|
الصفحة
( 260 )
لا عجب إذا صدر مثل هذا ممّن بُعث ليتمم مكارم الأخلاق , وقد قال الله تعالى في حقّه : (
وَإِنّكَ
لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيم
)(1) . ولكنّ العجب
ممّن يدّعون الإسلام , وقد حملوا الهاشميات من بنات رسول الله وبنات
علي وفاطمة اُسارى من بلد إلى بلد كأنّهنّ سبايا الترك أو الدّيلم , وقابلوهن
من الجفاء والغلظة بما تقشعرّ منه الجلود وتنفطر له القلوب ! فمن ذلك لمّا
اُدخل نساء الحسين (عليه السّلام) وصبيانه على ابن زياد بالكوفة , وفي جملتهم زينب
اُخت الحسين (عليه السّلام) , وهي مُتنكّرة وعليها أرذل ثيابها , فمضت حتّى جلست ناحية وحفّ
بها إماؤها , فقال ابن زياد : مَن هذه ؟ فلم تجبه ، فأعاد القول ثانياً وثالثاً
يسأل عنها . فقال له بعض إمائها : هذه زينب بنت فاطمة بنت رسول الله . فأقبل عليها ابن زياد , فقال : الحمد لله الذي قتلكم وفضحكم وأكذب اُحدوثتكم
. فقالت : الحمد لله الذي أكرمنا بنبيّه محمّد , وطهّرنا من الرّجس تطهيراً
؛ إنّما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر وهو غيرنا . فقال ابن زياد : كيف رأيت صنع
الله بأخيك الحسين وأهل بيتك ؟ قالت : ما رأيت إلاّ جميلاً , هؤلاء قوم كتب
الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم , وسيجمع الله بينك وبينهم فتُحاج
وتُخاصم ؛ فانظر لمَن الفلج يومئذ ، ثكلتك اُمّك يابن مرجانة !
قال : فغضب ابن زياد وكأنّه همّ بضربها ، فقال عمرو بن حُريث : يا أمير , إنّها امرأة
، والمرأة لا
تؤاخذ بشيء من منطقها . فقال لها ابن زياد : لقد شفى الله قلبي من طاغيتك
الحسين والعُصاة المردة من أهل بيتك . فرقّت زينب وبكت وقالت : لعمري
يابن زياد ، لقد قتلت كهلي وقطعت فرعي واجتثثت أصلي , فإنْ كان هذا شفاؤك , فقد
اشتفيت .
فقال ابن زياد : هذه سجّاعة ، ولعمري لقد كان أبوها سجّاعاً شاعراً .
تُصانُ بنتُ الدّعيّ فـي كِلل الملـ ـكِ وبنتُ الرّسول تُبتذلُ
يُرجى رضى المصطفى فوا عجباً تُقتـل أولادُه ويحتـمـلُ
ــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة القلم / 4 .
* * *
الصفحة
( 261 )
المجلس الثّامن والثّلاثون بعد المئة
قال الله تعالى مُخاطباً لنبيه الكريم محمّد :
(
وَلَوْ
كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانفَضّوا مِنْ حَوْلِك
)(1) . وقال تعالى :
( وَإِنّكَ
لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيم
)
. وقال رسول
الله (صلّى الله عليه وآله)
: (( حُسن الخُلق نصف الدّين )) . وقال
: (( ما من شيء أثقل في الميزان من حُسن
الخُلق )) . وقال : (( عليكم بحسن الخُلق
؛ فإنّ حسن الخُلق في
الجنّة لا محالة
, وإيّاكم وسوء الخُلق ؛ فإنّ سوء الخُلق في النّار لا محالة ))
.
وكان رسول الله (صلّى الله
عليه وآله)
يقول : (( اللهمَّ
, أحسنت خَلقي فاحسن خُلقي ))
. وقال : (( إنّكم لن تسعوا النّاس بأموالكم ,
فسعوهم بأخلاقكم )) . وقال : (( أفضل النّاس إيماناً أحسنهم خُلقاً , وأصلح
النّاس أنصحهم للنّاس , وخير النّاس من انتفع به النّاس )) . وقال
: (( إنّ جبرائيل ، الرّوح الأمين ، نزل عليّ من عند رب العالمين , فقال : يا
محمّد
، عليك بحسن الخُلق , فإنّه ذهب بخير الدّنيا والآخرة )) .
وكان رسول الله
(صلّى الله عليه وآله)
جامعاً
لمكارم الأخلاق مستكملاً فضائلها , كان دائم البشر سهل الخُلق ليّن الجانب
, ليس بفظّ ولا غليظ ، ولا عيّاب ولا مدّاح , شديد الحياء والتواضع
, يأكُل على
الأرض ويجلس جِلسة العبد , ويخصف(2) نعله بيده ويرقّع ثوبه بيده
, ويركب
الحمار العاري ويردف خلفه ، ويحلب شاته ويخدم أهله ، ويجيب دعوة المملوك
، ويُحب المساكين ويجلس معهم ويعود مرضاهم ويُشيّع جنائزهم ولا يُحقّر فقيراً
ويقبل المعذرة .
عن أبي ذر رضي الله عنه قال : كان رسول الله يجلس
بين أصحابه كأنّه أحدهم , فيجيء الغريب فلا يدري أيّهم هو حتّى يسأل , فطلبنا
إلى النّبي أنْ يجعل له مجلساً يعرفه الغريب إذا أتاه ،
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1)
سورة آل عمران / 159 .
(2) يخرز .
الصفحة
( 262 )
فبنينا له دكّة(1) من طين
, فكان يجلس عليها ونجلس بجانبيه .
عن أنس بن
مالك قال : كان رسول الله إذا فقد الرّجل من إخوانه ثلاثة أيام سأل
عنه ، فإنْ كان غائباً دعا له ، وإنْ كان شاهداً زاره ، وإنْ كان مريضاً عاده .
روي
:
أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله)
كان لا يدع أحداً يمشي معه
إذا كان راكباً حتّى
يحمله معه , فإنْ أبى قال : (( تقدّم أمامي وأدركني في المكان الذي تُريد
)) .
عن
علي بن أبي طالب (عليه السّلام) قال
: (( ما صافح النّبي أحد قط فنزع يده من يده حتّى يكون هو الذي ينزع يده , وما فاوضه أحد قط في حاجة أو حديث فانصرف
حتّى يكون الرّجل هو الذي ينصرف , وما سُئل شيئاً قط فقال لا , وما ردّ سائلاً
حاجة قط إلاّ بها أو بميسور من القول , وما رؤي مُقدّماً رجله بين يدي جليس
له قط ))
.
عن جابر بن عبد الله الأنصاري
قال : غزا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إحدى وعشرين غزوة , شهدت منها تسع عشرة غزوة وغبت عن اثنتين ,
فبينا أنّا معه في بعض غزواته , إذ أعيا ناضحي(2) تحت الليل فبرك
, وكان
رسول الله
(صلّى الله عليه وآله)
في اُخريات النّاس يزجي(3)
الضّعيف ويردفه ويدعو له
, فانتهى
إليّ وأنا أقول : يا لهف اُمّه ، ما زال النّاضح بسوء ! فقال
: (( مَن هذا ؟ )) . فقلت : أنا
جابر ، بأبي أنت واُمّي يا رسول الله ! قال : (( وما شأنك
؟ )) . قلت : أعيا ناضحي . فقال : ((
أمعك عصا ؟ )) . قلت : نعم . فضربه ثُمّ بعثه ثُمّ أناخه ووطئ على ذراعه
, وقال : (( اركب
)) . فركبت وسايرته فجعل جملي يسبقه , فاستغفر لي تلك الليلة خمساً وعشرين مرّة
.
عن جرير بن عبد الله قال : لمّا بُعث النّبي
(صلّى الله عليه وآله) أتيته لاُبايعه
، فقال لي : (( يا
جرير ، لأيّ شيءٍ جئت ؟ )) . قُلت : لاُسلم على يديك يا رسول الله .
فألقى لي كساءه ثُمّ
أقبل على أصحابه , فقال : (( إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه
)) .
يا رسول الله , أيّ
رجل أكرم من ولدك زين العابدين وسيّد السّاجدين (عليه السّلام) ؟! ولمّا اُتي
ـــــــــــــــــــــــــ
(1) الدكة : ما يُقعد عليه . وهي التّي تُسمى مصطبة اليوم .
(2) النّاضح : البعير يُستقى عليه .
(3) يدفع : برفق ولين .
الصفحة
( 263 )
به إلى يزيد بن معاوية , لم يكرمه بشيء ، إلاّ أنّه قال
له : يابن الحسين ، أبوك قطع رحمي وجهل حقّي ونازعني سُلطاني , فصنع
الله به ما قد رأيت . فقال علي بن الحسين (عليه السّلام)
: ((
مَا أَصَابَ مِن مُصِيَبةٍ فِي الأرضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ الاّ فِي
كِتَابٍ مِن قَبْلِ أنْ نَبْرَأَهَا إِنّ ذلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرٌ(1)
)) .
ألا يابنَ هندٍ لا سقى الله تربةً ثويت بمثواها ولا اخضرّ عودُها
المجلس التّاسع والثّلاثون بعد المئة
لمّا كان يوم الجمل ـ وهي الحرب التّي وقعت بين علي (عليه
السّلام) وبين عائشة وطلحة
والزّبير بالبصرة ، وإنّما سمّيت حرب الجمل ؛ لأنّ عائشة ركبت على جمل اسمه
عسكر في هودج وضعت عليه الدّروع , وكان جملها لواء أهل البصرة ـ كان مع علي
(عليه السّلام) عشرون ألفاً , فيهم من الصّحابة
ـ على بعض
الرّوايات
ـ ألف وخمسمئة , ومن
البدريين ثمانون ، وممّن بايع تحت الشّجرة مئتان وخمسون . ومع عائشة ثلاثون
ألفاً ، وقُتل من الفريقين عشرون ألفاً .
وزحف علي (عليه السّلام) بالنّاس ثُمّ أوقفهم
من صلاة الغداة إلى صلاة الظّهر يدعوهم ويُناشدهم , ويقول لعائشة
: (( إنّ الله أمركِ أنْ تقرّي في بيتك , فاتّقي
الله وارجعي )) . ويقول لطلحة والزّبير
: (( خبأتما نساءكما وأبرزتما زوجة رسول الله ! ))
. فيقولا : إنّما جئنا نطلب بدمّ عثُمّان
, وأنْ يُردّ الأمر شورى .
ودعا أمير المؤمنين (عليه السّلام) الزّبير فخرج إليه , وعلي
(عليه السّلام) حاسر والزّبير عليه
السّلاح ، فقال له (عليه السّلام) : (( أما تذكر يوم رآك رسول الله وأنت
تتبسّم إليّ ، فقال لك : أتحب عليّاً ؟ . فقُلت له : كيف لا
اُحبّه وبيني وبينه من النّسب والمودّة في الله ما ليس لغيره ! فقال : إنّك ستقاتله وأنت ظالم له . فقلت َ : أعوذ بالله من ذلك ؟
)) .
قال : اللهمّ نعم . قال (عليه السّلام) :
ـــــــــــــــــــ
(1)
سورة الحديد / 22 .
الصفحة
( 264 )
(( أفجئت تُقاتلني ؟ )) . قال
: أعوذ بالله من ذلك . قال : (( دع هذا ،
بايعتني طائعاً ثُمّ جئت محارباً , فما عدا مما بدا ؟ )) . قال : لا جرم
،
والله لا قاتلتك .
ثُمّ رجع
،
فلقيه
عبد الله ابنه , فقال : أجبناً يا أبتِ ؟! فقال : يا بُني ، قد علم النّاس أنّي لست
بجبان , ولكن ذكّرني عليّ شيئاً سمعته من رسول الله (صلّى الله عليه
وآله)
،
فحلفت أنْ لا اُقاتله . فقال : دونك غلامك مكحولاً , فأعتقه كفارة ليمينك
. قالت عائشة : لا والله , بل خفت سيوف ابن أبي طالب ، أما
إنّها طوال حداد ، تحملها سواعد فتية أنجاد , ولئن خفتها فلقد خافها الرّجال من قبلك .
فحمي الزّبير ونزع سنان رمحه وحمل على عسكر علي (عليه
السّلام) , فقال علي (عليه السّلام)
: (( دعوه , فإنّه
محمول عليه فأفرجوا له )) . فغاص فيهم حتّى دخل من جانب وخرج من آخر
ثُمّ رجع
, فقال لهم : أهذا فعل جبان ؟ ! فقالوا : قد اُعذرت . ثُمّ رجع إلى المدينة
, فقتله ابن جرموز في الطّريق .
ونظرت عائشة إلى علي (عليه السّلام) يجول بين الصّف ّين , فقالت : انظروا
إليه , كأنّ فعله فعل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يوم بدر ! والله , لا
ينتظر بكم إلاّ زوال الشّمس .
ثُمّ إنّ عليّاً (عليه السّلام) دعا بمصحف وقال
: (( مَن يأخذه
ويقرأ عليهم :
وإنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا
بَيْنَهُمَا(1) )) . فقال مسلم المجاشعي : ها أنا ذا
. فقال له : (( تُقطع يمينك وشمالك وتُقتل )) .
فقال : لا عليك يا أمير المؤمنين , فهذا قليل في ذات الله
.
فأخذه ودعاهم إلى
الله فقُطعت يده اليُمنى , فأخذه باليُسرى فقطعت , فأخذه باسنانه فقُتل
, فقالت
اُمّه :
يا ربِّ إنّ مسلمـاً أتاهمْ
بمحكمِ التّنزيل
إذْ دعاهمْ
يتلو كتابَ الله لا يخشاهمْ
فرمّلوه رُمِّلـتْ لحاهـمْ
فقال (عليه السّلام) : (( الآن طاب الضّراب
)) .
ذكّرني اجتهاد مسلم المجاشعي في نصرة أمير المؤمنين (عليه
السّلام) حتّى قُطعت يداه وقُتل , اجتهاد وهب بن حباب الكلبي في نصرة
ولده الحسين (عليه السّلام) حتّى قُطعت يداه وقُتل ، وكانت معه اُمّه وزوجته , فقالت
اُمّه
: قُم
يا بُني وانصر ابن بنت رسول الله . فقال : أفعل يا اُمّاه ولا اُقصّر
.
فبرز
وهو يقول :
ـــــــــــــــــــــ
(1) سورة
الحجرات / 9 .
الصفحة
( 265 )
إنْ تـنْكروني فأنا ابنُ iiالكلْبي سوفَ ترَوني وترَون iiضرْبي
وحملَتي وصولَتي في iiالحربِ أدركُ ثـأري بعد ثأرِ iiصحْبي
وأدفـعُ الـكرْبَ أمام iiالكرْبِ ليس جهادي في الوغى باللعبِ
ثُمّ حمل ولم يزل يُقاتل حتّى قَتل جماعة , ثُمّ رجع
إلى امرأته واُمّه , وقال : يا اُمّاه , أرضيت ؟ فقالت : ما رضيت حتّى
تُقتل بين يدي الحسين (عليه السّلام) . فقالت امرأته
:
بالله عليك لا تفجعني بنفسك ! فقالت له اُمّه : يا بُني ، اعزب عن قولها وارجع
وقاتل بين يدي ابن بنت نبيك ؛ تنل شفاعة جده يوم القيامة .
فرجع فلم يزل يُقاتل حتّى قُطعت يداه , واخذت امرأته
عموداً واقبلت نحوه , وهي تقول : فداك أبي واُمّي ! قاتل دون الطّيبين
, حرم رسول الله . فأقبل كي يردّها إلى النّساء , فأخذت بجانب ثوبه
وقالت : لن أعود دون أنْ أموت معك . فقال الحسين (عليه السّلام)
: (( جزيتم
من أهل بيتي خيراً , ارجعي إلى النّساء رحمك الله )) . فانصرفت
إليهن , ولم يزل
الكلبي يُقاتل حتّى قُتل رضوان الله عليه .
نصروا ابنَ بنتِ نبيّهمْ طُوبى لهمْ
نالوا بنُصرتهِ مراتبَ ساميـهْ
قد جـاوَروه ها هُنـا بقبـورِهمْ وقصورُهمْ يوم الجزا مُتحاذيهْ
المجلس الأربعون بعد المئة
لمّا كانت حرب الجمل ، وهي من الحروب العظيمة , ثبت فيها الفريقان واشرعوا
الرّماح بعضهم في صدور بعض كأنّها آجام القصب , ولو شاءت الرّجال أنْ تمشي
عليها لمشت . كان يُسمع لوقع السّيف أصوات كأصوات القصارين , وخرج رجل من
الصفحة
( 266 )
أهل البصرة يُقال له عبد الله بن أبزى , فتناول خُطام
الجمل وشدّ على عسكر علي (عليه السّلام) , وقال :
أضربُهمْ ولا أرى أبا حسنْ
ها
إنّ هذا حزنٌ من الحَزنْ
فشدّ عليه أمير المؤمنين (عليه السّلام) بالرّمح فطعنه فقتله , وقال
: (( رأيت أبا حسن ؟ فكيف
رأيته ؟ )) وترك الرّمح فيّه . وبرز عبد الله بن خلف الخزاعي ،
وكان رئيس أهل البصرة , وطلب أنْ لا يخرج إليه إلاّ علي (عليه السّلام) , وقال :
أبا تُرابٍ ادنُ منّي فِترا فإنّني دانٍ إليك شِبرا
وإنّ في صدري عليك غَمرا(1)
فخرج إليه (عليه السّلام) ، فلم يمهله أنْ ضربه ففلق هامته .
ولمّا اشتد القتال وقامت الحرب على ساقها , زحف علي (عليه
السّلام) نحو الجمل بنفسه في كتيبته الخضراء من
المهاجرين والأنصار , وحوله بنوه ؛ حسن وحسين (عليهما السّلام) ومحمّد بن الحنفيّة
(رض) , ودفع
الرّاية
إلى محمّد ، وقال : (( إقدم بها حتّى تركزها في عين الجمل
)) .
فتقدّم محمّد فرشقته السّهام , فقال لأصحابه : رويداً
حتّى تنفذ سهامهم . فأنفذ علي (عليه السّلام) يستحثّه
, فلمّا
أبطأ عليه جاء بنفسه من خلفه ، فوضع يده اليسرى على منكبه الأيمن , وقال له
: (( إقدم لا اُمّ لك )) .
فكان محمّد (رض) إذا ذكر ذلك يبكي , ويقول
: لكأنّي
أجد ريح نفسه في قفاي ، والله
،
لا أنسى ذلك أبداً .
ثُمّ أدركت عليّاً (عليه السّلام) رقّة
على ولده , فتناول الرّاية بيده اليسرى ، وذو الفقار مشهور في يده اليمنى
، وهو يقول :
إطعنْ بها طعنَ أبيك تُحمدِ
لا خيرَ في الحربِ إذا لمْ تُوقَدِ
بالمشرَفيِّ والقنا المُسدّدِ
ـــــــــــــــــــــــــ
(1) كحقد , وزناً ومعنى .
الصفحة
( 267 )
ثُمّ حمل (عليه السّلام) فغاص في عسكر الجمل حتّى طحن العسكر ,
ثُمّ رجع وقد انحنى سيفه
فأقامه بركبته , فقال له أصحابه وبنوه والأشتر وعمّار : نحن نكفيك يا
أمير المؤمنين . فلم يجب أحداً منهم ولا ردّ إليهم بصره , وظل ينحط ويزأر زئير الأسد ثُمّ دفع الرّاية إلى
محمّد , ثُمّ حمل حملة ثانية وحده
، فدخل وسطهم
فضربهم بالسّيف قدماً قدماً , والرّجال تفرّ من بين يديه وتنحاز عنه يمنة
ويسرى حتّى خضب الأرض بدماء القتلى , ثُمّ رجع وقد انحنى سيفه فأقامه بركبته
, فاجتمع عليه أصحابه وناشدوه الله في نفسه وفي الإسلام , فقال
: (( والله , ما
اُريد بما ترون إلاّ وجه الله والدّار الآخرة )) . ثُمّ قال
لمحمّد
: (( هكذا تصنع يابن الحنفيّة )) . فقال النّاس : مَن الذي يستطيع ما تستطيعه يا
أمير المؤمنين ؟!
وكان علي (عليه السّلام) يقذف محمّداً في مهالك الحرب
ويكفّ حسناً وحسيناً , وقال (عليه السّلام)
يوم صفّين : (( املكوا عنّي هذين الفتيين ـ يعني الحسن والحسين
(عليهما السّلام) ـ فإنّي أخاف أنْ ينقطع بهما نسل رسول الله )) .
وقال محمّد لأبيه أمير المؤمنين (عليه السّلام) في تقديمه في الحرب وكفّ أخويه الحسن
والحسين (عليهما السّلام) , فقال : (( أنت ابني وهذان ولدا رسول الله , فأنا أفديهما بولدي )) .
فليتك يا أمير المؤمنين لا غبت عن ولديك وقرّتي عينك الحسن والحسين
(عليهما السّلام) ،
اللذين كنت تكفّهما عن الحرب ؛ خوفاً عليهما ، وتفديهما بولدك محمّد ،
لتنظر ما جرى عليهما من بعدك ! أمّا ولدك الحسن (عليه السّلام) فقد
جرّعوه الغصص , ونازعوه حقّه حتّى دسّوا إليه السّم وقتلوه مسموماً ,
ومنعوا من دفنه عند جدّه ؛ وأمّا ولدك الحسين (عليه السّلام) فغصبوه حقّه وقتلوه عطشان غريباً مظلوماً , وهو يستغيث فلا يُغاث
، ويستجير فلا يُجار ، ويطلب شربة من الماء فلا يُجاب :
يـا أيّها النّبأُ العظيمُ إليك iiفي أبـناكَ مـنّي أعـظم الأنباءِ
إنّ اللَـذين تـسرّعا يقيانَك iiالـ أرمـاحَ فـي صفّين iiبالهيجاءِ
فـأخذتَ في عَضديهما تُثنيهما عـمّا أمـامك من عظيمِ iiبلاءِ
الصفحة ( 268 )
ذا قـاذفٌ كـبداً له قِطعاً iiوذا فـي كربلاءَ مقطّع iiالأعضاءِ
مُلقىً على وجه الصّعيد مجرّداً في فتيةٍ بيض الوجوه iiوضاءِ
المجلس الواحد والأربعون بعد المئة
لمّا كان يوم الجمل , لم يكن يأخذ أحد بخطام الجمل إلاّ سالت نفسه أو قُطعت
يده , وأخذ بخطامه سبعون من قريش فقتلوا كُلّهم .
ولمّا رأى أمير المؤمنين (عليه السّلام) أنّ الموت عند
الجمل ، وأنّه ما دام قائماً لا تطفأ الحرب , وضع سيفه على عاتقه وعطف
نحو الجمل وأمر أصحابه بذلك , ووصل (عليه السّلام) في جماعة من النّخع
وهمدان إلى الجمل , فقال لرجل يُسمّى بحيرا : (( دونك الجمل
)) . فضرب عجز الجمل
بسيفه ، فوقع لجنبه وضرب بجرانه الأرض وعجّ عجيجاً لم يُسمع بأشد منه .
فلمّا صُرع الجمل , فرّت الرّجال كما يطير الجراد في
الرّيح الشّديدة , وأمر علي (عليه السّلام) أنْ يُحرق الجمل ثُمّ يذرّى في الرّيح , وقال
: (( لعنه الله من دابّة , فما أشبهه بعجل
بني اسرائيل )) . ثُمّ قرأ :
((
وَانظُرْ إلى إِلهِكَ الّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً
لنُحَرّقَنّهُ ثُمّ لَنَنسِفَنّهُ فِي الْيَمّ نَسْفاً(1)
)) .
وأمر علي (عليه السّلام) بعائشة فحُملت في هودجها إلى دار
عبد الله بن خلف , وقال لأخيها محمّد بن أبي بكر
: (( دونك اختك , لا يتولاها غيرك )) .
وقالت عائشة لأخيها محمّد : أقسمت عليك أنْ تطلب عبد
الله بن الزّبير قتيلاً أو جريحاً . فذهب محمّد فأتاها به ، فصاحت وبكت
ثُمّ قالت : يا أخي , استأمن له من علي . فاستأمن له , فقال علي (عليه
السّلام) : (( آمنته وآمنت جميع
النّاس
)) .
وما أحسن ما قال
القائل :
ملَكنا فكان العفوُ منّا سجيةً فلمّا ملكتمْ سال بالدّمِ أبطحُ
ــــــــــــــــــــــــ
(1)
سورة طه / 97 .
الصفحة
( 269 )
وحللتمُ قتلَ الاُسارَى وطالما غدونا عن الأسرى نعفُّ ونصفحُ
وحسبُكمُ هذا التفـاوتُ بينَنا وكلُّ إناءٍ بالـذي فيـه ينضـحُ
ثُمّ إنّه (عليه السّلام) جهّز عائشة وأرسلها إلى الحجاز , وأرسل معها أربعين امرأة من
عبد القيس .
وهكذا كانت عادة أمير المؤمنين (عليه السّلام) في
الصّفح والعفو عن عدوه إذا ظفر به , فقد سمعت عفوه عن ابن الزّبير مع
شدّة انحرافه عنه وعداوته له حتّى قال علي (عليه السّلام) : (( ما زال الزّبير منّا أهل البيت
حتّى نشأ ابنه عبد الله
)) .
وانظر كيف عفا عن عائشة لمّا ظفر بها ، وأمر أنْ تُحمل في هودجها إلى أعظم
دار في البصرة , وأرسل معها أربعين امرأة , وهذا من أعظم الصّفح وأكبر الحلم
!
ألا لعن الله ابن زياد ، فما كان أبعده من الحلم والصّفح
, وأقربه من
اللؤم والخبث والانتقام ! فإنّه لمّا نزل الحسين (عليه السّلام) بكربلاء , كتب ابن زياد
إلى عمر بن سعد : انظر فإنْ نزل الحسين وأصحابه على حكمي واستسلموا , فابعث
بهم إليّ سلماً ، وإنْ أبوا فازحف إليهم حتّى تقتلهم وتمثّل بهم فإنّهم لذلك
مستحقّون ! فإنْ قتلت حسيناً , فأوطئ الخيل صدره وظهره ، فإنّه عاقّ شاقّ قاطع
ظلوم ! ولست أرى أنّ هذا يضرّ بعد الموت شيئاً , ولكن ـ على قول قد قلته
ـ لو قد
قتلته لفعلت هذا به .
تطأُ الصّواهلُ جسمَهُ وعلى القنا من رأسهِ المرفوعِ بدرُ سماءِ
المجلس الثّاني والأربعون بعد المئة
لمّا كان يوم الجمل , دفع أمير المؤمنين (عليه السّلام) الرّاية إلى ابنه
محمّد بن
الحنفيّة , وقال له : (( تزول الجبّال ولا تزل ، عضّ على ناجذك
، أعر الله جمجمتك ,
تِد في الأرض قدمك ،
الصفحة ( 270 )
إرمِ ببصرك أقصى القوم وغضّ بصرك , واعلم
إنّ النّصر من عند الله سبحانه )) . ثُمّ
قال له : (( احمل )) . فتوقّف قليلاً , فقال له
: (( احمل )) . فقال : يا أمير المؤمنين
، أما ترى
السّهام كأنّها شئابيب المطر ! فدفع في صدره , وقال :
(( أدركك عرق من اُمّك ! )) .
ثُمّ أخذ
الرّاية منه فحمل بها ، ثُمّ دفعها إليه وقال :
(( امحُ الاُولى بالاُخرى , وهذه الأنصار معك )) . وضمّ إليه
خزيمة ذا الشّهادتين في جمع من الأنصار ـ كثير منهم من أهل بدر ـ فحمل
حملات كثيرة أزال بها القوم عن مواقفهم وأبلى بلاء حسناً , فقال خزيمة
لعلي (عليه السّلام) : أما إنّه لو كان غير محمّد اليوم لافتضح
! ولئن
كنت خفت عليه الجبن وهو بينك وبين حمزة وجعفر لما خفناه عليه ، وإنْ كنت
أردت أنْ تُعلّمه الطّعان , فطالما علّمته الرّجال .
وقالت الأنصار : يا أمير المؤمنين , لولا ما جعل الله
للحسن والحسين , لما قدّمنا على محمّد أحداً من العرب . فقال علي (عليه
السّلام) : (( أين الأنجم من الشّمس والقمر
! )) . وقال خزيمة يمدح محمّد بن
الحنفيّة :
محمّد مـا في عودِك اليومَ iiوصمةٌ ولا كُنتَ في الحرب الضّروسِ مُعردا
أبـوكَ الـذي لـمْ يركب الخيلَ مثلُهُ عـلـيٌ وسـمّـاك النّبيُّ iiمحمّدا
وأنـت بـحمدِ الله أطـولُ iiغـالبٍ لـساناً وأنـداها بـما مـَلكتْ iiيـدا
وأطـعنُهُمْ صـدرَ الـكميِّ iiبـرمحهِ وأكـسـاهُمُ لـلهامِ عَـضباً مـهنّدا
سـوى أخـويكَ السيّدينِ iiكـلاهُما إمـامُ الـورى والدّاعيان إلى iiالهُدى
وقيل لمحمّد بن الحنفيّة : لِمَ يغرر بك أبوك في الحرب ولا يغرر بالحسن
والحسين ؟ فقال : إنّهما عيناه وأنا يمينه , فهو يدفع عن عينيه بيمينه
.
وما زال أولاد أمير المؤمنين (عليه السّلام) يعرفون فضل
الحسنين
(عليهما السّلام)
, ويرعون حقّهما ويفدونهما بأنفسهم .
ولمّا كان
يوم كربلاء , كان مع الحسين (عليه السّلام) تسعة من إخوته ـ أولاد علي
(عليه السّلام) لصلبه ـ فقاتلوا دونه قتال الأبطال , وفدوه بأنفسهم
ومهجهم حتّى قُتلوا عن آخرهم ،
منهم :
أخوه وصاحب رايته أبو الفضل
العبّاس (عليه السّلام)
,
وثلاثة إخوة للعباس من اُمّه وأبيه , وكان
الصفحة
( 271 )
آخر من قُتل منهم العبّاس ابن أمير المؤمنين (عليه
السّلام) ، فلمّا قُتل بكى الحسين (عليه السّلام)
لقتله بكاءً شديداً . وحقّ له ذلك
؛ فإنّ موت الأخ يقصم الظّهر ولا سيّما إذا
كان مثل أبي الفضل العبّاس (عليه السّلام) , ولنعم ما قال القائل :
أحـقُّ النّاس أنْ يُبكى iiعليهِ فتىً أبكى الحسينَ iiبكربلاءِ
أخـوه وابنُ والـده iiعليٍّ أبو الفضلِ المضرَّجُ بالدّماءِ
ومَـن واساه لا يُثنيه iiشيءٌ وجـاد له على عطشٍ iiبماءِ
المجلس الثّالثّ والأربعون بعد المئة
كان مالك بن الحارث الأشتر من خواصّ أصحاب أمير
المؤمنين (عليه السّلام)
, ومن ثناء
أمير المؤمنين عليه ما كتبه يوم صفّين إلى أميرين من اُمراء جيشه , من جملة
كتاب يقول فيه : (( وقد أمّرت عليكما وعلى مَن في حيزكما مالك بن الحارث
الأشتر , فاسمعا له وأطيعا واجعلاه درعاً ومجناً(1)
؛ فإنّه ممّن لا يخاف
وهنه(2) ولا سقطته(3) , ولا بطؤه عمّا
الإسراع
إليه أحزم ، ولا إسـراعه إلى
ما البطء عنه أمثل(4)
)) .
ولقد بلغ ثناء أمير المؤمنين (عليه السّلام) على مالك
الأشتر في هذه الكلمات ، مع إختصارها , ما لا يبلغ بالكلام الطّويل ,
ولقد جمع (عليه السّلام)
أصنافاً كثيرة من الثّناء والمدح بكلمة واحدة من هذا الكلام ، وهي قوله
: (( لا
يخاف بطؤه عمّا الإسراع إليه أحزم , ولا إسراعه إلى ما البطء عنه أمثل
)) . ولقد
كان الأشتر رحمه الله أهلاً لذلك , كان شديد البأس جواداً ، رئيساً حليماً
،
فصيحاً شاعراً , ومن شعره قوله :
ـــــــــــــــــــــ
(1) المجن : التّرس .
(2) ضعفه .
(3) غلطه وخطأه .
(4) أفضل .
الصفحة
( 272 )
بقَّيتُ وفري وانحرفتُ عن العُلا ولـقيتُ أضـيافي بوجهِ عبوسِ
إنْ لـمْ أشنّ على ابن هندٍ iiغارةً لـمْ تخلُ يوماً من ذهابِ iiنفوسِ
خـيلاً كـأمثالِ السّعالى iiشُزّباً تـعدو ببيضٍ في الكريهة iiشوسِ
حُـميَ الـحديدُ عـليهمُ iiفـكأنَّهُ وَمـضانُ برقٍ أو شعاعُ iiشموسِ
وكان يجمع بين اللين والعنف , فيسطو في موضع السّطوة
ويرفق في موضع الرّفق , وكان فارساً شجاعاً من أكابر الشّيعة وعظمائها
, شديد التحقّق لولاء أمير المؤمنين (عليه السّلام) ونصره .
ولمّا قنَتَ أمير المؤمنين (عليه السّلام) على خمسة : معاوية
وعمرو بن العاص وأبي الأعور السّلمي وحبيب بن مسلمة وبسر بن أرطاة , قنَتَ
معاوية على خمسة : علي والحسن والحسين (عليهم السّلام
) ، وعبد الله بن
العبّاس
ومالك الأشتر رحمهما الله .
ولمّا برز عبد الله بن الزّبير يوم الجمل
ودعا إلى المبارزة , برز إليه الأشتر , فقالت عائشة : مَن برز إلى عبد الله
؟ قالوا : الأشتر . فقالت : و ا
ثكل اسماء ! وهي اُمّ عبد الله بن الزّبير
، اُخت عائشة
.
فضرب كلّ منهما صاحبه فجرحه , ثُمّ اعتنقا فصرع الأشتر عبد الله وقعد على
صدره , واختلط الفريقان هؤلاء لينقذوا عبد الله وهؤلاء ليعينوا الأشتر
، وكان الأشتر طاوياً ثلاثة أيام لم يأكُل ـ وكانت هذه عادته في الحرب , وكان
أيضاً شيخاً كبير السّن ـ فجعل عبد الله يُنادي من تحته : اقتلوني ومالكاً
،
واقتلوا مالكاً معي ! فلم يدرِ النّاس مَن مالك ، وإنّما كان يُعرف بالأشتر
, فلو
قال : اقتلوني والأشتر لقتلوهما . فأفلت ابن الزّبير من تحته ولم يكد , فقال
الأشتر في ذلك :
أعـائشُ لـولا أنّني كنتُ iiطاوياً ثـلاثاً لألـقيتِ ابنَ
اختكِ iiهالكا
غـداةَ يـنادي والرّجالُ iiتحوزُهُ بـأضعفِ صوتٍ اقتلوني iiومالكا
فـلمْ يـعرفوه إذْ دعـاهمْ iiوغمُهُ خِدبٌ(1) عليه في العجاجةِ باركا
فـنـجّاه مـنّي أكـلُهُ iiوشـبابُهُ وأنّـيَ شـيخٌ لـم أكُنْ iiمتماسكا
ــــــــــــــــــــــ
(1) شيخ أو عظيم .
الصفحة
( 273 )
ودخل الأشتر على عائشة بعد
انقضاء حرب الجمل , فقالت : أنت الذي صنعت بابن ا ُختي ـ أي عبد الله بن الزّبير ـ ما صنعت
؟ قال : نعم , ولولا
أنّي كنت طاوياً ثلاثة أيام لأرحت اُمّة محمّد
(صلّى
الله عليه وآله) منه . قالت : أما علمت أنّ
رسول الله (صلّى الله عليه وآله) , قال : (( لا
يحلّ دم مسلم إلاّ بأحد اُمور ثلاثة : كفر بعد إيمان ، أو زنى بعد إحصان
، أو قتل نفس بغير حق )) ؟ فقال : على بعض هذه الثّلاثة قاتلناه يا اُمّ
المؤمنين . والله ، ما خابني سيفي قبلها ، ولقد أقسمت أنْ لا يصحبني بعدها
.
وفي ذلك يقول الأشتر من جملة هذا الشّعر .
وقالتْ على أيِّ الخصالِ صرعتهُ
بقتـلٍ أتـى أمْ ردّةٍ لا أبا لكـا
أمْ المُحصَنِ الزّاني الذي حـلّ قتلُهُ
فقلتُ لها لا بدّ من بعض ذلكا
ومات الأشتر رحمه الله شهيداً ، دسّ إليه معاوية السمّ
في شربة من عسل , فلمّا بلغه موته , قال : إنّ لله جنوداً من عسل .
ولمّا بلغ موته إلى أمير المؤمنين (عليه السّلام) , حزن عليه حزناً شديداً ، وقال : (( مالك ، وما
أدراك ما مالك ! وهل تلد النّساء
مثل مالك ؟! لو كان حجراً لكان صلداً ، ولو كان جبلاً لكان فنداً(1)
. رحم الله
مالكاً ، فقد كان لي كما كنت لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) )) .
ويشبه مالك في نصحه لأمير المؤمنين (عليه السّلام)
وحزن أمير المؤمنين (عليه السّلام) عليه , حبيب بن مُظاهر وزُهير بن
القين في نصحهما لولده الحسين (عليه السّلام) وحزنه عليهما ؛ أمّا حبيب
فإنّه لمّا قُتل , هدّ مقتله الحسين (عليه السّلام) ، وقال :
(( عند الله أحتسب نفسي وحماة أصحابي )) ؛ وأمّا زهير فلمّا صرع
قال الحسين (عليه السّلام)
: (( زُهير ، لا يبعدك الله يا زهير ، ولعن
قاتلك لَعْنَ الذين مُسخوا قردة وخنازير )) .
وشدّ كثير بن عبد الله
الشّعبي ومهاجر بن أوس على زهير , فقتلاه بعدما قتل مقتلة عظيمة .
نصروا ابنَ بنتِ نبيِّهمْ طوبى لهمْ
نالوا بنُصرتِهِ مراتبَ ساميهْ
ـــــــــــــــــــــــ
(1) الفند ، بالكسر : الجبل العظيم .
الصفحة
( 274 )
المجلس الرّابع والأربعون بعد المئة
لمّا كان يوم الجمل , برز عمرو بن يثربي الضبّي ـ وكان
فارس أهل الجمل وشجاعهم ـ فخرج إليه علباء بن الهيثم من أصحاب أمير
المؤمنين (عليه السّلام) فقتله عمرو , ثُمّ دعا إلى البراز فخرج إليه
هند الجملي فقتله عمرو , ثُمّ دعا إلى البراز , فقال زيد بن صوحان
العبدي لعلي (عليه السّلام) : يا أمير المؤمنين , إنّي رأيت يداً أشرفت
عليّ من السّماء وهي تقول : هلمّ إلينا . وأنا خارج إلى ابن يثربي ، فإذا قتلني
فادفني بدمي ولا تغسلني , فإنّي مخاصم عند ربّي . ثُمّ خرج فقتله عمرو
.
ثُمّ طلب المبارزة ، فقيل : برز إليه عمّار بن ياسر
والنّاس يسترجعون ؛ لأنّه كان أضعف مَن برز إليه , فضربه عمرو فنشب
سيفه في درقة عمّار ، وضربه عمّار فصرعه , ثُمّ جرّه برجله حتّى أتى به
عليّاً (عليه السّلام) , فقال : يا أمير المؤمنين ، استبقني اجاهد
بين يديك . فقال : (( أَبعد زيد وهند وعلباء استبقيك
؟! لاها الله )) . قال : فادن منّي اسارّك . فاعرض عنه أمير
المؤمنين (عليه السّلام) , فقال : أما والله , لو وصلت إليك لعضضت أنفك
عضّة أبنته منك . فأمر أمير المؤمنين (عليه السّلام) فضربت عنقه .
وقيل : لمّا برز قال
للأزد : إنّي قد وترت القوم وهم قاتلي , ولست أخشى أنْ اُقتل حتّى اُصرع
, فإنْ صُرعت فاستنقذوني . فقالوا له : ما نخاف عليك إلاّ الأشتر . قال : فإيّاه
أخاف .
فخرج الأشتر وهو يقول :
إنّي إذا ما الحربُ أبدتْ نابَها وغـلّقتْ يومَ الوغى أبوابَها
ومـزّقتْ مـن حَنقٍ iiأثوابَها كُـنّـا قـداماها ولا iiأذنـابَها
لـيس العدوُّ دونَنا iiأحابَها مـَن هـابَها اليومَ فلنْ iiأهابَها
لا طعنَها أخشى ولا ضرابَها
الصفحة
( 275 )
ثُمّ حمل عليه الأشتر فطعنه فصرعه ، وحامت عنه الأزد
فاستنقذوه , فوثب وهو مشرف على الموت ، فلم يستطع أنْ يدفع عن نفسه ,
فطعنه رجل فصرعه ثانية ، وسحبه آخر برجله حتّى أتى به عليّاً (عليه السّلام) , فناشده الله
،
وقال : يا أمير
المؤمنين
, اعفُ عنّي
فإنّ العرب لم تزل قائلة عنك : إنّك لم تجهز على جريح قط . فعفا عنه واطلقه
, فجاء إلى أصحابه ، وحضره الموت , فقيل له : دمك عند أي النّاس ؟ فقال : ضربني فلان
وفلان وصاحبي الأشتر . فقالت ابنته ترثيه :
يا ضبُّ إنّك قد فُجعتَ iiبفارسٍ حـامي الـحقيقة قاتلِ iiالأقرانِ
عمرو بن يثربي الذي فُجعتْ بهِ كـلُّ الـقبائلِ من بني iiعدنانِ
لـو غـيرُ الاشترِ نالَهُ iiلندبتُهُ وبكيتهُ ما دام هضب أبانِ(1)
لـكنّه مَـنْ لا يُـعاب بـقتلهِ أسـدُ الاُسود وفارسُ iiالفرسانِ
وكانت العرب إذا قُتل منها قتيل ، وكان قاتله رجلاً جليلاً
، تسلّت عنه ولم
تحزن عليه , وإذا كان قاتله من الأنذال ، عظم ذلك عليها وزاد في حزنها
؛ ولذلك لمّا قتل علي (عليه السّلام) عمرو بن عبد ود ، وسألت اُخته عن قاتل أخيها , فقيل
لها : علي بن أبي طالب , قالت : قتلة شريفة بيد شريف . والله , لا أبكي على
أخي
. وأنشأت تقول :
لو كان قاتلُ عمروٍ غيرَ قاتلِهِ
لكنتُ أبكـي عليـه آخرَ الأبدِ
لكنّ قاتلَـهُ مـَن لا يُعاب بهِ
مَن كان يُدعى أبوه بيضةَ البلدِ
ولهذا أيضاً عظُم حزن زينب بنت أمير المؤمنين (عليه
السّلام) على أخيها الحسين (عليه السّلام) لمّا علمت أنّ قاتله الأنذل الرّذل ، شمر بن ذي الجوشن .
وكان مما ندبت به
أخاها الحسين (عليه السّلام) أنْ قالت مُخاطبة لجدّها رسول الله (صلّى
الله عليه وآله)
: يا محمّداه ! هذا حسين بالعرا ، تسفي عليه ريح الصّبا , قَتيل أولاد
البغايا . وآحزناه ! وأكرباه عليك يا أبا عبد الله !
أمثـلَ شمـرٍ أذلّ اللهُ جبهتَـهُ
يلقى حُسيناً بذاك المُلتقى الخشنِ
يا حسرةَ الدّينِ والدّنيا على قمرٍ
يشكو الخسوفَ من العسّالة اللدنِ
ـــــــــــــــــــــــــــ
(1) هَضْب ، بفتح الهاء وسكون الضّاد : جمع هضبة . وأبان : جبل .
الصفحة
( 276 )
المجلس الخامس والأربعون بعد المئة(1)
كرم محمّد بن عبد الله (صلّى الله عليه وآله)
الإنسانيّة كلّها , فالغى الإضطهاد العنصري إلغاءً عمليّاً حين اختار لأقدس مهمّة
زنجيّاً أسود اللون , وجعل منه مؤذّنه الذي يُنادي المؤمنين للصلوات في
أوقاتها الخمس !
هذا الأسود هو بلال الحبشي الذي كان عبداً من عبيد قُريش
, فلم تكد تبلغه
الدّعوة الإسلاميّة حتّى كان أوّل الملبّين لها , وتعلم به قُريش ويعلم به
سيّده اُميّة بن خلف , فينصحونه بالعدول عن الطّريق الذي مشى فيه فلا يقبل
النّصيحة ، ويستمر مُسلماً مُخلصاً , فيأخذون في تعذيبه العذاب الأليم ، ولكنّه
لا يزداد إلاّ إيماناً ، ثُمّ يفرّ بنفسه إلى المدينة مع مَن هاجر إليها ،
وهُناك صار مؤذّن الرّسول .
ولقد كانت في صوته لَكْنة , فلا يستطيع أنْ يلفظ الشّين
لفظاً صحيحاً ، بل تخرُج من فمه وكأنّها سين ، فيقول الرّسول (صلّى
الله عليه وآله) : (( إنّ سينه عند الله شين )) .
وعلى صوت بلال الحبشي كان يهرع شيوخ المُسلمين وشُبّانهم
إلى المسجد , ملبّين نداء الله ، يبعثه هذا الإنسان الأسود اللون . ولم يكُن تكريم لعنصر بلال
أعظم من هذا التّكريم الذي خصّه به رسول الله ؛ ولذلك فإنّه لمّا مات
النّبي , انقطع إلى أهل البيت (عليهم السّلام) مُخلصاً لهم ، وفيّاً لذكرى أبيهم الرّسول
.
وتدور الأيام ، ويلقى أهل البيت (عليهم السّلام) محناً وأرزاءً ، ويبرز
الأوفياء مُلتفّين حول الاسرة النبويّة , عازمين على الموت دونها
؛ إخلاصاً لمحمّد ورسالته . ويقف الحسين (عليه السّلام) في كربلاء في أقلّ من مئة من
الرّجال كانوا يُمثّلون في تلك السّاعة أنبل ما في الكون من سجايا ،
وهل في الكون أنبل من أنْ يبذل الإنسان دمه طواعية ؛ وفاء لرجل وثباتاً على
مبدأ وإخلاصاً لعقيدة ؟
ــــــــــــــــــــــــ
(1) من المجالس التّي أضفناها على الطّبعة السّابقة .
|
|