المجالسّ السَّنيّة - الجزء الثّاني

 
 

الصفحة ( 277 )

وتبارى الرّجال في التّضحية ، ومضوا يسقطون واحداً بعد الآخر . وكان في الرّكب الحسيني رجل بسيط ، لا يُحسب إذا حُسبت البطولات ، ولا يُذكر إذا ذُكرت التّضحيات ، لا يؤبه لرأيه ولا يُعد لمُهمّة من مُهمّات الاُمور . كان يؤمر فيُلبّي الأمر ، ويُستخدم فيخدم مُسرعاً ، كان أقصى ما يعرفه الرّفاق عنه أنّه خادم أمين وتابع مُخلص ، وما فوق ذلك فليس مما يرد اسمه على البال . كان رقيقاً من اُولئك الأرقّاء السّود الذين امتلأت بهم قصور العُتاة وبيوت الطُغاة ، وكانت أيّة حشرة تلقى عناية أكثر ممّا يلقاه أيّ واحد منهم ! وكان نصيبه أنْ وصل إلى يد أبي ذر الغفاري صاحب محمّد المُخلص ، وسمع أبو ذر النّبي (صلّى الله عليه وآله) يوصي بالأرقّاء خيراً ويحضّ النّاس على تحريرهم ، ومَن أولى من أبي ذر بتنفيذ وصايا النّبي ؟ فاعتق أبو ذر العبد جون وأرسله حرّاً .

وأصابت المحنة أبا ذر وطورد واضطُهد ومات منفيّاً في الرّبذة ، وظلّ جون فقيراً مُعدماً ، فتلقّاه أهل البيت (عليهم السّلام) بالحنان والعطف ؛ فقد كانت فيه ذكريات من صاحب جدّهم رأوها جديرة بالوفاء , فاحتضنوه وألحقوه بشؤونهم ؛ يقوم على رعاية بيتهم والعناية بأطفالهم ، وقضاء حاجات رجالهم .

ومشى الحسين (عليه السّلام) إلى كربلاء ، وهذه حال جون لا شأن له أكثر من هذا الشّأن , ولا مَن يُفكّر بإنْ يكون لجون دور فوق هذا الدّور ، وكان في حسبان الجميع أنّه سيغتنم أوّل فرصة للسلامة , فينجو وينشد الخدمة من جديد في بيت جديد . ولكن جون بقي في ركب الحسين (عليه السّلام) لم يُفارقه مع المفارقين ، وثبت مع الرّجال المئة الذين ثبتوا حتّى وصلوا إلى كربلاء , وظنّ النّاس أنّ جون سينتظر السّاعة الحاسمة ثُمّ ينطلق بعدها في طريق النّجاة ، ولكن الأيام مضت وجون في مكانه لم يبرحه ، وجاء اليوم التّاسع من المُحرّم وجون قائم على خدمة الحسين (عليه السّلام) ، فها هو


الصفحة ( 278 )

يصلح له سيفه ، والحسين (عليه السّلام) يُردد تلك الأبيات الشّهيرة التّي لم تستطع معها اُخته زينب إلاّ أنْ تذرف دموعها .

أمّا جون فلم يذكر أحد أنّه انفعل أو تأثّر أو بكى ، أتراه لم يفهم ما كانت تعنيه تلك الأبيات ؟ أتراه صلب العاطفة مُتحجّر القلب إلى حدّ لا يهزّه صوت الحسين (عليه السّلام) ينعي نفسه ؟ أتراه في تلك السّاعة في شاغل عن كلّ شيء إلاّ عن نفسه ، يُفكّر كيف يُدبّر وسيلة الخلاص عصر اليوم أو صباح الغد ؟ الحقيقة كانت فوق كلّ تصوّر ، ولم يبكِ جون ولم ينفلّ ولم يتأثّر ؛ لأنّ ما كان فيه كان فوق البُكاء والإنفعال والتأثّر . كان جون وهو يصلح سيف الحسين (عليه السّلام) ، والحسين ينشد أبياته ، كان جون يستعرض في ذهنه كلّ ذلك الماضي الحافل ، كان يتذكّر النّبي محمّداً (صلّى الله عليه وآله) وهو يرفع الإنسان الأسود إلى أعلى مراتب الكرامة حين عهد إلى واحد منهم بوظيفة مؤذّن النّبي الخاص , وكان يتذكّر تلك الاُلوف من السّود التّي انطلقت حرّة تنفيذاً لوصايا محمّد ، وكان كلّ ذلك يجول في ذهن جون مولى أبي ذر الغفاري .

وها هو سيف الحسين (عليه السّلام) الآن في يده لآخر مرّة يصلحه له ليقف به الحسين غداً على أعلى قمّة في التّاريخ فيهزّ الدّنيا كلّها ؛ لتشهد كيف تكون حماية الهُدى والحقِّ والخير ، وكيف تكون البطولات التي لا تبغي إلاّ الاستشهاد ذوداً عمّا تؤمن به وتعتنقه ، وكيف يرفض الاُباة الحياة إذا لم تكن كما يريدون ؛ حياة الحرّية والسّعادة للاُمّة ، وحياة الكرامة والحقّ لهم . غداً سيلمع هذا السّيف الحديدي في كفّ الحسين (عليه السّلام) ثُمّ ينثلم إلى الأبد ، ولكن سيف الحقّ الذي جرّده الحسين (عليه السّلام) سيلمع إلى الأبد دون أنْ ينثلم . وغداً سيعلوا صوت الحسين (عليه السّلام) بنداء الحرّية ثُمّ يصمت إلى الأبد ، ولكن صوت الحرّية الذي انطلق من فم الحسين (عليه السّلام) سيظلّ مدويّاً إلى الأبد .

كان جون يلجأ إلى صمت رهيب ، وظلّ صامتاً حتّى دنا الليل ، وأصغى


الصفحة ( 279 )

بكلّ جوارحه إلى الحوار البطولي الخارق الذي جرى بين الحسين (عليه السّلام) وأنصاره ، وهو يحرّضهم على تركه وحده والإنطلاق في سواد الليل ، وهم يردّون عليه واحداً بعد واحد رافضين لأوّل مرّة في حياتهم أوامره ، ويصرّون على أنْ يلقوا المصير نفسه الذي سيُلاقيه هو .

كان جون في تلك السّاعة يجلس في زاوية دون أنْ يأبه له أحد ، وكان يودّ من كلّ قلبه لو كان لصوت الزّنوج صوت بين هذه الأصوات ، ولكنّه فضّل الصّمت المُطبق . وفي الصّباح عندما تبارى الأبطال المئة متسابقين إلى الموت ، ومسى كلّ منهم يستأذن الحسين (عليه السّلام) ويودّعه ماضياً إلى مصيره ، تقدّم جون وهو في كلّ خطوة من خطواته لا ينفكّ مُصغياً إلى صوت زميله بلال الحبشي مُتعالياً فوق كلّ أصوات البيض ؛ تكريماً من محمّد واعزازاً . وربّما خطر له في تلك اللحظات منظر بلال وهو واقف على أشرف مكان وأقدس بُقعة على ظهر الكعبة حين أمره محمّد ساعة فتح مكّة أنْ يصعد فيُنادي بالأذان ؛ الأسود الذي كان عبداً ذليلاً قبل رسالة محمّد يصعد على الكعبة ، وهو في نظر النّاس أعزّ إنسان .

دنت ساعة الوفاء لمحمّد (صلّى الله عليه وآله) ، دنت السّاعة التّي يردّ فيها هذا الزّنجي ـ جون ـ بعض الجميل لمحمّد (صلّى الله عليه وآله) ، وهل أعظم في الوفاء لمحمّد (صلّى الله عليه وآله) من أنْ يموت ذوداً عن أبنائه ونسائه وتعاليمه ؟! وتقدّم جون من الحسين (عليه السّلام) ، وقد انقلب بطلاً مغواراً ، وقد تجمّعت فيه كلّ فضائل بني جنسه ؛ تقدّم يستأذن الحسين (عليه السّلام) في أنْ يكون كغيره من رفاق الحسين (عليه السّلام) .

والتفت الحسين (عليه السّلام) إليه وقد أخذته الرّقة له والحنان عليه ، ولم يشأ أنْ يورطه فيما لا شأن له به ، فقال له : (( أنت إنّما تبعتنا للعافية ، فلا تبتلِ بطريقتنا )) . ولكن جون البطل أجاب الحسين (عليه السّلام) : أنا في الرّخاء ألحس قصاعكم ، وفي الشّدة أخذلكم ! ثُمّ أردف هذا الجواب بكلمات لم يقصد بها الحسين (عليه السّلام) ، بل أراد أنْ


الصفحة ( 280 )

يوجهها للأجيال الماضية والأجيال الحاضرة والأجيال الآتية ؛ تلك الأجيال التّي لم ترَ للزنوج الكرامة التّي لهم ، فقال : إنّ ريحي لنتن ، وإنّ حسبي للئيم ، وإنّ لوني لأسود ، فتنفّس عليّ بالجنّة ؛ فيطيب ريحي ويشرف حسبي ويبيضّ وجهي . لا والله , لا اُفارقكم حتّى يختلط هذا الدّم الأسود بدمائكم .

لقد كان جون يعلم أنّه أكرم على الحسين (عليه السّلام) من اُلوف البيض ، وإنّ الحسين (عليه السّلام) أكرم من أنْ يراه لئيم الحسب نتن الرّيح . لم يكُن جون في الواقع يخاطب الحسين (عليه السّلام) سبط محمّد مكرم الزّنوج ، بل كان يقف على ذروة من ذروات التّاريخ ليقول للادعياء المفاخرين بألوانهم وأطيابهم : إليكم هذا الذي ترونه في نظركم لئيم الحسب نتن الرّيح ، إليكم به اليوم يطاولكم شرفاً وحميّة وشجاعة ووفاء فلا تصلون إلى أخمص قدميه ؛ منكم يزيد الأبيض اللون المتحدّر من عبد مناف المضمّخ بالأطياب ، ومنكم عبيد الله بن زياد ، ومنكم شمر بن ذي الجوشن وحجّار بن أبجر وقيس بن الأشعث وعمرو بن الحجاج ، منكم قبل هؤلاء وبعد هؤلاء كثيرون وكلّهم يشعّ بياضاً ويعبق طيباً ، وكلّهم يجرّ وراءه حلقات آباء وأجداد !

اُولئك غدروا بمحمّد (صلّى الله عليه وآله) الذي أخرجهم من الظُلمات ، فداسوا تعاليمه وحشّدوا على بنيه ، اُولئك يتهيؤون الآن ليرفعوا رؤوس أبناء محمّد على رماحهم ، وهذا الزّنجي وفيٌ لمحمّد (صلّى الله عليه وآله) الذي حرّره وأكرم جنسه ، فتقدّم ليذودكم عن بنيه وبناته وتعاليمه ، وهو يتهيّأ الآن ليسفك دمه دون ذلك ، فأيّكم اللئيم الحسب ؟ النّتن الرّيح ؟ الأسود الوجه ؟ أأنتم أم هو ؟

وحقّق الحسين (عليه السّلام) رجاء جون فأذنَ له ، ومشى جون مزهوّاً ببطولته ، معتزّاً بوفائه ، يودّ لو أنّ عينَي بلال الحبشي تراه في خطواته هذه ، وأنّ زنوج الدّنيا يطلّون عليه ليروا كيف مثلّهم في موكب البطولات ، وتكلّم باسمهم على منبر التّضحيات ، وكيف شرّفهم ساعة لا شرف إلاّ للنفوس العظيمة .


الصفحة ( 281 )

لقد ضارب جون الحرّ اُولئك العبيد باعمالهم ، السّود بقلوبهم ، وكان له ما أراد ، فامتزج دمه الأسود مع أشرف دم ؛ مع دم الحسين (عليه السّلام) سبط محمّد (صلّى الله عليه وآله) ، ومع دماء أهل بيته (عليهم السّلام) . ووفّى الزّنوج لمحمّد (صلّى الله عليه وآله) الذي رفع من شأنهم وأعلى أمرهم ، وتحقّق ما أراده جون ، فلم يُنفّس عليه الحسين (عليه السّلام) بالجنّة ، ولم يبخل عليه بأنْ يثبت بإنّه كريم الحسب ، طيب الرّيح .

 

المجلس السّادس والأربعون بعد المئة(1)

مُنذ ولدت هذه المأساة ، وهي تموّن الفكر العالمي بأرفع ما وصلت إليه البطولة ، وأقصى ما بلغه الاستشهاد ، ثُمّ تموّن العاطفة بأشجى ما وصل إليه الحزن النّبيل . وبرغم القرون المتتابعة على ولادتها بقيت معانيها تتجدد في كلّ لحظة ، وبقيت مصدراً عجيباً من مصادر الوحي الغنيِّ للأقلام السّائرة في دروب الحياة إلى مُنتهى القمم الشّوامخ . من ذلك الزّمن الذي وقعت فيه إلى هذا اليوم الذي تنفصل بينه وبين يومها الأول أربعة عشر قرناً ، وهي تبدو وكأنّها على موعد مع التّجديد الرّائع في سمو المعاني وسمو الأقلام التّي يسيل في لعابها نشيد الخلود .

عظمة هذه المأساة لم تكن في اختيار الموت على الحياة ، أو مواجهة العدد القليل للعدد الهائل الكبير ، أو في الصّبر المُذهل أمام وحوش الغابات وإنْ كانت

ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) من المجالس التّي أضفناها على الطّبعة السّابقة وهو بقلم الاستاذ محمّد شرارة .

الصفحة ( 282 )

هذه المعاني فصولاً خالدة من فصولها الكثيرة ، وإنّما كانت في شيء آخر . . . كانت في ذلك التّحدي المُخيف للطغيان الأحمق والظّلم البليد والجبروت الغبي . . . نعم كانت في هذا المعنى الذي ينتصب في تاريخ الشّعوب كما ينتصب المارد الجبّار ، ويلوح كما يلوح العملاق أمام الزّرازير الجبانة .

وفي عقيدتي إنّ طُغاة الحُكم الاُموي كانوا أجهل النّاس بالأخلاق العربية العامّة ، كما كانوا أغبى النّاس في معرفة النّفس العربية البسيطة ووعي أسرارها . وقد ظنّ اُولئك الأغبياء الحمقى أنّ المال وحده كافٍ في اماتة كلّ نبل وابادة كلّ شرف ، وأنّ شراء عدد من زعماء العرب في ذلك الوقت كان في القضاء على الجوهر النّبيل الذي يشعّ في قلوب البسطاء من الجماهير الكبيرة الواسعة ؛ وبالتّالي كافٍ في القضاء على الحسين (عليه السّلام) ومدرسته القائمة على تحدّي الطُغيان والوقوف في وجهه مهما ارتفع عبابه .

وفي ظُلمة هذه الغباوة اشتروا عمر بن سعد ـ الطّامع بإمارة الرّي ـ وأماثله من الزّعماء الأذلاّء الذين تهاووا على بريق الذّهب ، كما يتهاوى الفراش على لهيب النّار ؛ وبالتّالي استطاعوا أنْ يقتلوا الحسين (عليه السّلام) وأصحابه بذلك الشّكل الذي أخرج كلّ ما في نفوس الطُغاة من نذالة وحقد وجبن ، وإسفاف وازدراء بالقيم . ولكن هل استطاعوا أنْ يقضوا على تلك المدرسة النّبيلة التّي أنشأها الحسين (عليه السّلام) ، وخلق لها بتضحيته وتضحيات أصحابه وأهله المُثل العملية العُليا ؟ الجواب معروف عند كلّ مُلمّ بالتّأريخ وحركته .

لقد ووجه الحكم الاُموي بكثير من الغضب ، وكثير من الصّفعات ، كما ووجه في كثير من الأحيان بكثير من الاحتقار ؛ وفي ذلك الحوار المُذهل الذي دار بين يزيد وزينب بنت علي (عليها السّلام) ما أشعر يزيد ـ إنْ كان عنده شعور ـ بإنّ الدّنيا مُقبلة على عاصفة , وإنّ قتل الحسين (عليه السّلام) لم يكن سوى نذير يكاد يزعزع الأرض تحته .

لقد شمت الطّاغية الأحمق بقتل الحسين (عليه السّلام) أمام اُخته ، وظنّ أنّ زينب امرأة ذليلة هانت عليها الكرامة بعد قتل مَن قُتل من أهلها وذويها ، فراح يتحدّاها


الصفحة ( 283 )

ويتحدّى الكرامة الشّامخة في تلك النّفس العظيمة التّي يجب أنْ تكون مُثلاً لكلّ امرأة كريمة . فماذا كان موقف زينب (عليها السّلام) ؟ وكيف كان ردّها على شماتة الشّامت الخسيس ؟ : وإنْ جرت عليّ الدّواهي مخاطبتك ، فإنّي لأستصغر قدرك ، وأستعظم تقريعك ، وأستكبر توبيخك .

بهذه الكلمات القليلة أجابت زينب ، ولكن أيّة كلمات هذه الكلمات ؟ وأي عوالم من التّحدي تحمل في كلّ حرف من حروفها ؟ لو عضّ يزيد الحديد في تلك اللحظة لكان ذلك أهون عليه من أنْ يسمع حرفاً واحداً منها إنْ كان عنده إحساس ؛ مهما يكن شعوره فقد أدرك بالتأكيد أنّ مدرسة الحسين (عليه السّلام) باقية وأنّها ستبقى ، وأنّ السّعادة التّي تخيّلها حائمة عليه ، أو ستحوم عليه بقتل الحسين (عليه السّلام) وأصحابه لن تكون سوى نعش له ولدولته .

وقبل زينب وقف رجل في الكوفة(1) أمامَ عبيد الله بن زياد موقفاً لا يقلّ عن موقف زينب ، ودفع حياته ثمناً لموقفه ، ثُمّ تتابع الزّمن وتتابعت المواقف الخالدة ، ومعنى ذلك أنّ يزيد فشل ، وأنّ الدّرس الذي ألقاه الحسين (عليه السّلام) على الأجيال بقي ينتقل من جيل إلى جيل ، وسيبقى على تنقُّله ما دام للكرامة قيم ، وللأخلاق مُثل عُليا .

* * *

ــــــــــــــــــــــــــ
(1) هو عبد الله بن عفيف الزّدي .

الصفحة ( 284 )

المجلس السّابع والأربعون بعد المئة(1)

خلا الجوُّ لمعاوية بعد مقتل الحسن (عليه السّلام) بالسمّ ، أمّا زياد بن أبيه فقد تكفّل بالقضاء على كلّ العناصر القيادية في العراق ، مستعملاً في ذلك أبشع الوسائل .

وفي المدينة عاشت الإرستقراطية العربية في بحبوحة من العيش , عاشت في قصور ناعمة يُجلب إليها من كلّ الأقطار وسائل التّرفيه , ويعيش في غُرفاتها القيان والعبيد ، ويجلس الأمير في حاشية من صحبه وخدمه والمتزلّفين إليه .

وكانت إرستقراطية المدينة تتكوّن أساساً من الولاة السّابقين الذين فرّوا بمال بيت المال ، أو أغدق عليهم معاوية ما شاءت له سياسته ؛ ليتقاعدوا ويكفّوا يدهم عن السّياسة ، ومن كبار المحاربين ذوي الاُعطيات الضّخمة وأصحاب الثّروات الطّائلة ، ومن أبناء هؤلاء جميعاً وأتباعهم . وستصبح المدينة بعد ذلك مكانا شاعريّاً يظهر فيها الغناء والشّعر ، والموسيقى والرّقص كأزهى ما كانت عليه مدينة في عصور الازدهار القديمة .

ومن المُمكن تصوّر كيف كانت تفكّر هذه الإرستقراطية ؛ كانت أحاديث السّياسة هي الغالبة ، وكان البحث عن مواقع القُرى ومراكز التّجمع والأنصار شغلهم الشّاغل في المدينة , كذلك كان الحسين (عليه السّلام) ظاهراً كأكثر الرّجال

ـــــــــــــــــــــــــ
(1) من المجالس التّي أضفناها إلى الطّبعة السّابقة . وهذا المجلس مع المجالس الثّلاثة التّي تليه ، بقلم الاستاذ أحمد عباس صالح .

الصفحة ( 285 )

شعبية ، وأظفرهم برضاء عامّة المُسلمين وقواعدهم , وكان هُناك أيضاً عبد الله بن الزّبير ، كما كان هناك سعد بن أبي وقاص ، كما كان هناك مروان بن الحكم قطب بني اُميّة الكبير ، كما كان هناك عبد الرّحمن بن خالد بن الوليد , وغير هؤلاء كثيرون من نفس الطّبقة أو أقلّ قليلاً .

وكلّ من هؤلاء كان يتطلّع إلى الخلافة وينظر إلى السّياسة ويُفكّر فيها من هذه الزّاوية , ووراءهم مباشرة يأتي الولاة الذين يستمدّون سُلطانهم في حكم أمصار ضخمة كالعراق ومصر وغيرهما من الإنضمام إلى هذا الفريق أو ذاك . والنّظام الفوقي للدولة يتكوّن عموماً من هذه الإرستقراطية التّي تصطرع فيما بينها على السّلطة , وتكوّن كلّ منها تجمّعات حولها في مواقع مختلفة تستفيد منها في تدعيم نفوذها , وتتربّص باللحظة المُناسبة للوثوب إلى السّلطة .

ولكن أقوى الأحزاب جميعاً هو الحزب الحاكم المنتصر ؛ حزب معاوية الذي لم يكن يملك النّفوذ فقط ، بل يملك القوّة الرّسمية الضّاربة أيضاً , وهي القوة الوحيدة المُنظّمة . وإذا كانت الإرستقراطية العربية المُقيمة في المدينة تملك المال الوفير ، فإنّ هذا المال لا يُقاس ببيت المال الذي يتحكّم فيه معاوية ، والذي يُجبى إليه من جميع الأمصار التّي تخضع لحكم الدّولة .

وفي هذا الصّراع العنيف من أهل السّلطة كثرت التجمعات ، وغلبت المصلحة على كلّ شيء ، ووصلت الأخلاق العامّة إلى أقصى درجة من الانحدار . ورأينا كيف يخرج الرّجل من ولاء إلى ولاء في سهولة ويسر ، وهو في ولائه الثّاني أكثر التزاماً من ولائه الأوّل ، ثُمّ لا يلبث أنْ ينتقل إلى ولاء ثالث بنفس القوّة على تعارض كلّ جبهة من هذه الجبهات ! وكان القتل هو أبسط الوسائل التّي يستعملها الحكّام في هذا الصّراع ، إذ كان التّمثيل بالجثث والصّلب على الأشجار ، وتقطيع الأيدي والأرجل ، وألوان العقاب


الصفحة ( 286 )

البدني المختلفة هي لغة الحديث اليومية ، أمّا الوقيعة والدّس والتّزلّف والخيانة والسّرقة والنّهب ، فهي السّمة العامّة لتلك المرحلة . وفي سبيل السّلطة لم يكن الرّجل ذو النّخوة يخجل من أنْ يثلم عرضه إذا كان في هذا منفعة .

وقُصّة زياد بن أبيه قصّة غريبة تدعو للتأمّل ؛ حيث نَسبه معاوية إلى أبيه ـ أبي سفيان ـ ليكون أخاه ، مُدّعياً أنّ أبا سفيان قد عاشر اُمّه سميّة , وهي زوجة رجل آخر ، فأنجب زياداً منها . وأغرب ما في هذه القصّة ، إنّ ادّعاء هذه الإخوّة تمّ في مجلس علني رسمي حتّى يتحقق الإدّعاء على رؤوس الأشهاد ، فلم يخجل منه زياد , موازناً بين مغانم هذه الإخوّة وبين ازداراء النّاس له , ففضّل اخوّة الخليفة على سلامة العرض . وزياد كان في أوّل أمره مع علي (عليه السّلام) . ثُمّ على يدي زياد لاقى العلويّون القتل والصّلب والتّقطيع بعد أنْ عمل لمعاوية ، وكان بينه وبين البشر ثأراً قديماً .

وزياد هو صاحب قصّة حجر المشهورة التّي قتل فيها ستّة من المسلمين الشّرفاء ؛ لأنّهم رفضوا أنْ يسبّوا عليّاً (عليه السّلام) أمام النّاس ، فهذا الإنتهازي الغريب الذي كان إلى جانب علي (عليه السّلام) كان يدعو النّاس فيأمرهم بأنْ يسبّوا عليّاً (عليه السّلام) حتّى إذا امتنعوا أوقع بهم أبشع أنواع العذاب .

وقصّة حجر وأصحابه أخذت من كتب التّاريخ الإسلامي صفحات كثيرة , فكان يؤتى بالرّجل منهم بعد أنْ يُحفر قبره أمامه ليعدل عن موقفه , فإذا أبى قُتل ودُفن في قبره المحفور . والذي فعله زياد هذا يقصر عمّا فعله بعده ولده عُبيد الله بن زياد .

على أنّ هناك حادثة اُخرى تُثير التأمّل ، وتكشف عمّا يستطيع أنْ يفعله


الصفحة ( 287 )

الطّموح إلى السّلطة بالإنسان وكرامته ، كما تستطيع أنْ تكشف عن أخلاقيّات معاوية ووجهة نظره إلى الحياة .

فهناك رجل اسمه عبد الله بن سلام كان والياً لمعاوية على العراق , تزوّج من امرأة هي اُرينب بنت إسحاق ، وقيل : إنّها كانت أجمل امرأة في عصرها ، وإنّ يزيد بن معاوية رآها فأحبّها حتّى أمرضه الحبُّ ، وعرف معاوية بهذه القصّة وأنّ المرأة امتنعت على ولده ، ففكّر في أنْ يُطلّقها من زوجها ليزوّجها من يزيد . فأرسل معاوية إلى عبد الله بن سلام فاستدعاه , وعندما جاء قرّبه إليه ثُمّ فاتحه في أنْ يزوّجه من ابنته , فما كان من الرّجل إلاّ أنْ طار فرحاً , ولكنّ معاوية عاد فقال : إنّه لا ينبغي أنْ يجمع إلى زواجه من ابنته زوجة اُخرى . ولم يُفكر عبد الله بن سلام إلاّ قليلاً , فطلّق امرأته اُرينب , وبعد الطّلاق فوجئ بإنّ ابنة معاوية ترفض زواجه , وأنّ معاوية رجل مُتحضّر يرفض أنْ يُرغم ابنته على زواجٍ تأباه .

أمّا اُرينب فقد رفضت طلب رسول معاوية ، وإنقاذاً للموقف سارع الحسين (عليه السّلام) بزواجها ، حتّى اذا رجع عبد الله بن سلام خائباً ردّها الحسين (عليه السّلام) دون أنْ يقربها .

مثل هذه القصّة تكشف عن المدى الذي وصلت إليه أخلاق النّاس ، وكيف استطاع الحُكم أنْ يُفسد هذه الأخلاق حتّى يهبط بها إلى هذا المستوى ! وسنجد أنّ الأخ يخذل أخاه ، والابن يعقُّ أباه ، وأنّ الخوف والطّمع هُما المُحرّكان الأساسيان في هذا المُجتمع .

وفي هذا الجوِّ المُخيف من انهيار القيم , فكّر معاوية في أنْ يورّث الخلافة في بيته ، ولم ينقضِ نصف قرن على الإسلام .

وتروي الكتب القديمة : أنّ معاوية قد اُوحي إليه بهذه الفكرة من أحد الدّهاة المُتزلّفين هو المغيرة بن شعبة ، وكان الخليفة قد غضب عليه في أمر من الاُمور ،


الصفحة ( 288 )

فاراد أنْ يشتري رضاءه بهذه الزّلفى ، وأنْ يضيف إليها إسهامه في انتزاع البيعة من الولاية التّي يحكمها .

ومثل هذه الرّواية لا تستبعد في هذه الظّروف ، والواقع يؤكدها ؛ فقد انتهى الأمر فعلاً إلى خلافة يزيد بن معاوية . ولكنّ الغريب أنّ يزيد هذا كان سكّيراً عربيداً متبطّلاً ، وقصّة غرامه باُرينب بنت إسحق تكشف عن طبيعته المتبطّلة المتفسّخة ، وأنّها لجرأة في النّفاق من المغيرة بن شعبة هذا أنْ يقترحه على معاوية خليفة للمسلمين ! وبدأ معاوية يعمل لتنفيذ الفكرة ، غير عابئ بردّ الفعل الخطير الذي سيحدثه في الرّأى العام للمسلمين ، فما من مسلم إلاّ ويعلم سيرة يزيد ، وما من مسلم إلاّ ويرفض أنْ يتحوّل الإسلام إلى كسروية أو قيصرية . ومع ذلك فقد فُرض يزيد خليفة على المسلمين وبويع بالخلافة في عهد أبيه !

ولسنا في حاجة إلى تقصّي قصّة هذه البيعة , ولا ما قيل من روايات كثيرة عن الاُسلوب الإرهابي الذي اتبعه معاوية , إلاّ أنّ الواضح أنّ الشّعب كان في وادٍ والسّلطة في وادٍ آخر . وحين يحكم السّيف ، تضيع الكرامة ويستسلم النّاس ويستدعون من أنفسهم كلّ الكوامن الخبيثة ؛ ليعايشوا السّلطة القاهرة بأسلحة من طباعها .

 

المجلس الثّامن والأربعون بعد المئة

في بعض فترات التّاريخ يبدو الواقع حادّاً شديد الحدّة ، فيُخيّل للإنسان الذي يُعايش هذا الواقع أنّ كلّ ما قرأه عن القيم الخيّرة ، والنّزوغ البشري إلى الخير ، إنْ هو إلاّ أوهام كتّابٍ حالمين لم يصطدموا بالواقع ، فعند احتدام هذا الواقع لا يستطيع الإنسان أنْ يُميّز بين الخطأ والصّواب .


الصفحة ( 289 )

وحين ينتصر الباطل في أفضع صوره ، في موقعة إثر موقعة ، ويكتسح الحكم الإرهابي أمامه كلّ العقبات ، يحدث ما يشبه الوباء العام ، وتصبح أغلبية النّاس جبناء وانتهازيين ، وقتلة ومُجرمين حتّى يصعب تصديق أنّ الطّبيعة الإنسانيّة تحتوي على أي أساس يمتّ للخير بصلة .

إنّ نفوس النّاس تنهار واحدة إثر الاُخرى ، والعدوى تنتقل انتقال الوباء المستشرى ، وتفقد البشرية إحساسها بالكرامة ، وكأنّها هي تحكُم على نفسها بالانّّحطاط إلى أبعد مدى ، تعاقب نفسها بما ترتكبه من آثام . وليست بعد ذلك صراعاً بين قوى ظالمة وقوى مظلومة ، إنّما هي في الواقع صراع بين القيم الإنسانيّة العُليا والقيم السّفلى .

ومهما تلبس القوى المُتحكّمة تصرفاتها من أردية المنطق والعدالة والسّياسة ، فإنّها في الواقع تنخر في صميم الكيان البشري ، وتوشك أنْ تودي بهذا الكيان إلى الفناء . وكلّ سلطة متحكّمة ترى دائماً ـ إلى جانب السّيف والمال ـ مفكريها الذين يفلسفون التّسلط ويبررونه ، ولقد كان معاوية يُردّد كثيراً : ( يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ )(1) . وكأنّ مُلكه قدر إلهي ، وأنّ هذا القدر قد اختاره ؛ وبناء على ذلك فكلّ سلوك له يستمد شرعيته من هذا الاختيار !

ولنا أنْ نعجب وندهش من تلك الآراء التّي تعبّر عن نفسها بوقار العلم والموضوعية ، وبمنطق حتمية التّأريخ ، لتصور المرحلة على أنّها مرحلة بناء الدّولة وأنّ معاوية كان رجل دولة ، وفي سبيل هذا البناء التزم سياسة واقعية بارعة في مقابل سياسات خيالية اتّبعها خصومه من أصحاب الدّعوة إلى العدل الاجتماعي والكرامة الإنسانيّة !

وكثير من هؤلاء المؤرّخين يرون : أنّ منطق التّطور من الوضع القبلي إلى الدّولة

ــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة البقرة / 247 .

الصفحة ( 290 )

المركزيّة هو الذي يبرّر كلّ ما حدث من جرائمٍ لإنشاء هذه الدّولة ، ومع ذلك فالدّولة لم تُعمّر بعد ذلك إلاّ ستّين عاماً ، ولم تلبث أنْ انهارت انهياراً كاملاً .

كان ( صن بات صن ) الزّعيم الرّوحي للصين الحديثة يقول عقب كلّ فشل لثورته الوطنية : هذا هو فشلنا الرّابع أو الخامس أو العاشر . . . إلى آخر سلسلة الفشل التّي تعرّضت لها الثّورة الصّينية قبل أنْ تنتصر . والواقع أنّ تأريخ البشرية جميعاً هو سلسلة من الثّورات الفاشلة ؛ حتّى تتحقّق ثورة ناضجة لا تلبث هي الاُخرى أنْ تتجمّد أو تُغتصب لتظهر ثورات اُخرى تُتابع في فشلها حتّى يتحقّق النّصر الحاسم . والثّورة ليست سابقة لأونها أبداً ؛ فالشّرارة الاُولى هي دائماً الإعلان الحاسم بوجوب نقلة اُخرى ، وهذه النّقلة قد تُنتظر طويلاً حتّى تتحقّق ، ولكن دون أنْ تظهر هذه الشّرارة فإنّ الثّورة لا تولد ، بل تصبح في حكم العدم .

والثّورة ليست مجرّد تغيير تُنشده وتعمل له مجموعة مقهورة لتلقي قهرها وتسترد حقوقها ؛ بل هي أعمق من هذا ، إنّها طريق في سلّم التّطور الأخلاقي للمجموعة البشرية , وهذا السلّم يبدأ من السّلوك الفردي في أبسط صوره إلى السّلوك الجماعي للاُمّة والإنسانيّة بشكل عام . وكان الصّراع من أجل توزيع الثّورة هو ذريعة قانون التّطور للوصول إلى مُستوى أخلاقي أعلى للمجموعة البشرية ؛ وآية ذلك إنّ قادة الثّورات لا تُحرّكهم إلى الثّورة ضغوط الحرمان أو القهر وحدها ، بل قيم إنسانيّة أعلى من القيم السّائدة ؛ بل إنّ هؤلاء القادة غالباً ما يكونون واقعين تحت ضغوط غير مادّية ، بل لعلّهم في الأغلب لا يُعانون من أي ضغط أو حُرمان مادّي .

 إنّ التركيبة النّفسية لقادة الثّورة تتناقض مع القيم الأخلاقيّة السّائدة في مجتمعهم ، فهم يحسّون بدوافع قويّة للدفاع عن المُثل التّي اُهدرت , ويشعرون باختلال الطّريق البشري إلى الارتقاء الرّوحي , وأنّهم ينذرون لإعادة


الصفحة ( 291 )

الجماعة الإنسانيّة إلى الطّريق السّوي .

وكثيراً ما يكون القائد الثّوري محكوماً عليه بالإندفاع في طريق الثّورة ؛ بحيث لا يملك التّراجع حتّى ولو أراد . إنّ طبيعته تدفعه إلى الثّورة حتّى لحظات الخطر الماحق والعذاب الرّهيب . ولسنا ندري لماذا يختار البطل الثّوري الجانب الخاسر في اللحظات الحاسمة حين يكون الإختيار بين أمرين : التّراجع الآمن ، والعذاب المحقّق ؟ وكما ينطبق هذا على الثّائر القائد ينطبق على الثّائر الجندي .

وعلى المشانق والمقاصل والصّلبان ، وفي حجرات التعذيب الحديثة والقديمة يظهر هذا الجنون المصمّم المنتحر ؛ وهو جنون يُقابل جنوناً من نوع آخر , جنون السّلطة الذي يُجافي كلّ قيمة من القيم الإنسانيّة ، جنون وحشي مصمّم يثير من الدّهشة ما يثيره من ثبات الثّائر وإصراره .

وأروع لحظات الاستشهاد لا تظهر إلاّ في لحظات الإنحدار الرّوحيّة الشّديدة , وكأنّ المجموعة البشرية تطلق كلّ امكانياتها في هذه اللحظات الشّديدة الخطورة ، عندئذٍ يصبح الصّراع الطّبقي مُجرّد ذريعة لتتخطّى البشرية هوّة الإنحدار الأخلاقي . وأمامنا الكثير من قصص الغدر والخيانة والتّوحش في تلك الفترة , لتدلّنا على مدى ما وصل إليه الإنهيار الأخلاقي في تلك الفترة التّي عزم فيها الحسين بن علي (عليه السّلام) على التّصدي للنظام .

فلقد رأى الحسين (عليه السّلام) كيف تخاذل الأنصار عن أبيه (عليه السّلام) ، ورأى ضعف النّاس إزاء السّلطة والإغراء ، ورأى غير ذلك من الحوادث الغريبة التّي تشكك الرّجل في نفسه ، ومع ذلك خرج الحسين (عليه السّلام) وهو يحسب أنّ النّاس ما زالوا يطلبون العدل الإجتماعي ، وأنّه من الطّبيعي أنْ ترفض الكرامة البشرية أنْ يُفرض عليها حاكم


الصفحة ( 292 )

سكّير عربيد في مجتمع يعتبر السّكر والعربدة معصية تستوجب عقاب الله والمُجتمع .

والحسين (عليه السّلام) من اللحظة الاُولى قد اختار دوره ، أو على الأصح قد اختاره دوره ، فطبيعته ترفض كلّ ما يحدث ، وهي ترفضه لحد الأزمة . إنّ السّيف والإرهاب يُطالبانه بالبيعة ليزيد فلا يُبايع ويأوي إلى مكّة . وفي مكّة يتقاطر حوله النّاس يدعونه إلى الخروج وطلب البيعة ، ولو لم يطلب إليه النّاس ذلك لكان قد خرج أيضاً أو لمات قهراً ، فإلى جانب الذين حضّوه على الخروج كان هناك الذين يحضّونه على ايثار السّلامة ، وكانوا من أخلص النّاصحين له ، ومع ذلك لم يقبل السّلامة .

جاءته الكتب من العراق بأنّه لو وفد عليهم لبايعوه ، فاتّخذ هذه الكتب ذريعة ليلعب دوره المقدور عليه . أرسل ابن عمّه مُسلم بن عقيل إلى أصحاب هذه الكتب يستطلع الأمر ، واستُقبل مُسلم استقبالاً حسناً ، ولم يملك الوالي هُناك أنْ يتصدى له ، بل كلّ ما فعله هو النّصح . فما إنْ علم مُستشارو الخلافة الدّهاة بموقف الوالي حتّى اقترحوا عزله وتعيين عُبيد الله بن زياد بن أبيه مكانه , فجاء عبيد الله هذا ، وهو النّموذج المُقابل لمُسلم وللثّوار ، رجل السّلطة الذي تحكمه طبيعته أيضاً ليوغل في الإثم إلى الدّرك الأسفل .

ونشبت المعركة سجالاً بين الجُبن والشّجاعة ، وبين اللؤم والنّبالة ، فهو يفرّ من وجه الجماهير ويحتمي بالقصر ، ثُمّ يظهر في صورة الجبّار حين تتفرّق الجماهير ، ويخلف العهد ويغري بالمال ويغري بالسّلطة ، ويستعمل سلاح الإرهاب والتخويف حتّى يستطيع أخيراً الظّفر بمُسلم فيقتله قتلة شنعاء ، ويُلقي بجثّته من أعلى القصر .

وتأتي كُتب مُسلم إلى الحسين (عليه السّلام) بأنّ عشرات الاُلوف ينتظرونه لمبايعته ، ويتحرك الحسين (عليه السّلام) فيبلغه ما حدث لمسلم ، وبدلاً من أنْ يتراجع مؤثراً السّلامة يُقرّر المُضي إلى العراق ؛ مُحتجّاً لنفسه ولأهله ونفره القليل بأنّه حين يدخل العراق سيلتفّ النّاس حوله ، وكان يعني أنّ وجوده بينهم سيقضي على خوفهم وتخاذلهم ويردّهم


الصفحة ( 293 )

إلى آدميتهم ، وهو بذلك يُحدّد دوره ؛ أنّه بعث الرّوح من جديد ليس أكثر .

ويمضي الحسين (عليه السّلام) وليس معه إلاّ سبعون رجُلاً ونساؤه وأطفاله ، وفي هذه اللحظة يكون الحسين (عليه السّلام) قد أدرك الموقف كلّه ، فهو يعلم أنّ جيوش عُبيد الله بن زياد قد تعترضه ، بل هي تعترضه قطعاً ، وعندئذٍ تكون النّهاية .

ولكن الحسين (عليه السّلام) كان يعلم أنّه لا بُدّ من فدية شخصيّة ، فدية تتوهّج بالدّم ، وكان هو الوحيد الذي يملك أنْ يتقدّم كفدية تهزّ الضّمير ـ شبه الميّت ـ في قلب الاُمّة .

 

المجلس التّاسع والأربعون بعد المئة

إنّ أمر الحسين (عليه السّلام) ليس حنكة سياسية وليس غفلة سياسية ، ليس واقعية اورومانتيكية ، إنّه أمر واضح تماماً يرتفع عن مستوى الغفلة أو الخيال . أذكى وأشرف رجل في عصره يقدّم نفسه ليوغل فيه أعداء القيم العليا ما شاء لهم انحدارهم ، كآخر ما يستطيع أنْ يصل إليه الشرّ ، فتكون الصّرخة التّي توقظ ضميراً خربوه بكلّ الوسائل .

وهكذا مضى الحسين (عليه السّلام) في طريقه إلى العراق ، فتخاذل عنه مَن تخاذل ، واختفى حوله صغار النّاس الذين ساروا في موكبه أول الطّريق حين علموا بخروجه إلى البيعة . لم يمضِ معه إلاّ هؤلاء الذين تمثّلت فيهم الثّورية بمعناها العميق ، ثورية التغيير الجذري للقيم ذاتها .

وتبلورت القوى الثّورية هُنا في هذه الجماعة الصّغيرة التّي تقطع الصّحراء ، مُتحدّية مُصمّمة ، ليس لها من أمل إلاّ في أنْ تعدى النّاس بالثّورة وإنْ تعدى بالذّات تلك الجيوش التّي قد تقطع عليها طريقها إلى العراق ، وهذا الأمل هو الذّريعة التّي يتذرّع بها الحسين (عليه السّلام) ليُحقق هدفه ، وهو الشّهادة في أكمل صوره .


الصفحة ( 294 )

وفي الطّريق يسأل (عليه السّلام) مجمعاً بن عبيد العامري ويجيبه : أمّا أشراف النّاس ، فقد اُعظمت رشوتهم ومُلئت فرائرهم ، فهم ألب واحد عليك ؛ وأمّا سائر النّاس فإنّ قلوبهم تهوي إليك ، وسيوفهم غداً مشهورة عليك .

وفي هذه الجملة تلخيص ذكي للقوى القائمة ، فكُبراء النّاس , هؤلاء الذين يملكون الثّروة ، لم يعد يهمّهم في شيء أنْ يخرج حفيد النّبي ، بل لعلّ خروجه يهمّهم من زاوية اُخرى ؛ وهو أنّ هذا الحفيد يُريد أنْ يُغيّر مراكز القوى , وأنْ يُعيد توزيع الثّروة ، وأنْ يمضي في نفس الطّريق الذي مضى فيه أبوه (عليه السّلام) ، فهو من هذه النّاحية عدو طبقي لا يُهمل خروجه في طلب البيعة ، إنّه الحسين بن علي ، ابن فاطمة الزّهراء ابنة رسول الله (عليهم السّلام) ، والسّلطة قوية ولتفعل ما تشاء .

ولكن السّلطة ليست بهذه البلاهة ، إنّها لا تُلقي بدمّ الحسين (عليه السّلام) على عاتقها وحدها , فمَن أراد أنْ يُدافع عن ثروته ، وعن مركزه الإجتماعي فليشترك في دمّ الحسين (عليه السّلام) . وسنرى أنّ رجالاً من هذه الطبقة اُهيب بهم أنْ يشتركوا في قتل الحسين (عليه السّلام) , وكانوا بين خوف من غضب السّلطة والشّك في ولائهم للمصلحة الطّبقية الواضحة ، وبين أنْ يأثموا بدمّ الحسين (عليه السّلام) . على أنّ الأمر لم تكن له هذه الخطورة ؛ فمن قبل قُتل علي (عليه السّلام) نفسه ، ومن بعده قُتل الحسن (عليه السّلام) مسموماً ، كما قُتل محمّد بن أبي بكر .

إنّ الإحساس بالإثم كان إحساساً هيّناً يمرّ بالخاطر مرّاً سريعاً , ولولا أنّ الحسين (عليه السّلام) بالذّات تربّى في حجر النّبي ، ولولا أنّه رجل يُمثّل الصّورة المُثلى للإسلام ، لما مرّ مثل هذا الخاطر بأحد . ومن النّاحية الاُخرى فإنّ سائر طبقات الشّعب قد بلغ بها القهر والشّك والخوف ما يجعلها تتردّد ألف مرّة في الثّورة ، وفي العراق بالذّات كان الرّجل يؤخذ بمجرد الشّبهة ، وسيرة زياد بن أبيه لم تُنسَ بعد ، فقد خطب فيهم خطبة خطيرة وردَ فيها أنّه سيأخذ البريء بالمُسيء .

لاقى شعب العراق صنوفاً من الضّغط لم يلقها شعب آخر ، جيلاً وراء جيل ،


الصفحة ( 295 )

فكيف كان يُمكن لهذا الشّعب المطعون أنْ يهب لمُساندة الحسين (عليه السّلام) والخوف يقضي على كلّ كرامة ، وقد استطاع الحُكم الاُموي أنْ يزرع الخوف وأنْ يجعله القوت اليومي للشعب العراقي ؟! وبهذه الصّورة لم يكن لخروج الحسين (عليه السّلام) إلاّ معنى واحد هو الشّهادة .

وأي سياسي آخر غير الحسين (عليه السّلام) كان يستطيع تقدير الموقف ، وأنْ يتراجع في الوقت المُناسب ، أو يرى طريقاً آخر للكفاح ؟ أمّا التراجع ، فقد كانت فرصته أمامه حين شارف أرض العراق وجاءته أنباء مقتل رسوله مُسلم بن عقيل وانفضاض النّاس من حوله ؛ ومع ذلك فقد استمع باهتمام إلى واحد من صحبه يقول : ما أنت مثل مسلم بن عقيل ، ولو قدمت الكوفة لكان النّاس إليك أسرع .

واقتنع الحسين (عليه السّلام) ، لم يفكّر ولم يتدبّر موقفه . أكان ذلك عن سوء تدبير ؟ لا يستطيع أحد أنْ يحكم هُنا بسوء تدبير الحسين (عليه السّلام) ؛ فهو مُنذ تحرّك من مكّة كان يعلم أنّ الوضع قد بلغ الحدّ الذي يدفع إلى المواجهة إلى القتال الصّريح مهما تكن القوّة التّي تُجابهه ؛ وقد تأكّد له الموقف بعد ذلك حين أرسل قيساً بن مسهر الصّيداوي فقُتل هو الآخر ، ثُمّ عاد فأرسل عبد الله بن يقطر فاُلقي من شُرفات القصر .

أيّ شيء إذن كان يتوقّعه ؟! إنّه يلحّ في الإتصال بالشّعب ، فقد وضع أمله فيه وإنْ لم يستطع الاتصال به عن طريق الكتب ؛ إذ كان رُسله يُقتلون واحداً بعد الآخر ، فليس هُناك إلاّ أنْ يتصل بهم بحدث يُزلزل كيانهم . أهذا كان تفكير الحسين (عليه السّلام) ؟

ليس من الضّروري أنْ تكون هذه الفكرة واضحة في الذّهن ، يكفي أنْ


الصفحة ( 296 )

تكون هي الموجّه لكلّ تصرّف ، وجميع تصرّفات الحسين (عليه السّلام) تؤكد أنّ مثل هذه الفكرة وراءها .

لم يكن أمامه إلاّ أنْ يتراجع ، وكان له أكثر من مُبرّر للتراجع ؛ فهؤلاء الذين كتبوا إليه يستقدمونه انفضّوا عن رسوله حتّى قُتل . وها هو ذا يرسل رُسلاً آخرين فلا يكون حظّهم خيراً من حظّه . فلماذا لم يتراجع ؟ إلاّ أنّه كان عليه عندئذ أنْ يمنح البيعة ليزيد ، وكانت هذه في رأيه أكبر الكبائر .

أيعتكف في حرم الكعبة ؟ وهل كان ليزيد أنْ يتحرّج عن قتله في قلب الحرم ؟

ليس أمامه إلاّ أنْ يمضي في طريقه , فهو يعلم تماماً أنّ ظهوره أمام الشّعب سوف يجمعهم حوله ، يعلم كيف يُحدّثهم وكيف ينزع الخوف من قلوبهم ، ولكن كيف يصل إلى مداخل العراق وعبيد الله بن زياد يرصد له الجيوش الآن ؟

إنّ الموقف لا يصعب تقديره على الرّجل العادي ، ومن المؤكّد أنّ الحسين (عليه السّلام) كان محيطاً به من كُلّ جوانبه ، وربّما خالجه ظنّ بأنّ أيّ جيش سيعترض طريقه لا يلبث أنْ يلين له حين يُخاطبه فيُزيل الغشاوة عن عينيه . هذا خاطر لازمه مع خاطر آخر لم يُفارقه ، وهو أنّه مقتول بغير شك ؛ إذ كان يُردّد أنّ الموت كُتب على ابن آدم . . .

كان يضع موته في كفّة وثقته في النّاس في كفة ، فهو لم يفقد الثّقة في الجوهر الكامن في النّفس الإنسانيّة ؛ ذلك الجوهر النّازع إلى الإرتقاء الرّوحي .

ومرّة اُخرى لم يتراجع الحسين (عليه السّلام) بل مضى في طريقه .

 

المجلس الخمسون بعد المئة  

لم يكد الحسين (عليه السّلام) يمضي إلاّ قليلاً حتّى التّقى ـ عند جبل ذي حسم ـ بجيش من ألف فارس يقوده الحرّ بن يزيد ، وهو أحد الأشراف الذين أشار إليهم مجمع بن عبيد


الصفحة ( 297 )

العامري ، بل سنرى أيضاً أنّ اختيار الرّجال الذين سيحاربون الحسين (عليه السّلام) تم بدقّة حتّى تتبلبل أفكار الشّعب ؛ فالقائد الذي قاتل الحسين (عليه السّلام) في معركته الأخيرة كان عمر بن سعد بن أبي وقاص ، ابن صحابي كبير .

ماذا يقول الشّعب عندئذ ؟ ابن علي بن أبي طالب يُقاتله ابن سعد بن أبي وقاص ؟!وأنّه لأمر مُثير للدّهشة أنْ يأتمر عمر بن سعد بن أبي وقاص بأوامر عبيد الله بن زياد ، ابن فاتح فارس وصحابي رسول الله ، يأتمر بامر ابن زياد مجهول الأب ، المشكوك في نسبه !

بل إنّ عمر لا يأتمر بامر عبيد الله فحسب ، بل يتملّق ويُدهن إليه ! فحين جيء بمُسلم بن عقيل بين يدي عبيد الله ، طلب مُسلم أنْ يفضي بكلمة إلى عمر ، وتقدّم إليه عمر ، فهمس مُسلم في اُذنه مُناشداً قرابته أنْ ينفذ وصيته التي سيفضي بها إليه ؛ وهي أنْ يردّ دَيناً عليه قد اقترضه من رجل بالكوفة ، فيبيع سيفه ودرعه ويوفي دينه ، وأنْ يرسل إلى الحسين (عليه السّلام) مَن يمنعه من المجيء ؛ مُصححاً رسالة سابقة بأنّ النّاس معه .

إنّ عمر بن سعد بن أبي وقاص لم يكتُم السرّ الأخير ، بل بادر فأفشاه لعبيد الله بن زياد ! إلى هذا المدى فقد أعاظم الرّجال كرامتهم ! فإلى أي مدى فقد الشّعب المقهور هذه الكرامة ؟

وتقدّم الحرّ بن يزيد ، فقال للحسين (عليه السّلام) أنّه اُمر بأنْ يقدم به على عبيد الله بن زياد . لم يجبه الحسين (عليه السّلام) ، بل أمر مؤذّنه أنْ يؤذّن لصلاة الظّهر ، ثُمّ خطب الجميع ؛ أصحابه وخصومه على السّواء ، أو خصومه بوجه خاص : (( أيّها النّاس , إنّي لم آتكم حتّى أتتني كتبكم ورسلكم أنْ اقدم علينا فليس علينا إمام ، لعلّ الله يجمعنا بك على الهُدى والحقّ . فقد جئتكم ، فإنْ تعطوني ما اطمئنّ إليه من عهودكم ومواثيقكم أقدم مصركم ، وإنْ لم تفعلوا ، أو كنتم لقدومي كارهين ، انصرفت عنكم إلى المكان الذي أقبلت منه )) .


الصفحة ( 298 )

وكانت لحظة صمت جماعية لا يدري أحد ما جرى في أذهانهم ، ولعلّهم كانوا جميعاً يودّون لو يُقاتلون من أجله ، ولكن الخوف والمصلحة وكلّ عروض الدّنيا كانت تقف دون ذلك .

عندئذٍ التفت الحسين (عليه السّلام) وقال للمؤذّن : (( اقم الصّلاة )) . ثُمّ التفت للحرّ بن يزيد وسأله : (( هل يُصلّي كلّ فريق على حِدة ؟ )) . فقال الحرّ : بل نُصلّي بصلاتك .

وانتهت الصّلاة خلف الحسين (عليه السّلام) , وبدأ ركب الحسين (عليه السّلام) يتّجه وجهته ، وبدأ الحرّ يتعقّبه ، وكلّما اتجه وجهة اُخرى , حاصره وردّه إلى طريق الكوفة . وأخيراً وقف الحسين (عليه السّلام) مرّة اُخرى يعظهم : (( أيّها النّاس , إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال : مَن رأى سُلطاناً جائراً ؛ مُستحلاً لحرم الله ، ناكثاً لعهد الله ، مُخالفاً لسنّة رسول الله ، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان ، فلم يُغيّر ما عليه بعمل ولا قول كان حقّاً على الله أنْ يدخله مدخله . ألا وأنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشّيطان وتركوا طاعة الرّحمن ، وأظهروا الفساد ، وعطّلوا الحدود ، واستأثروا بالفيء ، وأحلّوا حرام الله وحرّموا حلاله . وأنا أحقّ من غيري وقد أتتني كُتبكم ورُسلكم ببيعتكم ، وأنّكم لا تُسلّمونني ولا تخذلونني ؛ فإنْ بقيتم على بيعتكم ، تصيبوا رشدكم ، وأنا الحسين بن علي ، ابن فاطمة بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، نفسي مع أنفسكم وأهلي مع أهلكم فلكم فيّ اُسوة ، وإنْ لم تفعلوا ونقضتم عهدي وخلعتم بيعتي ، فلعمري ما هي لكم بنكير ، والمغرور من اغترّ بكم ؛ فحظّكم أخطأتم ونصيبكم ضيعتم . ومَن نكث فإنّما ينكث على نفسه ، وسيغنيني الله عنكم )) .

ولكن الخطبة أعقبها صمت تام ، ثُمّ تقدّم الحرّ يُحذّره بأنّه إذا قاتل فسيُقتل . فصاح فيه الحسين (عليه السّلام) : (( أبالموت تخوفني ؟ )) . واصطبر الحسين (عليه السّلام) ومضى ، والحرّ وراءه يمنعه كلّما ابتعد عن طريق الكوفة ، والحسين (عليه السّلام) يرفض أنْ يبدأ بالقتال . وأخيراً ظهرت طلائع جيش جديد من أربعة الآف رجل مع رأسهم عمر بن سعد بن أبي وقاص لا أحد غيره ، وانتهى الأمر بين الطّرفين إلى أنْ حُصر الحسين (عليه السّلام)


الصفحة ( 299 )

وصحبه في كربلاء ، وبدا أنّ الحرب لا بدّ أنْ تقع ؛ فبعد قليل وصل شمر بن ذي الجوشن ليكون رقيباً على عمر بن سعد بن أبي وقاص إذا تخاذل . وهُنا جمع الحسين (عليه السّلام) أصحابه ، وقال لهم : (( لقد بررتم وعاونتم ، والقوم لا يريدون غيري ، ولو قتلوني لم يبتغوا غيري أحداً ؛ فإذا جنّكم الليل ، فتفرّقوا في سواده وانجَوا بانفسكم )) .

ولم يقبل واحد منهم أنْ يترك الحسين (عليه السّلام) ويهرب بحياته . ويعود الحسين (عليه السّلام) فيلحّ في هذا ، فلا يخرج من معسكره رجل واحد . وكانوا سبعين رجلاً بازاء خمسة آلاف رجل .

عرض عمر بن سعد التّسليم فرفض الحسين (عليه السّلام) ، بل الاحتكام إلى الشّعب . وحُصر الحسين (عليه السّلام) وصحبه عند كربلاء بعيداً عن الماء ؛ حيث يحميه جيش عمر بن سعد ، واشتدّ الظّمأ بالأطفال والنّساء ، وحمل الحسين (عليه السّلام) ولده عبد الله ليسقيه بنفسه ظانّاً أنّ وجوده ومعه الطّفل قد يمنع مُحاصريه من إيذائه ، ولكنّهم رشقوا الطّفل بسهم فسقط صريعاً بين يدي أبيه (عليه السّلام) . وتمالك الحسين (عليه السّلام) أمام هذا كلّه نفسه ، فإلى آخر لحظة كان يأمل في أنْ يبعث الرّوح في هذه الضّمائر الميتة .

وتقدّم الحسين (عليه السّلام) يخطب الجيش ، وهو في رداء النّبي (صلّى الله عليه وآله) ، فإذا بالجيش يحدث من الضّجيج والضّوضاء ما يُغطّي على كلامه ، ولم يتراجع الحسين (عليه السّلام) بل ظلّ صامتاً حتّى هدأت ضجّتهم ، ثُمّ انفجر قائلاً : (( أنسبوني من أنا ؟ هل يحلّ لكم قتلي وانتهاك حُرمتي ؟ ألسّت ابن بنت نبيكم ؟ أو لم يبلغكم ما قاله رسول الله لي ولأخي : هذان سيّدا شباب أهل الجنّة . ويحكم ! أتطلبونني بقتيل لكم قتلته أو مال لكم استهلكته ؟ )) .

وقد أحدثت هذه الكلمات أثرها كالسّحر ، وبدأت الرّجال من جيش عمر بن سعد تنضمّ إلى جانب الحسين (عليه السّلام) ، وكان أوّلهم الحرّ بن يزيد . وكان الموقف خطيراً ، فلو انتظر عمر قليلاً لانفرط الجيش كلّه ، كما أنّه خشي الرّقباء أنْ يبلغوا يزيد بما حدث ، فما كان إلاّ أنْ تناول سهمه ورمى به جماعة الحسين (عليه السّلام) وهو يصيح : اشهدوا لي عند الأمير أنّني أوّل من رمى الحسين .


الصفحة ( 300 )

وهكذا بدأ القتال في توتّر وسرعة لا تُتيح لكلمات الحسين (عليه السّلام) أنْ تفعل أثرها .

وقاتل الحسين (عليه السّلام) وصحبه قتالاً مجيداً حتّى سقطوا جميعاً ، وسقط الحسين (عليه السّلام) مُثقلاً بجراحه ؛ مُصاباً بمئة وعشرين طعنة . ثُمّ تقدّم شمر بن ذي الجوشن فاحتزّ رأسه ، ثُمّ وطؤوا جسده الشّريف بخيولهم حتّى رضّوا ضلوعه ومثّلوا به أشنع تمثيل ، وحملوا الرّؤوس ومضوا بها على أسنّة الرّماح إلى عبيد الله بن زياد ، ثُمّ إلى يزيد بن معاوية . وبذلك انتهت أوّل جولة للعدل مع الظّلم ، انتهت باروع استشهاد وأعظم بطولة .

وكانت شهادة الحسين (عليه السّلام) أعظم انتصار للثورة ؛ لأنّها تغلغلت في الضّمير العربي والإسلامي ، وأحيت الضّمائر التّي خنقها الإرهاب ؛ لتسقط بعد ذلك بستين عاماً ـ فقط ـ دولة بني اُميّة .

تمّ الجزء الثّاني من كتاب المجالس السَّنيّة في مصائب العترة النّبوية ، ويليه الجزء الثّالثّ , وكان الفراغ منه أوّلاً في أوائل سنة ألف وثلثمئة وأربعين بمدينة دمشق الشّام ، صانها الله من طوارق الحدثان , ووافق الفراغ من إعادة النّظر فيه ثانياً عند إرادة تمثيله للطبع هذه المرة , وتغيير بعض ترتيبه والزّيادة عليه والإنقاص منه مُنتصف ليلة الأحد الحادية والعشرين من شهر شوال المُبارك عام 1353 ، بقرية شقراء من جبل عامل ، حماه من الغوائل , ونسأله تعالى أنْ ينفع به المؤمنين ، ويحشرنا في زمرة محمّد وآله الطّاهرين صلوات الله عليه وعليهم أجمعين . وكتب بيده الفانية مؤلفه الفقير إلى عفو ربّه الغني محسن ابن المرحوم السيّد عبد الكريم الأمين الحسيني العاملي نزيل دمشق ، تجاوز الله عن سيئاته ، حامداً مُصليّاً مُسلّماً .

 
الصفحة السابقةالفهرسالصفحة اللاحقة

 

طباعة الصفحةبحث