المجلس الخامس والثّلاثون بعد المئتين
روى الطّبرسي في الاحتجاج عن ثابت البناني ، قال : كنتُ
حاجّاً وجماعة عبّاد
البصرة , فلمّا أنْ دخلنا مكّّة
رأينا الماء ضيّقاً وقد اشتد بالنّاس العطش
لقلّة الغيث , ففزع إلينا أهل مكّة والحجّاج يسألوننا أنْ نستسقي لهم , فأتينا
الكعبة وطفنا بها ، ثمّ سألنا الله خاضعين متضرّعين بها , فمنعنا الإجابة
, فبينا نحن كذلك إذا نحن بفتى قد أقبل ، قد أكبرته أحزانه وأقلقته أشجانه
, فطاف بالكعبة أشوطاً ثمّ أقبل علينا , فقال :
(( يا مالك بن
الصفحة ( 273
)
دينار ، ويا
ثابت البناني ، ويا
أيوب السّجستاني ، ويا
صالح المُرّي ، ويا عُتبة
الغلام ، ويا حبيب الفارسي ، ويا
عمر ، ويا صالح ، ويا
رابعة ، ويا سعدانة ، ويا جعفر بن سُليمان )) . فقلنا : لبّيك وسعديك
يا فتى . فقال
: (( أما فيكم أحدٌ يُحبُّه الرَّحمن ؟ )) . فقلنا : يا
فتى , علينا الدُّعاء وعليه الإجابة . فقال
:
(( ابعدوا عن الكعبة
, فلو كان فيكم أحدٌ يُحبُّه الرّحمنُ , لأجابه )) . ثمّ أتى الكعبة فخرَّ ساجداً
, فسمعته
يقول في سجوده : (( سيّدي ، بحبِّك إلاّ سقيتهم
الغيث )) . قال : فما استتم الكلام حتّى
أتاهم الغيث كأفواه القرب ، فقلت
: يا فتى , منْ أين علمت أنّه يُحبُّك
؟ فقال : (( لو لم
يُحبني لم يستزرني , فلمّا
استزارني , علمتُ أنّه يُحبُّني , فسألتُه بحبِّه لي فأجابني ))
. ثمّ ولّى عنّا ، وأنشأ يقول :
مَنْ عَرفَ الرَّبَّ فلمْ تُغنهِ معرفةُ iiالرَّبِّ فذاكَ الشَّقي
ما ضرَّ ذا الطَّاعةِ ما نالهُii iiفـي طاعةِ اللهِ وماذا لقي
ما يصنعُ العبدُ بغيرِ التُّقَى والـعزُّ كـلُّ العزِّ للمُتّقي
فقلت : يا
أهل مكّة , مَن هذا الفتى ؟ فقالوا : هذا علي بن الحسين بن علي بن أبي
طالب (عليهم السّلام) .
أقول : مثل هذا الإمام في علمه وفضله ، ومناقبه
وكرامته ، وزُهده وعبادته واستجابة دعائه يُحمل أسيراً مغلولاً ، تارة إلى ابن مرجانة
بالكوفة ، واُخرى إلى ابن هند بالشّام ! ولمّا
اُدخل على ابن زياد مع
عمّاته وأخواته, قال له: مَن أنت ؟ فقال : ((
أنا عليُّ بن الحسين )) . فقال : أليس قد قتل
الله عليَّ بن الحسين ؟ فقال عليٌّ (عليه
السّلام) :
(( قد كان لي أخٌ يُسمّى عليّاً , قتله النّاس )) . فقال
: بل الله قتله . فقال علي بن الحسين (عليه السّلام) : ((
اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا(1)
)) .
فغضب ابن زياد ، وقال : وبك جرأة لجوابي ,
وفيك بقيّة للردِّ عليَّ ! اذهبوا به فاضربوا عنقه . فتعلّقت به عمّته زينب
, وقالت : يابن زياد ,
ـــــــــــــــــــــ
(1) سورة
الزُّمر / 42 .
الصفحة ( 274
)
حسبُك من دمائنا . واعتنقته ، وقالت : لا والله لا اُفارقه
، فإنْ قتلته فاقتلني معه . فنظر ابن زياد
إليها
وإليه ساعة ، ثمّ قال : عجباً للرحم ! والله ، إنّي لأظنُّها ودّت أنْ قتلتُها معه
، دعوه فإنّي أراه لمَا به ( أي : إنّه شديد المرض ) .
وفي رواية : أنّ علي بن الحسين (عليه السّلام) قال لعمّته :
(( اسكتي يا عمّة
حتّى اُكلّمه
)) . ثمّ أقبل عليه ، فقال : (( أبالقتل تُهدّدُني يابن زياد ؟! أمَا علمت
أنّ القتل لنا عادة ، وكرامتَنا
الشّهادة ؟ )) .
فـيا وقـعةً لمْ يُوقعِ الدَّهرُ iiمثْلُها وفـادحةً تُـنْسَى لـديها iiفوادحُهْ
متَى ذُكرتْ أذكَتْ حشَى كـلِّ مُؤمنٍ بـزندِ جوىً أوراهُ للحشرِ iiقادحُهْ
المجلس السادس والثّلاثون بعد المئتين
عن عبد الله بن المُبارك قال : حججت في بعض السّنين , فبينما
أنا أسير في
عرض الحاجّ , إذا أنا بشاب وسيم الوجه يسير ناحية عن الحاجّ بلا زاد ولا
راحلة , فتقدمتُ إليه وسلمت عليه , فردَّ عليَّ السّلام , فقلتُ : مع مَن قطعت البر
؟ قال :
(( مع الباري )) . فعظم في عيني , فقلتُ له
: أين زادك وراحلتك ؟ قال : (( زادي تقواي
، وراحلتي رجلاي ، وقصدي مولاي )) . فكبر في نفسي , فقلتُ له : ممّن تكون أيّها
الشّاب
؟ قال : (( هاشمي )) . قلتُ : أفصح ؟ قال
: (( طالبي )) . قلتُ : أوضح ؟ قال : ((
فاطمي )) . قلتُ له : يا
سيّدي , هل قلتَ شيئاً من
الشّعر ؟ قال : (( نعم )) . قلتُ : أنشدني من شعرك
. فأنشأ يقول :
نحنُ على الحوضِ ذوَّادُهُ وتُـسقَى iiبنا منهُ ورّادُهُ
ومـا فازَ مَنْ فاز iiإلاّ بنا وما iiخاب مَن حُبُّنا زادُه
( 275 )
ومَنْ سرَّنا نالَ منّا لسّرورَ iiومَـنْ ساءَنا ساءَ ميلادُهُ
ومَـنْ كانَ غاصبُنا حقّنا iiفـيـومُ الـقيامةِ ميعادُهُ
ثمّ غاب عن عيني , فلم أره حتّى أتيت مكّة المكرمة وقضيت الحجّ وأتيت الأبطح
, فإذا أنا بحلقة مستديرة , فاطّلعت لأنظر مَن فيها , فإذا أنا بصاحبي
الشّاب
الهاشمي , فسمعته يقول :
نحنُ بنُو المُصطفَى ذوُو غُصصٍ يـجـرعُـهـا في الأنامِ كاظمُنا
عـظـيمةٌ iiفـي الأنـامِ مِحنتُنا أوّلُـنـا مُـبْـتـلـىً وآخـرُنا
يـفـرحُ هـذا الـورَى بعيدِهمii ونــحـنُ iiأعـيـادُنـا مآتِمُنا
والـنّـاسُ بالأمنِ والسُّرورِ ولاii iiيـأمـنُ طـولَ الـزَّمانِ خائفُنا
يـحـكمُ فـيـنا والحُكمُ فيه لنَا جـاحـدُنـا حـقَّـنا وغاصبُن
فسألت عنه فقيل لي : هو زين العابدين علي بن الحسين
(عليهما السّلام) . ولم
يزل سلام الله عليه في الحزنِ على أبيه مُدّة حياته حتّى لحق بربه .
وعن
جابر الجعفي قال : لمّا جرّد مولاي محمَّدٌ الباقر مولاي عليَّ بنَ الحسين
(عليهم السّلام) ثيابه
ووضعه على المُغتسل , وكان قد ضرب دونه حجاباً , سمعتُه ينشج ويبكي حتّى أطال
ذلك , فأمهلته عن السّؤال حتّى إذا فرغ من غسله ودفنه , فأتيت إليه وسلّمت
عليه ، وقلتُ له : جُعلت فداك ! ممّ كان بكاؤك وأنت تُغسّل أباك ؟ أكان ذلك حُزناً
عليه ؟ قال : (( لا يا جابر , لكن لمّا جرّدت
أبي ثيابه ووضعته على المُغتسل , رأيت آثار الجامعة في عُنقه , وآثارَ
جُرحِ القيد في ساقيه وفخذيه , فأخذتني الرّقة لذلك وبكيت )) .
مالي أراكَ ودمعُ عينِكَ جامدٌ أوَ ما سمعتَ بمحْنةِ
السَّجّادِ
* * *
الصفحة ( 276
)
المجلس السابع والثلاثون بعد المئتين
حجّ هشام بن عبد الملك في خلافة أخيه الوليد ومعه رؤساء
أهل الشّام , فجهد أنْ يستلم الحجر فلم يقدر من ازدحام النّاس , فنصب
له منبر فجلس عليه ينظر إلى النّاس , وأقبل علي بن الحسين (عليهما
السّلام) , وهو أحسن النّاس وجهاً
وأنظفهم ثوباً وأطيبهم رائحة ، فطاف بالبيت ، فلمّا
بلغ الحجر الأسود , تنحَّى النّاس كلّهم وأخلوا له الحجر ليستلمه ؛ هيبة وإجلالاً له
, فغاظ ذلك هشاماً
وبلغ منه , فقال رجل لهشام : مَن هذا ؟ أصلح الله الأمير . قال : لا أعرفه
. وكان به
عارفاً ؛ ولكنّه خاف أنْ يرغب فيه أهل الشّام ويسمعوا منه . فقال الفرزدق
ـ وكان
حاضراً ـ : أنا أعرفه ، فسلني يا
شامي . قال : ومَن هو ؟ قال :
هَـذا الَّذي تَعرِفُ البَطحاءُ iiوَطأَتَهُ وَالـبَيتُ يَـعرِفُهُ وَالحِلُّ iiوَالحَرَمُ
هَـذا اِبـنُ خَـيرِ عِبادِ اللَهِ كُلِّهِمُ هَـذا الـتَّقِيُّ النَّقِيُّ الطاهِرُ iiالعَلَمُ
هَـذا اِبـنُ فاطِمَةٍ إِنْ كُنتَ iiجاهِلَهُ بِـجَدِّهِ أَنـبِياءُ الـلَهِ قَـد iiخُتِموا
وَلَـيسَ قَـولُكَ مَـن هَذا iiبِضائِرِهِ العُربُ تَعرِفُ مَن أَنكَرتَ iiوَالعَجَمُ
إِذا رَأَتـهُ قُـرَيشٌ قـالَ iiقـائِلُها إِلـى مَـكارِمِ هَـذا يَنتَهي iiالكَرَمُ
يَـكادُ يُـمسِكُهُ عِـرفانُ iiراحَـتِهِ رُكـنَ الـحَطيمِ إِذا ما جاءَ iiيَستَلِمُ
الـلَـهُ شَـرَّفَهُ قِـدماً iiوَعَـظَّمَهُ جَـرى بِـذاكَ لَـهُ في لَوحِهِ القَلَمُ
أَيُّ الـخَلائِقِ لَـيسَت في iiرِقابِهِمُ لأَوَّلِـيَّـةِ هَــذا أَو لَــهُ نِـعَمُ
مَـنْ يَـشكُرِ الـلَهَ يَشكُر أَوَّلِيَّةَ ذا فَـالدّينُ مِـن بَيتِ هَذا نالَهُ iiالأُمَمُ
يُنمى إِلى ذُروَةِ الدينِ الَّتي قَصُرَتْ عَـنها الأَكُفُّ وَعَنْ إِدراكِها iiالقَدَمُ
الصفحة ( 277
)
مَـن جَـدُّهُ دانَ فَـضلُ الأَنبِياءِ iiلَهُ وَفَـضلُ أُمَّـتِهِ دانَـت لَـهُ iiالأُمَـمُ
مُـشتَقَّةٌ مِـن رَسـولِ الـلَهِ iiنَبعَتُهُ طـابتْ مـغارسُهُ والـخيمُ iiوالشِّيمُ
يَـنشَقُّ ثَوبُ الدُجى عَن نورِ iiغُرَّتِهِ كَـالشَمسِ تَنجابُ عَن إِشراقِها iiالظُلَمُ
مِـن مَـعشَرٍ حُـبُّهُمْ دينٌ iiوَبُغضُهُمُ كُـفرٌ وَقُـربُهُمُ مـنجىً iiوَمُـعتَصَمُ
مُـقَـدَّمٌ بَـعدَ ذِكـرِ الـلَهِ iiذِكـرُهُمُ فـي كُـلِّ بِـدءٍ وَمَـختومٌ بِهِ الكَلِمُ
إِنْ عُـدَّ أَهـلُ الـتُّقى كانوا iiأَئمَّتَهُم أَو قيلَ مَن شَيرُ أَهلِ الأَرضِ قيلَ هُمُ
لا يَـستَطيعُ جَـوادٌ بَـعدَ iiجـودِهِمُ وَلا يُـدانـيهِمُ قَــومٌ وَإِنْ iiكَـرُموا
يُـستَدفَعُ الـشَرُّ وَالـبَلوى بِـحُبِّهِمُ وَيُـستَرَبُّ بِـهِ الإِحـسانُ وَالـنِّعَمُ
قال : فغضب هشام , فحبسه بعسفان بين مكّة والمدينة , فقال :
أيحـبسُني بينَ المدينـةِ والتي إليها قلوبُ
النَّاسِ يهوي مُنيبُها
يُقلِّبُ رأساً لمْ يكـُنْ رأسَ سيّدٍ وعيناً له حولاءَ بادٍ عُـيوبُها
فبعث إليه هشام فأخرجه , ووجّه إليه عليُّ بن الحسين (عليه
السّلام) عشرة آلاف
درهم , وقال : (( أعذِر يا أبا فراس , فلو كان
عندنا في هذا الوقت أكثر من هذا , لوصلناك به )) . فردّها وقال : ما قلتُ ذلك إلاّ لله , وما كنتُ لأرزأ عليه شيئاً
. فقال له علي (عليه السّلام) : (( قد رأى الله مكانك فشكرك
, ولكنّا أهل بيتٍ إذا أنفذنا شيئاً ما نرجع فيه )) . فأقسم عليه , فقبلها .
هذه فضائل علي بن الحسين زين العابدين
(عليه السّلام) ، وهذه صفاته وأحواله , فمثل هذا الإمام في عظم شأنه وجلالة
قدره , يُصبح أسيراً تارة لعبيد الله بن زياد وابن مرجانة ، وتارة ليزيد بن
معاوية , وهو إمام أهل البيت الطّاهر الذين أذهب الله عنهم الرّجس وطهّرهم
تطهيراً , والذي جعل الله ودّهم أجر الرسالة ؟!
ولمّا أرسله ابن زياد مع السّبايا إلى يزيد بالشّام ,
أمر به فغُلّ بغلٍّ إلى عُنقه حتّى اُدخل على يزيد بن معاوية بتلك
الحال .
الصفحة ( 278
)
يـا غَـيرَةَ اللَهِ اِغضَبي iiلِنَبِيِّهِ وَتَزَحزَحي بِالبيضِ عَن أَغمادِها
مِن عُصبَةٍ ضاعَت دِماءُ iiمُحَمَّدٍ وَبَـنيهِ بَـينَ يَـزيدِها iiوَزِيادِها
صَـفَداتُ مـالِ اللَهِ مِلءُ iiأَكُفِّها وَأَكُـفُّ آلِ الـلَهِ في iiأَصفادِها
المجلس الثّامن والثّلاثون بعد المئتين
روي عن الصّادق (عليه السّلام) أنّه قال :
(( كان علي بن الحسين (عليهما السّلام)
إذا دخل
شهر رمضان لا يضرب عبداً له ولا أمة , وكان إذا أذنبَ العبدُ والأمةُ يكتب
عنده : أذنبَ فلان ، أذنبت فلانة يوم كذا وكذا , ولا يعاقبه حتّى إذا كان آخر
ليلة من شهر رمضان دعاهم وجمعهم حوله , ثمّ أظهر الكتاب ، ثمّ قال
: يا فلان
، فعلت كذا وكذا ولم اُؤدّبك ، أتذكر ذلك ؟ فيقول : بلى
يابن رسول الله . حتّى
يأتي على آخرهم ويُقررهم جميعاً , ثمّ يقوم وسطهم ، ويقول لهم : ارفعوا أصواتكم
وقولوا : يا علي بن الحسين
, إنّ ربك قد أحصى عليك كلَّما عملتَ كما أحصيتَ
علينا كلّما عملنا ، ولديه كتابٌ ينطق عليك بالحقِّ لا يُغادر صغيرةً ولا كبيرة
ممّا أتيت إلاّ أحصاها , كما لديك كتاب ينطق بالحقِّ علينا ، لا يُغادر صغيرة ولا
كبيرة ممّا أتيناها إلاّ أحصاها , وتجد كلَّما
عملت لديه حاضراً كما وجدنا
كلّما عملنا لديك حاضراً
.
فاذكر
يا علي بن الحسين , ذلَّ مقامِك بين يدي ربّك
الحكم العدل ، الذي لا يظلمُ مثقالَ حبّةٍ من خردل ويأتي بها يوم القيامة
، وكفى بالله حسيباً وشهيداً . فاعفُ واصفح ، يعفُ عنك المليكُ ويصفح ؛ فإنّه يقول :
( وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ
لَكُمْ )(1)
.
وهو يُنادي بذلك على نفسه
ويُلقِّنهم وهم ينادون معه , وهو
ــــــــــــــــــــــــــ
(1)
سورة النّور / 22
.
الصفحة ( 279
)
واقف بينهم يبكي وينوح
, ويقول : ربِّ ، إنّك أمرتنا أنْ نعفو عمّن ظَلَمنا ، وقد
ظلمنا أنفسَنا , فنحن قد عفونا عمّن ظلَمنا كما أمرتَ , فاعفُ عنّا فإنّك
أولى
بذلك منّا ومن المأمورين . وأمرتنا أنْ لا نردَّ سائلاً عن أبوابنا ,
وقد أتيناك سؤآلاً ومساكين , وقد أنخْنا بفنائك وببابك نطلب نائلك
ومعروفك وعطاءك , فامنُنْ بذلك علينا ولا تُخيّبنا ؛ فإنّك أولى بذلك
منّا ومن المأمورين .
إلهي ، كرمتَ فأكرمني إذ كنتُ من سؤآلك
، وجدتَ بالمعروف فاخلطني بأهل نوالك يا كريم .
ثمّ يُقبل عليهم ، ويقول : قد عفوت عنكم
, فهل
عفوتم عنّي ما كان منّي
إليكم من سوء مَلكة ؛ فإنّي مليكُ سوءٍ ، لئيمٌ ظالمٌ ، مملوكٌ لملك كريمٍ
، جوادٍ عادلٍ ، مُحسنٍ مُتفضّل ؟ فيقولون : قد عفونا عنك يا سيّدنا , وما أسأت
. فيقول
(عليه السّلام) لهم :
قولوا : اللهمّ , اعفُ عن علي بن الحسين كما عفا عنّا , فأعتقه من النّار كما
أعتق رقابنا من الرّق . فيقولون ذلك ، فيقول (عليه السّلام) : اللهمّ ، آمينَ رب العالمين
,
اذهبوا فقد عفوت عنكم وأعتقتُ رقابكم ؛ رجاء للعفو عنّي وعتقِ رقبتي .
فيعتقهم , فإذا كان يوم الفطر أجازهم بجوائز تصونهم وتُغنيهم عمّا في
أيدي النّاس )) .
أمثل هذا الإمام الذي هذه صفاته ، وهذا ورعه وكرمه وخوفه وهو لم يهم
بمعصية , وكان سيّد أهل زمانه في علمه وفضله ، وعبادته وزهده , يُحمل أسيراً مع
عمّاته وأخواته ، ومَن تخلف من أهل بيته إلى الدّعي ابن الدّعي ، عبيد الله بن
زياد وابن مرجانة بالكوفة , ويُحمل مغلولاً بغلٍّ من الكوفة إلى يزيد بن
معاوية بالشّام ، ومعه عمّاته وأخواته ، حتّى اُدخل على يزيد مع عمّاته وأخواته
وأهل بيته وهم مُقرَّنون في الحبال ، فلمّا وقفوا بين يديه وهم على
تلك الحال ، قال له علي بن الحسين (عليه السّلام) :
(( أنشدك الله يا يزيد ، ما ظنّك برسول الله
(صلّى الله عليه وآله)
، لو رآنا
على هذه الصّفة ؟! )) .
فلمْ يبقَ في القوم أحد إلاّ وبكى ، فأمر يزيد بالحبال فقُطعت ، وأمر بفكّ الغُلّ عن زين العابدين (عليه السّلام)
الصفحة ( 280
)
لَيسَ هَذا لِرَسـولِ اللَهِ يا
اُمَّةَ الطُغيانِ وَالبـَغيِ جَـزا
جَزَروا جَزرَ الأَضاحي نَسلَهُ ثُمَّ ساقوا أَهلَهُ سَوقَ الإِما
المجلس التاسع والثّلاثون بعد المئتين
قال ابن الأثير في تاريخه ، قال الشّافعي : بلغني أنّ عبد الملك بن مروان
قال للحجّاج : ما من أحد إلاّ وهو عارف بعيوب نفسه , فعب نفسك ولا تُخبّأ منها
شيئاً . قال : يا أمير المؤمنين
, أنا لجوجٌ حقود . فقال له عبد الملك : إذاً بينك
وبين إبليس نسب . فقال : إنّ الشّيطان إذا رآني سالمني .
قال حبيب بن أبي
ثابت : قال علي (عليه السّلام) [ لرجل ] : (( لا تموتَ حتّى تُدرك فتى ثقيف
)) . قيل له
: يا أمير المؤمنين
, ما فتى ثقيف ؟ قال : (( ليُقالنَّ له يوم القيامة
: أكفنا زاوية من زوايا جهنم . رجلٌ يملك عشرين أو بضعاً وعشرين سنة ,
لا يدع لله معصية إلاّ ارتكبها ، حتّى لو لم تبقَ إلاّ معصيةٌ واحدةٌ
وبينه وبينها بابٌ مغلق لكسره حتّى يرتكبها , يقتل بمَن أطاعه مَن عصاه
)) . وقيل : اُحصي مَن قتله الحجّاج صبراً بغير حرب , فكانوا
مئة ألف وعشرين ألفاً .
قال عمر بن عبد العزيز : لو جاءت كلّ اُمّة بخبيثها ،
وجئنا بالحجّاج لغلبناهم .
قال عاصم : سمعت الحجّاج يقول للناس : والله , لو أمرتكم
أنْ تخرجوا من هذا الباب فخرجتم من هذا , حلّت لي دماؤكم , ولا أجد
أحداً يقرأ على قراءة ابن مسعود ( وهو أحد القرّاء السّبعة من الصّحابة )
إلاّ ضربت عنقه , ولأحكّنّها من المصحف ولو بضلع خنزير .
وقال ابن أبي
الحديد : كان أهل النّسك والصّلاح والدّين يتقربون إلى الحجّاج ببغض علي
(عليه السّلام)
، وموالاة
الصفحة ( 281
)
أعدائه , حتّى أنّ إنساناً وقف للحجّاج ، وصاح : أيّها الأمير
, إنّ أهلي عقّوني
فسمّوني عليّاً , وإنّي فقير بائسٌ ، وأنا إلى صلة الأمير مُحتاج .
فتضاحك له الحجّاج ، وقال : لَلطف ما توسّلت به , قد ولّيتُك موضع كذا
.
مثل الحجّاج كان ابن زياد ؛ فإنّه بعد أنْ أفنى آل رسول
الله (صلّى الله عليه وآله) قتلاً يوم كربلاء , لم يرقّ قلبه لعلي بن الحسين (عليهما السّلام)
( كفيل نساء آل محمَّد (صلّى الله عليه وآله) وبناته ) حين اُدخلوا
عليه بالكوفة حتّى أمر بقتله , فقال : يا غلمان , خذوه فاضربوا عنقه . فتعلّقت به عمّته زينب (عليها السّلام) , وذلك حين عُرض عليه علي بن
الحسين (عليهما السّلام) , فقال : مَن أنت ؟ فقال
: (( عليُّ بن الحسين )) . فقال : أليس قد قتل
الله عليَّ بن الحسين ؟ فقال له عليٌّ
(عليه السّلام) :
(( قد كان لي أخٌ يُسمّى عليّاً , قتله النّاس )) . قال
: بل الله قتله . فقال علي بن الحسين (عليه السّلام) : ((
اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا(1)
)) .
فغضب ابن زياد ، وقال : وبك جرأة لجوابي ,
وفيك بقيّة للردِّ عليَّ ! اذهبوا به فاضربوا عنقه . فتعلّقت به عمّته زينب
, وقالت : يابن زياد , حسبُك من دمائنا . واعتنقته ، وقالت : لا والله لا اُفارقه
، فإنْ قتلته فاقتلني معه . فنظر ابن زياد
إليها
وإليه ساعة ، ثمّ قال : عجباً للرحم ! والله ، إنّي لأظنُّها ودّت أنْ قتلتُها معه
، دعوه فإنّي أراه لمَا به ( أي : إنّه شديد المرض ) .
وفي رواية : أنّ علي بن الحسين (عليه السّلام) قال لعمّته :
(( اسكتي يا عمّة
حتّى اُكلّمه
)) . ثمّ أقبل عليه ، فقال : (( أبالقتل تُهدّدُني يابن زياد ؟! أمَا علمت
أنّ القتل لنا عادة ، وكرامتَنا
الشّهادة ؟ )) .
أآلَ رسـولِ اللهِ لابـنـي سُـميّةٍii وهـندٍ على الأقتاب iiتُسبَى وتُؤسرُ
ولا مـنْ رجـالِ الـمُسلمينَ مُغيرٌii لـشـيءٍ ولا فـيـهـمْ لذلكَ مُنْكِرُ
فـمـالتْ iiعـلـى أبنائهِ الغُرِّ اُمّة تُـصلِّي iiلدَى ذكرِ اسمهِ حينَ يُذكرُ
أهُـمْ يا لقَومي في الورَى خيرُ اُمّةٍii iiوقـد قتلوا ابنَ المُصطفَى وتجبَّروا
أذلــكَ iiأجـرُ المُصطفَى وجزاؤهُ على الفعلِ منكُمْ حينَ يُجزَى ويُؤجرُ
ـــــــــــــــــــــ
(1) سورة
الزُّمر / 42 .
الصفحة ( 282
)
المجلس الأربعون بعد المئتين
كان سعيد بن جُبير من خيار التّابعين الموالين لأهل
البيت (عليهم السّلام) , وكان يأتمّ بعليِّ بن الحسين زين العابدين
(عليه السّلام) , وكان علي بن الحسين (عليه السّلام) يُثنى عليه ؛ ولأجل ذلك قتله
الحجّاج .
قال ابن قتيبة في الإمامة
والسّياسة وغيره : أرسل عبد الملك بن مروان خالد بن عبد الله القسري
والياً على مكّة , وكتب معه : قد برئت الذمّة من رجل آوى سعيد بن جُبير
. وحلف
خالدٌ : لا يجده في دار أحد إلاّ قتله وهدم داره ودور جيرانه . فأخبره رجل
: أنّه مختفٍ في وادٍ من أودية مكّة ، فأرسل في طلبه , فقال له الرسول :
إنّما اُمرت
بأخذك , وأتيت لأذهب بك إليه , وأعوذ بالله من ذلك , فالحقْ بأي بلدٍ شئت وأنا معك
. قال : يُؤخذ أهلُك وولدك
. قال : فإنّي أكلهم إلى الله . قال سعيد : لا يكون هذا . فأتى به إلى خالد , فشدّه
وثاقاً وأرسله إلى الحجّاج , فقيل له : إنّ الحجّاج كان قد شعر به فأعرض عنه
, فلو تركته لكان أزكى من كلِّ عمل . فقال : والله , لو علمت أنّ عبد الملك لا
يرضى عنّي إلاّ بنقض الكعبة حجراً حجراً , لنقضتُها .
فلمّا
قدم على الحجّاج , قال
: ما اسمك ؟ قال : سعيد . قال : ابنُ مَن ؟ قال : ابنُ جبير . قال : بل أنت شقيُّ بن كسير
. قال : اُمّي أعلم باسمي . قال : شُقيتَ وشُقيت اُمّك . قال : الغيب يعلمه غيرُك
. قال
: لأوردنّك
حياض الموت . قال : أصابت إذاً اُمّي اسمي . قال : لأبدلنّك بالدُّنيا ناراً تلظّى
. قال
: لو أعلم أنّ ذلك بيدك لاتخذتُك إلهاً . قال : فما قولك في محمَّد ؟ قال
: نبيُّ
الرّحمة . قال : فما قولك في الخلفاء ؟ قال : لستُ عليهم بوكيل . قال :
أيّهم أعجب
أليك ؟ قال : أرضاهم لخالقه . قال : فأيّهم أرضاهم لخالقه ؟ قال : علمُ ذلك عند مَن
يعلم سرَّهم ونجواهم . قال : فما قولك في عليٍّ , أفي الجنة
الصفحة ( 283
)
هو أم في النّار
؟ قال : لو دخلتُ الجنَّة فرأيتُ أهلَها علمتُ مَن فيها , ولو دخلتُ
النّار فرأيتُ أهلَها علمتُ مَن فيها . قال : فأيّ رجل أنا يوم القيامة ؟ قال
: أنا
أهون على الله من أنْ يُطلعني على الغيب . قال : أبيت أنْ تصدقني ؟ قال : بل لم
أرد أنْ اُكذبك . قال : مالك لم تضحك قط
؟ قال : كيف يضحكُ مخلوق من طين , والطّين
تأكله النّار ومنقلبه إلى الجزاء , ويُصبح ويُمسي في الابتلاء ؟! قال : فأنا
أضحك
. قال : كذلك خلَقَنا الله أطواراً . قال : هل رأيت اللّهو ؟ قال
: لا أعلمه .
فدعا
الحجّاج بالعود والنّاي , فلمّا
ضرب بالعود ونفخ في النّاي بكى سعيد , قال
الحجّاج : ما يُبكيك ؟ قال : أمّا
هذه النّفخة فذكّرتني يوم النّفخ في الصّور ؛ وأمّا
هذا العود فنبَتَ بحقٍّ وقُطع لغير حقٍّ . قال : أنا قاتلك . قال : قد فرغ مَنْ تسبب
[ في ] موتي
. قال : أنا أحبُّ إلى الله منك ؟ قال : لا يقدم أحدٌ على ربّه حتّى يعرف منزلته منه
. قال : كيف لا ، وأنا مع إمام الجماعة , وأنت مع إمام الفرقة والفتنة ؟ قال
: ما
أنا بخارجٍ عن الجماعة ولا راضٍ بالفتنة . قال : كيف ترى ما نجمع لإمير
المؤمنين ؟ قال : لم أره .
فدعا بالذهب والفضة ، والكسوة والجوهر فوُضع بين يديه ,
قال : هذا حَسَنٌ إنْ قُمت بشرطه . قال : ما شرطه ؟ قال : أنْ تشتري له
[ بما تجمع ] الأمن من
الفزع الأكبر يوم القيامة ، ولا ينفعه إلاّ ما طاب منه . قال : أترى جمعنا
طيّباً ؟ قال : برأيك جمعتَه وأنت أعلم بطيّبه . قال : أتحبُّ أنّ لك شيئاً منه
؟ قال
: لا أحبُّ ما لا يُحبّ الله . قال : ويلك ! قال : الويل لمَنْ زُحزج عن الجنّة فاُدخل
النّار .
قال : اذهبوا به فاقتلوه . قال : إنّي أشهدك أنْ لا
إله إلاّ الله وحده لا
شريك له , وأنّ محمَّداً عبده ورسوله . فلمّا
أدبر ضحك , قال الحجّاج : ما يضحكك ؟ قال :
عجبت من جرأتك على الله , وحلم الله عليك . قال : اضربوا عنقه . قال : حتّى
اُصلي
ركعتين .
فاستقبل القبلة وهو يقول :
( إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ
حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ )(1)
. قال : اصرفوه عن القبلة
إلى قبلة
النّصارى الذين تفرّقوا ؛ فإنّه من
ــــــــــــــــــــــــــ
(1)
سورة
الأنعام / 79 .
الصفحة ( 284
)
حزبهم . فصُرف عن القبلة , فقال :
( فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ )(1)
. ثمّ قال : اللهمّ ، لا تترك له ظلمي واطلبه بدمي , واجعلني
آخر قتيل يقتله من اُمّة محمَّد (صلّى الله عليه وآله) . فضُربت عنقه .
وكم من قتيل وشهيد ، وسجين وشريد على
أيدي
بني اُميّة وأتباعهم أمثال سعيد بن جُبير ، لم يكن لهم ذنب إلاّ حب أهل بيت
نبيِّهم (صلّى الله عليه وآله) , وليس ذلك بعجيب من قوم حاربوا الإسلام بما استطاعوا , فكانت في
أيديهم رايات الكفّار مقابل راية رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في
جميع المواقف , فلمّا ظهر
أمر الله وهم كارهون , دخلوا في
الإسلام كُرهاً
وأسرّوا النّفاق , فلمّا أمكنتهم الفرصة
, وثبوا على أهل بيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وعلى كلِّ مَن أحبّهم ووالاهم , فأوسعوهم قتلاً وحبساً
وتشريداً : (
يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى
اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ )(2)
.
فوثبوا على ابن عمِّ رسول الله
(صلّى الله عليه وآله) ووصيه
وخليفته في اُمّته , ونازعوه حقّه ، وبغوه الغوائل ، وجرّعوه الغُصص , وسفكوا دماء
المسلمين حتّى قُتل صلوات الله عليه بسيف ابن ملجم مظلوماً مقهوراً ,
ووثبوا على ابنه من بعده وريحانة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الحسن بن علي
(عليه السّلام) حتّى اضطرّوه
ـ بفسادهم وبغيهم ـ إلى ترك حقِّه , وقتلوه شهيداً بالسُّمِّ ، وجيّشوا الجيوش على
أخيه الحسين بن علي (عليه السّلام) أحد ريحانتي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وسبطيه
, فأخرجوه عن حرم جدّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وعن حرم
الله , وقتلوه بأرض كربلاء غريباً ظامياً ، وحيداً صابراً مُحتسباً ، كلّ هذا
وهم يدّعون أنّهم على دين الإسلام !
أفتدَّعي الإسلامَ قومٌ حاربتْ آلَ النَّبيِّ
ولـمْ تُـراعِ وصاتا
* * *
ضَرَبوا بِسَيفِ مُحَمَّدٍ أَبناءَهُ ضَربَ الغَرائِبِ عُدنَ بَعدَ ذِيادِها
ــــــــــــــــــــــــــ
(1)
سورة
البقرة / 115 .
(2)
سورة
التّوبة / 32 .
الصفحة ( 285 )
المجلس الواحد والأربعون بعد المئتين
في منتخب الطّريحي : حُكي عن الشّعبي الحافظ لكتاب الله تعالى
, أنّه قال
: استدعاني الحجّاج في يوم عيد الأضحى , فقال لي : أي يوم هذا ؟ فقلت : هذا يوم
الاُضحية . قال : بِمَ يتقرّب النّاس في مثل هذا اليوم ؟ فقلتُ : بالاُضحية والصّدقة، وأفعال البرِّ والتّقوى . فقال لي : اعلم أنّي قد عزمت أنْ اُضحِّي برجلٍ حُسيني
!
قال
الشّعبي : فبينما هو يخاطبني إذ سمعت من خلفي صوت سلسلة وحديد , فخشيت أنْ
ألتفت فيستخفّني , وإذا قد مثل بين يديه رجلٌ علوي وفي عنقه سلسلة ، وفي
رجليه قيد من حديد , فقال له الحجّاج : ألست فلان بن فلان العلوي ؟ فقال
: نعم
, أنا ذلك الرجل . فقال له : أنت القائل إنّ الحسن والحسين من ذرّيّة
رسول الله ؟ قال : ما قلتُ ولا أقول , ولكني أقول إنّ الحسن والحسين
ولدا رسول الله على رغم أنفك يا حجّاج .
قال : وكان متّكئاً فاستوى
جالساً ، وقد اشتدّ غيظه وغضبه ، وانتفخت أوداجه ، ثمّ قال للرجل : يا ويلك
! إنْ لم
تأتني بدليل من القرآن يدلّ على ذلك قتلتُك شرَّ قتلة , وإنْ أتيتني بما يدلّ
على ذلك , أعطيتك هذه البدرة التي بيدي وخلّيت سبيلك .
قال الشّعبي : وكنت
حافظاً كتاب الله كلَّه ، فلم يخطر على بالي آية تدلُّ على ذلك , فحزنت وقلتُ في
نفسي : يعزُّ عليّ والله , ذهاب هذا الرجل العلوي . قال : فابتدأ الرجل يقرأ الآية
, فقال :
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
. فقطع عليه الحجّاج قراءته , وقال : لعلّك تُريد أنْ تحتجَّ عليَّ بآية المباهلة
، وهي قوله تعالى :
(
فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا
وَنِسَاءَكُمْ )(1)
؟ فقال العلوي
: هي والله حُجّة مؤكّدة
معتمدة , ولكنِّي آتيك
ــــــــــــــــــــــــــ
(1)
سورة
آل عمران / 61 .
الصفحة ( 286
)
بغيرها . ثمّ ابتدأ يقرأ : (
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
*
وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ
وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا
وَيَحْيَى )(1)
.
وسكت , فقال له
الحجّاج : فلِمَ لا قُلت وعيسى ، أنسيت عيسى ؟ فقال : نعم صدقت
يا حجّاج , فبأي شيء
دخل عيسى في صلب نوح وليس له أب ؟ فقال له الحجّاج : إنّه دخل في صلبه من حيث اُمّه
. فقال العلوي : وكذلك الحسن والحسين دخلا في صلب رسول الله
(صلّى الله عليه وآله) من حيث اُمّهما فاطمة الزهراء (عليها
السّلام).
قال : فبقي الحجّاج ساكتاً
كأنّما اُلقم حجراً , ثمّ قال له الحجّاج : ما الدليل على أنّ الحسن والحسين
إمامان ؟ فقال العلوي : يا حجّاج , لقد ثبتت لهما الإمامة بشهادة
النّبي (صلّى الله عليه وآله) في حقِّهما ؛ لأنّه قال في حقِّهما
: (( ولداي هذان إمامان فاضلان إنْ قاما وإنْ
قعدا , تميل عليهما الأعداء فيسفكون دمهما ، ويسبون حرمهما ))
. ولقد شهد النّبيُّ (صلّى الله عليه وآله) لهما بالإمامة أيضاً ، حيث قال
: (( ابني هذا ـ يعني
الحسين (عليه السّلام) ـ إمام ابن إمام ، أخو إمام ، أبو أئمَّةٍ تسعة )) .
فقال الحجّاج : يا علوي , كم عمر الحسين في دار الدُّنيا ؟ فقال : ستٌّ وخمسون سنة
. فقال له : وفي أي يوم قُتل
؟ قال : يوم العاشر من شهر عاشوراء بين الظّهر والعصر . فقال له : ومَن قتله
؟ فقال
: لقد جنَّد الجنود ابن زياد بأمر يزيد , فلمّا
اصطفّت العساكر لقتاله , قتلوا
حُماته وأنصاره وأطفاله ، وبقي فريداً وحيداً يستغيث فلا يُغاث ، ويستجير فلا
يُجار , يطلب جرعة من الماء ليُطفي بها حرَّ الظّمأ , فبينما هو واقف إذ جاء
سنان فطعنه بسنانه ، ورماه خولي بسهم فوقع في لبّته وسقط عن ظهر الجواد
إلى الأرض يخور في دمه ، فجاءه شمر فاحتزَّ رأسه بحسامه ورفعه فوق قناته
.
فقال الحجّاج : خُذ هذه البدرة , لا بارك الله لك فيها . فأخذها العلوي وهو
يقول : هذا من عطاء الله لا من عطائك
يا حجّاج . ثمّ إنّ العلوي بكي وجعل يقول
:
ــــــــــــــــــــــــــ
(1)
سورة
الأنعام / 84 ـ 85 .
الصفحة ( 287
)
صَّـلى الإلهُ ومَنْ يحفُّ بعرشِهِ والـطّيّبونَ iiعلى النَّبيِّ النّاصحِ
وعـلـى قرابتِهِ الذينِ تهضَّمواii iiبـالـنَّـائباتِ وكلِّ خطبٍ فادحِ
طلبوا الحقوقَ فاُبعدُوا عنْ دارِهمْ وعـوى عـليهمْ كلُّ iiكلبٍ نابحِ
المجلس الثاني والأربعون بعد المئتين
كان زيد بن علي بن الحسين (عليهم السّلام) عين أخوته بعد أخيه أبي جعفر
الباقر (عليه السّلام) وأفضلهم , وكان عابداً ورعاً فقيهاً ، سخياً شجاعاً
, وظهر
بالسّيف يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويطلب بثارات الحسين (عليه
السّلام) .
وكان
سبب خروجه ، مُضافاً إلى طلبه بدم الحسين (عليه السّلام) ، أنّه دخل على هشام بن عبد
الملك وقد جمع له هشام أهل الشّام , وأمر أنْ يتضايقوا في المجلس حتّى لا
يتمكّن من الوصول إلى قربه , فقال له زيد : إنّه ليس من عباد الله أحد فوق
أنْ
يُوصى بتقوى الله , ولا من عباده أحد دون أنْ يوصي بتقوى الله , وأنا
اُوصيك
بتقوى الله فاتّقه . فقال له هشام : ما فعل أخوك البقرة ؟ فقال : سمّاه رسول الله
(صلّى الله عليه وآله) باقر العلم وأنت تُسمِّيه بقرة ! لشدَّ ما
اختلفتما في الدُّنيا ، ولتختلفان في الآخرة .
فقال له هشام : أنت المُؤهِّل نفسك للخلافة ، الراجي لها ؟
وما أنت وذاك لا اُمَّ لك ؟! وإنّما أنت ابن أمة . فقال له يزيد : إنّي
لا أعلم أحداً أعظم منزلة عند الله من نبيٍّ بعثه وهو ابن أمة , فلو كان
ذلك يقصر عن مُنتهى غايةٍ لم يُبعث , وهو إسماعيل بن إبراهيم (عليهما
السّلام) , فالنّبوة أعظم منزلة عند الله أم الخلافة يا هشام ؟ وبعد :
فما يقصر برجل أبوه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وهو ابن عليٍّ
بن أبي طالب (عليه السّلام) ؟
فوثب هشام من مجلسه ودعا قهرمانه , وقال : لا يبيتنَّ
الصفحة ( 288
)
هذا في عسكري . فخرج زيد وهو يقول : إنّه لم يكره قومٌ قطّ حدَّ السّيوف
إلاّ ذلّوا
. فحُملت كلمتُه إلى هشام فعرف أنّه يخرج عليه , فأرسل معه مَن يُخرجه على طريق
الحجاز ، ولا يدعه يخرج على طريق العراق .
فلمّا
رجع عنه المُوكّلون به ـ بعد أنْ
أوصلوه إلى طريق الحجاز ـ رجع إلى العراق حتّى أتى الكوفة , وأقبلت الشّيعة
تختلف إليه وهم يُبايعونه حتّى أحصى ديوانه خمسة عشر ألف رجل من أهل
الكوفة , سوى أهل المدائن والبصرة ، وواسط والموصل ، وخراسان والرّي ، وجرجان
والجزيرة ، فحاربه يوسف بن عمر الثقفي , فلمّا
قامت الحرب , انهزم أصحاب زيد
وبقي في جماعة يسيرة , فقاتلهم أشد القتال ، وهو يقول متمثّلاً :
فـذلُّ الحياةِ وعزُّ المماتِ وكُـلاّ ً أراهُ طـَعامـاً وبـِيلا
فإنْ كانَ لا بُدَّ مـنْ واحدٍ فَسيرِي إلى الموتِ سَيْراً جمِيلا
وحال المساء بين الصفّين , وانصرف زيد وهو مُثخنٌ بالجراح وقد أصابه سهمٌ في
جبهته ، وطلبوا مَن ينزع السّهم , فاُتي بحجّام فاستكتموه أمره ، فأخرج النّصل
فمات من ساعته , فدفنوه في ساقية ماء ، وجعلوا على قبره التّراب والحشيش
، واُجري الماء على ذلك .
وحضر الحجّام ـ وقيل : عبدٌ سنديٌّ ـ مواراته فعرف الموضع
, فلمّا أصبح مضى إلى يوسف
فدلّه على موضع قبره ، فاستخرجه يوسف بن عمر وبعث
برأسه إلى هشام ، وبعثه هشام إلى المدينة فنُصب عند قبر النّبيِّ (صلّى
الله عليه وآله) يوماً وليلة . ولمّا قُتل بلغ ذلك من الصّادق
(عليه السّلام)
كلَّ مبلغٍ ، وحزن عليه حُزناً عظيماً , وفرّق من ماله في عيال مَن اُصيب معه من أصحابه
ألف
دينار .
وكتب هشام إلى يوسف بن عمر : أنْ اصلبه عريانَ . فصلبه في الكُناسة
، فنسجت العنكبوت على عورته من يومه , ومكث أربع سنين مصلوباً حتّى مضى هشام
وبُويع
الصفحة ( 289
)
الوليد بن يزيد , فكتب الوليد إلى يوسف بن عمر :
أمّا بعد ، فإذا أتاك كتابي
فاعمد إلى عجل أهل العراق , فأحرقه ثمّ انسفه في اليمِّ نسفاً . فأنزله
وأحرقه ثمّ ذرّاه في الهواء .
وكما خُذل زيد بن علي ونُكثت بيعته , خُذل جدّه أمير المؤمنين
(عليه السّلام) من قبله
حتّى ألجأوه إلى قبول الحكومة يوم صفّين , ثمّ قتلوه وهو يُصلّي في محرابه
, ثمّ خذلوا ولده الحسن (عليه السّلام) وراسلوا عدوَّه فاضطرّ إلى الصُّلح ؛ خوفاً على دمه ودماء
شيعته , ثمّ كاتبوا ولده الحسين (عليه السّلام) ، فأرسل إليهم ابن عمّه مسلم بن عقيل , فبايعه
منهم ثمانية عشر ألفاً أو أكثر , ثمّ خذلوا مسلماً وأمكنوا منه ابن زياد
, فأخذه أسيراً وقتله .
ولمّا جاءهم الحسين (عليه السّلام) , خذلوه وتألّب منهم ثلاثون
ألفاً لقتاله مع عمر بن سعد حتّى قتلوه , ومِن شرب الماء منعوه ، وسبوا
نساءه , وداروا برأسه ورؤوس أهل بيته وأصحابه في البلدان .
إذا ما سَقَى اللهُ البلادَ فلا سَقَى
معاهدَ كوفانٍ بنوِّ المرازمِ
أتتْ كتبهُمْ في طيِّهنَّ كتائـبٌ وما رُقِّمتْ إلاّ بسُمِّ الأراقمِ
المجلس الثالث والأربعون بعد المئتين
روى المسعودي في مروج الذهب : أنّه لمّا قُتل مروان بن
محمَّد بن مروان بن الحكم المُلقّب بالحمار وبالجعدي ، حُملت بناته والأسارى إلى
الصفحة
( 290 )
صالح بن علي بن عبد الله بن العبّاس ـ وهو عمُّ
السّفّاح ـ
فلمّا
دخلن عليه , تكلّمت
ابنة مروان الكبرى , فقالت : يا
عمَّ أمير المؤمنين , حفظ الله لك الدُّنيا والآخرة , نحن بناتك وبناتُ أخيك فليسعنا من عدلكم ما وسعكم منْ جَورنا .
قال
: إذاً لا نستبقي منكم أحداً رجلاً ولا امرأة
؛ ألم يقتل أبوك بالأمس ابن أخي إبراهيم بن محمَّد بن علي بن عبد الله بن
العبّاس الإمام في محبسه بحرّان ؟ ألم يقتل هشام بن عبد الملك زيد بن
علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، وصلبه في كُناسة الكوفة , وقتل امرأة زيدٍ بالحيرة على يدي يوسف بن عمر
الثقفي ؟ ألم يقتل الوليد بن يزيد يحيى بن زيد وصلبه بخراسان
؟ ألم يقتل
عبيد الله بن زياد الدَّعيُّ مسلم بن عقيل بن أبي طالب بالكوفة
؟ ألم يقتل
يزيد بن معاوية الحسين بن علي على يدي عمر بن سعد مع مَن قُتل بين يديه
من أهل بيته ؟ ألم يخرج بحرم رسول الله سبايا حتّى ورد بهم على يزيد بن
معاوية , وبعث برأس الحسين بن علي على رأس رمح يُطاف به كور الشّام ومدائنها
حتّى قدموا به على يزيد بدمشق , كأنّما بعث إليه برأس رجل من أهل الشّرك
, ثمّ أوقف حرم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) موقف السّبي يتصفّحهنَّ جنود
أهل الشّام الجفاة الطّغام , ويطلبون منه أنْ يهب لهم حرم رسول الله
(صلّى الله عليه وآله) ؛ استخفافاً بحقِّه (صلّى الله عليه وآله) , وجرأة على
الله عزّ وجل وكفراً لأنعمه ؟ فما الذي استبقيتم منّا أهل البيت أو عدلتم
فيه علينا ؟!
قالت : يا عمَّ أمير المؤمنين
, فليسعنا عفوكم إذاً . قال
: أمّا العفو
فنعم . قالت : تُلحقنا بحرّان . فألحقهنَّ بحرّان , فعلت أصواتُهنَّ عند دخولهنَّ بالبكاء
على مروان , وشققن جيوبهنَّ وأعولن بالصّياح والنّحيب .
وشتّان بين دخولهنَّ
حرّان ـ ولم يفعل بنو العبّاس ببني اُميّة إلاّ بعض ما يستحقّونه ـ وبين دخول
بنات رسول الله (صلّى الله عليه وآله) المدينة بعد الرجوع من الشّام
! وأين ما جرى على بنات مروان جزاءً لأعمال بني اُميّة , ممّا جرى على بنات
الصفحة ( 291
)
رسول الله (صلّى الله عليه وآله) جزاءً ليوم بدر ؟! وأين حزن بنات مروان
من حزن الهاشميّات وعقائل بيت النّبوّة على الحسين (عليه السّلام) ؟!
قال الصّادق (عليه السّلام) : (( ما
اكتحلت هاشميّةٌ ولا اختضبت ، ولا رُؤي في دار هاشميٍّ دخانٌ خمس سنين
حتّى قُتل عبيد الله بن زياد )) . وقالت فاطمة بنت أمير
المؤمنين على أبيها وعليها السّلام : ما تحنّأت امرأة منّا ، ولا أجالت
في عينيها مروداً ، ولا امتشطت حتّى بعث المختار برأس عبيد الله بن
زياد .
بَني أُمَيَّةَ ما الأَسيافُ نائِمَةً عَن
شاهِرٍ في أَقاصي الأَرضِ مَوتورِ
تُسبى بَناتُ رَسولِ اللَهِ
بَينَهُمُ وَالدّينُ غَضُّ المَبادي غَيرُ
مَستورِ
المجلس الرابع والأربعون بعد المئتين
لمّا كان زمن مروان بن محمَّد المُلقّب بالحمار ، آخر ملوك بني اُميّة , اجتمع بنو
هاشم بالمدينة وبايعوا محمَّد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن أمير
المؤمنين علي بن أبي طالب (عليهم السّلام) , وفيهم السّفّاح والمنصور , ولم يبايعه جعفر
بن محمَّد الصّادق (عليه السّلام) , فنسبه عبد الله بن الحسن إلى الحسد ، فقال الصّادق
(عليه السّلام) : ((
والله ، ما ذلك يحملني )) . وأخبرهم أنّ الخلافة تصير إلى
السّفّاح وإخوته
وأبنائهم , وأخبرهم أنّ محمَّداً وإبراهيم ابني عبد الله بن الحسن مقتولان
, وقال : (( إنّ صاحب الرّداء الأصفر ـ
وهو المنصور ـ يقتل محمَّداً )) .
فلمّا
أفضى الأمر إلى المنصور بعد أخيه السّفّاح , كان يخاف من محمَّد وإبراهيم ابني عبد الله
بن الحسن ؛ لأنّه بايع محمَّداً , فحجّ المنصور وقال لعبد الله بن الحسن
: أين
ابنك محمَّد ؟ قال : لا أدري . قال :
لَتأتينَّ به . قال : لو كان تحت قدمي
الصفحة ( 292
)
ما رفعتهما عنه . فحبسه بالمدينة سنتين , وولّى المدينة رجلاً
يُقال له رياح
, وأمره أنْ يقبض على بني حسن ويحبسهم , وكان عدوّاً لأهل البيت (عليهم
السّلام) شرّيراً
فحاشاً ؛ ولذلك ولاّه المنصور المدينة . فحبس منهم اثني عشر رجلاً غير عبد
الله , فيهم صبي صغير ، وفيهم رجل عابد اسمه علي بن حسن جاء إلى رياح وطلب
منه أنْ يحبسه معهم , فقيَّدهم وحبسهم ، وحبس معهم محمَّد بن عبد الله ـ من ولد
عثمان ـ وكان أخاهم لاُمِّهم ( وهي : فاطمة بنت الحسين بن علي بن أبي
طالب (عليه السّلام) ) ، وولدان له .
ثمّ إنّ المنصور حجَّ وأمر بحملهم إلى العراق ، فحُملوا مكبَّلين
مغلولين , فلمّا اُخرجوا
وقف الصّادق
(عليه السّلام) وراء ستر رقيق , فلمّا
نظر إليهم , هملت
عيناه حتّى جرى دمعه على لحيته , وقال : ((
والله , لا يحفظ لله حرمة بعد هؤلاء )) .
أقول : ما أدري ما كان يجري على مولانا الإمام جعفر بن
محمَّد الصّادق
(عليه السّلام) , لو
نظر إلى جدِّه عليِّ بن الحسين (عليه السّلام) حين أمر به ابن زياد أنْ يُغلَّ بغلٍّ في عُنقه ؟ وفي
رواية : في يديه ورقبته . وحمله مع عمّاته وأخواته ومَن تخلف من أهل بيته إلى يزيد في
الشّام , وفيهم الحسن بن الحسن المثنى ، وأخواه زيد وعمر أبناء
الحسن السّبط . وكان الحسن بن الحسن قد واسى عمّه في الصّبر على ضرب
السّيوف
وطعن الرماح , وكان قد نُقل من المعركة وقد اُثخن بالجراح وبه رمق فبرئ
.
وساروا بهم كما يُسار بسبايا الروم حتّى اُدخلوهم على
يزيد بالشّام وهم مُقرَّنون في الحبال ، وزين العابدين (عليه السّلام) مغلول ، فلمّا وقفوا بين يديه وهم على تلك الحال
، قال له علي بن الحسين (عليه
السّلام) :
(( أنشدك الله يا يزيد ، ما ظنّك برسول الله
(صلّى الله عليه وآله)
، لو رآنا
على هذه الصّفة ؟! )) .
فلمْ يبقَ في القوم أحد إلاّ وبكى ، فأمر يزيد بالحبال فقُطعت ، وأمر
بفكّ الغُلّ عن زين العابدين (عليه السّلام) .
فلهفي لآلِ اللهِ أسرَى حواسراً سبايا على الأكْوارِ سَبيَ الدَّيالمِ
ومِـنْ بلدٍ تُسبَى إلى شـرِّ بلدةٍ ومِـنْ ظالمٍ تُهدَى إلى شرِّ ظالمِ
|