المجالس الّسنية ـ الجزء الثالث ـ

 
 

المجلس التاسع والخمسون بعد المئة

لمّا كان يوم صفّين ، وقُتل هاشم بن عتبة المرقال ، وكانت معه راية أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، أخذ الراية ولده عبد الله بن هاشم ، وجعل يقول :

أهـاشمُ بـنَ عُتبَةِ بنِ iiمالِكْ  أعززْ بشيخٍ منْ قُريشٍ iiهالِكْ
تـَخبطُهُ الـخيْلاتُ 
iiبالسَّنابِكْ   فـي أسْـوَدٍ منْ نقْعهِنَّ iiحالِكْ
أبشرْ بحورِ العِينِ في الأرائِكْ   والـرَّوحِ والرَّيحانِ عندَ 
iiذلكْ

ثمّ إنّ عبد الله حمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال : أيها النّاس ، إنّ هاشماً كان عبداً من عباد الله الذين قدّر أرزاقهم ، وأحصى أعمالهم ، وقضى آجالهم ، فدعاه الله ربّه الذي لا يُعصى ، فأجابه وسلّم لأمر الله ، وجاهد في طاعة ابن عمِّ رسول الله ، وأوّل مَن آمن به ، وأفقههم في دين الله ، المخالف لأعداء


الصفحة (42)

الله المستحلّين ما حرّم الله ، الذين عملوا في البلاد بالجور والفساد ، واستحوذ عليهم الشيطان فزيّن لهم الإثم والعدوان ، فحقّ عليكم جهاد مَن خالف سُنّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وعطّل حدود الله ، وخالف أولياء الله . فجُودوا بمُهج أنفسكم في طاعة الله في هذه الدنيا ؛ تُصيبوا الآخرة والمنزل الأعلى والمُلك الذي لا يبلى ، فلو لم يكن ثوابٌ ولا عقاب ، ولا جنّةٌ ولا نار ، لكان القتال مع عليٍّ أفضل من القتال مع معاوية ابن آكلة الأكباد ، فكيف وأنتم ترجون ما ترجون ؟!

فلمّا انقضى أمر صفّين ، وسلّم الحسن (عليه السّلام) الأمر لمعاوية ، نادى منادي معاوية : أمِنَ الأسود والأحمر بأمان الله ، إلاّ عبد الله بن هاشم . فاختفى عبد الله عند امرأة بالبصرة من بني مخزوم ، فدُلّ عليه معاوية ، فبعث إلى زياد : أنْ ائتِ دار فلانة المخزوميّة ، فاستخرج عبد الله بن هاشم المرقال منها ، فاحلق رأسه ، والبسه جُبّة شعر ، وقيّده وغلّ يده إلى عنقه ، وأحمله على قتب بعيرٍ بغير وطاء ولا غطاء ، وأنفذ به إليّ .

ففعل به زياد ذلك وأنفذه إلى معاوية ، فوصل إليه وقد لاقى تعباً كثيراً ، وغيّرت الشمس وجهه ، فعرفه معاوية و لمْ يعرفه عمرو بن العاص ، فقال معاوية : يا أبا عبد الله ، أتعرف هذا الفتى ؟ قال : لا . قال : هذا ابن الذين كان يقول في صفّين :

أعْورُ يبْغِي أهلَهُ مَحَلاّ   قدْ عالجَ الحياةَ حتّى مَلاّ

لا بُدَّ أنْ يَغُلَّ أو يُغلاّ

فقال عمرو : يا أمير المؤمنين ، هذا المحتال ابن المرقال ، فدونك الضبّ المضب ، فإنّ العصا من العصية ، وإنّما تَلد الحيّة حيّة ، وجزاء السيئة سيئة مثلها . فقال له ابن هاشم : ما أنا بأوّل رجل خذله قومه وأدركه يومه . فقال معاوية : تلك ضغائن صفّين ، وما جنى عليك أبوك . فقال عمرو : يا أمير المؤمنين ، أمكني فأشخب أوداجه على أثباجه . فقال له ابن هاشم :


الصفحة (43)

فهلاّ كانت هذه الشجاعة منك يابن العاص أيام صفّين ، حين ندعوك إلى النّزال ، وقد ابتلّت أقدام الرجال من نقع الجريال(1) ، وقد تضايقتْ بك المسالك ، وأشرفتَ فيها على المهالك ؟ فاُعجب معاوية ما سمع من كلام ابن هاشم ، فأمر به إلى السجن ، وكفّ عن قتله ، فقال عمرو :

أمـرتُكَ أمراً حازِماً iiفعَصَيْتَني   وكانَ منَ التَّوفيقِ قتلُ ابنِ iiهاشمِ
ألـيسَ أبـوُهُ يـا مُعاويةُ 
iiالَّذِي   رَمـاكَ علَى جدٍّ بحزِّ iiالغلاصمِ
فما بَرحُوا حتّى جرتْ منْ دمائِنا   بصفّين أمثالِ البُحورِ 
iiالخضَارمِ
وهـذا ابنُهُ والمرءُ يُشْبهُ 
iiأصلَهُ   سـنقرعُ إنْ أبـقيتَهُ سِـنَّ iiنادمِ

فقال ابن هاشم يجيبه :

مـعاويَ إنّ الـمرْءَ عَمراً أبتْ لهُ   ضَـغينةُ صَـدْرٍ غِشُّها غيرُ iiسالمِ
يَـرى لكَ قتْلي يابنَ حرْبٍ 
iiوإنّما   يَرى ما يَرَى عمرٌو مُلوكُ iiالأعاجمِ
عـلى أنّـهُم لا يَـقتلُونَ 
iiأسيرَهُمْ   إذا أثـقلَ الأعْـناقَ حَملُ iiالمغَارمِ
وقـدْ كـانَ مـنَّا يومَ صفّين
iiنغْزةٌ   عـليكَ جـناهَا هـاشمٌ وابنُ iiهاشمِ
قَضى الله ُ فيها ما قَضى ثَمّة انْقَضى   ومَـا ما مَضى إلاّ كأضغاثِ حالمِ
هي الوقعةُ العُظْمَى الَّتي 
iiتعْرفونَها   وكـلٌّ على ما قدْ مَضى غيرُ iiنادمِ
فإنْ تعفُ عنَّي تعفُ عنْ ذِي 
iiقرَابةٍ   وإنْ تَـرَ قَـتلي تَسْتحلُ iiمَحارمي

وهكذا كانت معاملة معاوية لشيعة أمير المؤمنين (عليه السّلام) بعد ما تمّ له الأمر ، فإنّه بعد ما شرط عليه الحسن (عليه السّلام) أنْ لا يتعرّض لشيعته وشيعة أبيه ، قتل حجرَ بن عدي وأصحابه ، وعمرو بن الحمق ، وتتبَّع شيعة علي (عليه السّلام) ؛ يُخيفهم ، ويسجنهم ، ويسومهم سوء العذاب ، وسلّط

_____________________________

(1) الجريال : صبغ أحمر ، وأراد به هنا : الدّم ، تشبيهاً له بذلك الصبغ . ـ المؤلّف ـ

الصفحة (44)

عليهم زياد بن أبيه ففعل بهم الأفاعيل . ولقد أشار جلساء السّوء على يزيد بن معاوية ـ لمّا جيء إليه باُسارى آل الرسول (صلّى الله عليه وآله) ـ بمثل ما أشار به عمرو بن العاص على أبيه معاوية ، وذلك أنّ يزيد لمّا جيء إليه بالسبايا والاُسارى يوم كربلاء ، استشار أهلَ الشام فيما يصنع بهم ، فأشار بعضهم بقتلهم ، وتكلّم بكلمة لا يطيق اللسان التكلّم بها ، فقال له النّعمان بن بشير : انظر ما كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يصنعه بهم ، فاصنعه بهم .

ونظر رجل من أهل الشام أحمر إلى فاطمة بنت الحسين (عليهما السّلام) فقال : يا أمير المؤمنين ، هب لي هذه الجارية . قالت فاطمة : فارتعدت وظننت أنّ ذلك جائز عندهم ، فأخذت بثياب عمّتي زينب ، وقلت : يا عمّتاه ! أوتمت واُستخدم ؟! وكانت عمّتي تعلم أنّ ذلك لا يكون ، فقالت عمّتي : لا حبّاً ولا كرامة لهذا الفاسق . وقالت للشامي : كذبت والله ولؤمت ، والله ما ذاك لك ولا له . فغضب يزيد وقال : كذبت ، إنّ ذلك لي ولو شئت أنْ أفعل لفعلت . قالت زينب : كلاّ والله ، ما جعل الله لك ذلك إلاّ أنْ تخرج من ملّتنا وتدين بغيرها . فاستطار يزيد غضباً وقال : إيّاي تستقبلين بهذا ! إنّما خرج من الدّين أبوك وأخوك . قالت زينب : بدين الله ودين أبي ودين أخي اهتديت أنت وجدّك وأبوك إنْ كنت مسلماً . قال : كذبتِ يا عدوّة الله . قالت له : أنت أمير تشتم ظالماً وتقهر بسلطانك . فكأنّه استحيا وسكت . فعاد الشامي فقال : هب لي هذه الجارية . فقال له يزيد : اعزب ، وهب الله لك حتفاً قاضياً .

وفي رواية : فقال الشامي : مَن هذه الجارية ؟ فقال : هذه فاطمة بنت الحسين ، وتلك زينب بنت علي . فقال الشامي : الحسين بن فاطمة وعلي بن أبي طالب ؟! فقال : نعم . فقال الشامي : لعنك الله يا يزيد ، تقتل عترة نبيّك وتسبي ذرّيّته ! والله ، ما توهّمت إلاّ أنّهم من سبي الروم . فقال يزيد : والله لألحقنّك بهم . ثمّ أمر به فضُربت عنقه .


الصفحة (45)

فـقُلْ لـسرايا شَيبةِ الحَمدِ ما iiلكمْ   قـعدتُمْ وقدْ ساروا بنسوتِكُمْ iiأسرَى
وأعـظمُ ما يُشجي الغيورَ 
iiدخولُها   إلى مجلسٍ ما بارحَ اللهوَ iiوالخمْرا
يـُقـارضُها فـيهِ يـزيدُ 
iiمَـسبَّةً   ويَصرفُ عنها وجهَهُ مُعرضاً كِبرا

* * *

المجلس الستّون بعد المئة

لمّا كان يوم صفّين ، نادى أبو شجاع الحِميري ، وكان من ذوي البصائر ، وكان مع علي (عليه السّلام) ، فقال : يا معشر حِمْيَر ، أترون معاوية خيراً من علي ؟! أضلّ الله سعيكم . ثمّ أنت يا ذا الكلاع ، فوالله ، إنْ كنّا نرى أنّ لك نيّة في الدين . فقال ذو الكلاع : إيهاً يا أبا شجاع ، والله ، ما معاوية بأفضل من علي ، ولكن إنّما اُقاتل على دم عثمان .

وعُبّئت قبائل حمير مع ذي الكلاع ، وفيهم عبيد الله بن عمر بن الخطاب ، لتقاتل قبيلة بكر بن وائل من قبائل ربيعة ، وكانت مع علي (عليه السّلام) ، فقاتلوا قتالاً شديداً حتّى خافوا الهلاك ، فقال رجل لعبد القيس : لا بكر بعد اليوم ؛ إنّ ذا الكلاع وعبيد الله أبادا ربيعة ! فانهضوا لهم وإلاّ هلكوا . فركبت عبد القيس وجاءت كأنها غمامة سوداء ، فشدّت إزاء الميسرة ، فعظم القتال ، وقُتل ذو الكلاع الحميري ، قتله رجل من بكر بن وائل ، اسمه خندف .

وتضعضعت أركان حمير ، وثبتت بعد ذي الكلاع تحارب مع عبيد الله بن عمر ، وبعث عبيد الله بن عمر إلى الحسن بن علي (عليهما السّلام) ، فقال : إنّ لي إليك حاجة فالقني . فلقيه الحسن (عليه السّلام) ، فقال له عبيد الله : إنّ أباك قد وتر قريشاً أوّلاً وآخراً ، وقد أبغضوه ، فهل لك إلى أنْ تخلعه ونولّيك هذا الأمر ؟ قال : (( كلاّ والله ، لا يكون ذلك )) . ثمّ قال له الحسن (عليه السّلام) (( لكأنّي أنظر إليك مقتولاً في يومك أو


الصفحة (46)

غدك ، أما إنّ الشيطانَ قد زيّن لك ، وخدعك حتّى أخرجك مخلَّقاً بالخلوق ، تُري نساء أهل الشام موقفك ، وسيصرعك الله ويبطحك لوجهك قتيلاً )) .

قال : فوالله ، ما كان إلاّ كيوم أو كالغد ، وكان القتال ، فخرج عبيد الله في كتيبة رقطاء ، وهي الخُضريّة ، كانوا أربعة آلاف عليهم ثياب خضر ، إذ مرّ الحسن (عليه السّلام) فإذا هو برجل متوسّد رجلاً قتيلاً ، قد ركز رمحه في عينه ، وربط فرسه برجله ، فقال الحسن (عليه السّلام) لمَن معه : (( انظروا مَن هذا ؟ )) . فإذا هو برجل من همدان ، فإذا القتيل عبيد الله ، قد قتله وبات عليه حتّى أصبح ، ثمّ سلبه .

وكان ذو الكلاع سمع عمرو بن العاص يقول : قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لعمّار : (( تقتلك الفئة الباغية )) . فلمّا سمع ذو الكلاع أنّ عمّاراً مع علي (عليه السّلام) اضطرب ، فقال له عمرو : إنّه سيرجع إلينا . ثمّ قُتل ذو الكلاع في اليوم الذي قُتل فيه عمّار ، فقال عمرو : والله يا معاوية ، ما أدري بقتل أيّهما أنا أشدّ فرحاً ، والله ، لو بقي ذو الكلاع حتّى يُقتل عمّار ، لمال بعامّة قومه إلى علي ، ولأفسد علينا جندنا . وقال معاوية : لأنا أشدّ فرحاً بقتل ذي الكلاع مني بفتح مصر لو فُتحت .

ولمّا قُتل ذو الكلاع ، أقبل ولده إلى سعيد بن قيس الهمداني ، واستأذنه في أخذ جُثّة أبيه فأذن له ، فدخل من قِبل الميمنة ، فطاف في العسكر فلم يجده ، ثمّ أتى الميسرة فطاف في العسكر ، فوجده قد ربط رجله بطنب من أطناب فساطيط العسكر ، فوقف على باب الفسطاط ، فقال : السّلام عليكم يا أهل البيت . فقيل له : وعليك السّلام . وكان معه عبد له أسود لم يكن معه غيره ، فقال : أتأذنون لنا في طنب من أطناب فسطاطكم ؟ قالوا : قد أذنّا لكم . ثمّ قالوا : معذرة إلى ربّنا عزّ وجل وإليكم ، أما إنّه لولا بغيه علينا ما صنعنا به ما ترَون . فنزل ابنه والعبد الذي معه إليه ـ وكان من أعظم النّاس خلقاً ، وقد انتفخ شيئاً ـ فلم يستطيعا احتماله ، فقال ابنه : هل من فتىً مِعوان ؟ فخرج إليه


الصفحة (47)

خندف البكري ، فقال : تنحّوا . فقال له ابن ذي الكلاع : ومَن يحمله إذا تنحّينا ؟ قال : يحمله الذي قتله . فاحتمله خندف ، ثمّ رمى به على ظهر البغل ، ثمّ شدّه بالحبال فانطلقوا به .

يمثّل خِطاب ابن ذي الكلاع لأهل الفسطاط ، واعتذارهم إليه ، الرقَّة والشهامة ، والآداب والأخلاق الكريمة العربيّة ، وكانت النّاس ـ لا سيّما العرب ـ تحافظ على الميّت أو القتيل ، فتتوسل بكلّ وسيلة إلى دفنه وحفظ جسده ، لا سيّما إذا كان من أجلاّء النّاس .

وجاء الدين الإسلامي بذلك ، فجعل حرمة المؤمن ميتاً كحرمته حيّاً ، لكنّ ابن سعد وابن زياد وحزبهما ، لمّا قتلوا الحسين (عليه السّلام) وأصحابه ، شوّهوا وجه الأخلاق العربيّة ، ولم يراعوا حرمة الدّين وحرمة الإسلام ، ولا حرمة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وهم يدّعون الإسلام . فأقبل ابن سعد على قتلاه فدفنهم ، وترك الحسين (عليه السّلام) وأصحابه بلا دفن ، مطرّحين على وجه الأرض جثثاً بلا رؤوس ، تصهرهم الشمس ، وتسفي عليهم السّوافي من الرمال حتّى بقوا على هذه الحالة ثلاثة أيام ، إلى أن جاء بنو أسد فدفنوهم :

ثَوَوا عَطاشَى على البوغاءِ تحسَبُهُمْ   تحتَ الدُّجَى في الفيافي الأنجُمَ الشُّهبَا

مُـجرَّدينَ عـلى الرمضاءِ قدْ iiلبسُوا   مـنَ الـمَهابةِ أبـراداً لـها iiقُـشبا
مـُضرَّجينَ بـمُحْمرِّ الـنَّجيعِ 
iiبنَى   نَـبلُ الـعِدى والـقنَا منْ فوقِهمْ iiقُبَبا

* * *

ما إنْ بقيتَ مِن الهوانِ على الثَّرى   مُلقىً ثلاثاً في رُبىً ووهادِ


الصفحة (48)

 

لكنْ لكَي تَقضي عليكَ صلاتَهَا   زُمَرُ المَلائكِ فوْقَ سبعِ شِدادِ

* * *

المجلس الحادي والستّون بعد المئة

في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : إنّ معاوية دعا بُسر بن أبي أرطأة ، وكان قاسي القلب ، فظّاً سفّاكاً للدماء ، لا رأفة عنده ولا رحمة ، فأمره أنْ يذهب إلى المدينة ومكّة واليمن ، وقال له : اقتل شيعة علي حيث كانوا . فمضى في ألفين وستمئة حتّى دخل المدينة ، وعامل علي (عليه السّلام) عليها أبو أيوب الأنصاري ، فخرج عنها هارباً .

ودخلها بُسر ، فشتمهم وهدّدهم وأحرق دوراً كثيرة ، ثمّ خرج إلى مكّة وقتل في طريقه رجالاًَ وأخذ أموالاً ، فلمّا قرب من مكّة ، هرب قثم بن العبّاس عامل علي (عليه السّلام) عليها ، ودخل بُسر ، فشتم أهلها وأنّبهم ، ثمّ خرج إلى الطائف ، ثمّ خرج منها إلى اليمن ، فقتل أبا كرب الهمداني سيّدَ مَن بالبادية من همدان ، وكان يتّشيع . وكان الذين قتلهم بُسر في وجهه ذلك ثلاثين ألفاً ، وحرق قوماً بالنّار ، وأتى صنعاء فهرب منها عبيد الله بن العبّاس ، ودخلها بُسر ، فأخذ ولدين صغيرين لعبيد الله بن العبّاس ، فذبحهما على درج صنعاء .

قال المبرد في الكامل : فيقال : أنّه أخذهما من تحت ذيل اُمّهما فقتلهما ، فقالت اُمّهما :

هـا مَـنْ أحسَّ بابنَي اللَذَينِ هُمَا   كـالدُّرَّتينِ تشظَّى عنهُما iiالصَّدَف ُ
هـا مَـنْ أحسَّ بابنَي اللَذَينِ هُمَا   سمْعِي وقلبي فقلبي اليومَ مُختطَف ُ
هـا مَـنْ أحسَّ بابنَي اللَذَينِ هُمَا   مُـخُّ العظامِ فمخِّي اليوم 
iiمزدهَف ُ


الصفحة (49)

نُبّئتُ بُسراً وما صدَّقتُ ما iiزَعِموا   منْ قِيلهمْ ومن الإفكِ الذي iiاقتَرفُوا
أنـحَى على وَدَجَي طفلَيَّ 
iiمُرهَفةً   مَـشحُوذةً وكـذاك الإثـمُ iiيُقتَرفُ
مَـنْ دلَّ والـهةً حـرَّى 
iiمُـفجَّعةً   على صبيَّين ضلاّ إذ مضَى السَّلفُ

وقد اتّخذ أتباع بني اُميّة ذبح الأطفال عادة لهم ؛ بغياً منهم وعتوّاً حتّى آل الأمر إلى يزيد بن معاوية ، وجهّز عبيد الله بن زياد الجيوش بأمره لقتال الحسين (عليه السّلام) ، وقُتلت أنصار الحسين (عليه السّلام) وأهل بيته ، وبقي وحيداً فريداً ، فتقدّم إلى باب الخيمة ، وقال لزينب : (( ناوليني ولدي الرضيع حتّى اُودعه )) . فاُتي بابنه عبد الله ، فأخذه وأجلسه في حجره ، وأومأ إليه ليقبّله ، فرماه حرملة بن كاهل الأسدي بسهم فوقع في نحره فذبحه ، فقال (عليه السّلام) لزينب : (( خُذيه )) . ثمّ تلّقى الدم بكفّيه ، فلمّا امتلأتا ، رمى بالدم نحو السّماء ، ثمّ قال : ((هوّن عليّ ما نزل به ، أنّه بعين الله )) . وفي رواية : أنّه قال : (( اللهمّ ، لا يكون أهون عليك من فصيل . . . )) .

قال الإمام الباقر (عليه السّلام) : (( فلم يسقط من ذلك الدم قطرة إلى الأرض )) .

وفي رواية : أنّه صبّه في الأرض ، ثمّ قال : (( يا ربّ ، إنْ كنتَ حسبتَ عنّا النَّصر من السّماء ، فاجعل ذلك لما هو خير منه ، وانتقم لنا من هؤلاء القوم الظالمين )) . ثمّ حمله حتّى وضعه مع قتلى أهل بيته . وفي رواية : أنّه حفر له بجفن سيفه ، ورمّله بدمه فدفنه .

صبيٌ وهو بينَ يَدَي أبيهِ   اُصيبَ فأيُّ ذنبٍ للصبيِّ

ومن الأطفال الذين قتلهم أتباع بني اُميّة يوم طفّ كربلاء ؛ بغياً وعتوّاً وجرأة على الله ورسوله ، غلام خرج من خباء من أخبية الحسين (عليه السّلام) ، فأخذ بعود من عيدان الخباء وهو مذعور ، فجعل يلتفت يميناً وشمالاً وقرطاه يتذبذبان ، فحمل عليه هانئ بن ثبيت الحضرمي فضربه بالسيف فقتله ، فصارت اُمّه شهربانويه تنظر إليه ولا تتكلم كالمدهوشة .


الصفحة (50)

كَـمْ لَـكمْ منْ صِبيةٍ ما iiأبدَلتْ   ثَمّ مـنْ حـاضنةٍ إلاّ رمَـالا
سَلْ بحِجرِ الحربِ ماذا رَضَعتْ   فَـثديُّ الـحربِ قدْ كُنَّ نِصالا
رضَـعتْ مـنْ دَمِها الموتَ فيَا   لـرضاعٍ عـادَ بالرّغمِ 
iiفِصالا

ومن الأطفال الذين قتلهم جيش يزيد يوم كربلاء ؛ بغياً وعناداً واجتراءً على الله تعالى ، عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب ، وذلك لمّا ضعف الحسين (عليه السّلام) عن القتال ، وجلس على الأرض ، فخرج عبد الله ، وهو غلام لمْ يراهق ، من عند النّساء ، فلحقته زينب بنت علي (عليهما السّلام) لتحبسه ، فقال لها الحسين (عليه السّلام) : (( احبسيه يا اُختي )) ؛ وذلك لعلمه ببغي أهل الكوفة وجرأتهم على قتل الأطفال .

فأبى الطفل وامتنع عليها امتناعاً شديداً ، وجاء يشتدّ إلى عمّه الحسين (عليه السّلام) حتّى وقف إلى جنبه ، وقال : لا اُفارق عمّي . فأهوى بحر بن كعب إلى الحسين (عليه السّلام) بالسيف ، فقال الغلام : ويلك يابن الخبيثة ! أتقتل عمّي ؟! فضربه بحر بالسيف فاتّقاها الغلام بيده فأطنّها إلى الجلد ، فإذا هي معلّقة ، فنادى الغلام : يا عمّاه ! ـ أو يا اُمّاه ! ـ فأخذه الحسين (عليه السّلام) فضمّه إلى صدره ، وقال : (( يابن أخي ، اصبر على ما نزل بك واحتسب في ذلك الخير ، فإنّ الله يلحقك بآبائك الصالحين ؛ برسول الله وعلي وحمزة وجعفر والحسن صلّى الله عليهم أجمعين )) . فرماه حرملة بسهم فذبحه ، وهو في حجر عمّه ، فرفع الحسين (عليه السّلام) يدَيه وقال : (( اللهمّ ، امسك عنهم قطرَ السّماء ، وامنعهم بركات الأرض . اللهمّ ، فإنْ متّعتهم إلى حين ، ففرّقهم فرقاً ، واجعلهم طرائقَ قِدداً ، ولا تُرضِ الولاة منهم أبداً ؛ فإنّهم دعونا لينصرونا ثمّ عدوا علينا فقتلونا )) .

هَـبُوا أنّكُمْ قاتلتمُ فقتلتُمُ   فما بالُ أطفال تُقاسي نبالَها

 ودعا علي (عليه السّلام) على بُسر ، فقال : (( اللهمّ ، لا تمته حتّى تسلبه عقله


الصفحة (51)

، ولا توجب له رحمتك ولا ساعة من نهار )) . فلم يلبث بعد ذلك ألا يسيراًً حتّى ذهب عقله ، وكان يهذي بالسيف ويقول : أعطوني سيفاً اُقتل به . ولا يزال يردّد ذلك حتّى اتّخذ سيفاً من خشب ، وكانوا يدنون منه المرفقة ، فلا يزال يضربها حتّى يغشى عليه ، فلبث كذلك إلى أنْ مات .

وقد كان مسلم بن عقبة وعبيد الله بن زياد ليزيد ، كما كان بُسر لمعاوية ؛ أمّا مسلم بن عقبة ، فهو صاحب وقعة الحَرّة التي أباح فيها المدينة ثلاثاً ، وبايع النّاس على أنّهم عبيداً رقّاً ليزيد بن معاوية ؛ وأمّا عبيد الله بن زياد ، فهو الذي بعث العساكر لقتال الحسين (عليه السّلام) ؛ إرضاءً ليزيد بن معاوية ، ولم يكفهِ ذلك حتّى أمرهم بمنع الحسين (عليه السّلام) وأصحابه الماء ، فنفّذ ذلك ابن سعد ، ومنع الحسين (عليه السّلام) وعياله وأطفاله الماء ، وجعل يطلب شربة من الماء فلا يجاب ، وكلّما حمل بفرسه على الفرات ، حملوا عليه حتّى كشفوه عنه إلى أنْ قتلوه عطشانَ ظامياً .

ولم يكفهم ذلك ، حتّى أمر ابن زياد أنْ يُوطئوا الخيل صدرَ الحسين (عليه السّلام) وظهره بعد القتل ، ففعل ابن سعد ذلك ، ولم يكفهم هذا كلّه حتّى حملوا رأسه الشريف ، ورؤوس أصحابه وأهل بيته على أطراف الرماح ، وسبوا نساءه وعياله وبنات رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من بلد إلى بلد :

بَنى لَهُمُ الماضونَ آساسَ   هَذِهِ فَعَلّوا عَلى آساسِ تِلكَ القَواعِدِ

أَلا لَيسَ فِعلُ الأَوَّلينَ وَإِنْ    عَلا عَلى قُبحِ فِعلِ الأَخَرينَ بِزائِدِ

المجلس الثاني والستّون بعد المئة

* * *

ذكر غير واحد من المؤرّخين : إنّ عليّاً (عليه السّلام) لمّا عاد من صفّين


الصفحة (52)

إلى الكوفة بعد أمر الحكمين ، قام ينتظر انقضاء المدّة التي كانت بينه وبين معاوية ليرجع إلى حربه ، إذ انعزلت طائفة من أصحابه في أربعة آلاف ، وهم من العبّاد والنسّاك ، فخرجوا من الكوفة وأنكروا أمر التحكيم ، وقالوا : لا حكمَ إلاّ لله . فقال علي (عليه السّلام) : (( كلمة حقٍّ يُراد بها باطل )) . وانحاز إليهم نحو من ثمانية آلاف ، فصاروا في اثني عشر ألفاً ، ونزلوا مكاناً يُسمى حروراء ؛ فسُمّوا : الحروريّة .

واحتجّ عليهم أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، فقال : (( ألم اَقُلْ لكم في يوم رفع المصاحف : إنّ أهل الشام يخدعونكم بها ؛ فإنّ الحرب قد عضّتهم ، فذروني اُناجزهم فأبيتم ؟ ألم اُردْ أنْ أبعث ابن عمّي عبد الله بن عباس ليكون حكماً ؛ فإنّه رجل لا يُخدع ، فأبيتم وجئتموني بأبي موسى وقلتم رضينا به ؟ ثمّ شرطتُ على الحكمين أنْ يحكما بما أنزل الله في القرآن ، من فاتحته إلى خاتمته ، وأنّهما إنْ لمْ يفعلا فلا طاعة لهما عليَّ ؟ )) . قالوا : صدقت ، فلمَ لا ترجع إلى حرب القوم ؟ قال (عليه السّلام) : (( حتّى تنقضي المدّة التي بيننا وبينهم )) . فرجع منهم طائفة .

ثمّ اجتمعوا بالنهروان ، ولقيهم عبد الله بن خباب صاحب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وفي عنقه مصحف ، ومعه امرأته ، فقالوا : ما تقول في عليٍّ قبل التحكيم وبعده ؟ قال : إنّه أعلم بالله منكم ، وأشدّ توقّياً على دينه ، وأنفذ بصيرة . قالوا : إنّك تتبع الهوى ، وتوالي الرجال على أسمائها لا على أفعالها ، والله ، لنقتلنّك قتلةً ما قتلناها أحداً . فأخذوه وكتّفوه ، ثمّ أقبلوا به وبامرأته ، وهي حبلى متم ، فنزلوا تحت نخل ، فسقطت منه رطبة ، فوضعها أحدهم في فيه ، فقال له الآخر : أخذتها بغير ثمن ! فألقاها . ومرّ بهم خنزير لأهل الذمّة ، فضربه أحدهم بسيفه ، فقالوا : هذا فساد في الأرض ، فارضِ صاحب الخنزير .

فلمّا رأى ذلك عبد الله بن خباب ، قال : إنّي مسلم ، ما أحدثت في الإسلام حدثاً ، ولقد أمّنتموني قلتم لا روع عليك . فلم يلتفتوا إلى كلامه ، وقالوا له : هذا الذي في عنقك يأمرنا


الصفحة (53)

بقتلك . ثمّ قرّبوه إلى شاطئ النّهر ، فأضجعوه وذبحوه ، فسال دمه في الماء ، وأقبلوا إلى امرأته ، فقالت : أنا امرأة ، ألاَ تتّقون الله ؟ فبقروا بطنها .

وخرج علي (عليه السّلام) بأصحابه حتّى نزل على فرسخين من النّهروان ، فأرسل إليهم أوّلاً ابن عبّاس ، ثمّ جاء إليهم بنفسه ، فقال (عليه السّلام) : (( ما الذي نقمتم به علي ؟ )) . قالوا : نقمنا عليك أنّك أبحتنا عسكر أهل البصرة ، ومنعتنا النّساء والذرّيّة . فقال (عليه السّلام) لهم : (( إنّ أهل البصرة قاتلونا ، فاقتسمتم سلب مَن قاتلكم ، والنّساء لم تُقاتل ، والذرّيّة ولدوا على الفطرة ، ولم ينكثوا ولا ذنب لهم ، ولقد مَنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) على المشركين ، فلا تعجبوا إنْ مننتُ على نسائهم وذريّاتهم )) . قالوا : ونقمنا عليك أنّك حكمت في دين الله برأينا . فقال (عليه السّلام) : (( أما تعلمون أنّ الله تعالى قد أمر بالتحكيم في شقاق بين الرجل وامرأته ، فقال : فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا(1) . وفي صيد اُصيب [ في الحرم ] كأرنب يساوي نصف درهم ، فقال : يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ(2) )) . قالوا : ونقمنا عليك أنّك محوت اسمك من إمارة المؤمنين يوم صفّين حين كُتب كتاب الصلح ؛ وذلك أنّه قال لكاتبه : (( اكتب ، هذا ما تقاضى عليه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، ومعاوية بن أبي سفيان )) . فلم يقبل معاوية ، فقال أمير المؤمنين (عليه السّلام) للكاتب : (( اكتب ، هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب ، ومعاوية )) .

فقال لهم : (( أنا كنت كاتب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يوم الحديبيّة ، فقال لي : اكتب ، هذا ما اصطلح عليه محمّد رسول الله ، وسهيل بن عمرو . فقال سُهيل : لو علمنا أنّك رسول الله ، لمَا صددناك ولا قاتلناك . فأمرني رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فمحوت ذلك وكتبت : هذا ما اصطلح عليه محمّد بن عبد الله ، وسهيل . وإنّما محوت اسمي من إمرة المؤمنين ، كما محا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) اسمه من الرسالة ، وكان لي به اُسوة )) .

قالوا : وإنّك قلت للحكمين : (( انظرا في كتاب الله ، فإنْ كنتُ أفضل من معاوية ، فأثبتاني في الخلافة ، وإلاّ فأثبتاه )) .

ــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة النساء / 35 .
(2) سورة المائدة / 95 .

الصفحة (54)

 فإنْ كنت شاكّاً ، فنحن فيك أعظم شكّاً . فقال (عليه السّلام) : (( إنّما أردت بذلك النّصفة ، كما قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لنصارى نجران : تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ(1) )) . قالوا : ونقمنا عليك أنّك حكمت حُكماً في حقّ هو لك . فقال (عليه السّلام) : (( إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حكّم سعد بن معاذ في بني قُريظة ، ولو شاء لم يفعل )) . فصاح منهم جماعة من كلّ ناحية : التوبة التوبة يا أمير المؤمنين ! فاستأمن منهم ثمانية آلاف ، وبقي أربعة آلاف مصّرين على حربه ، فقاتلهم حتّى أفناهم ، ولم يَسلَم منهم غير تسعة أنفس .

فياليت : أمير المؤمنين (عليه السّلام) الذي أفنى الخوارج بسيفه ، لا غاب عن يوم كربلاء ، ليرى خوارج أهل الكوفة الذين حاربوا ولده الحسين (عليه السّلام) ، بل كانوا شرّاً من الخوارج . ولم تفعل فرقة من الفرق الضالّة ، مهما بلغت في الضلال وقساوة القلب ، ما فعله أهل الكوفة مع أهل بيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، ولم يجرِ في حرب من حروب الدنيا من الفظاعة ما جرى من أهل الكوفة في حرب ذرّيّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ؛ فكم من طفل بالسهام ذبحوه ! وآخر بالسيوف قطعوه ! ذبحوا عبد الله الرضيع بالسهم ، وهو بين يدي أبيه الحسين (عليه السّلام) ، وذبحوا عبد الله بن الحسن بالسهم ، وهو في حجر عمّه الحسين (عليه السّلام) ، بعدما ضربوه على يمينه بالسيف فقطعوها وبقيت معلّقة ، ومنعوا الحسين (عليه السّلام) وعياله وأطفاله من ورود الماء ، وتركوه وأصحابه على وجه الصعيد جُثثاً بلا رؤوس ، تصهرهم الشمس ، وتسفي عليهم الرياح :

فيا وقعةً لمْ يُحدثْ الدَّهرُ مثْلَها   يَبيدُ الليالي ذكرُهَا وهو خالدُ

لألبستِ هذا الدِّيـنَ أثوابَ ذلَّةٍ   ترثُّ لها الأيـامُ وهيَ جدَائدُ

ــــــــــــــــ

(1) سورة آل عمران / 61 .


الصفحة (55)

المجلس الثالث والستّون بعد المئة

في العقد الفريد وغيره ، عن الشعبي ، قال : وفدت سودة بنت عُمارة بن الأشتر الهمدانيّة على معاوية بن أبي سفيان ، فاستأذنت عليه فأذن لها ، فلمّا دخلت عليه سلّمت ، فقال لها : كيف أنت يابنة الأشتر ؟ قالت : بخير يا أمير المؤمنين . قال لها : أنت القائلة لأخيك :

شَمِّر كفعلِ أبيكَ يابنَ عُمارةٍ   يـومَ الطَّعانِ ومُلتقَى الأقرانِ
وانصُر عليّاً والحُسينَ ورهطَهُ   واقْـصُدْ لـهندٍ وابنِها بهوانِ
إنّ الإمـامَ أخا النّبيِّ محمّدٍ   عَـلمُ الـهُدى ومنارةُ الإيمانِ
فَـقُدِ الجيوشَ وسُرْ أمامَ لوائِهِ   قُـدُماً بـأبيضَ صارمٍ وسنانِ

قالت : مات الرأس ، وبُتر الذنب ، فدَعْ عنك تذكار ما قد نسي . قال : هيهات ! ليس مثل مقام أخيك يُنسى . قالت : صدقت والله ، ما كان أخي خفي المقام ، ذليل المكان ، ولكن كما قالت الخنساء :

وإنّ صَخْراً لتأتمُّ الهُداةُ بهِ   كأنّهُ عَلمٌ في رأسهِ نارُ

وبالله أسأل اعفائي ممّا استعفيته . قال : قد فعلت ، فقولي حاجتك . قالت : إنّ الله سائلك عمّا افترض عليك من حقّنا ، ولا تزال تُقدّم علينا مَن ينهض بعزّك ، ويبسط بسلطانك ، فيحصدنا حصاد السُّنبل ويدوسنا دياس البقر ، ويسومنا الخسيسة ويسألنا الجليلة ؛ هذا ابن أبي أرطأة قدم بلادي ، وقتل رجالي وأخذ مالي ، ولولا الطاعة ، لكان فينا عزٌّ ومنعة ، فإمّا عزلته فشكرناك ، وإمّا لا ، فعرفناك . فقال معاوية : إيّاي تهدّدين بقومك ! والله ، لقد هممت أنْ أردّك إليه على قتب أشرس ، فينفذ حكمه فيك . فسكتت ، ثمّ قالت :


الصفحة (56)

صلَّـى الإلهُ على روحٍ تضمَّنهُ   قبـرٌ فأصبحَ فيه العدلُ مدْفُونا

قدْ حالفَ الحقَّ لا يبغِي به ثَمناً   فصارَ بالحقِّ والإيمانِ مقرُونا

قال : ومَن ذلك ؟ قالت : علي بن أبي طالب (عليه السّلام) . قال : ما أرى عليك منه أثراً ؟ قالت : بلى ، أتيته يوماً في رجل ولاّه صدقاتنا ، فكان بيننا وبينه ما بين الغثّ والسّمين ، فوجدته قائماً يُصلّي ، فانفتل من الصلاة ، وقال برأفة وتعطّف : (( ألك حاجة ؟ )) . فأخبرته خبر الرجل ، فبكى ، ثم رفع يديه إلى السّماء ، فقال : (( اللهمّ ، إنّي لمْ آمرهمْ بظُلم خلقك ، وترك حقّك)) . ثمّ أخرج من جيبه قطعة من جراب ، فكتب فيها : (( بسم الله الرحمن الرحيم ، قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيّنَةٌ مِنْ رَبّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُوا النّاسَ أَشْيَاءَهُمْ(1) . وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ(2) . بَقِيّتُ اللّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِن كُنتُم مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ(3) . إذا أتاك كتابي هذا ، فاحتفظ بما في يديك حتّى يأتي مَن يقبضه منك ، والسّلام )) . فعزله .

فقال معاوية : اكتبوا لها بالإنصاف لها ، والعدل عليها . فقالت : ألي خاصة أم لقومي عامّة ؟ قال : وما أنت وغيرك ؟ قالت : والله ، هي إذاً الفحشاء واللؤم . إنْ كان عدلاً شاملاً ، وإلاّ يسعني ما يسع قومي . قال : هيهات ! علّمكم ابن أبي طالب الجُرأة ، وغرّكم قوله :

فلو كُنتُ بوَّاباً على بابِ جنَّةٍ   لقلتُ لهمدانَ ادخُلي بسلامِ

وقوله :

ناديتَ همدانَ والأبوابُ مُغلقةٌ   ومثلُ همدان سنَّى فتحةَ البابِ

كالهُندُوانيِّ لمْ تُغلَلْ مضاربُهُ   وجهٌ جميلٌ وقلبٌ غيرُ وجَّابِ

اكتبوا لها حاجتها .

هكذا كانت عادة الملوك والاُمراء في الحلم عن النّساء ، وإكرامهنّ والرأفة بهنّ ، وعدم مؤاخذتهنّ بشيء من القول ؛ لأنّهن ضعيفات ، إلى أنْ آل الأمر إلى ابن زياد ، واُدخلت عليه حوراء

_________________________________

(1) سورة الأعراف / 85 .

(2) سورة البقرة / 60 .

(3) سورة هود / 86 .


الصفحة (57)

النّساء زينب بنت علي (عليهما السّلام) ، فإنّه لم يُكرمها بشيء ، إلاّ أنّه التفت إليها ، وقال لها : الحمد لله الذي قتلكم وفضحكم وأكذب اُحدوثتكم . فقالت (عليها السّلام) : الحمد لله الذي أكرمنا بنبيّه محمّد (صلّى الله عليه وآله) ، وطهّرنا من الرجس تطهيراً ، إنّما يُفتضح الفاسق ويكذب الفاجر ، وهو غيرنا . فقال لها : كيف رأيت صنع الله بأخيك الحسين ، وأهل بيتك ؟ قالت : ما رأيت إلاّ جميلاً ، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم ، وسيجمع الله بينك وبينهم فتُحاج وتُخاصم ، فانظر لمَن الفلج يومئذ ، هبلتك اُمّك يابن مرجانة !

فغضب ابن زياد واستشاط ، وكأنّه همّ بها ، فقام اليه عمرو بن حريث ، وقال : إنّها امرأة ، والمرأة لا تؤاخذ بشيء من منطقها . فقال لها ابن زياد : لقد شفى الله قلبي من طاغيتك الحسين ، والعصاة المَرَدة من أهل بيتك . فرقّتْ زينب وبكتْ ، وقالت له : لعمري ، لقد قتلتَ كهلي وأبرزتَ أهلي ، وقطعتَ فرعي واجتثثتَ أصلي ، فإنْ كان هذا شفاؤك فقد اشتفيت . فقال ابن زياد : هذه سجّاعة ، ولَعمري ، لقد كان أبوها سجّاعاً شاعراً . فقالت : يابن زياد ، ما للمرأة وللسجعْ ؟!

 

احْتَجْنَ تكلِيمَ الأجانبِ وهي لمْ   تُفكّكْ لهُمْ أفْواهَها بشظاظِ

كمْ حُرمةٍ للمُصطفَى هُتكتْ على   أيدي شِدادٍ في العتوِّ غِلاظ ِ

* * *

المجلس الرابع والستّون بعد المئة

في العقد الفريد : عن الشعبي ، قال : استأذنت بكارة الهلاليّة على معاوية


الصفحة (58)

ابن أبي سفيان ، فأذن لها ، وهو يومئذ بالمدينة ، فدخلت عليه ، وكانت امرأة قد أسنّت ، وغشي بصرها وضعفت قوّتها ، ترعش بين خادمين لها ، فسلّمت وجلست ، فردّ عليها معاوية السّلام ، وقال : كيف أنت يا خالة ؟ فقالت : بخير . قال : غيّرك الدهر . قالت : كذلك هو ذو غِيَر ، مَن عاش كبُر ، ومَن مات فُقد . قال عمرو بن العاص : هي والله ، القائلة :

 

يا زيدُ دونَكَ فاحتفِرْ منْ دارِنا   سيْفاً حُساماً في التُّرابِ دَفينا

قدْ كُنتُ أذخـرُهُ ليـومِ كريهةٍ   فاليومَ أبرزَهُ الزَّمانُ مَصُونا

قال مروان : وهي والله ، القائلة :

أترَى ابن هـندٍ للخلافـةِ مالكاً   هيهاتَ ذاك وإنْ أرادَ بعيدُ

منَّتكَ نفسُكَ في الخلاءِ ضلالةً   أغراكَ عمرٌو للشقا وسَعيدُ

قال سعيد بن العاص : هي والله ، القائلة :

قدْ كنتُ أطمعُ أنْ أموتَ ولا أرَى   فـوقَ الـمَنابرِ من اُميّةَ خاطِبا
فالله ُ أخّــرَ مُـدّتي فـتطاوَلَتْ   حتّى رأيتُ منَ الزمانِ عجائِبا
فـي كلِّ يومٍ لا يزالُ خطيبُهُمْ   بـين الـجميعِ لآلِ أحـمدَ عائِبا

ثمّ سكتوا ، فقالت : يا معاوية ، أنا والله ، قائلة ما قالوا ، وما خفي عليك منّي أكثر . فضحك ، وقال : ليس يمنعنا ذلك من برّك ، اذكري حاجتك . قالت : أمّا الآن ، فلا .

هكذا يكون الإباء وعزّة النّفس ، هذه بكارة الهلاليّة ، بعد أنْ أجابت معاوية بما أجابته ، لم تقبل منه برّاً ولا عطاءً ؛ أنفة منها وحمية ؛ لأنّها علمت أنّه أراد بذلك اسكاتها ، ومع ذلك فقد أظهر الحلم عنها ، كما هي عادة الاُمراء في الإحسان إلى النّساء ولو كانت المرأة من أعدى الأعداء ، وكثيراً ما كان الأمير يحلم عن المرأة وإنْ سبّته وشتمته ، ويرى


الصفحة (59)

من العار أنْ يضربها أو يشتمها ، حتّى آل الأمر إلى ابن مرجانة وابن هند , فإنّه ما كفاهما حمل بنات رسول الله (صلّى الله عليه وآله) سبايا على أقتاب المطايا من بلد إلى بلد ، كما تُحمل سبايا الروم ، حتّى قابلوهنّ من الشتم والجفاء والغلظة ، بما تقشعرّ منه الجلود ، وتنفطر له القلوب .

أمّا عبيد الله بن زياد ، فإنّه لمّا اُدخلت عليه سبايا آل الرسول (صلّى الله عليه وآله) ، قال لزينب بنت علي (عليهما السّلام) ـ في جملة ما قال ـ : الحمد لله الذي قتلكم وفضحكم وأكذب اُحدوثتكم . فقالت زينب : الحمد لله الذي أكرمنا بنبيّه محمّد (صلّى الله عليه وآله) ، وطهّرنا من الرجس تطهيراً ، إنّما يُفتضح الفاسق ويكذب الفاجر ، وهو غيرنا . فقال : كيف رأيت فعل الله بأخيك ، وأهل بيتك ؟ قالت : ما رأيت إلاّ جميلاً ، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم ، وسيجمع الله بينك وبينهم فتُحاج وتُخاصم ، فانظر لمَن الفلج ، هبلتك اُمّك يابن مرجانة !

فاستشاط غضباً ، وكأنّه همّ بضربها ، فقال له عمرو بن حريث : إنّها امرأة ، والمرأة لا تؤاخذ بشيء من منطقها . فقال لها ابن زياد : لقد شفى الله قلبي من طاغيتك الحسين ، والعصاة المَرَدة من أهل بيتك . فرقّتْ زينب وبكتْ ، وقالت له : لَعمري ، لقد قتلتَ كهلي وأبرزت أهلي ، وقطعت فرعي واجتثثت أصلي ، فإنْ كان هذا شفاؤك ، فقد اشتفيت .

وأمّا يزيد ، فإنّه لمّا اُدخلت عليه نساء الحسين (عليه السّلام) ، التفت إلى سكينة بنت الحسين (عليه السّلام) ، وقال لها : كيف رأيتِ صُنع الله بكم ؟ قالت : أقصر عن كلامك يابن الطليق ، حرمُك وجوارك خلف السّتور ، وبنات رسول الله سبايا !

فـقُلْ لـسرايا شَيبةِ الحَمدِ ما iiلكمْ   قـعدتُمْ وقدْ ساروا بنسوتِكُمْ iiأسرَى
وأعـظمُ ما يُشجي الغيورَ 
iiدخولُها   إلى مجلسٍ ما بارحَ اللهوَ iiوالخمْرا
يـُقـارضُها فـيهِ يـزيدُ 
iiمَـسبَّةً   ويَصرفُ عنها وجهَهُ مُعرضاً كِبرا

* * *

 
الصفحة السابقةالفهرسالصفحة اللاحقة

 

طباعة الصفحةبحث