الصفحة
(97)
المجلس الثمانون بعد المئة
كان قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري من أجلاّء الصحابة ،
ومن المتفانين في حبّ علي (عليه السّلام) ونصره .
وفي الإستيعاب ، قال الواقدي : كان قيس بن سعد
من كرام أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وأسخيائهم ودهاتهم . قال أبو عمرو : كان أحد الفضلاء الأجلّة
، وأحد دهاة العرب ، وأهل الرأي
والمكيدة في الحرب ، مع النّجدة والبسالة ، والسخاء والكرم ، وكان شريف قومه
غير مدافع ، وكان يقول : اللهمّ ، ارزقني حمداً ومجداً ؛ فإنّه لا حمد
إلاّ بفعال ، ولا مجد إلاّ بمال .
واستقرض منه رجل ثلاثين ألفاً ، فلمّا ردّها عليه
أبى أنْ يقبلها ، وقال : إنّا لا نعود في شيء أعطيناه . وشكت إليه عجوز أنّه
ليس في بيتها جرذ ، فقال : ما أحسن ما سألت ! أما والله ، لأكثرنّ
جرذان بيتك ، فملأ بيتها طعاماً وأداماً . ولمّا خرج أبوه من المدينة ، قسّم ماله بين
أولاده ، وكان له حمل لا يعلم به ، فلمّا توفي أبوه ، طلبوا إلى قيس أنْ
ينقض القسمة ، فقال : نصيبي للمولود ، ولا أنقض ما صنع أبي .
وكان لقيس دَينٌ كثيرعلى النّاس ، فمرض واستبطأ عوّاده
، فقيل
: إنّهم يستحون من أجل دينك . فأمر
فنودي : مَن كان لقيس عليه دَين فهو له ، فتزاحم النّاس على عيادته
حتّى هدموا درجة
كانوا يصعدون عليها إليه . وقال أنس بن مالك : كان قيس من النبيّ (صلّى
الله عليه وآله) بمنزلة صاحب الشرطة من الأمير
.
صحب قيس علي بن أبي طالب
(عليه السّلام) ، وشهد معه الجمل وصفّين والنّهروان هو وقومه ، ولم يفارقه حتّى قُتل . وكان علي (عليه السّلام) قد ولاّه على مصر ، فضاق به معاوية وكايد فيه
عليّاً
الصفحة (98)
ففطن له ، فلم يزل به الأشعث وأهل الكوفة حتّى عزله ، وولّى
محمّد بن
أبي بكر ففسدت عليه مصر . وكان قيس مع الحسن (عليه السّلام) على مقدّمته ، ومعه خمسة
آلاف قد حلقوا رؤوسهم وتبايعوا على الموت ، فلمّا دخل الحسن (عليه
السّلام) في
بيعة معاوية أبى قيس أنْ يدخل .
قال أبو الفرج : إنّه نهض بمَن معه لقتال معاوية
، وخرج إليهم بُسر بن أرطأة في عشرين ألفاً ، فصاحوا بهم : هذا أميركم قد
بايع ، وهذا الحسن (عليه السّلام) قد صالح ، فعَلامَ تقتلون أنفسكم ؟ فقال لهم قيس
ـ أي
: لأصحابه ـ : اختاروا أحد اثنين ؛ إمّا القتال مع غير إمام ، أو تبايعون بيعة
ضلال ؟ فقالوا : بل نُقاتل بلا إمام . فخرجوا وضربوا أهل الشام
حتّى ردّوهم
إلى مصافهم .
وكتب معاوية إلى قيس يدعوه ويمنّيه ، فكتب إليه قيس
: لا والله ، لا
تلقاني أبداً إلاّ وبيني وبينك السّيف والرمح . وجرت بنيهما مكاتبات أغلظ
كلّ منهما فيها لصاحبه ، فقال عمرو بن العاص لمعاوية : مهلاً ، إنْ كاتبته أجابك
بأشدّ من هذا ، وإنْ تركته دخل فيما يدخل فيه النّاس . وقال قيس لأصحابه
: إنْ
شئتم جالدت بكم ، وإنْ شئتم أخذت لكم أماناً ؟ فقالوا : خذ لنا أماناً . فأخذ لهم وله أماناً
، ولم يأخذ لنفسه خاصّة شيئاً
، ثمّ لزم المدينة وأقبل على العبادة حتّى مات .
أقول : شتّان بين عبيد الله بن العبّاس وقيس بن سعد ،
فهذا يسالم معاوية بعدما ذبح بُسر بن أرطأة أولاده الصغار على درج
صنعاء حين أرسله معاوية ، ويبيع شرفه بالمال ، ويرضى بالذلّ والعار ، وقيس
بن سعد يحلف أنْ لا يلقى معاوية إلاّ بينه الرمح والسيف ، بعد ما بلغه أنّ
الحسن قد صالح .
أبتْ الحميَّةُ أنْ تُفارقَ أهلَهَا
وأبَى العزِيزُ بأنْ يعيشََ ذلِيلا
ولمّا نشر علي (عليه السّلام) لواءه يوم صفّين ، قال قيس
: هذا والله
،
الصفحة
(99)
اللواء الذي كنّا نحفّ به مع رسول الله (صلّى الله عليه
وآله) ، وجبرائيل لنا مدد . ثمّ قال :
هـذا الـلّواءُ الذي كُنّا نحفُّ iiبهِ مـعَ
النّبيِّ وجـبرائيلٌ لنا مددُ
ما ضرَّ مَن كانَت الأنصارُ عَيبَتَهُ أنْ لا يـكونَ لهُ منْ غيرِهمْ iiأحدُ
قـومٌ إذا حـارَبُوا طالتْ iiأكفُّهُمُ بـالمشرفيَّةِ حتّى يُـفتحَ iiالبلدُ
يقول قيس ـ رحمه الله ـ كما سمعت :
هـذا الـلّواءُ الذي كُنّا نحفُّ iiبهِ مـعَ
النّبيِّ وجـبرائيلٌ لنا مددُ
أجل ، إنّ اللّواء الذي حفّت به الأنصار يوم بدر هو الذي حفّت به يوم
صفّين ؛ ولهذا كانت تقول عكرشة بنت الأطرش يوم صفّين ـ وكانت مع أمير المؤمنين
(عليه السّلام) ـ : هذه بدر الصغرى والعقبة الكبرى . واللّواء الذي حفّت به جماعة
من الأنصار مع الحسين (عليه السّلام) يوم كربلاء ، هو الذي حفّوا به مع أبيه
أمير المؤمنين (عليه السّلام) يوم صفّين ، وحفّوا به مع جدّه رسول الله
(صلّى الله عليه وآله) يوم بدر ، ولولا تلك الإحن البدريّة ، والأحقاد
الجاهليّة لما كان حرب صفّين وواقعة كربلاء .
قالت اُمّ الخير البارقيّة يوم صفّين ـ وكانت مع علي
(عليه السّلام) ـ : إنّها إحن بدريّة ، وأحقاد جاهليّة وثب بها
واثب حين الغفلة ، ليُدرك ثارات بني عبد شمس . وصرّح بذلك يزيد بن معاوية
لمّا وضع رأس الحسين (عليه السّلام) بين يديه ، فجعل ينكت ثناياه بقضيب
خيزران ، ويقول : يوم بيوم بدر .
وقال أيضاً :
لـيتَ أشـياخي ببدرٍ iiشَهدوا جَزعَ الخزْرجِ منْ وقْعِ الأسلْ
لأهـلّـوا واسْـتهلّوا فـرحاً ثمّ قـالوا يـا يزيدُ لا iiتشلْ
قـدْ قـتلْنا القَرمَ منْ iiساداتِهمْ وعَـدلْـناهُ بـبدْرٍ فـاعتَدَلْ
لـعبتْ هـاشمُ بـالمُلكِ iiفلا خـبرٌ جـاء ولا وحيٌ iiنَزلْ
* * *
ثاراتُ بدرٍ اُدرِكتْ في كرْبَلا لبني
اُميّةَ من بني الزهراءِ
الصفحة
(100)
المجلس الحادي والثمانون بعد المئة
قال ابن أبي الحديد : روي أنّ الوليد بن جابر بن ظالم الطائي
كان ممّن وفد
على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فأسلم ، ثمّ صحب عليّاً (عليه
السّلام) وشهد معه صفّين ، وكان من رجاله المشهورين ، ثمّ وفد على معاوية بعد وفاة
أمير المؤمنين (عليه السّلام) ودخل عليه في جملة النّاس ، فاستنسبه فانتسب له
، فعرفه معاوية ، فقال له : أنت صاحب ليلة الهرير ؟ قال : نعم . قال
: والله ، لا تخلو مسامعي من رجزك تلك الليلة ، وقد علا صوتك أصوات
النّاس ، وأنت تقول :
شُـدّوا فـداءً لـكُمُ اُمِّـي iiوأبِْ فـإنّما الأمـرُ غَـداً لمَنْ iiغلَبْ
هذا ابنُ عمِّ المُصطفَى والمُنتَجبْ تـنْميهِ لـلعلياءِ ساداتُ iiالعربْ
لـيسَ بموصُومٍ إذا نُصَّ iiالنَّسبْ أوّلُ مَـنْ صلَّى وصامَ iiواقتَرَبْ
قال : نعم ، أنا قائلها . قال : فلماذا قلتها ؟ قال
: لأنّا كنّا مع رجل لا نعلم خصلة
توجب الخلافة ، ولا فضيلة تصير إلى التقدمة إلاّ وهي مجموعة له . كان
أوّل النّاس سلماً ، وأكثرهم علماً ، وأرجحهم حلماً . فات الجياد فلا
يشقّ غباره ، واستولى على الأمد فلا يخاف عثاره ، وأوضح منهج الهدى فلا
يبيد مناره ، وسلك القصد فلا تدرس آثاره . فلمّا ابتلانا الله تعالى بافتقاده ، وحوّل
الأمر إلى مَن يشاء من عباده ، دخلنا في جملة المسلمين ، فلم ننزع يداً عن
طاعة ، ولم نصدع صفاة جماعة ، على أنّ لك منّا ما ظهر ، وقلوبنا بيد الله
وهو
أملك بها منك ، فاقبل صفونا وأعرض عن كدرنا ، ولا تُثر كوامن الأحقاد ؛ فإنّ
النار تقدح بالزناد .
قال معاوية : وإنّك لتهددني يا أخا طيء ، بأوباش العراق
؟! أهل النفاق ومعدن الشقاق . فقال : يا معاوية ،
الصفحة
(101)
هم الذين أشرقوك بالرّيق ، وحبسوك بالمضيق ، وذادوك عن سُنن الطريق
حتّى لذت
منهم بالمصاحف ، ودعوت إليها مَن صدّق بها وكذّبت ، وآمن بمنزلها وكفرت
، وعرف
من تأويلها ما أنكرت . فغضب معاوية ، وأدار طرفه فيمَن حوله فإذا جلّهم من
مضر ، ونفر قليل من اليمن ، وحيث إنّ الوليد يمانيّ ، واليمانيّون قليلون في
مجلسه ، لم يخف من الوليد ، فقال : أيها الشقي الخائن ، إنّي لأخال أنّ هذا آخر
كلام تفوّهت به .
وكان عفير بن سيف بن ذي يزن بباب معاوية حينئذٍ ، وكان
يمانيّاً ، فعرف موقف الطائي ومراد معاوية ، فخافه عليه ، فهجمَ عليهم الدار
وأقبل على اليمانيّة ، فقال : شاهت الوجوه ذلاّ ًوقلاّ ً، وجدعاً وفلاّ
ً. ثمّ التفت
إلى معاوية ، فقال : لقد رأيتك بالأمس خاطبت أخا ربيعة ـ يعني : صعصعة بن صوحان
ـ وهو أعظم جرماً عندك من هذا ، ثمّ أثبتّه وسرّحته ، وأنت الآن مجمع على قتل
هذا ، زعمت استصغاراً لجماعتنا ، ولَعمري ، لو وكلتك أبناء قحطان إلى قومك
، لكان جدّك العاثر وذكرك الداثر ، وحدّك المفلول وعرشك المثلول ، فأربع على
ظلعك(1) ؛ فإنّا لا نرام بوقع الضيم ، ولا نتلمّط جرع الخسف(2) .
فقال معاوية
: الغضب شيطان ، فأربع على نفسك أيّها الإنسان ؛ فإنّا لم نؤتِ إلى صاحبك
مكروهاً ، فدونكه ؛ فإنّه لم يضق عنه حلمنا ويسع غيره . فأخذ عفير بيد الوليد
وخرج به إلى منزله ، ثمّ جمع مَن بدمشق من اليمانيّة ، وفرض على كلّ رجل
دينارين في عطائه ، فبلغت أربعين ألفاً ، فجعلها من بيت المال ودفعها إلى
الوليد وردّه إلى العراق .
ولو كان معاوية حليماً ـ كما يدّعي ويُدّعى له ـ ، لما
قَتل حِجراً وأصحاب حِجر حيث لم يتبرّؤوا من أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، لمَا قتل عمرو بن الحمق الخزاعي بعد ما
____________________________
(1) أي : إنّك ضعيف ، فانته عمّا لا تطيقه
.
(2) أي : الذّل . ـ المؤلّف ـ
الصفحة
(102)
حبس زوجته سنتين في سجن دمشق . ولمّا جاءه رأسه ، أرسله إليها ووضعه في
حجرها ، هذا بعد ما أعطى الحسن بن علي (عليه السّلام) العهود والمواثيق أنْ
لا يتعرض لشيعته . وإنّما كان يظهر الحلم حين يرى فيه مصلحة لدنياه ، وحين
يخاف من عاقبة البطش ، فيدعه ويُظهر أنّ ذلك عن حلم ، وإنّما هو عن خوف
، وإلاّ
فما باله وقد ملك الأمر ، وانقادت له النّاس بعد صلح الحسن (عليه
السّلام) ، يسلّط زياد بن أبيه على شيعة علي (عليه السّلام) ، فيسومهم سوء العذاب بالقتل
والنّفي ، وسلب الأموال وهدم الدور ؟ وما بالُه يستحضر مَن يعرفهم بحبّ علي
(عليه السّلام) ، من نساء ورجال ، من الأمكنة البعيدة ، فيتهدّدهم ويتوعّدهم
ويؤنّبهم ، ثمّ يُظهر الحلم عنهم حينما يخاف عاقبة البطش ؟ وما بالُه يُحمل عبد
الله بن هاشم المرقال إليه أسيراً ، بعد صلح الحسن (عليه السّلام) ، فيسجنه ويُهدّده بالقتل
؟
ولو كان حليماً ـ كما يقول ويُقال فيه ـ لفعل كما فعل
أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، فعفا عن أهل الجمل لمّا ظفر بهم ،
وفيهم أعدى النّاس له ، ولم يجازهم بشيء ، وأصدر عفواً عامّاً عن جميع
أهل البصرة الذين حاربوه . وما حلمُ معاوية الذي يظهر إلاّ كحلم ولده
يزيد عن أهل بيت الرسالة ، فإنّه بعدما قتل الحسين (عليه السّلام) ،
وسبى نساءه وأطفاله ، وحملهم إليه من الكوفة إلى الشام ، وأدخل النّساء
إلى مجلسه العام ، أراد أنْ يتلافى ما فرّط منه حين خشي سوء العاقبة في
الدنيا ، لمّا رأى النّاس تنقم عليه ، فقال لزين العابدين (عليه
السّلام) : إنْ شئت أقمت عندنا فبررناك ، وإنْ شئت رددناك الى المدينة
. فقال (عليه السّلام) : (( لا
اُريد إلاّ المدينة )) . فأرسلهم إليها ، وأرسل معهم النّعمان
بن بشير الأنصاري في جماعة وأمره بالرّفق بهم ، وأنْ ينزل بعيداً عنهم
حين ينزلون
.
ولكن ما
يفيده ذلك بعد أنْ فعل ما فعل ، وارتكب ما ارتكب؟!
(103)
وودَّ أنْ يتلافَى ما جنتْ يدُهُ وكانَ ذلك كسْـراً غيـرَ مَجْبُورِ
تُسبَى بنـاتُ رسولِ الله بينَهُمُ
والدِّينُ غضُّ المبادي غيرُ مستورِ
* * *
المجلس الثاني والثمانون بعد المئة
قال المُرزُباني : دخل عدي بن حاتم الطائي ـ رحمه الله
، وكانت عينه ذهبت
يوم الجمل ـ على معاوية وعنده ابن الزّبير ، فقال ابن الزّبير : يا أبا طريف
، متى ذهبت عينُك ؟ قال : يوم فرّ أبوك مُنهزماً فقُتل ، وضُربتَ على قفاك وأنت هارب
، وأنا مع الحقّ وأنت مع الباطل . فقال معاوية : ما فعل الطُّرفات ؟ ـ يعني
: طريفاً وطُرافاً وطُرْفة أبناءه ـ قال : قُتلوا مع أمير المؤمنين علي
(عليه السّلام) . فقال
له : ما أنصفك علي ؛ إذ قدّم أبناءك وأخّر أبناءه . قال : بل أنا ما أنصفته
؛ إذ
قُتل وبقيت بعده . قال له معاوية : أما أنّه قد بقيت قطرة من دم عثمان
، ما لها
إلاّ كذا ، وأومأ بيده إليه . فقال له عدي : إنّ السّيوف التي اُغمدتْ
اُغمدتْ على
حسّك في الصدور ، ولعلّك تسلُّ سيفاً تسلُّ به سيوفاً . فالتفت معاوية إلى عمرو بن
العاص ، فقال : كلمة شدَّها في قَرنك . ثمّ خرج عدي ، وهو يقول :
يـحاولُنِي مُـعاويةُ بن
iiصخْرٍ وليسَ إلى التي يَبغِي iiسبيل
ُ
يُـذكِّرُني أبـا حَـسنٍ iiعليّاً وخَطْبي في أبي حسنٍ iiجليل
ُ
وقال ابنُ الزُّبيرِ وقال عمرٌو عـديٌّ بـعدَ
صفّين ذليل
ُ
فـقُلتُ صدقتُما قدْ هدَّ iiرُكني وفـارقَني الذينَ بهِمْ iiأصول
ُ
ولـكنّي عـلى ما كانَ iiمنِّي اُخـبِّرُ صـاحبيَّ بما iiأقول
ُ
الصفحة
(104)
وإنّ أخاكُما في كلِّ يومٍ من الأيامِ محمِـلُهُ ثقيلُ
أقول : كلّ مَن كان عريقاً في ولاء أهل البيت (عليهم
السّلام) يهون عليه فداء نفسه وولده في محبّتهم ؛ ألاَ ترى إلى بشر بن
عمرو الحضرمي حين قيل له يوم الطفِّ : إنّ ابنه اُسّر بثغر الري ، فقال
: عند الله أحتسبه ونفسي ، ما كنت أحبّ أنْ يُؤسر وأبقى بعده . فسمع
الحسين (عليه السّلام) قوله ، فقال له :
(( رحمك الله ، أنت في
حلٍّ من بيعتي ، فاذهب واعمل في فكاك ابنك )) . فقال :
أكلتني السباع حيّاً إنْ فارقتك . قال (عليه السّلام) :
(( فأعطِ ابنك هذا هذه الأثواب
البُرود ؛ يستعين بها في فداء أخيه )) . فأعطاه خمسة أثواب بُرود قيمتها ألف دينار ، فحملها مع ولده
.
فحيّا الله هذه النّفوس الكريمة التي سخت بدمائها
وأبنائها في فداء أهل بيت نبيّها (عليهم السّلام) ، وحفظت وصية رسول الله
(صلّى الله عليه وآله) في آله وذرّيّته .
مِـنْ كُلِّ مُكتهلٍ في عزمِ iiمُقتَبلِ وكُـلِّ مُـقتَبلٍ فـي حـزمِ iiمُكتَهلِ
قَـرمٌ إذا الموتُ أبدَى عنْ iiنواجذِهِ ثـنّى لـهُ عطفَ مسْرورٍ بهِ iiجذلِ
أبـتْ لـهُ نفسُهُ يومَ الوغَى iiشرَفاً أنْ لا تسيلَ على الخِرصانِ والأسَلِ
* * *
المجلس الثالث والثمانون بعد المئة
في الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ، عن الأصبغ بن نباتة
، قال : دخل ضرار
بن ضمرة على معاوية بعد وفاة أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، فقال له :
يا ضرار ، صف لي عليّاً . فقال : أعفني من ذلك . فقال : أقسمتُ عليك لتصفنّه لي
. فقال : إنْ
كان لا بُدّ من ذلك ، فإنّه كان والله ، بعيد المدى شديد
الصفحة
(105)
القوى ، يقول فصلاً ويحكم عدلاً ، يتفجّر العلم من جوانبه
وتُنطق الحكمة من لسانه ، يستوحش من الدنيا وزهرتها ويأنس بالليل
ووحشته ، وكان غزير الدمعة طويل الفكرة ، يُعجبه من اللباس ما خشن ، ومن
الطعام ما جشب ، وكان فينا كأحدنا ؛ يُجيبنا إنْ سألناه ، ويأتينا إذا دعوناه
، ونحن والله ، مع قُربنا منه وقربه منّا لا نكاد نُكلّمه ؛ هيبة له ، يُعظّم أهل
الدّين ، ويحب المساكين ، لا يطمع القوي في باطله ، ولا ييأس الضعيف من
عدله .
وأشهد بالله يا معاوية ، لقد رأيته في بعض مواقفه ، وقد
أرخى الليل سدوله وغارت نجومه ، قابضاً على لحيته الشريفة ، يتململ تململ
السليم ، ويبكي بكاء الحزين ، وهو يقول :
(( إليك عنّي يا
دُنيا ، غرّي غيري ، ألي تعرضتِ أمْ إليّ تشوّقت ؟ هيهات هيهات ! فإنّي قد طلقتُك ثلاثاً
لا رجعة لي فيك ؛ فعمرك قصير ، وخطرك كبير ، وعيشك حقير)) . ثمّ قال (عليه السّلام) : ((
آهٍ آهٍ ! من قلة الزاد ، وبُعد السّفر ، ووحشة الطّريق )) . ثمّ بكى ضرار
، وبكى معاوية
وقال : رحم الله أبا الحسن ، كان والله ، كذلك . ثمّ قال : فكيف حزنك عليه يا ضرار ؟ قال : حزن مَن ذُبح ولدُها في حِجرها
؛ فهي لا ترقى لها دمعة ، ولا
تسكن لها زفرة .
وفي خبر : ترصّد عمرو بن حريث غذاء أمير المؤمنين (عليه
السّلام) ، فأتته فضّة
بجراب مختوم ، ففكّه واستخرج منه خبزاً متغير اللّون ، خشناً جشباً ، فقال
عمرو :
يا فضة ، ألاَ تتّقين الله في هذا الشيخ ؟ ألاَ تنخلين له دقيق هذا الخبز
وتُطيّبينه ؟ فقالت : قد كنت أفعل ذلك فنهاني ، وكنتُ أضع في جرابه طعاماً طيّباً
فختم جرابه . قال : ثمّ إنّ أمير المؤمنين (عليه السّلام) فتّ ذلك الخبز في
قصعة ، وصبّ عليه الماء ، وحسّر عن ذراعيه وجعل يأكل حتّى اكتفى ،
فلمّا فرغ من الأكل ، التفت إليّ ، وقال : (( لقد خابت هذه ـ ومدّ يده
إلى لحيته الكريمة ـ وخسرت هذه ، إنْ أدخلتُها
النّار من أجل الطعام )) .
ورآه عدي بن حاتم ، وبين يديه شُنّة وفيها
الصفحة
(106)
قراح ماء وكسرات من خبز الشعير ، فقال له : [ إنّي لا ] أرى لك ذلك
يا أمير المؤمنين ، أنْ تظلّ نهارك صائماً مجاهداً ، وبالليل ساهراً
مكابداً ، ثمّ يكون هذا فطورك ! فقال (عليه السّلام) :
علِّلْ النَّفسَ بالقنُوعِ وإلاّ طلَبتْ منكَ فوقَ ما يكْفِيها
ولمْ يزلْ هذا دأبه ، وهذه سجيّته حتّى أتى إليه ابن ملجم المرادي ، وضربه بالسّيف على
اُمّ رأسه .
ألـمْ يعْلَمِ الْجاني عـلى اللّـيثِ أنّه
أتَى اللّيثَ في محرابِهِ وهو ساجدُ
ولو جاءهُ من حيثُ ما اللّيثُ مُبصرٌ
لخانتهُ عن حملِ الحُسامِ السَّـواعدُ
فلمّا حضرته الوفاة ، دعا أولاده كلّهم صغيراً وكبيراً ،
وجعل يودّعهم ويقول : (( الله خليفتي عليكم ، أستودعكم الله
)) .
وهم يبكون ، ثمّ التفت إلى ولده الحسن (عليه السّلام) ، فقال : (( يا أبا
محمّد ، اُوصيك بأبي عبد الله خيراً
؛ فأنتما منّي
وأنا منكُما )) . ثمّ قال
:
(( كأنّي بكم وقد خرجت عليكم الفتن من ها هنا
وها هنا ، فعليكم بالصبر ؛ فهو محمود العاقبة )) . ثمّ قال : (( يا أبا عبد الله ، أنت شهيد هذه
الاُمّة ، فعليك بتقوى الله ، والصبر على بلائه )) .
أبا حَسـنٍ أبناؤكَ اليـومَ حلَّقْـتْ
بقادمةِ الأسيافِ عن خطَّةِ الخـسْفِ
سلْ الطَّفَّ عنهُمْ أينَ بالأمسِ طنَّبُوا
وأينَ اسْتَقلُّوا اليومَ عنْ عرْصَةِ الطَّفِّ
* * *
المجلس الرابع والثمانون بعد المئة
روى الشيخ المفيد ـ عليه الرحمة ـ في كتاب الإختصاص ،
بسنده قال :
الصفحة
(107)
قَدِم وفد العراقيّين على معاوية ، فقدم في وفد أهل الكوفة عدي بن حاتم
الطائي ، وفي وفد أهل البصرة الأحنف بن قيس وصعصعة بن صوحان ، فقال
عمرو بن العاص لمعاوية : هؤلاء رجال الدّنيا ، وهم شيعة علي الذين
قاتلوا معه يوم الجمل ويوم صفّين ، فكن منهم على حذر .
فأمر لكلِّ رجل منهم بمجلس سري واستقبل
القوم بالكرامة ، فلمّا دخلوا عليه ، قال لهم : أهلاً وسهلاً ، قدمتم
الأرض المقدّسة ، وأرض الأنبياء والرُّسل ، والحشر والنّشر . فتكلّم صعصعة ، وكان من أحضر
النّاس جواباً ، فقال : أمّا قولك الأرض المقدّسة ، فإنّ الأرض لا تُقدّس أهلها
، وإنّما تُقدّسهم الأعمال الصالحة ؛ وأمّا قولك أرض الأنبياء والرسل ، فمَنْ بها
من أهل النّفاق والشرك ، والفراعنة والجبابرة ، أكثر من الأنبياء والرسل
؛
وأمّا قولك أرض الحشر والنّشر ، فإنّ المؤمن لا يضرّه بُعد المحشر ،
والمنافق لا ينفعه قربُه .
فقال معاوية : لو كان النّاس كلّهم أولدهم أبو سفيان ، لا كان
فيهم إلاّ كيّساً رشيداً . فقال صعصعة : قد أولد النّاس مَن كان خيراً من
أبي سفيان ، وهو آدم أبو البشر ، فأولد الأحمق ، والفاجر والفاسق ، والمعتوه
والمجنون . فخجل معاوية .
وروى المفيد أيضاً في الكتاب المذكور ، بسنده عن السائب قال : خطب النّاس يوماً معاوية بمسجد دمشق
ـ وفي الجامع يومئذ
من الوفود علماء قريش ، وخطباء ربيعة ، وصناديد اليمن وملوكها ـ فقال : إنّ
الله تعالى أكرم خلفاءه ، فأوجب لهم الجنّة وأنقذهم من النّار ، ثمّ
جعلني منهم ، وجعل أنصاري أهل الشام الذابّين عن حرم الله ، المؤيَّدين
بظفر الله ، المنصورين على أعداء الله .
وكان في الجامع من أهل العراق الأحنف بن قيس وصعصعة بن صوحان
، فقال الأحنف لصعصعة : أتكفيني ، أمْ أقوم إليه أنا ؟ فقال صعصعة : بل أكفيكه أنا . فقام صعصعة ، فقال : يابن أبي سفيان ، تكلّمت فأبلغت
ولم تقصر دون ما أردت ، وكيف
الصفحة
(108)
يكون ما تقول وقد غلبتنا قسراً ، وملكتنا تجبّراً ، ودِنتنا بغير الحقّ
؟ فأمّا
إطراؤك لأهل الشام ، فما رأيت أطوع لمخلوق ولا أعصى لخالق منهم ، ابتعت
منهم دينهم وأبدانهم بالمال ، فإنْ أعطيتهم حاموا عنك ونصروك ، وإنْ منعتهم قعدوا عنك ورفضوك . قال معاوية : اسكت يابن صوحان ، فوالله ، لولا
أنّي لمْ اتجرّع غصةَ غيظٍ قط أفضل من حلم ، لَما عدتَ إلى مثل مقالتك
. فقعد صعصعة ، فأنشأ معاوية يقول :
قبِلتُ جاهلَهُمْ حِلماً ومكْرُمةً والحلمُ عنْ قُدرةٍ فضلٌ مِنَ الكَرَمِ
وهذا الحلم الذي كان يظهره معاوية ، إنّما كان حيث
تقتضيه السّياسة ويخاف من عاقبة البطش ، وإلاّ فما باله قتل حِجر بن عدي
وأصحابه ؟ وعمرو بن الحمق وأمثاله ؟ وبعث أحد أصحاب حِجر إلى زياد فدفنه
حيّاً ـ كما رواه ابن الأثير ـ بعدما كان أمّن هؤلاء كلّهم ؟ وحُمل عبد الله بن هاشم المرقال إليه مُكبّلاً
بالحديد ؟ ونادى مناديه بعد صلح الحسن (عليه السّلام) : أنْ برئت الذمّة ممّن يروي
حديثاً من مناقب علي وفضل أهل بيته ؟!
واستعمل زياداً على الكوفة
والبصرة ، فجعل يتتبّع الشيعة ويقتلهم تحت كلّ حجر ومدر ، وأخافهم ، وقطّع
الأيدي والأرجل ، وصلبهم في جذوع النخل ، وسَمل أعينهم ، وطردهم وشرّدهم
حتّى نُفوا من العراق ، فلم يبقَ بها أحد معروف ، وكتب إلى عمّاله بقتلهم
على التهمة والظنّة .
واقتدى به ولده يزيد ، فولّى الكوفة والبصرة عبيد الله بن
زياد ، كما ولاّهما أبوه زياداً ، فقتل الشيعة وأخافهم ، وصلبهم في جذوع النخل
، كما فعل بميثم التمّار وأمثاله ، حتّى آل أمره إلى قتل مسلم بن عقيل ورميه
من أعلى القصر ، وإلى قتل ريحانة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الحسين
(عليه السّلام) وأهل بيته وأصحابه
، ومنعه من الماء ، ورضّ جسده الشريف
بعد القتل بحوافر الخيل ، وحمل رأسه ورؤوس أصحابه من بلد إلى بلد ، وسبي
نساء
الصفحة
(109)
بيت النّبوّة والرسالة ، ومقابلته لهنّ بأفظِّ القول
وأجفاه .
بَنى لَهُمُ الماضونَ آساسَ هَذِهِ
فَعَلّوا عَلى آساسِ تِلكَ القَواعِدِ
أَلا لَيسَ فِعلُ الأَوَّلينَ وَإِنْ
عَلا عَلى قُبحِ فِعلِ الأَخَرينَ بِزائِدِ
* * *
المجلس الخامس والثمانون بعد المئة
في العقد الفريد : لمّا قدم عقيل بن أبي طالب على معاوية
، أكرمه ، وقضى
حوائجه وقضى دينه ، ثمّ قال له يوماً : إنّ عليّاً قطع قرابتك وما وصلك
. قال عقيل : والله ، لقد أجزل العطيّة وأعظمها ، ووصل القرابة وحفظها ،
وحسن ظنّه بالله إذ ساء به ظنّك ، وحفظ أمانته وأصلح رعيته إذ خنتم
وأفسدتم وجرتم ، فاكففْ لا أباً لك ! فإنّه عمّا تقول بمعزل .
وقال معاوية يوماً ، وعقيل عنده : هذا أبو يزيد ، لولا علمه
أنّني خير له من أخيه ، لَمَا أقام عندنا وتركه
. فقال عقيل : أخي خيرٌ لي في ديني ، وأنت خيرٌ لي في دنياي ، وقد آثرت دنياي
، وأسأل الله خاتمة خير . وقال له يوماً : أنتم يا بني هاشم ، تُصابون في
أبصاركم ! ـ وكان عقيل مكفوف البصر ـ فقال : وأنتم يا بني اُميّة ، تصابون
في بصائركم .
ودخل عقيل يوماً على معاوية ، فقال معاوية لأصحابه : هذا عقيل
عمّه أبو لهب . فقال عقيل : وهذا معاوية عمّته حمّالة الحطب . وقال له معاوية : أين ترى عمّك أبا لهب ؟ فقال عقيل : إذا دخلت النّار
، فخذ على يسارك ، تجده
مفترشاً عمّتك حمّالة الحطب ، فانظر أيّهما شر ؟
وروى المدائني قال : قال معاوية يوماً لعقيل بن أبي
طالب : هل
الصفحة
(110)
من حاجة فأقضيها لك ؟ قال : نعم ، جارية عرضت عليّ وأبى
أصحابها أنْ يبيعوها إلاّ بأربعين ألفاً . فأحبّ معاوية أنْ يُمازحه ،
فقال : وما تصنع بجارية قيمتها أربعون ألفاً ، وأنت أعمى تجتزي بجارية
قيمتها خمسون درهماً ؟ قال عقيل : أرجو أنْ تلد لي غُلاماً ، إذا
أغضبتَه يضرب عنقك بالسّيف . فضحك معاوية ، وقال : مازحناك يا أبا يزيد
. وأمر فابتعيت له الجارية التي أولد منها مُسلماً !(1)
فلمّا أتت على مسلم ثماني عشرة سنة ، وقد مات أبوه عقيل
، قال لمعاوية
: إنّ لي أرضاً بمكان كذا في المدينة ، وإنّي اُعطيت بها مئة ألفٍ وقد
أحببت أنْ أبيعك إيّاها ، فادفع إليّ ثمنها . فأمر معاوية بقبض
الأرض ودفع الثمن إليه ، فبلغ ذلك الحسين (عليه السّلام) ، فكتب
إلى معاوية : ((
أمّا بعد ، فإنّك غررت غُلاماً من
بني هاشم ، فابتعت منه أرضاً لا يملكها ، فاقبض من الغُلام ما دفعته إليه
، واردد إلينا أرضنا )) .
فبعث معاوية إلى مسلم فأخبره ذلك ، وأقرأه كتاب الحسين
(عليه السّلام) ، وقال : اردد علينا مالنا ، وخُذ أرضك ؛ فإنّك بِعت ما لا تملك . فقال مسلم : أمّا دون أنْ أضرب رأسك بالسّيف فلا
. فاستلقى معاوية ضاحكاً يضرب
برجليه ، ثمّ قال : يا بُني ، هذا والله ، كلامٌ قاله لي أبوك حين ابتعت له
اُمّك . ثمّ كتب إلى الحسين (عليه السّلام) : إنّي قد رددت عليكم الأرض ، وسوّغت
مسلماً ما أخذ .
ومناقب مسلم وفضائله كثيرة ، وشجاعته عظيمة شهيرة ، وهو
الذي قال في حقّه الحسين (عليه السّلام) لمّا بعثه إلى أهل الكوفة ، فكتب
إليهم : (( أنا
باعثٌ إليكم أخي وابنَ عمّي وثقتي من أهل بيتي ، مسلم بن عقيل ))
. وهو الذي
أجاب عبيد الله بن زياد بتلك الأجوبة العظيمة ، وذلك حين اُخذ مسلم أسيراً
واُدخل على ابن زياد ، فقال له الحرسيّ : سلّم على الأمير .
فقال : اسكت ويحك ! والله ، ما هو لي
بأمير . قال ابن زياد : لا عليك ، سلّمت أم لمْ تسلّم فإنّك مقتول . فقال له مسلم
: إنْ قتلتني ، فلقد قتل مَن هو شرّ منك مَن هو خيرٌ
ـــــــــــــــــــــــــ
(1) لا يخفى ما في الرّواية من منافاة ـ إنْ صحّت ـ بين
ما ورد فيها ، وبين ولادة مسلم السّابقة لوفود أبيه عقيل على معاوية
أيام خلافة أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، اللهمّ الاّ اذا قلنا بوفود
عقيل هذا زمن عمر أو عثمان ووقعت الحادثة آنذاك ، وإنْ كان هذا بعيداً
أيضاً ؛ خصوصاً بعدما وجدنا لمسلم هذا حضوراً في الفتوحات أيام عمر بن
الخطاب .
( موقع
معهد الإمامَين الحسنَين )
الصفحة
(111)
منّي . فقال له ابن زياد : قتلني الله إنْ لمْ أقتلك
قتلة لم يقتلها أحد في الإسلام . فقال له مسلم : أما إنّك أحقّ مَن
أحدث في الإسلام ما لمْ يكن ، وإنّك لا تدع سوء القتلة وقبح المُثلة ، وخبث السّريرة ولؤم الغلبة لأحد أولى بها منك . فقال ابن زياد
: يا
عاق يا شاق ، خرجت على إمامك ، وشققت عصا المسلمين ، وألقحت الفتنة .
فقال مسلم : كذبت إنّما شقّ عصا المسلمين معاوية وابنه يزيد ، وأمّا
الفتنة فإنّما ألقحتها أنت وأبوك . فقال ابن زياد : منّتك نفسك
أمراً حال الله دونه ، وجعله لأهله . فقال له مسلم : ومَن أهله يابن مرجانة إذا لم نكن نحن أهله ؟! فقال ابن زياد : أهله أمير المؤمنين
يزيد . فقال مسلم : الحمد لله على كلّ حال ، رضينا بالله حكماً بيننا وبينكم
. فقال له
ابن زياد : أتظنّ أنّ لك في الأمر شيئاً ؟ فقال له مسلم : والله ، ما هو
الظنّ ولكنّه اليقين .
فقال له ابن زياد : أتيت النّاس وهم
جميع ، فشتتّ أمرهم ، وفرّقت كلمتهم .
قال : كلاّ لست لذلك أتيت ، ولكنّكم أظهرتم المنكر ودفنتم المعروف ، وتأمّرتم
على النّاس بغير رضىً منهم ، وعملتم
فيهم بأعمال كسرى وقيصر ؛ فأتيناهم لنأمرهم بالمعروف وننهى عن المنكر . فقال له ابن زياد : لِم لمْ تعمل بذلك إذ أنت بالمدينة تشرب الخمر ؟ قال
مسلم : أنا أشرب الخمر ؟! أما والله ، إنّ الله ليعلم أنّك تعلم أنّك غير صادق ، وأنّ أحقّ بشرب الخمر منّي
مَنْ يقتل النّفس التي حرّم الله على الغضب ، والعداوة ، وسوء الظن .
فاقبل ابن زياد يشتمه ويشتم عليّاً والحسن والحسين
(عليهم السّلام) وعقيلاً ، فقال له مسلم : أنت وأبوك أحقّ
بالشتيمة ، فاقضِ ما أنت قاضٍ يا عدوّ الله .
فقال ابن زياد : اصعدوا به فوق القصر واضربوا عنقه .
فصعد به بكر بن حمران ، وهو يكبّر ويستغفر الله ويُسبّحه ، ويصلّي على
رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، ويقول : اللهمّ ، احكم بيننا وبين
قوم غرّونا وكذّبونا وخذلونا . فضرب عنقه واتبع رأسه جسده .
فلمّا
بلغ خبره الحسين (عليه السّلام) ، استعبر
الصفحة
(112)
باكياً ، ثمّ قال : (( رحم الله مُسلماً
، فلقد صار إلى رَوح
الله وريحانه ، وتحيّاته ورضوانه ، أما أنّه قد قضى ما عليه وبقي ما علينا
)) . ثمّ أنشأ يقول :
فـإنْ تـكُنْ الدُّنيا تـُعدُّ iiنـفيسةً فـإنّ ثـوابَ اللهِ أعـلى iiوأنـبلُ
وإنْ تـكُنْ الأبـدانُ للموتِ اُنشئتْ فقتلُ امرئٍ بالسّيفِ في اللهِ iiأفضلُ
وإنْ تـكُنْ الأرزاقُ قِـسْماً iiمُقدّراً فقلّةُ حِرصِ المرءِ في السَّعي أجملُ
وإنْ تـكُنْ الأمـوالُ للتّركِ iiجَمعُها فـما بـالُ متروكٍ به المرءُ iiيبخلُ
* * *
المجلس السّادس والثمانون بعد المئة
ذكر غير واحد من المؤرّخين ، منهم : ابن أبي الحديد في ( شرح نهج
البلاغة) : إنّ عبد
الله بن الزّبير لمّا قطع ذكر رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من
الخطبة ، لامهُ النّاس ، فقال : إنّ له اُهيلَ سوءٍ ، إذا ذكرته أتلعوا
أعناقهم(1) ، فاُحبّ أنْ أكبتهم . وعاتبه قوم من خاصّته على
ذلك ، فقال : ما تركته علانيّة إلاّ وأنا أقوله سرّاً ، ولكنّي رأيت بني هاشم
إذا
سمعوا ذكره ، أشرأبّوا واحمرّت ألوانهم وطالت رقابهم ، والله ، ما كنت آتي لهم
سروراً وأنا اقدر عليه . . . إلى أنْ قال : بيت سوء لا أوّل لهم ولا آخر .
فبلغ ذلك ابن عبّاس ، فخرج مغضباً ومعه ابنه حتّى أتى
المسجد ، فصعد المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، وصلّى على رسوله (صلّى
الله عليه وآله) ، ثمّ قال
: أيّها النّاس ، إنّ الزّبير يزعم أنّه لا أوّل لرسول الله (صلّى الله
عليه وآله) ولا آخر
، فيا عجباً كلّ العجب لافترائه وكذبه ! إنّ أوّل مَن أخذ الإيلاف وحمى
عِيرَ قريشٍ لهاشم ، وإنّ أوّل مَن سقى بمكة عَذِباً ، وجعل باب الكعبة
ذهباً
_____________________
(1) أي : رفعوا أعناقهم .
الصفحة
(113)
لعبد المطلب ، والله ، لقد نشأت ناشئتنا مع ناشئة قريش ، وإنّا كنّا لقالتهم
إذا قالوا ، وخطباءهم إذا خطبوا ، وما عُدّ مجدٌ كمجد أوّلنا ، ولا كان
في قريش مجد لغيرنا ؛ لأنّها كانت في كفر ماحق ودين فاسق ، وضلة وضلالة
، في عشواء عمياء حتّى اختار الله لنا نوراً ، وبعث لنا سراجاً ، فانتجبه
طيّباً من طيّبين ، فكان أحدَنا وولدَنا ، وعمَّنا وابنَ عمّنا . ثمّ
إنّ أسبق السابقين إليه منّا ابن عمنّا ، ثُمّ تلاه
في السّبق أهلنا ولحمتنا ، واحداً بعد واحد ، ثمّ إنّا لَخير النّاس بعده
؛ أكرمهم أدباً ، وأشرفهم حسباً ، وأقربهم منه رحماً
.
وأعجباً كلّ العجب لابن الزّبير ! يَعيب بني هاشم ، وإنّما شرُفَ
هو وأبوه وجدّه بمصاهرتهم ! أما والله ، إنّه لمسلوب قريش ، ومتى كان العوّام بن خويلد يطمع في
صفيّة بنت عبد المطلب ؟ قيل للبغل : مَن أبوك ؟ فقال : خالي الفرس . ثمّ
نزل .
وخطب ابن
الزّبير بمكّة ، وابن عباس تحت المنبر ، فقال : إنّ ههنا رجلاً قد أعمى الله
قلبه كما أعمى بصره ؛ يُفتي في القملة والنّملة ، وقد قاتل اُمّ المؤمنين
وحواري رسول الله (صلّى الله عليه وآله) . فقال ابن عباس لقائده : استقبل بي وجه ابن الزّبير
، وارفع من صدري ـ وكان قد كُفّ بصرُه ـ . فاستقبل به وجهه ، فحسر
عن ذراعيه ، ثمّ قال : يابن الزّبير :
قدْ أنصفَ القارَةَ مَنْ رامَاهَا إنّا
إذا مـا فـئةً نلـقـاهَا
نردُّ اُولاهَا علـى اُخـراهَا حتّى تصيرَ حَرضاً دَعْواها
فأمّا العمى ، فإنّ الله تعالى يقول :
(
فَإِنّهَا لاَ تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَي الْقُلُوبُ
الّتِي فِي الصّدُور )(1)
؛ وأمّا فُتياي في القملة والنّملة ، فإنّ فيهما
[ حكمين ]
لا تعلمهما أنت ولا أصحابك ؛ وأمّا قتالنا اُمّ المؤمنين ، فبنا سُمّيت
اُمّ
المؤمنين ، لا بك ولا بأبيك ، فانطلق أبوك وخالك إلى حجاب مدّه
الله عليها ، فهتكاه عنها ، ثمّ اتخذاها فتنة يقاتلان دونها ، وصانا حلائلهما
، فلا
_____________________
(1) سورة الحجّ / 46 .
الصفحة
(114)
أنصفا الله ولا محمّداً من أنفسها ؛ إذ أبرزا زوجة
نبيّهما وصانا حلائلهما .
وأمّا قتالنا إيّاكم ، فإنّا لقيناكم زحفاً ، فإنْ كنّا
كفّاراً ، فقد كفرتم بفراركم منّا ، وإنْ كنّا مؤمنين ، فقد كفرتم
بقتالكم إيّانا . وأيَم الله ، لولا مكان صفيّة فيكم ، ومكان خديجة
فينا ، لَمَا تركت لبني أسد بن عبد العُزّى عظماً إلاّ كسرتُه .
فقال في ذلك أيمن بن خريم الأسدي :
يـا بـنَ الزُّبيرِ لقدْ لاقيتَ iiبائقةً من البوائقِ فالطُفْ لُطفَ iiمُحتالِ
لاقـيْتهُ هـاشميّاً طـاب iiمَـنْبتُهُ فـي مـغرسيهِ كريمَ العمِّ iiوالخالِ
مـا زالَ يقرعُ منكَ العظْمَ iiمُقتَدِراً على الجوابِ بصوتٍ مُسمعٍ عالي
حـتّى رأيتُكَ بينَ النّاسِ
iiمُحتَجِراً خلفَ الغبيطِ وكُنتَ الباذخَ iiالعالي
إنّ ابـنَ عبّاسٍ المعْرُوفُ
iحكمتُهُ خـيرُ الأنـامِ له حالٌ مِنَ iiالحالِ
لـمّا رمـاكَ على رُسلٍ iiبأسْهُمِهِ جرتْ عليكَ كسوفُ الحالِ iiوالبالِ
واعـلمْ بأنّكَ إنْ عاودْتَ iiعيبتَهُ عـادَتْ عـليكَ مخازٍ ذاتِ iiأذيالِ
فرحم الله ابن عبّاس ، فلقد كان من علماء بني هاشم وخطبائهم
، وله مواقف
مشهورة ، ومقامات معدودة في نُصرة أمير المؤمنين (عليه السّلام) وولده ، والذبّ
عن حوزة الحقّ ، وفي المناظرة والاحتجاج مع عائشة اُمّ المؤمنين بالبصرة
، ومع أهل النّهروان ، ومع معاوية وابن العاص وابن الزّبير وغيرهم .
وكان أمير المؤمنين (عليه السّلام) يبعثه في المهمات ،
واختاره للحكومة يوم الحكمين فأبى أهل العراق ، وكان تلميذ أمير
المؤمنين (عليه السّلام) وبه تخرّج ومنه تعلّم ، وكان مُخلصاً في ولائه
وولاء ذرّيّته . ولمّا حضرته الوفاة ، قال : اللهمّ ، إنّي أتقرّب إليك
بولائي لعلي بن أبي طالب (عليه السّلام) . وكان يمسك بركاب الحسنين
(عليهما السّلام) حتّى يركبا ، ويقول : هُما ولدا رسول الله
(صلّى الله عليه وآله) .
وقال له معاوية لمّا قُبض الحسن (عليه السّلام) : أصبحت سيّد بني هاشم
. فقال : أما وأبو عبد الله حيّ فلا . ولمّا عزم
الصفحة
(115)
الحسين (عليه السّلام) على الخروج إلى العراق ، جاءه عبدالله بن عباس
فنهاه عن الخروج ، فقال (عليه السّلام) : (( أستخير الله وانظر ما يكون
)) . ثمّ أتاه مرّة ثانية فأعاد
عليه النَهي ، وقال : إنْ أبيت إلاّ الخروج فاخرج إلى اليمن . فقال
الحسين (عليه السّلام) : (( يابن عمّ ، والله ، إنّي لأعلمُ أنّك ناصحٌ مشفق
، وقد ازمعتُ وأجمعت
المسير )) . فخرج ابن عبّاس ومرّ بابن الزّبير ، وأنشد :
يا لكِ مـنْ قُبَّـرةٍ بمَعْمَرِ خلا لكِ الجوُّ فبيضِي واصفرِي
ونقِّري ما شِئْتِ أنْ تُنقِّري هذا حسينٌ خـارجٌ فأبـشِـري
ثُمّ أتاه هو وابن الزّبير ، وأشار عليه بالإمساك عن المسير
إلى الكوفة ، فقال
لهما : (( إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قد أمرني بأمرٍ وأنا ماضٍ فيه
)) . فخرج ابن عبّاس ، وهو يقول : وا حُسيناه !
ولمّا دعاه ابن الزّبير ـ بعد قتل الحسين (عليه
السّلام) ـ إلى بيعته فامتنع
، وكتب إليه يزيد يشكره على ذلك
، ويَعدُه البرّ والصّلة ، كتب ابن عبّاس إلى يزيد ذلك الكتاب العظيم ، الذي يقول
من جملته : إنّك تسألني نصرتك وقد قتلتَ حسيناً (عليه السّلام) وفتيان
عبد المطّلب مصابيح الهدى ونجوم الأعلام ، غادرتْهم خيولك بأمرك في صعيد واحد
، مرمّلين بالدّماء ، مسلوبين
بالعراء ، لا مُكفّنين ولا موسّدين ، تسفي عليهم الرياح وتنتابهم عرج
الضّباع ، وما أنسى من الأشياء فلستُ بناسٍ طردك حسيناً (عليه السّلام) من حرم رسول الله
(صلّى الله عليه وآله) إلى حرم الله ، وتسييرك إليه الرجال لتقتله في
الحرم .
ألا وإنّ من أعجب
الأعاجيب ، وما عسى أنْ أعجب ، حملك بنات عبد المطّلب وأطفالاً صغاراً من
ولده إليك بالشام كالسبي المجلوب .
نصرتَ ابنُ عبّاسٍ حسينَ بنَ فاطمٍ
بحدِّ لسانٍ ما عنْ السّيفِ يَنقصُ
دعـتْكَ إليه شِيـمةٌ هـاشـمـيّةٌ
فحقّاً لأنتَ الهاشميُّ المُخـلَصُ
* * * |