِ في اللهِ iiأفضلُ
وإنْ تـكُنْ الأرزاقُ قِـسْماً iiمُقدّراً فقلّةُ حِرصِ المرءِ في السَّعي أجملُ
وإنْ تـكُنْ الأمـوالُ للتّركِ iiجَمعُها فـما بـالُ متروكٍ به المرءُ iiيبخلُ
* * *
الصفحة ( 64 )
المجلس الرابع والثلاثون
لمّا عزم الحسين (عليه السّلام) على الخروج من مكّة إلى العراق ، قام
خطيباً في أصحابه فقال : ((
الحمدُ لله وما شاء
الله ولا قوّة إلاّ بالله ، وصلّى الله على رسوله ، خُطَّ الموتُ على وُلد آدمَ مَخَطَّ القَلادةِ على جيد الفتاةِ ، وما أولهني
إلى أسلافي اشتياقُ يعقوبَ إلى يوسفَ ، وخُيّر لي مصرعٌ أنا لاقيه ،
كأنّي بأوصالي تُقطّعها عَسْلانُ(1)
الفلوات بين النّواويس وكربلاء ، فيملأنَّ منّي أكراشاً جوفاً وأجربةً سغباً ، لا مَحيصَ عن يومٍ خُطّ
بالقَلَمْ ، رِضَى اللهُ رضانا أهلَ البيتِ ، نصبرُ على بلائِهِ ويُوفّينا أجورَ
الصّابرين ، لنْ تَشُذَّ عن رسول اللهِ لَحمتُهُ ، بل هي مجموعةٌ لهُ في حظيرةِ القُدْسِ
،
تُقرُّ بِهمْ عينُه ويُنجزُ بهم وعدَه .
مَنْ كان باذلاً فينا مُهجَتَه ، ومُوَطِّناً على
لقاءِ اللهِ نفسَه فليرحل معنا ، فإنّني راحلٌ مُصبحاً إنْشاءَ اللهُ
تعالى )) . ثمّ ارتحل .
وألحقه عبد الله بن جعفر بابنيه عون ومحمّد ، وكتب
على أيديهما إليه كتاباً يقول فيه : أمّا بعد ، فإنّي أسألك بالله لما انصرفت
حين تنظر في كتابي ، فإنّي مشفق عليك من الوجه الذي توجّهت له أنْ يكون فيه
هلاكك واستئصال أهل بيتك ، وإنْ هلكت اليوم اُطفئ نور الأرض ، فإنّك علم
المهتدين ورجاء المؤمنين ، فلا تعجل بالمسير فإنّي في أثر كتابي ، والسّلام
.
وصار عبد الله إلى عمرو بن
______________________
(1) في إبصار العين : عسلان ، بضمّ العين وسكون السين : جمع عاسل
، وهو المهتزّ
المضطرب . ويُقال للرمح والذئب ، والمراد الثاني اهـ .
أقول : لم يذكر أحد من
أهل اللغة أنّ عاسلاً يجمع على عسلان ، والظاهر أنّ عسلان بالتحريك ، مصدر عسل
الذئب إذا اضطرب في عدوه وهزّ رأسه ؛ ونسبة التقطيع إلى العسلان مجاز عقلي
من باب الإسناد إلى السبب على حذف المضاف : أي يقطعها عسلان ذئاب الفلوات .
ـ المؤلّف ـ
الصفحة ( 65 )
سعيد فسأله أنْ يكتب للحسين (عليه السّلام) أماناً ويمنّيه البِر والصلة
، فكتب
له وأنفذه مع أخيه يحيى بن سعيد ، فلحقه يحيى وعبدالله بن جعفر ـ بعد نفوذ
ابنيه ـ وجهدا به في الرجوع ، فقال (عليه السّلام) : (( إنّي رأيت رسول الله
(صلّى الله عليه وآله) في المنام
وأمرني بما أنا ماض له )) . فقالا له : فما تلك الرؤيا ؟ فقال
(عليه السّلام) : (( ما حدّثت بها أحداً
حتّى ألقى ربّي عزّ وجلّ )) . فلمّا آيس منه عبد الله بن جعفر ،
أمر ابنيه عوناً ومحمّداً بلزومه والمسير معه والجهاد دونه ورجع هو إلى مكّة .
قال علي بن
الحسين (عليهما السّلام) : (( خرجنا مع أبي ، فما نزل منزلاً ولا
ارتحل منه
إلاّ ذكر يحيى بن زكريّا )) . وقال يوماً :
(( من هوان الدّنيا على الله أنّ رأس يحيى
بن زكريّا اُهدي إلى بغي من بغايا بني اسرائيل )) .
ركبـُوا إلى العـزِّ المنـُوْ نَ وجانَبُوا عيشَ الذَّليلِ
وردُوا الوغَى فقضَوا وليـْ س تُعاب شمسٌ بالاُفولِ
المجلس الخامس والثلاثون
لمّا بلغ الحسين (عليه السّلام) إلى الحاجر(1) من بطن الرّمة(2)
، كتب كتاباً إلى جماعة من أهل الكوفة ، منهم : سليمان بن صرد الخزاعي
، والمسيّب بن نجبة ، ورفاعة بن شداد وغيرهم ، وأرسله مع قيس بن مسهّر
الصيداوي ـ وذلك قبل أنْ يعلم بقتل مسلم ـ يقول فيه :
(( بسم الله الرحمن الرحيم ، من الحسين بن علي
إلى إخوانه من المؤمنين والمسلمين ، سلام عليكم ، فإنّي أحمد إليكم الله
الذي لا إله إلاّ هو . أمّا بعد ، فإنّ كتاب مسلم بن عقيل جاءني يخبرني فيه
بحسن رأيكم ، واجتماع
______________________
(1) بحاء مهملة وجيم وراء مهملة : اسم مكان بطريق الحاج العراقي .
(2) الرُمّة ، بضمّ الراء المهملة وتشديد الميم ، وقد تُخفف : قاع عظيم بنجد . ـ المؤلّف ـ
الصفحة ( 66 )
ملئكم على نصرنا والطلب
بحقّنا ، فسألت الله أنْ يحسن لنا الصّنيع وأنْ يثيبكم على ذلك أعظم
الأجر ، وقد شخصت إليكم من مكّة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجّة يوم
التّروية ، فإذا قدم عليكم رسولي ، فانكمشوا في أمركم وجدّوا ، فإنّي قادم عليكم
في أيامي هذه إنْ شاء الله تعالى ، والسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته
)) . وكان مسلم بن عقيل قد كتب إليه قبل أنْ يُقتل بسبع وعشرين ليلة .
فأقبل
قيس بكتاب الحسين (عليه السّلام) إلى الكوفة ، وكان ابن زياد لمّا
بلغه مسير الحسين (عليه السّلام) من مكّة إلى الكوفة ، بعث الحُصين بن تميم
صاحب شرطته حتّى نزل القادسيّة ، فلمّا انتهى قيس إلى القادسيّة ، اعترضه
الحُصين بن تميم ليفتّشه فأخرج قيس الكتاب وخرّقه ، فحمله الحُصين إلى ابن
زياد فلمّا مثُل بين يديه ، قال له : مَن أنت ؟ قال : أنا رجل من شيعة أمير
المؤمنين علي بن أبي طالب وابنه الحسين (عليهما السّلام) . قال : فلماذا خرّقت الكتاب
؟ قال
: لئلاّ تعلم ما فيه . قال : وممَّن الكتاب ، وإلى مَن ؟ قال : من الحسين
(عليه السّلام) إلى جماعة من أهل الكوفة لا أعرف اسماءهم . فغضب ابن زياد وقال : والله
، لا
تفارقني حتّى تخبرني بأسماء هؤلاء القوم أو تصعد المنبر فتسبّ الحسين بن
علي وأباه وأخاه ، وإلاّ قطّعتك إرباً إرباً . فقال قيس : أمّا القوم فلا
اُخبرك
بأسمائهم ، وأمّا السبّ فأفعل .
فصعد قيس ، فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على
النّبي (صلّى الله عليه وآله) ، وأكثر من الترحّم على عليّ والحسن والحسين
(عليهم السّلام) ، ولعن عبيد الله بن زياد وأباه ولعن عتاة بني اُميّة
، ثمّ قال :
أيّها النّاس ، إنّ هذا الحسين بن علي خير خلق الله ، ابن فاطمة بنت رسول الله
(صلّى الله عليه وآله)
، وأنا
رسوله إليكم وقد خلّفته بالحاجر فأجيبوه . فأمر به ابن زياد فرُمي من
أعلى القصر فتكسّرت عظامه وبقي به رمق ، فأتاه رجل يقال له عبد الملك بن عُمير اللخمي فذبحه ، فعيب عليه
، فقال : أردت أنْ اُريحه .
ويقال : أنّ عبد الملك
هذا كان قاضي الكوفة وفقيهها ، وما ينفعه فقهه مع شنيع فعله !
فبلغ
الحسين (عليه السّلام) قتله ، فاسترجع واستعبر ولمْ يملك دمعته ثمّ قرأ
:
(
فَمِنْهُم
مّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدّلُوا
تَبْدِيلاً )(1)
.
ثمّ قال (عليه السّلام) :
(( جعل الله له الجنّة ثوابا ً .
اللهمَّ ، اجعل لنا ولشيعتنا منزلاً كريماً ،
______________________
(1) سورة الأحزاب / 23 .
الصفحة ( 67 )
واجمع بيننا وبينهم في مستقرٍ من رحمتك ورغائب مدخور ثوابك
، إنّك على كلّ
شيء قدير )) .
يَستنْجعُـون الـرَّدى شوقاً لغايتِهِ
كأنّما الضَّربُ في أفواهها الضَّربُ
واستأثَرُوا بالرَّدى من دونِ سيِّدهمْ
قصداً وما كُـلّ إيثارٍ بـه الأربُ
المجلس السّادس والثلاثون
لمّا سار الحسين (عليه السّلام) من الحاجر ، انتهى إلى ماء من مياه العرب
، فإذا عليه
عبد الله بن مطيع العدوي وهو نازل به ، فلمّا رأى الحسين (عليه
السّلام) ، قام
إليه فقال : بأبي أنت واُمّي يابن رسول الله ، ما أقدمك ؟ واحتمله فأنزله
، فقال له الحسين (عليه السّلام) : (( كان من موت معاوية ما قد بلغك
، فكتب إليّ أهل العراق
يدعونني إلى أنفسهم )) . فقال له عبد الله : اُذكّرك الله يابن
رسول الله وحرمة الإسلام أنْ تنتهك ، أنشدك الله في حرمة قريش ، أنشدك
الله في حرمة العرب . فوالله ، لئن طلبت ما في أيدي بني اُميّة ليقتلنّك ، ولئن قتلوك لا يهابوا
بعدك أحداً أبداً . والله ، إنّها لحرمة
الإسلام تنتهك ، وحرمة قريش وحرمة العرب ، فلا تفعل ولا تأت الكوفة ولا
تعرض نفسك لبني اُميّة .
وكان زهير بن القَين البجلي قد حجّ في تلك السّنة من الكوفة ـ وكان
عثمانياً ـ فلمّا رجع من الحجّ ، جمعه الطريق مع الحسين (عليه السّلام) .
فحدّث جماعة من
فزارة وبجيلة قالوا : كنّا مع زهير بن القَين حين أقبلنا من مكّة فكنّا نساير
الحسين (عليه السّلام) ، فلم يكن شيء أبغض إلينا من أنْ نسير معه في مكان واحد أو
ننزل معه في منزل واحد ، فإذا سار الحسين تخلّف زهير بن القَين ، وإذا نزل
الحسين تقدّم زهير . فنزلنا يوماً في منزل لم نجد بدّاً من أنْ ننزل معه
فيه ، فنزل هو في جانب ونزلنا في جانب آخر ، فبينا نحن جلوس نتغدّى من
طعام لنا إذ أقبل رسول الحسين (عليه السّلام) حتّى سلّم ثمّ دخل ، فقال : يا زهير ، إنّ
أبا
عبد الله بعثني إليك لتأتيه . فطرح كلّ
الصفحة ( 68 )
إنسان منّا ما في يده كأنّ على رؤوسنا الطير ؛ كراهيّة أنْ يذهب زهير إلى
الحسين (عليه السّلام) ، فقالت له امرأته ـ وهي دلهم بنت عمرو ـ : سبحان الله ! أيبعث
إليك
ابن رسول الله ثمّ لا تأتيه ؟! فلو أتيته فسمعت من كلامه ثمّ انصرفت .
فأتاه
زهير على كره ، فما لبث أنْ جاء مستبشراً قد أشرق وجهه ، فأمر بفسطاطه وثقله
ورحله فحوّل إلى الحسين (عليه السّلام) ، ثمّ قال لامرأته : أنت طالق ، الحقي بأهلك فإنّي
لا اُحبّ أنْ يصيبك بسببي إلاّ خير ، وقد عزمت على صحبة الحسين (عليه
السّلام) لأفديه
بروحي وأقيه بنفسي . ثم أعطاها ما لها وسلّمها إلى بعض بني عمّها ليوصلها
إلى أهلها ، فقامت إليه وبكت وودّعته وقالت : خار الله لك ، أسألك أنْ تذكرني
في القيامة عند جدّ الحسين (عليه السّلام) .
وقال لأصحابه : مَن أحبّ منكم أنْ يتبعني وإلاّ
فهو آخر العهد منّي ، إنّي ساُحدّثكم حديثاً : إنّا غزونا بلنجر ـ وهي بلدة
ببلاد الخزر ـ ففتح الله علينا وأصبنا غنائم ففرحنا ، فقال لنا سلمان
الفارسي : إذا أدركتم قتال شباب آل محمّد (صلّى الله عليه وآله) ، فكونوا أشدّ فرحاً بقتالكم
معهم ممّا أصبتم من المغانم . فأمّا أنا فأستودعكم الله . ولزم الحسين (عليه السّلام) حتّى قُتل معه .
ومعشرٍ راودتهُمْ عنْ نفوسِهمُ بيضُ
الظُّبا غير بيضِ الخُرّد العُرُبِ
فأنعـَمُوا بنفوسٍ لا عديلَ لها
حتّى اُسيلتْ على الخُرصانِ والقُضُبِ
المجلس السّابع والثلاثون
روى عبد الله بن سليمان والمنذر بن المشمعل الأسديّان قالا : لمّا قضينا
حجّنا لم تكن لنا همّة إلاّ اللحاق بالحسين (عليه السّلام) لننظر ما يكون من أمره
، فأقبلنا ترقل بنا ناقتانا مسرعين حتّى لحقناه بـ ( زرود ) ، فلمّا دنونا منه
، إذا
نحن برجل من أهل الكوفة قد عدل عن الطريق حين رأى الحسين (عليه
السّلام) ، فوقف
الحسين (عليه السّلام) كأنّه يريده ثمّ تركه ومضى ، ومضينا نحوه فقال أحدنا لصاحبه
: اذهب
بنا إلى هذا
الصفحة ( 69 )
لنسأله فإنّ عنده خبر الكوفة . فمضينا إليه فقلنا : السّلام عليكم
. فقال
: وعليكما السّلام . قلنا : ممَّن الرجل ؟ قال : أسدي . قلنا له : ونحن أسديّان
، فمَن
أنت ؟ قال : أنا بكر بن فلان ، وانتسبنا له ، ثمّ قلنا : أخبرنا عن
النّاس من
ورائك . قال : لم أخرج من الكوفة حتّى قُتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة
، ورأيتهما يُجرّان بأرجلهما في السّوق .
فاقبلنا حتّى لحقنا الحسين (عليه السّلام)
فسايرناه حتّى نزل الثعلبيّة ممسياً ، فجئنا حين نزل فسلّمنا عليه ، فردّ علينا
السّلام ، فقلنا : رحمك الله ، إنّ عندنا خبراً إنْ شئت حدّثناك علانية وإنْ شئت
سرّاً . فنظر إلينا وإلى أصحابه ثمّ قال (عليه السّلام) : (( ما دون هؤلاء سرّ
)) . فقلنا له : رأيتَ
الراكب الذي استقبلته عشيّة أمس ؟ قال (عليه السّلام) : (( نعم
، وقد أردتُ مسألته )) . فقلنا : قد والله استبرأنا لك خبره وكفيناك مسألته ، وهو امرؤ منّا ذو رأي وصدق وعقل ، وإنّه
حدّثنا أنّه لم يخرج من الكوفة حتّى قُتل مسلم وهاني ، ورآهما يُجرّان في
السّوق بأرجلهما . فقال (عليه السّلام) : (( إنّا لله وإنّا إليه راجعون
، رحمة الله عليهما )) . يردّد ذلك
مراراً . فقلنا له : ننشدك الله في نفسك وأهل بيتك إلاّ انصرفت من مكانك هذا
، فإنّه ليس لك بالكوفة ناصر ولا شيعة ، بل نتخوّف أنْ يكونوا عليك .
فنظر (عليه السّلام) إلى
بني عقيل فقال : (( ما ترون ؟ فقد قُتل مسلم ))
. فقالوا : والله ، لا نرجع حتّى نصيب
ثأرنا أو نذوق ما ذاق . فأقبل علينا الحسين (عليه السّلام) وقال : (( لا خير في العيش بعد
هؤلاء )) . فعلمنا أنّه قد عزم رأيه على المسير ، فقلنا له : خار الله لك
. فقال
(عليه السّلام) : (( رحمكما الله )) . فقال له أصحابه
: إنّك والله ما أنت مثل مسلم ، ولو قدمت الكوفة
لكان النّاس إليك أسرع . فسكت ، وارتجّ الموضع بالبكاء لقتل مسلم بن عقيل
،
وسالت الدموع عليه كلّ مسيل .
ولا بأس أنْ يرتجّ هذا الموضع بالبكاء حزناً
لقتل مسلم بن عقيل ، فمسلم هو الذي وصفه الحسين (عليه السّلام) في كتابه إلى أهل
الكوفة بقوله : (( إنّي باعث إليكم أخي وابن عمّي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن
عقيل )) . وكفى بهذه الشهادة من الحسين (عليه السّلام) في جلالة قدر مسلم أنْ يكون ثقة
الحسين (عليه السّلام) من أهل بيته ، ومسلم رضوان الله عليه أول قتيل من أهل البيت
في نصرة الحسين (عليه السّلام) ، وجثّته أول جثّة صُلبت ، ورأسه أول رأس حُمل منهم
،
الصفحة ( 70 )
وأول رجل قُتل عطشان منهم .
يا مسلمُ بنَ عقيلٍ لا أغبَّ ثرَى ضـريحِكَ المُزنُ هطّالاً iiوهتَّانَا
ولـو تكونُ بسقياهُ السَّما iiبَخلتْ سـقيتُهُ من دموعِ العينِ iiغُدْرانَا
بـذلتَ نفسَكَ في مرضاةِ خالِقِها حتّى قضيتَ بسيفِ البغْي ظمْآنَا
المجلس الثامن والثلاثون
لمّا نزل الحسين (عليه السّلام) ( زُبالة ) وهو متوجّه إلى الكوفة ، أتاه بها مقتل
عبد الله بن يقطر ، وهو أخو الحسين (عليه السّلام) من الرضاعة ، وقيل : كانت
اُمّ عبد الله
هذا مربيّة للحسين (عليه السّلام) فكان عبد الله من لدات الحسين (عليه
السّلام) وأقرانه في
السنّ ؛ ولذلك اُطلق عليه أنّه أخوه من الرضاعة ، وإنّ الحسين (عليه
السّلام) لم يرضع من
غير ثدي اُمّه فاطمة (عليها السّلام) ، وكان الحسين (عليه السّلام) أرسله مع مسلم بن عقيل إلى
الكوفة ، فلمّا رأى مسلم الخذلان ، بعث عبد الله بن يقطر إلى الحسين
(عليه السّلام)
يخبره بذلك .
وكان ابن زياد قد نظم الخيل مع الحُصين بن تميم صاحب شرطته على الطرقات بين البصرة والقادسيّة ، فلا يدعون أحداً يلج ولا أحداً
يخرج ، فقبض الحُصين على عبد الله بن يقطر وأرسله إلى ابن زياد ، فقال له
ابن زياد : اصعد فوق القصر والعن الكذّاب ابن الكذّاب ثمّ انزل حتّى أرى فيك
رأيي . فصعد فوق القصر ، فلمّا أشرف على النّاس ، لعن عبيد الله بن زياد وأباه
ودعا إلى نصرة الحسين (عليه السّلام) ، فألقاه بن زياد من أعلى القصر فمات(1)
.
وكان قتل مسلم بن عقيل
______________________
(1) وقع اشتباه هنا من بعض المؤرّخين بين قصّة قيس بن مسهّر الصيداوي رسول
الحسين (عليه السّلام) إلى أهل الكوفة الذي قبَضَ عليه الحُصين بن تميم وأرسله إلى ابن
زياد ، فأمره أنْ يسبّ الحسين وأباه ففعل ضدّ ذلك ، فألقاه من أعلى القصر
، وبين
قصّة عبد الله بن يقطر الذي أرسله ابن عقيل إلى الحسين (عليه السّلام) فقَبضَ عليه
الحُصين أيضاً ، وجرى له نظير ما جرى لقيس . ـ المؤلّف ـ
الصفحة ( 71 )
وهاني بن عروة بلغ الحسين (عليه السّلام) وهو بـ ( زرود ) ، وقيل
: بلغه أيضاً بـ ( زُبالة ) ، فلمّا
بلغ الحسين (عليه السّلام) خبر عبد الله بن يقطر ، أخرج إلى النّاس كتاباً فقرأه
عليهم ، وفيه : (( بسم الله الرحمن الرحيم ، أمّا بعد ، فإنّه قد أتاني خبر فظيع
؛ قتل
مسلم بن عقيل وهاني بن عروة وعبد الله بن يقطر ، وقد خذلَنا شيعتُنا ، فمَن
أحبّ منكم الانصراف فلينصرف في غير حرج ، ليس عليه ذمام )) . فتفرّق
النّاس عنه
وأخذوا يميناً وشمالاً حتّى بقي في أصحابه الذين جاؤوا معه من المدينة
، ونفر يسير ممَّن انضمّوا إليه من أهل البصائر والنيّات الصادقة ، وإنّما فعل
ذلك ؛ لئلاّ يتبعه مَن ليس له بصيرة نافذة ولا نيّة صادقة ولا يريد مواساته
والقتال معه ، فإنّ هؤلاء لا فائدة في صحبتهم .
ولقيه الفرزدق الشاعر عائداً من الحجّ فقال : يابن رسول الله ، كيف
تركن إلى أهل الكوفة وهم الذين قتلوا ابن عمّك مسلم بن عقيل وشيعته
؟! فاستعبر الحسين (عليه السّلام) ثمّ قال : (( رحم الله مسلماً
، فلقد صار إلى رَوح
الله وريحانه ، وتحيّاته ورضوانه ، أما أنّه قد قضى ما عليه وبقي ما علينا
)) ، ثمّ أنشأ يقول :
فـإنْ تـكُنْ الدُّنيا تـُعدُّ iiنـفيسةً فـإنّ ثـوابَ اللهِ أعـلى iiوأنـبلُ
وإنْ تـكُنْ الأبـدانُ للموتِ اُنشئتْ فقتلُ امرئٍ بالسّيفِ في اللهِ iiأفضلُ
وإنْ تـكُنْ الأرزاقُ قِـسْماً iiمُقدّراً فقلّةُ حِرصِ المرءِ في السَّعي أجملُ
وإنْ تـكُنْ الأمـوالُ للتّركِ iiجَمعُها فـما بـالُ متروكٍ به المرءُ iiيبخلُ
* * *
يابنَ النّبيِّ كَمْ احتَملْتَ فجائعاً
منْ هولِها شُمُّ الجبالِ تصدَّعُ
المجلس التاسع والثلاثون
لمّا نزل الحسين (عليه السّلام) ببطن العقبة ، لقيه شيخ من بني عكرمة يقال له عمرو بن
الصفحة ( 72 )
يؤذان ، فسأله : أين تريد ؟ فقال الحسين (عليه السّلام) :
(( الكوفة )) . فقال الشيخ : أنشدك
الله لمّا انصرفت ، فوالله ما تقدم إلاّ على الأسنّة وحدّ السّيوف ، وإنّ هؤلاء
الذين بعثوا إليك لو كانوا كفوك مؤونة القتال ، ووطّؤوا لك الأشياء فقدمت
عليهم كان ذلك رأياً ، فأمّا على هذه الحال التي تذكر ، فإنّي لا أرى لك
أنْ
تفعل . فقال له الحسين (عليه السّلام) : (( يا عبد الله
، ليس يخفى عليّ الرأي ، ولكنّ
الله تعالى لا يُغلب على أمره )) . ثمّ قال (عليه السّلام) :
(( والله ، لا يدعوني حتّى
يستخرجوا هذه العلقة من جوفي ، فاذا فعلوا سلّط الله عليهم مَن يذلّهم
حتّى
يكونوا أذلّ فِرق الاُمم )) .
ثم سار (عليه السّلام) من بطن العقبة حتّى نزل ( شراف )
،
فلمّا كان في السّحر أمر فتيانه فاستقوا من الماء فأكثروا ، ثمّ سار منها
حتّى انتصف النّهار ، فبينا هو يسير إذ كبّر رجل من أصحابه ، فقال الحسين
(عليه السّلام) : (( الله أكبر ، لِم كبّرت ؟ ))
. قال
: رأيت النّخل . فقال له جماعة من أصحابه
: والله ، إنّ هذا المكان ما رأينا به نخلة قط ! فقال لهم الحسين (عليه
السّلام) : (( فما ترونه ؟ )) . قالوا : نراه والله
أسنّة الرماح وآذان الخيل . قال (عليه السّلام) : (( وأنا والله
أرى ذلك )) . ثمّ قال (عليه السّلام) : (( ما لنا ملجأ نلجأ
إليه فنجعله في ظهورنا ، ونستقبل
القوم بوجه واحد ؟ )) . فقالوا له : بلى ، هذا هو ذو حُسُم(1)
إلى جنبك
فمل إليه عن يسارك ، فإنْ سبقتَ إليه فهو كما تريد .
فأخذ إليه ذات اليسار
ومِلنا معه ، فما كان بأسرع من أنْ طلعت علينا هوادي(2)
الخيل فتبينّاها وعدلنا ، فلمّا رأونا عدلنا عن الطريق ، عدلوا إلينا
كأنّ أسنّتهم اليعاسيب(3) ، وكأنّ راياتهم
______________________
(1) بحاء وسين مهملتين مضمومتين وميم : جبل كان
النّعمان يصطاد فيه
، وفيه
يقول مهلهل :
ألَيْلتَنَا بذِي حُسُمٍ أنيري إذا
أنتِ انقضيتِ فلا تَحُوري
(2) جمع هادي : وهو العنق .
(3) جمع يعسوب : وهو أمير النّحل وذكرها ، وضرب من الحجلان
، وطائر صغير . ـ المؤلّف ـ
الصفحة ( 73 )
أجنحة الطير ، فاستبقنا إلى ذي حُسُم فسبقناهم إليه ، وأمر الحسين
(عليه السّلام) بأبنيته فضُربت .
وجاء القوم زهاء(1) ألف فارس مع الحرّ بن يزيد
التميمي حتّى وقف هو وخيله مقابل الحسين (عليه السّلام) في حَرّ الظهيرة ، والحسين
(عليه السّلام)
وأصحابه معتمّون متقلّدو أسيافهم ، فقال الحسين (عليه السّلام) لفتيانه :
(( اسقوا القوم وأرووهم من الماء ، وارشفوا الخيل ترشيفاً ))
: أي اسقوها قليلاً
. فأقبلوا يملؤون القصاع والطساس من الماء ثمّ يدنونها من الفرس ، فإذا عبّ فيها
ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً عُزلت عنه وسقوا آخر حتّى سقوها عن آخرها .
قال
علي بن الطعّان المحاربي : كنت مع الحرّ يؤمئذ فجئت في آخر مَن جاء من
أصحابه ، فلمّا رأى الحسين (عليه السّلام) ما بي وبفرسي من العطش ، قال :
(( أنخ الراوية )) : والراوية عندي السّقاء
. ثمّ قال (عليه السّلام) : (( يابن الأخ ، أنخ الجمل ))
. فأنخته(2) ، فقال
(عليه السّلام) : (( اشرب )) . فجعلت كلمّا شربت سال الماء من السّقاء
، فقال الحسين (عليه السّلام) : (( اخنث السّقاء
)) : أي اعطفه . فلم أدر كيف أفعل ، فقام (عليه السّلام) فخنثه
بيده فشربت وسقيت فرسي
.
أقول : إنّ
هذا لهو غاية الجود ونهاية الكرم ؛ أنْ يسقي الحسين (عليه السّلام) أعداءه الذين
جاؤوا لمحاربته وهم مقدار ألف فارس ، فسقاهم الماء مع خيولهم في تلك
الأرض القفراء التي لا ماء فيها ولا كلأ ! ولا عجب إذا صدر مثل هذا الجود
من الحسين (عليه السّلام) ، وهو معدن الجود والكرم .
هو البحرُ منْ أيِّ النّواحي أتيتُهُ
فلجَّتُهُ المعروفُ والجودُ ساحلُهْ
ولَو لَمْ يكنْ في كفِّهِ غيرُ نفسِهِ
لجـادَ بها فليتَّـقِ اللهَ سائلُـهْ
ولكن بئسما جزى هؤلاء القوم الحسين (عليه السّلام) عن سقيه إياهم الماء
وإيثارهم على نفسه ! فقد كان جزاؤهم منهم أنْ حالوا بينه وبين الماء
، ووضعوا أربعة
______________________
(1) أي قدر .
(2) الراوية في لسان أهل الحجاز : اسم للجمل الذي يستقى عليه ، وفي لسان
العراق : اسم للسقاء الذي فيه الماء ؛ لذلك لَمْ يفهم مراد الحسين
(عليه السّلام) حتّى قال (عليه السّلام) : (( أنخ الجمل )) .
ـ المؤلّف ـ
الصفحة ( 74 )
آلاف على المشرعة ، ومنعوه وأصحابه وعياله وأطفاله أنْ يستقوا من الماء
قطرة واحدة ، وذلك قبل قتله (عليه السّلام) بثلاثة أيّام .
بأبي وغـيرِ أبي أميراً ظامـياً
منعتْهُ حربٌ منْ ورودِ فُراتِها
حتّى قضـَى عَطشاً قتيلَ أراذلٍ
تستحقرُ الشفتانِ ذمَّ صفاتِهـا
المجلس الأربعون
لمّا التقى الحُرّ مع الحسين (عليه السّلام) ، قال له الحسين (عليه
السّلام) :
(( ألَنا أم علينا ؟ )) . فقال : بل
عليك يا أبا عبد الله . فقال الحسين (عليه السّلام) : (( لا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ
العظيم )) . فلم يزل الحُرّ مواقفاً للحسين (عليه السّلام) حتّى حضرت صلاة الظهر
، فأمر
الحسين (عليه السّلام) الحجّاج بن مسروق أنْ يؤذّن ، فلمّا حضرت الإقامة ، خرج الحسين
(عليه السّلام)
في إزار ورداء ونعلين ، فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال :
(( أيّها النّاس ، إنّها
معذرة إلى الله وإليكم ، إنّي لمْ آتكم حتّى أتتني كتبكم وقدمتْ عليّ رسلُكم
: أنْ
اقدم علينا فإنّه ليس لنا إمام ، لعلّ الله يجمعنا بك على الهدى والحقّ
. فإنْ
كنتم على ذلك فقد جئتكم ، فاعطوني ما أطمئنّ إليه من عهودكم ومواثيقكم
، وإنْ
لمْ تفعلوا ، وكنتم لقدومي كارهين ، انصرفت عنكم إلى المكان الذي جئت منه
إليكم )) . فسكتوا ، فقال (عليه السّلام) للمؤذّن : (( أقمْ
)) . فأقام الصّلاة ، فقال (عليه السّلام) للحُرّ : ((
أتريد أنْ تصلّي
بأصحابك ؟ )) . قال : لا ، بل تُصلّي أنت ونصلّي بصلاتك . فصلّى بهم الحسين
(عليه السّلام)
.
فلمّا كان
وقت العصر ، أمر الحسين (عليه السّلام) أنْ يتهيّؤوا للرحيل ففعلوا ، ثمّ أمر مناديه
فنادى بالعصر وأقام ، فاستقدم الحسين(عليه السّلام) وقام فصلّى ثمّ سلّم وانصرف إليهم
بوجهه ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال :
(( أمّا بعد
، أيّها النّاس ، فإنّكم إنْ تتّقوا
وتعرفوا الحقّ لأهله ، يكن أرضى لله عنكم ، ونحن أهل بيت محمّد أولى بولاية
هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدّعين ما ليس لهم ، والسّائرين فيكم بالجور
والعدوان ، وإنْ أبيتم إلاّ الكراهيّة لنا والجهل بحقّنا ، وكان رأيكم
|