المجالسُ السَّنيّة - الجزء الاول

 
 

الصفحة ( 22 )

فإنْ أجبت ، وإلاّ تعلمت منك . فقال الحسين (عليه السّلام) : (( أي الأعمال أفضل ؟ )) . فقال الأعرابي : الإيمان بالله . فقال الحسين (عليه السّلام) : (( فما النجاة من المهلكة ؟ )) . فقال الأعرابي : الثقة بالله . فقال الحسين (عليه السّلام) : (( فما يزين الرجل ؟ )) . فقال الأعرابي : علم معه حلم . فقال الحسين (عليه السّلام) : (( فإنْ أخطأه ذلك ؟ )) . فقال الأعرابي : مال معه مروءة . فقال الحسين (عليه السّلام) : (( فإنْ أخطأه ذلك ؟ )) . فقال الأعرابي : فقر معه صبر . فقال الحسين (عليه السّلام) : (( فإنْ أخطأه ذلك ؟ )) . فقال الأعرابي : فصاعقة تنزل من السّماء فتحرقه ؛ فإنّه أهل لذلك . فضحك الحسين (عليه السّلام) ورمى إليه بصرّة فيها ألف دينار ، وأعطاه خاتمه وفيه فصّ قيمته مئتا درهم ، وقال الحسين (عليه السّلام) (( يا أعرابي ، إعط ِالذهب غرماءك ، واصرف الخاتم في نفقتك )) . فأخذ الأعرابي المال ، وقال : الله أعلم حيث يجعل رسالته .

وعلّم عبد الرحمن السّلمي بعض ولْد الحسين (عليه السّلام) سورة الفاتحة ، فلمّا قرأها الصبي على أبيه الحسين (عليه السّلام) ، أعطى ذلك المعلّم ألف دينار وألف حلّة وحشا فاه درّاً . فقيل له في ذلك ، فقال (عليه السّلام) : (( وأين يقع هذا من إعطائه )) : يعني تعليمه للسورة . وأنشد الحسين (عليه السّلام) يقول :

إذا جادتْ الدّنيا عليك فجُدْ بها   على النّاس طُرّاً قبل أنْ تتفلّتِ

فلا الجودُ يُفنيها إذا هي أقبلتْ   ولا البخلُ يُبقيها إذا ما تولّتِ

وقال أنس : كنت عند الحسين (عليه السّلام) فدخلت عليه جارية ، فحيّته بطاقة ريحان ، فقال لها : (( أنتِ حرّة لوجه الله تعالى )) . قال أنس : فقلت تجيئك بطاقة ريحان لا خطر لها فتعتقها ! قال (عليه السّلام) : (( كذا أدّبنا الله ، قال الله تعالى : وَإِذَا حُيّيتُم بِتَحِيّةٍ فَحَيّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدّوهَا(1) . وكان أحسن منها عتقها )) .

وقال (عليه السّلام) : (( صاحب الحاجة لم يكرم وجهه عن سؤالك ؛ فأكرم نفسك عن رَدّه )) .

ومن كرمه العظيم وسخائه العجيب ، أنّه لمّا التقى مع الحُرّ بن يزيد ـ وكان مع الحرّ زهاء ألف فارس ـ وكان الحسين (عليه السّلام) في سَحر ذلك اليوم أمر فتيانه أنْ يستقوا من الماء ويكثروا ، ففعلوا . ووقف الحرّ وخيله مقابل الحسين (عليه السّلام) في حَرّ الظهيرة ، فقال الحسين (عليه السّلام) لفتيانه : (( اسقوا القوم وارووهم من الماء ،

______________________
(1) سورة النّساء / 86 .

الصفحة ( 23 )

وارشفوا الخيل ترشيفاً )) : أي أسقوها قليلاً . وأقبلوا يملؤون القصاع والطساس من الماء ثمّ يدنونها من الفرس ، فاذا عبّ فيها ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً ، عُزلت عنه وسقوا آخر حتّى سقوها عن آخرها .

أتدرون ما كان جزاء الحسين (عليه السّلام) من الأعداء على سقيه إيّاهم الماء مع خيولهم في تلك الأرض القفراء ؟ نعم ، كان جزاؤه منهم أنْ حالوا بينه وبين ماء الفرات ، وبعث عمر بن سعد عمرو بن الحجّاج في خمسمئة فارس ، فنزلوا على الشريعة وحالوا بين الحسين (عليه السّلام) وأصحابه وبين الماء .

وقال الشيخ المفيد عليه الرحمة : وكان ذلك قبل قَتل الحسين (عليه السّلام) بثلاثة أيام .

منَعوهُ شُربَ الماءِ لا شَرِبوا غداً   من كفِّ والده البطينِ الأنزع ِ

المجلس العاشر

ذكر ابن شهر آشوب في المناقب قال : دخل الحسين (عليه السّلام) على معاوية وعنده أعرابي يسأله حاجة ، فأمسك عنه وتشاغل بالحسين (عليه السّلام) ، فقال الأعرابي لبعض مَن حضر : مَن هذا الذي دخل ؟ قالوا : الحسين بن علي (عليهما السّلام) . فقال الأعرابي للحسين (عليه السّلام) : أسألك يابن بنت رسول الله ، لمّا كلّمته في حاجتي . فكلّمه الحسين (عليه السّلام) في ذلك ، فقضى حاجته . فقال الأعرابي :

أتـيتُ الـعبشميَّ فلمْ يجدْ لي   إلـى أنْ هـزّهُ ابنُ iiالرسولِ
هو ابنُ المصطفى كرماً وجوداً   ومـِن بـطنِ المُطهّرة 
iiالبتولِ
وإنّ لـهاشم فـضلا 
iiًعـليكُمْ   كما فضُلَ الربيعُ على iiالمَحولِ

فقال معاوية : يا أعرابي ، أعطيك وتمدحه ؟! فقال الأعرابي : يا معاوية ، أعطيتني من حقّه وقضيت حاجتي بقوله .

ولمّا أخرج مروانُ الفرزدقَ من المدينة أتى


الصفحة ( 24 )

الفرزدق الحسين (عليه السّلام) ، فأعطاه الحسين (عليه السّلام) أربعمئة دينار . فقيل له : إنّه شاعر فاسق . فقال (عليه السّلام) : (( إنّ خير مالك ما وقيت به عرضك ، وقد أثاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كعب بن زهير ، وقال في العبّاس بن مرداس : اقطعوا لسانه عنّي )) .

وأعظم جودٍ صدر منه (عليه السّلام) ، جوده بنفسه في سبيل الله ، وتسليمه إيّاها للقتل .

قال الشاعر :

يجودُ بالنّفسِ إنْ ضنَّ الجبانُ بها   والجودُ بالنّفسِ أقصى غاية الجودِ

فالحسين (عليه السّلام) قد جاد بنفسه وأهل بيته وعياله وأطفاله في سبيل الله ؛ فداء للدين ، ومحاماة عن شريعة جدّه سيّد المرسلين (صلّى الله عليه وآله) حتّى أصبحوا ما بين قتيل وأسير . ولولا قتل الحسين (عليه السّلام) ، ما بقي لهذا الدّين من أثر ، ولولاه ما ظهر للخاصّ والعام كفر يزيد وإلحاده .

 رأى قنا الدّينِ من بعد استقامتِها   مغموزةً وعليها صدعُ منكسرِ

فقام يجمعُ شملاً غيـرَ مُجتمعِ   منه ويجبرُ كسراً غيرَ مُنجبرِ

المجلس الحادي عشر

ممّا جاء في تواضع الحسين (عليه السّلام) ، وكرم أخلاقه : أنّه (عليه السّلام) مرّ بمساكين قد بسطوا كساء لهم وألقوا عليه كسراً ، فقالوا له : هلمّ يابن رسول الله . فجلس وأكل معهم ، ثمّ تلا : (( إنّ اللّه لا يُحِبّ المتكبّرين )) . ثمّ قال (عليه السّلام) : (( قد أجبتكم فأجيبوني )) . قالوا : نعم يابن رسول الله . فقاموا معه حتّى أتوا منزله ، فقال لجاريته : (( اخرجي ما كنتِ تدّخرين )) .

وجنى غلام له جناية توجب العقاب ، فأمر به أنْ يُضرب ، فقال : يا مولاي ( وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ ) . قال (عليه السّلام) : (( خلّوا عنه )) . فقال : يا مولاي ( وَالْعَافِينَ عَنِ النّاسِ ) . فقال (عليه السّلام) : (( قد عفوت عنك )) . فقال : يا مولاي ( وَاللّهُ يُحِبّ الْمُحْسِنِين )(1) . فقال (عليه السّلام) : (( أنت حرّ لوجه الله تعالى ، ولك ضعف ما كنت أعطيك )) .

وممّا جاء في

______________________
(1) المقاطع الثلاث كلّها من سورة آل عمران / 134 .

الصفحة ( 25 )

عبادة الحسين (عليه السّلام) : أنّه حجّ خمس وعشرين حجّة ماشياً ، وأنّ النّجائب لتقاد معه .

وقيل له يوماً : ما أعظم خوفك من ربّك ! فقال : (( لا يأمن من يوم القيامة إلاّ مَن خاف الله في الدنيا )) .

وكان إذا توضّأ تغيّر لونه وارتعدت مفاصله ، فقيل له في ذلك ، فقال (عليه السّلام) : (( حقّ لمَن وَقفَ بين يدي الملك الجبّار أنْ يصفرّ لونه وترتعد مفاصله )) .

وأمّا إباؤه للضيم ، فقد ضُربت به الأمثال ونُظمت فيه الأشعار .

قال الشاعر :

وإنَّ الاُولى بالطفِّ من آلِ هاشمٍ   تآسَوا فسنّوا للكرام التآسيا

وقال بعضهم : كأنّ أبيات أبي تمّام في محمّد بن حميد الطوسي ما قيلت إلاّ في الحسين (عليه السّلام) :

وقـدْ كان فوتُ الموتِ سهلاً iiفردَّهُ   إلـيه الـحفاظُ المرّ والخُلُقُ iiالوعرُ
ونـفسٌ تـعافُ الضّيمَ حتّى 
iiكأنّما   هو الكُفرُ يومَ الرّوعِ أو دونه الكفرُ
فـأثبتَ فـي مُسْتنقعِ الموتِ 
iiرِجلَهُ   وقال لها من دون أخمصكِ iiالحشرُ
تـردَّى ثيابَ الموت حُمراً فما 
iiدَجا   لها الليلُ إلاّ وهي من سندس خُضرُ

وقيل له يوم الطفّ : انزل على حكم بني عمّك . فقال : (( لا والله ، لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ، ولا أقرّ لكم إقرار العبيد )) .

 بأبيْ أبيّ الضّيمِ لا يُعطي العِدَى   حذرَ المنيةِ منه فضـلَ قيادِ
بأبي فريداً أسلمتـهُ يـدُ الرّدَى   في دارِ غُربتهِ لجمع أعادي

ثم نادى : (( يا عباد الله ، إنّي عُذتُ بربّي وربّكم من كلّ متكبّر لا يؤمن بيوم الحساب )) . وقال (عليه السّلام) : (( موت في عزّ خير من حياة في ذلّ )) .

وكان يحمل على القوم يوم الطفّ وهو يقول :

 الموتُ خيرٌ من ركوب العارِ   والعارُ أولى من دخولِ النارِ

واللهِ من هذا وهذا جاري

* * *

يأبَى له اللهُ والعضبُ المذرّبُ والـ   ـنفسُ الأبيّةُ إلاّ عزّةً وإبا


الصفحة ( 26 )

المجلس الثاني عشر

ممّا جاء في كرم الحسين (عليه السّلام) ، عن الحسن البصري : إنّ الحسين (عليه السّلام) ذهب ذات يوم مع أصحابه إلى بستانه ـ وكان في ذلك البستان غلام للحسين (عليه السّلام) اسمه صافي ـ فلمّا قرُب من البستان ، رأى الغلام قاعداً يأكل الخبز ، فجلس الحسين (عليه السّلام) عند بعض النّخل بحيث لا يراه الغلام ، فنظر إليه الحسين (عليه السّلام) وهو يرفع الرغيف فيرمي نصفه إلى الكلب ويأكل نصفه ، فتعجّب الحسين (عليه السّلام) من فعل الغلام ، فلمّا فرغ من الأكل قال : الحمد لله ربّ العالمين ، اللهمَّ ، اغفر لي واغفر لسيّدي كما باركت لأبويه برحمتك يا أرحم الراحمين .

فقام الحسين (عليه السّلام) وقال : (( يا صافي )) . فقام الغلام فزعاً وقال : يا سيّدي وسيّد المؤمنين إلى يوم القيامة ، إنّي ما رأيتك ، فاعف عنّي . فقال الحسين (عليه السّلام) : (( اجعلني في حلّ يا صافي ؛ لأنّي دخلت بستانك بغير إذنك )) . فقال صافي : بفضلك يا سيّدي وكرمك وسؤددك تقول هذا ! فقال الحسين (عليه السّلام) : (( إنّي رأيتك ترمي نصف الرغيف إلى الكلب وتأكل نصفه ، فما معنى ذلك ؟ )) . فقال الغلام : إنّ هذا الكلب نظر إليّ وأنا كلّ فاستحييت منه ، وهو كلبك يحرس بستانك وأنا عبدك ، نأكل رزقك معاً .

فبكى الحسين (عليه السّلام) وقال : (( إنْ كان كذلك ، فأنت عتيق لله تعالى ، ووهبت لك ألفَي دينار )) . فقال الغلام : إنْ أعتقتني فأنا اُريد القيام ببستانك . فقال الحسين (عليه السّلام) : (( إنّ الكريم ينبغي له أنْ يصدّق قوله بالفعل . أوما قلت لك اجعلني في حلّ ؟ فقد دخلت بستانك بغير إذنك ؛ فصدّقتُ قولي ووهبت البستان وما فيه لك ، فاجعل أصحابي الذين جاؤوا معي أضيافاً ، واكرمهم من أجلي ؛ أكرمك الله تعالى يوم القيامة ، وبارك لك في حسن خُلقك وأدبك )) . فقال الغلام : إنْ وهبتني بستانك ، فإنّي قد سبلته لأصحابك وشيعتك .


الصفحة ( 27 )

وأعظم جود صدر منه (عليه السّلام) ؛ جوده بنفسه وأهل بيته وعياله وأطفاله في سبيل الله ؛ فداء للدين ، ومحاماة عن شريعة جدّه سيّد المرسلين (صلّى الله عليه وآله) حتّى أصبحوا ما بين قتيل وأسير . ولولا قتل الحسين (عليه السّلام) ، ما بقي لهذا الدّين من أثر ، ولولاه ما ظهر للخاصّ والعام كفر يزيد وإلحاده .

 رأى قنا الدّينِ من بعد استقامتِها   مغموزةً وعليها صدعُ منكسرِ

فقام يجمعُ شملاً غيـرَ مُجتمعِ   منه ويجبرُ كسراً غيرَ مُنجبرِ

المجلس الثالث عشر

خطب الحسين (عليه السّلام) فقال : (( أيّها النّاس ، نافسوا في المكارم وسارعوا في المغانم ، ولا تحتسبوا بمعروف لم تعجلوه ، واكسبوا الحمد بالنجح ولا تكسبوا بالمطل ذماً ؛ فمهما يكن لأحد عند أحد صنيعة له رأى أنّه لا يقوم بشكرها ، فالله له بمكافأته(1) فإنّه أجزل عطاءً وأعظم أجراً . واعلموا أنّ حوائج النّاس إليكم من نعم الله عليكم ، فلا تملّوا النعم فتحوّر نقماً . واعلموا أنّ المعروف مكسب حمداً ومعقب أجراً ، فلو رأيتم المعروف رجلاً ، رأيتموه حسناً جميلاً يسرّ الناظرين ، ولو رأيتم اللؤم ، رأيتموه سمجاً مشوّهاً تنفر منه القلوب ، وتُغضّ دونه الأبصار .

أيّها النّاس ، مَن جاد ساد ، ومَن بخل رذل ، وإنّ أجود النّاس مَن أعطى مَن لا يرجوه ، وإنّ أعفى النّاس مَن عفا عن قدرة ، وإنّ أوصل النّاس مَن وصل مَن قطعه . والاُصول على مغارسها بفروعها تسمو ، فمَن تعجّل لأخيه خيراً وجده إذا قدم عليه غداً . ومَن أراد الله تبارك وتعالى بالصنيعة

______________________
(1) الظاهر أنّه سقط هنا كلمة ، وهي : (زعيم) أو (كفيل) أو (مليء) أو نحو ذلك . ـ المؤلف ـ

الصفحة ( 28 )

إلى أخيه ، كافأه الله بها في وقت حاجته ، وصرف عنه من بلاء الدنيا ما هو أكثر منه . ومَن نفّس كربة مؤمن فرّج الله عنه كرب الدنيا والآخرة ، ومَن أحسنَ أحسن الله إليه ، والله يُحب المحسنين )) .

وخطب (عليه السّلام) أيضاً فقال : (( إنّ الحلم زينة ، والوفاء مروءة ، والصّلة نعمة ، والإستكبار صلف ، والعجلة سفه ، والسفه ضعف ، والغلوّ ورطة ، ومخالطة أهل الدناءة شرّ ، ومجالسة أهل الفسق ريبة )) .

والحسين (عليه السّلام) معدن الفصاحة والبلاغة ، ورث ذلك عن جدّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، أفصح مَن نطق بالضاد ، وعن أبيه أمير المؤمنين (عليه السّلام) الذي علّم النّاس الفصاحة والخطب . ولقد خطب في الأعداء يوم كربلاء ـ حين وقف بازائهم ، وجعل ينظر إلى صفوفهم كأنّهم السيل ـ وقال ما لا يحصى كثرةً ، فلم يسمع متكلّم قطّ قبله ولا بعده أبلغ في منطق منه .

لهُ من عليٍّ في الحروبِ شجاعةٌ   ومن أحمدٍ عند الخطابةِ قيلُ

فكان ممّا قال (عليه السّلام) : (( الحمد لله الذي خلق الدنيا فجعلها دار فناء وزوال ، متصرّفة بأهلها حالاً بعد حال ، فالمغرور مَن غرّته والشقيّ مَن فتنته ؛ فلا تغرّنكم هذه الدنيا ، فإنّها تقطع رجاء مَن ركن إليها ، وتخيب طمع مَن طمع فيها . وأراكم قد اجتمعتم على أمر قد أسخطتم الله فيه عليكم ، وأعرض بوجهه الكريم عنكم ، وأحلّ بكم نقمته ، وجنّبكم رحمته ، فنِعمَ الربّ ربّنا ، وبئس العبيد أنتم ! أقررتم بالطاعة وآمنتم بالرسول محمّد (صلّى الله عليه وآله) ثمّ إنّكم زحفتم على ذرّيّته وعترته تريدون قتلهم ! لقد استحوذ عليكم الشيطان فأنساكم ذكر الله العظيم )) .

فقال ابن سعد : ويلكم كلّموه فإنّه ابن أبيه ! ولو وقف فيكم هكذا يوماً جديداً لما انقطع ولما حصر . فتقدّم شمر فقال : يا حسين ، ما هذا الذي تقول ؟ أفهمنا حتّى نفهم . فقال (عليه السّلام) : (( أقول : اتّقوا الله ربّكم ولا تقتلوني ؛ فإنّه لا يحلّ لكم قتلي وانتهاك حرمتي ؛ فإنّي ابن بنت نبيّكم ، وجدّتي خديجة زوجة نبيكم ، ولعلّه قد بلغكم قول نبيكم : الحسن والحسين


الصفحة ( 29 )

سيّدا شباب أهل الجنّة )) . فقال له قيس بن الأشعث : ما ندري ما تقول ، ولكن انزل على حكم بني عمّك فإنّهم لن يروك إلاّ ما تحب . فقال له الحسين (عليه السّلام) : (( لا والله ، لا اُعطيكم بيدي إعطاء الذليل ، ولا أقرّ إقرار العبيد )) .

سامَوهُ أنْ يـردَ الهوانَ أو المنيـْ  ـيَة والمسوَّدُ لا يكون مَسودَا

* * *

فأبى أنْ يعيش إلاّ عزيزاً   أو تجلّى الكفاحُ وهو صريـعُ

المجلس الرابع عشر

روى صاحب كشف الغمّة : أنّه لمّا قَتل معاوية حجرَ بن عدي (رحمه الله) وأصحابه ، لقي في ذلك العام الحسين (عليه السّلام) ، فقال : يا أبا عبد الله ، هل بلغك ما صنعت بحجر وأصحابه من شيعة أبيك ؟ قال (عليه السّلام) : لا . قال : إنّا قتلناهم وكفّناهم وصلّينا عليهم . فضحك الحسين (عليه السّلام) ثمّ قال : (( خصمك القوم يوم القيامة يا معاوية . أما والله ، لو ولينا مثلها من شيعتك ما كفّناهم ولا صلينا عليهم ، وقد بلغني وقوعك بأبي حسن وقيامك به واعتراضك بني هاشم بالعيوب . وأيم الله ، لقد أوترت غير قوسك ورميت غير غرضك ، وتناولتها بالعداوة من مكان قريب . ولقد أطعت امرءاً (يريد عمرو بن العاص) ما قدم إيمانه ولا حدث نفاقه وما نظر لك ، فانظر لنفسك أو دَع )) .

وكان لمعاوية عين بالمدينة يكتب إليه بما يكون من اُمور النّاس ، فكتب إليه : إنّ الحسين بن علي أعتق جارية له وتزوّجها . فكتب معاوية إلى الحسين (عليه السّلام) : من أمير المؤمنين معاوية الى الحسين بن علي : أمّا بعد ، فإنّه بلغني أنّك تزوّجت جاريتك وتركت أكفاءك من قريش ممّا تستنجبه للولد وتمجّد به في الصهر ، فلا لنفسك نظرت ولا لولدك انتقيت .

فكتب إليه الحسين (عليه السّلام) : (( أمّا بعد ، فقد بلغني كتابك وتعييرك إيّاي بأني تزوجت مولاتي وتركت


الصفحة ( 30 )

أكفائي من قريش ، فليس فوق رسول الله منتهى في شرف ولا غاية في نسب ؛ وإنّما كانت ملك يميني خرجت عن يدي بأمر التمست فيه ثواب الله ، ثمّ ارتجعتها على سنّة نبيّه (صلّى الله عليه وآله) ، وقد رفع الله بالإسلام الخسيسة ووضع عنّا به النقيصة ، فلا لوم على امرئ مسلم إلاّ في مأثم ، وإنّما اللوم لوم الجاهلية )) .

فلمّا قرأ معاوية كتابه نبذه إلى يزيد ، فقرأه وقال : لشدّ ما فخر عليك الحسين . قال : لا ، ولكنّها ألسِنَة بني هاشم الحداد التي تفلق الصخر وتغرف من البحر .

ولم ينسَ يزيد قول أبيه ، إنّ لبني هاشم ألسنة تفلق الصخر وتغرف من البحر ؛ ولذلك لمّا قال له زين العابدين (عليه السّلام) بالشام : (( أتأذن لي أنْ أصعد هذه الأعواد فأتكلّم بكلمات لله فيهنّ رضاً ، ولهؤلاء الجلساء فيهنّ أجر وثواب ؟ )) أبى يزيد عليه ذلك ، فقال النّاس : يا أمير المؤمنين ، إئذن له فليصعد المنبر فلعلّنا نسمع منه شيئاً . فقال : إنّه إنْ صعد لم ينزل إلاّ بفضيحتي وفضيحة آل أبي سفيان . فقيل له : وما قدر ما يحسن هذا ؟ فقال : إنّه من أهل بيت زقّوا العلم زقّا . فلم يزالوا به حتّى أذِنَ له .

 فصعد المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ثمّ خطب خطبة أبكى فيها العيون وأوجل منها القلوب ، وخشي يزيد أنْ تكون فتنة ؛ فأمر المؤذّن فقطع عليه الكلام ، فلمّا قال المؤذّن : الله أكبر الله أكبر ، قال علي بن الحسين (عليه السّلام) : (( لا شيء أكبر من الله )) . فلمّا قال : أشهد أنْ لا إله إلاّ الله ، قال (عليه السّلام) : (( شهد بها شعري وبشري ، ولحمي ودمي )) . فلمّا قال المؤذّن : أشهد أنّ محمّداً رسول الله ، قال (عليه السّلام) : (( محمّد هذا جدّي أم جدّك يا يزيد ؟ فإنْ زعمت أنّه جدّك فقد كذبت وكفرت ، وإنْ زعمت أنّه جدّي ، فلِمَ قَتلت عترته ؟ )) .

ألا يابنَ هندٍ لا سقَى اللهُ تربةً   ثويتَ بمثواها ولا اخضرّ عودُها

أتسلبُ أثوابَ الإمامـة هاشمـاً   وتطـردُها عنهـا وأنت طريدُها


الصفحة ( 31 )

المجلس الخامس عشر

روى ابن عساكر في تاريخ دمشق : أنّ نافع بن الأزرق ـ وهو من رؤساء الخوارج ـ قال للحسين (عليه السّلام) : صف لي إلهك الذي تعبده . فقال (عليه السّلام) : (( يا نافع ، مَن وضَعَ دينه على القياس ، لم يزل الدهر في الالتباس ، مائلاً إذا كبا عن المنهاج ، ظاعناً بالاعوجاج ، ضالاً عن السبيل قائلاً غير الجميل . يابن الأزرق ، أصف إلهي بما وصف به نفسه ؛ لا يُدرك بالحواس ولا يُقاس بالنّاس ، قريب غير ملتصق وبعيد غير مستقصى ، يوحَّد ولا يبعَّض ، معروف بالآيات موصوف بالعلامات ، لا إله إلاّ هو الكبير المتعال )) .

فبكى ابن الأزرق وقال : ما أحسن كلامك ! فقال (عليه السّلام) : (( بلغني أنّك تشهد على أبي وعلى أخي بالكفر وعليَّ )) . قال ابن الأزرق : أما والله يا حسين ، لئن كان ذلك لقد كنتم منار الإسلام ونجوم الأحكام . فقال له الحسين (عليه السّلام) : (( إنّي سائلك عن مسألة )) . فقال : سل . فسأله عن قوله تعالى : ( وَأَمّا الجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ )(1) . فقال (عليه السّلام) : (( يابن الأزرق ، مَن حفظ في الغلامين ؟ )) . فقال أبوهما . فقال الحسين (عليه السّلام) : (( أبوهما خيرٌ أمْ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ؟ )) . فقال ابن الأزرق : قد أنبأ الله تعالى عنكم أنّكم قوم خصمون .

أجل والله ، إنّ هذه الاُمّة لم تحفظ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في ولدَيه الحسنَين (عليهما السّلام) ، فجرّعت ولده الحسن (عليه السّلام) الغصص ودفعته عن مقامه ، وأسلمته إلى عدوّه حتّى قضى شهيداً بالسمّ ، ومنعت من دفنه عند جدّه ؛ وخذلت ولده الحسين (عليه السّلام) ولم تنصره ، وحاربته وقتلته هو وأولاده وأهل بيته حتّى طفله الرضيع ، وقتلت أنصاره ، وسبت نساءه من بلد الى بلد ، وهنّ عقائل بيت الوحي والنبوّة .

يا اُمّةٌ باعتْ بضائعَ دينِها   يومَ الطّفوفِ بخيبةٍ وشَقاءِ

خانتْ عهودَ محمّد في آلهِ   من بعدهِ وجزتْهُ شرَّ جزاءِ

______________________
(1) سورة الكهف / 82 .

الصفحة ( 32 )

المجلس السّادس عشر

روى ابن قتيبة في الإمامة والسياسة ، والكشي في كتاب الرجال : أنّ مروان بن الحكم كتب الى معاوية ـ وهو عامله على المدينة ـ : أمّا بعد ، فقد ذكر لي أنّ رجالاً من أهل العراق ووجوه أهل الحجاز يختلفون إلى الحسين بن علي ، وإنّه لا يؤمن وثوبه ، وقد بحثت عن ذلك فبلغني أنّه يريد الخلافة .

فكتب إليه معاوية : إيّاك أنْ تعرض للحسين في شيء ، واترك حسيناً ما تركك . وكتب معاوية إلى الحسين (عليه السّلام) : قد انتهت إليّ اُمور عنك ، إنْ كانت حقاً فإنّي أرغب بك عنها . ولعمر الله ، إنّ مَن أعطى الله عهده وميثاقه لجدير بالوفاء ، وإنّ أحقّ النّاس بالوفاء مَن كان مثلك في خطرك وشرفك ومنزلتك التي أنزلك الله بها ، ونفسك فاذكر وبعهد الله أوفِ ؛ فانّك متى تنكرني أنكرك ، ومتى تكدني أكدك ، فاتّقِ شقّ عصا هذه الاُمّة وأنْ يردهم الله على يديك في فتنة . وانظر لنفسك ولدينك ولاُمّة محمّد ، ولا يستخفنّك السفهاء والذين لا يعلمون .

فكتب إليه الحسين (عليه السّلام) : (( أمّا بعد ، فقد بلغني كتابك تذكر فيه أنّه انتهت إليك عنّي اُمور أنت لي عنها راغب وأنا بغيرها عندك جدير ، فإنّ الحسنات لا يهدي لها ولا يسدد إليها إلاّ الله تعالى ؛ وأمّا ما ذكرت إنّه رقي إليك عنّي ، فإنّه إنّما رقاه إليك الملاّقون المشّاؤون بالنميمة ، المفرّقون بين الجمع ، وكذب الغاوون ، ما أردت لك حرباً ولا عليك خلافاً ، وإنّي لأخشى الله في ترك ذلك منك ومن الأعذار فيه إليك وإلى أوليائك القاسطين الملحدين ، حزب الظلمة وأولياء الشياطين .

ألستَ القاتل حِجْر بن عدي أخا كندة وأصحابه المصلّين العابدين ، الذين كانوا ينكرون الظلم ويستفضعون البدع ، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ولا يخافون في الله لومة لائم ، ثمّ قتلتهم ظلماً وعدواناً من بعد ما أعطيتهم الأيمان المغلّظة والمواثيق المؤكّدة ، لا تأخذهم بحدث كان بينك وبينهم ؛ جرأة على الله واستخفافاً بعهده ؟!


الصفحة ( 33 )

أولست قاتل عمرو بن الحمق صاحب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، العبد الصالح الذي أبلته العبادة فنحل جسمه واصفرّ لونُه ، فقتلته بعدما أمّنته وأعطيته من العهود ما لو فهمته العصم لنزلت من رؤوس الجبال ؟!

أولست المدّعي زياد بن سميّة المولود على فراش عبيد بن ثقيف ، فزعمت أنّه ابن أبيك ؛ وقد قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : الولد للفراش وللعاهر الحَجَر . فتركت سنّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) تعمّداً ، وتبعت هواك بغير هدىً من الله ، ثمّ سلّطته على أهل الإسلام يقتلهم ويقطّع أيديهم وأرجلهم ويسمل أعينهم ويصلبهم على جذوع النّخل ، كأنّك لست من هذه الاُمّة وليسوا منك ؟!

أولست صاحب الحضرميين الذين كتب فيهم ابن سميّة أنّهم على دين علي صلوات الله عليه ، فكتبت إليه : أنْ اقتل كلّ مَن كان على دين علي ؛ فقتلهم ومثّل بهم بأمرك ، ودين علي هو دين ابن عمّه (صلّى الله عليه وآله) الذي كان يضرب عليه أباك ويضربك ، وبه جلست مجلسك الذي أنت فيه . ولولا ذلك لكان شرفك وشرف آبائك تجشّم الرحلتين ؛ رحلة الشتاء والصيف ؟! وقلتَ فيما قلت : انظر لنفسك ولدينك ولاُمّة محمّد (صلّى الله عليه وآله) واتّق شقّ عصا هذه الاُمّة وأنْ تردهم إلى فتنة !! وإنّي لا أعلم فتنة أعظم على هذه الاُمّة من ولايتك عليها ، ولا أعظم نظراً لنفسي ولديني ولاُمّة محمّد (صلّى الله عليه وآله) أفضل من أنْ اُجاهدك ، فإنْ فعلت فإنّه قربة إلى الله ، وإنْ تركته فإنّي أستغفر الله لديني وأسأله توفيقَه لأرشاد أمري .

وقلتَ فيما قلت : إنْ أنكرتك تنكرني ، وإنْ أكِدك تكدني ! فكدني ما بدا لك ، فإنّي أرجو أنْ لا يضرني كيدك ، وأنْ لا يكون على أحد أضرّ منه على نفسك ؛ لأنّك قد ركبت جهلك وتحرصت على نقض عهدك ، ولعمري ما وفيتَ بشرط ، ولقد نقضت عهدك بقتل هؤلاء النفر الذين قتلتهم بعد الصلح والأيمان والعهود والمواثيق ، فقتلتهم من غير أنْ يكونوا قاتَلوا وقتلوا ، ولم تفعل ذلك بهم إلاّ لذكرهم فضلنا وتعظيمهم حقّنا ؛ فقتلتهم مخافة أمرٍ لعلّك لو لم تقتلهم متّ قبل أنْ يفعلوا ، أو ماتوا قبل أنْ يدركوا .


الصفحة ( 34 )

فأبشر يا معاوية بالقصاص ، واستيقن بالحساب ، واعلم أنّ لله تعالى كتاباً لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها ، وليس الله بناسٍ لأخذك بالظنّة ، وقتلك أولياءه على التهم ، ونفيك أولياءه من دورهم إلى دار الغربة ، وأخذك للناس ببيعة ابنك غلام حدث ؛ يشرب الشراب ويلعب بالكلاب ، ما أراك إلاّ خسرتَ نفسك وبترت دينك ، وغششتَ رعيّتك وأخربت أمانتك ، وسمعتَ مقالة السفيه الجاهل وأخفت الورع التّقي ، والسّلام )) . فلمّا قرأ معاوية الكتاب ، قال : لقد كان في نفسه شيء ما أشعر به . فقال يزيد : أجبه جواباً يصغر إليه نفسه ؛ تذكر فيه أباه بشرّ فعله .

ودخل عبد الله بن عمرو بن العاص ، فقال معاوية : أما رأيت ما كتب به الحسين ؟ وأقرأه الكتاب . فقال : وما يمنعك أنْ تجيبه بما يصغر إليه نفسه ؟ ـ وإنما قال ذلك في هوى معاوية ـ فقال يزيد : رأيت يا أمير المؤمنين رأيي ؟ فضحك معاوية وقال : أخطأتما ، أرأيتما لو أنّي ذهبت لعيب عليّ محقاً ، فما عسيت أنْ أقول فيه ؟ ومتى ما عبت رجلاً بما لا يعرفه النّاس لم يُحفل به وكذّبه النّاس ، وما عسيت أنْ أعيب حسيناً ! فو الله ، ما أرى للعيب فيه موضعاً .

ومناقبٍ شهِدَ العدوُّ بفضلِها   والفضلُ ما شهدتْ بهِ الأعداءُ

تفديك نفسي يا أبا عبد الله ، أنت الذي علّمت النّاس الأنَفَة والشمم والإباء ؛ أبيت أنْ تخضع لتهديد معاوية ووعيده كما أبيت أنْ تخضع وتنقاد ليزيد ، وجدت بنفسك في سبيل الدّين والعزّ والشرف حتّى قُتلت عطشان ظامئاً غريباً مظلوماً ، وآثرت المنيّة على الدنيّة وموت العزّ على حياة الذلّ ، وقلت فيما قلت : (( والله ، لو لم يكن في الدنيا ملجأ ، لما بايعت يزيد بن معاوية )) .

أرادتْ لها الويلاتُ تسليمَـهُ لها   وكيف تنالُ الشمسَ أيدي اللوامسِ

وهيهات أنْ يرضى الحسينُ بذلّةٍ   أبتها اُصولٌ زاكيـاتُ المغـارسِ


الصفحة ( 35 )

المجلس السّابع عشر

في مناقب ابن شهر آشوب ، عن عبد الله بن عمير والحاكم والعبّاس قالوا : خطب الحسن (عليه السّلام) عائشة بنت عثمان ، فقال مروان : اُزوّجها عبد الله بن الزّبير . فلما قُبض الحسن (عليه السّلام) ومضت أيام من وفاته ، كتب معاوية إلى مروان ـ وهو عامله على الحجاز ـ يأمره أنْ يخطب اُمّ كلثوم بنت عبد الله بن جعفر لابنه يزيد . فأتى عبدَ الله بن جعفر فأخبره بذلك ، فقال عبد الله : إنّ أمرها ليس إليّ إنما هو إلى سيّدنا الحسين (عليه السّلام) وهو خالها ، فأخبر الحسين (عليه السّلام) بذلك ، فقال : (( أستخير الله تعالى . اللهمَّ ، وفّق لهذه الجارية رضاك من آل محمّد (عليهم السّلام) )) .

فلمّا اجتمع النّاس في مسجد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، أقبل مروان حتّى جلس إلى الحسين (عليه السّلام) وعنده من الجِلّة وقال : إنّ أمير المؤمنين معاوية أمرني أنْ أخطب اُمّ كلثوم بنت عبد الله بن جعفر لابنه يزيد ، وأنْ أجعل مهرها حكم أبيها بالغاً ما بلغ ، مع صلح ما بين هذين الحَييّن ، مع قضاء دَين أبيها . واعلم أنّ مَن يغبطكم بيزيد أكثر ممَّن يغبطه بكم . والعَجب كيف يستمهر يزيد وهو كفو من لا كفو له وبوجهه يستسقى الغمام ؟! فردْ خيراً يا أبا عبد الله .

فقال الحسين (عليه السّلام) : (( الحمد لله الذي اختارنا لنفسه وارتضانا لدينه واصطفانا على خلقه )) ثمّ قال (عليه السّلام) : (( يا مروان ، قلت فسمعنا ؛ أمّا قولك مهرها حكم أبيها بالغاً ما بلغ ، فلعمري ، لو أردنا ذلك ما عدونا سنّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في بناته ونسائه وأهل بيته ؛ وهو اثنتا عشرة أوقية ، يكون أربعمئة وثمانين درهماً ؛ وأمّا قولك مع قضاء دَين أبيها ، فمتى كنّ نساؤنا يقضين عنّا ديوننا ؟ وأمّا صلح ما بين هذين الحييّن ، فإنّا قوم عاديناكم في الله فلم نكنْ نصالحكم للدنيا ، فلعمري ، لقد أعيا النسب فكيف السبب ؛ وأمّا قولك العجب ليزيد كيف يستمهر ، فقد استمهر مَن هو خير من يزيد ومن أبي يزيد ومن جدّ يزيد ؛ وأمّا قولك أنّ يزيد كفو مَن لا كفو له ، فمَن كان كفوه قبل اليوم فهو كفوه اليوم ، ما زادته إمارته في


الصفحة ( 36 )

الكفاءة شيئاً ؛ وأمّا قولك بوجهه يستسقى الغمام ، فإنّما كان ذلك بوجه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ؛ وأمّا قولك مَن يغبطنا به أكثر ممَن يغبطه بنا ، فإنّما يغبطنا به أهل الجهل ويغبطه بنا أهل العقل )) . ثمّ قال (عليه السّلام) : (( فاشهدوا جميعاً أنّي قد زوّجت اُمّ كلثوم بنت عبد الله بن جعفر من ابن عمّها القاسم بن محمّد بن جعفر على أربعمئة وثمانين درهماً ، وقد نحلتها ضيعتي بالمدينة ـ أو قال : أرضي بالعقيق ـ وأنّ غلّتها في السّنة ثمانية آلاف دينار ، ففيها لهما غنى إنْ شاء الله )) .

قال : فتغيّر وجه مروان وقال : غدراً يا بني هاشم ، تأبون إلاّ العداوة . فذكّره الحسين (عليه السّلام) خطبة أخيه الحسن (عليه السّلام) عائشة وفعله ، ثمّ قال (عليه السّلام) : (( فأين موضع الغدر يا مروان ؟ )) .

فقال مروان :

أردْنا صهرَكمْ لنجدَّ ودّاً   قدْ اخلَقهُ بهِ حدثُ الزّمانِ

فلمّا جئتكمْ فجبهتُموني   وبحتمْ بالضّميرِ من الشّنانِ

فأجابه ذكوان مولى بني هاشم :

أمـاط اللهُ عنهمْ كلَّ iiرجسٍ   وطـهّرهُمْ بذلك في المثاني
فـما لهمُ سواهُمْ منْ 
iiنظيرٍ   ولا كـفوٌ هناك ولا iiمُداني
أتـجعلُ كـلَّ جـبّارٍ 
iiعنيدٍ   إلى الأخيارِ منْ أهلِ الجنانِ

وما زالت هذه الأضغان في نفس يزيد حتّى أظهرها لمّا جيء إليه برأس الحسين (عليه السّلام) ، فجعل يقول :

نفلّقُ هاماً من رجالٍ أعزّةٍ   علينا وهمْ كانوا أعقَّ وأظلما

ودعا بقضيب خيزران فجعل ينكت به ثنايا الحسين (عليه السّلام) ، ثمّ قال : يوم بيوم بدر . ثمّ قال :

لـيتَ أشـياخي ببدرٍ iiشهدوا   جَزعَ الخزْرجِ منْ وقْعِ الأسلْ
لأهـلّـوا واسْـتهلّوا فـرحاً   ثمّ قـالوا يـا يزيدُ لا 
iiتشلْ
قـد قـتلنا القَرمَ منْ 
iiساداتهمْ   وعـدلـناه بـبدرٍ فـاعتَدلْ
 


الصفحة ( 37 )

لـعبتْ هـاشمُ بـالمُلكِ iiفلا   خـبرٌ جـاء ولا وحيٌ iiنَزلْ
لـستُ من خِندفَ إنْ لم أنتقمْ   مِـن بني أحمدَ ما كانَ 
iiفعلْ

***
أتنكثُها شُـلّتْ يـمينُكَ إنّها   وجوهٌ لوجْهِ اللهِ طالَ سجودُهَا

المجلس الثامن عشر

قال الامام الرضا (عليه السّلام) : (( إنّ المحرّم شهر كان أهل الجاهليّة فيما مضى يحرّمون فيه الظلم والقتال ، فاستُحلّت فيه دماؤنا ، وهُتكت فيه حرمتنا ، وسُبي ذرارينا ونساؤنا ، واُضرمت النيران في مضاربنا وانتهب منها ثقلنا ، ولم ترعَ لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) حرمة في أمرنا . إنّ يوم الحسين أقرح جفوننا وأسال دموعنا ، وأذلّ عزيزنا بأرض كرب وبلاء ، وأورثنا الكرب والبلاء إلى يوم الانقضاء ؛ فعلى مثل الحسين فليبك الباكون )) . ثم قال الامام (عليه السّلام) : (( كان أبي إذا دخل شهر المحرّم لا يرى ضاحكاً ، وكانت الكآبة تغلب عليه حتّى تمضي منه عشرة أيّام ، فإذا كان اليوم العاشر ، كان ذلك اليوم يوم مصيبته وحزنه وبكائه ، ويقول : هو اليوم الذي قتل فيه جدّي الحسين (عليه السّلام) )) .

وقال الامام الرضا (عليه السّلام) : (( مَن ترك السعي في حوائجه يوم عاشوراء ، قضى الله له حوائج الدنيا والآخرة . ومَن كان يوم عاشوراء يوم مصيبته وحزنه وبكائه ، جعل الله عزّ وجلّ يوم القيامة يوم فرحه وسروره ، وقرّت بنا في الجنان عينه . ومَن سمَّ يوم عاشوراء يوم بركة وادّخر فيه لمنزله شيئاً ، لم يبارك له فيما ادّخر ، وحُشر يوم القيامة مع يزيد وعبيد الله بن زياد وعمر بن سعد لعنهم الله إلى أسفل درك من النار )) .

أقول: وأمّا اتخاذ يوم عاشوراء يوم


الصفحة ( 38 )

عيد وفرح وسرور فهي سنّة اُمويّة ، وقد اتّبعها مَن اتّبعها جهلاً بالحال ، وإلاّ فلا يُظنّ بمسلم أنّه يفرح في يوم قتل ابن بنت نبيّه (صلّى الله عليه وآله) ، الذي لو كان حياًّ لكان هو المعزّى به والباكي عليه كما بكى عليه في حياته .

يا يومَ عاشوراء كمْ لكَ لوعةً   تترقّصُ الأحشاءُ منْ iiإيقادِها
مـا عُدْتَ إلإَ عاد قلبي iiغُلّةٌ   حرّى ولو بالغتُ في إبرادِها
مـِثلُ السّليمِ مضيضةٌ iiآناؤهُ   خُزرُ العيونِ تعودُهُ iiبعيادِها
كـانتْ مآتمُ بالعراقِ iiتعدّها   اُمَـويّةٌ بـالشّامِ منْ iiأعيادِها

المجلس التاسع عشر

حكى دعبل الخزاعي قال : دخلت على سيّدي ومولاي علي بن موسى الرضا (عليه السّلام) في أيام عشر المحرّم ، فرأيته جالساً جلسة الحزين الكئيب وأصحابه من حوله ، فلمّا رآني مقبلاً ، قال لي : (( مرحباً بك يا دعبل ، مرحباً بناصرنا بيده ولسانه )) . ثم إنّه وسع لي في مجلسه وأجلسني إلى جانبه ، ثمّ قال (عليه السّلام) : (( يا دعبل ، اُحبّ أنْ تنشدني شعراً ؛ فإنّ هذه الأيام أيام حزن كانت علينا أهل البيت ، وأيام سرور كانت على أعدائنا خصوصاً بني اُميّة )) . ثمّ إنّه (عليه السّلام) نهض وضرب ستراً بيننا وبين حرمه ، وأجلس أهل بيته من وراء السّتر ليبكوا على مصاب جدّهم الحسين (عليه السّلام) ، ثمّ التفت إليّ وقال لي : (( يا دعبل ، إرث الحسين ، فأنت ناصرنا ومادحنا ما دمت حيّاً ، فلا تقصّر عن نصرنا ما استطعت )) .

قال دعبل : فاستعبرت وسالت عبرتي ، وأنشأت أقول :

أفاطمُ لو خِلتِ الحسينَ مُجدّلا   وقد مات عطْشـاناً بشطِّ فُراتِ

إذاً للطمتِ الخـدَّ فاطمُ عندَهُ   وأجريتِ دمعَ العينِ في الوجناتِ


الصفحة ( 39 )

أفـاطمُ قومي يابنةَ الخيرِ iiواندُبي   نـُجومَ سَـماواتٍ بـأرضِ iiفـَلاةِ
قـبورٌ بـكوفانٍ واُخـرَى 
iiبـطَيبةٍ   واُخـرَى بـفخٍّ نـالَها iiصـلواتي
قبورٌ بجنب النّهرِ من أرضِ كربَلا   مـُعـرّسُهمْ فـيها بـشطِّ 
iiفـُراتِ
تـُوفوا عـطاشَى بـالفُراتِ 
iiفليتَني   تـُوفّيتُ فـيهِم قـبلَ حـينِ iiوفاتي
إلـى اللهِ أشـكو لوعةً عندَ ذكرِهمْ   سَـقتني بـكأسِ الثُّكلِ 
iiوالفظعاتِ
سـأبْكيهُمُ مـا حـجَّ لـله 
iiراكـبٌ   ومـا نـاح قُمريٌّ على iiالشّجراتِ
فـيا عينُ بـكّيهمْ وجُـودي 
iiبـعبرةٍ   فـقـدْ آنَ لـلتّسكابِ iiوالـهَملاتِ
سـأبكيهُمُ مـا ذرَّ في الاُفقِ 
iiشارقٌ   ونـادى مـُنادي الـخيرِ iiللصَلواتِ
ومـا طـلُعتْ شمسٌ وحَانَ غُروبُها   وبـالـليلِ أبـْكـيهمْ 
iiوبـالغُدواتِ

وفي عيون أخبار الرضا (عليه السّلام) بسنده عن عبد السّلام بن صالح الهروي قال : دخل دعبل بن علي الخزاعي رحمه الله على أبي الحسن علي بن موسى الرضا (عليه السّلام) بمرو فقال له : يابن رسول الله ، إنّي قد قلت فيكم قصيدة وآليت على نفسي أنْ لا أنشدها أحداً قبلك . فقال (عليه السّلام) : (( هاتها )) . فأنشده :

مدارسُ آياتٍ خلتْ من تلاوةٍ   ومنزلُ وحيٍ مُقفِرُ العَرَصاتِ

فلمّا بلغ إلى قوله :

أرى فيئَهُمْ في غيرِهمْ مُتَقسَّماً   وأيديَهُمْ من فيئِهمْ صَفِراتِ

بكى أبو الحسن الرضا (عليه السّلام) وقال له : (( صدقت يا خزاعي )) .

فلما بلغ إلى قوله :

إذا وُتِروا مَدُّوا إلى واترِيهُمُ   أكفّاً عن الأوتَارِ مُنْقَبضَاتِ

جعل أبو الحسن (عليه السّلام) يقلّب كفّيه ويقول : (( أجل ، والله منقبضات )) .

فلمّا بلغ إلى قوله :

لقدْ خِفتُ في الدُّنيَا وأيامِ سَعْيهَا   وإنّي لأرجُو الأمنَ بَعدَ وفاتي

قال الرضا (عليه السّلام) : (( آمنك الله يوم الفزع الأكبر )) . ثمّ أعطاه مئة دينار من الدنانير المضروب عليها اسم الرضا (عليه السّلام) ، فقال دعبل : والله ما لهذا جئت ، ولا قلت هذه القصيدة طمعاً في شيء . وردّ الصّرة ، وسأل ثوباً من ثياب الرضا (عليه السّلام)

 
الصفحة السابقةالفهرسالصفحة اللاحقة

 

طباعة الصفحةبحث