مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 1

الجزء السابع‏

كتاب الإيمان و الكفر

 (1) الحمد لوليه و الصلاة على خير البرايا محمد و عترته، و بعد: فهذا هو المجلد الرابع من كتاب مرآة العقول لبيان ما في الكافي من أخبار آل الرسول مما ألفه أفقر العباد إلى غفران ربه الغني: محمد باقر بن محمد تقي عفا الله عن جرائمهما.

قال قدس الله روحه أو بعض رواة كتابه: كتاب الإيمان و الكفر من كتاب الكافي تصنيف الشيخ أبي جعفر محمد بن يعقوب الكليني رضي الله عنه و أرضاه.

أقول: تلك الفقرات لم تكن في بعض النسخ، و الظاهر أنه من كلام رواة الكافي و قدم الإيمان على الكفر لأنه الأصل و الأهم أو لأنه وجودي كما قيل، و في القاموس كلين كأمير قرية بالري منها محمد بن يعقوب الكليني من فقهاء الشيعة، انتهى.

و قد يقال: كلين كزبير أيضا قرية بالري، و محمد بن يعقوب منها، كذا سمعت بعض المشايخ يذكر عن أهل الري.

" باب طينة المؤمن و الكافر"

 (2)

 (الحديث الأول)

 (3): مرسل.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 2

قوله: خلق النبيين،

 (1) الخلق يكون بمعنى التكوين و بمعنى التقدير، و في النهاية: طين عليه أي جبل و يقال: طانه الله على طينته، أي خلقه على جبلته‏

و طينة

 (2) الرجل خلقه و أصله، و قال:

عليون‏

 (3) اسم للسماء السابعة و قيل: اسم لديوان الملائكة الحفظة ترفع إليه أعمال الصالحين من العباد، و قيل: أراد أعلى الأمكنة و أشرف المراتب و أقربها من الله تعالى في الدار الآخرة و تعرب بالحروف و الحركات كقنسرين و أشباهها على أنه جمع أو واحد، انتهى.

و إضافة الطينة إما بتقدير اللام أو من أو في‏

" قلوبهم و أبدانهم"

 (4) بدل النبيين.

و يحتمل أن يراد بالقلب هنا العضو المعروف الذي يتعلق الروح أولا بالبخار المنبعث منه، فلا ينافي ما مر في باب خلق أبدان الأئمة عليه السلام من أن أجسادهم مخلوقة من طينة عليين و أرواحهم مخلوقة من فوق ذلك على أنه لو أريد به الروح أمكن الجمع بجعل الطينة مبدءا لها مجازا باعتبار القرب و التعلق، أو بتخصيص النبيين بغيره صلى الله عليه و آله.

و يؤيده خبر ابن مروان، و في القاموس:

سجين‏

 (5) كسكين موضع فيه كتاب الفجار و واد في جهنم أو حجر في الأرض السابعة، و في النهاية اسم علم للنار. فعيل من السجن.

قوله: فخلط بين الطينتين،

 (6) أي في بدن آدم عليه السلام فلذا حصل في ذريته قابلية المرتبتين و استعداد الدرجتين‏

" و من ههنا يصيب المؤمن السيئة"

 (7) لخلط طينته بطينة الكافر، و كذا العكس‏

" فقلوب المؤمنين تحن"

 (8) أي تميل و تشتاق، قال الجوهري: الحنين الشوق و توقان النفس‏

" إلى ما خلقوا منه"

 (9) أي إلى الأعمال المناسبة لما خلقوا منه‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 3

المؤدية إليها أو إلى الأنبياء و الأوصياء المخلوقين من الطينة التي خلق منها قلوبهم، و كذا الفقرة الثانية تحتمل الوجهين.

و قال بعضهم في تأويل الخبر: المراد بعليين أشرف المراتب و أقربها من الله تعالى، و له درجات كما يدل عليه ما ورد في بعض الأخبار الآتية من قولهم أعلى عليين و كما وقع التنبيه عليه في هذا الخبر بنسبة خلق القلوب و الأبدان كليهما إليه مع اختلافهما في الرتبة، فيشبه أن يراد به عالم الجبروت و الملكوت جميعا اللذين فوق عالم الملك أعني عالم العقل و النفس، و خلق قلوب النبيين من الجبروت معلوم، لأنهم المقربون و أما خلق أبدانهم من الملكوت فذلك لأن أبدانهم الحقيقية هي التي لهم في باطن هذه الجلود المدبرة لهذه الأبدان، و إنما أبدانهم العنصرية أبدان أبدانهم لا علاقة لهم بها فكأنهم و هم في جلابيب من هذه الأبدان، قد نفضوها و تجردوا عنها لعدم ركونهم إليها و شدة شوقهم إلى النشأة الأخرى، و لهذا نعموا بالوصول إلى الآخرة و مفارقة هذا الأدنى، و من هنا ورد في الحديث: الدنيا سجن المؤمن و جنة الكافر، و إنما نسب خلق أبدان المؤمنين إلى ما دون ذلك لأنها مركبة من هذه و من هذه لتعلقهم بهذه الأبدان العنصرية أيضا ما داموا فيها، و سجين أخس المراتب و أبعدها من الله سبحانه فيشبه أن يراد به حقيقة الدنيا و باطنها التي هي مخبوءة تحت عالم الملك أعني هذا العالم العنصري، فإن الأرواح مسجونة فيه، و لهذا ورد في الحديث: المسجون من سجنته الدنيا عن الآخرة، و خلق أبدان الكفار من هذا العالم ظاهر.

و إنما نسب خلق قلوبهم إليه لشدة ركونهم إليه و إخلادهم إلى الأرض، و تثاقلهم إليها، فكأنه ليس لهم من الملكوت نصيب لاستغراقهم في الملك، و الخلط بين الطينتين إشارة إلى تعلق الأرواح الملكوتية بالأبدان العنصرية، بل نشوها منها شيئا فشيئا فكل من النشأتين غلبت عليه صار من أهلها، فيصير مؤمنا حقيقيا أو كافرا حقيقيا

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 4

أو بين الأمرين على حسب تدارك مراتب الإيمان و الكفر، انتهى.

و قال آخرون: إن الله تعالى لما علم في الأزل الأرواح التي تختار الإيمان باختيارها و التي تختار المعصية باختيارها، سواء خلقوا من طينة عليين، أو من طينة سجين فلما علم ذلك أعطى أبدان الأرواح التي علم أنهم يختارون الإيمان كيفية عليين للمناسبة و أعطى أبدان الأرواح التي علم أنها تختار الكفر باختيارها كيفية السجين من غير أن يكون للأمرين مدخل في اختيارهم الإيمان و الكفر، و خلط بين الطينتين من غير أن يكون لذلك الخلط مدخل في اختيار الحسنة و السيئة، فمن في قوله:

من هذا و من هيهنا، للعلية المجازية.

 (الحديث الثاني)

 (1): مجهول.

" من طينة الجنة"

 (2) أي من طينة يعلم حين خلقه منها أنه يصير إلى الجنة أو من طينة مرجحة لإعمال تصير سببا لدخول الجنة لا على سبيل الإلجاء

" إذا أراد الله بعبد خيرا"

 (3) أي حسن عاقبة و سعادة

" طيب روحه"

 (4) بالهدايات الخاصة و الألطاف المرجحة، و ذلك بعد حسن اختياره و ما يعود إليه من الأسباب،

قوله تعالى:" مِنْ طِينٍ لازِبٍ"

 (5) قال البيضاوي: هو الحاصل من ضرب الجزء المائي إلى الجزء الأرضي و في القاموس: اللزوب اللصوق و الثبوت، و لزب ككرم لزبا و لزوبا دخل بعضه في بعض و الطين لزق و صلب، انتهى‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 5

أقول: و يمكن أن يكون على هذا التأويل للآية الكريمة المراد باللزوب لصوقهم بالأئمة عليه السلام و ملازمتهم لهم، فقوله: كذلك لا يفرق الله، إلخ. و في بعض النسخ لذلك، أي للزوبهم و لصوقهم بأئمتهم و لصوق طينتهم بطينتهم، لا يفرق الله بينهم و بينهم.

أو لكونهم من فرع تلك الطينة لا يفرق الله بينهما في الدنيا و الآخرة، لأن الفرع ملحق بالأصل و تابع له.

قوله عليه السلام: من حمأ مسنون‏

 (1)، إشارة إلى قوله تعالى:" وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ" و الصلصال الطين اليابس تسمع له عند النقر صلصلة أي صوت، و قيل: طين صلب يخالطه الكثيب، و قيل: منتن، و الحمأ: الطين الأسود، و المسنون المتغير المنتن، و قيل: أي مصبوب كأنه أفرغ حتى صار صورة كما يصب الذهب و الفضة، و قيل: أنه الرطب، و قيل: مصور عن سيبويه، قال: أخذ منه سنة الوجه، و الحمأ المسنون: طين سجين.

قوله: فمن تراب،

 (2) أي خلقوا من تراب غير ممزوج بماء عذب زلال كما مزجت به طينة الأنبياء و المؤمنين، و لا بماء آسن أجاج كما مزجت به طينة الكافرين، فلا يكونون من هؤلاء و لا من هؤلاء، و لعل هذا وجه جمع بين الآيات الكريمة، فإن ما دل على أنه خلق من حمأ مسنون فهو في الناصب، و ما دل على أنه خلق من طين لازب فهو في الشيعة، و ما دل على أنه خلق من تراب فهو في المستضعفين، فيحتمل حينئذ أن يكون المراد إدخال تلك الطينات جميعا في بدن آدم لتحصيل قابلية جميع تلك الأمور و الأقسام في أولاده و أن يكون المراد خلق كل صنف من تلك الطينة بإدخال ذلك الطين في النطفة أو بحصول تلك النطفة من هذه الطينة.

و الأوسط أظهر لما رواه الشيخ في مجالسه بإسناده عن عبيد بن يحيى عن يحيى‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 6

ابن عبد الله بن الحسن عن جده الحسن بن علي عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله:

إن في الفردوس لعينا أحلى من الشهد و ألين من الزبد و أبرد من الثلج و أطيب من المسك، فيها طينة خلقنا الله عز و جل منها، و خلق شيعتنا منها فمن لم يكن من تلك الطينة فليس منا و لا من شيعتنا و هي الميثاق الذي أخذ الله عز و جل على ولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، قال عبيد: فذكرت لمحمد بن الحسين هذا الحديث فقال: صدقك يحيى بن عبد الله هكذا أخبرني أبي عن جدي عن أبيه عن النبي صلى الله عليه و آله قال عبيد: قلت: أشتهي أن تفسره لنا إن كان عندك تفسير؟ قال: نعم أخبرني أبي عن جدي رسول الله صلى الله عليه و آله أنه قال: إن لله ملكا رأسه تحت العرش و قدماه في تخوم الأرض السابعة السفلى، بين عينيه راحة أحدكم فإذا أراد الله عز و جل أن يخلق خلقا على ولاية علي بن أبي طالب عليه السلام أمر ذلك الملك فأخذ من تلك الطينة فرمي بها في النطفة حتى تصير إلى الرحم، منها يخلق و هي الميثاق.

قوله: و لله المشيئة فيهم،

 (1) أي في المستضعفين و التعميم بعيد.

و قال بعضهم: في قوله عليه السلام: و المؤمنون الفرع من طين لازب، لأن الجبروت صفوة الملكوت و أصله، و الملكوت فرع الجبروت، و اللازب اللازم للشي‏ء اللاصق به، و إنما كانت طينتهم لازبة للزوبها لطينة أئمتهم و لصوقها بها لخلطها بها و تركبها من العالمين جميعا، أ لا ترى إلى شوقهم إلى أئمتهم و حنينهم إليهم، و كما أن الأمر كذلك كذلك لا يفرق الله بين أئمتهم و بينهم، و الحمأ الطين الأسود و هو كناية عن باطن الدنيا و حقيقة تلك العجوزة الشوهاء، و أما خلق المستضعفين من التراب أعني ماله قبول الأشكال المختلفة و حفظها، فذلك لعدم لزومهم لطريقة أهل الإيمان، و لا لطريقة أهل الكفر و عدم تقيدهم بعقيدة لا حق و لا باطل، ليس لهم نور الملكوت و لا ظلمة باطن الملك، بل لهم قبول كل من الأمرين بخلاف الآخرين فإنهما لا يتحولان عما خلقوا له، و أما قوله: و لله المشيئة فيهم، فهو رد لتوهم الإيجاب في‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 7

فعله سبحانه، و فيه إشارة إلى قوله عز و جل:" وَ لَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ".

 (الحديث الثالث)

 (1): ضعيف.

" فلن تنجس أبدا"

 (2) بنجاسة الشرك و الكفر و إن نجست بالمعاصي فتطهر بالتوبة و الشفاعة، و قيل: لن يتعلق بالدنيا تعلق ركون و إخلاد يذهله عن الآخرة.

 (الحديث الرابع)

 (3): مجهول.

و قد مر بعينه في باب خلق أبدان الأئمة عليه السلام و قال بعض أرباب التأويل: كل ما يدركه الإنسان بحواسه يرتفع منه أثر إلى روحه، و يجتمع في صحيفة ذاته و خزانة مدركاته، و كذلك كل مثقال ذرة من خير أو شر يعمله يرى أثره مكتوبا ثمة، و لا سيما ما رسخت بسبب الهيئات، و تأكدت به الصفات و صار خلقا و ملكة، فالأفاعيل المتكررة و العقائد الراسخة في النفوس هي بمنزلة النقوش الكتابية في الألواح، كما قال الله تعالى:" أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ" و هذه الألواح النفسية يقال لها صحائف الأعمال، و إليه الإشارة بقوله سبحانه:" وَ إِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ" و قوله‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 8

عز و جل:" وَ كُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً" فيقال له:" لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ"" هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ" فمن كان من أهل السعادة و أصحاب اليمين و كانت معلوماته أمورا قدسية و أخلاقه زكية و أعماله صالحة فقد أوتي كتابه بيمينه أعني من الجانب الأقوى الروحاني، و هو جهة عليين و ذلك لأن كتابه من جنس الألواح العالية و الصحف المكرمة المرفوعة المطهرة بأيدي سفرة كرام بررة يشهده المقربون، و من كان من الأشقياء المردودين و كانت معلوماته مقصورة على الجرميات و أخلاقه سيئة و أعماله خبيثة فقد أوتي كتابه بشماله أعني من جانبه الأضعف الجسماني و هو جهة سجين، و ذلك لأن كتابه من جنس الأوراق السفلية و الصحائف الحسية القابلة للاحتراق فلا جرم يعذب بالنار و إنما عود الأرواح إلى ما خلقت منه كما قال سبحانه:" كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ" كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ" فما خلق من عليين فكتابه في عليين، و ما خلق من سجين فكتابه في سجين.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 9

 (الحديث الخامس)

 (1): ضعيف.

" فلست أعرفك"

 (2) أي بالتشيع‏

" فأفتشه عن عداوتكم"

 (3) التعدية بعن لتضمين معنى الكشف، و السمت: الطريق و هيئة أهل الخير، و زعارة بالزاء و الراء المشددة و قد يخفف الشراسة و سوء الخلق، و في بعض النسخ بالدال و العين و الراء المهملات و هو الفساد و الفسق و الخبث.

" فخلطهما جميعا"

 (4) أي في صلب آدم إلى أن يخرجوا من أصلاب أولاده، و هو المراد

بقوله: ثم نزع هذه من هذه‏

 (5) إذ يخرج المؤمن من صلب الكافر، و الكافر من صلب المؤمن و حمل الخلط على الخلطة في عالم الأجساد و اكتساب بعضهم الأخلاق من بعض بعيد جدا.

و قال بعضهم: ثم نزع هذه- إلى آخره- معناه أنه نزع طينة الجنة من طينة النار، و طينة النار من طينة الجنة بعد ما مست إحداهما الأخرى، ثم خلق أهل الجنة من طينة الجنة، و خلق أهل النار من طينة النار، و أولئك إشارة إلى الأعداء

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 10

و هؤلاء إلى الأولياء، و ما خلقوا منه في الأول طينة النار و في الثاني طينة الجنة.

 (الحديث السادس)

 (1): ضعيف. و المراد فضل طينتهم.

 (الحديث السابع)

 (2): ضعيف.

قوله: في أول ساعة" إلخ"

 (3) قيل: لما كان خلق آدم عليه السلام بعد خلق السماوات و الأرض ضرورة تقدم البسيط على المركب، و كان خلق السماوات و الأرض و أقواتها في ستة أيام من الأسبوع و قد جمعت جميعا في الجمعة صار بدو خلق الإنسان فيه، و المراد بكلمته جبرئيل لأنه حامل كلمته أو لاهتداء الناس به كاهتدائهم بكلام الله أو لكونه مخلوقا بكلمة كن بلا مادة، و قيل: المراد بالسماوات درجات الجنة و بالأرضين دركات سجين ليطابق الأخبار الأخر، و يحتمل أخذها منهما معا، و قيل: كان المراد

بالتربة

 (4) ما له مدخل في تهيئة المادة القابلة لأن يخلق منها شي‏ء فيشمل الطينة بمعنى الجبلة و آثار القوى السماوية المربية للنطفة، و بالجملة ما له مدخل في السبب القابلي، انتهى.

و قيل: إطلاق التربة على ما أخذ من السماوات من قبيل مجاز المشارفة أي ما يصير تربة و ينقلب إليها، و

القصوى‏

 (5) مؤنث الأقصى أي الأبعد، و يدل على أن الأرض سبع طبقات كالسماوات كما قال تعالى:" اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَ مِنَ الْأَرْضِ‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 11

مِثْلَهُنَّ".

قوله عليه السلام: ففلق الطين فلقتين‏

 (1)، ضمير فلق إما راجع إلى الله أو إلى جبرئيل، و كذا

قوله: فذرأ

 (2)، و في القاموس فلقه يفلقه شقه كفلقه و فالق الحب خالقه أو شاقه بإخراج الورق منه، و قال: ذرت الريح الشي‏ء ذروا و أذرته و ذرته أطارته و أذهبته و ذرأ هو بنفسه.

أقول: الكلام يحتمل وجوها" الأول" أن يكون قوله: ففلق تفريعا و تأكيدا لما مضى، أي فصار يقبض بعض الطين باليمين و بعضه بالشمال الطين صنفين، ففرق من الأرض أي ما كان في يده من طين الأرض، و كذا الثاني فقال الله أو جبرئيل للذي بيمينه قبل الذر أو للذي كان بيمينه بعده.

الثاني: أن يكون المعنى ففلق كل طين من الطينين فلقة أي جعل كلا منهما حصتين ففرق من كل طين حصة ليكون طينة للمستضعفين و الأطفال و المجانين، و قال لما بقي في اليمين: منك الرسل" إلخ" و لما بقي في الشمال: منك الجبارون" إلخ" و على هذا لعل إرجاع الضمائر إلى الله تعالى أولى، فيقرأ أريد في الموضعين بصيغة المتكلم، و على الوجه الآخر يقرأ بصيغة الغائب المجهول.

الثالث: ما ذكره بعض الأفاضل حيث قال: كان الفلق كناية عن إفراز ما يصلح من المادتين لخلق الإنسان، و إنما ذرأ من كل منهما ما ذرأ لأنه كان فيهما ما ليس له مدخل في خلق الإنسان و إنما كان مادة لسائر الأكوان خاصة.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 12

قوله عليه السلام: ثم إن الطينتين خلطتا،

 (1) أي ما كان في اليدين أو جميع الطينتين المذروء منهما و غير المذروء، و

قوله عليه السلام: فالحب طينة المؤمنين،

 (2) هذا بطن من بطون الآية و على هذا التأويل المراد بالفلق شق كل منهما و إخراج الآخر منه أو شق كل منهما عن صاحبه أو خلقهما

" من أجل أنه نأى"

 (3) كان مناسبة نأى و نوى من جهة الاشتقاق الكبير المبني على توافق بعض حروف الكلمتين فإن الأول مهموز الوسط و الثاني من المعتل، و يحتمل أن يكون أصل المهموز من المعتل أو بالعكس و يؤيد أن صاحب المصباح المنير و الراغب في المفردات ذكرا نأى في باب النون مع الواو، أو يقال ليس الغرض بيان الاشتقاق بل بيان أن النوى بمعنى البعد، و ذكر نأى لتناسب اللفظين فإن الواوي أيضا يطلق بهذا المعنى، قال في القاموس: النية الوجه الذي يذهب فيه و البعد كالنوى فيهما" انتهى".

و الآية في سورة الأنعام هكذا:" إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَ النَّوى‏" قال في مجمع البيان: أي شاق الحبة اليابسة الميتة فيخرج منه النبات و شاق النواة اليابسة فيخرج منها النخل و الشجر، و قيل: معناه خالق الحب و النوى و منشإهما و مبدئهما، و قيل: المراد به ما في الحبة و النواة من الشق، و هو من عجيب قدرة الله تعالى في استوائه.

" يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ مُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ"

 (4) أي يخرج النبات الغض‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 13

الطري الخضر من الحب اليابس، و يخرج الحب اليابس من النبات الحي النامي عن الزجاج و العرب تسمى الشجرة ما دام غضا قائما بأنه حي، فإذا يبس أو قطع أو قلع سموه ميتا.

و قيل: معناه يخلق الحي من النطفة و هي موات، و يخلق النطفة و هي موات من الحي عن الحسن و غيره، و هذا أصح، و قيل: معناه يخرج الطير من البيض و البيض من الطير عن الجبائي، و قيل: يخرج المؤمن من الكافر و الكافر من المؤمن.

ثم قال سبحانه في هذه السورة أيضا:" أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها".

قال الطبرسي:

أ و من كان ميتا

 (1) أي كافرا

فأحييناه‏

 (2) بأن هديناه إلى الإيمان عن ابن عباس و غيره، شبه سبحانه الكفر بالموت و الإيمان بالحياة، و قيل: معناه من كان نطفة فأحييناه و جعلنا له نورا، المراد بالنور العلم و الحكمة أو القرآن أو الإيمان، و بالظلمات ظلمات الكفر، و إنما سمي الله الكافر ميتا كأنه لا ينتفع بحياته و لا ينتفع غيره بحياته فهو أسوأ حالا من الميت إذ لا يوجد من الميت ما يعاقب عليه، و لا يتضرر غيره به، و سمي المؤمن حيا لأنه له و لغيره المصلحة و المنفعة في حياته و كذلك سمي الكافر ميتا و المؤمن حيا في عدة مواضع، مثل قوله:" إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى‏" و" لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا" و قوله:" وَ ما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَ لَا الْأَمْواتُ"

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 14

و سمي القرآن و العلم و الإيمان نورا لأن الناس يبصرون بذلك، و يهتدون به من ظلمات الكفر و حيرة الضلالة، كما يهتدى بسائر الأنوار، و سمي الكفر ظلمة لأن الكافر لا يهتدي بهداه و لا يبصر أمر رشده" انتهى".

و أقول: على التأويل المذكور في الخبر و أكثر التفاسير المذكورة قوله تعالى:

" يُخْرِجُ الْحَيَّ" بيان لقوله" فالِقُ الْحَبِّ".

قوله: حين فرق الله بينهما بكلمته،

 (1) أي بقدرته أو بأمر كن، أو بجبرئيل، و التفريق في الميلاد أو في الطينة، و الأول أظهر،

فقوله: كذلك‏

 (2)، تشبيه الإخراج من الظلمات إلى النور و بالعكس بإخراج الحي من الميت و بالعكس، في أن المراد فيهما إخراج طينة المؤمن من طينة الكافر و بالعكس، و ليس المراد تأويل تتمة تلك الآية أعني قوله سبحانه:" أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً"" إلخ" فإنه لم يذكر فيها إخراج الكافر من النور إلى الظلمة، بل فيها أنه في الظلمات ليس بخارج منها بل هو إشارة إلى قوله تعالى:" اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ" الآية، و لا ينافيه‏

قوله عليه السلام: و يخرج الكافر

 (3)، مع أن في الآية نسب الإخراج إلى الطاغوت لأن لخذلانه سبحانه مدخلا في ذلك، مع أنه يمكن أن يقرأ على بناء المجرد المعلوم، أو على بناء المجهول، و ما قيل: من أنه يظهر من هذا الحديث أن إخراج المؤمن من الكافر و بالعكس في وقتين تفريق الطين و وقت الولادة فليس بظاهر كما عرفت.

ثم استشهد عليه السلام لإطلاق الحياة على الإيمان أو كونه من طينة مقربة له بقوله سبحانه:

" لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا"

 (4) أي كان من طينة الجنة على تأويله عليه السلام، قال الطبرسي: أي أنزلناه ليخوف به من معاصي الله من كان مؤمنا لأن الكافر كالميت بل أقل من الميت أو من كان عاقلا كما روي عن علي عليه السلام و قيل: من كان حي القلب‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 15

حي البصر

" وَ يَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ"

 (1) أي يجب الوعيد و العذاب على الكافرين بكفرهم.

و أقول: على تأويله عليه السلام يحتمل أن يكون المراد بالقول ما مر من قوله سبحانه: منك الجبارون و المشركون و الكافرون" إلخ".

 (فذلكة)

اعلم أن ما ذكر في هذا الباب و في بعض الأبواب الآتية من متشابهات الأخبار و معضلات الآثار، و مما يوهم الجبر و نفي الاختيار و لأصحابنا رضوان الله عليهم فيها مسالك:

الأول: ما ذهب إليه الأخباريون و هو أنا نؤمن بها مجملا و نعترف بالجهل عن حقيقة معناها و عن أنها من أي جهة صدرت و نرد علمه إليهم عليه السلام.

الثاني: أنها محمولة على التقية لموافقتها لروايات العامة و مذاهب الأشاعرة الجبرية و هم جلهم.

الثالث: أنه كناية عن علمه تعالى بما هم إليه صائرون فإنه سبحانه لما خلقهم و كان عند خلقهم عالما بما يصيرون إليه فكأنه خلقهم من طينات مختلفة.

الرابع: أنها كناية عن اختلاف استعداداتهم و قابلياتهم و هذا أمر بين لا يمكن إنكاره، فإنه لا يريب عاقل في أن النبي صلى الله عليه و آله و أبا جهل ليسا في درجة واحدة من الاستعداد و القابلية، و هذا لا يستلزم سقوط التكليف فإن الله تعالى كلف النبي صلى الله عليه و آله بقدر ما أعطاه من الاستعداد و القابلية لتحصيل الكمالات و كلفه ما لم يكلف أحدا مثله، و كلف أبا جهل ما في وسعه و طاقته، و لم يجبره على شي‏ء من الشر و الفساد.

الخامس: أنه لما كلف الله تعالى الأرواح أولا في الذر و أخذ ميثاقهم فاختاروا الخير و الشر باختيارهم في ذلك الوقت، و تفرع اختلاف الطينة على ما اختاروه باختيارهم كما دلت عليه بعض الأخبار فلا فساد في ذلك.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 16

باب آخر منه و فيه زيادة وقوع التكليف الأول‏

 (1) أقول: إنما أفرد لتلك الأخبار بابا لاشتمالها على أمر زائد لم يكن في الأخبار السابقة رعاية لضبط العنوان بحسب الإمكان.

 (الحديث الأول)

 (2): موثق كالصحيح.

" لما اختلف اثنان"

 (3) أي في مسألة الاستطاعة و الاختيار و الجبر، أو لما تنازع اثنان في أمر من أمور الدين لاختلاف إفهامهم و قابلياتهم و طينهم، و لما بالغوا في هداية الخلق‏

" كن ماءا عذابا"

 (4) أمر تكويني أو استعارة تمثيلية لبيان علمه تعالى باختلاف مواد الخلق و استعداداتهم و ما هم إليه صائرون و في القاموس:

ماء أجاج‏

 (5) ملح مر، و قال أديم النهار عامته أو بياضه، و من الضحى أوله و من السماء و الأرض ما ظهر

و قال: عركه‏

 (6) دلكه و حكه حتى عفاه و قال:

الذر

 (7) صغار النمل و مائة منها زنة حبة شعير، الواحدة ذرة، و قال: دب‏

يدب‏

 (8) دبا و دبيبا: مشى على هنيئة، و قال: أقلته فسخته، و استقالة: طلب إليه أن يقيله، و قال: هابه يهابه هيبا و مهابة: خافه.

و قال السيد رضي الله عنه في نهج البلاغة: روى اليماني عن أحمد بن قتيبة عن عبد الله بن يزيد عن مالك بن دحية قال: كنا عند أمير المؤمنين علي عليه السلام و قد ذكر عنده اختلاف الناس، قال: إنما فرق بينهم مبادئ طينهم، و ذلك أنهم قد كانوا فلقة من سبخ أرض و عذبها و حزن تربة و سهلها فهم على حسب قرب أرضهم يتقاربون،

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 17

و على قدر اختلافها يتفاوتون، فتام الرواء ناقص العقل و ماد القامة قصير الهمة و زاكي العمل قبيح المنظر و قريب القعر بعيد السبر و معروف الضريبة منكر الجليبة و تائه القلب متفرق اللب و طليق اللسان حديد الجنان.

و قال ابن ميثم في قوله عليه السلام: إنما فرق بينهم" إلخ" أي تقاربهم في الصور و الأخلاق تابع لتقارب طينهم و تقارب مباديه و هي السهل و الحزن، و السبخ و العذب و تفاوتهم فيها لتفاوت طينهم و مباديه المذكورة و قال أهل التأويل: الإضافة بمعنى اللام أي المبادئ لطينهم كناية عن الأجزاء العنصرية التي هي مبادئ المركبات ذوات الأمزجة، أو السبخ كناية عن الحار اليابس و العذب عن الحار الرطب و السهل عن البارد الرطب، و الحزن عن البارد اليابس، انتهى.

و أقول: لا يبعد أن يكون الماء العذب كناية عما خلق الله في الإنسان من الدواعي إلى الخير و الصلاح كالعقل و النفس الملكوتي، و الماء الأجاج عما ينافي و يعارض ذلك و يدعو إلى الشهوات الدنية و اللذات الجسمانية من البدن و ما ركب فيه من الدواعي إلى الشهوات، و يكون مزجهما كناية عن تركيبهما في الإنسان،

فقوله: أخلق منك،

 (1) أي من أجلك جنتي و أهل طاعتي، إذ لو لا ما في الإنسان من جهة الخير لم يكن لخلق الجنة فائدة و لم يكن يستحقها أحد، و لم يصر أحد مطيعا له تعالى، و كذا

قوله:

أخلق منك ناري‏

 (2) إذا لو لا ما في الإنسان من دواعي الشرور لم يكن يعصي الله أحد، و لم يحتج إلى خلق النار للزجر عن الشرور ثم لإظهار إحاطة علمه بما سيقع من كل فرد من أفراد البشر للملائكة لطفا لهم و لبني آدم أيضا بعد إخبار الرسل بذلك جعلهم كالذر، و ميز من علم منهم الإيمان ممن علم منهم خلافه، و كلفهم بدخول النار ليعلموا قبل التكليف في عالم الأجساد أن ما علم منهم مطابق للواقع‏

" فثم ثبتت الطاعة و المعصية"

 (3) و علم الملائكة من يطيع بعد ذلك و من يعصي و أثبت ذلك في الألواح مطابقا لعلمه تعالى.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 18

و قوله: فمن ذلك صار يلد المؤمن الكافر،

 (1) أي لأجل ما قرر في الإنسان من جهتي الخير و الشر ترى الأب يصير تابعا للعقل و مقويا لدواعي الخير و زاجرا للشهوات فيصير من الأخيار، و الابن يتبع الهوى و الشهوات و يسلطها على العقل فيصير من الأشرار مع نهاية الارتباط بينهما.

و قوله: و لا يستطيع هؤلاء،

 (2) أي لا يتخلف ما علم الله تعالى منهم، لكن لا يختارونها إلا باختيارهم و إرادتهم و استطاعتهم.

هذا ما خطر بالبال على وجه الاحتمال و الله يعلم غوامض أسرارهم عليه السلام.

و قال بعض أهل التأويل عبر عن المادة تارة بالماء و أخرى بالتربة لاشتراكهما في قبول الأشكال، و لاجتماعهما في طينة الإنسان و تركيب خلقته، و أديم الأرض وجهها و كأنه كناية عما ينبت منها مما يصلح أن يصير غذاء الإنسان و يحصل منه النطفة أو تتربى به، و العرك: الدلك و كأنه كناية عن مزجه بحيث يحصل منه المزاج و يستعد للحياة، و الذر: النمل الصغار و وجه الشبه الحس و الحركة و كونهم محل الشعور مع صغر الجثة و الخفاء، و هذا الخطاب إنما كان في عالم الأمر و لشدة ارتباط الملك بالملكوت و قوامه به جاز إسناد مادته إليه و إن كان عالم الأمر مجردا عن المادة و اجتماعهم في الوجود عند الله تعالى إنما هو لاجتماع الأجسام الزمانية عنده تعالى دفعة واحدة في عالم الأمر و إن كانت متفرقة مبسوطة متدرجة في عالم الخلق و وجودهم في عالم الأمر وجود ملكوتي ظلي ينبعث من حقيقة هذا الوجود الخلقي الجسماني و هو صورة علمه سبحانه بها و عبر عنه بالظلال في حديث آخر، و أمره تعالى إياهم‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 19

إلى الجنة و النار هدايته إياهم إلى سبيلهما، ثم توفيقه أو خذلانه، و لعل المراد بالنار المسعرة بعد ذلك التكاليف الشرعية و تحصيل المعرفة المحرقة للقلوب لصعوبة الخروج عن عهدتها و استقالة أصحاب الشمال كناية عن تمنيهم الإطاعة و عدم قدرتهم التامة عليها لغلبة الشقوة عليهم، و كونهم مسخرة تحت سلطان الهوى كما قالوا" رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَ كُنَّا قَوْماً ضالِّينَ" انتهى.

و الاجتراء على تلك التأويلات في الأخبار جرأة على الله و رسوله و الأئمة الأخيار إلا أن يكون على سبيل الاحتمال، لكن بعد ثبوت ما بنوا عليه الكلام من المقدمات التي لم تثبت بالبرهان و اليقين بل بعضها مناف لما ثبت في الدين المبين.

 (الحديث الثاني)

 (1): حسن كالصحيح.

و ظاهر الحديث أن السؤال عن الباقر عليه السلام كان في زمن أبيه و هو حاضر، و فيه أنه لم يعهد إدراك زرارة علي بن الحسين عليه السلام فيحتمل أن يكون روي ذلك عن الرجل السائل و لم يكن زرارة حاضرا عند السؤال، مع أنه يمكن إدراكه زمان السجاد عليه السلام و عدم روايته عنه و لذا لم يعد من أصحابه، و في تفسير العياشي هكذا عن زرارة أن رجلا سأل أبا عبد الله عليه السلام إلى آخر الخبر، و هو أصوب.

" وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ"

 (2) قال البيضاوي: أي أخرج من أصلابهم نسلهم على ما يتوالدون قرنا بعد قرن، و من ظهورهم بدل من بني آدم بدل البعض، و قرأ نافع و أبو عمرو و ابن عامر و يعقوب ذرياتهم‏

" وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ"

 (3) أي نصب لهم دلائل ربوبيته و ركب في عقولهم ما يدعوهم إلى الإقرار

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 20

بها حتى صاروا بمنزلة من قيل لهم:

أ لست بربكم؟ قالوا بلى‏

 (1)، فنزل تمكينهم من العلم بها و تمكنهم منه منزلة الإشهاد و الاعتراف على طريقة التمثيل، و يدل عليه قوله:" قالُوا بَلى‏ شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ" أي كراهة أن تقولوا" إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ" لم ننبه عليه بدليل" أَوْ تَقُولُوا" عطف على أن تقولوا" إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَ كُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ" فاقتدينا بهم لأن التقليد عند قيام الدليل و التمكن مع العلم به لا يصلح عذرا" أَ فَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ" يعني آباءهم المبطلين بتأسيس الشرك، و قيل: لما خلق الله آدم أخرج من ظهره ذرية كالذر و أحياهم، و جعل لهم العقل و النطق و ألهمهم ذلك، لحديث رواه عمر، انتهى.

و قال بعض المحققين لعل معنى إشهاد ذرية بني آدم على أنفسهم بالتوحيد استنطاق حقائقهم بالسنة قابليات جواهرها و ألسن استعدادات ذواتها، و أن تصديقهم به كان بلسان طباع الإمكان قبل نصب الدلائل لهم أو بعد نصب الدلائل، أو أنه نزل تمكينهم من العلم و تمكينهم منه بمنزلة الإشهاد و الاعتراف على طريقة التمثيل نظير ذلك قوله عز و جل:" إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْ‏ءٍ" إلخ، و قوله عز و علا:" فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ" و معلوم أنه لا قول ثمة و إنما هو تمثيل و تصوير للمعنى، و يحتمل أن يكون ذلك النطق باللسان الملكوتي الذي به يسبح كل شي‏ء بحمد ربه، و ذلك لأنهم مفطورون على التوحيد.

قوله عليه السلام: من تراب، التربة

 (2) هذا من قبيل إضافة الجزء إلى الكل،

قوله‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 21

من يمينه و شماله‏

 (1)، الضميران راجعان إلى الملك المأمور بهذا الأمر كجبرئيل أو العرش أو إلى التراب فاستعار اليمين للجهة التي فيها اليمن و البركة، و الشمال للأخرى، أو اليمين لصفة الرحمانية و الشمال لصفة القهارية، فالضميران راجعان إلى الله تعالى كما في الدعاء: الخير في يديك، أي كلما يصدر منك من خير أو شر أو نفع أو ضر فهو خير، و مشتمل على المصالح الجليلة.

 (الحديث الثالث)

 (2): حسن موثق كالصحيح.

قوله: فيرون،

 (3) أي أهل البيت عليه السلام‏

" قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ"

 (4) الآية، قيل في تفسير الآية وجوه:

" الأول" فإنا أول العابدين منكم، فإن النبي يكون أعلم بالله و بما يصح له و بما لا يصح له، و أولى بتعظيم ما يوجب تعظيمه، و من حق تعظيم الوالد تعظيم ولده، و لا يلزم من ذلك صحة كينونة الولد و عبادته له، فإن المحال قد يستلزم‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 22

المحال، بل المراد نفيهما.

و الثاني: أن معناه إن كان له ولد في زعمكم فأنا أول العابدين لله الموحدين له.

الثالث: أن المعنى إن كان له ولد فأنا أول الآنفين منه أو من أن يكون له ولد، من عبد يعبد إذا اشتد أنفه.

الرابع: أن كلمة إن نافية أي ما كان له ولد فأنا أول الموحدين من أهل مكة.

أقول: و بناء الخبر على التفسير الأول، إذ يظهر منه أنه صلى الله عليه و آله كان مبادرا إلى كل خير و سعادة و إطاعة، فلا بد أن يكون مبادرا في دخول النار عند الأمر به.

باب آخر منه‏

 (1)

 (الحديث الأول)

 (2): مجهول.

" فأخذ طينا"

 (3) أي مزجه بالمائين ليحصل فيه استعداد الخير و الشر معا فيصح التكليف‏

" إلى الجنة"

 (4) أي امضوا إلى الجنة سالمين من العذاب و النكال، أو إلى ما يوجب الجنة سالمين من شبه الشياطين و وساوسهم‏

" أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ"

 (5) يعني فعل ذلك كراهة أن تقولوا، و في أكثر النسخ أن تقولوا بصيغة الخطاب كما في القراءات‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 23

المشهورة، فيكون ذكر تتمة الآية استطرادا، و الأصوب هنا أن يقولوا بصيغة الغيبة موافقا لقراءة أبي عمرو في الآية.

قوله عليه السلام: ثم أخذ

 (1)، لعل كلمة ثم هنا و فيما سيأتي للتراخي الرتبي لا الزماني، لما بين الميثاقين من التفاوت، و إلا فالظاهر تقدم أخذ الميثاق على النبيين على غيرهم، و كذا أخذ الميثاق على أولي العزم و غيرهم لما سيأتي، و أريد بأولى العزم نوح و إبراهيم و موسى و عيسى و محمد صلى الله عليه و آله و لا ينافي دخول الإقرار بنبوة نبينا صلى الله عليه و آله فيما عهد إليهم دخوله صلى الله عليه و آله في المعهود إليهم، قيل: و لما كانوا معهودين معلومين جاز أن يشار إليهم بهؤلاء الخمسة مع عدم ذكرهم مفصلا، و إنما زاد في أخذ الميثاق على من زاد في رتبته و شرفه لأن التكليف إنما يكون بقدر الفهم و الاستعداد، فكلما زاد زاد، و إنما يعرف مراتب الوجود من له حظ منها و بقدر حظه منها، و أما آدم فلما لم يعزم على الإقرار بالمهدي لم يعد من أولي العزم، و إن عزم على الإقرار بغيره من الأوصياء.

" إنما هو فترك"

 (2) يعني معنى فنسي هيهنا ليس إلا فترك، و لعل السر في عدم عزم آدم على الإقرار بالمهدي استبعاده أن يكون لهذا النوع الإنساني اتفاق على أمر

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 24

واحد، انتهى.

و أقول: الظاهر أن المراد بعدم العزم عدم الاهتمام به و تذكره، أو عدم التصديق اللساني حيث لم يكن ذلك واجبا لا عدم التصديق به مطلقا، فإنه لا يناسب منصب النبوة، بل ما هو أدون منه.

و قوله: إنما هو فترك، أي معنى النسيان هنا الترك، لأن النسيان غير مجوز على الأنبياء عليه السلام، أو كان في قراءتهم عليه السلام" فترك" مكان" فنسي" أو المعنى أن العزم إنما كان ما ذكر، أي العزم على الإقرار المذكور، فترك آدم عليه السلام أو كان المطلوب الإقرار التام و لم يأت به، أو عزم أولا ثم ترك و الأول أظهر.

و في القاموس‏

الأجيج‏

 (1) تلهب النار كالتأجج، و أججتها تأجيجا فتأججت.

 (الحديث الثاني)

 (2): حسن.

قوله: فكان‏

 (3)،

و ثم قال‏

 (4)

، و فنظر

 (5)، الكل معطوف على أخرج،

و قوله: قال آدم‏

 (6)، جواب لما، و

" لأمر ما"

 (7) أي لأمر عظيم‏

قوله: يعبدونني،

 (8) أي أريد منهم أن يعبدونني، و

قوله: لا يشركون بي شيئا

 (9)، حال أو استئناف بياني‏

قوله: و كذلك‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 25

خلقتهم،

 (1) في بعض النسخ لذلك أي لأجل الاختلاف، كما قال سبحانه:" وَ لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَ لِذلِكَ خَلَقَهُمْ" على بعض التفاسير، أو لأن يعبدوني و لا يشركوا بي شيئا.

" مِنْ رُوحِي"

 (2) أي من روح اصطفيته و اخترته، أو من عالم المجردات بناء على تجرد النفس، و قيل: الروح الأول النفس، و الثاني جبرئيل، و لا يخفى ما فيه‏

" و طبيعتك"

 (3) أي خلقتك الجسمانية البدنية أو صفاتها التابعة لها

" خلاف كينونتي"

 (4) أي وجودي فإنها من عالم الماديات، و لا تناسب عالم المجردات أو الخطأ و الوهم ناش منها، و قيل: الكينونة هنا مصدر كان الناقصة و الإضافة أيضا للتشريف، أي صفاتك البدنية مخالفة للآداب المرضية لي- ككونك صابرا و قانعا و راضيا بقضائه تعالى، و

الجبلة

 (5) بكسر الجيم و الباء و تشديد اللام: الخلقة، و

قوله: و بضعف طبيعتك‏

 (6) تكلفت ما لا علم لك به، في بعض النسخ و بضعف قوتك تكلمت، و الحاصل أن حكمك بأنهم إذا كانوا على صفات واحدة كان أقرب إلى الحكمة و الصواب إنما نشأ من الأوهام التابعة للقوي البدنية فإنهم لو كانوا كذلك لم يتيسر التكليف المعرض لهم لأرفع الدرجات، و لم تبق نظام النوع، و لم يرتكبوا الصناعات الشاقة التي بها بقاء نوعهم‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 26

إلى غير ذلك من الحكم و المصالح.

" بعلمي خالفت بين خلقهم"

 (1) إذ علمت أن في مخالفة خلقتهم صلاحهم و بقاء نوعهم‏

" و بمشيتي"

 (2) أي إرادتي التابعة لحكمتي‏

" يمضي فيهم أمري"

 (3) أي الأمر التكويني أو التكليفي أو الأعم‏

" لا تبديل لخلقي"

 (4) أي لتقديري، أو لما قررت فيهم من القابليات و الاستعدادات، و قيل: أي من حسنت أحواله في ذلك الوقت حسنت أحواله في الدنيا، و من حسنت أحواله في الدنيا حسنت أحواله في الآخرة، و من قبحت أحواله في ذلك الوقت قبحت أحواله في الموطنين الآخرين لا يتبدل هؤلاء إلى هؤلاء و لا هؤلاء إلى هؤلاء.

أقول: و سيأتي الكلام في تفسير قوله تعالى:" لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ" و كان هذا إشارة إليه‏

" إنما خلقت الجن و الإنس ليعبدون"

 (5) إشارة إلى قوله تعالى:" وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" و أورد على ظاهر الآية أن بعض الجن و الإنس لا يعبدون أصلا إما لكفر أو جنون أو موت قبل البلوغ أو نحو ذلك، و عدم ترتب العلة الغائية على فعل الحكيم ممتنع، و أجيب بوجوه أربعة:

الأول: أنه أراد سبحانه بالجن و الإنس الذين بلغوا حد التكليف قبل الممات و التعليل المفهوم من اللام أعم من العلة الغائية، كما روى الصدوق في التوحيد عن أبي الحسن الأول عليه السلام أنه قال معنى قول النبي صلى الله عليه و آله: اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أن الله عز و جل خلق الجن و الإنس ليعبدوه و لم يخلقهم ليعصوه، و ذلك قوله عز و جل:" وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" فيسر كلاما لما خلق له، فالويل لمن استحب العمى على الهدى.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 27

الثاني: أنه إن سلمنا أن المراد بالجن و الإنس ما هو أعم من المكلفين و أن اللام للعلة الغائية، لا نسلم العموم في ضمير الجمع في قوله: ليعبدون، إذ لعل المراد عبادة بعض الجن و الإنس.

الثالث: إن سلمنا عموم ضمير يعبدون أيضا فلا نسلم رجوع الضمير إلى الجن و الإنس إذ يمكن عوده إلى المؤمنين المذكورين قبل هذه الآية في قوله تعالى:" وَ ذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى‏ تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ" فتدل على أن خلق غير المؤمنين لأجل المؤمنين كما يومئ إليه قوله عليه السلام في هذا الخبر: و ينظر المؤمن إلى الكافر فيحمدوني و لذلك خلقتهم" إلخ".

الرابع: لو سلمنا جميع ذلك نقول: ترتب الغاية على فعل الحكيم و وجوبه إنما هو فيما هو غاية بالذات، و الغاية بالذات هنا إنما هي التكليف بالعبادة، و العبادة غاية بالعرض، و التكليف شامل لجميع أفراد الجن و الإنس للروايات الدالة على أن الأطفال و المجانين يكلفون في القيامة كما سيأتي في كتاب الجنائز.

قوله: و قبل مماتكم‏

 (1)، كان تخصيص قبل الممات بالذكر و إن كان داخلا في الحياة للتنبيه على أن المدار على العاقبة في السعادة و الشقاوة،

" لأبلوك و أبلوهم"

 (2) أي لأعاملك و إياهم معاملة المختبر

" أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا"

 (3) مفعول ثان للبلوى بتضمين معنى العلم.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 28

قوله: و الطاعة و المعصية

 (1) إسناد خلقهما إليه سبحانه إسناد إلى العلة البعيدة، أو المراد به جعل المعصية معصية، و الطاعة طاعة، أو المراد بالخلق التقدير على عموم المجاز أو الاشتراك، و ظاهره أن الجنة و النار مخلوقتان كما هو مذهب أكثر الإمامية بل كلهم، و أكثر العامة، و ذهب جماعة من المعتزلة إلى أنهما غير مخلوقتين الآن، و ستخلقان.

" و بعلمي النافذ فيهم"

 (2) أي المتعلق بكنه ذواتهم و صفاتهم و أعمالهم، كأنه نفذ في أعماقهم أو الجاري أثره فيهم" فجعلت منهم الشقي و السعيد" أي من كنت أعلم عند خلقه أنه يصير شقيا، أو المادة القابلة للشقاوة و إن لم يكن مجبورا عليها، و كذا السعيد

" و البصير"

 (3) أي بصرا أو بصيرة، و كذا الأعمى و

" الذميم"

 (4) في أكثر النسخ بالذال المعجمة، أي المذموم الخلقة، في القاموس: ذمه ذما و مذمة فهو مذموم و ذميم و بئر ذميم و ذميمة قليلة الماء، غزيرة ضد، و به ذميمة أي زمانة تمنعه الخروج، و كأمير بثر يعلو الوجوه من حر أو جرب، و في بعض النسخ بالدال المهملة، في القاموس: و الدمة بالكسر الرجل القصير الحقير، و أدم أقبح أو ولد له ولد قبيح‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 29

دميم، و قال:

الزمانة

 (1) العاهة و قوله: لأبلوهم بدل لقوله لذلك خلقتهم.

قوله: و لي أن أغير

 (2) إشارة إلى أن الطينات المختلفة و الخلق منها، و تقدير الأمور المذكورة فيهم ليس مما ينفي اختيار الخير و الشر أو من الأمور الحتمية التي لا تقبل البداء

" لا أسأل عما أفعل"

 (3) إنما لا يسأل لأنه سبحانه الكامل بالذات العادل في كل ما أراد، العالم بالحكم و المصالح الخفية التي لا تصل إليها عقول الخلق، بخلاف غيره فإنهم مسئولون عن أعمالهم و أحوالهم لأن فيها الحسن و القبيح و الإيمان و الكفر، لا بالمعنى التي تذهب إليه الأشاعرة أنه يجوز أن يدخل الأنبياء عليه السلام النار و الكفار الجنة، و لا يجب عليه شي‏ء، و قيل: إن هذا إشارة إلى عدم الوجوب السابق و جواز تخلف المعلول عن العلة التامة كما اختاره هذا القائل.

و قال بعض أرباب التأويل في شرح هذا الخبر: إنما ملأوا السماء لأن الملكوت إنما هو في باطن السماء و قد ملأها، و كانوا يومئذ ملكوتين، و السر في تفاوت الخلائق في الخيرات و الشرور و اختلافهم في السعادة و الشقاوة و اختلاف استعداداتهم و تنوع حقائقهم لتباين المواد السفلية في اللطافة و الكثافة و اختلاف أمزجتهم في القرب و البعد من الاعتدال الحقيقي و اختلاف الأرواح التي بإزائها في الصفاء و الكدورة و القوة و الضعف و ترتب درجاتهم في القرب من الله سبحانه و البعد عنه كما أشير إليه في الحديث:

الناس معادن كمعادن الذهب و الفضة خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام.

و أما سر هذا السر أعني سر اختلاف الاستعدادات و تنوع الحقائق فهو تقابل صفات الله سبحانه و أسمائه الحسنى التي هي من أوصاف الكمال و نعوت الجلال، و ضرورة تباين مظاهرها التي بها يظهر أثر تلك الأسماء، فكل من الأسماء يوجب تعلق إرادته سبحانه و قدرته إلى إيجاد مخلوق يدل عليه من حيث اتصافه بتلك الصفة

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 30

فلا بد من إيجاد المخلوقات كلها على اختلافها و تباين أنواعها لتكون مظاهر لأسمائه الحسنى جميعا، و مجالي لصفاته العليا قاطبة، كما أشير إلى لمعة منه في هذا الحديث، انتهى.

و أقول: هذه الكلمات مبنية على خرافات الصوفية و إنما نورد أمثالها لتطلع على مسالك القوم في ذلك و آرائهم.

 (الحديث الثالث)

 (1): ضعيف، و قد مضى هذا الخبر بأدنى تغيير في المتن و السند في باب فيه نتف و جوامع من الرواية في الولاية، و قد شرحناه هناك، و قيل:" ما" في‏

قوله:" ما أحب"

 (2)

" و ما أبغض"

 (3) مصدرية و قد مضى تأويله بالعلم أو باختلاف الاستعدادات، و المراد بالظل إما عالم الأرواح أو عالم المثال، فعلى الأول شبه الروح المجرد على القول به أو الجسم اللطيف بالظل للطافته و عدم كثافته، أو لكونه تابعا لعالم الأجساد الأصلية، و على الثاني ظاهر، و

قوله: شيئا

 (4) بتقدير تحسبه أو الرؤية بمعنى العلم لكن ينافيه تعديتها بإلى، و الأظهر شي‏ء كما كان فيما مضى.

و قيل: أراد

بقوله و ليس بشي‏ء

 (5) أن الحياة و التكليف في ذلك الوقت لا يصيران سببا للثواب و العقاب كأفعال النائم و لا يبقى، بل مثال و حكاية عن الحياة و التكليف في الأبدان و لذا يسمى الوجود الذهني بالوجود الظلي، لعدم كونه منشأ للآثار و مبدءا للأحكام، و قيل: يمكن أن يراد به عالم الذر المبائن لعالم الأجسام الكثيفة و هو يحكى عن هذا العالم و يشبهه و ليس منه فهو ظل بالنسبة إليه، أو عالم الأرواح‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 31

كما قال أمير المؤمنين عليه السلام في بعض خطبه: ألا إن الذرية أفنان أنا شجرتها، و دوحة أنا ساقتها، و إني من أحمد بمنزلة الضوء، من الضوء، كما إظلالا تحت العرش قبل البشر و قبل خلق الطينة التي كان منها البشر أشباحا حالية لا أجساما نامية.

" لَيَقُولُنَّ اللَّهُ"

 (1) أي خلقنا الله أو الله خلقنا على اختلاف في تقديم المحذوف و تأخيره، و المشهور الأول، و الغرض أن اضطرارهم إلى هذا الجواب بمقتضى العهد و الميثاق،

قوله فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا

 (2)، الآية في سورة الأعراف هكذا:" تِلْكَ الْقُرى‏ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَ لَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى‏ قُلُوبِ الْكافِرِينَ" و قال البيضاوي: فما كانوا ليؤمنوا عند مجيئهم بالمعجزات،

بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ،

 (3) أي بما كذبوه من قبل الرسل بل كانوا مستمرين على التكذيب، أو فما كانوا ليؤمنوا مدة عمرهم بما كذبوا به أولا حين جاءتهم الرسل و لم يؤثر قط فيهم دعوتهم المتطاولة و الآيات المتتابعة، و اللام لتأكيد النفي و الدلالة على أنهم ما صلحوا للإيمان لمنافاته لحالهم في التصميم على الكفر و الطبع على قلوبهم.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 32

باب أن رسول الله (ص) أول من أجاب و أقر لله تعالى بالربوبية

 (1)

 (الحديث الأول)

 (2): ضعيف و قد مر في باب مولد النبي صلى الله عليه و آله.

قوله: سبقت الأنبياء،

 (3) أي رتبة و فضلا و آخرهم منصوب بالظرفية و خاتمهم مرفوع بالعطف على بعثت، و على طريقة أصحاب التأويل يمكن أن يراد بسبقه صلى الله عليه و آله إلى الإقرار كونه أكثر قابلية و استعدادا لقبول الحق و إدراك المعارف الربانية،

و قوله صلى الله عليه و آله حيث أخذ الله‏

 (4)، يمكن تعلقه بالجملتين معا و بالأخيرة فقط، كما هو الظاهر، فعلى الأخير يمكن أن يكون سبق الإيمان إشارة إلى سبق خلق روحه على خلق سائر الأرواح و قد آمن عند وجوده، فزمان إيمانه و إقراره أكثر من زمان إيمان الجميع، و يمكن أن يكون المراد الإيمان في عالم الأجساد أي عند تعلق الروح بالبدن كان معرفتي و إيماني قبل سائر الأنبياء فإنه صلى الله عليه و آله كان متكلما بالتوحيد في بطن أمه و هو بعيد، و قيل في علة تأخيره صلى الله عليه و آله في الوجود البدني و البعثة وجوه:" منها" تعظيمه لأن سائر الأنبياء مقدمة له مخبرة بوجوده و بعثته كالمقدمة للسلطان، و منها: تكميله للأديان السابقة كما قال: بعثت لأتمم مكارم الأخلاق، و منها: تعظيم دينه من جهة نسخه للشرائع السابقة و عدم نسخ شرع آخر، و منها:

أن يكون شاهدا لتبليغ جميع الأنبياء، و أيضا مقتضى الترتيب الترقي من الأدنى‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 33

إلى الأعلى، و لو جي‏ء بالأدون بعد الأفضل لا تظهر رتبتهما و فضلهما كما لا يخفى.

 (الحديث الثاني)

 (1): مرسل.

و يقال: عراه و اعتراه‏

 (2) أي غشيه و أتاه، و

النزق‏

 (3) بالفتح و التحريك الخفة عند الغضب، و الحدة و

الطيش‏

 (4) قريبان منه، و قال الجوهري:

السمت‏

 (5) الطريق و سمت يسمت بالضم أي قصد، و السمت هيئة أهل الخير، يقال: ما أحسن سمته أي هديه، و قال:

السيما

 (6) مقصور من الواو، قال تعالى:" سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ" و قد يجي‏ء السيماء و السيمياء ممدودين، و قال الفيروزآبادي: السمت الطريق و هيئة أهل الخير، و السير على الطريق بالظن و حسن النحو و قصد الشي‏ء، و قال: السيما و السيماء و السيمياء بكسرهن: العلامة، و قال الجزري: السمت: الهيئة الحسنة، و منه فينظرون إلى سمته و هديه أي حسن هيئته و منظره في الدين، و ليس من الحسن و الجمال.

و قيل: هو من السمت: الطريق، يقال: ألزم هذا السمت، و فلان حسن السمت أي حسن القصد، و قال الزمخشري: السمت أخذ النهج و لزوم المحجة يقال:

ما أحسن سمته أي طريقتها أي طريقتها التي ينتهجها في تحري الخير و التزيي بزي الصالحين، و في المصباح: السمت الطريق و القصد و السكينة و الوقار و الهيئة انتهى.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 34

و لعل منعه عليه السلام عن إطلاق السمت لأن السمت يكون بمعنى سمت الطريق فيوهم أن طريقهم و مذهبهم حسن فعبر عليه السلام بعبارة أخرى لا يوهم ذلك، أو لما لم يكن السمت بمعنى هيئة أهل الخير فصيحا أمر بعبارة أخرى أفصح منه، أو أنه عليه السلام علم أنه أراد بالسمت السيماء لا هيئة أهل الخير و الطريقة الحسنة و الأفعال المحمودة فلذا نبهه عليه السلام بأن السمت لم يأت بالمعنى الذي أردت و هذا قريب من الأول، و الوقار الاطمئنان و السكينة البدنية" لأصحاب اليمين" أي للذين كانوا في يمين الملك الذي أمره بتفريقها أو للذين كانوا في يمين العرش أو للذين علم أنهم سيصيرون من المؤمنين الذين يقفون في القيامة عن يمين العرش‏

" كونوا خلقا"

 (1) أي مخلوقين ذوي أرواح، و قيل: أي كونوا أرواحا بمنزلة الذر أي النمل الصغار

" يسعى"

 (2) و إطلاق السعي هنا و الدرج فيما سيأتي إما لمحض التفنن في العبارة، أو المراد بالسعي سرعة السير، و

بالدرج‏

 (3) المشي الضعيف كما يقال: درج الصبي إذا مشى أول مشيه فيكون إشارة إلى مسارعة الأولين إلى الخيرات و بطوء الآخرين عنها، و قيل: المراد سعي الأولين إلى العلو و الآخرين إلى السفل، و لا دلالة في اللفظ عليهما.

" ثم اتبعه أولوا العزم"

 (4) أي سائرهم عليه السلام، و الكلم: الجرح و الفعل كضرب، و قد يبني على التفعيل، و في القاموس:

وهج‏

 (5) النار تهج وهجا و وهجانا اتقدت، و الاسم الوهج محركة.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 35

و أقول: ما عرفت من التأويلات في الأخبار السابقة يمكن إجراء أكثرها في هذا الخبر كان يقال: لما كان من علم الله منهم السعادة تابعين للعقل و المقتضيات للنفس المقدس فكأنها طينتهم، و من علم الله منهم الشقاوة تابعين للشهوات البدنية و دواعي النفس الأمارة فكأنها طينتهم، و لما مزج الله بينهما في عالم الشهود جرى في غالب الناس الطاعة و المعصية، و الصفات القدسية و الملكات الرديئة، فما كان من الخيرات فهو من جهة العقل و النفس و هما طينة أصحاب اليمين و إن كان في أصحاب الشمال، و ما كان من الشرور و المعاصي فهو من الأجزاء البدنية التي هي طينة أصحاب الشمال و إن كان في أصحاب اليمين، و يمكن أيضا أن يقال: المعنى أن الله تعالى لما قرر في خلقة آدم عليه السلام و طينته دواعي الخير و الشر و علم أنه يكون في ذريته السعداء و الأشقياء و خلق آدم عليه السلام مع علمه بذلك فكأنه خلط بين الطينتين، و لما كان أولاد آدم مدنيين بالطبع لا بد لهم في نشأة الدنيا من المخالطة و المصاحبة، فالسعداء يكتسبون الصفات الذميمة من مخالطة الأشقياء و بالعكس.

فلعل قوله: من لطخ أصحاب الشمال و

من لطخ أصحاب اليمين‏

 (1) إشارة إلى هذا المعنى، و لما كان السبب الأقوى في اكتساب السعداء صفات الأشقياء، استيلاء أئمة الجور و أتباعهم على أئمة الحق و أتباعهم، و علم الله أن المؤمنين إنما يرتكبون الآثام لاستيلاء أهل الباطل عليهم و عدم تولي أئمة الحق لسياستهم فيعذرهم بذلك، و يعفو عنهم و يعذب أئمة الجور و أتباعهم بتسببهم لجرائم من خالطهم مع ما يستحقون من جرائم أنفسهم.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 36

كما ورد في بعض الأخبار: أن الله تعالى يلحق الأعمال السيئة التي اقترفها المؤمنون بالنواصب لأنها من طينتهم، و الأعمال الحسنة التي اكتسبها النواصب بالمؤمنين لأنها من طينتهم، و قد أوردنا الأخبار في ذلك في كتابنا الكبير، و هذا باب غامض تعجز العقول عن إدراكها و الإقرار بالجهل و العجز في مثله أولى.

 (الحديث الثالث)

 (1): ضعيف و شرحه ظاهر مما مر.

باب كيف أجابوا و هم ذر

 (2)

 (الحديث الأول)

 (3): حسن.

" ما إذا سألهم"

 (4) كلمة" ما" موصولة و العائد محذوف أي أجابوه به، أي جعل‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 37

في كل ذرة العقل و آلة السمع و آلة النطق، و من حمل الآية على الاستعارة و التمثيل بحمل الخبر على أن المراد به أن ذلك كناية عن أنه جعلهم بحيث إذا سئلوا في عالم الأبدان أجابوا بلسان المقال و هو بعيد، و روى العياشي في تفسيره بإسناده عن الأصبغ بن نباتة عن علي عليه السلام قال: أتاه ابن الكواء فقال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن الله تعالى هل كلم أحدا من ولد آدم قبل موسى عليه السلام؟ فقال علي عليه السلام: قد كلم الله جميع خلقه برهم و فاجرهم و ردوا عليه الجواب، فثقل ذلك على ابن الكواء و لم يعرفه، فقال له: كيف كان ذلك يا أمير المؤمنين؟ فقال له: أو ما تقرأ كتاب الله إذ يقول لنبيه:" وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى‏" فأسمعهم كلامه و ردوا عليه الجواب كما تسمع في قوله الله يا ابن الكواء:" قالُوا بَلى‏" فقال لهم: إني أنا الله لا إله إلا أنا و أنا الرحمن، فأقروا له بالطاعة و الربوبية و ميز الرسل و الأنبياء و الأوصياء، و أمر الخلق بطاعتهم فأقروا بذلك في الميثاق، فقالت الملائكة: شهدنا عليكم يا بني آدم أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين.

ثم قال العياشي: قال أبو بصير: قلت لأبي عبد الله عليه السلام أخبرني عن الذر حيث أشهدهم على أنفسهم أ لست بربكم قالوا بلى و أسر بعضهم خلاف ما أظهر كيف علموا القول حيث قيل لهم أ لست بربكم؟ قال: إن الله جعل فيهم ما إذا سألهم أجابوه و روي أيضا عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله:" أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى‏" قلت: قالوا بألسنتهم؟ قال: نعم، و قالوا بقلوبهم، قلت: و أي شي‏ء كانوا يومئذ؟ قال: صنع فيهم ما اكتفى به.

تذييل نفعه جليل‏

اعلم أن آيات الميثاق و الأخبار الواردة في ذلك مما يقصر عنه عقول أكثر

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 38

الخلق، و للناس فيها مسالك:

الأول: طريقة المحدثين و المتورعين فإنهم يقولون نؤمن بظاهرها و لا نخوض فيها و لا نطرق فيها التوجيه و التأويل.

و الثاني: حملها على الاستعارة و المجاز و التمثيل.

و الثالث: حملها على أخذ الميثاق في عالم التكليف بعد إكمال العقل بالبرهان و الدليل.

فلنذكر هنا بعض ما ذكره أصحابنا و المخالفون في ذلك.

فمنها: ما ذكره الشيخ المفيد (ره) في جواب المسائل السروية حيث سئل:

ما قوله أدام الله تأييده في معنى الأخبار المروية عن الأئمة الهادية عليه السلام في الأشباح و خلق الله تعالى الأرواح قبل خلق آدم عليه السلام بألفي عام و إخراج الذرية من صلبه على صور الذر، و معنى قول رسول الله صلى الله عليه و آله: الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف و ما تناكر منها اختلف؟

الجواب و بالله التوفيق أن الأخبار بذكر الأشباح تختلف ألفاظها و تتباين معانيها، و قد بنت الغلاة عليها أباطيل كثيرة و صنفوا فيها كتبا لغوا فيها و هزوا فيما أثبتوه منه في معانيها، و أضافوا ما حوته الكتب إلى جماعة من شيوخ أهل الحق و تخرصوا الباطل بإضافتها إليهم، من جملتها كتاب سموه كتاب الأشباح و الأظلة نسبوه في تأليفه إلى محمد بن سنان و لسنا نعلم صحة ما ذكروه في هذا الباب عنه و إن كان صحيحا، فإن ابن سنان قد طعن عليه و هو متهم بالغلو، فإن صدقوا في إضافة هذا الكتاب إليه فهو ضلال لضال عن الحق، و إن كذبوا فقد تحملوا أوزار ذلك، و الصحيح من حديث الأشباح الرواية التي جاءت عن الثقات بأن آدم عليه السلام رأى على العرش أشباحا يلمع نورها، فسأل الله تعالى عنها فأوحى إليه أنها أشباح رسول الله و أمير المؤمنين و الحسن و الحسين و فاطمة صلوات الله عليهم، و أعلمه أنه لو لا الأشباح‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 39

التي رآها ما خلقه و لا خلق سماء و لا أرضا و الوجه فيما أظهره الله تعالى من الأشباح و الصور لآدم أن دله على تعظيمهم و تبجيلهم، و جعل ذلك إجلالا لهم و مقدمة لما يفترضه من طاعتهم و دليلا على أن مصالح الدين و الدنيا لا يتم إلا بهم، و لم يكونوا في تلك الحال صورا مجيبة و لا أرواحا ناطقة لكنها كانت على مثل صورهم في البشرية يدل على ما يكونون عليه في المستقبل في الهيئة و النور الذي جعله عليهم يدل على نور الدين بهم و ضياء الحق بحججهم، و قد روي أن أسماءهم كانت مكتوبة إذ ذاك على العرش و أن آدم لما تاب إلى الله عز و جل و ناجاه بقبول توبته سأله بحقهم عليه و محلهم عنده فأجابه، و هذا غير منكر في العقول و لا مضاد للشرع المنقول و قد رواه الصالحون الثقات المأمونون و سلم لروايته طائفة الحق و لا طريق إلى إنكاره و الله ولي التوفيق.

" فصل"

و مثل ما بشر الله به آدم عليه السلام من تأهيله بنبيه عليه و آله السلام لما أهله له، و تأهيل أمير المؤمنين و الحسن و الحسين عليه السلام لما أهلهم له، و فرض عليه تعظيمهم و إجلالهم كما بشر به في الكتب الأولى من بعثته لنبينا صلى الله عليه و آله فقال في محكم كتابة:" النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَ عَزَّرُوهُ وَ نَصَرُوهُ وَ اتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" و قوله تعالى مخبرا عن المسيح عليه السلام:" وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ" و قوله سبحانه:" وَ إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَ حِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَ لَتَنْصُرُنَّهُ" يعني رسول الله صلى الله عليه و آله فحصلت البشائر به من الأنبياء

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 40

و أممهم قبل إخراجه إلى العالم بالوجود، و إنما أراد جل اسمه بذلك إجلاله و إعظامه و أن يأخذ العهد على الأنبياء و الأمم كلها، فلذلك أظهر لآدم عليه السلام صورة شخصه و أشخاص أهل بيته عليه السلام، و أثبت أسماءهم له ليخبره بعاقبتهم و بين له عن محلهم عنده و منزلتهم لديه، و لم يكونوا في تلك الحال أحياء ناطقين و لا أرواحا مكلفين، و إنما كانت أشباحهم دالة عليهم حسب ما ذكرناه.

" فصل"

و قد بشر الله عز و جل بالنبي و الأئمة عليه السلام في الكتب الأولى فقال في بعض كتبه التي أنزلها على أنبيائه عليه السلام و أهل الكتب يقرءونه، و اليهود يعرفونه أنه ناجى إبراهيم الخليل في مناجاته: إني قد عظمتك و باركت عليك و على إسماعيل و جعلت منه اثني عشر عظيما و كبرتهم جدا جدا و جعلت منهم شعبا عظيما لأمة عظيمة و أشباه ذلك كثيرة في كتب الله تعالى الأولى.

" فصل"

فأما الحديث في إخراج الذرية من صلب آدم عليه السلام على صورة الذر فقد جاء الحديث بذلك على اختلاف ألفاظه و معانيه، و الصحيح أنه إخراج الذرية من ظهره كالذر فملأ بهم الأفق، و جعل على بعضهم نورا لا يشوبه ظلمة، و على بعضهم ظلمة لا يشوبها نور، و على بعضهم نورا و ظلمة، فلما رآهم آدم عليه السلام عجب من كثرتهم و ما عليهم من النور و الظلمة، فقال: يا رب ما هؤلاء؟ قال الله عز و جل له:

هؤلاء ذريتك، يريد تعريفه كثرتهم، و امتلاء الآفاق بهم، و أن نسله يكون في الكثرة كالذر الذي رآه ليعرفه قدرته، و يبشره باتصال نسله و كثرتهم، فقال آدم عليه السلام: يا رب ما لي أرى على بعضهم نورا لا ظلمة فيه، و على بعضهم ظلمة لا يشوبها نور، و على بعضهم ظلمة و نورا؟ فقال تبارك و تعالى: أما الذي عليهم النور منهم بلا ظلمة فهم أصفيائي من ولدك الذين يطيعوني و لا يعصوني في شي‏ء من أمري، فأولئك سكان الجنة، و أما الذين عليهم ظلمة و لا يشوبها نور فهم الكفار من ولدك الذين يعصوني و لا يطيعوني، فأما الذين عليهم نور و ظلمه فأولئك الذين يطيعوني من ولدك‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 41

و يعصوني، فيخلطون أعمالهم السيئة بأعمال حسنة، فهؤلاء أمرهم إلى إن شئت عذبتهم فبعدلي، و إن شئت عفوت عنهم فبفضلي، فأنبأه الله تعالى بما يكون من ولده و شبههم بالذر الذي أخرجهم من ظهره، و جعله علامة على كثرة ولده، و يحتمل أن يكون ما أخرجه من ظهره و جعل أجسام ذريته دون أرواحهم، و إنما فعل الله تعالى ذلك ليدل آدم عليه السلام على العاقبة منه، و يظهر له من قدرته و سلطانه و عجائب صنعته، و أعلمه بالكائن قبل كونه، و ليزداد آدم عليه السلام به يقينا بربه، و يدعوه ذلك إلى التوفر على طاعته، و التمسك بأوامره، و الاجتناب لزواجره.

فأما الأخبار التي جاءت بأن ذرية آدم عليه السلام استنطقوا في الذر فنطقوا فأخذ عليهم العهد فأقروا فهي من أخبار التناسخية و قد خلطوا فيها و مزجوا الحق بالباطل و المعتمد من إخراج الذرية ما ذكرناه دون ما عداه مما استمر القول به على الأدلة العقلية و الحجج السمعية، و إنما هو تخليط لا يثبت به أثر على ما وصفناه.

" فصل"

فإن تعلق بقوله تبارك اسمه:" وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى‏ شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ" فظن بظاهر هذا القول تحقق ما رواه أهل التناسخ و الحشوية و العامة في إنطاق الذرية و خطابهم و أنهم كانوا أحياء ناطقين؟ فالجواب عنه: أن لهذه الآية من المجاز في اللغة كنظائرها مما هو مجاز و استعارة، و المعنى فيها أن الله تبارك و تعالى أخذ من كل مكلف يخرج من ظهر آدم و ظهور ذريته العهد عليه بربوبيته من حيث أكمل عقله و دله بآثار الصنعة على حدثه، و أن له محدثا أحدثه لا يشبهه، يستحق العبادة منه بنعمة عليه، فذلك هو أخذ العهد منهم و آثار الصنعة فيهم و الإشهاد لهم على أنفسهم بأن الله تعالى ربهم‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 42

و قوله تعالى:" قالُوا بَلى‏" يريد به أنهم لم يمتنعوا من لزوم آثار الصنعة فيهم، و دلائل حدثهم اللازمة لهم، و حجة العقل عليهم في إثبات صانعهم، فكأنه سبحانه لما ألزمهم الحجة بعقولهم على حدثهم و وجود محدثهم قال لهم أ لست بربكم فلما لم يقدروا على الامتناع من لزوم دلائل الحدث لهم كانوا كقائلين بَلى‏ شَهِدْنا، و قوله تعالى أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ، أَوْ تَقُولُوا: إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَ كُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَ فَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ، أ لا ترى أنه احتج عليهم بما لا يقدرون يوم القيامة أن يتأولوا في إنكاره، و لا يستطيعون و قد قال سبحانه:

" وَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ وَ النُّجُومُ وَ الْجِبالُ وَ الشَّجَرُ وَ الدَّوَابُّ وَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَ كَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ" و لم يرد أن المذكور يسجد كسجود البشر في الصلاة، و إنما أراد به غير ممتنع من فعل الله فهو كالمطيع لله و هو معبر عنه بالساجد قال الشاعر:

         بجمع تظل البلق في حجراته             ترى الأكم فيها سجدا للحوافر

 يريد أن الحوافر تدل الأكم بوطئها عليها، و قوله تعالى:" ثُمَّ اسْتَوى‏ إِلَى السَّماءِ وَ هِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ" و هو سبحانه لم يخاطب السماء بكلام، و لا السماء قالت قولا مسموعا، و إنما أراد أنه عمد إلى السماء فخلقها و لم يتعذر عليه صنعتها، فكأنه لما خلقها قال لها و للأرض ائتيا طوعا أو كرها، فلما تعلقتا بقدرته كانتا كالقائل أتينا طائعين، و كمثل قوله تعالى:" يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَ تَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ" و الله تعالى يجل عن خطاب النار و هو مما لا يعقل و لا يتكلم، و إنما الخبر عن سعتها و أنها لا تضيق بمن يحلها من المعاقبين، و ذلك كله على مذهب أهل اللغة و عادتهم في المجاز، أ لا

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 43

ترى إلى قول الشاعر:

         و قالت له العينان سمعا و طاعة             و أسبلتا كالدر ما لم يثقب‏

 و العينان لم تقل قولا مسموعا و لكنه أراد منها البكاء، فكانتا كما أراد من غير تعذر عليه، و مثله قول عنترة:

         فازود من وقع القنا بلبانه             و شكا إلى بعبرة و تحمحم‏

 و الفرس لا يشتكي قولا لكنه ظهر منه علامة الخوف و الجزع، فسمي ذلك قولا، و منه قول الآخر:" و شكا إلى جملي طول السري" و الجمل لا يتكلم لكنه لما ظهر منه النصب و الوصب لطول السري عبر عن هذه العلامة بالشكوى التي يكون كالنطق و الكلام، و منه قولهم أيضا:

         امتلاء الحوض و قال قطني             حسبك مني قد ملأت بطني‏

 و الحوض لم يقل قطني لكنه لما امتلاء بالماء عبر عنه بأنه قال: حسبي، و لذلك أمثال كثيرة في منثور كلام العرب و منظومة، و هو من الشواهد على ما ذكرناه في تأويل الآية، و الله تعالى نسأل التوفيق.

" فصل"

فأما الخبر بأن الله تعالى خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي عام فهو من أخبار الآحاد، و قد روته العامة كما روته الخاصة، و ليس هو مع ذلك مما يقطع على الله بصحته، و إنما نقله رواته لحسن الظن به، و إن ثبت القول فالمعنى فيه أن الله تعالى قدر الأرواح في علمه قبل اختراع الأجساد و اخترع الأجساد و اخترع لها الأرواح، فالخلق للأرواح قبل الأجساد خلق تقدير في العلم كما قدمناه، و ليس بخلق لذواتها كما وصفناه، و الخلق لها بالإحداث و الاختراع بعد خلق الأجساد و الصور التي تدبرها الأرواح، و لو لا أن ذلك كذلك لكانت الأرواح يقوم بأنفسها و لا تحتاج إلى آلات تعتملها، و لكنا نعرف ما سلف لنا من الأحوال قبل خلق الأجساد كما نعلم أحوالنا بعد خلق الأجساد، و هذا محال لإخفاء بفساده.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 44

و أما الحديث بأن الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف و ما تناكر منها اختلف، فالمعنى فيه أن الأرواح التي هي الجواهر البسائط تتناصر بالجنس، و تتخاذل بالعوارض، فما تعارف منها باتفاق الرأي و الهوى ائتلف، و ما تناكر منها بمباينة في الرأي و الهوى اختلف، و هذا موجود حسا و مشاهد، و ليس المراد بذلك أن ما تعارف منها في الذر ائتلف كما يذهب إليه الحشوية كما بيناه من أنه لا علم للإنسان بحال كان عليها قبل ظهوره في هذا العالم، و لو ذكر بكل شي‏ء ما ذكر بذلك فوضح بما ذكرناه أن المراد بالخبر ما شرحناه و الله الموفق للصواب، انتهى.

و أقول: طرح ظواهر الآيات و الأخبار المستفيضة بأمثال تلك الدلائل الضعيفة و الوجوه السخيفة جرأة على الله و على أئمة الدين، و لو تأملت فيما يدعوهم إلى ذلك من دلائلهم و ما يرد عليها من الاعتراضات الواردة لعرفت أن بأمثالها لا يمكن الاجتراء على طرح خبر واحد فكيف يمكن طرح تلك الأخبار الكثيرة الموافقة لظاهر الآية الكريمة بها و بأمثالها، و قد أوردنا الأخبار الدالة على تقدم خلق الأرواح على الأجساد في كتاب السماء و العالم من كتابنا الكبير و تكلمنا عليها هناك.

و منها: ما ذكره السيد المرتضى رضي الله عنه في قوله تعالى:" وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ" الآية، حيث قال: و قد ظن بعض من لا بصيرة له و لا فطنة عنده، أن تأويل هذه الآية أن الله تعالى سبحانه استخرج من ظهر آدم عليه السلام جميع ذريته و هم في خلق الذر، فقررهم بمعرفته و أشهدهم على أنفسهم، و هذا التأويل مع أن العقل يبطله و يحيله، مما يشهد ظاهر القرآن بخلافه، لأن الله تعالى قال وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ، و لم يقل من آدم، و قال مِنْ ظُهُورِهِمْ، و لم يقل: من ظهره، و قال ذُرِّيَّتَهُمْ، و لم يقل: ذريته، ثم أخبر تعالى بأنه فعل ذلك لئلا يقولوا يوم القيامة إنهم كانوا عن ذلك غافلين، أو يعتذروا بشرك آبائهم و أنهم نشأوا على دينهم و سنتهم، و هذا يقتضي أن الآية لم تتناول ولد آدم عليه السلام لصلبه، و أنها إنما

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 45

تناولت من كانت له آباء مشركون، و هذا يدل على اختصاصها ببعض ذرية بني آدم فهذه شهادة الظاهر ببطلان تأويلهم.

فأما شهادة العقول فمن حيث لا تخلو هذه الذرية التي استخرجت من ظهر آدم عليه السلام و خوطبت و قررت من أن تكون كاملة العقول، مستوفية لشروط التكليف أو لا تكون كذلك، فإن كانت بالصفة الأولى وجب أن يذكر هؤلاء بعد خلقهم و إنشائهم و إكمال عقولهم ما كانوا عليه في تلك الحال، و ما قرروا به و استشهدوا عليه لأن العاقل لا ينسى ما جرى هذا المجرى و إن بعد العهد و طال الزمان و لهذا لا يجوز أن يتصرف أحدنا في بلد من البلدان و هو عاقل كامل فينسى مع بعد العهد جميع تصرفه المتقدم و سائر أحواله.

و ليس أيضا لتخلل الموت بين الحالين تأثير، لأنه لو كان تخلل الموت يزيل الذكر لكان تخلل النوم و السكر و الجنون و الإغماء بين أحوال العقلاء يزيل ذكرهم لما مضى من أحوالهم، لأن سائر ما عددناه مما نفي العلوم يجري مجرى الموت في هذا الباب، و ليس لهم أن يقولوا إذا جاز في العاقل الكامل أن ينسى ما كان عليه في حال الطفولية جاز ما ذكرنا، و ذلك أنا إنما أوجبنا ذكر العقلاء لما ادعوه إذا كملت عقولهم من حيث جرى عليهم و هم كاملو العقل، و لو كانوا بصفة الأطفال في تلك الحال لم توجب عليهم ما أوجبناه، على أن تجويز النسيان عليهم ينقض الفرض في الآية، و ذلك أن الله تعالى أخبر بأنه إنما قررهم و أشهدهم لئلا يدعوا يوم القيامة الغفلة عن ذلك و سقوط الحجة عنهم فيه، و إذا جاز نسيانهم له عاد الأمر إلى سقوط الحجة عنهم و زوالها، و إن كانوا على صفة الثانية من فقد العلم و شرائط التكليف قبح خطابهم و تقريرهم و إشهادهم، و صار ذلك عبثا قبيحا يتعالى الله عنه.

فإن قيل: قد أبطلتم تأويل مخالفيكم فما تأويلها الصحيح عندكم؟

قلنا: في الآية وجهان" أحدهما" أن يكون تعالى إنما عني بها جماعة من ذرية

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 46

بني آدم خلقهم و بلغهم و أكمل عقولهم و قررهم على ألسن رسله عليهم السلام بمعرفته و ما يجب من طاعته، فأقروا بذلك و أشهدهم على أنفسهم به لئلا يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو يعتذروا بشرك آبائهم، و إنما أتى من اشتبه عليه تأويل الآية من حيث ظن أن الذرية لا يقع إلا على من لم يكن كاملا عاقلا و ليس الأمر كما ظن لأنا نسمي جميع البشر بأنهم ذرية آدم و إن دخل فيهم العقلاء الكاملون و قد قال الله تعالى:" رَبَّنا وَ أَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَ مَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَ أَزْواجِهِمْ وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ" و لفظ الصالح لا يطلق إلا على من كان كاملا عاقلا فإن استبعدوا تأويلنا و حملنا الآية على البالغين المكلفين فهذا جوابهم. الجواب الثاني: أنه تعالى لما خلقهم و ركبهم تركيبا يدل على معرفته و يشهد بقدرته و وجوب عبادته و أراهم العبر و الآيات و الدلائل في غيرهم و في أنفسهم كان بمنزلة المشهد لهم على أنفسهم و كانوا في مشاهدة ذلك و معرفته و ظهوره فيهم على الوجه الذي أراده الله تعالى و تعذر امتناعهم منه و انفكاكهم من دلالته بمنزلة المقر المعترف و إن لم يكن هناك إشهاد و لا اعتراف على الحقيقة، و يجري ذلك مجرى قوله تعالى" ثُمَّ اسْتَوى‏ إِلَى السَّماءِ وَ هِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ" و إن لم يكن منه تعالى قول على الحقيقة و لا منهما جواب، و مثله قوله تعالى:" شاهِدِينَ عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ" و نحن نعلم أن الكفار لم يعترفوا بالكفر بألسنتهم و أنهم لما ظهر منهم ظهورا لا يتمكنون من دفعه كانوا بمنزلة المعترفين به، و مثل هذا قولهم: جوارحي تشهد بنعمتك و حالي معترفة بإحسانك، و ما روى عن بعض الحكماء: سل الأرض من شق أنهارك و غرس أشجارك و جنى ثمارك فإن لم تجبك حوارا إجابتك اعتبارا، و هذا باب كبير و له نظائر كثيرة في النظم و النثر يغني‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 47

عن ذكر جميعها القدر الذي ذكرناه منها.

و منها: ما ذكره الرازي في تفسير تلك الآية حيث قال: في تفسير تلك الآية قولان مشهوران" الأول" و هو مذهب المفسرين و أهل الأثر: ما روى مسلم بن يسار الجهني أن عمر سئل عن هذه الآية فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه و آله سئل عنها؟ فقال:

إن الله خلق آدم ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال: خلقت هؤلاء للجنة و بعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره فاستخرج ذرية فقال: خلقت هؤلاء للنار و بعمل أهل النار يعملون، فقال رجل: يا رسول الله ففيم العمل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و آله: إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخل الجنة، و إذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخل النار، و عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله: لما خلق الله آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة من ذريته إلى يوم القيامة، و قال مقاتل: إن الله مسح ظهر آدم اليمنى فخرج منه ذرية بيضاء كهيأة الذر تتحرك ثم مسح صفحة ظهره اليسرى فخرج منه ذرية سود كهيأة الذر فقال: يا آدم هؤلاء ذريتك ثم قال لهم: أ لست بربكم قالوا بلى فقال للبيض: هؤلاء في الجنة برحمتي و هم أصحاب اليمين و قال للسود: هؤلاء في النار و لا أبالي و هم أصحاب الشمال و أصحاب المشيمة ثم أعادهم جميعا في صلب آدم فأهل القبور محبوسون حتى يخرج أهل الميثاق كلهم من أصلاب الرجال و أرحام النساء، و قال تعالى فيمن نقض العهد الأول:" وَ ما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ" و هذا القول قد ذهب إليه كثير من قدماء المفسرين كسعيد بن المسيب و سعيد بن جبير و الضحاك و عكرمة و الكلبي.

و أما المعتزلة فقد أطبقوا على أنه لا يجوز تفسير هذه الآية بهذا الوجه‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 48

و احتجوا على فساد هذا القول بوجوه:" الأولى": أنه قال من بني آدم، من ظهورهم فقوله: من ظهورهم بدل من قوله: بني آدم، فلم يذكر الله أنه أخذ من ظهر آدم شيئا.

الثانية: أنه لو كان كذلك لما قال: من ظهورهم، و لا من ذرياتهم بل قال:

من ظهره و ذريته.

الثالثة: أنه تعالى حكى عن أولئك الذرية أنهم قالوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ، و هذا الكلام لا يليق بأولاد آدم لأنه عليه السلام ما كان مشركا.

الرابعة: أن أخذ الميثاق لا يمكن إلا من العاقل فلو أخذ الله الميثاق من أولئك لكانوا عقلاء، و لو كانوا عقلاء و أعطوا ذلك الميثاق حال عقلهم لوجب أن يتذكروا في هذا الوقت أنهم أعطوا الميثاق قبل دخولهم في هذا العالم لأن الإنسان إذا وقعت له واقعة عظيمة مهيبة فإنه لا يجوز مع كونه عاقلا أن ينساها نسيانا كليا لا يتذكر منها شيئا لا بالقليل و لا بالكثير و بهذا الدليل يبطل القول بالتناسخ، فإنا نقول لو كانت أرواحنا قد حصلت قبل هذه الأجساد في أجساد أخرى لوجب أن نتذكر الآن أنا كنا قبل هذا الجسد في أجساد أخرى، و حيث لم نتذكر ذلك كان القول بالتناسخ باطلا، فإذا كان اعتمادنا في إبطال التناسخ ليس إلا على هذا الدليل و هذا الدليل بعينه قائم في هذه المسألة وجب القول بمقتضاه.

الخامسة أن جميع الخلق الذين خلقهم الله من أولاد آدم عليه السلام عدد عظيم و كثرة كثيرة فالمجموع الحاصل من تلك الذرات تبلغ مبلغا عظيما في الحجمية و المقدار، و صلب آدم على صغره يبعد أن يتسع لهذا المجموع.

السادسة: أن البنية شرط لحصول الحياة و العقل و الفهم، إذ لو لم يكن كذلك لم يبعد في كل ذرة من الذرات الهباء أن تكون عاقلا فاهما مصنفا للتصانيف الكثيرة في العلوم الدقيقة، و فتح هذا الباب يفضي إلى التزام الجهالات، و إذا ثبت أن البنية شرط لحصول الحياة فكل واحد من تلك الذرات لا يمكن أن يكون فاهما عاقلا

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 49

إلا إذا حصلت له قدرة من البنية و الجثة، و إذا كان كذلك فمجموع تلك الأشخاص الذين خرجوا إلى الوجود من أول تخليق آدم عليه السلام إلى آخر فناء الدنيا لا تحويهم عرصة الدنيا فكيف يمكن أن يقال إنهم بأسرهم حصلوا دفعة واحدة في صلب آدم عليه السلام.

السابعة: قالوا هذا الميثاق إما أن يكون قد أخذ الله منهم في ذلك الوقت ليصير حجة عليهم في ذلك الوقت أو ليصير حجة عليهم عند دخولهم في دار الدنيا، و الأول باطل لانعقاد الإجماع على أن بسبب ذلك القدر من الميثاق لا يصيرون مستحقين للثواب و العقاب و المدح و الذم، و لا يجوز أن يكون المطلوب منه أن يصير ذلك حجة عليهم عند دخولهم في دار الدنيا، لأنهم لما لم يذكروا ذلك الميثاق في الدنيا فكيف يصير حجة عليهم في التمسك بالإيمان.

الثامنة: قال الكعبي إن حال أولئك الذرية لا يكون أعلى في الفهم و العلم من حال الأطفال، فلما لم يمكن توجيه التكليف على الطفل فكيف يمكن توجيهه على أولئك الذر؟ و أجاب الزجاج عنه و قال: لما لم يبعد أن يؤتي الله النمل كما قال:" قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ" و أن يعطى الجبل الفهم حتى يسبح كما قال:

" وَ سَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ" و كما أعطى الله العقل للبعير حتى سجد للرسول صلى الله عليه و آله، و للنخلة حتى سمعت و انقادت حين دعيت فكذا هنا.

التاسعة: أن أولئك الذر في ذلك الوقت إما أن يكونوا كاملي العقول و القدر أو ما كانوا كذلك، فإن كان الأول كانوا مكلفين لا محالة، و إنما يبقون مكلفين إذا عرفوا الله بالاستدلال، و لو كانوا كذلك لما امتازت أحوالهم في ذلك الوقت عن أحوالهم في هذه الحياة الدنيا، فلو افتقر التكليف في الدنيا إلى سبق ذلك الميثاق‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 50

لافتقر التكليف في سبق ذلك الميثاق إلى سبق ميثاق آخر و لزم التسلسل و هو محال، و أما الثاني و هو أن يقال: إنهم في وقت ذلك الميثاق ما كانوا كاملي العقول، و لا كاملي القدر، فحينئذ يمتنع توجيه الخطاب و التكليف عليهم.

العاشرة: قوله تعالى:" فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ، خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ" و لو كانت تلك الذرات عقلاء فاهمين كاملين لكانوا موجودين قبل هذا الماء الدافق و لا معنى للإنسان إلا ذلك الشي‏ء، فحينئذ لا يكون الإنسان مخلوقا من الماء الدافق و ذلك رد لنص القرآن، فإن قالوا: لم لا يجوز أن يقال: أنه تعالى خلقه كامل العقل و الفهم و القدرة عند الميثاق ثم أزال عقله و فهمه و قدرته، ثم إنه خلقه مرة أخرى إلى رحم الأم و أخرجه إلى هذه الحياة الدنيا؟ قلنا: هذا باطل لأنه لو كان الأمر كذلك لما كان خلقه من النطفة خلقا على سبيل الابتداء بل كان تجب أن يكون خلقا على سبيل الإعادة، و أجمع المسلمون علي أن خلقه من النطفة هو الخلق المبتدأ فدل هذا على أن ما ذكرتموه باطل.

الحادية عشر: هي أن تلك الذرات إما أن يقال أنه عين هؤلاء الناس أو غيرهم، و القول الثاني باطل بالإجماع في القول الأول، فنقول: إما أن يقال إنهم بقوا فهماء عقلاء قادرين حال ما كانوا نطفة و علقة و مضغة، أو ما بقوا كذلك و الأول باطل ببديهة العقل، و الثاني يقتضي أن يقال الإنسان حصل له الحياة أربع مرات، أولها وقت الميثاق، و ثانيها في الدنيا، و ثالثها في القبر، و رابعها في القيامة و أنه حصل له الموت ثلاث مرات موت بعد الحياة الحاصلة في الميثاق الأول، و موت في الدنيا و موت في القبر، و هذا العدد مخالف للعدد المذكور في قوله تعالى:" رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 51

وَ أَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ".

الثانية عشر: قوله تعالى:" وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ" فلو كان القول بهذا الذر صحيحا لكان ذلك الذر هو الإنسان لأنه هو المكلف المخاطب المثاب المعاقب، و ذلك باطل لأن الذر غير مخلوق من النطفة و العلقة و المضغة، و نص الكتاب دليل على أن الإنسان مخلوق من النطفة و العلقة و المضغة، و هو قوله:

" وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ" و قوله:" قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ مِنْ أَيِّ شَيْ‏ءٍ خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ".

فهذه جملة الوجوه المذكورة في بيان أن هذا القول ضعيف.

و القول الثاني في تفسير هذه الآية قول أصحاب النظر و أرباب المعقولات أنه أخرج الذر و هم الأولاد من أصلاب آبائهم، و ذلك الإخراج أنهم كانوا نطفة، فأخرجها الله تعالى في أرحام الأمهات و جعلها علقة ثم مضغة ثم جعلهم بشرا سويا و خلقا كاملا، ثم أشهدهم على أنفسهم بما ركب فيهم من دلائل وحدانيته و عجائب خلقه و غرائب صنعه، فبالإشهاد صاروا كأنهم قالوا بلى، و إن لم يكن هناك قول باللسان، و لذلك نظائر منها قوله تعالى:" فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ" و منها قوله تعالى:" إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْ‏ءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ" و قول العرب: قال الجدار للوتد لم تشقني؟ قال: سل من يدقني فإن الذي ورائي ما خلاني ورائي و قال الشاعر:" امتلاء الحوض و قال قطني".

و هذا النوع من المجاز و الاستعارة مشهورة في الكلام، فوجب حمل الكلام عليه فهذا هو الكلام في تقرير هذين القولين، و هذا القول الثاني لا طعن فيه البتة، و بتقدير أن يصح هذا القول لم يكن ذلك منافيا لصحة القول الأول، إنما الكلام في‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 52

أن القول الأول هل يصح أم لا.

فإن قال قائل: فما المختار عندكم فيه؟ قلنا: هيهنا مقامان:" أحدهما" أنه هل يصح القول بأخذ الميثاق عن الذر؟ و الثاني أن بتقدير أن يصح القول به فهل يمكن جعله تفسيرا لألفاظ هذه الآية؟

أما المقام الأول فالمنكرون له قد تمسكوا بالدلائل العقلية التي ذكرناها و قررناها، و يمكن الجواب عن كل واحد منها بوجه مقنع:

أما الوجه الأول من الوجوه العقلية المذكورة و هو أنه لو صح القول بأخذ هذه الميثاق لوجب أن نتذكره الآن؟ قلنا: خالق العلم بحصول الأحوال الماضية هو الله تعالى لأن هذه العلوم عقلية ضرورية، و العلوم الضرورية خالقها هو الله تعالى، و إذا كان كذلك صح منه تعالى أن يخلقها، فإن قالوا: فإذا جوزتم هذا فجوزوا أن يقال أن قبل هذا البدن كنا في أبدان أخرى على سبيل التناسخ و إن كنا لا نتذكر الآن أحوال تلك الأبدان؟ قلنا: الفرق بين الأمرين ظاهر، و ذلك لأنا إذا كنا في أبدان أخرى و بقينا فيها سنين و دهورا امتنع في مجرى العادة نسيانها أما أخذ هذا الميثاق إنما حصل في أسرع زمان و أقل وقت فلم يبعد حصول النسيان و الفرق الظاهر حاكم بصحة هذا الفرق لأن الإنسان إذا بقي على العمل الواحد سنين كثيرة يمتنع أن ينساها، أما إذا مارس العمل الواحد لحظة واحدة فقد ينساها فظهر الفرق.

و أما الوجه الثاني و هو أن يقال: مجموع تلك الذرات يمتنع حصولها بأسرها في ظهر آدم عليه السلام؟ قلنا: عندنا البنية ليست شرطا لحصول الحياة و الجوهر الفرد و الجزء الذي لا يتجزى قابل للحياة و العقل، فإذا جعلنا كل واحد من تلك الذرات جوهرا فردا فلم قلتم أن ظهر آدم لا يتسع لمجموعها، إلا أن هذا الجواب لا يتم إلا إذا قلنا: الإنسان جوهر فرد و جزء لا يتجزى في البدن، على ما هو مذهب‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 53

بعض القدماء، و أما إذا قلنا الإنسان هو النفس الناطقة و أنه جوهر غير متحيز و لا حال في متحيز فالسؤال زائل.

و أما الوجه الثالث و هو قوله: فائدة أخذ الميثاق هي أن تكون حجة في ذلك الوقت أو في الحياة الدنيا، فجوابنا أن نقول: يفعل الله ما يشاء و يحكم ما يريد، و أيضا أ ليس أن من المعتزلة إذا أرادوا تصحيح القول بوزن الأعمال و إنطاق الجوارح قالوا: لا يبعد أن يكون لبعض المكلفين في إسماع هذه الأشياء لطف، فكذا هيهنا لا يبعد أن يكون لبعض الملائكة من تميز السعداء من الأشقياء في وقت أخذ الميثاق لطف، و قيل: أيضا إن الله تعالى يذكرهم ذلك الميثاق يوم القيامة.

و بقية الوجوه ضعيفة و الكلام عليها سهل هين. و أما المقام الثاني و هو أن بتقدير أن يصح القول بأخذ الميثاق من الذر فهل يمكن جعله تفسيرا لألفاظ هذه الآية فنقول: الوجوه الثلاثة المذكورة أولا دافعة لذلك، لأن قوله: أخذ ربك من بني آدم، من ظهورهم، ذريتهم، فقد بينا أن المراد منه و إذ أخذ ربك من ظهور بني آدم، و أيضا لو كانت هذه الذرية مأخوذة من ظهر آدم يقال من ظهره، ذريته، و لم يقل من ظهورهم، ذريتهم، أجاب الناصرون لذلك القول بأنه صحت الرواية عن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم أنه فسر هذه الآية بهذا الوجه، و الطعن في تفسير رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم غير ممكن؟ فنقول: ظاهر الآية تدل على أنه تعالى أخرج ذرا من ظهور بني آدم فيحمل ذلك على أنه تعالى يعلم أن الشخص الفلاني يتولد منه فلان، و من ذلك الفلان فلان آخر، فعلى الترتيب الذي علم دخولهم في الوجود يخرجهم و يميز بعضهم من بعض، و أما أنه تعالى يخرج كل تلك الذرية من صلب آدم فليس في لفظ الآية ما يدل على ثبوته، و ليس في الآية أيضا ما يدل على بطلانه إلا أن الخبر قد دل عليه، فثبت إخراج الذرية من ظهر آدم بالخبر، و على هذا التقدير فلا منافاة بين الأمرين و لا مدافعة فوجب‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 54

المصير إليهما معا صونا للآية و الخبر عن الطعن بقدر الإمكان، فهذا منتهى الكلام في تقرير هذا المقام، انتهى.

و لنكتف بنقل ما نقلنا من غير تعرض لجرح و تعديل فإن من له بصيرة نافذة إذا أحاط بما نقلنا من الأخبار و كلام من تكلم في ذلك يتضح له طريق الوصول إلى ما هو الحق في ذلك بفضله تعالى.

باب فطرة الخلق على التوحيد

 (1)

 (الحديث الأول)

 (2): حسن.

" فِطْرَتَ اللَّهِ"

 (3) إشارة إلى قوله سبحانه في سورة الروم:" فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً" قال البيضاوي أي فقومه له غير ملتفت أو ملتفت عنه، و هو تمثيل للإقبال و الاستقامة عليه و به" فِطْرَتَ اللَّهِ" خلقته، نصب على الإغراء أو المصدر بما دل عليه ما بعدها

" الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها"

 (4) خلقهم عليها و هي قبولهم للحق و تمكنهم من إدراكه، أو لملة الإسلام فإنهم لو خلوا و ما خلقوا عليه أدي بهم إليها، و قيل:

العهد المأخوذ من آدم و ذريته" لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ" لا يقدر أحد أن يغيره أو ما ينبغي أن يغيره" ذلِكَ" إشارة إلى الدين المأمور بإقامة الوجه له أو الفطرة إن فسرت بالملة" وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ" استقامته لعدم تدبرهم، انتهى.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 55

و قال في النهاية: فيه: كل مولود يولد على الفطرة، الفطر الابتداء و الاختراع و الفطرة منه الحالة كالجلسة و الركبة، و المعنى أنه يولد على نوع من الجبلة و الطبع المتهيّئ لقبول الدين، فلو ترك عليها لاستمر على لزومها و لم يفارقها إلى غيرها، و إنما يعدل عنه من يعدل لآفة من آفات البشر و التقليد، ثم تمثل بأولاد اليهود و النصارى في اتباعهم لآبائهم، و الميل إلى أديانهم من مقتضى الفطرة السليمة، و قيل:

معناه كل مولود يولد على معرفة الله و الإقرار به، فلا تجد أحدا إلا و هو يقر بأن الله صانعه و إن سماه بغير اسمه أو عبد معه غيره، و منه حديث حذيفة: على غير فطرة محمد، أراد دين الإسلام الذي هو منسوب إليه، انتهى.

و قيل: الفطرة بالكسر مصدر للنوع من الإيجاد و هو إيجاد الإنسان على نوع مخصوص من الكمال و هو التوحيد و معرفة الربوبية مأخوذا عليهم ميثاق العبودية و الاستقامة على سنن العدل، و قال بعض العامة: الفطرة ما سبق من سعادة أو شقاوة، فمن علم الله سعادته ولد على فطرة الإسلام، و من علم شقاوته ولد على فطرة الكفر، تعلق بقوله تعالى:" لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ" و بحديث الغلام الذي قتله الخضر عليه السلام طبع يوم طبع كافرا فإنه يمنع من كون تولده على فطرة الإسلام، و أجيب عن الأول بأن معنى لا تبديل: لا تغيير يعني لا يكون بعضهم على فطرة الكفر و بعضهم على فطرة الإسلام، و يؤيده قوله صلى الله عليه و آله كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه و ينصرانه فإن المراد بهذه الفطرة فطرة الإسلام.

و عن الثاني بأن المراد بالطبع حالة ثانية طرأت و هي التهيؤ للكفر عن الفطرة التي ولد عليها.

و قال بعضهم: المراد بالفطرة كونه خلقا قابلا للهداية و متهيئا لها لما أوجد فيه من القوة القابلة لها، لأن فطرة الإسلام و صوابها موضوع في العقول، و إنما يدفع العقول عن إدراكها تغيير الأبوين أو غيرهما.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 56

و أجيب عنه بأن حمل الفطرة على الإسلام لا يأباه العقل، و ظاهر الروايات من طريق الأمة يدل عليه، و حملها على خلاف الظاهر لا وجه له من غير مستند قوي.

 (الحديث الثاني)

 (1): صحيح.

و قال في المصباح المنير: فطر الله الخلق فطرأ من باب قتل خلقهم، و الاسم الفطرة بالكسر، قال الله تعالى:

" فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها"

 (2) و قوله عليه السلام:

كل مولود يولد على الفطرة قيل: معناه الفطرة الإسلامية و الدين الحق و إنما أبواه يهودانه و ينصرانه، أي ينقلانه إلى دينهما و هذا التفسير مشكل إن حمل اللفظ على حقيقته فقط، لأنه يلزم منه أن لا يتوارث المشركون مع أولادهم الصغار قبل أن يهودوهم و ينصروهم و اللازم منتف، بل الوجه حمله على الحقيقة و المجاز معا، أما حمله على مجازه فعلى ما قبل البلوغ، و ذلك أن إقامة الأبوين على دينهما سبب لجعل الولد تابعا لهما، فلما كانت الإقامة سببا جعلت تهويدا و تنصيرا مجازا، ثم أسند إلى الأبوين توبيخا و تقبيحا عليهما كأنه قال: أبواه بإقامتهما على الشرك يجعلانه مشركا، و يفهم من هذا أنه لم أقام أحدهما على الشرك و أسلم الآخر لا يكون مشركا بل مسلما، و قد جعل البيهقي هذا معنى الحديث فقال: فقد جعل رسول الله صلى الله عليه و آله حكم الأولاد قبل أن يختاروا لأنفسهم حكم الآباء فيما يتعلق بأحكام الدنيا، و أما حمله على الحقيقة فعلى ما بعد البلوغ لوجوه الكفر من الأولاد انتهى.

و

قوله: على التوحيد

 (3) متعلق بفطر و أخذ على التنازع.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 57

 (الحديث الثالث)

 (1): صحيح و قد مر شرحه.

 (الحديث الرابع)

 (2): حسن.

قوله: حنفاء الله‏

 (3)، إشارة إلى قوله سبحانه في سورة الحج:" فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ" أي اجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان كما يجتنب الأنجاس و كل افتراء، و عن الصادق عليه السلام الرجس من الأوثان الشطرنج، و قول الزور الغناء و قال الطبرسي (ره): حنفاء لله، أي مستقيمي الطريقة على ما أمر الله مائلين عن سائر الأديان" غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ" أي حجاجا مخلصين و هم مسلمون موحدون لا يشركون في تلبية الحج به أحدا، و قال في النهاية فيه: خلقت عبادي حنفاء، أي طاهري الأعضاء من المعاصي لا أنه خلقهم كلهم مسلمين لقوله تعالى:" هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَ مِنْكُمْ مُؤْمِنٌ" و قيل: أنه أراد خلقهم حنفاء مؤمنين لما أخذ عليهم الميثاق أ لست بربكم قالوا بلى، فلا يوجد أحد إلا و هو مقر بأن له ربا و إن أشرك به و اختلفوا فيه، و الحنفاء جمع حنيف و هو المائل إلى الإسلام الثابت عليه، و الحنيف عند العرب من كان على دين إبراهيم، و أصل الحنف الميل و منه الحديث: بعثت بالحنيفة السمحة السهلة، انتهى.

" لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ"

 (4) أي بأن يكون كلهم أو بعضهم عند الخلق مشركين بل‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 58

كان كلهم مسلمين مقرين به أو قائلين للمعرفة و أراهم نفسه بالرؤية العقلية الشبيهة بالرؤية العينية في الظهور ليرسخ فيهم معرفته، و يعرفوه في دار التكليف، و لو لا تلك المعرفة الميثاقية لم يحصل لهم تلك القابلية و فسر عليه السلام الفطرة في الحديث بالمجبولية على معرفة الصانع و الإذعان به‏

" كذلك قوله"

 (1) أي هذه الآية أيضا محمولة على هذا المعنى:

" وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ"

 (2) أي كفار مكة كما ذكره المفسرون أو الأعم كما هو أظهر من الخبر

" لَيَقُولُنَّ اللَّهُ"

 (3) لفطرتهم على المعرفة.

و قال البيضاوي: لوضوح الدليل المانع من إسناد الخلق إلى غيره بحيث اضطروا إلى إذعانه، انتهى.

و المشهور أنه مبني على أن كفار قريش لم يكونوا ينكرون أن الصانع هو الله، بل كانوا يعبدون الأصنام لزعمهم أنها شفعاء عند الله، و ظاهر الخبر أن كل كافر لو خلي و طبعه و ترك العصبية و متابعة الأهواء و تقليد الأسلاف و الآباء لأقر بذلك، كما ورد ذلك في الأخبار الكثيرة.

قال بعض المحققين: الدليل على ذلك ما نرى أن الناس يتوكلون بحسب الجبلة على الله، و يتوجهون توجها غريزيا إلى مسبب الأسباب و مسهل الأمور الصعاب، و إن لم يتفطنوا لذلك، و يشهد لهذا قول الله عز و جل:" قُلْ أَ رَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَ غَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ، بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 59

فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَ تَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ".

و في تفسير مولانا العسكري عليه السلام أنه سئل مولانا الصادق عليه السلام عن الله؟

فقال للسائل: يا أبا عبد الله هل ركبت سفينة قط؟ قال: بلى، قال: فهل كسرت بك حيث لا سفينة تنجيك و لا سباحة تغنيك؟ قال: بلى، فهل تعلق قلبك هناك أن شيئا من الأشياء قادر على أن يخلصك من ورطتك؟ قال: بلى، قال الصادق عليه السلام فذلك الشي‏ء هو الله القادر على الإنجاء حين لا منجي، و على الإغاثة حين لا مغيث.

و لهذا جعلت الناس معذورين في تركهم اكتساب المعرفة بالله عز و جل، متروكين على ما فطروا عليه، مرضيا عنهم بمجرد الإقرار بالقول، و لم يكلفوا الاستدلالات العلمية في ذلك، و إنما التعمق لزيادة البصيرة و لطائفة مخصوصة، و أما الاستدلال فللرد على أهل الضلال.

ثم أن أفهام الناس و عقولهم متفاوتة في قبول مراتب العرفان و تحصيل الاطمئنان كما و كيفا، شدة و ضعفا، سرعة و بطأ، حالا و علما، و كشفا و عيانا، و إن كان أصل المعرفة فطريا إما ضروري أو يهتدي إليه بأدنى تنبيه، فلكل طريقة هداه الله عز و جل إليها إن كان من أهل الهداية، و الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق، و هم درجات عند الله، يرفع الله الذين آمنوا و الذين أوتوا العلم درجات.

قال بعض المنسوبين إلى العلم: اعلم أن أظهر الموجودات و أجلاها هو الله عز و جل، فكان هذا يقتضي أن يكون معرفته أول المعارف و أسبقها إلى الأفهام و أسهلها على العقول و نرى الأمر بالضد من ذلك، فلا بد من بيان السبب فيه، و إنما قلنا:

إن أظهر الموجودات و أجلاها هو الله تعالى لمعنى لا نفهمه إلا بمثال هو أنا إذا رأينا إنسانا يكتب أو يخيط مثلا كان كونه حيا من أظهر الموجودات فحياته و علمه و قدرته للخياطة أجلى عندنا من سائر صفاته الظاهرة و الباطنة، إذ صفاته الباطنة

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 60

كشهوته و غضبه و خلقه و صحته و مرضه و كل ذلك لا نعرفه، و صفاته الظاهرة لا نعرف بعضها و بعضها نشك فيه كمقدار طوله و اختلاف لون بشرته و غير ذلك من صفاته، أما حياته و قدرته و إرادته و علمه و كونه حيوانا فإنه جلي عندنا من غير أن يتعلق حس البصر بحياته و قدرته و إرادته، فإن هذه الصفات لا تحس بشي‏ء من الحواس الخمس، ثم لا يمكن أن يعرف حياته و قدرته و إرادته إلا بخياطته و حركته، فلو نظرنا إلى كل ما في العالم سواه لم نعرف به صفاته، فما عليه إلا دليل واحد و هو مع ذلك جلي واضح.

و وجود الله و علمه و قدرته و سائر صفاته يشهد له بالضرورة كل ما نشاهده و ندركه بالحواس الظاهرة و الباطنة من حجر و مدر و نبات و شجر و حيوان و سماء و أرض و كوكب و بر و بحر و نار و هواء و جوهر و عرض، بل أول شاهد عليه أنفسنا و أجسامنا و أصنافنا و تقلب أحوالنا و تغير قلوبنا، و جميع أطوارنا في حركاتنا و سكناتنا و أظهر الأشياء في علمنا أنفسنا ثم محسوساتنا بالحواس الخمس، ثم مدركاتنا و سكناتنا بالبصيرة و العقل و كل واحد من هذه المدركات له مدرك واحد و شاهد واحد و دليل واحد، و جميع ما في العالم شواهد ناطقة و أدلة شاهدة بوجود خالقها و مدبرها و مصرفها و محركها و دالة على علمه و قدرته و لطفه و حكمته، و الموجودات المدركة لا حصر لها.

فإن كانت حياة الكاتب ظاهرة عندنا و ليس يشهد له إلا شاهد واحد و هو ما أحسنا من حركة يده، فكيف لا يظهر عندنا من لا يتصور في الوجود شي‏ء داخل نفوسنا و خارجها إلا و هو شاهد عليه و على عظمته و جلاله، إذ كل ذرة فإنها تنادي بلسان حالها أنه ليس وجودها بنفسها و لا حركتها بذاتها و إنما يحتاج إلى موجد و محرك لها، يشهد بذلك أولا تركيب أعضائنا و ائتلاف عظامنا و لحومنا و أعصابنا و نبات شعورنا و تشكل أطرافنا و سائر أجزائنا الظاهرة و الباطنة، فإنا نعلم أنها لم تأتلف بنفسها، كما نعلم أن يد الكاتب لم يتحرك بنفسها، و لكن لما لم يبق في الوجود

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 61

مدرك و محسوس و معقول و حاضر و غائب إلا هو، و شاهد و معرف عظم ظهوره، فانبهرت العقول و دهشت عن إدراكه. فإذا ما يقصر عن فهمه عقولنا له سببان: أحدهما خفاؤه في نفسه و غموضه و ذلك لا يخفى مثاله، و الآخر ما يتناهى وضوحه و هذا كما أن الخفاش يبصر بالليل و لا يبصر بالنهار لا لخفاء النهار و استتاره و لكن لشدة ظهوره، فإن بصر الخفاش ضعيف يبهره نور الشمس إذا أشرق، فيكون قوة ظهوره مع ضعف بصره سببان لامتناع إبصاره فلا يرى شيئا إلا إذا امتزج الظلام بالضوء و ضعف ظهوره فكذلك عقولنا ضعيفة و جمال الحضرة الإلهية في نهاية الإشراق و الاستنارة، و في غاية الاستغراق و الشمول حتى لا يشذ عن ظهوره ذرة من ملكوت السماوات و الأرض فصار ظهوره سبب خفائه، فسبحان من احتجب بإشراق نوره و اختفى عن البصائر و الأبصار بظهوره، و لا تتعجب من اختفاء ذلك بسبب الظهور، فإن الأشياء تستبان بأضدادها و ما عم وجوده حتى لا ضد له عسر إدراكه، فلو اختلف الأشياء فدل بعضها دون البعض أدركت التفرقة على قرب، و لما اشتركت في الدلالة على نسق واحد أشكل الأمر.

و مثاله نور الشمس المشرق على الأرض فإنا نعلم أنه عرض من الإعراض يحدث في الأرض و يزول عند غيبة الشمس، فلو كانت الشمس دائمة الإشراق لا غروب لها لكنا نظن أن لا هيئة في الأجسام إلا ألوانها و هي السواد و البياض و غيرها، فإنا لا نشاهد في الأسود إلا السواد، و في الأبيض إلا البياض، و أما الضوء فلا ندركه وحده لكن لما غابت الشمس و أظلمت المواضع أدركنا تفرقة بين الحالتين، فعلمنا أن الأجسام كانت قد استضاءت بضوء و اتصفت بصفة فارقتها عند الغروب، فعرفنا وجود النور بعدمه، و ما كنا نطلع عليه لو لا عدمه إلا بعسر شديد، و ذلك لمشاهدتنا الأجسام متشابهة غير مختلفة في الظلام و النور.

هذا مع أن النور أظهر المحسوسات إذ به يدرك سائر المحسوسات، فما هو

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 62

ظاهر في نفسه و هو مظهر لغيره، انظر كيف تصور استبهام أمره بسبب ظهوره لو لا طريان ضده، فإذا الرب تعالى هو أظهر الأمور و به ظهرت الأشياء كلها، و لو كان له عدم أو غيبة أو تغير لانهدمت السماوات و الأرض و بطل الملك و الملكوت، و لأدركت التفرقة بين الحالتين، و لو كان بعض الأشياء موجودا به و بعضها موجودا بغيره لأدركت التفرقة بين الشيئين في الدلالة، و لكن دلالته عامة في الأشياء على نسق واحد، و وجوده دائم في الأحوال يستحيل خلافه، فلا جرم أورث شدة الظهور خفاء.

فهذا هو السبب في قصور الأفهام، و أما من قويت بصيرته و لم يضعف منته فإنه في حال اعتدال أمره لا يرى إلا الله و أفعاله، و أفعاله أثر من آثار قدرته، فهي تابعة له فلا وجود لها بالحقيقة، و إنما الوجود للواحد الحق الذي به وجود الأفعال كلها، و من هذا حاله فلا ينظر في شي‏ء من الأفعال إلا و يرى فيه الفاعل، و يذهل عن الفعل من حيث أنه سماء و أرض و حيوان و شجر، بل ينظر فيه من حيث أنه صنع، فلا يكون نظره مجاوزا له إلى غيره كمن نظر في شعر إنسان أو خطه أو تصنيفه، و رأى فيه الشاعر و المصنف و رأى آثاره من حيث هي آثاره لا من حيث إنها حبر و عفص و زاج مرقوم على بياض، فلا يكون قد نظر إلى غير المصنف.

فكل العالم تصنيف الله تعالى فمن نظر إليها من حيث إنها فعل الله، و عرفها من حيث إنها فعل الله، و أحبها من حيث إنها فعل الله لم يكن ناظرا إلا في الله، و لا عارفا إلا بالله و لا محبا إلا لله، و كان هو الموحد الحق الذي لا يرى إلا الله، بل لا ينظر إلى نفسه من حيث نفسه، بل من حيث هو عبد الله.

فهذا هو الذي يقال فيه أنه فني في التوحيد و أنه فنى من نفسه، و إليه الإشارة بقول من قال: كنا بنا ففنينا عنا فبقينا بلا نحن، فهذه أمور معلومة عند ذوي البصائر أشكلت لضعف الأفهام عن دركها و قصور قدرة العلماء عن إيضاحها و بيانها بعبارة مفهمة موصلة للغرض إلى الأفهام، لاشتغالهم بأنفسهم و اعتقادهم أن بيان ذلك لغيرهم مما

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 63

لا يغنيهم، فهذا هو السبب في قصور الأفهام عن معرفة الله تعالى.

و انضم إليه أن المدركات كلها التي هي شاهدة على الله إنما يدركها الإنسان في الصبي عند فقد العقل قليلا قليلا و هو مستغرق الهم بشهواته، و قد أنس بمدركاته و محسوساته ألفها، فسقط وقعها عن قلبه بطول الأنس.

و لذلك إذا رأى على سبيل الفجأة حيوانا غريبا أو فعلا من أفعال الله خارقا للعادة عجيبا انطلق لسانه بالمعرفة طبعا فقال: سبحان الله و هو يرى طول النهار نفسه و أعضاءه و سائر الحيوانات المألوفة و كلها شواهد قاطعة و لا يحس بشهادتها لطول الأنس بها و لو فرض أكمه بلغ عاقلا ثم انقشعت غشاوة عن عينه فامتد بصره إلى السماء و الأرض و الأشجار و النبات و الحيوان دفعة واحدة على سبيل الفجأة يخاف على عقله أن ينبهر لعظم تعجبه من شهادة هذه العجائب على خالقها.

و هذا و أمثاله من الأسباب مع الانهماك في الشهوات و هي التي سدت على الخلق سبيل الاستضائة بأنوار المعرفة و السباحة في بحارها الواسعة، و الجليات إذا صارت مطلوبة صارت معتاضة فهذا سد الأمر، فليتحقق و لذلك قيل:

         لقد ظهرت فلا تخفى على أحد             إلا على أكمه لا يعرف القمرا

             لكن بطنت بما أظهرت محتجبا             و كيف يعرف من بالعرف استترا

 أقول: و في كلام سيد الشهداء أبي عبد الله الحسين على جده و أبيه و أمه و أخيه و عليه و بنيه سلام الله، ما يرشدك إلى هذا العيان، بل يغنيك عن هذا البيان حيث قال في دعاء عرفة: كيف يستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك أ يكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك، متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك، و متى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك، عميت عين لا تراك و لا تزال عليها رقيبا، و خسرت صفقة عبد لم تجعل له من حبك نصيبا.

و قال أيضا: تعرفت لكل شي‏ء، فما جهلك شي‏ء.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 64

و قال: تعرفت إلى في كل شي‏ء فرأيتك ظاهرا في كل شي‏ء فأنت الظاهر لكل شي‏ء.

 (الحديث الخامس)

 (1): ضعيف.

باب كون المؤمن في صلب الكافر

 (2)

 (الحديث الأول)

 (3): ضعيف على المشهور.

" فلا يصيبه من الشر"

 (4) و في بعض النسخ من الشرك، أي يحفظه الله من أن يصيبه من شرك الأبوين أو شركهما شي‏ء، بحيث يضره واقعا و الحكم عليه بالكفر و النجاسة بالتبعية قبل البلوغ نظرا إلى الظاهر لا ينافي إيمانه الواقعي في علم الله.

 (الحديث الثاني)

 (5): حسن كالصحيح.

و كان يقطين بن موسى من دعاة العباسية في ابتداء دولتهم و كان له اختصاص بهم، قال الشيخ في الفهرست:

علي بن يقطين (ره)

 (6) ثقة جليل القدر له منزلة عظيمة

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 65

عند أبي الحسن موسى عليه السلام، عظيم المكان في الطائفة، و كان يقطين من وجوه الدعاة و طلبه مروان فهرب، و ابنه علي بن يقطين هذا ولد بالكوفة سنة أربع و عشرين و مائة و هربت أم علي به و بأخيه عبيد بن يقطين إلى المدينة، فلما ظهرت الدولة الهاشمية ظهر يقطين و عادت أم علي بعلي و عبيد فلم يزل يقطين في خدمة أبي العباس و أبي جعفر المنصور، و مع ذلك كان يتشيع و يقول بالإمامة، و كذلك ولده يحمل الأموال إلى جعفر بن محمد عليه السلام و نمى خبره إلى المنصور و المهدي فصرف الله عنه كيدهما، انتهى.

و أقول: هذا الخبر و ما تقدم في باب كراهية التوقيت يدلان على أن يقطين لم يكن مشكورا و كان منحرفا عن هذه الناحية، و هذا الخبر يدل على أن الصادق عليه السلام كان دعا على يقطين و ولده و لعنهم و كان علي مشفقا خائفا من أن يصيبه أثر تلك الدعوة و اللعنة، فأجاب عليه السلام بأن اللعنة و سائر الشرار لا تصيب المؤمن الذي في صلب الكافر، و شبه ذلك بالحصاة في اللبنة، فإنه لا يضر الحصاة ما تقع على اللبنة من المطر و غيره، فعلى هذا شبه عليه السلام اللعنة بالمطر لأن المطر يفتت اللبنة و يفرقها و يبطلها، فكذا اللعنة تبطل من تصيبه و تفتته و تفرقه.

و يحتمل أن يكون شبه عليه السلام الرحمة و الألطاف التي تشمل من الله تعالى المؤمن بالمطر، و يكون الغرض أن ألطافه سبحانه و رحماته التي تحفظ طينة المؤمن تغسله و تظهره من لوث الكفر و ما يلزمه و ما يتبعه من اللعنات و العقوبات كما يغسل المطر لوث الطين من الحصاة و لعله أظهر.

و حاصل الكلام على الوجهين أن دعاؤه عليه السلام كان مشروطا بعدم إيمانهم و لم يكن مطلقا، و كان غرضه عليه السلام اللعن على من يشبهه من أولاده.

قوله عليه السلام شيئا،

 (1) أي من الضرر، و في بعض النسخ شي‏ء أي من الآفات و اللعنات و الشرور.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 66

باب إذا أراد الله أن يخلق المؤمن‏

 (1)

 (الحديث الأول)

 (2): مجهول.

و في المصباح حلوان‏

 (3) بالضم بلد مشهور من سواد العراق و هي آخر مدن العراق و بينها و بين بغداد نحو خمس مراحل، قيل: سميت باسم بانيها و هو حلوان بن عمران ابن الحارث بن قضاعة، و في القاموس:

المزن‏

 (4) بالضم السحاب أو أبيضه أو ذو الماء، انتهى.

و كان التسمية هنا على التشبيه، قيل: هذا الحديث كما يناسب ما قيل من أن المراد بالطينة الأصول الممتزجات المنقلة في أطوار الخلقة كالنطفة و ما قبلها من موادها مثل النبات و الغذاء و ما بعدها من العلقة و المضغة و المزاج الإنساني القابل للنفس الناطقة المدبرة، كذلك يناسب ما ذكر من أن المراد بالطينة طينة الجنة لأن طينة الجنة اختمارها و تربيتها بهذه القطرة كما أنه بماء العذب الفرات المذكور سابقا، و بالجملة خلقه من طينة الجنة و مزجها بماء الفرات أولا و تربيتها بماء المزن ثانيا لطف منه تعالى بالنسبة إلى المؤمن ليحصل له الوصول إلى أعلى مراتب القرب، انتهى.

و قال بعض المحققين من أهل التأويل: الجنة تشمل جنان الجبروت و الملكوت، و المزن الحساب و هو أيضا يعم سحاب ماء الرحمة و الجود و الكرم‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 67

و سحاب ماء المطر و الخصب و الديم، و كما أن لكل قطرة من ماء المطر صورة و سحابا انفصلت منه في عالم الملك كذلك له صورة و سحاب انفصلت منه في عالمي الملكوت و الجبروت، و كما أن البقلة و الثمرة تتربى بصورتها الملكوتية كذلك تتربى بصورتيها الملكوتية و الجبروتية المخلوقتين من ذكر الله تعالى اللتين من شجرة المزن الجناني و كما أنهما تتربيان بها قبل الأكل كذلك تتربيان بها بعد الأكل في بدن الآكل، فإنها ما لم تستحل إلى صورة العضو فهي بعد في التربية، فالإنسان إذا أكل بقلة أو ثمرة ذكر الله عز و جل عندها و شكر الله عليها، و صرف قوتها في طاعة الله سبحانه و الأفكار الإيمانية و الخيالات الروحانية فقد تربت تلك البقلة أو الثمرة في جسده بماء المزن الجناني، فإذا فضلت من مادتها فضلة منوية فهي من شجرة المزن التي أصلها في الجنة و إذا أكلها على غفلة من الله سبحانه، و لم يشكر الله عليها و صرف قوتها في معصية الله تعالى و الأفكار المموهة الدنيوية و الخيالات الشهوانية، فقد تربت تلك البقلة أو الثمرة في جسده بماء آخر غير صالح لخلق المؤمن إلا أن يكون قد تحقق تربيتها بماء المزن الجناني قبل الأكل، و أما مأكولة الكافر التي يخلق منها المؤمن فإنما يتحقق تربيتها بذلك الماء قبل أكله لها غالبا، و لذكر الله عند زرعها أو غرسها مدخل في تلك التربية، و كذلك لحل ثمنها و تقوى زارعها أو غارسها إلى غير ذلك من الأسباب.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 68

باب أن الصبغة هي الإسلام‏

 (1)

 (الحديث الأول)

 (2): صحيح.

قوله صِبْغَةَ اللَّهِ‏

 (3)، أقول: تمام الآية و ما يتعلق بها هكذا:" وَ قالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى‏ تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَ ما أُنْزِلَ إِلى‏ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطِ وَ ما أُوتِيَ مُوسى‏ وَ عِيسى‏ وَ ما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَ نَحْنُ لَهُ.

مُسْلِمُونَ، فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، صِبْغَةَ اللَّهِ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَ نَحْنُ لَهُ عابِدُونَ" يعني قالت اليهود كونوا هودا، و قالت النصارى كونوا نصارى" بَلْ مِلَّةَ" أي بل نكون أهل ملة إبراهيم، أو بل نتبع ملة إبراهيم، و الحنيف: المائل عن كل دين إلى الحق" وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ" تعريض بأهل الكتابين فإنهم كانوا يدعون أتباع ملة إبراهيم، و هم مع ذلك على الشرك، و الأسباط حفدة يعقوب عليه السلام.

" صِبْغَةَ اللَّهِ" قال البيضاوي أي صبغنا الله صبغة، و هي فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها، فإنها حلية الإنسان، كما أن الصبغة حلية المصبوغ، أو هدانا هدايته أو أرشدنا حجته أو طهر قلوبنا بالإيمان تطهيره و سماه صبغة لأنه ظهر أثره عليهم‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 69

ظهور الصبغ على المصبوغ، و تداخل في قلوبهم تداخل الصبغ الثوب أو للمشاكلة فإن النصارى كانوا يغمسون أولادهم في ماء أصفر يسمونه العمودية، و يقولون هو تطهير لهم و به تحق نصرانيتهم، و نصبها على أنه مصدر مؤكد لقوله آمنا و قيل: على الإغراء، أي عليكم صبغة الله، و قيل: على البدل من ملة إبراهيم،" وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً" لا صبغة أحسن من صبغته" وَ نَحْنُ لَهُ عابِدُونَ" تعريض بهم أي لا نشرك به كشرككم، انتهى.

و قيل: على هذه الأخبار يحتمل أن تكون منصوبة على المصدر من مسلمون، ثم يحتمل أن يكون معناها و موردها مختصا بالخواص و الخلص المخاطبين بقولوا دون سائر أفراد بني آدم، بل يتعين هذا المعنى إن فسر الإسلام بالخضوع و الانقياد للأوامر و النواهي كما فعلوه، و إن فسر بالمعنى العرفي فتوجيه التعميم فيه كتوجيه التعميم في فطرة الله. و قيل صِبْغَةَ اللَّهِ إبداع الممكنات و إخراجها من العدم إلى الوجود و إعطاء كل ما يليق به من الصفات و الغايات و غيرهما.

قوله فَقَدِ اسْتَمْسَكَ‏

 (1)، قال تعالى" فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى‏ لَا انْفِصامَ لَها" و فسر الطاغوت في الأخبار بالشيطان و بأئمة الضلال، و الأولى التعميم ليشمل كل ما عبد من دون الله من صنم أو صاد عن سبيل الله" وَ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ" بالتوحيد و تصديق الرسل و أوصيائهم" فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى‏" أي طلب الإمساك من نفسه بالحبل الوثيق، و هي مستعار ملتمسك الحق من النظر الصحيح و الدين القويم‏

" لَا انْفِصامَ لَها"

 (2) أي لا انقطاع لها.

و ما ورد في الخبر من تفسيره بالإيمان كان المراد به أنه تعالى شبه الإيمان الكامل بالعروة الوثقى، و على ما ورد في كثير من الأخبار من أن المراد بالطاغوت‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 70

الغاصبون للخلافة فالمعنى من رفض متابعة أئمة الضلالة و آمن بما جاء من عند الله في علي و الأوصياء من بعده عليه السلام فقد آمن بالله وحده لا شريك له، و إلا فهو مشرك كما روي في معاني الأخبار عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم من أحب أن يستمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها فليتمسك بولاية أخي و وصيي علي بن أبي طالب فإنه لا يهلك من أحبه و تولاه و لا ينجو من أبغضه و عاداه، و عن الباقر عليه السلام أن العروة الوثقى هو مودتنا أهل البيت.

 (الحديث الثاني)

 (1): ضعيف على المشهور.

 (الحديث الثالث)

 (2): مرسل كالموثق، و قال الجوهري:

صبغة الله دينه‏

 (3)، و يقال:

أصله من صبغ النصارى أولادهم في ماء لهم، و قال الفيروزآبادي: الصبغة بالكسر الدين و الملة، و صبغة الله فطرة الله، أو التي أمر الله تعالى بها محمدا صلى الله عليه و آله و سلم و هي الختانة

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 71

باب أن السكينة هي الإيمان‏

 (1)

 (الحديث الأول)

 (2): صحيح كما في بعض النسخ عن أبي حمزة، و ضعيف على المشهور إن كان عن علي بن أبي حمزة كما في بعض النسخ.

" هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ"

 (3) الآية في سورة الفتح هكذا:" هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ" و الظاهر أن المراد بالسكينة الثبات و طمأنينة النفس و شدة اليقين بحيث لا يتزلزل عند الفتن و عروض الشبهات، بل هذا إيمان موهبي يتفرع على الأعمال الصالحة و المجاهدات الدينية سوى الإيمان الحاصل بالدليل و البرهان، و لذا قال:" لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ".

و قال في مجمع البيان: هي أن يفعل الله بهم اللطف الذي يحصل لهم عنده من البصيرة بالحق ما تسكن إليه نفوسهم، و ذلك بكثرة ما ينصب لهم من الأدلة الدالة عليه، فهذه النعمة التامة للمؤمنين خاصة، و أما غيرهم فتضطرب نفوسهم لأول عارض من شبهة ترد عليهم إذ لا يجدون برد اليقين و روح الطمأنينة في قلوبهم، و قيل: هي النصرة للمؤمنين لتسكن بذلك قلوبهم، و يثبتوا في القتال، و قيل: ما أسكن قلوبهم من التعظيم لله و لرسوله ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم، أي يقينا إلى يقينهم بما يرون من الفتوح و علو كلمة الإسلام على وفق ما وعدوا، و قيل: ليزدادوا تصديقا بشرائع الإسلام و هو أنهم كلما أمروا بشي‏ء من الشرائع و الفرائض كالصلاة و الصيام و الصدقات صدقوا به، و ذلك بالسكينة التي أنزلها الله في قلوبهم عن ابن عباس‏

                                                مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 72

و المعنى ليزدادوا معارف على المعرفة الحاصلة عندهم، انتهى.

و الحاصل أن تفسيره عليه السلام السكينة بالإيمان إما لكون هذا اليقين هو كمال الإيمان، أو إيمان آخر موهبي ينضم إلى الإيمان الاستدلالي، و هذا مما يدل على أن اليقين يقبل الشدة و الضعف كما سيأتي تحقيقه إن شاء الله.

و أما الآية الثانية فهي في سورة المجادلة حيث قال:" لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ لَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَ يُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ" قال الطبرسي (ره): كتب في قلوبهم الإيمان بما فعل بهم من الألطاف فصار كالمكتوب عن الحسن، و قيل: كتب في قلوبهم علامة الإيمان و معنى ذلك أنها سمة و علامة لمن شاهدهم من الملائكة على أنهم مؤمنون كما أن قوله في الكفار: و طبع الله على قلوبهم، علامة يعلم من شاهدها من الملائكة أنه مطبوع على قلبه، عن أبي علي الفارسي.

" وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ"

 (1) أي قواهم بنور الإيمان، و يدل عليه:" وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَ لَا الْإِيمانُ" عن الزجاج، و قيل:

معناه و قواهم بنور الحجج و البرهان حتى اهتدوا للحق و عملوا به، و قيل: قواهم بالقرآن الذي هو حياة القلوب من الجهل عن الربيع، و قيل: أيدهم بجبرئيل في كثير من المواطن ينصرهم و يدفع عنهم، انتهى.

أقول: لعل المراد بالروح الإيمان الموهبي لأنه قال ذلك بعد قوله:" كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ" أو المراد به قوة الإيمان و كماله، و يحتمل أن يراد به أنه سبب‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 73

الإيمان و قوته و كماله لما سيأتي أن الله تعالى أيد المؤمن بروح يحضره في كل.

وقت يحسن فيه و يتقي و يغيب عنه في كل وقت يذنب فيه و يعتدي و إن أمكن تأويل تلك الأخبار بما يوافق ظاهر هذا الخبر كما سيأتي في باب الروح الذي أيد به المؤمن.

 (الحديث الثاني)

 (1): موثق كالصحيح.

و إنما ذكر هذا مع عدم اشتماله على ما عنون به الباب لأنه كالتتمة لما ذكر في آخر الخبر السابق لأنهما في آية واحدة، و يدل على أن الإيمان من الله و ليس للعباد فيها صنع و اختيار، و إنما كلف العباد بعدم الجحد ظاهرا و بإخراج التعصب و الأغراض الباطلة عن النفس، أو مع السعي في الجملة أيضا، و يمكن تخصيصه بمعرفة الصانع كما مر أو بكمال المعرفة و قد مضى تفصيل القول في ذلك في باب البيان و التعريف، و في بعض النسخ صبغ بالباء الموحدة و الغين المعجمة، أي لهذه الكتابة صبغ و لون و هو تصحيف.

 (الحديث الثالث)

 (2): صحيح.

 (الحديث الرابع)

 (3): حسن كالصحيح.

 (الحديث الخامس)

 (4): صحيح و فسر أكثر المفسرين كلمة التقوى بكلمة التوحيد

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 74

فإنه يتقي بها من عذاب الله و ما فسرها عليه السلام به أظهر، إذ بجميع العقائد الإيمانية و اجتماعها يتقي من عذاب الله لا بكلمة التوحيد فقط، و فسرت في كثير من الأخبار بالولاية لأنها مستلزم لسائر العقائد، و في بعضها بأمير المؤمنين عليه السلام و في بعضها بجميع الأئمة عليهم السلام أي ولايتهم و الإقرار بإمامتهم كلمة التقوى، و أنهم يعبرون عن الله ما يتقى به من عذابه كما ورد في الأخبار الكثيرة أنهم كلمات الله.

باب الإخلاص‏

 (1)

 (الحديث الأول)

 (2): صحيح.

و قد مر معنى الحنيف و أنه المائل إلى الدين الحق، و هو الدين الخالص و المسلم المنقاد لله في جميع أوامره و نواهيه، و لما قال سبحانه ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَ لا نَصْرانِيًّا وَ لكِنْ كانَ‏

حَنِيفاً مُسْلِماً

 (3) وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، و جعل الحنيف المسلم في مقابلة المشرك، فلذا فسر عليه السلام الحنيف المسلم بمن كان خالصا لله مخلصا عمله من الشرك الجلي و الخفي،

فالأوثان‏

 (4) أعم من الأوثان الحقيقة و المجازية، فيشمل عبادة الشياطين في إغوائها و عبادة النفس في أهوائها كما قال تعالى:" أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ" و قال سبحانه:" أَ رَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ"

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 75

و قال:" اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ" و قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم:

ملعون من عبد الدنيا و الدرهم، و في المحاسن هكذا: خالصا مخلصا لا يشوبه شي‏ء، من دون ذكر عبادة الأوثان.

 (الحديث الثاني)

 (1): مرفوع.

" إنما هو الله"

 (2) الضمير راجع إلى المقصود في العبادة أو الأعم منه و من الباعث عليها، أو الموجود في الدنيا و المقصود فيها، و الغرض أن الحق و الهدى و الرشد و رعاية الآجلة و الحسنات منسوب إلى الله، و أضدادها منسوبة إلى الشيطان، فما كان خالصا لله فهو من الحسنات، و ما كان للشيطان فيه مدخل فهو من السيئات، ففي الكلام شبه قلب، أو المعنى أن الرب تعالى و الحق و الهدى و الرشد و الآجلة و الحسنات في جانب، و أضدادها في جانب آخر، فالحسنات ما يكون موافقا للحق و معلوما بهداية الله، و يكون سببا للرشد و المنظور فيه الدرجات الأخروية دون اللذات الدنيوية و قربه تعالى فهو منسوب إلى الله، و إلا فهو من خطوات الشيطان و وساوسه، و الرشد ما يوصل إلى السعادة الأبدية و الغي ما يؤدي إلى الشقاوة السرمدية، و العاقبة عطف تفسير للآجلة.

و كان المناسب للترتيب سائر الفقرات تقديم الآجلة على العاجلة، و لعله عليه السلام إنما غير الأسلوب لأن الآجلة بعد العاجلة.

قال بعض المحققين أريد بالحسنات و السيئات الأعمال الصالحة و السيئة المترتبتان على الأمور الثمانية الناشئتان منها

" فما كان من حسنات"

 (3) يعني ما نشأ

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 76

من الحق و الهدى و الرشد و رعاية العاقبة من الأعمال الصالحة

" و ما كان من سيئات"

 (1) يعني ما نشأ من الباطل و الضلالة و الغي و رعاية العاجلة من الأعمال السيئة، فكل من عمل عملا من الخير طاعة لله آتيا فيه بالحق على هدى من ربه و رشدة من أمره، و لعاقبة أمره فهو حسنة تقبله الله بقبول حسن، و من عمل عملا من الخير أو الشر طاعة للشيطان آتيا فيه بالباطل على ضلالة من نفسه و غي من أمره و لعاجلة أمره فهو سيئة مردود إلى من عمل له، و من عمل عملا مركبا من أجزاء بعضها لله و بعضها للشيطان فما كان لله فهو لله و ما كان للشيطان فهو للشيطان، فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره و من يعمل مثقال ذرة شرا يره فإن أشرك بالله الشيطان في عمله أو في جزء عمله فهو مردود إليه لأن الله لا يقبل الشريك كما يأتي بيانه في باب الرياء إنشاء الله.

و ربما يقال: إن كان الباعث الإلهي مساويا للباعث الشيطاني تقاوما و تساقطا و صار العمل لا له و لا عليه، و إن كان أحدهما غالبا على الآخر بأن يكون أصلا و سببا مستقلا و يكون الآخر تبعا غير مستقل فالحكم للغالب إلا أن ذلك مما يشتبه على الإنسان في غالب الأمر فربما يظن أن الباعث الأقوى قصد التقرب و يكون الأغلب على سره الحظ النفساني فلا يحصل الأمن إلا بالإخلاص، و قلما يستيقن بالإخلاص من النفس، فينبغي أن يكون العبد دائما مترددا بين الرد و القبول، خائفا من الشوائب، و الله الموفق للخير و السداد.

 (الحديث الثالث)

 (2): ضعيف على المشهور.

" طوبى"

 (3) أي الجنة أو طيبها أو شجرة فيها كما سيأتي في الخبر، أو العيش الطيب أو الخير

" لمن أخلص لله العبادة و الدعاء"

 (4) أي لم يعبد و لم يدع غيره تعالى‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 77

أو كان غرضه من العبادة و الدعاء رضي الله سبحانه من غير رياء

" بما ترى عيناه"

 (1) أي من زخارف الدنيا و مشتهياتها، و الرفعة و الملك فيها

" و لم ينس ذكر الله"

 (2) بالقلب و اللسان‏

" بما تسمع أذناه"

 (3) من الغناء و أصوات الملاهي، و ذكر لذات الدنيا و شهواتها و الشبهات المضلة و الآراء المبتدعة، و الغيبة و البهتان، و كل ما يلهي عن الله‏

" و لم يحزن صدره بما أعطى غيره"

 (4) من أسباب العيش و حرمها، و الاتصاف بهذه الصفات العلية إنما يتيسر لمن قطع عن نفسه العلائق الدنية، و في الخبر إشعار بأن الإخلاص في العبادة لا يحصل إلا لمن قطع عروق حب الدنيا من قلبه، كما سيأتي تحقيقه إنشاء الله.

 (الحديث الرابع)

 (5): ضعيف.

قوله:" لِيَبْلُوَكُمْ"

 (6) إشارة إلى قوله تعالى:" تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَ هُوَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ، الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَ الْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا" تبارك أي تكاثر خيره من البركة و هي كثرة الخير، أو تزايد عن كل شي‏ء و تعالى عنه في صفاته و أفعاله، فإن البركة تتضمن معنى الزيادة" الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ" أي بقبضة قدرته التصرف في الأمور كلها" الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَ الْحَياةَ" أي قدرهما أو أوجدهما و فيه دلالة على أن الموت أمر وجودي، و المراد بالموت الموت الطاري على الحياة أو العدم الأصلي فإنه قد يسمى موتا أيضا، كما قال تعالى:" كُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ" و تقديمه على الأول لأنه ادعى إلى حسن العمل و أقوى في ترك الدنيا و لذاتها،

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 78

و على الثاني ظاهر لتقدمه.

" لِيَبْلُوَكُمْ" أي ليعاملكم معاملة المختبر

" أَيُّكُمْ"

 (1) مفعول ثان لفعل البلوى باعتبار تضمينه معنى العلم، و وجه التعليل أن الموت داع إلى حسن العمل لكمال الاحتياج إليه بعده، و موجب لعدم الوثوق بالدنيا و لذاتها الفانية، و الحياة نعمة تقتضي الشكر و يقتدر بها على الأعمال الصالحة، و إن أريد به العدم الأصلي فالمعنى أنه نقلكم منه و ألبسكم لباس الحياة لذلك الاختبار، و لما كان اتصافنا بحسن العمل يتحقق بكثرة العمل تارة و بإصابته و شدة رعاية شرائطه أخرى نفي الأول،

بقوله:

ليس يعني أكثركم عملا

 (2)، لأن مجرد العمل من غير خلوصه و جودته ليس أمرا يعتد به، بل هو تضييع للعمر و أثبت الثاني‏

بقوله: و لكن أصوبكم عملا

 (3)، لأن صواب العمل و جودته و خلوصه من الشوائب يوجب القرب منه تعالى، و له درجات متفاوتة يتفاوت القرب بحسبها.

و اسم ليس في قوله:" ليس يعني" ضمير عائد إلى الله عز و جل أو ضمير شأن، و جملة يعني خبرها، ثم بين الإصابة و حصرها في أمرين‏

بقوله: إنما الإصابة خشية الله و النية الصادقة

 (4)، و ذكر الخشية ثانيا لعله من الرواة أو النساخ، و ليست في بعض النسخ و لو سحت يكون معناه خشية أن لا يقبل كما سيأتي في الخبر، و هو غير خشية الله، أو يقال: النية الصادقة مبتدأ و الخشية معطوف عليه، و الخبر محذوف أي مقرونتان، أو الخشية منصوب ليكون مفعولا معه.

فيكون الحاصل أن مدار الإصابة على الخشية و تلزمها النية الصادقة، و في بعض النسخ و الحسنة أي كونه موافقا لأمره تعالى، و لا يكون فيه بدعة، و في أسرار الصلاة للشهيد الثاني (ره): و النية الصادقة الحسنة و هو أصوب.

و الحاصل أن العمدة في قبول العمل بعد رعاية أجزاء العبادة و شرائطها المختصة النية الخالصة و الاجتناب عن المعاصي كما قال تعالى:" فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 79

فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَ لا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً" و قال سبحانه:" إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ".

قال الشيخ البهائي قدس سره: المراد بالنية الصادقة انبعاث القلب نحو الطاعة غير ملحوظ فيه شي‏ء سوى وجه الله سبحانه، لا كمن يعتق عبد مثلا ملاحظا مع القربة الخلاص من مؤنته أو سوء خلقه أو يتصدق بحضور الناس لغرض الصواب و الثناء معا بحيث لو كان منفردا لم يبعثه مجرد الثواب على الصدقة و إن كان يعلم من نفسه أنه لو لا الرغبة في الثواب لم يبعثه مجرد الرياء على الإعطاء، و لا كمن له ورد في الصلوات و عادة في الصدقات و اتفق أن حضر في وقتها جماعة فصار الفعل أخف عليه و حصل له نشاط ما بسبب مشاهدتهم، و إن كان يعلم من نفسه أنهم لو لم يحضروا لم يكن يترك العمل أو يفتر عنه البتة، فأمثال هذه الأمور مما يخل بصدق النية و بالجملة فكل عمل قصدت به القربة و انضاف إليه حظ من حظوظ الدنيا بحيث تركب الباعث عليه من ديني و نفسي، فنيتك فيه غير صادقة سواء كان الباعث الديني أقوى من الباعث النفسي أو أضعف أو مساويا.

قال في مجمع البيان:" لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا" أي ليعاملكم معاملة المختبر بالأمر و النهي فيجازى كل عامل بقدر عمله، و قيل: ليبلوكم أيكم أكثر للموت ذكرا و أحسن له استعدادا و أحسن صبرا على موته و موت غيره، و أيكم أكثر امتثالا للأوامر و اجتنابا عن النواهي في حال حياته قال أبو قتادة: سألت رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم عن قوله تعالى:" أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا" ما عنى به؟ فقال: يقول أيكم أحسن عقلا، ثم قال تعالى: أتمكم عقلا و أشدكم لله خوفا و أحسنكم فيما أمر الله به و نهى عنه نظرا، و إن كان أقلكم تطوعا، و عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و آله: أنه تلا قوله:

" تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَ هُوَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ" إلى قوله:" أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا"

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 80

ثم قال: أيكم أحسن عقلا و أورع عن محارم الله و أسرع في طاعة الله، و عن الحسن:

أيكم ازهد في الدنيا و أترك لها، انتهى.

و في القاموس: الصواب ضد الخطإ كالإصابة، و قال: الإصابة الإتيان بالصواب و إرادته، و البقاء على العمل محافظته و الإشفاق عليه و حفظه عن الفساد، قال الجوهري أبقيت على فلان إذا دعيت عليه، يقال: لا أبقى الله عليك إن أبقيت علي و الاسم البقيا، انتهى.

و الحاصل أن رعاية العمل و حفظه عند الشروع و بعده إلى الفراغ منه، و بعد الفراغ إلى الخروج من الدنيا حتى يخلص عن الشوائب الموجبة لنقصه أو فساده أشد من العمل نفسه كما سيأتي في باب الرياء عن أبي جعفر عليه السلام أنه قال:

الإبقاء على العمل أشد من العمل‏

 (1)، قال: و ما الإبقاء على العمل؟ قال: يصل الرجل بصلة و ينفق نفقة لله وحده لا شريك له، فيكتب له سرا ثم يذكرها فتمحى و تكتب له علانية ثم يذكرها فتمحى و تكتب له رياء، و من عرف معنى النية و خلوصها علم أن إخلاص النية أشد من جميع الأعمال كما سيأتي تحقيقه إنشاء الله.

ثم بين عليه السلام معنى‏

العمل الخالص‏

 (2) بأنه هو العمل الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحد إلا الله عز و جل، لا عند الفعل و لا بعده أي يكون خالصا عن أنواع الرياء و السمعة.

و قد يقال: لو كان سروره باعتبار أن الله تعالى قبل عمله حيث أظهر جميلة كما روي في الحديث القدسي عملك الصالح عليك سره و علي إظهاره، أو باعتبار أنه استدل بإظهار جميلة في الدنيا على إظهار جميلة في الآخرة، أو باعتبار رغبتهم إلى طاعة الله و ميل قلوبهم إليها لم يقدح ذلك في الخلوص، و إنما يقدح فيه إن كان لرفع منزلته عند الناس و تعظيمهم له و استجلاب الفوائد منهم فإنه بذلك يصير مرائيا مشركا بالشرك الخفي و به يحبط عمله، و هذا الكلام له جهة صدق لكن قلما تصدق النفس في ذلك،

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 81

فإن لها حيل و تسويلات لا ينجو منها إلا المقربون.

و قال الشيخ البهائي (ره): الخالص في اللغة كلما صفا و تخلص و لم يمتزج بغيره سواء كان ذلك الغير أدون منه أو لا، فمن تصدق لمحض الرياء فصدقته خالصة لغة كمن تصدق لمحض الثواب و قد خص العمل الخالص في العرف بما تجرد قصد التقرب فيه عن جميع الشوائب، و هذا التجريد يسمى إخلاصا، و قد عرفه أصحاب القلوب بتعريفات أخر، فقيل: هو تنزيه العمل عن أن يكون لغير الله فيه نصيب، و قيل:

إخراج الخلق عن معاملة الحق، و قيل: هو ستر العمل عن الخلائق و تصفيته عن العلائق، و قيل: أن لا يريد عامله عليه عوضا في الدارين، و هذه درجة علية عزيزة المنال، و قد أشار إليها أمير المؤمنين عليه السلام بقوله: ما عبدتك خوفا من نارك و لا طمعا في جنتك و لكن وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك.

و قال (ره): ذهب كثير من علماء الخاصة و العامة إلى بطلان العبادة إذا قصد بفعلها تحصيل الثواب أو الخلاص من العقاب، و قالوا: إن هذا القصد مناف للإخلاص الذي هو إرادة وجه الله وحده، و أن من قصد ذلك فإنه قصد جلب النفع إلى نفسه، و دفع الضرر عنها لا وجه الله سبحانه، كما أن من عظم شخصا أو أثنى عليه طمعا في ماله أو خوفا من إهانته لا يعد مخلصا في ذلك التعظيم و الثناء.

و ممن بالغ في ذلك السيد الجليل صاحب المقامات و الكرامات رضي الدين علي بن طاوس قدس الله سره، و يستفاد من كلام شيخنا الشهيد في قواعده أنه مذهب أكثر أصحابنا رضوان الله عليهم.

و نقل الفخر الرازي في التفسير الكبير اتفاق المتكلمين على أن من عبد الله لأجل الخوف من العقاب أو الطمع في الثواب لم تصح عبادته، أورده عند تفسير

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 82

قوله تعالى" ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَ خُفْيَةً" و جزم في أوائل سورة الفاتحة بأنه لو قال: أصلي لثواب الله أو الهرب من عقابه فسدت صلاته، و من قال بأن ذلك القصد غير مفسد للعبادة منع خروجها به عن درجة الإخلاص، و قال: إن إرادة الفوز بثواب الله و السلامة من سخطه ليس أمرا مخالفا لإرادة وجه الله سبحانه، و قد قال تعالى في مقام مدح أصفيائه:" كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَ يَدْعُونَنا رَغَباً وَ رَهَباً" أي للرغبة في الثواب و الرهبة من العقاب، و قال سبحانه:" وَ ادْعُوهُ خَوْفاً وَ طَمَعاً" و قال تعالى:

" يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَ اسْجُدُوا وَ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَ افْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" أي حال كونكم راجين للفلاح، أو لكي تفلحوا، و الفلاح هو الفوز بالثواب، نص عليه الشيخ أبو علي الطبرسي.

هذا ما وصل إلينا من كلام هؤلاء، و للمناقشة فيه مجال، أما قولهم أن تلك الإرادة ليست مخالفة لإرادة وجه الله تعالى فكلام ظاهري قشري إذ البون البعيد بين إطاعة المحبوب و الانقياد إليه لمحض حبه و تحصيل رضاه و بين إطاعته لأغراض أخر أظهر من الشمس في رائعة النهار، و الثانية ساقطة بالكلية عن درجة الاعتبار عند أولي الأبصار، و أما الاعتضاد بالآيتين الأوليين، ففيه: أن كثيرا من المفسرين ذكروا أن المعنى راغبين في الإجابة، راهبين من الرد و الخيبة، و أما الآية الثالثة فقد ذكر الطبرسي في مجمع البيان أن معنى لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ لكي تسعدوا. و لا ريب أن تحصيل رضاه سبحانه هو السعادة العظمى، و فسر (ره) الفلاح في قوله تعالى:" أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" بالنجاح و الفوز، و قال شيخ الطائفة في التبيان: المفلحون هم المنجحون‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 83

الذين أدركوا ما طلبوا من عند الله بأعمالهم و إيمانهم.

و في تفسير البيضاوي المفلح: الفائز بالمطلوب، و مثله في الكشاف.

نعم فسر الطبرسي (ره) الفلاح في قوله:" قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ" بالفوز بالثواب لكن مجيئه في هذه الآية بهذا المعنى لا يوجب حمله في غيرها أيضا عليه، و على تقدير حمله على هذا المعنى إنما يتم التقريب لو جعلت جملة الترجي حالية، و لو جعلت تعليلية كما جعله الطبرسي فلا دلالة فيها على ذلك المدعى أصلا كما لا يخفى.

هذا، و الأولى أن يستدل بما رواه الكليني بطريق حسن عن أبي عبد الله عليه السلام قال:

العباد ثلاثة قوم عبدوا الله عز و جل خوفا فتلك عبادة العبيد، و قوم عبدوا الله تبارك و تعالى طلبا للثواب فتلك عبادة الأجراء، و قوم عبدوا الله عز و جل حبا له فتلك عبادة الأحرار و هي أفضل العبادة، فإن قوله عليه السلام و هي أفضل العبادة يعطي أن العبادة على الوجهين السابقين لا يخلو من فضل أيضا فتكون صحيحة و هو المطلوب.

ثم قال رحمه الله: المانعون في نية العبادة من قصد تحصيل الثواب أو دفع العقاب جعلوا هذا القصد مفسدا لها و إن انضم إليه قصد وجه الله تعالى على ما يفهم من كلامهم، أما بقية الضمائم اللازمة الحصول مع العبادة نويت أو لم تنو كالخلاص من النفقة بعتق العبد في الكفارة، و الحمية في الصوم و التبرد في الوضوء و إعلام المأموم الدخول في الصلاة بالتكبير، و مماطلة الغريم بالتشاغل بالصلاة و ملازمته بالطواف و السعي، و حفظه المتاع بالقيام لصلاة الليل و أمثال ذلك فالظاهر أن قصدها عندهم مفسد أيضا بالطريق الأولى و أما الذين لا يجعلون قصد الثواب مفسدا فقد اختلفوا في الإفساد بأمثال هذه الضمائم، فأكثرهم على عدمه، و به قطع الشيخ في المبسوط، و المحقق في المعتبر، و العلامة في التحرير و المنتهى، لأنها تحصل لا محالة فلا يضر قصدها، و فيه أن لزوم حصولها لا يستلزم صحة قصد حصولها، و المتأخرون من أصحابنا حكموا بفساد العبادة بقصدها و هو مذهب العلامة في النهاية

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 84

و القواعد، و ولده فخر المحققين في الشرح، و شيخنا الشهيد في البيان لفوت الإخلاص و هو الأصح، و احتمل شيخنا الشهيد في قواعده التفصيل بأن القربة إن كانت هي المقصود بالذات و الضميمة مقصودة تبعا صحت العبادة و إن انعكس الأمر أو تساويا بطلت.

هذا، و اعلم أن الضميمة إن كانت راجحة و لاحظ القاصد رجحانها وجوبا أو ندبا كالحمية في الصوم لوجوب حفظ البدن، و الإعلام بالدخول في الصلاة للتعاون على البر فينبغي أن لا تكون مضرة إذ هي حينئذ مؤكدة، و إنما الكلام في الضمائم غير الملحوظة الرجحان، فصوم من ضم قصد الحمية مطلقا صحيح مستحبا كان الصوم أو واجبا، معينا كان الواجب أو غير معين، و لكن في النفس من صحة غير المعين شي‏ء، و عدمها محتمل، و الله أعلم.

قوله عليه السلام: و النية أفضل من العمل،

 (1) أي النية الخالصة أو إخلاص النية أفضل من العمل، و النية تطلق على إرادة إيقاع الفعل و على الغرض الباعث على الفعل و على العزم على الفعل و الأولتان مقارنتان للفعل دون الثالثة، و الأولى لا تنفك فعل الفاعل المختار عنها، و الثانية الإخلاص فيها من أشق الأمور و أصعبها و به تتفاضل عبادات المكلفين و هي روح العبادة و بدونها لا تصح، و كلما كانت أخلص عن الشوائب و الأغراض الفاسدة كان العمل أكمل، و لذا ورد أن نية المؤمن خير من عمله، و لا ينافي قوله صلى الله عليه و آله و سلم أفضل الأعمال أحمزها، إذ تصحيح النية أصعب من تصحيح العمل بمراتب شتى إذ ليس المراد بالنية ما يتكلم به الإنسان عند الفعل، أو يتصوره و يخطره بباله، بل هو الباعث الأصلي و الغرض الواقعي الداعي للإنسان على الفعل و هو تابع للحالة التي عليها الإنسان، و الطريقة التي يسلكها، فمن غلب عليه حب الدنيا و شهواتها لا يمكنه قصد القربة و إخلاص النية عن دواعيها فإن نفسه متوجهة إلى الدنيا و همته مقصورة عليها، فما لم يقلع عن قلبه عروق حب الدنيا و لم يستقر فيه‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 85

طلب النشأة الأخرى و حب الرب الأعلى لم يمكنه إخلاص النية واقعا عن تلك الأغراض الدنية، و ذلك متوقف على مجاهدات عظيمة و رياضات طويلة و تفكرات صحيحة، و اعتزال عن شرار الخلق، فلذا ورد أن نية المؤمن خير من عمله، و من عرف ذلك لم يحتج إلى تأويل الخبر بما ستسمع من الوجوه مع ركاكة أكثرها و بعدها عن نظم الكلام، فلذا قال عليه السلام: النية أفضل من العمل و السعي في تصحيحها أهم.

فإن قيل: العمل بلا نية باطل، و معها النية داخلة فيه فكيف يفضل النية على العمل فإنه يوجب تفضيل الجزء على الكل؟.

قلنا: المراد به أن العمل المقرون بالنية نيته خير من سائر أجزائه، سواء جعلنا النية جزءا من العمل أو شرطا فيه و

قوله عليه السلام: ألا و إن النية هي العمل‏

 (1)، مبالغة في اشتراط العمل بها، و أنه لا اعتداد بالعمل بدونها، فكأنها عينه، و لذا أكد بحرف التأكيد و حرف التنبيه و اسمية الجملة، و تعريف الخبر باللام المفيد للحصر، و ضمير الفصل المؤكد له. و قيل: إشارة إلى دفع ما يتوهم من أن المفضل عليه لا بد أن يكون من جنس المفضل و النية ليست من جنس العمل، فأجاب عليه السلام بأن النية أيضا عمل من أعمال القلب و لا يخفى ضعفه، و الاستشهاد بالآية الكريمة لبيان أن مدار العمل على النية صحة و فسادا و نقصا و كمالا، حيث قال:

" قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى‏ شاكِلَتِهِ"

 (2) يعني على نيته و كأنه عليه السلام فسر الشاكلة التي تطلق غالبا على الحالة و الطريقة بالنية إيذانا بأن النية تابعة لحالة الإنسان و طريقته كما أومأنا إليه، و إن ورد بمعنى النية أيضا، قال الفيروزآبادي: الشاكلة: الشكل و الناحية و النية و الطريقة، و قال في مجمع البيان: أي كل واحد من المؤمن و الكافر يعمل على طبيعته و خليقته التي تخلق بها عن ابن عباس، و قيل: على طريقته و سنته التي اعتادها، و قيل: ما هو أشكل بالصواب‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 86

و أولى بالحق عنده عن الجبائي، قال: و لهذا قال:" فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى‏ سَبِيلًا" أي أنه يعلم أي الفريقين على الهدى و أيهما على الضلال، و قيل: معناه أنه أعلم بمن هو أصوب دينا و أحسن طريقة، و قال بعض أرباب اللسان هذه الآية أرجى آية في كتاب الله لأن الأليق بكرمه سبحانه وجوده العفو عن عباده، فهو يعمل به، انتهى.

و يمكن حمل النية هنا على المعنى الثالث كما سيأتي في الخبر لكنه بعيد عن سياق هذا الخبر و سيأتي مزيد كلام في ذلك في باب النية و باب الرياء.

 (الحديث الخامس)

 (1): مثل السابق:

قوله تعالى:" إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ" قال سبحانه في سورة الشعراء حكاية عن إبراهيم عليه السلام حيث قال:" وَ لا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ".

قال الطبرسي قدس الله سره أي لا تفضحني و لا تعيرني بذنب يوم يحشر الخلائق، و هذا الدعاء كان منه عليه السلام على وجه الانقطاع إلى الله تعالى لما بينا أن القبيح لا يجوز وقوعه من الأنبياء عليه السلام، ثم فسر ذلك اليوم بأن قال: يوم لا ينفع مال و لا بنون أي لا ينفع المال و البنون أحدا إذ لا يتهيأ لذي مال أن يفتدي من شدائد ذلك اليوم به و لا يتحمل من صاحب البنين بنوه شيئا من معاصيه‏

" إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ"

 (2) من الشرك و الشك عن الحسن و مجاهد و قيل: سليم من الفساد و المعاصي، و إنما خص القلب بالسلامة لأنه إذا سلم القلب سلم سائر الجوارح من الفساد من حيث أن الفساد بالجارحة لا يكون إلا عن قصد بالقلب الفساد، و روي عن الصادق عليه السلام أنه قال: هو القلب الذي سلم من حب الدنيا، و يؤيده قول النبي صلى الله عليه و آله و سلم حب الدنيا رأس كل خطيئة انتهى.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 87

قوله عليه السلام: و ليس فيه أحد سواه،

 (1) أي أخرج عن قلبه حب ما سوى الله و الاشتغال بغيره سبحانه، أ و لم يختر في قلبه على رضا الله رضا غيره، أو كانت أعماله و نياته كلها خالصة لله لم يشرك فيها غيره‏

" و كل قلب فيه شرك"

 (2) أعم من الشرك الجلي و الخفي.

" أو شك"

 (3) و هو ما يقابل اليقين الذي يظهر أثره على الجوارح، فإن كل معصية أو توسل بغيره سبحانه يستلزم ضعفا في اليقين فالشك يشمله‏

" فهو ساقط"

 (4) أي عن درجة الاعتبار أو بعيد عن الرب تعالى.

" و إنما أرادوا"

 (5) أي الأنبياء و الأوصياء

" الزهد"

 (6) و في بعض النسخ: أراد بالزهد أي أراد الله، و الباء زائدة يعني أن الزهد في الدنيا ليس مقصودا لذاته، و إنما أمر الناس به لتكون قلوبهم فارغة عن محبة الدنيا، صالحة لحب الله تعالى، خالصة له عز و جل، لا شركة فيها لما سوى الله، و لا شك ناشئا من شدة محبتها لغير الله.

 (الحديث السادس)

 (7): مثل السابق.

" و إخلاص الأيمان"

 (8) مما يشوبه من الشرك و الرياء و المعاصي، و أن يكون جميع أعماله خالصة لله تعالى، و لعل خصوص الأربعين لأن الله تعالى جعل انتقال الإنسان في أصل الخلقة من حال إلى حال في أربعين يوما كالانتقال من النطفة إلى العلقة و من العلقة إلى المضغة، و من المضغة إلى العظام و منها إلى اكتساء اللحم.

و لذا يوقف قبول توبة شارب الخمر إلى أربعين يوما كما ورد في الخبر، و

الزهد

 (9) في الشي‏ء تركه و عدم الرغبة فيه، و

داء الدنيا

 (10) المعاصي و الصفات الذميمة و ما

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 88

يوجب البعد عن الله تعالى، و

دواؤها

 (1) ما يوجب تركها و اجتنابها من الرياضات و المجاهدات و التفكرات الصحيحة و أمثالها، أو المراد بدائها الأمراض القلبية الحاصلة من محبة الدنيا، و دواؤها ملازمة ما يوجب تركها، و قيل: أي قدر الضرورة منها و الزائد عليه أو ميل القلب إليها و صرفه عنها أو الضار و المنافع منها في الآخرة أعني الطاعة و المعصية و

الحكمة

 (2) العلوم الحقة الواقعية و أصلها و منبعها معرفة الإمام و لذا فسرت بها كما مر.

و في مناسبة ذكر الآية لما تقدم إشكال، و يمكن أن يقال في توجيهه وجوه:

الأول: ما خطر بالبال و هو أنه لما ذكر فوائد إخلاص الأربعين و قد أبدع جماعة من الصوفية فيها ما ليس في الدين، دفع عليه السلام توهم شموله لذلك بالاستشهاد بالآية، و أنها تدل على أن كل مبتدع في الأحكام و مفتر على الله و رسوله في حكم من الأحكام ذليل في الدنيا و الآخرة، لقوله تعالى:

" كَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ"

 (3)

و قوله: أو مفتريا

 (4) أي لا ترى مفتريا، و بعبارة أخرى لما كان صحة العبادة و كما لها مشترطة بأمرين: الأول، كونها على وفق السنة، و الثاني: كونها خالصة لوجه الله تعالى، فأشار أولا إلى الثاني، و ثانيا إلى الأول، فتأمل.

الثاني: ما قيل أن الوجه في تلاوته عليه السلام الآية التنبيه على أن من كانت عبادته لله تعالى و اجتهاده فيها على وفق السنة بصره الله عيوب الدنيا فزهده فيها، فصار بسبب زهده فيها عزيزا لأن المذلة في الدنيا إنما تكون بسبب الرغبة فيها، و من كانت عبادته على وفق الهوى أعمى الله قلبه عن عيوب الدنيا، فصار بسبب رغبته فيها ذليلا، فأصحاب البدع لا يزالون أذلاء صغارا، و من هنا قال الله في متخذي العجل ما قال.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 89

الثالث: ما قيل أيضا أن الغرض من تلاوتها هو التنبيه على أن غير المخلص مندرج فيها، و الوعيد متوجه إليه أيضا لأنك قد عرفت أن قلبه ساقط، لكونه ذا شرك أو شك و هما بدعة و افتراء على الله و رسوله، و الآية على تقدير نزولها في قوم مخصوصين لا يقتضي تخصيص الوعيد بهم.

الرابع: ما خطر بالبال أيضا و هو أن الإخلاص المذكور في صدر الخبر يشمل الإخلاص عن الرياء و البدعة، و كل ما ينافي قبول العمل فاستشهد لأحد أجزائه بالآية.

باب الشرائع‏

 (1)

 (الحديث الأول)

 (2): مرسل.

قوله عليه السلام: شرائع نوح‏

 (3)، يحتمل أن يكون المراد بالشرائع أصول الدين و يكون‏

التوحيد و الإخلاص و خلع الأنداد

 (4) بيانا لها، و الفطرة الحنيفية معطوفة على الشرائع و إنما خص عليه السلام ما به الاشتراك بهذه الثلاثة مع اشتراكه عليه السلام معهم في كثير من العبادات لاختلاف المشتركات فيها دون هذه الثلاثة، و لعله عليه السلام لم يرد حصر المشتركات فيما ذكر لعدم ذكر سائر أصول الدين، كالعدل و المعاد مع أنه يمكن‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 90

إدخالهما في بعض ما ذكر، لا سيما الإخلاص بتكلف و يمكن أن يكون المراد منها الأصول و أصول الفروع المشتركة، و إن اختلفت في الخصوصيات و الكيفيات و حينئذ يكون جميع تلك الفقرات إلى قوله عليه السلام: و زاده، بيانا للشرائع، و يشكل حينئذ ذكر الرهبانية و السياحة إذ المشهور أن عدمهما من خصائص نبينا صلى الله عليه و آله و سلم إلا أن يقال: المراد عدم الوجوب و هو مشترك، أو يقال: إنهما لم يكونا في شريعة عيسى عليه السلام أيضا و إن استشكل بالجهاد و أنه لم يجاهد عيسى عليه السلام، فالجواب أنه يمكن أن يكون واجبا عليه لكن لم يتحقق شرائطه، و لذا لم يجاهد و لعل قوله عليه السلام: زاده و فضله، بهذا الوجه أوفق.

و كان المراد بالتوحيد نفي الشريك في الخلق، و بالإخلاص نفي الشريك في العبادة، و خلع الأنداد تأكيد لهما، أو المراد به ترك اتباع خلفاء الجور و أئمة الضلالة أو نفي الشرك الخفي أو المراد بالإخلاص نفي الشرك الخفي و بخلع الأنداد نفي الشريك في استحقاق العبادة، و الأنداد جمع ند و هو مثل الشي‏ء الذي يضاده في أموره و يناده أي يخالفه، و

الفطرة

 (1) ملة الإسلام التي فطر الله الناس عليها كما مر و

الحنيفية

 (2) المائلة من الباطل إلى الحق أو الموافقة لملة إبراهيم عليه السلام قال في النهاية:

الحنيف عند العرب من كان على دين إبراهيم عليه السلام، و أصل الحنيف الميل، و منه الحديث: بعثت بالحنيفية السمحة السهلة، و في القاموس:

السمحة

 (3) الملة التي ما فيها ضيق.

و في النهاية: فيه‏

لا رهبانية

 (4) في الإسلام، هي من رهبة النصارى، و أصله من الرهبة الخوف، كانوا يترهبون بالتخلي من أشغال الدنيا و ترك ملاذها و الزهد فيها، و العزلة عن أهلها، و تعمد مشاقها حتى أن منهم من كان يخصي نفسه، و يضع السلسلة في عنقه و غير ذلك من أنواع التعذيب، فنفاها النبي صلى الله عليه و آله عن الإسلام و نهى المسلمين‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 91

عنها، انتهى.

و قال الطبرسي قدس سره: في قوله تعالى:" وَ رَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها" هي الخصلة من العبادة يظهر فيها معنى الرهبة إما في لبسته أو انفراد عن الجماعة أو غير ذلك من الأمور التي يظهر فيها نسك صاحبه و المعنى ابتدعوا رهبانية لم نكتبها عليهم، و قيل: إن الرهبانية التي ابتدعوها هي رفض النساء و اتخاذ الصوامع عن قتادة، قال: و تقديره و رهبانية ما كتبناها عليهم إلا أنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها، و قيل: إن الرهبانية التي ابتدعوها لحاقهم بالبراري و الجبال في خبر مرفوع عن النبي صلى الله عليه و آله، فما رعاها الذين بعدهم حق رعايتها، و ذلك لتكذيبهم بمحمد صلى الله عليه و آله عن ابن عباس.

و قيل: إن الرهبانية هي الانقطاع عن الناس للانفراد بالعبادة" ما كَتَبْناها" أي ما فرضناها عليهم، و قال الزجاج: إن تقديره ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله و ابتغاء رضوان الله اتباع ما أمر الله فهذا وجه، قال: و فيها وجه آخر جاء في التفسير أنهم كانوا يرون من ملوكهم ما لا يصبرون عليه فاتخذوا أسرابا و صوامع و ابتدعوا ذلك، فلما ألزموا أنفسهم ذلك التطوع و دخلوا عليه لزمهم إتمامه، كما أن الإنسان إذا جعل على نفسه صوما لم يفرض عليه لزمه أن يتمه.

قال: و قوله: فما رعوها حق رعايتها، على ضربين أحدهما أن يكونوا قصروا فيما ألزموه أنفسهم، و الآخر و هو الأجود أن يكونوا حين بعث النبي صلى الله عليه و آله فلم يؤمنوا به، و كانوا تاركين لطاعة الله فما رعوا تلك الرهبانية حق رعايتها، و دليل ذلك قوله:" فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ" يعني الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه و آله" وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ" أي كافرون، انتهى كلام الزجاج.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 92

و يعضد هذا ما جاءت به الرواية عن ابن مسعود قال: كنت رديف رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم على حمار فقال: يا ابن أم عبد هل تدري من أين أحدثت بنو إسرائيل الرهبانية؟

فقلت: الله و رسوله أعلم، فقال: ظهرت عليهم الجبابرة بعد عيسى عليه السلام يعملون بمعاصي الله فغضب أهل الإيمان فقاتلوهم فهزم أهل الإيمان ثلاث مرات، فلم يبق منهم إلا القليل، فقالوا: إن ظهرنا هؤلاء أفنونا و لم يبق للدين أحد يدعو إليه، فتعالوا نتفرق في الأرض إلى أن يبعث الله النبي الذي وعدنا به عيسى عليه السلام يعنون محمدا صلى الله عليه و آله و سلم فتفرقوا في غيران الجبال و أحدثوا رهبانية، فمنهم من تمسك بدينه، و منهم من كفر، ثم تلا هذه الآية:" وَ رَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ، إلى آخرها، ثم قال: يا بن أم عبد أ تدري ما رهبانية أمتي؟ قلت: الله و رسوله أعلم، قال: الهجرة و الجهاد و الصلاة و الصوم و الحج و العمرة.

و في حديث آخر عن ابن مسعود أنه صلى الله عليه و آله و سلم قال: من آمن بي و صدقني و اتبعني فقد رعاها حق رعيتها، و من لم يؤمن بي فأولئك هم الهالكون، انتهى.

و قال في النهاية:

فيه لا سياحة

 (1) في الإسلام، يقال: ساح في الأرض يسيح سياحة إذا ذهب فيها و أصله من السيح و هو الماء الجاري أي المنبسط على الأرض، أراد مفارقة الأمصار و سكنى البراري و ترك شهود الجمعة و الجماعات، و قيل: أراد الذين يسيحون في الأرض بالشر و النميمة و الإفساد بين الناس، و من الأول سياحة هذه الأمة الصيام قيل للصائم: سائح لأن الذي يسيح في الأرض متعبدا يسيح و لا زاد معه و لا ماء، فحين يجد يطعم، و الصائم يمضي نهاره لا يأكل و لا يشرب شيئا فشبه به، انتهى.

قوله عليه السلام أحل فيها الطيبات‏

 (2)، إشارة إلى قوله تعالى في الأعراف:" الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ" الآية، قال الطبرسي قدس سره: و يحل‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 93

لهم الطيبات و

يحرم عليهم الخبائث‏

 (1) معناه: يبيح لهم المستلذات الحسنة، و يحرم عليهم القبائح و ما تعافه الأنفس، و قيل: يحل لهم ما اكتسبوه من وجه طيب و يحرم عليهم ما اكتسبوه من وجه خبيث، و قيل: يحل لهم ما حرمه عليهم رهابينهم و أحبارهم و ما كان يحرمه أهل الجاهلية من البحائر و السوائب و غيرها، و يحرم عليهم الميتة و الدم و لحم الخنزير و ما ذكر معها

" وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ"

 (2) أي ثقلهم، شبه ما كان على بني إسرائيل من التكليف الشديد بالثقل، و ذلك أن الله سبحانه جعل توبتهم أن يقتل بعضهم بعضا، و جعل توبة هذه الأمة الندم بالقلب حرمة للنبي صلى الله عليه و آله عن الحسن. و قيل: الإصر هو العهد الذي كان الله سبحانه أخذه على بني إسرائيل أن يعملوا بما في التوراة عن ابن عباس و الضحاك و السدي، و يجمع المعنيين قول الزجاج:

الإصر ما عقدته من عقد ثقيل.

" وَ الْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ"

 (3) معناه و يضع عنهم العهود التي كانت في ذمتهم، و جعل تلك العهود بمنزلة الأغلال التي تكون في الأعناق للزومها كما يقال: هذا طوق في عنقك، و قيل: يريد بالأغلال ما امتحنوا به من قتل نفوسهم في التوبة، و قرض ما يصيبه البول من أجسادهم و ما أشبه ذلك من تحريم السبت، و تحريم العروق و الشحوم و قطع الأعضاء الخاطئة، و وجوب القصاص دون الدية عن أكثر المفسرين، انتهى.

و أقول: استدل أكثرهم أصحابنا على تحريم كثير من الأشياء مما تستقذره طباع أكثر الخلق بهذه الآية و هو مشكل، إذ الظاهر من سياق الآية مدح النبي صلى الله عليه و آله و شريعته بأن ما يحل لهم هو طيب واقعا و إن لم نفهم طيبه، و ما يحرم عليهم هو الخبيث واقعا و إن لم نعلم خبثه كالطعام المستلذ الذي يكون من مال اليتيم أو مال السرقة تستلذه الطبع و هو خبيث واقعا، و أكثر الأدوية التي يحتاج الناس إليها في‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 94

غاية البشاعة و تستقذرها الطبع و لم أر قائلا بتحريمها، فالحمل على المعنى الذي لا يحتاج إلى تخصيص و يكون موافقا لقواعد الإمامية من الحسن و القبح العقليين أولى من الحمل على معنى لا بد فيه من تخصيصات كثيرة، بل ما يخرج منهما أكثر مما يدخل فيهما كما لا يخفى على من تتبع مواردهما، و يمكن أن يقال: هذه الآية كالصريحة في الحسن و القبح العقليين و لم يستدل بها الأصحاب رضي الله عنهم.

و قيل: الإصر الثقل الذي يأصر حامله أي يحبسه في مكانه لفرط ثقله، و قال الزمخشري: هو مثل لثقل تكليفهم و صعوبته، نحو اشتراط قتل الأنفس في صحة توبتهم و كذلك الأغلال مثل لما كان في شرائعهم من الأشياء الشاقة نحو بت القضاء بالقصاص عمدا كان أو خطأ، من غير شرع الدية، و قطع الأعضاء الخاطئة و قرض موضع النجاسة من الجلد و الثوب، و إحراق الغنائم و تحريم العروق في اللحم، و تحريم السبت.

و عن عطاء: كانت بنو إسرائيل إذا قامت تصلي لبسوا المسوخ و غلوا أيديهم إلى أعناقهم، و ربما ثقب الرجل ترقوته و جعل فيها طرف السلسلة و أوثقها إلى السارية يحبس نفسه على العبادة، انتهى.

قوله عليه السلام: ثم افترض عليه،

 (1) أي على نبينا صلى الله عليه و آله و سلم‏

" فيها"

 (2) أي في الفطرة التي هي ملته، و كان ثم للتفاوت في الرتبة، و قيل: المراد

بالحلال‏

 (3) ما عدا الحرام فيشمل الأحكام الأربعة، و المراد

بالفرائض‏

 (4) المواريث ذكرت تأكيدا، أو مطلق الواجبات و قيل: الفرائض ما له تقدير شرعي من المواريث و هي أعم منها و من غيرها مما ليس له تقدير، و قيل: المراد بالفرائض ما فرض من القصاص بقدر الجناية، و

قوله:

و زاده الوضوء

 (5)، يدل على عدم شرع الوضوء في الأمم السابقة، و ينافيه ما ورد في تفسير قوله تعالى:" فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَ الْأَعْناقِ" أنهم مسحوا ساقيهم و عنقهم و كان ذلك وضوؤهم إلا أن يقال: المراد زيادة الوضوء كما في بعض النسخ، و زيادة الوضوء عطفا

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 95

على الجهاد، و

قوله عليه السلام: و فضله‏

 (1)، إشارة إلى ما روي عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنه قال:

أعطيت مكان التوراة السبع الطول، و مكان الإنجيل المثاني، و مكان الزبور المئين، و فضلت بالمفصل، و في رواية واثلة بن الأصقع: و أعطيت مكان الإنجيل المئين، و مكان الزبور المثاني، و أعطيت فاتحة الكتاب و خواتيم البقرة من تحت العرش لم يعطها نبي قبلي، و أعطاني ربي المفصل نافلة.

قال الطبرسي (ره) فالسبع الطويل البقرة و آل عمران و النساء و المائدة و الأنعام و الأعراف و الأنفال مع التوبة، لأنهما تدعيان القرينتين، و لذلك لم يفصل بينهما بالبسملة و قيل: إن السابعة سورة يونس، و الطول جمع الطولي تأنيث الأطول و إنما سميت هذه السور الطوال، لأنها أطول سورة القرآن و أما المثاني فهي السور التالية للسبع الطول، أولها يونس و آخرها النحل و إنما سميت المثاني لأنها ثنت الطول أي تلتها، و كان الطول هي المبادئ و المثاني لها ثواني و واحدها مثنى مثل المعنى و المعاني، و قال الفراء، واحدها مثناة، و قيل: المثاني سور القرآن كلها طوالها و قصارها، من قوله تعالى:" كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ" و أما المئون فهي كل سورة تكون نحوا من مائة آية أو فوق ذلك، أو دوينه، و هي سبع سور أولها سورة بني إسرائيل و آخرها المؤمنون، و قيل، إن المئين: ما ولى السبع الطول ثم المثاني بعدها و هي التي تقصر عن المئين و تزيد على المفصل و سميت مثاني لأن المئين مباديها، و أما

المفصل‏

 (2) فما بعد الحواميم من قصار السور إلى آخر القرآن، سميت مفصلا لكثرة الفصول بين سورها ب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، انتهى.

و أقول: اختلف في أول المفصل فقيل: من سورة ق و قيل من سورة محمد صلى الله عليه و آله و سلم و قيل من سورة الفتح، و عن النووي: مفصل القرآن من محمد إلى آخر القرآن، و قصاره من الضحى إلى آخره، و مطولاته إلى عم و متوسطاته إلى الضحى، و في‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 96

الخبر: المفصل ثمان و ستون سورة و سيأتي تمام الكلام في ذلك في كتاب القرآن.

" أحل له المغنم"

 (1) في النهاية: الغنمية و الغنم و المغنم و الغنائم هو ما أصيب من أموال أهل الحرب و أوجف عليه المسلمون بالخيل و الركاب، و قال:

الفي‏ء

 (2) ما حصل للمسلمين من أموال الكفار من غير حرب و لا جهاد، و أصل الفي‏ء الرجوع، يقال:

فاء يفي‏ء فئة و فيوءا كأنه في الأصل لهم ثم رجع إليهم، انتهى.

أقول: و يحتمل أن يكون المراد بالمغنم المنقولات و بالفي‏ء الأراضي سواء أخذت بحرب أم لا، و على التقديرين في قوله توسع أي له و لأهل بيته و أمته، و يحتمل أن يكون اللام سببية لا صلة للإحلال، فيكون من أحل له غير مذكور، فيشمل الجميع، و الاختصاص لما مر أن الأمم السابقة كانوا لا تحل لهم الغنيمة بل كانوا يجمعونها فتنزل نار من السماء فتحرقها، و كان ذلك بلية عظيمة عليهم حتى كان قد يقع فيها السرقة، فيقع الطاعون بينهم فمن الله على هذه الأمة بإحلالها

" و نصره بالرعب"

 (3) مع قلة العدد و العدة و كثرة الأعداء و شدة بأسهم، و الرعب الفزع و الخوف فكان الله تعالى يلقي رعبه في قلوب الأعداء حتى إذا كان بينه و بينهم مسيرة شهر هابوه و فزعوا منه.

" و جعل له الأرض مسجدا"

 (4) أي مصلى يجوز لهم الصلاة في أي موضع شاءوا بخلاف الأمم السابقة فإن صلاتهم كانت في بيعهم و كنائسهم إلا من ضرورة

" و طهورا"

 (5) أي مطهرا و ما يتطهر به تطهر أسفل القدم و النعل و محل الاستنجاء و تقوم مقام الماء عند تعذره في التيمم، و المراد بكونها طهورا أنها بمنزلة الطهور في استباحة الصلاة بها، و حمله السيد (ره) على ظاهره فاستدل بها على ما ذهب إليه أن التيمم يرفع الحدث إلى وجود الماء.

" و أرسله كافة"

 (6) إشارة إلى قوله تعالى:" وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ" و كافة في الآية إما حال عما بعدها، أي إلى الناس جميعا، و من لم يجوز تقديم الحال على‏

                                                مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 97

ذي الحال المجرور قال: هي حال عن الضمير المنصوب في أرسلناك، و التاء للمبالغة أو صفة لمصدر محذوف، أي إرساله كافة، أو مصدر كالكاذبة و العاقبة، و لعل الأخيرين في الخبر أنسب، و ظاهره أن غيره صلى الله عليه و آله و سلم لم يبعث إلى الكافة و هو خلاف المشهور، و يحتمل أن يكون الحصر إضافيا أو يكون المراد به بعثه على جميع من بعده إذ لا نبي بعده بخلاف سائر أولي العزم فإنهم لم يكونوا كذلك، بل نسخت شريعتهم.

" الأبيض و الأسود"

 (1) العجم و العرب أو كل من اتصف باللونين ليشمل جميع الناس قال في النهاية: فيه بعثت إلى الأحمر و الأسود، أي العجم و العرب، لأن الغالب على ألوان العجم الحمرة و البياض، و على ألوان العرب الأدمة و السمرة، و قيل: الجن و الإنس، و قيل: أراد بالأحمر الأبيض مطلقا فإن العرب تقول: امرأة حمراء أي بيضاء و منه الحديث أعطيت الكنزين الأحمر و الأبيض، هي ما أفاء الله على أمته من كنوز الملوك، فالأحمر الذهب و الأبيض الفضة، و الذهب كنوز الروم لأنه الغالب على نقودهم، و الفضة كنوز الأكاسرة لأنها الغالبة علي نقودهم، و قيل: أراد العرب و العجم جمعهم الله على دينه و ملته، انتهى.

و الكلام في اختصاص البعث على الجن و الإنس به صلى الله عليه و آله و سلم كالكلام فيما سبق و يدل الخبر أيضا على اختصاص الجزية و الأسر و الفداء، و

الجزية

 (2): المال الذي يقرره الحاكم على الكتابي إذا أقره على دينه، و هي فعلة من الجزاء كأنها جزت عن قتله و أسره، و

الفداء

 (3) بالكسر و المد، و بالفتح و القصر، فكان الأسير بالمال الذي قرره الحاكم عليه يقال: فداه يفديه فداءا،

ثم كلف‏

 (4) على بناء المفعول و ثم هنا أيضا مثل ما سبق لأن هذا التكليف أعظم التكاليف و أشقها فقد ثبت صلى الله عليه و آله و سلم في حرب أحد و حنين بعد انهزام أصحابه مصرحا باسمه لا يبالي شيئا، و

أنزل عليه سيف من السماء

 (5) أي ذو الفقار أو غيره، و كونه‏

بلا غمد

 (6) تحريص على الجهاد و إشارة إلى أن سيفه ينبغي أن لا يغمد، و قيل السيف عبارة عن آية سورة براءة:" فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 98

فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ" فإنه يقال لها آية السيف و كونه من غير غمد كناية عن أنها من المحكمات، و لا يخفى بعده.

و الغمد بالكسر الغلاف، و قال البيضاوي:

" فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ"

 (1) أي إن تثبطوا و تركوك وحدك‏

" لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ"

 (2) أي إلا فعل نفسك لا يضرك مخالفتهم و تقاعدهم فتقدم إلى الجهاد و إن لم يساعدك أحد، فإن الله ناصرك لا الجنود.

 (الحديث الثاني)

 (3): موثق.

" فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ"

 (4) قال الطبرسي قدس سره أي فاصبر يا محمد على أذى هؤلاء الكفار على ترك إجابتهم لك كما صبر الرسل، و" من" هنا تبيين الجنس فالمراد جميع الأنبياء لأنهم عزموا على أداء الرسالة و تحمل أعبائها، و قيل:

أن من هيهنا للتبعيض، و هو قول أكثر المفسرين، و الظاهر في روايات أصحابنا، ثم اختلفوا فقيل: هم من أتى بشريعة مستأنفة نسخت شريعة من تقدمه، و هم نوح و

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 99

إبراهيم و موسى و عيسى و محمد صلى الله عليه و عليهم عن ابن عباس و قتادة و هو المروي عن أبي جعفر و أبي عبد الله عليه السلام قالا: و هم سادة النبيين و عليهم دارت رحى المرسلين و قيل: هم ستة نوح صبر على أذى قومه و إبراهيم صبر على النار، و إسحاق صبر على الذبح، و يعقوب صبر على فقد الولد و ذهاب البصر و يوسف صبر على البئر و السجن و أيوب صبر على الضر عن مجاهد، و قيل: هم الذين أمروا بالجهاد و القتال و أظهروا المكاشفة و جاهدوا في الدين عن السدي و الكلبي، و قيل: هم أربعة إبراهيم و نوح و هود و رابعهم محمد صلى الله عليه و آله و سلم عن أبي العالية، و العزم هو الوجوب و الحتم و أولو العزم من الرسل هم الذين شرعوا الشرائع و أوجبوا على الناس الأخذ بها و الانقطاع عن غيرها، انتهى.

قوله عليه السلام: لا كفرا به‏

 (1) أي إنكار الحقية بل إيمانا به و بصلاحه في وقت دون الآخر، و للنسخ مصالح كثيرة، و العبد مأمور بالتسليم، و كان من جملتها ابتلاء الخلق و اختبارهم في ترك ما كانوا متمسكين به.

قوله: و منهاجه‏

 (2)، كأنه إشارة إلى قوله تعالى:" لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً".

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 100

باب دعائم الإسلام‏

 (1) قال الجوهري: الدعامة عماد البيت الذي يقوم به.

 (الحديث الأول)

 (2): ضعيف على المشهور.

" بني الإسلام على خمس"

 (3) يحتمل أن يكون المراد بالإسلام الشهادتين، و كأنهما موضوعتان على هذه الخمسة لا تقومان إلا بها، أو المراد بالإسلام الإيمان، و المراد بالبناء عليها كونها أجزاءه و أركانه فحينئذ يمكن أن يكون المراد بالولاية ما يشمل الشهادتين أيضا، أو يكون عدم ذكر الشهادتين لظهورهما، و أما ذكر الولاية التي هي من العقائد الإيمانية مع العبادات الفرعية مع تأخيرها عنها إما للمماشاة مع العامة، أو المراد بالولاية و فور المودة و المتابعة اللتان هما من مكملات الإيمان أو المراد بالأربعة الاعتقاد بها و الانقياد لها، فتكون من أصول الدين لأنها من ضروريات المذهب، و إنكار كل منها كفر و الأول أظهر كما لا يخفى.

" كما نودي بالولاية"

 (4) أي في يوم الغدير كما سيأتي، أو في الميثاق و هو بعيد، و الولاية بالكسر الإمارة و كونه أولى بالحكم و التدبير، و بالفتح المحبة و النصرة و هنا يحتملهما.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 101

 (الحديث الثاني)

 (1): صحيح.

و حدود الإيمان‏

 (2) هنا أعم من أجزائه و شرائطه و مكملاته و الإقرار بما جاء من عند الله إجمالا قبل العلم و تفصيلا بعده كما سيأتي تحقيقه إنشاء الله، و الدخول مع الصادقين متابعة الأئمة الصادقين في جميع الأقوال و الأفعال أي المعصومين كما قال سبحانه:

" وَ كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ" و قد مر الكلام في تلك الآية في كتاب الحجة.

 (الحديث الثالث)

 (3): موثق كالصحيح و قد مر شرحه.

و قال بعضهم يعني أدخل هذه الأعمال في حقيقة الإسلام، و اعتبرت فيه و عد تاركها من الكفار، و

الولاية

 (4) بالفتح بمعنى المحبة و المودة و هي المراد بها في الحديث السابق، و لهذا لم يكتف بها حتى أردفه بقوله و الدخول مع الصادقين، و بالكسر تولي الأمر و مالكية التصرف فيها و هو المراد بها هيهنا، انتهى.

و الظاهر أن‏

" يعني"

 (5) كلام الراوي و يحتمل المصنف على بعد.

 (الحديث الرابع)

 (6): مجهول.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 102

و الأثافي‏

 (1) جمع الأثفية بالضم و الكسر، و هي الأحجار التي توضع عليها القدر و أقلها ثلاثة و إنما اقتصر في هذا الحديث على هذه الثلاث لأنها أهمهن، و اشتراط صحة الصلاة و الزكاة بالولاية ظاهر.

 (الحديث الخامس)

 (2): صحيح.

و لا ريب في أن الولاية و الاعتقاد بإمامة الأئمة عليهم السلام و الإذعان لها من جملة أصول الدين و أفضل من جميع الأعمال البدنية

لأنها مفتاحهن‏

 (3) أي بها تفتح أبواب معرفة تلك الأمور و حقائقها و شرائطها و آدابها، أو مفتاح قبولهن و

الوالي‏

 (4) أي الإمام المنصوب من قبل الله‏

" هو الدليل عليهن"

 (5) يدل من قبل الله الناس على آدابهم و أحكامها و العمود الخشبة التي يقوم عليها البيت، و يمكن أن يكون شبه الدين بالفسطاط و أثبت العمود له على سبيل المكنية و التخييلية، فإذا زال العمود لا ينتفع بالفسطاط لا بغشائه و لا بطنبه و لا بوتده، فكذلك مع ترك الصلاة لا تنتفع بشي‏ء من أجزاء الدين كما صرح بهذا التشبيه في أخبار أخر، و المراد بالصلاة المفروضة أو الخمس كما مر و سيأتي في آخر الخبر ما يدل عليه.

قوله عليه السلام: لأنه قرنها بها

 (6)، استدلال على أن فضل الزكاة بعد الصلاة و قبل غيرها بمجموع مقارنتها في الذكر مع البداءة بذكر الصلاة ثم أكد الجزء الأخير

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 103

بذكر الحديث، و ليس هو دليلا تاما على الأفضلية لأن الحج أيضا يذهب الذنوب إلا أن يقال أنه عليه السلام علم أن الإذهاب الذي يحصل في الزكاة أقوى مما يحصل في الحج ثم استدل عليه السلام على فضل الحج بتسميته تعالى ترك الحج كفرا و ترك ذكر العقاب المترتب عليه، و ذكر الاستغناء الدال على غاية السخط قال البيضاوي:

" لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ"

 (1) أي قصده للزيارة على الوجه المخصوص، و قرأ حمزة و الكسائي و عاصم و في رواية حفص حج بالكسر و هو لغة نجد

" مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا"

 (2) بدل من الناس مخصص له‏

" وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ"

 (3) وضع كفر موضع من لم يحج تأكيدا لوجوبه و تغليظا على تاركه، و لذلك قال صلى الله عليه و آله و سلم: من مات و لم يحج فليمت إن شاء يهوديا أو نصرانيا.

و قد أكد أمر الحج في هذه الآية من وجوه الدلالة على وجوبه بصيغة الخبر و إبرازه في [صورة] الاسمية و إيراده على وجه يفيد أنه حق واجب لله في رقاب الناس و تعميم الحكم أولا و تخصيصه ثانيا فإنه كإيضاح بعد إبهام، و تثنية و تكرير للمراد و تسمية ترك الحج كفرا من حيث أنه فعل الكفرة و ذكر الاستغناء فإنه في هذا الموضع مما يدل على المقت و الخذلان، و قوله: عن العالمين، يدل عليه لما فيه من مبالغة التعميم و الدلالة على الاستغناء عنه بالبرهان، و الإشعار بعظم السخط لأنه تكليف شاق جامع بين كسر النفس و إتعاب البدن و صرف المال و التجرد عن الشهوات و الإقبال على الله.

قوله: من عشرين صلاة نافلة

 (4) فيه دلالة على أن المراد بالصلاة المفضلة في أول الخبر الفريضة.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 104

و اعلم أنه يشكل الجمع بين الأخبار المختلفة الواردة في فضل الصلاة و الحج فقد روى الخاص و العام عن الصادق عليه السلام و عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم: صلاة فريضة خير من عشرين حجة، و حجة خير من بيت مملوء ذهبا يتصدق منه حتى يفنى، و حي على خير العمل في الأذان متواتر، و روي أن الحج أفضل من الصلاة، و الصيام، لأن المصلي يشتغل عن أهله ساعة و أن الصائم يشتغل عن أهله بياض يوم، و إن الحاج يشخص بدنه و يضحي نفسه و ينفق ماله و يطيل الغيبة عن أهله لا في مال يرجوه و لا إلى تجارة و نحو ذلك من الأخبار، مع أنه اشتهر في الرواية إن أفضل الأعمال أحمزها.

و يمكن الجواب عنه بوجوه: الأول: ما يومئ إليه هذا الخبر أن المفضلة من الصلاة الفريضة، و المفضل عليها النافلة أو الحج المفضل هو الفريضة و أن المفضل عليه النافلة، أو المفضلة من الصلاة الفرائض اليومية، و المفضل عليها سائرها كما يرشد إليه تخصيص الأذان و الإقامة المشتملين على حي على خير العمل باليومية.

الثاني: حمل الثواب في الصلاة على التفضلي، و في الحج على الاستحقاقي العرفي لا الواقعي كما حققنا في الكتاب الكبير.

الثالث: أن يراد بالحج الذي فضلت الصلاة عليه، حج سائر الأمم.

الرابع: ما قيل: إن المراد أنه لو صرف زمان الحج و العمرة في الصلاة كان أفضل و لا يخفى عدم جريانه في أكثر الأخبار.

الخامس: أن يقال: أنه يختلف الأحوال و الأشخاص كما نقل أن النبي صلى الله عليه و آله سئل أي الأعمال أفضل؟ فقال: الصلاة لأول وقتها، و سئل أي الأعمال أفضل؟

فقال: بر الوالدين، و سئل أي الأعمال أفضل؟ فقال: حج مبرور، فخص كل سائل بما يليق بحاله من الأعمال فيقال: كان السائل الأول عاجزا عن الحج و لم يكن له والدان فكان الأفضل بحسب حاله الصلاة، و الثاني كان له والدان محتاجان إلى بره فكان الأفضل له ذلك، و كذا الثالث.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 105

السادس: أن يقال: لكل منهما جهة فضل ليس ذلك للآخر و لا يغني شي‏ء منهما من الآخر فإنه إذا كانت الصلاة أفضل الأعمال لا يغني عن الصوم لأن له تأثيرا في الإيمان و كما له ليس في الصلاة كما أن الأغذية البدنية كالخبز و الماء لا يغني شي‏ء منهما عن الآخر فصح أن يقال صلاة واحدة خير من عشرين حجة لأنه يترتب على الصلاة الواحدة أثر لا يترتب ذلك على عشرين حجة، و صح العكس أيضا إذ يؤثر الحج الواحد في النفس أثرا لا يؤثر عشرون صلاة مثله، و قد بسطنا القول في ذلك في كتابنا الكبير.

و أما حديث أفضل الأعمال أحمزها على تقدير تسليم صحته المراد به أن أفضل كل نوع من العمل أحمز ذلك النوع كالوضوء في البرد و في الحر، و الحج ماشيا و راكبا و الصوم في الصيف و الشتاء و أشباهها، و ما قيل: من أن الصلاة مع مقدماتها من معرفة آدابها و تحصيل المسائل المتعلقة بها أحمز من الحج فهو ضعيف فإن للحج أيضا مسائل كثيرة لا يمكن تحصيلها في سنين متطاولة.

و هيهنا إشكال آخر و هو أن الحج مشتمل على الصلاة أيضا، و إن كان مندوبا فالصلاة فيه فرض فما معنى تفضيل الصلاة الفريضة على عشرين حجة.

و أجيب عنه بأن المراد الحج بلا صلاة، و اعترض عليه بأن الحج بلا صلاة باطل فلا فضل له، فكيف يفضل عليه الصلاة؟ و الجواب أن المراد الحج مع قطع النظر عن الصلاة و ثوابها، لا الحج الذي لم تكن معه صلاة، و هذا الإشكال ينحل بكثير من الأجوبة المتقدمة عن الإشكال الأول لا سيما تخصيص الصلاة بالفرائض اليومية فلا تغفل.

قوله: أحصى فيه أسبوعه،

 (1) أي حفظها من غير زيادة و لا نقصان و لا سهو و لا شك‏

" و أحسن ركعتيه"

 (2) أي يفعلهما في وقتهما و مكانهما مع رعاية الشرائط و الكيفيات‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 106

و الآداب المرعية فيهما

" و قال في يوم عرفة و يوم المزدلفة ما قال"

 (1) أشار بذلك إلى ما جاء في ثواب عبادة اليومين و فضل الوقوف بالمشعرين أو فضل الحج و كونه سببا لحط السيئات و رفع الدرجات،

قوله: فما ذا يتبعه‏

 (2)، و في بعض النسخ: بما ذا يتبعه أي الرب أو المكلف، و لا يخفى أن هذا السؤال لا فائدة فيه لأنه مع ذكر الصوم أولا في الأعمال المعدودة و تفضيل ما سواه علم أن الصوم بعدها إلا أن يكون ذلك تمهيدا للسؤال الثاني أو يقال: لما لم يكن كلامه عليه السلام أولا صريحا في كون تلك الأعمال أفضل من غيرها فهذا السؤال لاستعلام أنه هل بين الصوم و الحج عمل يكون أفضل منه.

قوله: قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله‏

 (3)، في بعض النسخ و قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم فيكون من كلام الراوي، أي كيف يكون مؤخرا عنها و قد قال رسول الله صلى الله عليه و آله فيه ذلك و على النسخة الأخرى لعله إنما ذكر عليه السلام حديثا في فضل الصوم رفعا لما عسى أن يتوهم السائل أنه مما لا فضل فيه، أو أنه قليل الأجر و كونه جنة من النار لأن أعظم أسباب النار هو الشهوات، و الصوم يكسرها، و الظرف متعلق بجنة لتضمنه معنى الوقاية أو السر أو التبعيد، و في النهاية فيه:

الصوم جنة

 (4) أي نفي صاحبه مما يؤذيه من الشهوات، و الجنة الوقاية ثم ذكر عليه السلام للفضل قاعدة كلية و هو أن الأفضل ما لم يقم شي‏ء آخر مقامه.

و كان المراد

بالتوبة

 (5) هنا المعنى اللغوي أي الرجوع، أو أطلقت على ما ينوب مناب الشي‏ء مجازا أو أنه عليه السلام لما أطلق الذنب على الشرك و إن كان لعذر أطلق على ما يتداركه التوبة.

قوله: أو قصرت‏

 (6)، يعني في شي‏ء من شرائطه أو أركانه، و الحاصل أنه عليه السلام أشار إلى أقسام الفوت و أحكامه إجمالا، لأن الفوت إما للعذر مثل المرض‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 107

و غيره أو التقصير أو التعمد في تركه، أو السفر و شبهه، و اللازم إما القضاء فقط أو الكفارة فقط أو هما معا أو لا هذا ذاك، و تفصيله في كتب الفروع، و الغرض بيان الفرق بين الصوم و الأربعة الباقية بأن الأربعة لا تسقط مع الاستطاعة و الصوم يسقط في السفر مع القدرة عليه، و ذكر السفر على المثال، و يمكن أن يكون عدم ذكر المرض لأنه قد ينتهي إلى حال لا يقدر على الصوم فيه. و مع السقوط في السفر يؤدي مكانه أياما، و قد يسقط القضاء أيضا كما إذا استمر مرضه إلى رمضان آخر.

و كان فيه دلالة على بطلان قول من قال أن فاقد الطهورين تسقط عنه الصلاة أداء و قضاء و يحتمل أن يكون ذكر الشق الأول استطرادا و يكون الغرض أن الصوم إذا فات قد يجب قضاؤه و قد لا يجب و يسقط أصلا، بخلاف الأربعة فإنها لا تسقط بحيث لا يجب قضاؤها، فقوله: و جزيت مقابل لقوله أديت أي و قد يكون كذلك.

فإن قلت: صلاة الحائض أيضا ليس لها قضاء؟ قلت: هناك لم يتعلق الوجوب بها أصلا لا أداء و لا قضاء و لا بدلا، و هيهنا عوض عن الصوم بشي‏ء، فيدل على أن للصوم عوضا يقوم مقامه.

و

ذروة

 (1) الشي‏ء بالضم و الكسر أعلاه، و سنام البعير كسحاب معروف و يستعار لأرفع الأشياء، و المراد بالأمر الدين، و بطاعة الإمام انقياده في كل أمر و نهي، و لما كان معرفة الإمام مع طاعته مستلزم لمعرفة سائر أصول الدين و فروعه فهي كأنها أرفع أجزائه، و كالسنام بالنسبة إلى سائر أجزاء البعير، و كالمفتاح الذي يفتح به جميع الأمور المغلقة، و المسائل المشكلة و كالباب لقرب الحق سبحانه، و للوصول إلى مدينة علم‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 108

الرسول صلى الله عليه و آله و توجب رضا الرحمن، و لا يحصل إلا بها.

و الضمير في‏

قوله: بعد معرفته‏

 (1) راجع إلى الإمام، و يحتمل رجوعه إلى الله و الاستشهاد بالآية لجميع ما ذكر أو للأخير إما مبني على أن الآية إنما نزلت في ولاية الأئمة عليهم السلام، أو على أن طاعة الإمام هي بعينها طاعة الرسول إما لأنه أمر بطاعته أو أنه نائب منابه، فحكمه حكم المنوب عنه و قيل: لأن الرسول في الآية شامل للإمام و هو بعيد.

قوله عليه السلام: ما كان له على الله حق في ثوابه‏

 (2)، لأنه لا تشمله آيات الوعد لأنه إنما وعد المؤمنين الثواب بالجنة و هو ليس من المؤمنين فلا يستحق الثواب بمقتضى الوعد أيضا و إن كان المؤمنون المحسنون أيضا لا يستحقون الثواب بأصل أعمالهم، لكن يجب على الله إثابتهم بمقتضى وعده.

قوله عليه السلام: أولئك المحسن منهم‏

 (3)، الظاهر أنه إشارة إلى المخالفين، و المراد بهم المستضعفون فإنهم مرجون لأمر الله، و لذا قال:

بفضل رحمته‏

 (4) في مقابلة قوله: ما كان له على الله حق، و الحاصل أن المؤمنين لهم على الله حق لوعده، و المستضعفون ليس لهم على الله حق لأنه لم يعدهم الثواب بل قال: إما يعذبهم و إما يتوب عليهم، فإن أدخلهم الجنة فبمحض فضله، و يحتمل أن يكون إشارة إلى المؤمنين العارفين أي إنما يدخل المؤمنين الجنة و إدخالهم أيضا بفضله لا باستحقاقهم و الأول أظهر.

 (الحديث السادس)

 (5): صحيح بسنديه.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 109

قوله عليه السلام: و لم يضق به،

 (1) الباء للتعدية و من في‏

قوله مما هو فيه‏

 (2)، للتبعيض و هو مع مدخولة فاعل لم يضق أي لم يضيق عليه شي‏ء مما هو فيه، و يمكن أن يقرأ لجهل بالتنوين، و شي‏ء بالرفع، فشي‏ء فاعل لم يضيق، و في بعض النسخ" فيما" مكان" مما" فلعل الأخير فيه متعين، و في بعض النسخ و لم يضر به فيمكن أن يقرأ على بناء المجهول، و

" جهله"

 (3) فعل ماض و من في مما صلة الضرر، أو على بناء الفاعل و جهله على المصدر فاعله، و" من" ابتدائية يقال: ضره و ضربه، و في تفسير العياشي و لم يضره ما هو فيه بجهل شي‏ء من الأمور إن جهله، و قيل: يعني لم يضق أو لم يضر به من أجل ما هو فيه من معرفة دعائم الإسلام و العمل بها جهل شي‏ء جهله من الأمور التي ليست هي من الدعائم، فقوله: مما هو فيه، تعليل لعدم الضيق أو الضرر و قوله: لجهل شي‏ء تعليل للضيق أو الضرر، و قوله: جهله صفة لشي‏ء، و قوله: من الأمور عبارة عن غير الدعائم من شعائر الإسلام، انتهى. و لا يخفى ما فيه.

" و حق في الأموال"

 (4) أما مجرور بالعطف علي ما جاء و الزكاة بدله و يكون تخصيصا بعد التعميم، و ربما يخص ما جاء بالصلاة و الزكاة و سائر الأخبار المتقدمة و هو بعيد، و إما مرفوع بالخبرية للزكاة و الزكاة مبتدأ، و يمكن أن يقرأ حق على بناء الماضي المجهول، و على التقديرين الجملة معترضة للتأكيد و التبيين و إنما لم يذكر الصلاة لظهور أمرها فاكتفى عنها بما جاء به، و أما رفعه بالعطف على الشهادة كما قيل فهو بعيد، لأنه عليه السلام لم يتعرض فيه لسائر العبادات بل اقتصر فيه على الاعتقادات، و قيل: أراد عليه السلام‏

بالولاية

 (5) المأمور بها من الله بالكسر الإمارة و أولوية التصرف، و بالأمر بها ما ورد فيها من الكتاب و السنة كالآية المذكورة في‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 110

هذا الحديث، و كآية" إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ" و حديث الغدير و غير ذلك، أقول: بل الولاية بالفتح بمعنى المحبة و النصرة و الطاعة و اعتقاد الإمامة هنا أنسب كما لا يخفى.

قوله: هل في الولاية شي‏ء دون شي‏ء،

 (1) أقول: هذا الكلام يحتمل وجهين: أحدهما أن يكون المراد هل في الإمامة شرط مخصوص و فضل معلوم يكون في رجل خاص من آل محمد بعينه يقتضي أن يكون هو ولي الأمر دون غيره يعرف هذا الفضل لمن أخذ به أي بذلك الفضل و ادعاه و ادعى الإمامة فيكون من أخذ به الإمام أو يكون معروفا لمن أخذ و تمسك به و تابع إماما بسببه، و يكون حجته على ذلك فالمراد بالموصول الموالي للإمام.

الثاني: أن يكون المراد به هل في الولاية دليل خاص يدل على وجوبها و لزومها فضل أي فضل بيان و حجة و ربما يقرأ بالصاد المهملة أي برهان فاصل قاطع يعرف هذا البرهان لمن أخذ به أي بذلك البرهان، و الأخذ يحتمل الوجهين، و لكل من الوجهين شاهد فيما سيأتي، و يمكن الجمع بين الوجهين بأن يكون قوله شي‏ء دون شي‏ء إشارة إلى الدليل، و قوله: فضل إشارة إلى شرائط الإمامة و إن كان بعيدا و حاصل جوابه أنه لما أمر الله بطاعة أولي الأمر مقرونة بطاعة الرسول و بطاعته فيجب طاعتهم و لا بد من معرفتهم، و

قال الرسول صلى الله عليه و آله: من مات و لم يعرف إمام‏

 (2) زمانه، أي من يجب أن يقتدى به في زمانه،

مات ميتة جاهلية

 (3)، و الميتة بالكسر مصدر للنوع أو كموت أهل الجاهلية على الكفر و الضلال، فدل على أن لكل زمان إماما لا بد من معرفته و متابعته.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 111

" و كان رسول الله"

 (1) أي كان من تجب طاعته في زمن الرسول هو صلى الله عليه و آله‏

و كان بعده صلى الله عليه و آله و سلم عليا،

 (2) و

قال آخرون مكانه معاوية،

 (3) و إنما لم يذكر الغاصبين الثلاثة- تقية و إشعارا بأن القول بخلافتهم بالبيعة يستلزم القول بخلافة مثل معاوية فاسق جاهل كافر، و بالجملة لما كان هذا أشنع خصه بالذكر مع أن بطلان خلافته يستلزم بطلان خلافتهم.

" ثم كان الحسن"

 (4) أي في زمان المعاوية أيضا،

ثم كان الإمام الحسين‏

 (5) في بعض زمن معاوية و بعض زمن يزيد عليهما اللعنة، و حسين بن علي ثانيا كأنه زيد من الرواة أو النساخ، و يؤيده عدم التكرار في رواية الكشي، و يحتمل أن يكون جملة حالية بحذف الخبر أي و حسين بن علي حي، و قد يقرأ حسين بالتنوين فيكون ابن علي خبرا أو يكون ذكره أولا لمقابلته عليه السلام بمعاوية و ثانيا لمقابلته بيزيد، فالمعنى‏

و قال: آخرون: يزيد بن معاوية و الحسين‏

 (6) معارضان، أو الواو بمعنى مع‏

" و لا سواء"

 (7) خبر مبتدإ محذوف، و في بعض النسخ مكرر ثلاث مرات، أي على و معاوية لا سواء، و حسن و معاوية لا سواء و حسين و يزيد لا سواء.

و الحاصل أن الأمر أوضح من أن يشتبه على أحد فإنه لا يريب عاقل في أنه إذا كان لا بد من إمام و تردد الأمر بين علي و معاوية فعلي أولى بالإمامة،

" و كان"

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 112

 (1) في الكل ناقصة لقوله عليا و أبا جعفر و من قال نصب أبا جعفر بتقدير أعني غفل عن ذلك، و لكن في قوله: و كانت الشيعة، و قوله أن يكون أبو جعفر، و قوله حتى كان أبو جعفر تامة، و المراد بالكون في الأخيرين ظهور أمره و رجوع الناس إليه، و قيل: كانت ناقصة و الظرف خبره، و المراد بالناس في الموضعين علماء المخالفين و رواتهم.

" و هكذا يكون الأمر"

 (2) أي هكذا يكون أمر الإمامة دائما مرددا بين معصوم من أهل البيت بين فضله و ورعه و عصمته، و جاهل فاسق بين الجهالة و الفسق من خلفاء الجور

" و الأرض لا تكون إلا بإمام‏

 (3) معصوم" عالم بجميع ما يحتاج إليه الأمة، و من لم يعرفه مات ميتة جاهلية، و

أحوج‏

 (4) مبتدأ مضاف إلى ما، و هي مصدرية و تكون تامة و نسبة الحاجة إلى المصدر مجاز، و المقصود نسبة الحاجة إلى فاعل المصدر باعتبار بعض أحوال وجوده و إلى متعلق بأحوج و

" ما"

 (5) موصولة و عبارة عن التصديق بالولاية

و إذا

 (6)، ظرف و هو خبر أحوج،

" أومأ"

 (7) كلام الراوي وقع بين كلامه عليه السلام.

 (الحديث السابع)

 (8): ضعيف على المشهور.

 (الحديث الثامن)

 (9): مجهول.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 113

 (الحديث التاسع)

 (1): صحيح و هو مختصر من الحديث السادس و الراوي واحد.

و قال أبو الفتح الكراجكي قدس سره في كنز الفوائد: جاء في الحديث من طريق العامة عن عبد الله بن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه و آله قال: من مات و ليس في عنقه بيعة لإمام، أو ليس في عنقه عهد لإمام‏

مات ميتة جاهلية

 (2)، و روى كثير منهم أنه صلى الله عليه و آله قال: من مات و هو لا يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية، و هذان الخبران يطابقان المعنى في قول الله تعالى:" يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَ لا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا".

فإن قال الخصوم: إن الإمام هيهنا هو الكتاب؟ قيل لهم: هذا انصراف عن ظاهر القرآن بغير حجة توجب ذلك و لا برهان، لأن ظاهر التلاوة يفيد أن الإمام في الحقيقة هو المقدم في الفعل و المطاع في الأمر و النهي، و ليس يوصف بهذا الكتاب إلا أن يكون على سبيل الاتساع و المجاز، و المصير إلى الظاهر من حقيقة الكلام أولى، إلا أن يدعو إلى الانصراف عنه الاضطرار، و أيضا فإن أحد الخبرين يتضمن ذكر البيعة و العهد للإمام و نحن نعلم أن لا بيعة للكتاب في أعناق الناس، و لا معنى لأن يكون له عهد في الرقاب، فعلم أن قولكم في الإمام أنه الكتاب غير صواب.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 114

فإن قالوا: ما تنكرون أن يكون الإمام المذكور في الآية هو الرسول صلى الله عليه و آله و سلم؟

قيل لهم: إن الرسول قد فارق الأمة بالوفاة، و في أحد الخبرين أنه إمام الزمان، و هذا يقتضي أنه حي ناطق موجود في الزمان فأما من مضي بالوفاة فليس يقال أنه إمام و إلا لكان إبراهيم عليه السلام إمام زماننا، إلى آخر ما قال رحمه الله.

 (الحديث العاشر)

 (1): ضعيف.

و ضمير

عنه‏

 (2) كأنه راجع إلى عيسى بن السري‏

" إن كنت أقصرت الخطبة"

 (3) الظاهر أن الخطبة بضم الخاء أي ما يتقدم من الكلام المناسب قبل إظهار المطلوب، و كأنه عليه السلام عد خطبة قصيرة مع طولها إعظاما للمسألة و إيذانا بأن هذا المقصود الجليل يستدعي أطول من ذلك من الخطبة، و قيل: إقصاره إياها اكتفاؤه بالاستفهام من غير بيان و إعلام، و منهم من قرأ الخطبة بالكسر مستعارة من خطبة النساء و هو تكلف.

قال في النهاية في الحديث أن أعرابيا جاءه فقال: علمني عملا يدخلني الجنة، فقال: لئن كنت أقصرت الخطبة لقد أعرضت المسألة، أي جئت بالخطبة قصيرة و بالمسألة عريضة، يعني قللت الخطبة و أعظمت المسألة.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 115

" و التسليم لأمرنا"

 (1) أي الرضا قلبا بما يصدر عنهم قولا و فعلا من اختيارهم المهادنة أو القتال أو الظهور أو الغيبة و سائر ما يصدر عنهم مما يعجز العقول عن إدراكه و الأفهام عن استنباط علته كما قال تعالى:" فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً" و

الاجتهاد

 (2) بذل الجهد في الطاعات، و

الورع‏

 (3) الاجتناب عن المعاصي بل الشبهات و المكروهات.

 (الحديث الحادي عشر)

 (4): ضعيف على المشهور.

قوله:" ما لا يسعهم"

 (5) عطف بيان للدين أو مبتدأ

" و ما هو"

 (6) خبره،

قوله: أعد علي‏

 (7) كان الأمر بالإعادة لسماع الحاضرين و إقبالهم إليه أو لإظهار حسن الكلام و التلذذ بسماعه و كأنه يدخل في شهادة التوحيد كلما يتعلق بمعرفة الله من صفات فعله و في شهادة الرسالة ما يتعلق بمعرفة الأنبياء و صفاتهم، و كذا الإقرار بالمعاد داخل في الأولى أو في الثانية لأخبار النبي بذلك،

" و إقام الصلاة"

 (8) حذفت التاء للاختصار، و قيل: المراد بإقامتها إدامتها، و قيل: فعلها على ما ينبغي، و قيل: فعلها في أفضل أوقاتها و قيل: جاء على عرف القرآن في التعبير من فعل الصلاة بلفظ الإقامة دون أخواتها، و ذلك لما اختصت به من كثرة ما يتوقف عليه من الشرائط و الفرائض و السنن و الفضائل، و إقامتها إدامة فعلها مستوفاة جميع ذلك.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 116

أقول: و يمكن أن يكون ذكر الإقامة لتشبيه الصلاة من الإيمان بمنزلة العمود من الفسطاط كما ورد في الخبر، و إنما لم يذكر الجهاد لأنه لا يجب إلا مع الإمام فهو تابع للولاية مندرج تحتها، أو لعدم تحقق شرط وجوبه في ذلك الزمان‏

قوله: مرتين‏

 (1) أي كرر الولاية تأكيدا.

قوله عليه السلام: هذا الذي فرض الله على العباد

 (2) أي علم فرضها ضرورة من الدين‏

" فيقول ألا زدتني"

 (3) بالتشديد حرف تحضيض، و إذا دخل على الماضي يكون للتعبير و التنديم، و كان المعنى أنه لا يسأل عن شي‏ء سوى هذه من جنسها، كما أنه من أتى بالصلوات الخمس لا يسأل الله عن النوافل و من أتى بالزكاة الواجبة لا يسأل عن الصدقات المستحبة و هكذا.

 (الحديث الثاني عشر)

 (4): ضعيف.

قوله عليه السلام: فرخص في أربع‏

 (5) كالتقصير في الصلاة في السفر و تأخيرها عن وقت الفضيلة مع العذر، و ترك كثير من واجباتها في بعض الأحيان، أو سقوط الصلاة عن الحائض و النفساء، و عن فاقد الطهورين أيضا إن قلنا به، و الزكاة عمن لم يبلغ ماله النصاب أو لم يحل عليه الحول، أو لم يتمكن من التصرف فيه أو فقد سائر الشرائط، و الحج عمن لم يستطع أو لم يخل سر به و أشباه ذلك، و الصوم عن المسافر أو الشيخ الكبير أو ذي العطاش و أمثالهم، بخلاف الولاية فإنها مع بقاء التكليف لا يسقط

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 117

وجوبها في حال من الأحوال، و يحتمل أن يراد بالرخصة أنه لا ينتهي تركها إلى حد الكفر و الخلود في النار، بخلاف الولاية فإن تركها كفر و الأول أظهر.

 (الحديث الثالث عشر)

 (1): ضعيف على المشهور.

" صحيفة مخاصم"

 (2) أي مناظر مجادل سائل و في بعض النسخ سئل أي فيها، و يحتمل على هذه النسخة أن يكون مخاصم اسم رجل، و قيل في بعض النسخ: سل فعل أمر يعني لا تناظرني بل سل من غير تعنت و هو أوضح، انتهى.

و أقول: ما رأيت هذه النسخة و في وضوحه خفاء

" و تقر"

 (3) أي و إن تقر

" و الورع"

 (4) أي عن محارم الله‏

" و التواضع"

 (5) أي لله و لأوليائه أو الأعم و انتظار القائم عليه السلام يتضمن العلم بوجوده و ظهوره و عدم الشك فيه و التسليم لغيبته و الصبر على ما يلقاه من الأذى فيها و التمسك بما في يده من آثارهم و الرجوع إلى رواة أخبارهم عليه السلام.

 (الحديث الرابع عشر)

 (6): صحيح.

و في القاموس: التنزه التباعد، و الاسم‏

النزهة

 (7) بالضم، و مكان نزه ككتف و

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 118

نزيه، و أرض نزهة بكسر الزاي و نزيهة بعيدة عن الريف و عمق المياه و ذبان القرى و ومد البحار، و فساد الهواء، نزه ككرم و ضرب نزاهة و نزاهية و الرجل تباعد عن كل مكروه فهو نزيه، و استعمال التنزه في الخروج إلى البساتين و الخضر و الرياض غلط قبيح، و هو بنزهة من الماء بالضم ببعد، انتهى.

و أقول: كفى باستعماله في هذا المعنى ظاهرا شاهدا على صحته بل فصاحته و إن أمكن حمله على بعض المعاني التي صححها مع أنهم عليهم السلام قد كانوا يتكلمون بعرف المخاطبين و مصطلحاتهم تقريبا إلى إفهامهم.

و قال في المصباح قال ابن قتيبة: ذهب أهل العلم في قول الناس خرجوا يتنزهون إلى البساتين أنه غلط و هو عندي ليس بغلط لأن البساتين في كل بلد إنما تكون خارج البلد فإذا أراد أحد أن يأتيها فقد أراد البعد عن المنازل و البيوت، ثم كثر هذا حتى استعملت النزهة في الخضر و الجنان.

قوله: أدين الله‏

 (1) أي أعبد الله و أطيعه بتلك العقائد و الأعمال في السر و العلانية أي بالقلب و اللسان و الجوارح أو في الخلوة و المجامع مع عدم التقية.

" و كف لسانك"

 (2) تخصيص اللسان بالذكر بعد الأمر بالتقوى مطلقا لكون أكثر الشرور منه‏

" و لا تقل إني هديت نفسي"

 (3) أي لا تفسد دينك بالعجب، و اعلم‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 119

أن الهداية من الله سبحانه، و هو نهي عن القول بالتفويض المطلق و إنكار مدخلية هداية الله و توفيقه و خذلانه في الفعل و الترك كما مر تحقيقه‏

" و لا تكن ممن إذا أقبل"

 (1) أي كن من الأخيار ليمدحك الناس في وجهك و قفاك و لا تكن من الأشرار الذين يذمهم الناس في حضورهم و غيبتهم أو أمر بالتقية من المخالفين أو حسن المعاشرة مطلقا.

" و لا تحمل الناس على كاهلك"

 (2) أي لا تسلط الناس على نفسك بترك التقية أو لا تحملهم على نفسك بكثرة المداهنة و المداراة معهم بحيث تتضرر بذلك، كان يضمن لهم و يتحمل عنهم ما لا يطيق أو يطعمهم في أن يحكم بخلاف الحق أو يوافقهم فيما لا يحل، و هذا أفيد و إن كان الأول أظهر، و قال الفيروزآبادي:

الكاهل كصاحب: الحارك، أو مقدم أعلى الظهر مما يلي العنق و هو الثلث الأعلى و فيه ست فقرا، و ما بين الكتفين أو موصل العنق في الصلب، و قال:

الصدع‏

 (3) الشق في شي‏ء صلب، و قال:

الشعب‏

 (4) بالتحريك بعد ما بين المنكبين.

 (الحديث الخامس عشر)

 (5): صحيح.

قوله عليه السلام: ذروة سنامه‏

 (6)، الإضافة بيانية أو لامية إذ للسنام الذي هو ذروة البعير ذروة أيضا هي أرفع أجزائه، و إنما صارت الصلاة أصل الإسلام لأنها بدونها لا يثبت على ساق، و الزكاة فرعه لأنه بدونها لا تتم و قيل: لأنها بدونه لا تصح و لا تقبل، و الجهاد ذروة سنامه لأنه سبب لعلو الإسلام و ارتفاعه، و قيل: لأنه فوق كل بر كما ورد في الخبر، و ذكر من أبواب الخير ثلاثة: أحدها:

الصوم‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 120

 (1) أي الواجب أو الأعم لأنه جنة من النار و مما يؤدي إليها من الشهوات، و ثانيها:

الصدقة

 (2) الواجبة أو الأعم فإنها تكفر الخطايا و تذهبها، و ثالثها:

صلاة الليل‏

 (3) لمدحه تعالى فاعلها

بقوله:" تَتَجافى‏ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ"

 (4) حيث حصر الإيمان فيهم أولا ثم مدحهم بما مدحهم به، ثم عظم و أبهم جزاءهم حيث قال:" إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَ سَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ هُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ، تَتَجافى‏ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ، فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ" و يحتمل أن يكون المراد بأبواب الخير الصوم فقط، فيكون ذكر ما بعده تبرعا، و الأول أظهر.

باب أن الإسلام يحقن به الدم و أن الثواب على الإيمان‏

 (5) يقال: حقن دم فلان أي أنقذه من القتل.

 (الحديث الأول)

 (6): مجهول بل حسن.

و يدل على عدم ترادف الإيمان و الإسلام و أن غير المؤمن من فرق أهل الإسلام لا يستحق الثواب الأخروي أصلا كما هو الحق و المشهور بين الإمامية

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 121

و ستعرف أن كلا من الإسلام و الإيمان يطلق على معان، و ظاهر هذا الخبر أن المراد بالإيمان الإذعان بوجوده تعالى و صفاته الكمالية و بالتوحيد و المعاد و الإقرار بنبوة نبينا صلى الله عليه و آله و سلم و إمامة الأئمة الاثني عشر صلوات الله عليهم، و بجميع ما جاء به النبي ما علم منها تفصيلا و ما لم يعلم إجمالا و عدم الإتيان بما يخرجه عن الدين كعبادة الضم، و الإسلام هو الإذعان الظاهري بالله و برسوله و عدم إنكار ما علم ضرورة من دين الإسلام فلا يشترط فيه ولاية الأئمة عليهم السلام، و لا الإقرار القلبي فيدخل فيه المنافقون و جميع فرق المسلمين ممن يظهر الشهادتين عدا النواصب و الغلاة و المجسمة و من أتى بما يخرجه عن الدين كعبادة الصنم و إلقاء المصحف في القاذورات عمدا و نحو ذلك، و سيأتي تفصيل القول في جميع ذلك إنشاء الله.

 (1) ثم إنه ذكر عليه السلام من الثمرات المترتبة على الإسلام ثلاثة:

الأول: حقن الدم، قال في القاموس: حقنة يحقنه و يحقنه حبسه، و دم الفلان أنقذه من القتل، انتهى.

و ترتب هذه الثمرة على الإسلام الظاهري ظاهر، لأن في صدر الإسلام و زمن الرسول كانوا يكتفون في ترك قتل الكفار بإظهارهم الشهادتين، و بعده صلى الله عليه و آله و سلم لما حصلت الشبهة بين المسلمين و اختلفوا في الإمامة فخرجت عن كونه من ضروريات الدين، فدم المخالفين و سائر فرق المسلمين محفوظة إلا الخوارج و النواصب، فإن ولاية أهل البيت و محبتهم كانت من ضروريات الدين، و إنما الخلاف كان في إمامتهم، و الباغي على الإمام يجب قتله بنص القرآن، و هذا الحكم إنما هو إلى ظهور القائم عليه السلام إذ في ذلك الزمان ترتفع الشبهة و يظهر الحق بحيث لا يبقى لأحد عذر، فحكم منكر الإمامة في ذلك الزمان حكم سائر الكفار في وجوب قتلهم و غير ذلك.

و أما المنافقون المظهرون للعقائد الحقة ظاهرا و المنكرون لها قلبا فيحتمل‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 122

عدم قبول ذلك منهم، لحكمه عليه السلام بعلمه في أكثر الأحكام، و يحتمل قبوله منهم إلى أن يظهر منهم خلافه كما يظهر من أخبار دابة الأرض و أكثر الأخبار في ذلك مجملة.

الثاني:

أداء الأمانة

 (1) و ظاهره عدم وجوب رد وديعة من لم يظهر الإسلام، و هو خلاف المشهور و سائر الأخبار، فإن المشهور بين الأصحاب وجوب رد الوديعة و لو كان المودع كافرا، و قال أبو الصلاح: إن كان حربيا وجب أن يحتمل ما أودعه إلى سلطان الإسلام، و يدل كثير من الأخبار على الأول، فيمكن حمل الخبر على أن الرد على المسلم آكد أو أنه مما يحكم به أهل الإسلام. أو المراد بالأمانة غير الوديعة مما حصل من أمواله في يد غيره، أو المراد أن الإسلام يصير سببا لأن يؤدي الأمانات إلى أهلها و في الكل تكلف، و الحمل على مذهب أبي الصلاح (ره) أيضا يحتاج إلى تكلف لأنه أيضا يوجب رد أمانة الذمي، فيمكن أن يقال: رد أمانة الذمي أيضا بسبب الإسلام إذ هو بسبب أنه في أمان المسلمين و ذمتهم.

قال بعض الأفاضل: إن قيل: أداء أمانة الكافر أيضا واجب فلم خص بالمسلم؟

قلنا: إنما يجب أداء أمانة الكافر إذا صار في حكم المسلم بالذمة.

الثالث:

استحلال الفرج‏

 (2) بالإسلام، فيدل ظاهرا على عدم جواز نكاح الكافرة مطلقا بل بملك اليمين أيضا إلا ما خرج بالدليل، و كذا إنكاح الكافر، و على جواز نكاح المسلمة مطلقا و كذا نكاح المسلم من أي الفرق كان.

أما الأول، فلا خلاف في عدم نكاح المسلم غير الكتابية و في تحريم الكتابية أقوال: التحريم مطلقا، و جواز متعة اليهودية و النصرانية اختيارا، و الدوام اضطرارا، و عدم جواز العقد بحال، و جواز ملك اليمين و جواز المتعة و ملك اليمين لليهودية و النصرانية، و تحريم الدوام كما هو مختار أكثر المتأخرين تحريم نكاحهن مطلقا اختيارا، و تجويزه مطلقا اضطرارا، و تجويز الوطء بملك اليمين‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 123

الجواز مطلقا كما ذهب إليه الصدوق، و في المجوسية اختلاف في الأقوال و الروايات و الأقرب جواز وطيها بملك اليمين، و الأحوط الترك في غير ذلك و إذا أسلم زوج الكتابية فهو على نكاحه و إن لم يدخل بها.

و أما الثاني و هو تزويج غير المؤمن من فرق المسلمين فالمشهور اعتبار الإيمان في جانب الزوج دون الزوجة، و ذهب جماعة إلى عدم اعتباره مطلقا، و الاكتفاء بمجرد الإسلام و لا يخلو من قوة في زمان الهدنة، و لا يصح نكاح الناصب المبغض لأهل البيت عليهم السلام مطلقا.

ثم ذكر عليه السلام‏

ثمرة الإيمان‏

 (1) و هو ترتب الثواب على أعماله في الآخرة فغير المؤمن الاثني عشري المصدق قلبا لا يترتب على شي‏ء من أعماله ثواب في الآخرة و يلزمه الخلود في النار كما مر و سيأتي أيضا إنشاء الله.

 (الحديث الثاني)

 (2): حسن كالصحيح.

و يدل على اصطلاح آخر للإيمان و الإسلام و هو أن‏

الإسلام‏

 (3) نفس العقائد مع العمل بمقتضاها من الإتيان بالفرائض و ترك الكبائر و هذا اصطلاح آخر غير الاصطلاح المتقدم، و ربما يأول هذا الخبر بأن المراد

بالإقرار

 (4) الإقرار بالشهادتين و بالعمل عمل القلب و هو التصديق بجميع ما أتى به النبي صلى الله عليه و آله و سلم أو بأن المراد بالإقرار ترك الإيذاء و الإنكار، و المراد بالعمل العمل الصحيح، و الحمل فيهما على المجاز أي الإيمان سبب لأن يقر على دينه و لا يؤذى و يحكم عليه بأحكام المسلمين و سبب لصحة أعماله بخلاف الإسلام فإنه يصير سببا للأول دون الثاني، و لا يخفى بعده، و يحتمل أن يكون المراد بالإقرار إظهار الشهادتين، و بالعمل ما يقتضيه من التصديق بجميع ما جاء به النبي صلى الله عليه و آله و سلم، و منها الولاية فيرجع إلى الخبر الأول.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 124

 (الحديث الثالث)

 (1): صحيح.

" قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا"

 (2) قال البيضاوي: نزلت في نفر من بني أسد، قدموا المدينة في سنة جدبة و أظهروا آله الشهادتين، و كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه و آله و سلم:

أتيناك بالأثقال و العيال و لم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان، يريدون الصدقة و يمنون‏

" قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا"

 (3) إذ الإيمان تصديق مع ثقة و طمأنينة قلب و لم يحصل لكم و إلا لما مننتم على الرسول صلى الله عليه و آله و سلم بالإسلام و ترك المقاتلة كما دل عليه آخر السورة

" وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا"

 (4) فإن الإسلام انقياد و دخول في السلم و إظهار الشهادتين و ترك المحاربة يشعر به‏

" وَ لَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ"

 (5) توقيت لقولوا، فإنه حال عن ضميره أي و لكن قولوا أسلمنا و لم تواطى‏ء قلوبكم ألسنتكم بعد.

و قال الطبرسي قدس سره:" قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا" أي صدقنا بما جئت به" قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا" أي لم تصدقوا على الحقيقة في الباطن" وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا" أي أنقذنا و استسلمنا مخافة السبي و القتل، ثم بين سبحانه أن الإيمان محله القلب دون اللسان فقال:" وَ لَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ" قال الزجاج: الإسلام إظهار الخضوع و القبول لما أتى به الرسول و بذلك يحقن الدم، فإن كان مع ذلك الإظهار اعتقاد و تصديق بالقلب فذلك الإيمان و صاحبه المسلم المؤمن حقا، فأما من أظهر قبول الشريعة و استسلم لدفع المكروه فهو في الظاهر مسلم و باطنه غير مصدق و قد أخرج هؤلاء من الإيمان بقوله:" وَ لَمَّا يَدْخُلِ" إلى آخره، أي لم تصدقوا بعد ما أسلمتم تعوذا من القتل فالمؤمن مبطن من التصديق مثل ما يظهر، و المسلم التام الإسلام مظهر للطاعة، و هو مع ذلك مؤمن بها، و الذي أظهر الإسلام تعوذا من القتل غير مؤمن بالحقيقة إلا أن حكمه في الظاهر حكم المسلمين، انتهى.

و بالجملة هذه الآية مما استدل به القائلون بعدم ترادف الإسلام و الإيمان،

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 125

و أجاب بعضهم بأن المراد بالإسلام هنا الاستسلام و الانقياد الظاهري و هو غير المعنى المصطلح، و الجواب أن الأصل في الإطلاق الشرعي الحقيقة الشرعية، و صرفه عنها يحتاج إلى دليل و استدل أيضا بها على أن الإيمان هو التصديق فقط لنسبته إلى القلب، و الجواب أنها لا تنفي اشتراط الإيمان القلبي بعمل الجوارح، و إنما تنفي الجزئية، مع أن فيه أيضا كلاما.

 (الحديث الرابع)

 (1): مجهول.

و كان تأخير الجواب للتقية و المصلحة، و في القاموس:

أزف‏

 (2) الترحل كفرح أزفا و أزوفا: دنا.

و يظهر من الخبر أن بين الإيمان و

الإسلام‏

 (3) فرقين: أحدهما أن الإسلام هو الانقياد الظاهري، و لا يعتبر فيه التصديق و الإذعان القلبي بخلاف‏

الإيمان‏

 (4)، فإنه يعتبر فيه الاعتقاد القلبي بل القطعي كما سيأتي، و ثانيهما: اعتبار الاعتقاد بالولاية، و ذكر الأعمال إما بناء على اشتراط الإيمان بالأعمال أو على أن المراد الاعتقاد

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 126

بها كما عرفت، و يرشد إليه‏

قوله: فإن أقر بها

 (1)، أو الغرض بيان العقائد و جل الأعمال المشتركة بين أهل الإسلام و الإيمان، و الوصف بالضلال و عدم إطلاق الكفر عليهم إما للتقية في الجملة، أو لعدم توهم كونهم في الأحكام الدنيوية في حكم الكفار.

 (الحديث الخامس)

 (2): موثق كالصحيح.

قوله: فمن زعم،

 (3) تنبيه على مغايرة المفهومين و تحقق مادة الافتراق بينهما، و عموم الإسلام بالنسبة إلى الإيمان.

 (الحديث السادس)

 (4): حسن على الأصح و قد مر شرحه.

تحقيق و تبيين‏

اعلم أن الذي ظهر لنا من مجموع الآيات المتضافرة و الأخبار المتكاثرة الواردة في الإيمان و الإسلام و حقائقهما و شرائطهما أن لكل منهما إطلاقات كثيرة في الكتاب و السنة و لكل منهما فوائد و ثمرات تترتب عليه.

فالأول من معاني الإيمان مجموع العقائد الحقة و الأصول الخمسة، و الثمرة المترتبة عليه في الدنيا الأمان من القتل و نهب الأموال و الإهانة إلا أن يأتي بقتل أو فاحشة يوجب القتل أو الحد أو التعزير، و في الآخرة صحة أعماله و استحقاق الثواب عليها في الجملة، و عدم الخلود في النار، و استحقاق العفو و الشفاعة، و يدخل‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 127

في الكفر المقابل لهذا الإيمان من سوى الفرقة الناجية الإمامية من فرق الإسلام و غيرهم، فإنهم مخلدون في النار سوى المستضعفين منهم كما سيأتي.

الثاني: الاعتقادات المذكورة مع الإتيان بالفرائض التي ظهر وجوبها من القرآن و ترك الكبائر التي أو عد الله عليها النار، و على هذا المعنى أطلق الكافر على تارك الصلاة و تارك الزكاة و أشباههم، و ورد: لا يزني الزاني و هو مؤمن، و لا يسرق السارق و هو مؤمن، و ثمرة الإيمان عدم استحقاق الإذلال و الإهانة و العذاب في الدنيا و الآخرة. الثالث: العقائد المذكورة مع فعل جميع الواجبات و ترك جميع المحرمات، و ثمرته اللحوق بالمقربين و الحشر مع الصديقين و تضاعف المثوبات و رفع الدرجات الرابع: ما ذكر مع ضم فعل المندوبات و ترك المكروهات بل المباحات كما ورد في أخبار صفات المؤمن، و بهذا المعنى يختص بالأنبياء و الأوصياء كما ورد في الأخبار الكثيرة تفسير المؤمنين في الآيات بالأئمة الطاهرين صلوات الله عليهم، و قد ورد في تفسير قوله سبحانه:" وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَ هُمْ مُشْرِكُونَ" أن جميع معاصي الله بل التوسل بغيره سبحانه داخلة في الشرك المذكور في هذه الآية، و ثمرة هذا الإيمان أنه يؤمن على الله فيجيز أمانه، و أنه لا يرد الله دعوته و سائر ما ورد في درجاتهم عليهم السلام و منازلهم عند الله تعالى.

و أما الإسلام فيطلق غالبا على التكلم بالشهادتين و الإقرار الظاهري و إن لم يقترن بالإذعان القلبي و لا بالإقرار بالولاية كما عرفت سابقا، و ثمرته إنما تظهر في الدنيا من حقن دمه و ماله، و جواز نكاحه و استحقاقه الميراث و سائر الأحكام الظاهرة للمسلمين، و ليس له في الآخرة من خلاق، و قد يطلق على كل من معاني الإيمان حتى المعنى الأخير، فيكون بمعنى الاستسلام و الانقياد التام.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 128

ثم إن الآيات و الأخبار الدالة على دخول الأعمال في الإيمان يحتمل وجوها:

الأول أن يحمل على ظواهرها و يقال: إن العمل داخل في حقيقة الإيمان على بعض المعاني.

الثاني: أن يكون الأيمان أصل العقائد لكن تسميتها إيمانا مشروطة بالأعمال.

الثالث: أن يقال بزيادة الإيمان و تفاوته شدة و ضعفا، و تكون الأعمال كثرة و قلة كاشفة عن حصول كل مرتبة من تلك المراتب فإنه لا شك أن لشدة اليقين مدخلا في كثرة الأعمال الصالحة و ترك المناهي، و قد بسطنا الكلام في ذلك قليلا في كتاب عين الحياة، و سيتضح لك بعض ما ذكرنا في تضاعيف الأخبار الآتية، و لنذكر هنا بعض ما ذكره أصحابنا في حقيقة الإيمان و الإسلام و معانيهما و شرائطهما:

قال المحقق الطوسي قدس سره القدوسي في قواعد العقائد: المسألة الخامسة:

فيما به يحصل استحقاق الثواب و العقاب، قالوا: الإسلام أعم في الحكم من الإيمان، و هما في الحقيقة شي‏ء واحد أما كونه أعم فلأن من أقر بالشهادتين كان حكمه حكم المسلمين" قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا" و أما كون الإسلام في الحقيقة هو الإيمان فلقوله تعالى:" إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ" و اختلفوا في معناه فقال بعض السلف: الإيمان إقرار باللسان و تصديق بالقلب و عمل صالح بالجوارح، و قالت المعتزلة: أصول الإيمان خمسة: التوحيد و العدل و الإقرار بالنبوة و بالوعد و الوعيد و القيام بالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و قال الشيعة: أصول الإيمان ثلاثة التصديق بوحدانية الله عز و جل في ذاته، و العدل في أفعاله، و التصديق بنبوة الأنبياء و التصديق بإمامة الأئمة المعصومين، و التصديق بالأحكام التي يعلم يقينا أنه صلى الله عليه و آله و سلم حكم بها دون ما فيه الخلاف و الاستتار، و الكفر يقابل الإيمان، و الذنب يقابل العمل الصالح و ينقسم إلى كبائر و صغائر، و يستحق‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 129

المؤمن بالإجماع الخلود في الجنة و يستحق الكافر الخلود في العذاب و صاحب الكبيرة عند الخوارج كافر، لأنهم جعلوا العمل الصالح جزءا من الإيمان، و عند غيرهم فاسق، و المؤمن عند المعتزلة و الوعيدية لا يكون فاسقا و جعلوا الفاسق الذي لا يكون كافرا منزلة بين المنزلتين الإيمان و الكفر، و هو عندهم يكون في النار خالدا و عند غيرهم المؤمن قد يكون فاسقا و قد لا يكون، و تكون عاقبة الأمر على التقديرين الخلود في الجنة.

و قال (ره) في التجريد: الإيمان التصديق بالقلب و اللسان و لا يكفي الأول لقوله تعالى:" وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ" و نحوه، و لا الثاني لقوله تعالى:" قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا" و الكفر عدم الإيمان إما مع الضد أو بدونه، و الفسق الخروج عن طاعة الله تعالى مع الإيمان به، و النفاق إظهار الإيمان به و إخفاء الكفر، و الفاسق مؤمن لوجود حده فيه.

و قال العلامة نور الله ضريحه في الشرح: الناس في الإيمان على وجوه كثيرة و ليس هنا موضع ذكرها، و الذي اختاره المصنف (ره) أنه عبارة عن التصديق بالقلب و اللسان معا و لا يكفي أحدهما فيه، أما التصديق القلبي فإنه غير كاف لقوله تعالى:

" وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ" و قوله تعالى:" فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ" فأثبت لهم المعرفة و الكفر، أما التصديق اللساني فإنه غير كاف أيضا لقوله تعالى:

" قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا" الآية، و لا شك في أن أولئك الأعراب صدقوا بألسنتهم و قال (ره): الكفر في اللغة هو التغطية، و في العرف الشرعي هو عدم الإيمان أما مع الضد بأن يعتقد فساد ما هو شرط الإيمان، أو بدون الضد كالشاك الخالي من‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 130

الاعتقاد الصحيح و الباطل و الفسق لغة الخروج مطلقا، و في الشرع عبارة عن الخروج عن طاعة الله تعالى فيما دون الكفر، و النفاق في اللغة هو إظهار خلاف الباطن، و في الشرع إظهار الإيمان و إبطان الكفر، و اختلف الناس في الفاسق فقالت المعتزلة:

أن الفاسق لا مؤمن و لا كافر، و أثبتوا له منزلة بين المنزلتين، و قال الحسن البصري: أنه منافق و قالت الزيدية: أنه كافر نعمة، و قالت الخوارج: أنه كافر و الحق ما ذهب إليه المصنف و هو مذهب الإمامية و المرجئة و أصحاب الحديث و جماعة الأشعرية أنه مؤمن، و الدليل عليه أن حد المؤمن و هو المصدق بقلبه و لسانه في جميع ما جاء به النبي صلى الله عليه و آله و سلم موجود فيه، فيكون مؤمنا، انتهى.

و قال الشيخ المفيد قدس سره في كتاب المسائل: اتفقت الإمامية على أن مرتكب الكبائر من أهل المعرفة و الإقرار لا يخرج بذلك عن الإسلام، و أنه مسلم و إن كان فاسقا بما معه من الكبائر و الآثام و وافقهم على هذا القول المرجئة كافة و أصحاب الحديث قاطبة، و نفر من الزيدية، و أجمعت المعتزلة على خلاف ذلك و زعموا أن مرتكب الكبائر ممن ذكرناه فاسق ليس بمؤمن و لا مسلم.

و قال قدس سره: اتفقت الإمامية على أن الإسلام غير الإيمان، و أن كل مؤمن فهو مسلم و ليس كل مسلم مؤمنا، و أن الفرق بين هذين المعنيين في الدين كما كان في اللسان، و وافقهم على هذا القول المرجئة و أصحاب الحديث، و أجمعت المعتزلة على عدم الفرق بينهما.

و قال الشهيد الثاني قدس سره في رسالة الإيمان: اعلم أن الإيمان لغة التصديق كما نص عليه أهلها، و هو أفعال من الأمن بمعنى سكون النفس و اطمئنانها لعدم ما يوجب الخوف لها و حينئذ فكان حقيقة آمن به سكنت نفسه و اطمأنت بسبب قبول قوله، و امتثال أمره، فتكون الباء للسببية و يحتمل أن يكون بمعنى أمنه التكذيب و المخالفة كما ذكره بعضهم، فتكون الباء فيه زائدة، و الأول أولى كما لا يخفى‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 131

و أوفق لمعنى التصديق، و هو يتعدى باللام كقوله تعالى:" وَ ما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا"" فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ" و بالباء كقوله تعالى:" آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ" و أما التصديق فقد قيل: أنه القبول و الإذعان بالقلب كما ذكره أهل الميزان و يمكن أن يقال:

معناه قبول الخير أعم من أن يكون بالجنان أو باللسان، و يدل عليه قوله تعالى:

" قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا" فأخبروا عن أنفسهم بالإيمان و هم من أهل اللسان، مع أن الواقع منهم هو الاعتراف باللسان دون الجنان لنفيه عنهم بقوله تعالى:" قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا" و إثبات الاعتراف بقوله تعالى:" وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا" الدال على كونه إقرارا بالشهادتين، و قد سموه إيمانا بحسب عرفهم، و الذي نفاه الله عنهم إنما هو الإيمان في عرف الشرع، و أما الإيمان الشرعي فقد اختلف في بيان حقيقة العبارات بسبب اختلاف الاعتبارات، و بيان ذلك أن الإيمان شرعا إما أن يكون من أفعال القلوب فقط أو من أفعال الجوارح فقط أو منهما معا، فإن كان الأول فهو التصديق بالقلب فقط و هو مذهب الأشاعرة و جمع من متقدمي الإمامية و متأخريهم و منهم المحقق الطوسي (ره) في فصوله لكن اختلفوا في معنى التصديق فقال أصحابنا: هو العلم و قال الأشعرية: هو التصديق النفساني و عنوا به أنه عبارة عن ربط القلب على ما علم من أخبار المخبر فهو أمر كسبي يثبت باختيار المصدق و لذا يثاب عليه بخلاف العلم و المعرفة فإنها ربما تحصل بلا كسب كما في الضروريات و قد ذكر حاصل ذلك بعض المحققين فقال: التصديق هو أن تنسب باختيارك الصدق إلى المخبر حتى لو وقع ذلك في القلب من غير اختيار لم يكن تصديقا و إن كان‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 132

معرفة و سنبين إنشاء الله تعالى قصور ذلك، و إن كان الثاني فإما أن يكون عبارة عن التلفظ بالشهادتين فقط و هو مذهب الكرامية أو عن جميع أفعال الجوارح من الطاعات بأسرها فرضا و نفلا و هو مذهب الخوارج و قدماء المعتزلة و العلاف و القاضي عبد الجبار أو عن جميعها من الواجبات و ترك المحظورات دون النوافل و هو مذهب أبي علي الجبائي و ابنه أبي هاشم و أكثر معتزلة البصرة، و إن كان الثالث فهو إما أن يكون عبارة عن أفعال القلوب مع جميع أفعال الجوارح من الطاعات و هو قول المحدثين و جمع من السلف كابن مجاهد و غيره فإنهم قالوا أن الإيمان تصديق بالجنان و إقرار باللسان و عمل بالأركان، أو يكون عبارة عن التصديق مع كلمتي الشهادة، و نسب إلى طائفة منهم أبو حنيفة، أو يكون عبارة عن التصديق بالقلب مع الإقرار باللسان و هو مذهب المحقق نصير الدين الطوسي (ره) في تجريده، فهذه سبعة مذاهب، ذكرت في الشرح الجديد و غيره، و اعلم أن مفهوم الإيمان على المذهب الأول يكون تخصيصا للمعنى اللغوي، و أما على المذاهب الباقية فهو منقول و التخصيص خير من النقل.

و هنا بحث و هو أن القائلين بأن الإيمان عبارة عن فعل الطاعات كقدماء المعتزلة و العلاف و الخوارج لا ريب أنهم يوجبون اعتقاد مسائل الأصول و حينئذ فما الفرق بينهم و بين القائلين بأنه عبارة عن أفعال القلوب و الجوارح؟ و يمكن الجواب بأن اعتقاد المعارف شرط عند الأولين و شطر عند الآخرين.

ثم قال: اعلم أن المحقق الطوسي قدس سره ذكر في قواعد العقائد أن أصول الإيمان عند الشيعة ثلاثة ثم ذكر ما نقلنا عنه سابقا ثم قال: و ذكر في شرح الجديد للتجريد أن الإيمان في الشرع عند الأشاعرة هو التصديق للرسول فيما علم مجيئه به ضرورة فتفصيلا فيما علم تفصيلا، و إجمالا فيما علم إجمالا، فهو في الشرع تصديق خاص، انتهى.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 133

فهؤلاء اتفقوا على أن حقيقة الإيمان هي التصديق فقط، و إن اختلفوا في مقدار المصدق به، و الكلام هيهنا في مقامين: الأول: في أن التصديق الذي هو الإيمان المراد به اليقيني الجازم الثابت كما يظهر من كلام من حكينا عنه، و الثاني: في أن الأعمال ليست جزءا من حقيقة الإيمان الحقيقي، بل هي جزء من الإيمان الكمالي، أما الدليل على الأول فآيات بينات منها قوله تعالى:" إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً" و الإيمان حق بالنص و الإجماع، فلا يكفي في حصوله و تحققه الظن، و منها" إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ"" إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ" و" إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ" فهذه قد اشتركت في التوبيخ على اتباع الظن، و الإيمان لا يوبخ من حصل له بالإجماع فلا يكون ظنا و منها قوله تعالى:" إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا" فنفى عنهم الريب فيكون الثابت هو اليقين، و في العرف يطلق عدم الريب على اليقين.

و من السنة المطهرة قوله صلى الله عليه و آله و سلم: يا مقلب القلوب و الأبصار ثبت قلبي على دينك، و الثبات هو الجزم و المطابقة، و فيه منع لم لا يجوز أن يكون طلبه عليه السلام لأنه الفرد الأكمل.

و من الدلائل أيضا الإجماع حيث ادعى بعضهم أنه يجب معرفة الله تعالى التي لا يتحقق الإيمان إلا بها بالدليل إجماعا من العلماء كافة، و الدليل ما أفاد العلم، و الظن لا يفيده، و في صحة دعوى الإجماع بحث لوقوع الخلاف في جواز التقليد في المعارف الأصولية كما سنذكره إنشاء الله تعالى.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 134

و اعلم أن جميع ما ذكرنا من الأدلة لا يفيد شي‏ء منه العلم بأن الجزم و الثبات معتبر في التصديق الذي هو الإيمان، إنما يفيد الظن باعتبارهما لأن الآيات قابلة للتأويل، و غيرها كذلك مع كونها من الآحاد.

ثم قال رفع الله درجته: اعلم أن العلماء أطبقوا على وجوب معرفة الله بالنظر و أنها لا تحصل بالتقليد إلا من شذ منهم كعبد الله بن الحسن العنبري و الحشوية و التعليمية حيث ذهبوا إلى جواز التقليد في العقائد الأصولية كوجود الصانع و ما يجب له و يمتنع و النبوة و العدل و غيرها، بل ذهب بعضهم إلى وجوبه، لكن اختلف القائلون بوجوب المعرفة أنه عقلي أو سمعي فالإمامية و المعتزلة على الأول و الأشعرية على الثاني، و لا غرض لنا هنا ببيان ذلك بل ببيان أصل الوجوب المتفق عليه. ثم استدل بوجوب شكر المنعم عقلا و شكره على وجه يليق بكمال ذاته، يتوقف على معرفته، و هي لا تحصل بالظنيات كالتقليد و غيره، لاحتمال كذب المخبر و خطأ الأمارة، فلا بد من النظر المفيد للعلم ثم قال: هذا الدليل إنما يستقيم على قاعدة الحسن و القبح، و الأشاعرة ينكرون ذلك لكن كما يدل على وجوب المعرفة بالدليل يدل أيضا على كون الوجوب عقليا و اعترض أيضا بأنه مبني على وجوب ما لا يتم الواجب المطلق إلا به، و فيه أيضا منوع الأشاعرة، و من ذلك أن الأمة أجمعت على وجوب المعرفة، و التقليد و ما في حكمه لا يوجب العلم إذ لو أوجبه لزم اجتماع الضدين في مثل تقليد من يعتقد حدوث العالم و يعتقد قدمه، و قد اعترض على هذا بمنع الإجماع كيف و المخالف معروف، بل عورض بوقوع الإجماع على خلافه، و ذلك لتقرير النبي صلى الله عليه و آله و سلم و أصحابه العوام على إيمانهم، و هم الأكثرون في كل عصر مع عدم الاستفسار عن الدلائل الدالة على الصانع و صفاته، مع أنهم كانوا لا يعلمونها و إنما كانوا مقرين باللسان و مقلدين في المعارف، و لو كانت المعرفة واجبة لما جاز تقريرهم على ذلك، مع الحكم بإيمانهم، و أجيب عن هذا بأنهم كانوا

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 135

يعلمون الأدلة إجمالا كدليل الأعرابي حيث قال: البعرة تدل على البعير، و أثر الإقدام على المسير، أ فسماء ذات أبراج و أرض ذات فجاج لا تدلان على اللطيف الخبير، فلذا أقروا و لم يسألوا عن اعتقاداتهم أو أنهم كان يقبل منهم ذلك للتمرين ثم يبين لهم ما يجب عليهم من المعارف بعد حين.

و من ذلك الإجماع على أنه لا يجوز تقليد غير المحق و إنما يعلم المحق من غيره بالنظر في أن ما يقوله حق أم لا و حينئذ فلا يجوز له التقليد إلا بعد النظر و الاستدلال، و إذا صار مستدلا امتنع كونه مقلدا فامتنع التقليد في المعارف الإلهية و نقض ذلك بلزوم مثله في الشرعيات فإنه لا يجوز تقليد المفتي إلا إذا كانت فتياه عن دليل شرعي، فإن اكتفي في الاطلاع على ذلك بالظن و إن كان مخطئا في نفس الأمر لحط ذلك عنه فليجر مثله في مسائل الأصول.

و أجيب بالفرق بأن الخطأ في مسائل الأصول يقتضي الكفر، بخلافه في الفروع فساغ في الثانية ما لم يسغ في الأولى.

احتج من أوجب التقليد في مسائل الأصول بأن العلم بالله تعالى غير ممكن لأن المكلف به إن لم يكن عالما به تعالى استحال أن يكون عالما بأمره و حال امتناع كونه عالما بأمره يمتنع كونه مأمورا من قبله و إلا لزم تكليف ما لا يطاق و إن كان عالما به استحال أيضا أمره بالعلم به لاستحالة تحصيل الحاصل؟ و الجواب عن ذلك على قواعد الإمامية و المعتزلة ظاهر، فإن وجوب النظر و المعرفة عندهم عقلي لا سمعي، نعم يلزم ذلك على قواعد الأشاعرة إذ الوجوب عندهم سمعي.

أقول: و يجاب أيضا معارضة بأن هذا الدليل كما يدل على امتناع العلم بالمعارف الأصولية يدل على امتناع التقليد فيها أيضا فينسد باب المعرفة بالله تعالى و كل من يرجع إليه في التقليد لا بد و أن يكون عالما بالمسائل الأصولية ليصح تقليده، ثم يجري الدليل فيه فيقال: علم هذا الشخص بالله تعالى غير ممكن لأنه‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 136

حين كلف به إن لم يكن عالما به تعالى استحال أن يكون عالما بأمره بالمقدمات، و كلما أجابوا به فهو جوابنا، و لا مخلص لهم إلا أن يعترفوا بأن وجوب المعرفة عقلي فيبطل ما ادعوه من أن العلم بالله تعالى غير ممكن، أو سمعي فكذلك.

فإن قيل: ربما يحصل العلم لبعض الناس بتصفية النفس أو إلهامه إلى غير ذلك فيقلده الباقون؟ قلنا: هذا أيضا يبطل قولكم إن العلم بالله تعالى غير ممكن، نعم ما ذكروه يصلح أن يكون دليلا على امتناع المعرفة بالسمع فيكون حجة على الأشاعرة لا دليلا على وجوب التقليد.

و احتجوا أيضا بأن النهي عن النظر قد ورد في قوله تعالى:" ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا" و النظر يفتح باب الجدال فيحرم، و لأنه عليه السلام رأى الصحابة يتكلمون في مسألة القدر فنهاهم عن الكلام فيها، و قال: إنما هلك من كان قبلكم بخوضهم في هذا، و لقوله عليه السلام: عليكم بدين العجائز، و المراد ترك النظر، فلو كان واجبا لم يكن منهيا عنه.

و أجيب عن الأول بأن المراد الجدال بالباطل كما في قوله تعالى:" وَ جادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ" لا الجدال بالحق لقوله تعالى:" وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" و الأمر بذلك يدل على أن الجدال مطلقا ليس منهيا عنه، و عن الثاني بأن نهيهم عن الكلام في مسألة القدر على تقدير تسليمه لا يدل على النهي عن مطلق النظر، بل عنه في مسألة القدر، كيف و قد ورد الإنكار على تارك النظر في قوله تعالى:" أَ وَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ" و قد أثنى على فاعله في قوله‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 137

" وَ يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ" على أن نهيهم عن الخوض في القدر لعله لكونه أمرا غيبيا و بحرا عميقا كما أشار إليه علي عليه السلام بقوله: بحر عميق فلا تلجه، بل كان مراد النبي صلى الله عليه و آله و سلم التفويض في مثل ذلك إلى الله تعالى، لأن ذلك ليس من الأصول التي يجب اعتقادها، و البحث عنها مفصلة.

و هيهنا جواب آخر عنهما معا، و هو أن النهي في الآية و الحديث مع قطع النظر عما ذكرناه إنما يدل على النهي عن الجدال الذي لا يكون إلا من متعدد بخلاف النظر فإنه يكون من واحد، فهو نصب الدليل على غير المدعى.

و عن الثالث بالمنع من صحة نسبته إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم فإن بعضهم ذكر أنه من مصنوعات سفيان الثوري فإنه روى أن عمر بن عبد الله المعتزلي قال: إن بين الكفر و الإيمان منزلة بين المنزلتين فقالت عجوز: قال الله تعالى:" هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَ مِنْكُمْ مُؤْمِنٌ" فلم يجعل من عباده إلا الكافر و المؤمن، فسمع سفيان كلامها فقال: عليكم بدين العجائز.

على أنه لو سلم فالمراد به التفويض إلى الله تعالى في قضائه و حكمه و الانقياد له في أمره و نهيه.

و احتج من جوز التقليد بأنه لو وجب النظر في المعارف الإلهية لوجد من الصحابة، إذ هم أولى به من غيرهم لكنه لم يوجد و إلا لنقل عنهم كما نقل عنهم النظر و المناظرة في المسائل الفقهية فحيث لم ينقل لم يقع فلم يجب.

و أجيب بالتزام كونهم أولى به لكنهم نظروا و إلا لزم نسبتهم إلى الجهل بمعرفة الله تعالى و كون الواحد منا أفضل منهم و هو باطل إجماعا إذ كانوا عالمين‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 138

و ليس بالضرورة فهو بالنظر و الاستدلال، و أما إنه لم ينقل النظر و المناظرة فلاتفاقهم على العقائد الحقة لوضوح الأمر عندهم حيث كانوا ينقلون عقائدهم عمن لا ينطق عن الهوى، فلم يحتاجوا إلى كثرة البحث و النظر بخلاف الأخلاف بعدهم فإنهم لما كثرت شبه الضالين و اختلف أنظار طالبي اليقين لتفاوت أذهانهم في إصابة الحق احتاجوا إلى النظر و المناظرة ليدفعوا بذلك شبه المضلين، و يقفوا على اليقين إما مسائل الفروع لما كانت أمورا ظنية اجتهادية خفية لكثرة تعارض الأمارات فيها وقع بينهم الخلاف فيها و المناظرة و التخطئة لبعضهم من بعض فلذا نقل.

و احتجوا أيضا بأن النظر مظنة الوقوع في الشبهات و التورط في الضلالات بخلاف التقليد فإنه أبعد عن ذلك و أقرب إلى السلامة فيكون أولى و لأن الأصول أغمض أدلة من الفروع و أخفى، فإذا جاز التقليد في الأسهل جار في الأصعب بطريق أولى، و لأنهما سواء في التكليف بهما فإذا جاز في الفروع فليجز في الأصول.

و أجيب عن الأول بأن اعتقاد المعتقد إن كان عن تقليد لزم إما التسلسل أو الانتهاء إلى من يعتقد عن نظر لانتفاء الضرورة، فيلزم ما ذكرتم من المحذور مع زيادة و هي احتمال كذب المخبر بخلاف الناظر مع نفسه، فإنه لا يكابر نفسه فيما أدى إليه نظره.

على أنه لو اتفق الانتهاء إلى من اتفق له العلم بغير النظر كتصفية الباطن كما ذهب إليه بعضهم أو بالإلهام أو بخلق العلم فيه ضرورة فهو إنما يكون لأفراد نادرة لأنه على خلاف العادة فلا يتيسر لكل أحد الوصول إليه مشافهة بل بالوسائط فيكثر احتمال الكذب بخلاف الناظر فإنه لا يكابر نفسه، و لأنه أقرب إلى الوقوف على الصواب.

و أما الجواب عن العلاوة فلأنه لما كان الطريق إلى العمل بالفروع إنما هو النقل ساغ لنا التقليد فيها و لم يقدح احتمال كذب المخبر و إلا لانسد باب العمل‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 139

بها، بخلاف الاعتقاديات فإن الطريق إليها بالنظر ميسر.

ثم قال رحمه الله بعد إطالة الكلام في الجواب عن حجة الخصام: و أما المقام الثاني و هو أن الأعمال ليست جزءا من الإيمان و لا نفسه، فالدليل عليه من الكتاب العزيز و السنة المطهرة و الإجماع، أما الكتاب فمنه قوله تعالى:" إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ" فإن العطف يقتضي المغايرة و عدم دخول المعطوف في المعطوف عليه، فلو كان عمل الصالحات جزءا من الإيمان أو نفسه لزم خلو العطف عن الفائدة لكونه تكرارا، و رد بأن الصالحات جمع معرف يشمل الفرض و النفل، و القائل بكون الطاعات جزءا من الإيمان يريد بها فعل الواجبات و اجتناب المحرمات و حينئذ فيصح العطف لحصول المغايرة المفيدة لعموم المعطوف، فلم يدخل كله في المعطوف عليه، نعم يصلح دليلا على إبطال مذهب القائلين بكون المندوب داخلا في حقيقة الإيمان كالخوارج.

و منه قوله تعالى:" وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ" أي حالة إيمانه و هذا يقتضي المغايرة.

و منه قوله تعالى:" وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا" فإنه أثبت الإيمان لمن ارتكب بعض المعاصي فلا يكون ترك المنهيات جزءا من الإيمان.

و منه قوله تعالى:" يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ" فإن أمرهم بالتقوى التي لا تحصل إلا بفعل الطاعات و الانزجار عن المنهيات مع وصفهم بالإيمان يدل على عدم حصول التقوى لهم، و إلا لكان أمرا بتحصيل الحاصل.

و منه الآيات الدالة على كون القلب محلا للإيمان من دون ضميمة شي‏ء

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 140

آخر كقوله تعالى:" أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ" و لو كان الإقرار أو غيره من الأعمال نفس الإيمان أو جزءه لما كان القلب محل جميعه، و قوله تعالى:" وَ لَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ" و قوله تعالى:" وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ" و كذا آيات الطبع و الختم تشعر بأن محل الإيمان القلب كقوله تعالى:" أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ" و" خَتَمَ عَلى‏ سَمْعِهِ وَ قَلْبِهِ وَ جَعَلَ عَلى‏ بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ".

و أما السنة فكقوله صلى الله عليه و آله و سلم يا مقلب القلوب و الأبصار ثبت قلبي على دينك و روي أن النبي صلى الله عليه و آله و سلم سأل جبرئيل عن الإيمان؟ فقال: أن تؤمن بالله و رسله و اليوم الآخر.

و أما الإجماع فهو أن الأمة أجمعت على أن الإيمان شرط لسائر العبادات و الشي‏ء لا يكون شرطا لنفسه فلا يكون الإيمان هو العبادات.

و أما أهل الثاني و هم الكرامية فقد استدلوا على مذهبهم بأن النبي صلى الله عليه و آله و سلم و الصحابة كانوا يكتفون في الخروج عن الكفر بكلمتي الشهادتين فتكون هي الإيمان إذ لا واسطة بين الكفر و الإيمان، لأن الكفر عدم الإيمان، و لقوله تعالى:" فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَ مِنْكُمْ مُؤْمِنٌ" و بقوله صلى الله عليه و آله و سلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، و بقوله صلى الله عليه و آله و سلم لأسامة حين قتل من تكلم بالشهادتين: هلا شققت قلبه، أو هل‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 141

شققت قلبه؟ على بعض النسخ، يريد بذلك الإنكار عليه، حيث لم يكتف بالشهادتين منه.

و الجواب عن الأول أن الخروج عن الكفر بكلمة الشهادة إن أرادوا به الخروج في نفس الأمر بحيث يصير مؤمنا عند الله سبحانه بمجرد ذلك من دون تصديق فهو ممنوع، لم لا يجوز أن يكون اكتفاؤهم بذلك للترغيب في الإسلام، لا الحكم بالإيمان و إن أرادوا به الخروج بحسب الظاهر فهو مسلم لكن لا ينفعهم إذا الكلام فيما يتحقق به الإيمان عند الله تعالى، بحيث يصير المتصف به مؤمنا في نفس الأمر لا فيما يتحقق به الإسلام في ظاهر الشرع حيث لا يمكن الاطلاع على الباطن، أ لا ترى أنهم كانوا يحكمون بكفر من ظهر منه النفاق بعد الحكم بإسلامه، و لو كان مؤمنا في نفس الأمر لما جاز ذلك، و أما نفي الواسطة فهو مستقيم على أخذ الحكم في نفس الأمر، فإن حال المكلف في نفس الأمر لا يخلو عن أحدهما، و أما جعل لا إله إلا الله غاية للقتال، فلا يدل على أكثر من كونه للترغيب في الإسلام أيضا بسبب حقن الدماء، على أن النبي صلى الله عليه و آله و سلم ربما لا يطلع على بواطن الناس، فكيف يؤمر بالقتال على ما لا يطلع عليه.

و أما أهل الثالث و هم قدماء المعتزلة القائلون بأنه جميع الطاعات فرضا و نفلا، فمن أمتن دلائلهم على ذلك قوله تعالى:" وَ ما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَ يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَ يُؤْتُوا الزَّكاةَ وَ ذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ" و المشار إليه بذلك هو جميع ما حصر بإلا و ما عطف عليه، و الدين هو الإسلام لقوله تعالى:

" إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ" و الإسلام هو الإيمان لقوله تعالى:" وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ" و لا ريب أن الإيمان مقبول من مبتغيه للنص‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 142

و الإجماع، فيكون إسلاما، فيكون دينا فيعتبر فيه الطاعات كما دلت عليه الآيات. و الجواب المنع من اتحاد الدينين في الآيتين فلا يتكرر الوسط، و لو سلم اتحادهما فلا نسلم أن الإيمان هو الإسلام ليكون هو الدين، فتعتبر فيه الطاعات لم لا يجوز أن يكون الإيمان شرطا للإسلام أو جزءا منه أو بالعكس، و شرط الشي‏ء و جزؤه يقبل مع كونه غيره، و لا يلزم من ذلك أن يكون الإيمان هو الدين بل شرطه أو جزؤه.

على أنا لو قطعنا النظر عن جميع ذلك فالآية الكريمة إنما تدل على من ابتغى و طلب غير دين الإسلام دينا له فلن يقبل منه ذلك المطلوب، و لم تدل على أن من صدق بما أوجبه الشارع عليه لكنه ترك فعل بعض الطاعات غير مستحل أنه طالب لغير دين الإسلام، إذ ترك الفعل يجتمع مع طلبه لعدم المنافاة بينهما، فإن الشخص قد يكون طالبا للطاعة مريدا لها لكنه تركها إهمالا و تقصيرا، و لا يخرج بذلك عن ابتغائها.

و استدلوا أيضا بقوله تعالى:" وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ" أي صلاتكم إلى بيت المقدس، و اعترض عليه بأنه لم لا يجوز أن يكون المراد به تصديقكم بتلك الصلاة. سلمنا ذلك لكن لا دلالة لهم في الآية و ذلك لأنهم زعموا أن الإيمان جميع الطاعات، و الصلاة إنما هي جزء من الطاعات و جزء الشي‏ء لا يكون ذلك الشي‏ء.

و أما أهل الرابع و هم القائلون بكونه عبارة عن جميع الواجبات و ترك المحظورات و دون النوافل فقد يستدل لهم بقوله تعالى:" إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ" و التقوى لا يتحقق إلا بفعل المأمور به و ترك المنهي عنه، فلا يكون التصديق مقبولا ما لم يحصل التقوى، و بما روي أن الزاني لا يزني و هو مؤمن، و بقوله عليه السلام: لا إيمان‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 143

لمن لا أمانة له، و بقوله تعالى:" وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ" و قد لا يحكم بما أنزل الله أو يحكم بما لم ينزل الله مصدقا فلو تحقق الإيمان بالتصديق لزم اجتماع الكفر و الإيمان في محل واحد و هو محال لتقابلهما بالعدم و الملكة.

و الجواب عن الأول أنه يجوز أن يكون المراد و الله أعلم الأعمال الندبية، على أنا نقول أن ظاهر الآية الكريمة متروك فإنها تدل ظاهرا على أن من أخلص في جميع أفعاله و كان قد سبق منه معصية واحدة لم يثبت عليها و يكون جميع الطاعات اللاحقة غير مقبولة، و القول بذلك مع بعده عن حكمة الله تعالى من أفظع الفظائع فلا يكون مرادا، بل المراد و الله أعلم أن من عمل عملا إنما يكون مقبولا إذا كان متقيا فيه بأن يكون مخلصا فيه لله تعالى و حينئذ فلا دلالة لهم في الآية الكريمة.

مع أنا لو تنزلنا عن ذلك و قلنا بدلالتها على عدم قبول التصديق من دون التقوى فلا يحصل بذلك مدعاهم الذي هو كون الإيمان عبارة عن جميع الواجبات" إلخ" و لقائل أن يقول: لم لا يجوز أن يكون الإيمان عبارة عما ذكرتهم مع التصديق بالمعارف الأصولية و عدم قبول الجزء إنما هو لعدم قبول الكل، و أما الحديث الأول على تقدير تسليمه فيمكن حمله على المبالغة في الزجر أو تخصيصه بمن استحل و دليل التخصيص في أحاديث أخر، أو على نفي الكمال في الإيمان، و كذا الحديث الثاني.

و أما الاستدلال بالآية فقد تعارض بقوله تعالى:" وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ" و الفاسق مؤمن على المذهب الحق أو بين المنزلتين على غيره و يمكن أن يقال: الفسق لا ينافي الكفر إذ الكافر فاسق لغة و إن كان في العرف يباينه لكنه لم يتحقق كونه عرف الشارع، بل المعلوم كونه لأهل الشرع و الأصول فلا تعارض حينئذ.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 144

أقول: و الحق في الجواب أن المراد و الله أعلم: و من لم يحكم بما أنزل الله، أي بما علم قطعا أن الله سبحانه أنزله فإن العدول عنه إلى غيره مستحلا أو الوقوف عنه كذلك لا ريب في كونه كفرا لأنه إنكار لما علم ثبوته ضرورة فلا يكون التصديق حاصلا و حينئذ فلا دلالة فيها على أن من ارتكب معصية غير مستحل أو مستحلا مع كون تحريمها لم يعلم من الدين ضرورة يكون كافرا، و إنما ارتكبنا هذا الإضمار في الآية لما دل عليه النص و الإجماع من أن الحاكم لو أخطأ في حكمه لم يكفر مع أنه يصدق عليه أنه لم يحكم بما أنزل الله.

و اعلم أنه قد ظهر من هذا الجواب وجه آخر للجمع بين الآيتين و وقع التعارض بين ظاهر هما بأن يراد من إحداهما ما ذكرناه في الجواب و من الأخرى و من لم يحكم غير مستحل مع علمه بالتحريم فهو فاسق، و الحاصل أنه يقال لهم: إن أردتم بالطاعات و التروك ما علم ثبوته من الدين ضرورة فنحن نقول بموجب ذلك، لكن لا يلزم منه مدعا كم لجواز كون الحكم بكفره إما لجحده ما علم من الدين ضرورة فيكون قد أخل بما هو شرط الإيمان و هو عدم الجحد على ما قدمناه، أو لكون المذكورات جزء الإيمان على ما ذهب إليه بعضهم، و إن أردتم الأعم فلا دلالة لكم فيها أيضا و هو ظاهر.

و أما أهل الخامس القائلون بأنه تصديق بالجنان و إقرار باللسان و عمل بالأركان فيستدل لهم بما استدل به أهل التصديق مع ما استدل به أهل الأعمال و من أضاف الإقرار باللسان إلى الجنان، و قد علمت تزييف ما سوى الأول و سيجي‏ء إنشاء الله تعالى تزييف أدلة من أضاف الإقرار فلم يبق لمذهبهم قرار.

نعم في أحاديث أهل البيت عليهم السلام ما يشهد لهم و قد ذكر في الكافي و غيره منها جملة فمنها ما رواه علي بن إبراهيم عن العباس بن معروف عن عبد الرحمن بن أبي نجران عن حماد بن عثمان عن عبد الرحيم القصير قال: كتبت مع عبد الملك بن أعين‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 145

إلى أبي عبد الله عليهم السلام أسأله عن الإيمان ما هو إلى آخر الخبر، و منها ما رواه علي بن إبراهيم عن محمد بن عيسى عن يونس بن عبد الرحمن عن عجلان أبي صالح قال:

قلت لأبي عبد الله عليه السلام: أوقفني على حدود الإيمان، الخبر. و منها: أبو علي الأشعري عن محمد بن عبد الجبار عن صفوان أو غيره عن العلاء عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن الإيمان، الخبر.

ثم قال قدس سره: و اعلم أن هذه الأحاديث منها ما سنده غير نقي كالأول، فإن في سنده عبد الرحيم و هو مجهول مع كونه مكاتبة، و أما الثاني فإن سنده و إن كان جيدا إلا أن دلالته غير صريحة فإن كون المذكورات حدود الإيمان لا يقتضي كونها نفس حقيقته إذ حد الشي‏ء نهايته و ما لا يجوز تجاوزه، فإن تجاوزه خرج عنه، و نحن نقول بموجب ذلك فإن من تجاوز هذه المذكورات بأن تركها جاحدا لا ريب في خروجه عن الإيمان، لكن لعل ذلك لكونها شروطا للإيمان، لا لكونها نفسه، و أما الثالث فإن دلالته و إن كانت جيدة إلا أن في سنده إرسالا مع كون العلاء مشتركا بين المقبول و المجهول، و بالجملة فهذه الرواية معارضة بما هو أمتن منها دلالة، و قد تقدم ذلك فليراجع، نعم لا ريب في كونها مؤيدة لما قالوه.

و أما أهل السادس القائلون بأنه التصديق مع كلمتي الشهادة ففيما مر من الأحاديث ما يصلح شاهدا لهم، و كذا ما ذكره الكرامية مع ما ذكره أهل التصديق يصلح شاهدا لهم، و قد عرفت ما في الأولين فلا نعيده، و أما السابع فإنه مذهب جماعة من المتأخرين منهم المحقق الطوسي (ره) في تجريده فإنه اعتبر في حقيقة الإيمان مع التصديق الإقرار باللسان، قال: و لا يكفي الأول لقوله تعالى:" وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ" أثبت للكفار الاستيقان النفسي و هو التصديق القلبي، فلو كان الإيمان هو التصديق القلبي فقط لزم اجتماع الكفر و الإيمان و هو باطل لتقابلهما

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 146

تقابل العدم و الملكة، و لا الثاني يعني الإقرار باللسان لقوله تعالى:" قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا" الآية و لقوله تعالى:" وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ" فأثبت لهم تعالى في الآيتين التصديق باللسان، و نفي عنهم الإيمان.

أقول: الاستدلال على عدم الاكتفاء بالثاني مسلم موجه و كذا عدم الاكتفاء بالأول، أما على اعتبار الإقرار ففيه بحث فإن الدليل أخص من المدعى، إذ المدعي أن الإيمان لا يحقق إلا بالتصديق مع الإقرار، و بدون ذلك يتحقق الكفر، و الآية الكريمة إنما دلت على ثبوت الكفر لمن جحد أي أنكر الآيات مع علمه بحقيقتها و بينهما واسطة، فإن من حصل له التصديق اليقيني في أول الأمر، و لم يكن تلفظ بكلمات الإيمان لا يقال أنه منكر و لا جاحد، و حينئذ فلا يلزم اجتماع الكفر و الإيمان في مثل هذه الصورة مع أنه غير مقر و لا تارك للإقرار جحدا كما هو المفروض، هذا إن قصد بالآية الدلالة على اعتبار الإقرار أيضا، و إلا لكان اعتبار الإقرار دعوى مجردة، و قد علت ما عليه، و أما دلالة الآية الكريمة على كفره في صورة جحده و استيقانه فنقول بموجبه لكن ليس لعدم إقراره فقط بل لأنه ضم إنكارا إلى استيقان.

و بالجملة فهو من جملة العلامات على الحكم بالكفر كما جعل الاستخفاف بالشارع أو الشرع، و وطي المصحف علامة على الحكم بالكفر، مع أنه قد يكون مصدقا كما سبقت الإشارة إليه، نعم غاية ما يلزم أن يكون إقرار المصدق شرطا لحكمنا بإيمانه ظاهرا، و أما قبل ذلك و بعد التصديق فهو مؤمن عند الله تعالى إذا لم يكن تركه للإقرار عن جحد.

على أنه يلزمه قدس سره أن من حصل له التصديق بالمعارف الإلهية ثم عرض له الموت فجأة قبل الإقرار يموت كافرا و يستحق العذاب الدائم مع اعتقاده‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 147

وحدة الصانع و حقية ما جاء به النبي صلى الله عليه و آله، و لا أظن أن مثل هذا المحقق يلتزم ذلك، و الحاصل أنه إن أراد رحمه الله أن كون الإنسان مؤمنا عند الله سبحانه كما هو ظاهر كلامه لا يتحقق إلا بمجموع الأمرين فالواسطة و الالتزام لا زمان عليه، و إن أراد أن كونه مؤمنا في ظاهر الشرع لا يتحقق إلا بالأمرين معا فالنزاع لفظي فإن من اكتفى فيه بالتصديق يريد به كونه مؤمنا عند الله تعالى فقط، و أما عند الناس فلا بد في العلم بذلك من الإقرار و نحوه.

و اعلم أنه استدل بعضهم على هذا المذهب أيضا بأنا نعلم بالضرورة أن الإيمان في اللغة هو التصديق، و الدلائل عليه كثيرة، فإما أن يكون في الشرع كذلك أو يكون منقولا عن معناه في اللغة، و الثاني باطل لأن أكثر الألفاظ تكرار في القرآن و كلام الرسول عليه السلام لفظ الإيمان، فلو كان منقولا عن معناه اللغوي لوجب أن يكون حاله كحال سائر العبادات الظاهرة في وجوب العلم به فلما لم يكن كذلك علمنا أنه باق على وضع اللغة.

إذا ثبت هذه فنقول: ذلك التصديق إما أن يكون هو التصديق القلبي أو اللساني أو مجموعهما، و الأول باطل لقوله تعالى:" فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ" فأثبت لهم المعرفة مع أنه حكم بكفرهم و لو كان مجرد المعرفة إيمانا لما صح ذلك و أيضا قوله تعالى:" فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَ عُلُوًّا" و لا يصح أن يكون جحدهم لها بقلوبهم حيث أثبت لهم الاستيقان بها، فلا بد أن يكون بألسنتهم حيث لم يقروا بها و إذا كان الجحد باللسان موجبا للكفر كان الإقرار به مع التصديق القلبي موجبا للإيمان فيكون الإقرار من محققات الإيمان، و أيضا قوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام إذا يقول لفرعون:" لَقَدْ عَلِمْتَ‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 148

ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ" فأثبت كونه عالما بأن الله تعالى هو الذي أنزل الآيات التي جاء بها موسى عليه السلام، فلو كان مجرد العلم هو الإيمان لكان فرعون مؤمنا و هو باطل بنص القرآن العزيز و إجماع الأنبياء عليهم السلام من لدن موسى إلى محمد صلى الله عليه و آله و سلم، و أيضا قوله تعالى:" فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَ لكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ" و معنى ذلك و الله أعلم: أنهم يجحدون ذلك بألسنتهم و لا يكذبونك بقلوبهم أي يعلمون نبوتك، و لا يستقيم أن يكون المعنى لا يكذبونك بألسنتهم لمنافاة يجحدون بألسنتهم له، فيلزم أن يكونوا كذبوا بألسنتهم و لم يكذبوا بها و بطلانه ظاهر فيجب تنزيه القرآن العزيز عنه.

و لك أن تقول: لم لا يجوز أن يكون المعنى لا يكذبونك بألسنتهم و لكن يجحدون نبوتك بقلوبهم كما أخبر الله تعالى عن المنافقين في سورتهم حيث قالوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ، و كذبهم الله تعالى حيث شهد سبحانه و تعالى بكذبهم فقال:" وَ اللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ" و المراد في شهادتهم أي فيما تضمنته من أنها عن صميم القلب و خلوص الاعتقاد كما ذكره جماعة من المفسرين حيث لم توافق عقيدتهم فقد علم من ذلك أنهم لم يكذبوه بألسنتهم بل شهدوا له بها، و لكنهم جحدوا ذلك بقلوبهم حيث كذبهم الله تعالى في شهادتهم.

و الجواب التكذيب لهم و رد على نفس شهادتهم التي هي باللسان لا على نفس عقيدتهم، و بالجملة فهذا لا يصلح نظيرا لما نحن فيه، على أن معنى الجحد كما قرروه هو الإنكار باللسان مع تصديق القلب، و ما ذكر من الاحتمال عكس هذا المعنى.

ثم قال: و الثاني باطل أما أولا فبالاتفاق من الإمامية، و أما ثانيا فلقوله تعالى:" قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا" و لا شك أنهم كانوا

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 149

صدقوا بألسنتهم و حيث لم يكن كافيا نفى الله تعالى عنهم الإيمان مع تحققه، و قوله تعالى:" وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ" فأثبت لهم الإقرار و التصديق باللسان، و نفي إيمانهم فثبت بذلك أن الإيمان هو التصديق مع الإقرار.

ثم قال: لا يقال: لو كان الإقرار باللسان جزء الإيمان للزم كفر الساكت؟

لأنا نقول: لو كان الإيمان هو العلم أي التصديق لكان النائم غير مؤمن لكن لما كان النوم لا يخرجه عن كونه مؤمنا بالإجماع مع كونه أولى بأن يخرج النائم عن الإيمان لأنه لا يبقى معه معنى من الإيمان بخلاف الساكت، فإنه قد بقي معه معنى منه و هو العلم لم يكن السكوت مخرجا بطريق أولى، نعم لو كان الخروج عن التصديق و الإقرار أو عن أحدهما على جهة الإنكار و الجحد لخرج بذلك عن الإيمان، و لذلك قلنا أن الإيمان هو التصديق بالقلب و الإقرار باللسان أو ما في حكمهما، انتهى محصل ما ذكره.

أقول: قوله: إن النائم ينتفي عنه العلم أي التصديق غير مسلم، و إنما المنتفي شعوره بذلك العلم و هو غير العلم، فالتصديق حينئذ باق لكونه من الكيفيات النفسية، فلا يزيله النوم و حينئذ فلا يلزم من عدم الحكم بانتفاء الإيمان عن النائم عدم الحكم بانتفائه عن الساكت بطريق أولى، نعم الحكم بعدم انتفائه عن الساكت على مذهب من جعل الإقرار جزءا إما للزوم الحرج العظيم بدوام الإقرار في كل وقت أو أن يكون المراد من كون الإقرار جزءا للإيمان الإقرار في الجملة أي في وقت ما مع البقاء عليه، فلا ينافيه السكوت المجرد، و إنما ينافيه مع الجحد لعدم بقاء الإقرار حينئذ.

و أقول: الذي ذكره من الدليل على عدم النقل لا يدل وحده على كون الإقرار جزءا و هو ظاهر، بل قصد به الدلالة على بطلان ما عدا مذهب أهل التصديق،

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 150

ثم استدل على بطلان مذهب التصديق بما ذكره من الآيات الدالة على اعتبار الإقرار في الإيمان الشرعي تخصيصا للغوي كما هو عند أهل التصديق و هذا جيد، لكن دلالة الآيات على اعتبار الإقرار ممنوعة، و قد بينا ذلك سابقا أن تكفيرهم إنما كان لجحدهم الإقرار و هو أخص من عدم الإقرار فتكفيرهم بالجحد لا يستلزم تكفيرهم بمطلق عدم الإقرار ليكون الإقرار معتبرا.

نعم اللازم من الآيات اعتبار عدم الجحد مع التصديق و هو أعم من الإقرار و اعتبار الأعم لا يستلزم اعتبار الأخص و هو ظاهر.

و هذا جواب عن استدلاله بجميع الآيات، و يزيد في الجواب عن الاستدلال بقوله تعالى، في الحكاية عن موسى عليه و على نبينا الصلاة و السلام:" لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ" الآية أنه يجوز أن يكون نسب إلى فرعون العلم على طريق الملاطفة و الملائمة حيث كان مأمورا بذلك بقوله:" فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً، لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى‏" و هذا شائع في الاستعمال كما يقال في المحاورات كثيرا، و أنت خبير بأنه كذا و كذا، مع أن المخاطب بذلك قد لا يكون عارفا بذلك المعنى أصلا، بل قد لا يكون هناك مخاطب أصلا كما يقع في المؤلفات كثيرا.

و على هذا فلا تدل الآية على ثبوت العلم لفرعون، و لو سلم ثبوته كان الحكم بكفره للجحد لا لعدم الإقرار مطلقا كما سبق بيانه.

و اعلم أن المحقق الطوسي قدس سره اختار في فصوله الاكتفاء بالتصديق القلبي في تحقق الإيمان فكأنه رحمه الله لحظ ما ذكرناه، و قد استدل بعض الشارحين بقوله تعالى:" أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ" و بقوله تعالى:" وَ لَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ" فيكون حقيقة فيه، فلو أطلق على غيره لزم الاشتراك أو المجاز

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 151

و هما خلاف الأصل، و الإقرار باللسان كاشف عنه و الأعمال الصالحة ثمراته.

أقول: الذي ظهر مما حررناه أن الإيمان هو التصديق بالله وحده و صفاته و عدله و حكمته، و بالنبوة و بكل ما علم بالضرورة مجي‏ء النبي صلى الله عليه و آله و سلم مع الإقرار بذلك و على هذا أكثر المسلمين بل ادعى بعضهم إجماعهم على ذلك، و التصديق بإمامة الأئمة الاثني عشر عليه السلام و بإمام الزمان، و هذا عند الإمامية.

باب أن الإيمان يشرك الإسلام و الإسلام لا يشرك الإيمان‏

 (1)

 (الحديث الأول)

 (2): موثق.

" أ هما مختلفان"

 (3) أي مفهوما و حقيقة أم متساويان مترادفان‏

" يشارك الإسلام"

 (4) قيل: المشاركة و عدمها أما باعتبار المفهوم فإن مفهوم الإسلام داخل في مفهوم الإيمان دون العكس أو باعتبار الصدق فإن كل مؤمن مسلم دون العكس، أو باعتبار الدخول فإن الداخل في الإيمان داخل في الإسلام بدون العكس أو باعتبار الأحكام فإن أحكام الإسلام ثابتة للإيمان بغير عكس.

" فصفهما لي"

 (5) أي بين لي حقيقتهما

" شهادة أن لا إله إلا الله"

 (6) بيان لأجزاء الإسلام‏

" به حقنت"

 (7) بيان لأحكام الإسلام، و يدل على التوارث بين جميع فرق المسلمين كما هو المشهور، و الظاهر أن المراد بالشهادة و التصديق الإقرار الظاهري كما مر

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 152

أنه إطلاقه الشائع و يحتمل التصديق القلبي فيكون إشارة إلى معنى آخر للإسلام، و يحتمل أن يكون أصل معناه الإقرار القلبي و إن ترتبت الأحكام على الإقرار الظاهري، بناء على الحكم بالظاهر ما لم يظهر خلافه، لعدم إمكان الاطلاع علي القلب كما قال صلى الله عليه و آله و سلم: فهل شققت قلبه؟ و لذا قال عليه السلام و على ظاهره جماعة الناس فتأمل، و على هذا فلا فرق بين الإيمان و الإسلام إلا بالولاية و الإقرار بالأئمة عليهم السلام، إذ في الإيمان أيضا يحكم بالظاهر و الأول أظهر، و المراد بالهدي الولاية و الاهتداء بالأئمة عليهم السلام و ما يثبت في القلوب إشارة إلى العقائد القلبية بالشهادة الظاهرة الإسلامية فكلمة

" من"

 (1) في قوله: من صفة الإسلام، بيانية، و يحتمل أن يكون ابتدائية أي ما يسري من أثر الأعمال الظاهرة إلى الباطن، و

قوله: و ما ظهر من العمل‏

 (2)، يدل على أن الأعمال أجزاء الإيمان و إن أمكن حمله على الشهادتين كما يومئ إليه آخر الخبر.

" أرفع من الإسلام"

 (3) لأنه يصير سببا لإحراز المثوبات الأخروية أو لاعتبار الولاية فيه فيكون أكمل و أجمع.

قوله عليه السلام: الإيمان يشارك الإسلام‏

 (4) ظاهره أنه لا فرق بين العقائد الإيمانية و الإسلامية، و الفرق بينهما أن في الإيمان يعتبر الإقرار الظاهري و التصديق الباطني معا بخلاف الإسلام فإنه لا يعتبر فيه إلا الظاهر فقط، و قد يأول بأن المراد أن الإيمان يشارك الإسلام في جميع الأعمال الظاهرة المعتبرة في الإسلام مثل الصلاة و الزكاة و غيرهما،

و الإسلام لا يشارك الإيمان‏

 (5) في جميع الأمور الباطنة المعتبرة في الإيمان، لأنه لا يشاركه في التصديق بالولاية و إن اجتمعا في الشهادتين و التصديق بالتوحيد و الرسالة، قيل: و منه يتبين أن الإيمان كالنوع و الإسلام كالجنس، و قد

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 153

يطلق الإسلام و يراد به هذا النوع مجازا من باب إطلاق العام على الخاص، و لعل قوله تعالى:" فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها" الآية من هذا الباب، فقول من زعم أنهما مترادفان و تمسك بهذه الآية مدفوع.

 (الحديث الثاني)

 (1): ضعيف كالموثق و قد مر القول فيه.

 (الحديث الثالث)

 (2): حسن كالصحيح.

و هو خلاصة من الخبر الأول، و في النهاية بشي‏ء

وقر في القلب،

 (3) أي سكن فيه و ثبت من الوقار الحلم و الرزانة، و قر يقر وقارا و في المصباح: الوقار الحلم و الرزانة و هو مصدر وقر بالضم مثل جمل جمالا، و يقال أيضا وقر يقر من باب وعد، و وقر من باب وعد أيضا أي جلس بوقار.

 (الحديث الرابع)

 (4): صحيح.

" أيهما أفضل"

 (5)؟ مبتدأ و خبر، و الإيمان و الإسلام تفسير لمرجع الضمير، أو هما

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 154

مبتدأ و أيهما أفضل خبر

" أوجدني ذلك"

 (1) أي اجعلني أجده و أفهمه، و في القاموس:

وجد المطلوب كوعد و ورم يجده و يجده بضم الجيم وجد أوجده أدركه و أوجده أغناه، و فلانا مطلوبه أظفره به، و بعد ضعف قواه كأجده.

قوله: متعمدا

 (2) أي لا ساهيا و لا مضطرا، و يدل على كفر من استخف بالكعبة فإنها من حرمات الله و وجوب تعظيمها من ضروريات الدين‏

" أ لا ترى أن الكعبة"

 (3) شبه عليه السلام المعقول بالمحسوس إفهاما للسائل و بيانا للعموم و الخصوص، و شرف الإيمان على الإسلام‏

" و أن الكعبة تشرك المسجد"

 (4) أي في حكم التعظيم في الجملة أو في أنها يصدق عليها أنها مسجد و كعبة، أو في أن من دخل الكعبة يحكم بدخوله في المسجد بخلاف العكس.

" و المسجد"

 (5) أي جميع أجزائه‏

" لا يشرك الكعبة"

 (6) في قدر التعظيم و عقوبة من استخف بها أو لا يصدق على كل جزء من المسجد أنه كعبة، أو في أن من دخلها دخل الكعبة كما سيأتي و وجه الشبه على جميع الوجوه ظاهر.

 (الحديث الخامس)

 (7): حسن.

قوله عليه السلام" و أفضى به إلى الله"

 (8) الضمير إما راجع إلى القلب أو إلى صاحبه أي أوصله إلى معرفة الله و قربه و ثوابه فالضمير في أفضى راجع إلى ما، و يحتمل أن يكون‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 155

راجعا إلى المؤمن و ضمير به راجعا إلى الموصول أي وصل بسبب ذلك الاعتقاد أو أوصل ذلك الاعتقاد إلى الله كناية عن علمه سبحانه بحصوله في قلبه، و قيل: أي جعل وجه القلب إلى الله من الفضائل و الأحكام أي الفضائل الدنيوية و الأحكام الشرعية، قال في المصباح: أفضى الرجل بيده إلى الأرض بالألف مسها بباطن راحته قاله ابن فارس و غيره، و أفضيت إلى الشي‏ء وصلت إليه و السر أعلمته به، انتهى.

و قيل: أشار به إلى أن المراد بما استقر في القلب مجموع التصديق بالتوحيد و الرسالة و الولاية، لأن هذا المجموع هو المفضي إلى الله، و

قوله: و صدقه العمل‏

 (1)، مشعر بأن العمل خارج عن الإيمان. و دليل عليه، لأن الإيمان و هو التصديق أمر قلبي يعلم بدليل خارجي مع ما فيه من الإيماء إلى أن الإيمان بلا عمل ليس بإيمان‏

" و التسليم لأمره"

 (2) أي الإمامة عبر هكذا تقية أو الأعم فيشملها أيضا، و يحتمل أن يكون عدم ذكر الولاية لأن التصديق القلبي الواقعي بالشهادتين مستلزم للإقرار بالولاية فكأن المخالفين ليس إذعانهم إلا إذعانا ظاهريا لإخلالهم بما يستلزمانه من الإقرار بالولاية، فلذا أطلق عليهم في الأخبار اسم النفاق و الشرك فتفطن.

" و الإسلام ما ظهر من قول أو فعل"

 (3) أي قول بالشهادتين أو الأعم و فعل بالطاعات كالصلاة و الزكاة و الصوم و الحج و غيرها، فيدل على أن الإسلام يطلق علي مجرد الطاعات و الشهادات من غير اشتراط التصديق‏

" فخرجوا بذلك من الكفر"

 (4) أي من أن يجري عليهم في الدنيا أحكام الكفار

" و أضيفوا إلى الإيمان"

 (5) أي نسبوا إلى الإيمان ظاهرا و إن لم يكونوا متصفين به حقيقة

" و هما في القول و الفعل يجتمعان"

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 156

 (1) أي في الشهادتين و العبادات الظاهرة و إن خص الإيمان بالولاية، و ظاهر سياق الحديث لا يخلو من شوب تقية، و كان المراد بالفضائل ما يفضل به في الدنيا من العطاء و الأجر و أمثاله لا الفضائل الواقعية الأخروية أو ما يفضل به على الكافر من الإنفاق و الإعطاء و الإكرام و الرعاية الظاهرية و قيل: أي في التكليف بالفضائل بأن يكون المؤمن مكلفا و لا يكون المسلم مكلفا بها.

و في تفسير العياشي هكذا قال: قلت له: أ رأيت المؤمن له فضل على المسلم في شي‏ء من المواريث و القضايا و الأحكام حتى يكون للمؤمن أكثر مما يكون للمسلم في المواريث أو غير ذلك؟ قال: لا، هما يجريان في ذلك مجرى واحدا إذا حكم الإمام عليهما، إلى آخر الخبر، و هو أظهر، فالفضائل تصحيف القضايا.

" في إعمالهما"

 (2) أي صحتها و قبولها

" و ما يتقربان به إلى الله"

 (3) أي من العقائد و الأعمال فيكون تأكيدا أو تعميما بعد التخصيص لشموله للعقائد أيضا، أو المراد بالأول صحة الأعمال، و بالثاني كيفياتها فإن المؤمن يعمل بما أخذه من إمامه، و المسلم يعمل ببدع أهل الخلاف، و قيل: المراد به الإمام الذي يتقرب بولايته و متابعته إلى الله تعالى، فإن أمام المؤمن مستجمع لشرائط الإمامة و إمام المسلم لشرائط الفسق و الجهالة.

قوله: أ ليس الله تعالى يقول.

 (4) أقول: هذا السؤال و الجواب يحتمل وجوها

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 157

" الأول" و هو الظاهر أن السائل أراد أنه إذا كانا مجتمعين في الحسنات و الحسنة بالعشر، فكيف يكون له فضل عليه في الأعمال و القربات مع أن الموصول من أدوات العموم فيشمل كل من فعلها، فأجاب عليه السلام بأنها شريكان في العشر و المؤمن يفضل بما زاد عليها، و يرد عليه أنه على هذا يكون لإعمال غير المؤمنين أيضا ثواب و هو مخالف للإجماع و الأخبار المستفيضة إلا أن يحمل الكلام على نوع من التقية أو المصلحة لقصور فهم السائل، أو يكون المراد بالإيمان الإيمان الخالص و بالإسلام أعم من الإيمان الناقص و غيره، و يكون الثواب للأول و هو غير بعيد عن سياق الخبر بل لا يبعد أن يكون المراد المستضعف من المؤمنين الذين يظهرون الإيمان و لم يستقر في قلوبهم كما يرشد إليه قوله: و هما في القول و الفعل يجتمعان، و قد عرفت اختلاف الاصطلاح في الإيمان فيكون هذا الخبر موافقا لبعض مصطلحاته، و قيل في الجواب:

لعل عمل غير المؤمن ينفعه في تخفيف العقوبة و رفع شدتها لا في دخول الجنة إذ دخولها مشروط بالإيمان.

الثاني: أنه تعالى قال:" مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً

فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً"

 (1) و القرض الحسن هو العبادة الواقعة على كمالها و شرائط قبولها، و من جملة شرائطها هو الإيمان فالمؤمنون هم الذين يضاعف الله عز و جل لهم حسناتهم لا غيرهم، فيعطيهم لكل حسنة عشرة، و ربما يعطيهم لكل حسنة سبعين ضعفا، فهذا فضل المؤمن على المسلم، و يزيد الله في حسناته على قدر صحة إيمانه، و حسب كماله أضعافا

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 158

كثيرة حتى أنه تعطى بواحدة سبعمائة أو أزيد و يفعل الله بالمؤمنين ما يشاء من الخير الذي لا يعلمه إلا هو كما قال:" وَ لَدَيْنا مَزِيدٌ" و قيل: أراد بما يشاء من الخير إيتاء العلم و الحكمة و زيادة اليقين و المعرفة.

الثالث: ما ذكره بعض الأفاضل و يرجع إلى الثاني و هو أن المراد بالقرض الحسن صلة الإمام عليه السلام كما ورد في الأخبار، فالغرض من الجواب أنه كما أن القرض يكون حسنا و غير حسن، و الحسن الذي هو صلة الإمام يصير سببا لتضاعف أكثر من عشرة، فكذلك الصلاة و الزكاة و الحج تكون حسنة و غير حسنة، و الحسنة ما كان مع تصديق الإمام و هو يستحق المضاعفة لا غيره، و الفاء في‏

قوله:" فالمؤمنون"

 (1) للبيان،

و قوله: يضاعف الله‏

 (2) بتقدير قد يضاعف الله و إلا لكان الظاهر عشرة أضعاف،

" و يزيد الله"

 (3) أي على السبعين أيضا.

قوله: أ رأيت من دخل في الإسلام،

 (4) كان السائل لم يفهم الفرق بين الإيمان و الإسلام بما ذكره عليه السلام فأعاد السؤال أو أنه لما كان تمكن في نفسه ما اشتهر بين المخالفين من عدم الفرق بينهما أراد أن يتضح الأمر عنده أو قاس الدخول في المركب من الأجزاء المعقولة بالدخول في المركب من الأجزاء المقدارية، فإن من دخل جزءا من الدار صدق عليه أنه دخل الدار، فلذا أجابه عليه السلام بمثل ذلك لتفهيمه فقال: المتصف ببعض أجزاء الإيمان لا يلزم أن يتصف بجميع أجزائه حتى يتصف بالإيمان كما أن من دخل المسجد لا يحكم عليه بأنه دخل الكعبة و من دخل الكعبة يحكم عليه بأنه دخل المسجد، فكذا يحكم على المؤمن أنه مسلم و لا يحكم على كل مسلم أنه مؤمن.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 159

ثم اعلم أنه استدل بهذه الأخبار على كون الكعبة جزءا من المسجد الحرام، و يرد عليه أنه لا دلالة في أكثرها على ذلك، بل بعضها يومئ إلى خلافه كهذا الخبر، حيث قال:

أ كنت شاهدا أنه قد دخل المسجد

 (1)، و لم يقل أ كنت شاهدا أنه في المسجد، و كذا

قوله: لا يصل إلى دخول الكعبة حتى يدخل المسجد،

 (2) نعم بعض الأخبار تشعر بالجزئية.

باب آخر منه و فيه أن الإسلام قبل الإيمان‏

 (3)

 (الحديث الأول)

 (4): مجهول.

قوله عليه السلام: و الإيمان هو الإقرار" إلخ"

 (5) هذا تفسير للإيمان الكامل و الأخبار في ذلك كثيرة، و عليه انعقد اصطلاح المحدثين منا، قال الصدوق رحمه الله في الهداية:

الإسلام هو الإقرار بالشهادتين و هو الذي يحقن به الدماء، و الأموال، و من قال:

لا إله إلا الله محمد رسول الله فقد حقن ماله و دمه إلا بحقيهما و على الله حسابه، و الإيمان هو الإقرار باللسان و عقد بالقلب و عمل بالجوارح، و أنه يزيد بالأعمال و ينقص بتركها، و كل مؤمن مسلم و ليس كل مسلم بمؤمن و مثل ذلك مثل الكعبة و المسجد فمن دخل الكعبة فقد دخل المسجد، و ليس كل من دخل المسجد دخل الكعبة، و قد فرق الله عز اسمه‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 160

في كتابه بين الإسلام و الإيمان، فقال:" قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا" و قد بين الله عز و جل أن الإيمان قول و عمل، لقوله:" إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ" إلى قوله تعالى:" أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا" و أما قوله عز و جل:" فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ" فليس ذلك بخلاف ما ذكرنا لأن المؤمن يسمى مسلما و المسلم لا يسمى مؤمنا حتى يأتي مع إقراره بعمل، و أما قوله عز و جل:" وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ" الآية فقد سئل الصادق عليه السلام عن ذلك فقال: هو الإسلام الذي فيه الإيمان، انتهى.

و قال الشيخ المفيد قدس سره في كتاب المسائل: أقول: إن مرتكبي الكبائر من أهل المعرفة و الإقرار مؤمنون بإيمانهم بالله و برسله و بما جاء من عنده و فاسقون بما معهم من كبائر الآثام و لا أطلق لهم اسم الفسوق و لا اسم الإيمان، بل أقيدهما جميعا في تسميتهم بكل واحد منهما و امتنع من الوصف لهم بهما على الإطلاق و أطلق لهم اسم الإسلام بغير تقييد، و على كل حال و هذا مذهب الإمامية إلا بني نوبخت رحمهم الله، فإنهم خالفوا فيه و أطلقوا للفساق اسم الإيمان، انتهى.

" و الإيمان بعضه من بعض"

 (1) أي تترتب أجزاء الإيمان بعضها على بعض فإن الإقرار بالعقائد يصير سببا للعقائد القلبية و العقائد تصير سببا للأعمال البدنية أو المعنى أن أفراد الإيمان و درجاته يترتب بعضها على بعض، فإن الأدنى منها تصير سببا لحصول الأعلى و هكذا إلى حصول أعلى درجاته فإن حصول قدر من اليقين يصير سببا للإتيان بقدر من الأعمال بحسبه فإذا أتى بتلك الأعمال زاد الإيمان القلبي فيزيد أيضا العمل و هكذا، فيترتب كمال كل جزء من الإيمان على كمال الجزء الآخر.

و يحتمل أن يكون إشارة إلى اشتراط بعض أجزاء الإيمان ببعض، فإن العمل لا ينفع بدون الاعتقاد و الاعتقاد أيضا مشروط في كماله و ترتب الآثار عليه بالعمل‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 161

" و هو دار"

 (1) أي الإيمان دار، قيل: إنما شبه الإيمان و الإسلام و الكفر بالدار لأن كلا منها بمنزلة حصن لصاحبه يدخل فيها و يخرج منها كما أن الدار حصن لصاحبه‏

و قوله: و هو يشارك الإيمان‏

 (2) قيل: معناه أنه كلما يتحقق الإيمان فهو يشاركه في التحقق، و أما ما مضى في الأخبار أنه لا يشارك الإيمان فمعناه أنه ليس كلما تحقق تحقق الإيمان، فلا منافاة، و يحتمل أن يكون سقط من الكلام شي‏ء، و كان هكذا:

و هو يشارك الإسلام و الإسلام لا يشارك الإيمان فيكون على وتيرة ما سبق، انتهى.

و أقول: الظاهر هنا المشاركة في الأحكام الظاهرة و فيما سبق نفي المشاركة في جميع الأحكام، و قيل و سر ذلك أن الإقرار بالتوحيد و الرسالة مقدم على الإقرار بالولاية و العمل، و المؤمن و المسلم بسبب الأول يخرجان من دار الكفر و يدخلان في دار الإسلام ثم المسلم بسبب الاكتفاء يستقر في هذه الدار و المؤمن بسبب الثاني يترقى و ينزل في دار الإيمان، و منه لاح أن الإسلام قبل الإيمان و أنه يشارك الإيمان فيما هو سبب للخروج من دار الكفر لا فيما هو سبب للدخول في دار الإيمان، و بهذا التقرير تندفع المنافاة بين قوله عليه السلام هيهنا: و هو يشارك الإيمان، و قوله سابقا: و الإسلام لا يشارك الإيمان.

قوله: فإذا أتى العبد كبيرة" إلخ"

 (3) يدل على أن الصغيرة أيضا مخرجة من الإيمان مع أنها مكفرة مع اجتناب الكبائر، و يمكن حمله على الإصرار كما يومئ إليه ما بعده، أو على أن المراد بهما الكبيرة لكن بعضها صغيرة بالإضافة إلى بعضها التي هي أكبر الكبائر، فالمراد بقوله عليه السلام: نهى الله عنها نهيه عنها في القرآن و إيعاده عليها النار، و يدل على أن جحود المعاصي و استحلالها موجبان للارتداد، و ينبغي حمله على‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 162

ما إذا كان من ضروريات الدين، فيؤيد التأويل الثاني فإن أكثر ما نهى عنه في القرآن كذلك، أو على ما إذا جحد و استحل بعد العلم بالتحريم، و يدل على أن المرتد مستحق للقتل و إن كان يفعل ما يؤذن بالاستخفاف بالدين، و يومئ إلى عدم قبول توبته للمقابلة، فيحمل على الفطري، و على أنه مستحق للنار و إن تاب.

و جملة القول فيه أن المرتد على ما ذكره الشهيد قدس سره في الدروس هو من قطع الإسلام بالإقرار على نفسه بالخروج منه أو ببعض أنواع الكفر سواء كان مما يقر أهله عليه أم لا، أو بإنكار ما علم ثبوته من الدين ضرورة أو بإثبات ما علم نفيه كذلك، أو بفعل دال عليه صريحا كالسجود للشمس و الصنم، و إلقاء المصحف في القذر قصدا و إلقاء النجاسة على الكعبة أو هدمها أو إظهار الاستخفاف بها.

و أما حكمه فالمشهور بين الأصحاب أن الارتداد على قسمين فطري و ملي، فالأول ارتداد من ولد على الإسلام بأن انعقد حال إسلام أحد أبويه و هذا لا يقبل إسلامه لو رجع إليه و يتحتم قتله، و تبين عنه امرأته و تعتد منه عدة الوفاة، و تقسم أمواله بين ورثته و هذا الحكم بحسب الظاهر لا إشكال فيه بمعنى تعين قتله، و أما فيما بينه و بين الله فاختلفوا في قبول توبته فأكثر المحققين ذهبوا إلى القبول حذرا من تكليف ما لا يطاق لو كان مكلفا بالإسلام أو خروجه عن التكليف ما دام حيا كامل العقل و هو باطل بالإجماع و حينئذ فلو لم يطلع عليه أحد أو لم يقدر على قتله فتاب قبلت توبته فيما بينه و بين الله تعالى و صحت عباداته و معاملاته، و لكن لا تعود ماله و زوجته إليه بذلك، و يجوز له تجديد العقد عليها بعد العدة أو فيها على احتمال كما يجوز للزوج العقد على المعتدة بائنا حيث لا تكون محرمة مؤبدا كالمطلقة بائنا و لا تقتل المرأة بالردة بل تحبس دائما و إن كانت مولودة على الفطرة و تضرب أوقات الصلوات.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 163

و الثاني أن يكون مولودا على الكفر فأسلم ثم ارتد فهذا يستتاب على المشهور فإن امتنع قتل، و اختلف في مدة الاستتابة فقيل ثلاثة أيام لرواية مسمع، و قيل:

القدر الذي يمكن معه الرجوع، و يظهر من ابن الجنيد أن الارتداد قسم واحد و أنه يستتاب فإن تاب و إلا قتل و هو مذهب العامة لكن لا يخلو من قوة.

 (الحديث الثاني)

 (1): موثق.

" فخرج من الإيمان شي‏ء؟ قال: نعم"

 (2) ما يخرجه عن الإيمان فقط أما المعاصي و ترك الطاعات بناء على دخول الأعمال في الأيمان، أو إنكار الإمامة و لوازمها، و ما يخرجه عن الإيمان و الإسلام معا الارتداد و ما ينافي دين الإسلام قولا أو فعلا و الترديد في قوله إلى الإسلام أو الكفر لذلك، و في القاموس:

كان الأمر فلتة

 (3) أي فجأة من غير تردد و تدبر، و أفلتني الشي‏ء و تفلت مني انفلت، و أفلته غيره و أفلت على بناء المفعول مات فجأة، و بأمر كذا فوجئ به قبل أن يستعد له، و في المصباح أفلت الطائر و غيره إفلاتا تخلص، و أفلته إذا أطلقته و خلصته يستعمل لازما و متعديا.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 164

باب‏

 (1) إنما لم يعنون الباب لأنه قريب من البابين السابقين في أنه مشتمل على معاني الإسلام و الإيمان، لكن لما كان فيه زيادة تفصيل و توضيح و فوائد كبيرة جعله بابا آخر.

 (الحديث الأول)

 (2): مجهول.

قوله: و ذلك أن،

 (3) تعليل لتكلمهم فيه بغير علم لأنهم تكلموا في متشابهه أيضا مع أنه لا يعلم تأويله إلا الله و الراسخون في العلم، و

المحكم‏

 (4) في اللغة المتقن، و في العرف يطلق على ما له معنى لا يحتمل غيره، و على ما اتضحت دلالته و على ما كان محفوظا من النسخ و التخصيص أو منهما جميعا، و على ما لا يحتمل من التأويل إلا وجها واحدا و

المتشابه‏

 (5) يقابله بكل من هذه المعاني.

و قال الراغب: المحكم ما لا يعرض فيه شبهة من حيث اللفظ و لا من حيث المعنى، و المتشابه من القرآن ما أشكل تفسيره لمشابهة غيره، إما من حيث اللفظ أو من حيث المعنى.

و قال الفقهاء: المتشابه ما لا ينبئ ظاهره عن مراده و حقيقة ذلك أن الآيات عند اعتبار بعضها ببعض ثلاثة أضرب محكم على الإطلاق، و متشابه على الإطلاق، و محكم من وجه متشابه من وجه، فالمتشابه في الجملة ثلاثة أضرب، متشابه من جهة اللفظ

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 165

فقط و متشابه من جهة المعنى فقط و متشابه من جهتهما، فالمتشابه من جهة اللفظ ضربان: أحدهما يرجع إلى الألفاظ المفردة، و ذلك إما من جهة غرابته نحو الأب و يزفون، و إما من مشاركة في اللفظ كاليد و العين، و الثاني يرجع إلى جملة الكلام المركب، و ذلك ثلاثة أضرب ضرب لاختصار الكلام نحو" وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى‏ فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ" و ضرب لبسط الكلام نحو" لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ" لأنه لو قيل ليس مثل مثله شي‏ء كان أظهر للسامع، و ضرب لنظم الكلام نحو" أَنْزَلَ عَلى‏ عَبْدِهِ الْكِتابَ وَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً" تقديره الكتاب قيما و لم يجعل له عوجا، و المتشابه من جهة المعنى أوصاف الله تعالى و أوصاف القيامة فإن تلك الصفات لا تتصور لنا إذا كان لا تحصل في نفوسنا صورة ما لم نحسه أو لم يكن من جنس ما نحسه.

و المتشابه من جهة المعنى و اللفظ جميعا خمسة أضرب.

الأول من جهة الكمية كالعموم و الخصوص نحو:" فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ".

و الثاني من جهة الكيفية كالوجوب و الندب نحو" فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ".

و الثالث من جهة الزمان كالناسخ و المنسوخ نحو" اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ".

و الرابع من جهة المكان و الأمور التي نزلت فيها" وَ لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها" و قوله عز و جل:" إِنَّمَا النَّسِي‏ءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ" فإن من لا يعرف عادتهم في الجاهلية يتعذر عليه معرفة تفسير هذه الآية.

الخامس من جهة الشروط التي بها يصح الفعل أو يفسد كشروط الصلاة و النكاح.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 166

و هذه الجملة إذا تصورت علم أن كل ما ذكره المفسرين في تفسير المتشابه لا يخرج عن التقاسيم نحو قول من قال: المتشابه" الم" و قول قتادة المحكم الناسخ و المتشابه و المنسوخ، و قول الأصم: المحكم ما أجمع على تأويله و المتشابه ما اختلف فيه، ثم جميع المتشابه على ثلاثة أضرب ضرب لا سبيل للوقوف عليه كوقت الساعة و خروج دابة الأرض و كيفية الدابة و نحو ذلك، و ضرب للإنسان سبيل إلى معرفته كالألفاظ الغريبة و الأحكام المغلقة، و ضرب متردد بين الأمرين يجوز أن يختص بمعرفة حقيقته بعض الراسخين في العلم و يخفى على من دونهم و هو الضرب المشار إليه بقوله صلى الله عليه و آله و سلم في علي عليه السلام: اللهم فقهه في الدين و علمه التأويل.

و إذا عرفت هذه الجملة علم أن الوقوف على قوله: إلا الله، و وصله بقوله:

و الراسخون في العلم جائزان، و أن لكل واحد منهما وجها حسب ما يدل عليه التفصيل المتقدم، انتهى.

قوله تعالى:

" مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ"

 (1) قيل: أي أحكمت عباراتها بأن حفظت عن الإجمال‏

" هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ"

 (2) أي أصله يرد إليها غيرها

" وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ"

 (3) قيل:

أي محتملات لا يتضح مقصودها إلا بالفحص و النظر ليظهر فيها فضل العلماء الربانيين في استنباط معانيها و ردها إلى المحكمات و ليتوصلوا بها إلى معرفة الله و توحيده.

و أقول: بل ليعلموا عدم استقلالهم في علم القرآن و احتياجهم في تفسيره إلى الإمام المنصوب من قبل الله و هم الراسخون في العلم.

و روى العياشي عن الصادق عليه السلام أنه سئل عن المحكم و المتشابه؟ فقال: المحكم ما يعمل به، و المتشابه ما اشتبه على جاهله، و في رواية أخرى: و المتشابه الذي يشبه بعضه بعضا، و في رواية أخرى فأما المحكم فتؤمن به و تعمل به و تدين به، و أما المتشابه فتؤمن به و لا تعمل به‏

" فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ"

 (4) أي ميل عن الحق كالمبتدعة

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 167

" فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ"

 (1) فيتعلقون بظاهره أو بتأويل باطل‏

" ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ"

 (2) أي طلب أن يفتنوا الناس عن دينهم بالتشكيك و التلبيس و مناقضة المحكم بالمتشابه.

و في مجمع البيان عن الصادق عليه السلام أن الفتنة هنا الكفر

" وَ ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ"

 (3) أي و طلب أن يأولوه على ما يشتهونه‏

" وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ"

 (4) الذي يجب أن يحمل عليه‏

" إِلَّا اللَّهُ‏

 (5) وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ" الذين تثبتوا و تمكثوا فيه.

و أقول: قد مر الكلام منا في تأويل هذه الآية في كتاب الحجة في باب أن الراسخين في العلم هم الأئمة عليهم السلام‏

قوله عليه السلام: فالمنسوخات من المتشابهات‏

 (6) كان هذا الكلام تمهيد لما سيأتي من اختلاف الإيمان المأمور به في مكة قبل الهجرة و في المدينة بعدها و اختلاف التكاليف فيهما كما و كيفا، ردا على من استدل ببعض الآيات على أن الإيمان نفس الاعتقاد بالتوحيد و النبوة فقط بلا مدخلية للأعمال أو الولاية فيه، بأن تلك الآيات أكثرها نزلت في مكة و كان الإيمان فيها نفس الاعتقاد بالشهادتين أو التكلم بهما ثم نسخ ذلك في المدينة بعد وجوب الواجبات و تحريم المحرمات و نصب الوالي و الأمر بولايته.

و يحتمل أن لا يكون ذلك من قبيل النسخ و يكون ذكر النسخ لبيان عجزهم عن فهم معاني الآيات و خطائهم في الاستدلال بها كما أنهم لا يعرفون الناسخ من المنسوخ و يستدلون بالآيات المنسوخة على الأحكام مع عدم علمهم بنسخها و عد المنسوخات التي لا يعلم بنسخها من المتشابهات فالمنسوخة أخص مطلقا من المتشابه.

و لما كان المحكم غير المتشابه و الناسخ غير المنسوخ و نقيض الأخص أعم من نقيض الأعم غير الأسلوب في الفقرة الثانية فقال:

و المحكمات من الناسخات‏

 (7) للإشارة إلى ذلك و تسميته غير المنسوخ مطلقا ناسخا إما على التوسع و إطلاق لفظ الجزء على الكل أو لكونها ناسخة للشرائع السالفة أو للإباحة الأصلية التي كانوا متمسكين بها قبلها.

و يمكن حمل الناسخ على معناه و حمل الكلام على الغالب بأن يكون الناسخ‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 168

أيضا أخص من المحكم و لا فساد فيه لعدم انحصار الآيات حينئذ في الناسخة و المنسوخة و قيل: لما كان بعض المحكمات مقصور الحكم على الأزمنة السابقة منسوخا بآيات أخر و نسخها خافيا على أكثر الناس فيزعمون بقاء حكمها صارت متشابهة من هذه الجهة و لهذا قال عليه السلام: فالمنسوخات من المتشابهات.

و في بعض النسخ من المتشابهات، و إنما غير الأسلوب في أختها لأن المحكم أخص من الناسخ من وجه، بخلاف المتشابه فإنه أعم من المنسوخ مطلقا، انتهى.

و فيه أن كون المتشابه أعم من مطلق المنسوخ مطلقا لا وجه له إلا أن يخص بمنسوخ لم يعلم نسخه كما أومأنا إليه، و قيل: الظاهر أن الفاء للتفسير لزيادة تفظيع حالهم بأنهم يتبعون المنسوخات و المتشابهات دون المحكمات و الناسخات، لأن المنسوخات من باب المتشابهات في التشابه إذ يشتبه عليهم ثباتها و بقاءها و المحكمات من قبيل الناسخات في الثبات و البقاء، فإذا اتبعوا المتشابهات اتبعوا المنسوخات لأنهما من باب واحد، و إذا اتبعوا المنسوخات لم يتبعوا الناسخات، و إذا لم يتبعوا الناسخات لم يتبعوا المحكمات لأنهما أيضا من باب واحد.

قوله: إن الله عز و جل بعث نوحا،

 (1) هذا شروع في المقصود، و حاصله أن الإيمان في بداية بعثه كل رسول كان مجرد التصديق بالتوحيد و الرسالة و من مات عليه حينئذ كان مؤمنا و وجبت له الجنة، فلما استجابوا لهم ذلك و كثرت أتباعهم و ضعوا أعمالا و شرائع و أوجبوا عليهم و أوعدوا على تركها النار فصارت تلك الأعمال أجزاء للإيمان فأول أولي العزم من الأنبياء كان نوحا عليه السلام فحين بعثه أمرهم أولا بالتوحيد و الإقرار بنبوته فقط، و كان ذلك الإيمان حيث قال في سورة نوح إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى‏ قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ، قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ‏

أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ‏

 (2)" أي مخلصا من غير شرك‏

" وَ اتَّقُوهُ"

 (3) أي اتقوا عذابه الذي‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 169

قرره على الشرك‏

" وَ أَطِيعُونِ"

 (1) فيما أمركم به و أذعنوا لنبوتي فلم يذكر فيما أنذرهم به إلا هذين الأمرين.

" ثم دعاهم"

 (2) أي ثم بعد ذلك استمر على هذه الدعوة زمانا طويلا فكانت دعوته منحصرة في التوحيد و نفي الشريك، و كان قبولهم ذلك منه مستلزما للإذعان بنبوته‏

" ثم بعث الأنبياء"

 (3) أي ثم بعث سائر أولي العزم في أول بعثتهم على هذا الأمر فقط، إلى أن انتهت سلسلة أولي العزم و سائر الأنبياء إلى محمد صلى الله عليه و آله و سلم فكان صلى الله عليه و آله و سلم في أول بعثته بمكة يدعوهم إلى التوحيد و ما يتبعه من الإقرار بالنبوة بل المعاد أيضا فإنه أيضا من الأمور التي نزلت الآيات المشتملة على التهديدات العظيمة فيها قبل الهجرة، فالمراد جميع أصول الدين سوى الإمامة، و ذكر التوحيد على المثال، أو على أن الإقرار به مستلزم للإقرار بسائر الأصول، و يؤيده قوله عليه السلام بعد ذلك:

و الإقرار بما جاء به من عند الله.

 (4)

قوله عليه السلام: و قال،

 (5) أي في سورة الشورى و هي مكية، على ما ذكره المفسرون إلى قوله:" وَ الَّذِينَ اسْتَجابُوا"" وَ الَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ" إلى قوله:" لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ" عن الحسن، و على قول ابن عباس و قتادة إلا أربع آيات منها نزلت بالمدينة" قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً" إلى قوله:" لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ" و على التقادير الآيات المذكورة مكية.

و الاستشهاد بالآية لأن الدين المشترك بين جميع الأنبياء هي الأصول الدينية التي لا تختلف باختلاف الشرائع، مع أن قوله سبحانه:" كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ" يشعر بأن عمدة الدين في ذلك الوقت كانت التوحيد و نفي الشرك مع‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 170

الإقرار بالنبوة لقوله تعالى:" اللَّهُ يَجْتَبِي".

قال الطبرسي رحمه الله:

" شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً،

 (1) أي بين لكم و نهج و أوضح من الدين و التوحيد و البراءة من الشرك ما وصى به نوحا

" وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ"

 (2) أي و هو الذي أوحينا إليك يا محمد و هو ما وصينا به إبراهيم و موسى و عيسى، ثم بين ذلك‏

بقوله:" أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ"

 (3) و إقامة الدين التمسك به و العمل بموجبه و الدوام عليه و الدعاء إليه‏

" وَ لا تَتَفَرَّقُوا"

 (4) أي لا تختلفوا فِيهِ و ائتلفوا فيه و اتفقوا و كونوا عباد الله إخوانا

" كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ"

 (5) من توحيد الله و الإخلاص له، و رفض الأوثان و ترك دين الآباء لأنهم قالوا أ جعل الآلهة إلها واحدا، و قيل: معناه ثقل عليهم و عظم اختيارنا لك بما تدعوهم إليه و تخصيصك بالوحي و النبوة دونهم‏

" اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ"

 (6) أي ليس لهم الاختيار لأن الله يصطفي لرسالته من يشاء على حسب ما يعلم من قيامه باعتبار الرسالة و قيل: معناه: الله يصطفي من عباده لدينه من يشاء" وَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ" أي و يرشد إلى دينه من يقبل إلى طاعته أو يهدي إلى جنته و ثوابه من يرجع إليه بالنية و الإخلاص.

قوله عليه السلام: فمن آمن مخلصا،

 (7) أي بقلبه و لسانه دون لسانه فقط و لم يخلطه بشرك‏

" و ذلك أن الله"

 (8) كأنه إشارة إلى إدخاله الجنة بمجرد الشهادة و الإقرار و إن لم يعمل من الطاعات شيئا و لم يترك سائر المحرمات لأنه كان بذلك مؤمنا في ذلك الزمان، و إدخال المؤمن النار ظلم" و ذلك أن الله" المشار إليه بذلك إما عدم تعذيب‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 171

من ترك العمل بالنار، أو أنه إن لم يدخل الجنة و أدخل النار كان ظالما، و هذا الكلام يحتمل وجهين: أحدهما أن تكون المعاصي التي نهى عنها في مكة من المكروهات و يكون النهي عنها نهي تنزيه، و الطاعات التي أمر بها فيها من المستحبات فالتعليل حينئذ ظاهر لأن التعذيب على ترك المستحبات أو فعل المكروهات في الآخرة ظلم، و ثانيهما أن يكون النهي عن المعاصي نهي تحريم و الأمر بالطاعات أمر وجوب لكن لم يوعد على فعل المعاصي و ترك الطاعات النار و لم يغلظ فيهما، و إنما أوعد النار على المشرك و الإخلال بالعقائد و إنكار النبوة و المعاد فهي كانت بمنزلة الفرائض لسعة كرمه و رحمته أن لا يؤاخذ مجتنب الكبائر بفعل الصغائر، و الكبائر و غيرها بمنزلة الصغائر و سائر الواجبات، و قد أوجب الله تعالى على نفسه فلو عذبهم بها كان ظلما من حيث الإخلال بما أوجب على نفسه من العفو عنهم أو يقال:

التعذيب بالنار مع ترك الإيعاد بها ظلم أو يقال التعذيب بالنار العظيم الأليم أبدا أو مدة طويلة بمحض النهي من غير تهديد و وعيد و تغليظ لا سيما ممن كملت قدرته و وسعت رحمته ظلم، أو يقال: اللطف على الله تعالى واجب و أعظم الألطاف التهديد و الوعيد بالنار فتركه ظلم، أو يقال: أطلق الظلم على خلاف الأولى مجازا و الكل مبني على أن الأعمال و التروك التي هي أجزاء الإيمان إنما هي ما يستحق بتركه الدخول في النار، و في مكة سوى العقائد لم تكن كذلك و لما شرع في المدينة شرائع و جعل فيها فرائض و كبائر يستحق بترك الأولى، و فعل الثانية دخول النار جعلتاه من أجزاء الإيمان.

" جعل لكل نبي"

 (1) إشارة إلى قوله تعالى في المائدة و هي مدنية:" لِكُلٍ‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 172

جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً" قال البيضاوي:

شرعة

 (1) شريعة و هي الطريقة إلى الماء، شبه بها الدين لأنه طريق إلى ما هو سبب الحياة الأبدية و قرأ بفتح الشين‏

" وَ مِنْهاجاً"

 (2) و طريقا واضحا في الدين من نهج الأمر إذا وضح، و استدل به على أنا غير متعبدين بالشرائع المتقدمة، انتهى.

و قال الراغب: الشرع نهج الطريق الواضح، يقال: شرعت له طريقا و الشرع مصدر، ثم جعل اسما للطريق النهج فقيل له شرع و شرعة و شريعة و أستعير ذلك للطريقة الإلهية من الدين قال تعالى:" لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً" فذلك إشارة إلى أمرين أحدهما: ما سخر تعالى عليه كل إنسان من طريق يتحراه مما يعود إلى مصالح عباده و عمارة بلاده و ذلك المشار إليه بقوله:" وَ رَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا". الثاني: ما قيض له من الدين و أمره به ليتحراه اختيارا مما يختلف فيه الشرائع و يعترضه النسخ، و دل عليه قوله:" ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى‏ شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها" قال ابن عباس: الشرعة ما ورد به القرآن و المنهاج ما ورد به السنة و قوله: شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا، الآية، فإشارة إلى الأصول التي تتساوى فيها الملل و لا يصح عليها النسخ كمعرفة الله و نحو ذلك من نحو ما دل عليه قوله: و من يكفر بالله و ملائكته و كتبه و رسله و اليوم الآخر.

قال بعضهم: سميت الشريعة تشبيها بشريعة الماء من حيث أن من شرع فيها على الحقيقة روي و تطهر قال: و أعني بالري ما قال بعض الحكماء: كنت أشرب فلا أروى، فلما عرفت الله رويت بلا شرب، و بالتطهير ما قال تعالى:" إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 173

عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً" انتهى.

و الشرعة و المنهاج متقاربان في المعنى كما أن اللفظين الذين فسرهما عليه السلام بهما أيضا متقاربان، فيحتمل أن يكونا تفسيرين لكل منهما أو يكون على اللف و النشر.

فعلى الأول أطلق على أعمال الدين و أحكامه الشرعة لإيصالها العامل بها إلى الحياة الأبدية و التطهر من الأدناس الرديئة، و المنهاج لأنها كالطريق الواضح الموصل إلى المقصود من الجنة الباقية و الدرجات العالية.

و على الثاني المراد بالأول الواجبات و بالثاني المستحبات، و لذا عبر عليه السلام عن الثاني بالسنة، أو بالأول العبادات و بالثاني سائر الأحكام، و الوجه الأول أوفق بقوله: و كان من السبيل، و إن أمكن أن يكون المراد من مجموعهما و إن كان من أحدهما.

قال الطبرسي (ره) الشرعة و الشريعة واحدة و هي الطريقة الظاهرة، و الشريعة هي الطريقة التي يوصل منه إلى الماء الذي فيه الحياة فقيل: الشريعة في الدين الطريق الذي يوصل منه إلى الحياة في النعيم و هي الأمور التي يعبد الله بها من جهة السمع، و الأصل فيه الظهور، و المنهاج الطريق المستمر يقال: طريق نهج و منهج أي بين، و قال المبرد: الشرعة: ابتداء الطريق و المنهاج الطريق المستقيم قال: و هذه الألفاظ إذا تكررت فلزيادة فائدة فيه و قد جاء أيضا بمعنى واحد كقول الشاعر: أقوى و أقفر، و هما بمعنى، انتهى.

قوله: أن جعل عليهم السبت،

 (1) قال الراغب: أصل السبت قطع العمل و منه سبت السير أي قطعه، و سبت شعره حلقه، و قيل: سمي يوم السبت لأن الله تعالى ابتدأ بخلق السماوات و الأرض يوم الأحد فخلقها في ستة أيام كما ذكره فقطع عمله تعالى يوم السبت فسمي بذلك، و سبت فلان صار في السبت.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 174

و قوله عز و جل:" يَوْمَ سَبْتِهِمْ" قيل: يوم قطعهم للعمل" وَ يَوْمَ لا يَسْبِتُونَ" قيل: معناه لا يقطعون العمل، و قيل: يوم لا يكونون في السبت و كلاهما إشارة إلى حالة واحدة و قوله: إنما جعل السبت أي ترك العمل فيه، انتهى.

قوله عليه السلام: و لم يستحل،

 (1) الظاهر أن المراد بالاستحلال هنا الجرأة على الله و انتهاك ما حرم الله فكأنه عده حلالا لقوله بعد ذلك و لا شكوا في شي‏ء مما جاء به موسى.

و ما قيل: دل على أن مخالفة الأحكام كفر يوجب دخول النار مع الاستحلال و الظاهر أنه لا خلاف فيه بين الأمة، و ما ذلك إلا لأن الإقرار بها و العمل بها داخلان في الإيمان، و إذا كان كذلك كان تاركها و إن لم يستحل كافرا يعذب بالنار أيضا. فلا يخفى وهنه‏

" حيث استحلوا الحيتان"

 (2) أي استحلوا صيدها أو أكلها أو حبسها أيضا، و

قوله: يوم السبت‏

 (3) ظرف لكل من احتبسوها و أكلوها أو لاستحلوا أيضا أي استحلوا أو لأحبسها يوم السبت ثم استحلوا صيدها و أكلها فيه.

و قيل: يوم السبت ظرف‏

لاحتبسوها

 (4) لا لأكلوها أي احتبسوها يوم السبت في مضيق بسد الطريق عليها ثم اصطادوها يوم الأحد و أكلوها، فعلوا ذلك حيلة و لم تنفعهم لأن احتباسها فيه هتك لحرمته، فخرجوا بذلك من الإيمان إلى الكفر، و لذلك غضب الله عليهم من غير أن يشركوا بالرحمن و أن يشكوا في رسالة موسى عليه السلام و ما جاء به، و لذلك لم يصطادوا يوم السبت، فعلم أن الإيمان ليس مجرد التصديق بل هو مع العمل لأن المؤمن لا يغضب و لا يدخل النار.

و فيه شي‏ء لأن استحلالهم الحيتان ينافي ظاهرا عدم شكهم بما جاء به موسى.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 175

و يمكن دفعه بأن ما جاء به موسى تحريم الحيتان يوم السبت و هم استحلوها يوم الأحد و لحق بهم ما لحق بسبب احتباسهم يوم السبت، انتهى.

و أقول: قد عرفت معنى الاستحلال و هو معنى شائع في المحاورات، فلا يرد ما أورده، و أما الجواب الذي ذكره فهو أيضا لا يسمن و لا يغني من جوع، لأن الاحتباس إذا لم يكن منهيا عنه فكيف عذبوا عليه، و إن كان داخلا فيما نهوا عنه عاد الإشكال مع أن ظاهر أكثر الروايات المعتبرة أنهم بعد تلك الحيلة تعدى أكثرهم إلى الصيد و الأكل يوم السبت فاعتزلت طائفة منهم فلم يمسخوا، و بقيت طائفة بينهم فمسخوا أيضا لتركهم النهي عن المنكر، و إن اختلف المفسرون في ذلك.

قال في مجمع البيان: اختلفت في أنهم كيف اصطادوا فقيل: إنهم ألقوا الشبكة في الماء يوم السبت حتى كان يقع فيها السمك ثم كانوا لا يخرجون الشبكة من الماء إلى يوم الأحد، و هذا تسبب محظور، و في رواية ابن عباس: اتخذوا الحياض فكانوا يسوقون الحيتان إليها و لا يمكنها الخروج منها فيأخذونها يوم الأحد.

و قيل: إنهم اصطادوها و تناولوها باليد يوم السبت عن الحسن.

" وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ"

 (1) قال البيضاوي: السبت مصدر سبتت اليهود إذا عظمت يوم السبت و أصله القطع، أمروا أن يجردوه للعبادة فاعتدى فيه ناس منهم في زمن داود عليه السلام و اشتغلوا بالصيد و ذلك أنهم كانوا يسكنون قرية على الساحل يقال لها أبلة، و إذا كان يوم السبت لم يبق حوت في البحر إلا حضر هناك و أخرج خرطومه و إذا مضى تفرقت فحضروا حياضا و شرعوا إليها الجداول، و كانت الحيتان تدخلها يوم السبت فيصطادونها يوم الأحد

" فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ"

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 176

 (1) جامعين بين صورة القردة، و الخسوء و هو الصغار و الطرد، قال مجاهد: ما مسخت صورهم و لكن قلوبهم فمثلوا بالقردة كما مثلوا بالحمار في قوله:" كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً" و قوله: كونوا، ليس بأمر إذ لا قدرة لهم عليه و إنما المراد به سرعة التكوين و أنهم صاروا كذلك كما أراد بهم، انتهى.

قوله: فهدمت،

 (2) أي الشرعة و المنهاج أيضا لكونه بمعنى الطريق يجوز فيه التأنيث، و يمكن أن يقرأ على بناء المجهول بإضمار السنة في السبت، و

قوله: أن يعظموه‏

 (3) بدل اشتمال للضمير، و

عامة

 (4) عطف على السبت‏

" سبيل عيسى"

 (5) أي شرائعه المختصة به.

قوله عليه السلام: و إن كان الذي جاء به النبيون‏

 (6) أي هدمت شريعة عيسى عامة ما كانوا عليه و إن كان الذي جاء به النبيون من التوحيد و سائر الأصول باقيا لم يتغير، أو المعنى أدخله الله النار و إن كان منه الإقرار بما جاء به النبيون و هو التوحيد، و نفي الشرك،

و قوله: أن لا يشركوا

 (7)، عطف بيان أو بدل للموصول، و على الوجهين يحتمل كون كان تامة و ناقصة، و قيل: الموصول اسم كان و أن لا يشركوا خبره و له أيضا وجه و إن كان بعيدا.

قوله عليه السلام: عشر سنين،

 (8) أقول: هذا مخالف لما مر في تاريخ النبي صلى الله عليه و آله و سلم و لما هو المشهور من أنه صلى الله عليه و آله و سلم أقام بعد البعثة بمكة ثلاث عشرة سنة، فقيل: هو مبني على إسقاط الكسور بين العددين و هو بعيد في مثل هذا الكسر، و الذي سنح لي أنه مبني على ما يظهر من الأخبار أنه لما نزل:" وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ" و كان أول‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 177

بعثه دعا بني عبد المطلب و أظهر لهم رسالته و دعاهم إلى بيعته و الإيمان به، فلم يؤمن به إلا علي عليه السلام ثم خديجة رضي الله عنها، ثم جعفر رضي الله عنه، و كان على ذلك ثلاث سنين حتى نزل:" فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ" فدعا الناس إلى الإسلام فلذا لم يعد عليه السلام تلك الثلاث سنين من أيام البعثة، و أنها لم تكن بعثة عامة مؤكدة.

قال علي بن إبراهيم في قوله تعالى" فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ" إلخ، أنها نزلت بمكة بعد أن نبي رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم بثلاث سنين و ذلك أن النبوة نزلت على رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم يوم الاثنين و أسلم علي عليه يوم الثلاثاء ثم أسلمت خديجة بنت خويلد زوجة النبي صلى الله عليه و آله و سلم ثم دخل أبو طالب على النبي صلى الله عليه و آله و سلم و هو يصلي و علي بجنبه و كان مع أبي طالب جعفر فقال له أبو طالب: صل جناح ابن عمك فوقف جعفر على يسار رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم فبدر رسول الله من بينهما فكان يصلي رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم و على و جعفر و زيد بن حارثة و خديجة، فلما أتى لذلك ثلاث سنين أنزل الله عليه" فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ، إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ".

و في إعلام الورى بعد ذلك فخرج رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم و قام على الحجر و قال: يا معشر قريش و يا معشر العرب أدعوكم إلى عبادة الله و خلع الأنداد و الأصنام و أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله و أني رسول الله فأجيبوني تملكوا بها العرب، و تدين لكم بها العجم، و تكون ملوكا في الجنة، إلى آخر ما ذكر.

و يحتمل أن يكون مبنيا على إسقاط سني الهجرة إلى شعب أبي طالب، أو إسقاط الثلاث سنين بعد وفاة أبي طالب رضي الله عنه، لعدم تمكنه في هاتين المدتين‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 178

من التبليغ كما ينبغي لكنهما بعيدان، و الأظهر ما ذكرنا أولا.

قوله عليه السلام: يشهد أن لا إله إلا الله،

 (1) الظاهر أن المراد به الشهادة القلبية بالتوحيد و الرسالة و ما يلزمهما فقط أو مع الإقرار باللسان أو عدم الإنكار الظاهري لا مجرد الإقرار باللسان بقرينة

قوله: و هو إيمان التصديق،

 (2) و قد عرفت أن الإيمان الظاهري فقط لا ينفع في الآخرة و إن احتمل التعميم، و يكون‏

قوله: إلا من أشرك بالرحمن،

 (3) أي قلبا استثناء منه فيرجع إلى ما ذكرنا أولا و على الأول يكون استثناء منقطعا.

و على التقديرين يكون المراد بقوله: و هو إيمان التصديق أنه الإيمان بمعنى التصديق فقط، و لا يدخل فيه الأعمال لا شرطا و لا شطرا و إن كانت سببا لكماله بخلاف الإيمان بعد الهجرة فإن الأعمال قد دخلت فيه على أحد الوجهين و ذلك لأنهم لم يكلفوا بعد إلا بالشهادتين فحسب، و إنما نهوا عن أشياء نهي أدب و عظة و تخفيف، ثم نسخ ذلك بالتغليظ في الكبائر و التواعد عليها، و لم يكن التغليظ و التواعد يومئذ إلا في الشرك خاصة، فلما جاء التغليظ و الإيعاد بالنار في الكبائر ثبت الكفر و العذاب بالمخالفة فيها.

" و تصديق ذلك"

 (4) أي دليل ما ذكرنا من التفاوت في التكاليف و معنى الإيمان قبل الهجرة و بعدها.

و قال الفاضل الأسترآبادي: بيان لأول الواجبات على المكلفين و أن تكاليف الله تعالى ينزل على التدريج، و في كتاب الأطعمة من تهذيب الأحكام أحاديث صريحة في التدريج في التكاليف، انتهى.

و لنذكر تفسير الآيات التي أسقطت اختصارا إما من الإمام عليه السلام أو من الراوي قال تعالى قبل تلك الآيات:" لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولًا" ثم قال:

" وَ قَضى‏ رَبُّكَ"

 (5) قيل: أي أمر أمرا مقطوعا به:

" أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ"

 (6) لأن‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 179

غاية التعظيم لا تحق إلا لمن له غاية العظمة و نهاية الإنعام‏

" وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً"

 (1) بأن تحسنوا أو أحسنوا بالوالدين إحسانا لأنهما السبب الظاهر للوجود و التعيش" إِمَّا يَبْلُغَنَّ" إما إن الشرطية زيدت عليها ما للتأكيد" عِنْدَكَ الْكِبَرَ" في كنفك و كفالتك" أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ" إن أضجراك" وَ لا تَنْهَرْهُما" أي فلا تزجرهما إن ضرباك" وَ قُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً" أي حسنا جميلا" وَ اخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ" أي تذلل لهما و تواضع" مِنَ الرَّحْمَةِ" أي من فرط رحمتك عليهما" وَ قُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً" جزاء لرحمتهما على و تربيتهما و إرشادهما لي في صغري" رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً".

عن الصادق عليه السلام الأوابون التوابون المتعبدون" وَ آتِ ذَا الْقُرْبى‏ حَقَّهُ وَ الْمِسْكِينَ وَ ابْنَ السَّبِيلِ وَ لا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً" و هو صرف المال فيما لا ينبغي و إنفاقه على وجه الإسراف" إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ" أي أمثالهم" وَ كانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً" أي مبالغا في الكفر.

" وَ إِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً، وَ لا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى‏ عُنُقِكَ وَ لا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً" أي فتصير ملوما عند الله و عند الناس بالإسراف و سوء التدبير" مَحْسُوراً" أي نادما أو منقطعا بك لا شي‏ء عندك" إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ" أي يوسعه و يضيقه بمشيته التابعة للحكمة

" إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً"

 (2) يعلم سرهم و علانيتهم.

قوله عليه السلام: أدب و عظة،

 (3) أي كلما ذكر في تلك الآيات سوى صدر الأولى و هو قوله:" وَ قَضى‏ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ" تأديب و موعظة، و هذا مبني على أن قوله و بالوالدين بتقدير و أحسنوا عطفا على جملة: قضى ربك، لأن فيها تأكيدا و تهديدا في الجملة.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 180

و يحتمل أن يكون المراد جميعها لكن وقع التهديد على الشرك فيما مر و فيما سيأتي من الآيات كقوله وَ لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ.

فإن قيل: قوله وَ آتِ ذَا الْقُرْبى‏ حَقَّهُ، إلى قوله:" كَفُوراً" فيه وعيد و تهديد؟

قلنا: ليس محض كونهم إخوان الشياطين تهديدا و وعيدا صريحا بالنار، بل قيل قوله كانوا، يدل على أن في أواخر شرائع سائر أولي العزم كانت كذلك، فلا يدل صريحا على أن في تلك الشريعة أيضا كذلك، و الاجتراح الاكتساب.

" وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ"

 (1) قيل: أي مخافة الفاقة و قتلهم أولادهم و أدهم بناتهم مخافة الفقر فنهاهم الله عنه، و ضمن لهم أرزاقهم فقال:

" نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَ إِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً"

 (2) أي ذنبا كبيرا مما فيه من قطع التناسل و انقطاع النوع.

و الخطأ الإثم، يقال: خطى‏ء خطأ كأثم إثما، و قرأ ابن عامر خطأ بالتحريك و هو اسم من أخطأ يضاد الصواب، و قيل: لغة فيه كمثل و مثل و حذر و حذر، و قرأ ابن كثير خطاءا بالمد و الكسر، و هو إما لغة أو مصدر خاطئا، و قرى خطاءا بالفتح و المد، و خطأ بحذف الهمزة مفتوحا و مكسورا و على التقادير ليس فيه تصريح بكونه ذنبا، و لا ترتب العقوبة عليه.

" وَ لا تَقْرَبُوا الزِّنى‏"

 (3) بالقصد و إتيان المقدمات فضلا أن تباشروه‏

" إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً"

 (4) فعلة ظاهرة القبح زايدته‏

" وَ ساءَ سَبِيلًا"

 (5) أي و بئس طريقا طريقه، و هو الغصب على الإبضاع المؤدي إلى قطع الأنساب و هيج الفتن.

" وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ"

 (6) قيل: أي إلا بإحدى ثلاث خصال:

كفر بعد إيمان، و زنى بعد إحصان، و قتل مؤمن معصوم عمدا

" وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً"

 (7) غير

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 181

مستوجب للقتل‏

" فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ"

 (1) للذي يلي أمره بعد وفاته و هو الوارث‏

" سُلْطاناً"

 (2) أي تسلطا بالمؤاخذة بمقتضى القتل‏

" فَلا يُسْرِفْ"

 (3) أي القاتل‏

" فِي الْقَتْلِ"

 (4) بأن يقتل من لا يحق قتله فإن العاقل لا يفعل ما يعود عليه بالهلاك أو الولي بالمثلة أو قتل غير القاتل‏

" إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً"

 (5) علة النهي على الاستئناف، و الضمير إما للمقتول فإنه منصور في الدنيا بثبوت القصاص بقتله و في الآخرة بالثواب، و إما لوليه فإن الله نصره حيث أوجب القصاص له و أمر الولاة بمعونته و إما للذي يقتله الولي إسرافا بإيجاب القصاص و التعزير و الوزر على المسرف.

" وَ لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ"

 (6) فضلا أن تتصرفوا فيه‏

" إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ"

 (7) أي إلا بالطريقة التي هي أحسن‏

" حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ"

 (8) غاية لجواز التصرف الذي دل عليه الاستثناء

" وَ أَوْفُوا بِالْعَهْدِ"

 (9) بما عاهدكم الله من تكاليفه أو ما عاهدتموه و غيره‏

" إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا"

 (10) مطلوبا يطلب من المعاهد أن لا يضيعه و يفي به، أو مسئولا عنه يسأل الناكث و يعاتب عليه أو يسأل العهد لم نكثت تبكيتا للناكث كما يقال للموؤدة بأي ذنب قتلت، و يجوز أن يراد أن صاحب العهد كان مسئولا.

" وَ أَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ"

 (11) و لا تبخسوا فيه‏

" وَ زِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ"

 (12) بالميزان السوي و هو رومي عرب، و قرأ حمزة و الكسائي و حفص بكسر القاف‏

" ذلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلًا"

 (13) أي و أحسن عاقبة تفعيل من آل إذا رجع.

" وَ لا تَقْفُ"

 (14) و لا تتبع‏

" ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ"

 (15) ما لم يتعلق به علمك تقليدا أو رجما بالغيب قيل: و احتج به من منع من اتباع الظن، و جوابه: أن المراد بالعلم هو الاعتقاد

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 182

الراجح المستفاد من سند، سواء كان قطعيا أو ظنيا و استعماله بهذا المعنى شائع، و قيل: إنه مخصوص بالعقائد، و قيل: بالرمي و شهادة الزور

" إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ"

 (1) أي كل الأعضاء فأجراها مجرى العقلاء بما كانت مسئولة عن أحوالها، شاهدة عن صاحبها، هذا.

و إن" أولاء" و إن غلب على العقلاء لكنه من حيث أنه اسم جمع لذا و هو يعم القبيلين جاء لغيرهم كقوله:" و العيش بعد أولئك الأيام".

" كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا"

 (2) في ثلاثتها ضمير كل، أي كان كل واحد منها مسئولا عن نفسه، يعني عما فعل به صاحبه، و يجوز أن يكون الضمير في عنه لمصدر و لا تقف، أو لصاحب السمع و البصر، و قيل: مسئولا مسند إلى عنه كقولك: غير المغضوب عليهم، و المعنى يسأل صاحبه عنه و هو خطأ لأن الفاعل و ما يقوم مقامه لا يتقدم، و قيل: المراد بسؤال الجوارح إما سؤال نفسها أو سؤال أصحابها كما يظهر من أولئك أو جعلت بمنزلة ذوي العقول أو هم ذوو العقول مع الله تعالى‏

" وَ لا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً"

 (3) أي ذا مرح و هو الاختيال، و في القاموس: المرح شدة الفرح و النشاط

" إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ"

 (4) لن تجعل فيها خرقا بشدة وطأتك‏

" وَ لَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا"

 (5) بنظارتك و مد عنقك و هو تهكم بالمختال و تعليل للنهي بأن الاختيال حماقة مجردة لا تعود بجدوى ليس في التذلل‏

" كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ"

 (6) قيل: يعني المنهي عنه فإن المذكورات مأمورات و مناهي، و قرأ الحجازيان و البصريان" سيئة" على أنها خبر كان و الاسم ضمير كل و" ذلك" إشارة إلى ما نهى عنه خاصة و على هذا قوله‏

" عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً"

 (7) بدل من سيئة أو صفة لها محمولة على المعنى.

" ذلِكَ"

 (8) إشارة إلى الأحكام المتقدمة

" مِمَّا أَوْحى‏ إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ"

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 183

 (1) التي هي معرفة الحق لذاته و الخير للعمل به‏

" وَ لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ"

 (2) كرره للتنبيه على أن التوحيد مبدء الأمر و منتهاه و رأس الحكمة و ملاكها

" مَلُوماً"

 (3) تلوم نفسك‏

" مَدْحُوراً"

 (4) مطرودا مبعدا من رحمة الله.

و أقول: هذا شروع في ذكر الآيات التي نزلت بمكة مشتملة على الوعيد و التهديد في الشرك و نحوه بخلاف ما ورد في غيره مما مضى فإن كونه خطأ كبيرا أو فاحشة و مسئولا و مسئولا عنه و مكروها ليس في شي‏ء منها تصريح بالعذاب و النكال الأخروي و لا يحتاج إلى ما يتكلف بأن كان خطأ و كان فاحشة، و مسئولا، و كان عنه مسئولا، و كان سيئة عند ربك مكروها، محمولة على أنها كانت في أواخر الأمم السابقة كذلك، و ستصير في هذه الأمة أيضا بعد ذلك كذلك فإنه في غاية البعد و زيادة" كان" في هذه المقامات كثيرة في الذكر الحميد كقوله" كانَ رَبُّكَ قَدِيراً" و كانَ غَفُوراً رَحِيماً" بل الوجه ما ذكرنا فتفطن.

" ناراً تَلَظَّى"

 (5) أي تتلهب‏

" لا يَصْلاها"

 (6) أي لا يلزمها مقاسيا شدتها

" إِلَّا الْأَشْقَى"

 (7) قيل أي إلا الكافر فإن الفاسق و إن دخلها لم يلزمها و لكن سماه أشقى و وصفه‏

بقوله:" الَّذِي كَذَّبَ وَ تَوَلَّى"

 (8) أي كذب الحق و أعرض عن الطاعة كذا ذكره البيضاوي، و قال في قوله تعالى بعد ذلك:" وَ سَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى" أي الذي اتقى الشرك و المعاصي فإنه لا يدخلها فضلا أن يدخلها و يصليها، و مفهوم ذلك أن من اتقى الشرك دون المعصية لا يجنبها، و لا يلزم ذلك صليها، فلا يخالف الحصر السابق انتهى.

و قال الطبرسي (ره): لا يصليها، أي لا يدخل تلك النار و لا يلزمها إلا

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 184

الأشقى و هو الكافر بالله، الذي كذب بآيات الله و رسله و تولى، أي أعرض عن الإيمان، و سيجنبها، أي سيجنب النار و يجعل منها على جانب" الأتقى" المبالغ في التقوى" الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ" أي ينفقه في سبيل الله" يَتَزَكَّى" أي يكون عند الله زكيا لا يطلب بذلك رياء و لا سمعة.

قال القاضي: قوله: لا يصليها الآية، لا يدل على أنه تعالى لا يدخل النار إلا الكافر على ما تقوله الخوارج و بعض المرجئة، و ذلك لأنه نكر النار المذكورة و لم يعرفها، فالمراد بذلك أن نارا من جملة النيران لا يصليها إلا من هذه حاله، و النيران دركات على ما بينه سبحانه في سورة النساء في شأن المنافقين، فمن أين عرف أن هذه النار لا يصليها قوم آخرون، و بعد فإن الظاهر من الآية يوجب أن لا يدخل النار إلا من كذب و تولى و جمع بين الأمرين، فلا بد للقوم من القول بخلافه لأنهم يوجبون النار لمن يتولى عن كثير من الواجبات و إن لم يكذب، و قيل: إن الأتقى و الأشقى المراد بهما التقي و الشقي، انتهى.

ثم اعلم أنه استدل بالآيات الأول على أن وعيد النار في مكة إنما كان على الكفار لأنه سبحانه حصر الصلي بالنار على الأشقى الذي كذب الرسول و تولى عن قبول قوله في التوحيد أو الأعم، و من كذب الرسول و أعرض عما جاء به كافر مشرك، فظهر أنه لم يكن يومئذ يستحق النار غير المشركين و الكفار من الفساق و إليه أشار عليه السلام بقوله فهذا مشرك و هذا وجه حسن، و استدلال متين لكن كيف يستقيم على هذا الآيات التالية و هي قوله:" وَ سَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى" إلخ، فإنها تدل على أن غير الأتقى لا يجنب النار.

و يمكن الجواب عنه بوجوه:

الأول: أن المضارع في قوله تعالى لا يَصْلاها، للحال و استعمل الصلي في سببه مجازا أي الحكم في الحال قبل الهجرة أنه لا يدخلها إلا المشرك، و في قوله‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 185

سيجنبها للاستقبال القريب إخبارا عن التكاليف المدينة بعد دخول الأعمال في الإيمان فلا تنافي بينهما و تكون الآيات جمع دالة على الحكمين صريحا.

الثاني: أن يقال أن الآيات التالية نزلت بالمدينة كما روي في تفسير علي بن إبراهيم أنها نزلت في أبي الدحداح بالمدينة لكن ظاهر الرواية أن الآيات الأول أيضا نزلت بالمدينة.

الثالث: أن يقال أن الآيات الأخيرة و إن كانت دالة على عدم تجنب الفساق النار لكنها دلالة ضعيفة بالمفهوم، فما يدل صريحا على دخول النار إنما هو في الكفار، و ما يدل على حكم الفجار فليس فيه وعيد صريح و تهديد عظيم بل يدل دلالة ضعيفة على عدم الحكم بأنهم لا يدخلونها لا سيما مع الحصر المتقدم و لعل السر في هذا الإجمال عدم اجترائهم على المعاصي.

" وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ"

 (1) أي يؤتى كتابه بشماله من وراء ظهره، قيل: يغل يمناه إلى عنقه و يجعل يسراه وراء ظهره‏

" فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً"

 (2) أي يتمنى الثبور و يقول وا ثبوراه و هو الهلاك‏

" وَ يَصْلى‏ سَعِيراً"

 (3) أي نارا مسعرة

" إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ"

 (4) أي في الدنيا

" مَسْرُوراً"

 (5) بطرا بالمال و الجاه فارغا عن ذكر الآخرة

" إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ"

 (6) أي لن يرجع بعد أن يموت‏

" بَلى‏"

 (7) يرجع" إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً" أي عالما بأعماله فلا يهمله بل يرجعه و يجازيه‏

" فهذا مشرك"

 (8) لأنه أنكر البعث و إنكاره كفر أو كان لا ينكره حينئذ إلا المشركون‏

" كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ"

 (9) أي جماعة من الكفرة

" سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها"

 (10) أي خزنة جهنم‏

" أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ"

 (11) يخوفكم هذا العذاب‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 186

و هو توبيخ و تبكيت.

" قالُوا بَلى‏ قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا"

 (1) أي الرسل و أفرطنا في التكذيب حتى نفينا الإنزال رأسا و بالغنا في نسبتهم إلى الضلال حيث قالوا بعد ذلك" إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ".

فهؤلاء مشركون‏

 (2) لتكذيبهم بكتب الله و رسله‏

" وَ أَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ"

 (3) بالبعث و الرسل و آيات الله‏

" الضَّالِّينَ"

 (4) عن الهدى الذاهبين عن الصواب و الحق‏

" فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ"

 (5) أي فنزلهم الذي أعد لهم من الطعام و الشراب من حميم جهنم‏

" وَ تَصْلِيَةُ جَحِيمٍ"

 (6) أي إدخال نار عظيمة فهؤلاء مشركون للتصريح بأنهم كانوا من المكذبين الضالين.

" وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ"

 (7) لما رأى من قبح العمل و سوء العاقبة

" يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ وَ لَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ"

 (8) الهاء فيهما و فيما بعدها للسكت، تثبت في الوقف و تسقط في الوصل، و قالوا: استحب الوقف لثباتها في الإمام و لذلك قرأ بإثباتها في الوصل‏

" يا لَيْتَها"

 (9) أي يا ليت الموتة التي متها

" كانَتِ الْقاضِيَةَ"

 (10) أي القاطعة لأمري فلم أبعث بعدها أو يا ليت هذه الحالة كانت الموتة التي قضيت علي أو يا ليت حياة الدنيا كانت الموتة و لم أخلق حيا

" ما أَغْنى‏ عَنِّي مالِيَهْ"

 (11) أي مالي من المال و التبع أو ما نفي و المفعول محذوف أو استفهام إنكار مفعول لأغنى و بعد ذلك.

" هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ" أي ملكي و تسلطي أو حجتي التي كنت أحتج في‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 187

الدنيا" خُذُوهُ" يقوله الله لخزنة جهنم" فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ" أي ثم لا تصلوه إلا الجحيم و هي النار العظمى لأنه كان يتعظم على الناس" ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ" أي فأدخلوه فيها بأن تلقوه على جسده،

إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ"

 (1) فدل على أن هذا الوعيد بالنار لمن لا يؤمن بالله من الكفار فهذا مشرك.

قوله" في طسم"

 (2) أي في الشعراء

" وَ بُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ"

 (3) فيرونها مكشوفة و يتحسرون على أنهم المسوقون إليها

" وَ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ"

 (4) أي أين آلهتكم الذين تزعمون أنهم شفعاؤكم‏

" هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ"

 (5) بدفع العذاب عنكم‏

" أَوْ يَنْتَصِرُونَ"

 (6) بدفعه عن أنفسهم لأنهم و آلهتهم يدخلون النار كما قال‏

" فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَ الْغاوُونَ"

 (7) أي الآلهة و عبدتهم و الكبكبة تكرير الكتب لتكرير معناه، كان من ألقي في النار ينكب مرة بعد أخرى حتى يستقر في قعرها

" وَ جُنُودُ إِبْلِيسَ"

 (8) قيل: متبعوه من عتاة الثقلين أو شياطينه‏

" أَجْمَعُونَ"

 (9) تأكيد للجنود إن جعل مبتدأ خبره ما بعده، أو للضمير و ما عطف عليه و كذا الضمير المنفصل و ما يعود إليه في قوله:" قالُوا وَ هُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ، تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ" على أن الله ينطق الأصنام فتخاصم العبدة، و يؤيده الخطاب في قوله:" إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ" أي في استحقاق العبادة، و يجوز أن يكون الضمائر للعبدة كما في قالوا و الخطاب للمبالغة في التحسر و الندامة، و المعنى أنهم مع تخاصمهم في مبدء ضلالهم معترفون بانهماكهم في الضلالة يتحسرون عليها، كذا ذكره البيضاوي في تفسير تلك الآيات.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 188

قوله عليه السلام: يعني المشركين،

 (1) هو خبر لقوله" بحذف العائد، أي يعني به، و المعنى أن المراد بالمجرمين المشركون الذين اتبعهم هؤلاء القائلون على شركهم و كلاهما من أمة محمد صلى الله عليه و آله و سلم‏

" و تصديق ذلك"

 (2) أي تصديق أن المراد بهم المشركون من هذه الأمة أن الله تعالى ذكر بعد تلك الآيات أحوال المشركين و عبدة الأوثان من كل أمة، و لم يدخل فيهم اليهود و النصارى.

فالظاهر أن يكون المراد هنا أيضا طائفة مخصوصة، و ليس هم اليهود و النصارى لقوله تعالى سابقا فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَ الْغاوُونَ، لدلالته على أن معبودهم في النار فلم يبق إلا أن يكونوا من هذه الأمة أو يكتفي بالوجه الأول، و يقال: لما كان الظاهر من الآيات اللاحقة اختصاص الكلام بعبدة الأوثان فالظاهر هنا أيضا أن يكون المراد به من هو من جنسهم و لم يبق من الأمم المشهورة الذين تعرض الله لذكرهم في القرآن إلا هذه الأمة فهم المرادون به و

قوله:" كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ"

 (3) كأنه نقل بالمعنى لأن تلك الآيات في سورة الشعراء و ليس فيها" قبلهم" و إنما هو في ص و المؤمن، و يحتمل أن يكون في مصحفهم عليهم السلام هكذا.

هذا ما خطر بالبال، و قيل: لعل المراد أن القائلين بهذا القول أعني قولهم:

" وَ ما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ"

 (4) هم مشركو قوم نبينا الذين اتبعوا آباءهم المكذبين للأنبياء بدليل أن الله سبحانه ذكر عقيب ذلك في مقام التفصيل المكذبين للأنبياء طائفة بعد طائفة، و ليس المراد بهم أحدا من اليهود و النصارى الذين صدقوا نبيهم و إنما

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 189

أشركوا من جهة أخرى و إن كان الفريقان يدخلان النار أيضا فقوله: سيدخل الله، استدراك لدفع توهم عدم دخولهما النار و عدم دخول غيرهما ممن أساء العمل، انتهى.

قوله عليه السلام: ليس هم اليهود،

 (1) تأكيد لقوله: ليس فيهم، أو المراد بالأول أنه ليس في القائلين و المجرمين، و بالثاني أنه ليس في هؤلاء المكذبين من الأمم السابقة، و قيل: الأول نفي للتشريك، و الثاني نفي للاختصاص، و الأوسط أظهر.

و" قولهم"

 (2) مبتدأ

" إذ دعونا إلى سبيلهم"

 (3) ذلك من كلامه عليه السلام ذكره تفسيرا للآية، و

قول الله‏

 (4) خبر للمبتدإ، و يحتمل أن يكون ذلك مبتدأ ثانيا إشارة إلى قولهم، و قول الله خبره، و المجموع خبر للمبتدإ الأول، و حاصله أن القولين حكايتان عن قصة واحدة، و قيل:

حين‏

 (5) ظرف لقول الله مجازا من قبيل وضع الدال موضوع المدلول.

ثم اعلم أن الآيات في سورة الأعراف هكذا:" حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَ شَهِدُوا عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ، قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً، قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَ لكِنْ لا- تَعْلَمُونَ، وَ قالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ" فظهر أن‏

قوله: قالت أوليهم لأخريهم‏

 (6)، من سهو النساخ أو الرواة

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 190

و أن" كُلَّما دَخَلَتْ" مقدم على السابق في الترتيب.

قالوا

" و"

 (1) في قوله: و قوله، بمعنى مع، مع أنه لا يدل على الترتيب.

" كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ"

 (2) أي في النار

" لَعَنَتْ أُخْتَها"

 (3) التي ضلت بالاقتداء بها

" حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها"

 (4) أصل اداركوا تداركوا، فأدغم و معناه تلاحقوا، أي لحق آخرهم أولهم في النار

" قالَتْ أُخْراهُمْ"

 (5) دخولا و منزلة و هم الأتباع‏

" لِأُولاهُمْ"

 (6) إذ الخطاب مع الله لا معهم‏

" رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا"

 (7) أي سنوا لنا الضلال فاقتدينا بهم‏

" فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ"

 (8) أي مضاعفا لأنهم ضلوا و أضلوا.

" قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ" أما القادة فبكفرهم و تضليلهم، و أما الأتباع فبكفرهم و تقليدهم" وَ لكِنْ لا تَعْلَمُونَ" ما لكم أو ما لكل فريق" وَ قالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ" عطفوا كلامهم على جواب الله لأخريهم، و بنوه عليه، أي فقد ثبت أن لا فضل لكم علينا، و إنا إياكم متساوون في الضلال و استحقاق العذاب" فَذُوقُوا الْعَذابَ" من قول القادة أو من قول الفريقين.

" أن يحج بعضا"

 (9) بضم الحاء أي يغلبه بالحجة، في القاموس الحج الغلبة بالحجة و في المصباح حاجة محاجة فحجة بحجة من باب قتل إذا غلبه في الحجة، و قال:

فلج‏

 (10) فلوجا من باب قعد ظفر بما طلب، و فلج بحجته أثبتها، و أفلج الله حجته أظهرها، و قال:

أفلت‏

 (11) الطائر و غيره إفلاتا تخلص، و أفلته أنا إذا أطلقته و خلصته، يستعمل لازما و متعديا و فلت فلتا من باب ضرب لغة و فلتة، يستعمل‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 191

أيضا لازما و متعديا، و انفلت خرج بسرعة.

" و ليس بأوان بلوى و لا اختبار"

 (1) يعني أنهم يطمعون في غير مطمع، فإن الاحتجاج و طلب الدليل إنما ينفع في دار التكليف و الاختبار لا في دار الجزاء بعد ظهور الأمر و دخول النار.

" و لا حين نجاة"

 (2) أي ليس هذا الزمان حين نجاة يمكن التخلص من العذاب بالتوبة و غيرها، و في بعض النسخ و لا حين نجاة، مقتبسا من قوله تعالى:" وَ لاتَ حِينَ مَناصٍ" قال البيضاوي: أي ليس الحين حين مناص، و" لا" هي المشبهة بليس زيدت عليها تاء التأنيث للتأكيد كما زيدت على رب و ثم، و خصت بلزوم الأحيان و حذف أحد المعمولين، و قيل: هي النافية للجنس، أي و لا حين مناص لهم، و قيل:

للفعل و النصب بإضماره أي و لا أرى حين مناص، و قيل: أن التاء مزيدة على حين لاتصالها به في الإمام، انتهى.

" و الآيات"

 (3) أي تلك الآيات المتقدمة

" و لا يدخل الله"

 (4) الجملة حالية أي نزلت تلك الآيات في حال كان الحكم فيها أن لا يدخل الله النار إلا مشركا.

قوله عليه السلام: فلما أذن الله‏

 (5)، قال المحدث الأسترآبادي: تصريح بأن مصداق الإسلام في مكة أقل من مصداقه في المدينة، انتهى.

و عد الشهادتين واحدة لتلازمهما و كان الولاية أيضا داخلة فيهما كما عرفت و عدم التصريح للتقية، أو أنه عليه السلام استدل بهذا الخبر المشهور بين العامة إلزاما

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 192

عليهم، و كان ذكر العبادات الأربع و تخصيصها لكونها أهم الفرائض أو لأنها صرحت بها في القرآن و أكدت عليها دون غيرها، أو أنه بني عليها أولا ثم زيدت سائر الفرائض.

" وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً"

 (1) استدل به من قال بخلود أصحاب الكبائر في النار و أول بوجوه:

الأول أن المراد بالمتعمد من قتله لإيمانه كما ورد في أخبار كثيرة فيكون كافرا.

الثاني: أن المراد بالخلود المكث الطويل.

الثالث: أن المراد أن هذا جزاؤه إن جازاه لكنه سبحانه لا يجازيه كما ورد في بعض أخبارنا.

الرابع: أن المراد بالتعمد المستحل.

الخامس: أنه يفعل فعلا يستحق به دخول النار، و استدل عليه السلام على عدم إيمانه بأن الله لعنه و لا يلعن مؤمنا لقوله تعالى:

" إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ"

 (2) و كأنه عليه السلام استدل بمفهوم الوصف فيدل على حجيته، و يمكن أن يكون لخصوص سياق الآية أيضا مدخل فيه.

" و كيف يكون في المشيئة"

 (3) أي كيف يكون أمر القاتل في مشيئة الله إن‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 193

شاء عذبه و إن شاء غفر له، و الحال أنه قد ألحق به بعد أن جزاه جهنم الغضب و اللعنة المختصين بالكفار.

أقول: كونه في المشيئة إما مبني على ما ذكره أكثر المتكلمين من أن خلف الوعد قبيح و على الله محال، و أما خلف الوعيد فهو حسن و يجوز على الله تعالى و ليس بكذب، قال الطبرسي (ره): و روى عاصم بن أبي النجود عن ابن عباس في‏

قوله:" فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ"

 (1) قال: هي جزاؤه فإن شاء عذبه و إن شاء غفر له، و روي عن أبي صالح و بكر بن عبد الله و غيره أنه كما يقول الإنسان لمن يزجره عن أمر: إن فعلت فجزاؤك القتل و الضرب، ثم إن لم يجازه بذلك لم يكن ذلك منه كذبا، انتهى.

أو إشارة إلى قوله تعالى:" إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ" فيدل على أن ما دون الشرك مما يغفره الله لمن يشاء و القتل داخل في ذلك فيكون داخلا في المشيئة كما قال في مجمع البيان قال جماعة من التابعين: الآية اللينة و هي" إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ" الآية، نزلت بعد الشديدة، و هي" وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً" الآية، و على الأول فكان جوابه عليه السلام مبني على أن آية القتال ليست مشتملة على الوعيد فقط بل على أنه ممن غضب الله عليه و لعنه، فإذا دخل الجنة من غير توبة أو غيرها مما يكفره يكون كذبا، و لم يكن مغضوبا و لا ملعونا مبعدا من رحمة الله.

و على الثاني مبني على وجهين:" الأول" أن القتل المذكور داخل في الشرك و الكفر حيث لعنه الله، و لا يلعن إلا الكافر" و الثاني" أنه لا يكون داخلا فيمن يشاء مغفرته حيث أخبر بأنه مغضوب و ملعون، و هذا صريح في عدم المغفرة و الوجوه كأنها متقاربة.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 194

" و قد بين ذلك"

 (1) المشار إليه آية الأحزاب أي أن الله لعن الكافرين.

" و أنزل"

 (2) أي في سورة النساء أيضا

" من أكله"

 (3) بدل اشتمال لمال اليتيم‏

" إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى‏ ظُلْماً"

 (4) قال في المجمع: أي ينتفعون بأموال اليتامى و يأخذونها ظلما بغير حق، و لم يرد به قصر الحكم على الأكل، و إنما خص لأنه معظم منافع المال المقصودة.

" إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً"

 (5) قيل فيه وجهان:

أحدهما: أن النار تلتهب من أفواههم و إسماعهم و آنافهم يوم القيامة ليعلم أهل الموقف أنهم أكلة أموال اليتامى عن السدي، و روي عن الباقر عليه السلام أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: يبعث ناس من قبورهم يوم القيامة تأجج أفواههم نارا فقيل له: يا رسول الله من هؤلاء؟ فقرأ هذه الآية.

و الآخر: أنه ذكر ذلك على وجه المثل من حيث أن من فعل ذلك يصير إلى جهنم فيمتلي بالنار أجوافهم عقابا على أكلهم مال اليتيم‏

" وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً"

 (6) أي يلزمون النار المسعرة للإحراق، و إنما ذكر البطون تأكيدا كما يقال: نظرت بعيني، و قلت بلساني، و أخذت بيدي و مشيت برجلي، انتهى.

" و أنزل في الكيل"

 (7) فإن قيل: سورة المطففين من السور المكية و الغرض هنا بيان التكاليف المتجددة بالمدينة؟ قلنا: لا عبرة بما ذكره المفسرون في ذلك مع أنهم اختلفوا في هذه السورة قال في مجمع البيان: مكية، و قال المعدل مدنية عن الحسن و الضحاك و عكرمة، و قال ابن عباس و قتادة: إلا ثماني آيات منها، و هي‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 195

" إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا" إلى آخر السورة، انتهى.

فالخبر يؤيد قول هؤلاء الجماعة و يؤيده ما رواه في مجمع البيان في سبب نزول صدر السورة عن عكرمة عن ابن عباس أنه لما قدم رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم المدينة كانوا من أخبث الناس كيلا فأنزل الله عز و جل:

" وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ"

 (1) فأحسنوا الكيل بعد ذلك، و روي عن السدي أنه صلى الله عليه و آله و سلم قدم المدينة و بها رجل يقال له أبو جهينة و معه صاعان يكيل بأحدهما و يكتال بالآخر فنزلت الآيات، و يؤنسه أن الطبرسي (ره) ذكرها في ترتيب نزول السور آخر السور المكية.

فيمكن أن يكون نزولها بعد الهجرة و قبل نزول المدينة.

و في القاموس: الويل حلول الشر، و ويل كلمة عذاب، و واد في جهنم أو بئر أو باب لها، انتهى.

و استدل عليه السلام بأن الويل لم يطلق في القرآن إلا للكافرين كقوله:" فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَ وَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ"" وَ وَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ"" فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ"" وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ"" يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا"" يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ".

و في المجمع وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ، هم الذين ينقصون المكيال و الميزان و يبخسون الناس حقوقهم في الكيل و الوزن، قال الزجاج: و إنما قيل له: مطفف لأنه لا يكاد يسرق في المكيال و الميزان إلا الشي‏ء اليسير الطفيف.

" و أنزل في العهد"

 (2) أي في سورة آل عمران و هي مدنية

" إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 196

بِعَهْدِ اللَّهِ"

 (1) لعل المراد بالعهد هنا على ظاهر سياق الحديث ما عاهدوا الله عليه، فخالفوه، و باليمين الإيمان التي يحلفون بها على المستقبل ثم يخالفونها، و يحتمل شموله لليمين الغموس الكاذبة، و يحتمل أن يكون العهد شاملا للبيعة و ما عاهدوا رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم ثم نقضوه.

و قال الراغب: العهد: حفظ الشي‏ء و مراعاته حالا بعد حال و سمي الموثق الذي يلزم مراعاته عهدا قال عز و جل:" وَ أَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا" أي أوفوا لفظ الأمان، و عهد فلان إلى فلان أي ألقى العهد إليه و أوصاه بحفظه، قال عز و جل:" وَ لَقَدْ عَهِدْنا إِلى‏ آدَمَ" و عهد الله تارة يكون بما ركزه في عقولنا، و تارة يكون بما أمرنا به بكتابه و بسنة رسله، و تارة بما نلتزمه و ليس بلازم في أصل الشرع كالنذور و ما يجري مجراه، انتهى.

و أما ما ذكره المفسرون في تلك الآية فقال الطبرسي قدس سره: نزلت في جماعة من أحبار اليهود كتموا ما في التوراة من أمر محمد صلى الله عليه و آله و سلم و كتبوا بأيديهم غيره، و حلفوا أنه من عند الله لئلا تفوتهم الرئاسة، و ما كان لهم علي أتباعهم عن عكرمة، و قيل: نزلت في الأشعث بن قيس و خصم له في أرض قام ليحلف عند رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم فلما نزلت الآية نكل الأشعث و اعترف بالحق عن ابن جريج، و قيل:

نزلت في رجل حلف يمينا فاجرة في تنفيق سلعته، عن مجاهد و الشعبي.

ثم قال:" إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ" أي يستبدلون بأمر الله سبحانه ما يلزمهم الوفاء به، و قيل: معناه: إن الذين يحصلون بنكث عهد الله و نقضه‏

" وَ أَيْمانِهِمْ"

 (2) أي و بالأيمان الكاذبة

" ثَمَناً قَلِيلًا"

 (3) أي عوضا نذرا لأنه قليل في جنب ما يفوتهم من الثواب، و يحصل لهم من العقاب، و قيل: العهد ما أوجبه الله تعالى على الإنسان من الطاعة و الكف عن المعصية، و قيل: هو ما في عقل الإنسان من الزجر عن الباطل‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 197

و الانقياد للحق.

" أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ"

 (1) أي لا نصيب وافرا لهم في نعيم الآخرة

" وَ لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ"

 (2) أي بما يسرهم، أو لا يكلمهم أصلا و تكون المحاسبة بكلام الملائكة استهانة لهم‏

" وَ لا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ"

 (3) أي لا يعطف عليهم و لا يرحمهم كما يقول القائل للغير:

انظر إلى، يريد ارحمني‏

" وَ لا يُزَكِّيهِمْ"

 (4) أي لا يطهرهم، و قيل: لا ينزلهم منزلة الأزكياء، و قيل: لا يطهرهم من دنس الذنوب و الأوزار بالمغفرة بل يعاقبهم، و قيل: لا يحكم بأنهم أزكياء و لا يسميهم بذلك بل يحكم بأنهم كفرة فجرة

" وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ"

 (5) مؤلم موجع، انتهى.

و قال البيضاوي: أي يستبدلون بما عاهدوا عليه من الإيمان بالرسول و الوفاء بالأمانات، و بإيمانهم و بما حلفوا به من قولهم و الله لنؤمنن به و لننصرنه" ثَمَناً قَلِيلًا" مَتاعُ الدُّنْيا" و لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ" الظاهر أنه كناية عن غضبه عليهم لقوله:" وَ لا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ" فإن من سخط على غيره و استهان به أعرض عنه و عن التكلم معه و الالتفات نحوه كما أن من اعتد بغيره يقاوله و يكثر النظر إليه" وَ لا يُزَكِّيهِمْ" و لا يثني عليهم، انتهى.

و ظاهر الخبر أن ناقض العهد و اليمين لا يدخل الجنة أصلا، فيمكن حمله على الاستحلال أو على أنه لا يدخل الجنة ابتداء و حمله علي المشركين و الكافرين كما هو ظاهر المفسرين ينافي سياق الحديث، و يمكن حمله على أنهم لا يستحقون دخول الجنة و لا يلزم على الله ذلك لعدم الوعد إلا أن يدخلهم الجنة بفضله.

" و أنزل بالمدينة"

 (6) أي في سورة النور و هي مدنية:

" الزَّانِي لا يَنْكِحُ"

 (7) قال في‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 198

مجمع البيان: اختلف في تفسيره على وجوه" أحدها" أن يكون المراد بالنكاح العقد و نزلت الآية على سبب و هو أن رجلا من المسلمين استأذن النبي صلى الله عليه و آله و سلم في أن يتزوج أم مهزول و هي امرأة كانت تسافح و لها راية على بابها تعرف بها، فنزلت الآية عن ابن عباس و غيره، و المراد بالآية النهي و إن كان ظاهره الخبر" و ثانيها" أن النكاح هيهنا الجماع و المعنى أنهما اشتركا في الزنا فهي مثله، فيكون نظير قوله:

" الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَ الْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ" في أنه خرج مخرج الأغلب" و ثالثها" أن هذا الحكم كان في كل زان و زانية ثم نسخ بقوله:" وَ أَنْكِحُوا الْأَيامى‏ مِنْكُمْ" الآية عن سعيد بن المسيب و جماعة" و رابعها" أن المراد به العقد و ذلك الحكم ثابت فيمن زنى بامرأة فإنه لا يجوز له أن يتزوج بها، روي ذلك عن جماعة من الصحابة.

و إنما قرن الله سبحانه بين الزاني و المشرك تعظيما لأمر الزنا و تفخيما لشأنه، و لا يجوز أن يكون هذه الآية خبرا لأنا نجد الزاني يتزوج غير زانية، و لكن المراد هنا الحكم في كل زان أو النهي، سواء كان المراد بالنكاح الوطء أو العقد و حقيقة النكاح في اللغة الوطء.

" وَ حُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ"

 (1) أي حرم نكاح الزانيات أو حرم الزنا على المؤمنين فلا يتزوج بهن و لا يطأهن إلا زان أو مشرك، انتهى.

ثم المشهور بين الأصحاب كراهة نكاح المشهورات بالزنا، و ذهب الشيخان و جماعة إلى اشتراط التوبة في الحل سواء زنى بها من أراد نكاحها أو غيره للآية المتقدمة و بعض الأخبار، و أجيب عن الآية تارة بأن المراد بالنكاح الوطء، و أخرى بأنها منسوخة بقوله تعالى:" وَ أَنْكِحُوا الْأَيامى‏ مِنْكُمْ" و بقوله:" فَانْكِحُوا ما طابَ‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 199

لَكُمْ" أو قوله:" وَ أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ" و في الأول أنه خلاف الظاهر، فإنه إن أريد الوطء لم يظهر للكلام فائدة ظاهرة، و في الثاني أنه خلاف الأصل مع أن الظاهر من طاب: حل، و من وراء ذلكم، سائر أصناف النساء، و لا ينافيه عروض الحرمة لعروض زناء و نحوه.

و الظاهر أنه عليه السلام استدل بالآية على أن الله تعالى أخرج الزناة و الزواني في هذه الآية من عداد المؤمنين حيث قابل بين المؤمنين و بينهما، إذا الظاهر من سياق الآية أن المراد أنه لا يليق نكاح الزاني إلا بزانية أو مشركة، و لا نكاح الزانية إلا بزان أو مشرك، و أما المؤمن فإنه لا يليق به هذا الفعل و هو محرم عليه إما بمعناه أو بمعنى الكراهة الشديدة، أو بمعنى المحرومية كما في قوله سبحانه:" وَ حَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ" فظهر أنه لم يسمها بالإيمان لما عرفت من المقابلة مع أنه جمع بينهما و بين المشرك ففيه أيضا إيماء بعدم إيمانهما.

و هذا وجه حسن خطر بالبال للآية و الخبر معا فإن حمل الآية على وجه آخر لا يستقيم ظاهرا فإنه إذا حمل النكاح على الوطء فالكلام إما في قوة النهي أو الخبر، فعلى الأول المعنى النهي عن أن يطأ الزاني سوى الزانية و المشركة و جواز وطيه لهما، و فيه ما لا يخفى و كذا العكس، و على الثاني يكون كذبا إن أراد بالوطء غير الزنا أو الأعم، و إن أريد به الزنا كان الكلام خاليا عن الفائدة.

و إذا حمل على العقد فلو كان في قوة النهي كان مفادها النهي عن أن ينكح الزاني سوى الزانية و المشركة و تجويز نكاحه إياهما و تجويز نكاح الزانية بالزاني و المشرك و لم يقل به أحد، و لو كان خبرا لزم الكذب، فلا بد من حمل الآية على ما ذكرنا فيتضح استدلاله عليه السلام غاية الوضوح.

و يظهر منه عدم تمام الاستدلال بها على تحريم نكاحهما، نعم قوله سبحانه‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 200

" وَ حُرِّمَ ذلِكَ" فيه دلالة على التحريم إن لم نحمله على معنى الحرمان، و حمله على الكراهة الشديدة مع وجود المعارض غير بعيد مع أنه يحتمل أن يكون ذلك إشارة إلى الزنا، و يكون الجملة حالية أو تعليلية.

قوله: ليس يمتري،

 (1) الامتراء الشك، و الجملة إلى قوله: أنه قال، معترضة، و ضمير

" فيه"

 (2) راجع إلى الرسول، و

قوله: إنه قال‏

 (3)، بدل اشتمال للضمير، و

قوله:

لا يزني‏

 (4) مفعول قال أولا و الاعتراض لبيان أن الخبر معلوم متواتر بين الفريقين، و كان المراد

بقوله: حين يزني‏

 (5) و

حين يسرق‏

 (6)، حين يصير عليهما و لم يتب، و لا فساد في مفارقه الإيمان بالمعنى الذي ذكرناه، حيث اشتمل على فعل الفرائض و ترك الكبائر عنه، و بها يستحق العذاب في الجملة لا الخلود في النار، و من لم يقل بذلك أوله بتأويلات بعيدة.

قال في النهاية: في الحديث: لا يزني الزاني و هو مؤمن، قيل: معناه النهي و إن كان في صورة الخبر، و الأصل حذف الياء من يزني، أي لا يزن المؤمن و لا يسرق و لا يشرب، فإن هذه الأفعال لا يليق بالمؤمن، و قيل: هو وعيد يقصد به الردع كقوله عليه السلام: لا إيمان لمن لا أمانة له، و المسلم من سلم المسلمون من لسانه و يده، و قيل: معناه لا يزني و هو كامل الإيمان و قيل: معناه أن الهوى يغطي الإيمان فصاحب الهوى لا يرى إلا هواه و لا ينظر إلى إيمانه الناهي له عن ارتكاب الفاحشة، فكان الإيمان في تلك الحالة قد انعدم.

و قال ابن عباس: الإيمان نزه فإذا أذنب العبد فارقه، و منه الحديث الآخر:

إذا زنى الرجل خرج منه الإيمان فوق رأسه كالظلة فإذا أقلع رجع إليه الإيمان، و كل هذا محمول على المجاز و نفي الكمال دون الحقيقة في رفع الإيمان و إبطاله، انتهى.

و قيل: أنه ليس بمؤمن إذا كان مستحلا، و قيل: ليس بمؤمن من العقاب و قيل: المقصود نفي المدح، أي لا يقال له مؤمن بل يقال: زان أو سارق، و قيل: أنه‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 201

لنفي البصيرة، أي ليس هو ذا بصيرة، و قال ابن عباس: أي ليس ذا نور و قيل: أي ليس بمستحضر الإيمان، و قيل: أي ليس هو بعاقل لأن المعصية مع استحضار العقوبة مرجوحة و الحكم بالمرجوح بخلاف المعقول، و قيل: المقصود نفي الحياء، و الحياء شعبة من الإيمان أي ليس بمستحي من الله سبحانه.

و لا يخفى ما في أكثر هذه الوجوه من البعد و الركاكة.

" و أنزل بالمدينة"

 (1) أي في سورة النور:

" الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ"

 (2) أي يقذفون العفائف من النساء بالزنا

" ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ"

 (3) أي بأربعة عدول يشهدون أنهم رأوهن يفعلن ما رموهن به من الزنا

" فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً"

 (4) خبر الذين بتأويل‏

" وَ لا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً"

 (5) خبر ثان، و تنكير شهادة للعموم، أي في أمر من الأمور كان‏

أبدا

 (6) تأكيد للعموم أي ما لم يتب‏

" وَ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ"

 (7) أي هم في أعلى مراتب الفسق حتى كأنه لا فاسق غيرهم فقد عبر عنهم باسم الإشارة و عرف الخبر و أتى بضمير الفصل مبالغة في ادعاء حصر الفسق فيهم و قصره عليهم.

قيل: و يمكن أن يكون حالا أو اعتراضا يجري مجرى التعليل لعدم قبول الشهادة

" إِلَّا الَّذِينَ تابُوا"

 (8) عن القذف و ندموا و رجعوا بالتدارك‏

" مِنْ بَعْدِ ذلِكَ"

 (9) أي من بعد إقامة الحد، و قيل: من بعد الرمي‏

" وَ أَصْلَحُوا"

 (10) سرائرهم و أعمالهم فاستقاموا على مقتضى التوبة، قالوا و منه الاستسلام للحد و الاستحلال من المقذوف و العزم على عدم العود إلى ذلك، و على ترك جميع المناهي على قول.

و في المجمع: و من شرط توبة القاذف أن يكذب نفسه فيما قاله فإن لم يفعل ذلك لم يجز قبول شهادته" فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ" علة للاستثناء.

قوله عليه السلام:" فَبَرَّأَهُ اللَّهُ"

 (11) الظاهر أنه عليه السلام استدل على عدم وصفهم بالإيمان‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 202

بوصفهم بالفسق لأن في عرف القرآن لازم للكفر و لم يطلق فيه الفاسق إلا على الكافر كقوله تعالى:

" أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً"

 (1) فقابل بين الإيمان و الفسق، فدل على أن الفاسق ليس بمؤمن، و قال:

" إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ"

 (2) فخص الفاسق في المنافق فجعله الله منافقا

" و جعله من أولياء إبليس"

 (3) حيث أطلق الفسق عليهما، و أيضا إذا نظرت في الآيات الكريمة و سبرتها لم تر الفاسق أطلق فيها إلا على الكافر.

قال الراغب: فسق فلان: خرج من حد الشرع، و ذلك من قولهم فسق الرطب إذا خرج عن قشره و هو أعم من الكافر، و الفسق يقع بالقليل من الذنوب و بالكثير لكن تعورف فيما كان كثيرا، و أكثر ما يقال لمن التزم حكم الشرع و أقر به ثم أخل بجميع أحكامه أو ببعضه، و إذا قيل للكافر الأصلي فاسق فلأنه أخل بحكم ما ألزمه العقل و اقتضاء الفطرة، قال عز و جل:

" فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ"

 (4)" فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ"" وَ أَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ"" وَ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ"" أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ" و قال:" وَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ" و قال تعالى:" وَ أَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ"" وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ"" وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ"" إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ"" و كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ" انتهى.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 203

" و جعله"

 (1) أي الرامي‏

" الْمُحْصَناتِ"

 (2) أي العفائف‏

" الْغافِلاتِ"

 (3) مما قذفن به‏

" الْمُؤْمِناتِ"

 (4) بالله و رسوله و ما جاء به‏

" لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ"

 (5) بما طعنوا فيهن‏

" وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ"

 (6) لعظم ذنوبهم.

" يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ"

 (7) ظرف لما في لهم من معنى الاستقرار لا للعذاب‏

" أَلْسِنَتُهُمْ وَ أَيْدِيهِمْ"

 (8) يعترفون بها بإنطاق الله إياها بغير اختيارهم أو بظهور آثاره عليها.

قوله عليه السلام: و ليست تشهد،

 (9) يدل على أن شهادة الجوارح إنما هي للكفار كما ذكره جماعة من المفسرين، و ذكره الشيخ البهائي (ره) في الأربعين.

قوله عليه السلام: فيعطى كتابه بيمينه،

 (10) أي فيقرأه، و من تنطق جوارحه يختم على فيه، لقوله تعالى:" الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى‏ أَفْواهِهِمْ وَ تُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ" أو لأن سياق آيات شهادة الجوارح تدل على غاية الغضب، و الآيات النازلة في المؤمنين مشتملة على نهاية اللطف كقوله سبحانه:" يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ" أي من المدعوين‏

" كِتابَهُ بِيَمِينِهِ"

 (11) أي كتاب عمله‏

" فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ"

 (12) ابتهاجا بما يرون فيه‏

" وَ لا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا"

 (13) أي و لا ينقصون من أجورهم أدنى شي‏ء، و الفتيل: المفتول، و سمي ما يكون في شق النواة فتيلا لكونه على هيئته، و قيل: هو ما تفتله بين أصابعك من خيط أو وسخ و يضرب به المثل في الشي‏ء الحقير.

ثم اعلم أن هذا المضمون وقع في مواضع من القرآن المجيد أو لها في بني- إسرائيل:" فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ" إلى آخر ما في الحديث.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 204

و ثانيها في إلحاقه" فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ" و ثالثها في الانشقاق:" فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً".

و ما في الحديث لا يوافق شيئا منها و إن كان بالأول أنسب، فكأنه من تصحيف النساخ أو كان في قراءتهم عليهم السلام هكذا، أو نقل بالمعنى جمعا بين الآيات.

" و سورة النور أنزلت"

 (1) كان هذا جواب عن اعتراض مقدر، و هو أنه لما أنزل الله في سورة النساء مرتين إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ، و هي تدل على عدم ترتب العذاب على غير الشرك، فيمكن كونها ناسخة للآيات الدالة على عقوبات أصحاب الكبائر و عدم كونهم من المؤمنين، فأجاب عليه السلام بعد التنزل على عدم المخالفة بين هذه الآية و تلك الآيات لأن تجويز المغفرة لمن شاء الله لا ينافي استحقاقهم للعذاب و العقاب و خروجهم عن الإيمان بأحد معانيه بأن أكثر ما أوردنا من الآيات و استدللنا بها إنما هي في سورة النور و هي نزلت بعد سورة النساء فكيف تكون آية النساء ناسخة لها، فلو احتاج التوفيق إلى القول بالنسخ لكان الأمر بعكس ما قلتم، مع أنه لا قائل بالفصل.

ثم استدل عليه السلام على ذلك بأن الله تعالى قال في سورة النساء:" أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا" و السبيل هو الذي ذكره من الحد في سورة النور، و يحتمل أن يكون الغرض إفادة دليل آخر على ما سبق من نزول الأحكام مدرجا و نسخ الأشد للأضعف لكن الأول أظهر.

" وَ اللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ"

 (2) ذهب الأكثر إلى أن المراد بالفاحشة الزنا، و قيل: هي المساحقة

" فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ"

 (3) الخطاب للأئمة

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 205

و الحكام بطلب أربعة رجال من المسلمين شهودا عليهن و قيل: الخطاب للأزواج‏

" فَإِنْ شَهِدُوا"

 (1) أي الأربعة

" فَأَمْسِكُوهُنَّ"

 (2) أي فاحبسوهن‏

" فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ"

 (3) أي يدركهن‏

" الْمَوْتُ"

 (4) قيل: أريد به صيانتهن عن مثل فعلهن و الأكثر على أنه على وجه الحد على الزنا قالوا: كان في بدو الإسلام إن فجرت المرأة و قام عليها أربعة شهود حبست في البيت أبدا حتى تموت، ثم نسخ ذلك بالرجم في المحصنين و الجلد في البكرين.

" أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا"

 (5) أي ببيان الحكم كما مر و قيل: بالتوبة أو بالنكاح المغني عن السفاح، و قالوا: لما نزل قوله تعالى:" الزَّانِيَةُ وَ الزَّانِي فَاجْلِدُوا" قال النبي صلى الله عليه و آله و سلم: خذوا عني قد جعل الله سبيلا.

" سُورَةٌ"

 (6) أي هذه سورة أو فيما أوحينا إليك سورة

" أَنْزَلْناها"

 (7) صفة

" وَ فَرَضْناها"

 (8) أي فرضنا ما فيها من الأحكام‏

" لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ"

 (9) فتتقون الحرام‏

" الزَّانِيَةُ وَ الزَّانِي"

 (10) قيل: أي فيما فرضنا أو أنزلنا حكمهما و هو الجلد، و يجوز أن يرفعا بالابتداء و الخبر

" فَاجْلِدُوا"

 (11) إلى قوله‏

" رَأْفَةٌ"

 (12) أي رحمه‏

" فِي دِينِ اللَّهِ"

 (13) أي في طاعته و إقامة حده فتعطلوه أو تسامحوا فيه‏

" إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ"

 (14) فإن الإيمان يقتضي الجد في طاعة الله.

ثم اعلم أن عدم ذكر الولاية في هذا الخبر مع أنها الغرض الأصلي منه لنوع من التقية لأنه عليه السلام ذكره إلزاما عليهم حيث أنكروا كون الولاية جزءا من الإيمان.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 206

 (الحديث الثاني)

 (1): مجهول.

و الحاصل أن الإيمان الذي هو سبب لرفع الدرجات و التخلص من العقوبات في الدنيا و الآخرة ليس محض العقائد و إلا لم يفرض الله الفرائض و لم يتوعد على المعاصي، و أيضا ما ورد في الآيات و الأخبار من كرامة المؤمنين و درجاتهم و منازلهم ينافي إجراء الحدود عليهم و إذا لهم و إهانتهم، فلا بد من خروجهم عن الإيمان حين استحقاقهم تلك العقوبات.

قوله: فما بال من جحد؟

 (2) لعل المعنى أنه لو كان الإيمان محض التكلم بالشهادتين أو الاعتقاد بهما كما تزعمون لم يكن جحد الفرائض موجبا للكفر مع أنكم توافقوننا في ذلك لورود الأخبار فيه، فلم لا تقولون بعدم إيمان تاركي الفرائض و مرتكبي الكبائر أيضا مع ورود الأخبار الكثيرة فيها أيضا، و قيل: المراد بجحد الفرائض تركها عمدا من غير عذر فإنه يؤذن بالاستخفاف و الجحد.

قال الشهيد الثاني رفع الله درجته في بيان حقيقة الكفر: عرفه جماعة بأنه عدم الإيمان عما من شأنه أن يكون مؤمنا سواء كان ذلك العدم بضد أو لا بضد فبالضد كان يعتقد عدم الأصول التي بمعرفتها يتحقق الإيمان أو عدم شي‏ء منها و بغير الضد

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 207

كالخالي من الاعتقادين أي اعتقاد ما به يتحقق الإيمان و اعتقاد عدمه، و ذلك كالشاك أو الخالي بالكلية كالذي لم يقرع سمعه شي‏ء من الأمور التي يتحقق الإيمان بها.

و يمكن إدخال الشاك في القسم الأول إذ الضد يخطر بباله و إلا لما صار شاكا، و اعترض عليه بأن الكفر قد يتحقق مع التصديق بالأصول المعتبرة في الإيمان كما إذا ألقى إنسان المصحف في القاذورات عامدا أو وطأه كذلك أو ترك الإقرار باللسان جحدا و حينئذ فينقض حد الإيمان منعا و حد الكفر جمعا.

و أجيب تارة بأنا لا نسلم بقاء التصديق لفاعل ذلك، و لو سلمنا يجوز أن يكون الشارع جعل وقوع شي‏ء من ذلك علامة و أمارة على تكذيب فاعل ذلك و عدم تصديقه فيحكم بكفره عند صدور ذلك منه، و هذا كما جعل الإقرار باللسان علامة على الحكم بالإيمان مع أنه قد يكون كافرا في نفس الأمر.

و تارة بأنه يجوز أن يكون الشارع حكم بكفره ظاهرا عند صدور شي‏ء من ذلك حسما لمادة جرأة المكلفين على انتهاك حرماته و تعدى حدوده، و إن كان التصديق في نفس الأمر حاصلا و غاية ما يلزم من ذلك جواز الحكم بكون شخص واحد مؤمنا و كافرا و هذا لا محذور فيه لأنا نحكم بكفره ظاهرا و إمكان إيمانه باطنا فالموضوع مختلف فلم يتحقق اجتماع المتقابلين ليكون محالا، و نظير ذلك ما ذكرناه من دلالة الإقرار على الإيمان فيحكم به مع جواز كونه كافرا في نفس الأمر.

و أقول أيضا: أن النقض المذكور لا يرد على جامعية تعريف الكفر و ذلك لأنه قد بين أن العدم المأخوذ فيه أعم من أن يكون بالضد أو غيره، و ما ذكر من موارد النقض داخل في غير الضد كما لا يخفى، و حينئذ فجامعيته سالمة لصدقه على الموارد المذكورة و الناقض و المجيب غفلا عن ذلك.

و يمكن الجواب عن مانعية تعريف الإيمان أيضا بأن نقول من عرف الإيمان بالتصديق المذكور جعل عدم الإتيان بشي‏ء من موارد النقض شرطا في اعتبار ذلك‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 208

التصديق شرعا و تحقق حقيقة الإيمان.

و الحاصل أنا لما وجدنا الشارع حكم بإيمان المصدق و حكم بكفر من ارتكب شيئا من الأمور المذكورة مطلقا علمنا أن ذلك التصديق إنما يعتبر في نظر الشارع إذا كان مجردا عن ارتكاب شي‏ء من موارد النقض و أمثالها الموجبة للكفر، فكان عدم الأمور المذكورة شرطا في حصول الإيمان، و لا ريب أن المشروط عدم عند عدم شرطه و شروط المعرف التي يتوقف عليها وجود ماهيته ملحوظة في التعريف و إن لم يصرح بها فيه للعلم باعتبارها عقلا لما تقرر في بداهة العقول أنه بدون العلة لا يوجب المعلول و الشرط من أجزاء العلة كما صرحوا به في بحثها، و الكل لا يوجد بدون جزئه.

و هذا الجواب و اللذان قبله لم نجدها لغيرنا بل هي من هبات الواهب تعالى و تقدس و لم نعدم لذلك مثلا و إن لم نكن له أهلا، انتهى كلامه قدس سره.

و أقول: هذه التكلفات إنما يحتاج إليها إذا جعل الإيمان نفس العقائد و لم يدخل فيها الأعمال و مع القول بدخول الأعمال لا حاجة إليها، مع أن هذا التحقيق يهدم ما أسسه سابقا إذ يجري هذه الوجوه في سائر الأعمال و التروك التي نفي كونها داخلة في الإيمان و ما ذكره عليه السلام في آخر الحديث من الإلزام على المخالفين يومئ إلى هذا التحقيق فتأمله.

 (الحديث الثالث)

 (1): مجهول.

و يدل على أحد المعاني التي ذكرنا للإيمان، و حمله القوم على الإيمان الكامل، و قال بعض المحققين ممن كان في عصرنا قدس سره: هذا مجمل القول في الإيمان و يفصله سائر الأخبار بعض التفصيل.

و أما الضابط الكلي الذي يحيط بحدوده و مراتبه و يعرفه حق التعريف فهو أن الإيمان الكامل الخالص المنتهى تمامه هو التسليم لله تعالى و التصديق بما

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 209

جاء به النبي صلى الله عليه و آله و سلم لسانا و قلبا على بصيرة مع امتثال جميع الأوامر و النواهي كما هي، و ذلك إنما يمكن تحققه بعد بلوغ الدعوة النبوية إليه في جميع الأمور أما من لم تصل إليه الدعوة في جميع الأمور أو في بعضها لعدم سماعه أو عدم فهمه فهو ضال أو مستضعف ليس بكافر و لا مؤمن، و هو أهون الناس عذابا بل أكثر هؤلاء لا يرون عذابا و إليهم الإشارة بقوله سبحانه:" إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ وَ الْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَ لا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا" و من وصلت إليه الدعوة فلم يسلم و لم يصدق و لو ببعضها إما لاستكبار و علو أو لتقليد للأسلاف و تعصب لهم أو غير ذلك فهو كافر بحسبه أي بقدر عدم تسليمه و ترك تصديقه كفر جحود و عذابه عظيم على حسب جحوده، و إليهم الإشارة بقوله سبحانه:" إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ، خَتَمَ اللَّهُ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ وَ عَلى‏ سَمْعِهِمْ وَ عَلى‏ أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ".

و من وصلت إليه الدعوة فصدقها بلسانه و ظاهره لعصمة ماله أو دمه أو غير ذلك من الأغراض و أنكرها بقلبه و باطنه لعدم اعتقاده بها فهو كافر كفر نفاق و هو أشدهم عذابا و عذابه أليم بقدر نفاقه.

و إليهم الإشارة بقوله سبحانه:" وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ، يُخادِعُونَ اللَّهَ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ ما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَ ما يَشْعُرُونَ، فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ" إلى قوله:

" إِنَّ اللَّهَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ".

و من وصلت إليه الدعوة فاعتقدها بقلبه و باطنه لظهور حقيتها لديه و جحدها أو بعضها بلسانه و لم يعترف بها حسدا و بغيا و عتوا و علوا أو تقليدا و تعصبا أو غير

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 210

ذلك فهو كافر كفر تهود، و عذابه قريب من عذاب المنافق.

و إليهم الإشارة بقوله عز و جل:" الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ" و قوله:" فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ" و قوله:" إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَ الْهُدى‏ مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ" و قوله:" وَ يَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَ نَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا، أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا" و قوله:" أَ فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَ تَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ" إلى قوله:" أَشَدِّ الْعَذابِ".

و من وصلت إليه الدعوة فصدقها بلسانه و قلبه و لكن لا يكون على بصيرة من دينه إما لسوء فهمه مع استبداده بالرأي و عدم تابعيته للإمام أو نائبه المقتفى أثره حقا و إما لتقليد و تعصب للآباء و الأسلاف المستبدين بآرائهم مع سوء إفهامهم أو غير ذلك فهو كافر كفر ضلالة و عذابه على قدر ضلالته و قدر ما يضل فيه من أمر الدين.

و إليهم الإشارة بقوله عز و جل:" يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَ لا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ" حيث قالوا عزير ابن الله أو المسيح ابن الله، و بقوله تعالى:

" يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَ لا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ" و بقول نبينا صلى الله عليه و آله و سلم: اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا و أضلوا.

و من وصلت إليه الدعوة فصدقها بلسانه و قلبه على بصيرة و اتباع للإمام أو نائبه الحق إلا أنه لم يمتثل جميع الأوامر و النواهي بل أتى ببعض دون بعض بعد أن‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 211

اعترف بقبح ما يفعله و لكن لغلبة نفسه و هواه عليه فهو فاسق عاص و الفسق لا ينافي أصل الإيمان، و لكن ينافي كماله، و قد يطلق عليه الكفر و عدم الإيمان أيضا إذا ترك كبار الفرائض أو أتى بكبار المعاصي كما في قوله عز و جل:" وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا، وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ" و قول النبي صلى الله عليه و آله و سلم: لا يزني الزاني حين يزني و هو مؤمن، و ذلك لأن إيمان مثل هذا لا يدفع عنه أصل العذاب و دخول النار، و إن دفع عنه الخلود فيها فحيث لا يفيده في جميع الأحوال فكأنه مفقود.

و التحقيق فيه أن المتروك إن كان أحد الأصول الخمسة التي بني الإسلام عليها أو المأتي به إحدى الكبائر من المنهيات خاصة فصاحبه خارج عن أصل الإيمان أيضا ما لم يتب أو لم يحدث نفسه بتوبة لعدم اجتماع ذلك مع التصديق القلبي فهو كافر كفر استخفاف، و عليه يحمل ما روي من دخول العمل في أصل الإيمان، روى ابن أبي شعبة عن الصادق عليه السلام في حديث طويل أنه قال: لا يخرج المؤمن من صفة الإيمان إلا بترك ما استحق أن يكون به مؤمنا، و إنما استوجب و استحق اسم الإيمان و معناه بأداء كبار الفرائض موصولة، و ترك كبار المعاصي و اجتنابها و إن ترك صغار الطاعة و ارتكب صغار المعاصي فليس بخارج من الإيمان و لا تارك له ما لم يترك شيئا من كبار الطاعة و ارتكاب شي‏ء من كبار المعاصي فما لم يفعل ذلك فهو مؤمن بقول الله:" إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً" يعني مغفرة ما دون الكبائر فإن هو ارتكب كبيرة من كبائر المعاصي كان مأخوذا بجميع المعاصي صغارها و كبارها معاقبا عليها معذبا بها.

إلى هنا كلام الصادق عليه السلام.

إذا عرفت هذا فاعلم أن كل من جهل أمرا من أمور دينه بالجهل البسيط فقد

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 212

نقص إيمانه بقدر ذلك الجهل، و كل من أنكر حقا واجب التصديق لاستكبار أو هوي أو تقليد أو تعصب فله عرق من كفر الجحود، و كل من أظهر بلسانه ما لم يعتقد بباطنه و قلبه لغير غرض ديني كالتقية في محلها و نحو ذلك أو عمل عملا أخرويا لغرض دنيوي فله عرق من النفاق، و كل من كتم حقا بعد عرفانه أو أنكر ما لم يوافق هواه و قبل ما يوافقه فله عرق من التهود، و كل من استبد برأيه و لم يتبع إمام زمانه أو نائبه الحق أو من هو أعلم منه في أمر من الأمور الدينية فله عرق من الضلالة، و كل من أتى حراما أو شبهة أو توانى في طاعة مصرا على ذلك فله عرق من الفسوق، فإن كان ذلك ترك كبير فريضة أو إتيان كبير معصية فله عرق من كفر الاستخفاف، و من أسلم وجهه لله في جميع الأمور من غير غرض و هوى و اتبع إمام زمانه أو نائبه الحق آتيا بجميع أوامر الله و نواهيه من غير تواني و لا مداهنة، فإذا أذنب ذنبا استغفر من قريب و تاب أو زلت قدمه استقام و أناب فهو المؤمن الكامل الممتحن و دينه هو الدين الخالص و هو الشيعي حقا و الخالص صدقا و أولئك أصحاب أمير المؤمنين، بل هو من أهل البيت عليهم السلام إذا كان عالما بأمرهم محتملا لسرهم كما قالوا: سلمان منا أهل البيت.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 213

باب في أن الإيمان مبثوث لجوارح البدن كلها

 (1) يقال: بث الخبر و أبثه أي نشره.

 (الحديث الأول)

 (2): ضعيف على المشهور لكنه مؤيد بأخبار أخر، و قد روى النعماني في تفسيره مثله عن أمير المؤمنين صلوات الله عليه و مضامينه دالة على صحته.

قوله عليه السلام: الإيمان بالله،

 (3) هو مبتدأ و أعلى خبره، و يحتمل أن يكون المراد به جميع العقائد الإيمانية اكتفي بذكر أشرفها و أعظمها للزومها لسائرها مع أن كون التوحيد أشرف لا ينافي وجوب البقية و اشتراطه بها، و

السنا

 (4) الضوء و بالمد الرفعة، و الحظ النصيب، و المراد بالقول التصديق القلبي أو هو مع الإقرار اللساني بالعقائد الإيمانية، و قيل: هو الذي يعبر عنه بالكلام النفسي، و قد يستدل بقوله:

عمل كله، على أن التصديق المكلف به ليس محض العلم إذ هو من قبيل الانفعال، بل هو فعل قلبي.

قال شارح المقاصد: و المذهب أنه غير العلم و المعرفة لأن من الكفار من كان يعرف الحق و لا يصدق به عنادا و استكبارا، قال الله تعالى:" الَّذِينَ آتَيْناهُمُ‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 214

الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ" و قال:" وَ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ" و قال تعالى حكاية عن موسى عليه السلام لفرعون:" لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ" فاحتيج إلى الفرق بين العلم بما جاء به النبي صلى الله عليه و آله و سلم و هو معرفته و بين التصديق ليصح كون الأول حاصلا للمعاندين دون الثاني، و كون الثاني إيمانا دون الأول، فاقتصر بعضهم على أن ضد التصديق هو الإنكار و التكذيب، و ضد المعرفة النكارة و الجهالة، و إليه أشار الغزالي حيث فسر التصديق بالتسليم، فإنه لا يكون مع الإنكار و الاستكبار بخلاف العلم و المعرفة و فصل بعضهم زيادة التفصيل، و قال: التصديق عبارة عن ربط القلب بما علم من أخبار المخبر و هو أمر كسبي يثبت باختيار المصدق، و لهذا يؤمر و يثاب عليه بل يجعل رأس العبادات بخلاف المعرفة فإنها ربما تحصل بلا كسب كمن وقع بصره على جسم فحصل له معرفة أنه جدار أو حجر، و حققه بعض المتأخرين زيادة تحقيق فقال: المعتبر في الإيمان هو التصديق الاختياري، و معناه نسبة التصديق إلى المتكلم اختيارا و بهذا القيد يمتاز عن التصديق المنطقي المقابل للتصور، فإنه قد يخلو عن الاختيار كما إذا ادعى النبي النبوة و أظهر المعجزة فوقع في القلب صدقه ضرورة، من غير أن ينسب إليه اختيارا فإنه لا يقال في اللغة أنه صدقه فلا يكون إيمانا شرعيا، كيف و التصديق مأمور به فيكون فعلا اختياريا زائدا على العلم لكونه كيفية نفسانية أو انفعالا و هو حصول المعنى في القلب، و الفعل القلبي ليس كذلك بل هو إيقاع النسبة اختيارا الذي هو كلام النفس، و يسمى عقد القلب فالسوفسطائي عالم بوجود النهار و كذا بعض الكفار بنبوة النبي صلى الله عليه و آله و سلم لكنهم ليسوا بمصدقين لأنهم لا يحكمون اختيارا بل ينكرون.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 215

و كلام هذا القائل متردد يميل تارة إلى أن التصديق المعتبر في الإيمان نوع من التصديق المنطقي لكونه مقيدا بالاختيار و كون التصديق العلمي أعم لا فرق بينهما إلا بلزوم الاختيار و عدمه، و تارة إلى أنه ليس من جنس العلم أصلا لكونه فعلا اختياريا، و كون العلم كيفية أو انفعالا، و على هذا الأخير أصر بعض المعتنين بتحقيق الإيمان، و جزم بأن التسليم الذي فسر به الغزالي التصديق ليس من جنس العلم، بل أمر وراءه معناه" گردن دادن و گرويدن و حق دانستن مر آن را كه حق دانسته باشى" و يؤيده ما ذكره إمام الحرمين أن التصديق على التحقيق كلام النفس لكن لا يثبت كلام النفس إلا مع العلم.

و نحن نقول: لا شك أن التصديق المعتبر في الإيمان هو ما يعبر فيه في الفارسية" بگرويدن و باور كردن و راستگوى داشتن" إذا أضيف إلى الحاكم" و راست داشتن و حق داشتن" إذا أضيف إلى الحكم، و لا يكفي مجرد العلم و المعرفة الخالي عن هذا المعنى، ثم أطال الكلام في ذلك و آل تحقيقه إلى أنه ليس شي‏ء وراء العلم و المعرفة.

و قال المحقق الدواني في شرح العقائد: اعلم أنه لو فسر التصديق المعتبر في الإيمان بما هو أحد قسمي العلم فلا بد من اعتبار قيد آخر ليخرج الكفر العنادي، و قد عبر عنه بعض المتأخرين بالتسليم و الانقياد، و جعله ركنا من الإيمان، و الأقرب أن يفسر التصديق بالتسليم الباطني و الانقياد القلبي و يقرب منه ما قيل:

إن التصديق أن تنسب باختيارك الصدق إلى أحد و هو يحوم حول ذلك و إن لم يصب المخبر، انتهى.

و الحق أن إثبات معنى آخر غير العلم و المعرفة مشكل، و كون بعض أفراده حاصلا بغير اختيار لا ينافي التكليف به لمن لم يحصل له ذلك و ترتب الثواب على ما حصل بغير الاختيار إما تفضل أو هو علي الثبات عليه و إظهاره و العمل بمقتضاه،

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 216

و الكلام النفسي الذي ذكروه ليس وراء التصور و التصديق شيئا، نعم المعنى الذي نفهمه هيهنا زائدا على العلم هو العزم على إظهار ما اعتقده أو على عدم إنكاره ظاهرا بغير ضرورة تدعو إليه، و يمكن عده من لوازم الإيمان أو شرائطه كما يومئ إليه بعض الآيات و الأخبار، و العلم لو سلم أنه من قبيل الانفعال فعده عملا على سبيل التوسع باعتبار أسبابه و مباديه.

قوله عليه السلام: بفرض،

 (1) الباء للسببية و ضميرا

" نوره"

 (2) و

" حجته"

 (3) راجعان إلى الفرض، و ضمير

" له"

 (4) إلى العامل، و قيل: إلى كونه عملا، و قيل: إلى الله، و الأول أظهر، و من أرجع ضمير

" به"

 (5) إلى الفرض و ضمير" له" إلى كونه عملا لو عكس كان أنسب، و

قوله: واضح‏

 (6)، و

ثابتة

 (7)، نعتان للفرض، و ضمير

يدعوه‏

 (8)، المستتر راجع إلى الكتاب، و البارز إلى العامل، و قيل: الظاهر أن يشهد، و يدعوه حال عن فرض، و أن ضمير له و إليه راجع إلى الله، و ضمير" به" و البارز في يدعوه للفرض، و المراد بدعاء الكتاب ذلك الفرض إليه سبحانه نسبته إليه، و بيانه أنه منه، و يحتمل أن يكون حالا عن الإيمان و أن يكون ضمير له و يدعوه راجعا إليه و ضمير به و إليه للعمل، أي يشهد الكتاب للإيمان بأنه عمل، و يدعو الكتاب للإيمان إلى أنه عمل، انتهى.

و لا يخفى بعدهما، و في تفسير العياشي: يشهد له بها الكتاب، و يدعو إليه فضمير بها راجع إلى الحجة.

" للإيمان حالات"

 (9) كأنه إشارة إلى الحالات الثلاث الآتية أي التام و الناقص:

و الراجح و الدرجات مراتب الرجحان فإنها كثيرة بحسب الكمية و الكيفية، و الطبقات مراتب النقصان، و المنازل ما يلزم تلك الدرجات و الطبقات من القرب إليه‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 217

سبحانه و البعد عنه، و المثوبات المترتبة عليها.

و قيل: إشارة إلى أن للإيمان مراتب متكثرة و هي حالات الإنسان باعتبار قيامها به، و درجات باعتبار ترقيه من بعضها إلى بعض، و طبقات باعتبار تفاوت مراتبها في نفسها، و كون بعضها فوق بعض، و منازل باعتبار أن الإنسان ينزل فيها و يأوي إليها فمنه‏

التام‏

 (1) و هو إيمان الأنبياء و الأوصياء عليهم السلام لاشتماله على جميع أجزاء الإيمان من فعل الفرائض و ترك الكبائر و إن تفاوتت بانضمام سائر المكملات من المستحبات و ترك المكروهات زيادة و نقصانا، أو المراد بالتام المنتهى تمامه درجة النبي صلى الله عليه و آله و سلم و أوصيائه عليهم السلام، و منه الناقص البين‏

نقصانه‏

 (2) و هو أقل مراتب الإيمان الذي بعده الكفر، و منه‏

الراجح‏

 (3) و فيه أفراد غير متناهية باعتبار التفاوت في الكمية و الكيفية.

ثم أنه يحتمل الكلام وجهين: أحدهما: أن يكون الإيمان المشتمل على فعل الفرائض و ترك الكبائر حاصلا في الجميع لعدم صدق الإيمان بدون ذلك، و يكون الدرجات و المنازل باعتبار تلك الأعمال و نقصها و انضمام فعل سائر الواجبات و ترك سائر المحرمات و فعل المندوبات و ترك المكروهات، بل المباحات و الاتصاف بالأخلاق السنية و الملكات العلية.

و ثانيهما: أن يكون القدر المشترك حصول الإيمان في الجملة و الكامل ما يكون مشتملا على جميع الأجزاء و هو الإيمان حقيقة و الناقص التام ما لم يكن فيه سوى العقائد الحقة و الدرجات المتوسطة تختلف باعتبار كثرة أجزاء الإيمان و قلتها فالمؤمن حقيقة هو الفرد الأول، و إطلاقه على البواقي على التوسع لانتفاع الكل بانتفاء أحد الأجزاء و لكل منهما شواهد لفظا و معنى فتأمل، فلما عسر فهمه على السائل لألفته بمصطلحات المتكلمين أعاد السؤال لمزيد التوضيح.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 218

قوله عليه السلام: به يعقل و يفقه و يفهم،

 (1) قيل: العقل العلم بالقضايا الضرورية، و الفقه ترتيبها لإنتاج القضايا النظرية، و الفهم العلم بالنتيجة.

أقول: و يحتمل أن يكون العقل معرفة الأصول العقلية، و الفقه العلم بالأحكام الشرعية، و الفهم معرفة سائر الأمور المتعلقة بالمعاش و غيره، و المراد بالقلب النفس الناطقة سميت به لتعلقها أو لا بالروح الحيواني المنبعث منه أو القلب الصنوبري من حيث تعلق النفس به، و قيل: محل الإدراك هذا الشكل الصنوبري، عملا بظواهر الآيات و الأخبار و سيأتي تحقيقه في محله إن شاء الله.

قال الراغب في المفردات: قال بعض الحكماء حيث ما ذكر الله القلب فإشارة إلى العقل و العلم، نحو:" إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى‏ لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ" و حيث ما ذكر الصدر فإشارة إلى ذلك و إلى سائر القوي من الشهوة و الهوى و الغضب و نحوها، و قوله:" رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي" فسؤال لإصلاح قواه، و كذا قوله:" وَ يَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ" إشارة إلى اشتفائهم، و قوله:" وَ لكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ" أي العقول التي هي مندرجة بين سائر القوي و ليست بمهتدية و الله أعلم بذلك.

و قال: قلب الإنسان قيل: سمي به لكثرة تقلبه و يعبر بالقلب عن المعاني التي تختص به من الروح و العلم و الشجاعة و سائر ذلك، فقوله:" وَ بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ" أي الأرواح" إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى‏ لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ" أي علم و فهم، و كذلك" وَ جَعَلْنا عَلى‏ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ" و قوله:" وَ طُبِعَ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ"

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 219

و قوله:" وَ لِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ" أي تثبت به شجاعتكم و يزول خوفكم، و على عكسه" وَ قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ" و قوله:" هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ" و قوله:" وَ قُلُوبُهُمْ شَتَّى" أي متفرقة و قوله:" وَ لكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ".

و قيل: العقل، و قيل: الروح، فأما العقل فلا يصح عليه ذلك و مجازه مجاز قولهم: تجري من تحتها الأنهار، و الأنهار لا تجري و إنما يجري الماء الذي فيه، انتهى.

و الورود

 (1) حضور الماء للشرب، و

الصدر

 (2) و الصدور الانصراف عنه، و هذا مثل في أنها لا تفعل شيئا إلا بأمره كما يقال في الفارسية: لا يشرب الماء إلا بأمره و إذنه.

و البطش‏

 (3) تناول الشي‏ء بصولة و قوة، و الباه في بعض النسخ بدون الهمزة و في بعضها بها، قال الجوهري:

الباه‏

 (4) مثل الجاه لغة في الباءة و هو الجماع‏

" ينطق به"

 (5) الجملة نعت للفرض و ضمير به في الموضعين للفرض، و ضمير

لها

 (6) و

عليها

 (7) للجارحة، و اللام للانتفاع، و على للإضرار و إرجاع ضمير

" به"

 (8) إلى الإيمان كما قيل يقتضي خلو الجملة عن العائد و إرجاع ضمير" لها" هنا إلى الجارحة يؤيد إرجاع ضمير" له" سابقا إلى العامل.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 220

قوله: فالإقرار،

 (1) أي الإقرار القلبي لأن الكلام في فعل القلب و إن احتمل أن يكون المراد الإقرار اللساني لأنه إخبار عن القلب، لكن ذكره بعد ذلك في عمل اللسان ربما يأبى عن ذلك و إن احتمل توجيهه، و المعطوفات عليه على الأول عطف تفسير له و كأنها إشارة إلى مراتب اليقين و الإيمان القلبي، فإن أقل مراتبه الإذعان القلبي و لو عن تقليد أو دليل خطابي، و

المعرفة

 (2) ما كان عن برهان قطعي و

العقد

 (3) هو العزم على الإقرار اللساني و ما يتبعه و يلزمه من العمل بالأركان، و

الرضا

 (4) هو عدم إنكار قضاء الله و أوامره و نواهيه، و أن لا يثقل عليه شي‏ء من ذلك المخالفة لهوى نفسه، و

التسليم‏

 (5) هو الانقياد التام للرسول فيما يأتي به لا سيما ما ذكر في أمر أوصيائه و ما يحكم به بينهم، كما قال تعالى:" فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً" فظهر أن الإقرار بالولاية أيضا داخل في ذلك بل جميع ما جاء به النبي صلى الله عليه و آله و سلم.

و قوله بأن لا إله إلا الله‏

 (6)، متعلق بالإقرار لأن ما ذكر بعده تفسير و مكمل له، و

الصاحبة

 (7) الزوجة، و

الإقرار

 (8) عطف على الإقرار، و المراد الإقرار بسائر أنبياء الله و كتبه، و المستتر في‏

" جاء"

 (9) راجع إلى الموصول، و ما قيل: إن قوله بأن لا إله إلا الله" إلخ" متعلق بالإقرار و المعرفة و العقد، و قوله و الإقرار بما جاء من عند الله، معطوف على أن لا إله فيكون الأولان بيانا للأخيرين و الأخير بيانا للأول، فلا يخفى ما فيه من أنواع الفساد.

و قال المحدث الأسترآبادي: المعرفة جاء في كلامهم لمعان: أحدها، التصور مطلقا و هو المراد من قولهم على الله التعريف و البيان أي ذكر المدعى و التنبيه عليها

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 221

إذ لا يجب خلق الإذعان كما يفهم من باب الشك و غير ذلك من الأبواب" و ثانيها" الإذعان القلبي و هو المراد من قولهم أقروا بالشهادتين و لم يدخل معرفة أن محمدا رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم في قلوبهم" و ثالثها" عقد القضية الإجمالية مثل نعم و بلى، و هذا العقد ليس من باب التصور و لا من باب التصديق" و رابعها" العلم الشامل للتصور و التصديق، و هو المراد من قولهم العلم و الجهل من صنع الله في القلوب، انتهى.

و فيه ما فيه و الآية الأولى من سورة النحل" مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ" قيل: بدل من الذين لا يؤمنون، و ما بينهما اعتراض، أو من أولئك أو من الكاذبون، أو مبتدأ خبره محذوف دل عليه قوله: فعليهم غضب، و يجوز أن ينتصب بالذم و أن تكون من شرطية محذوفة الجواب‏

" إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ"

 (1) على الافتراء أو كلمة الكفر استثناء متصل لأن الكفر لغة يعم القول و العقد كالإيمان، كذا ذكره البيضاوي، و الظاهر أنه منقطع‏

" وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ"

 (2) لم يتغير عقيدته‏

" وَ لكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً"

 (3) أي اعتقده و طاب به نفسا" فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ" و قد ورد في أخبار كثيرة من طرق الخاصة و العامة أنها نزلت في عمار بن ياسر حيث أكرهه و أبويه ياسرا و سمية كفار مكة على الارتداد فأبى أبواه فقتلوهما و هما أول قتيلين في الإسلام و أعطاهم عمار بلسانه ما أرادوا مكرها فقيل: يا رسول الله إن عمارا كفر، فقال: كلا إن عمارا ملي‏ء إيمانا من قرنه إلى قدمه، و اختلط الإيمان بلحمه و دمه فأتى عمار رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم و هو يبكي فجعل النبي صلى الله عليه و آله و سلم يمسح عينيه و قال: ما لك إن عادوا لك فعد لهم بما قلت.

و عن الصادق عليه السلام فأنزل الله فيه:" إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ" الآية فقال النبي صلى الله عليه و آله و سلم‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 222

عندها: يا عمار إن عادوا فعد، فقد أنزل الله عذرك و أمرك أن تعود إن عادوا. و بالجملة الآية تدل على أن بعض أجزاء الإيمان متعلق بالقلب و إن استدل القوم بها على أن الإيمان ليس إلا التصديق القلبي.

و الآية الثانية" الَّذِينَ آمَنُوا وَ تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ" قيل: أي أنسا به و اعتمادا عليه و رجاء منه أو بذكر رحمته بعد القلق من خشيته أو بذكر دلائله الدالة على وجوده و وحدانيته أو بكلامه يعني القرآن الذي هو أقوى المعجزات‏

" أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ"

 (1) أي تسكن إليه.

و قال في المجمع: معناه الذين اعترفوا بتوحيد الله على جميع صفاته و نبوة نبيه و قبول ما جاء به من عند الله و تسكن قلوبهم بذكر الله و تأنس إليه، و الذكر حضور المعنى للنفس و قد يسمى العلم ذكرا و القول الذي فيه المعنى الحاضر للنفس أيضا يسمى ذكرا" أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ" إلخ، هذا حث للعباد على تسكين القلب إلى ما وعد الله به من النعيم و الثواب، انتهى.

و كان استدلاله عليه السلام بالآية مبني على أن المراد بذكر الله العقائد الإيمانية و الدلائل المفضية إليها إذ بها تطمئن القلب من الشك و الاضطراب، و يؤيده قوله في الآية السابقة:" وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ".

قوله سبحانه:" إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ"

 (2) قال الطبرسي (ره): أي تظهروها و تعلنوها من الطاعة و المعصية أو العقائد

" أَوْ تُخْفُوهُ"

 (3) أي تكتموه‏

" يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ"

 (4) أي يعلم الله ذلك فيجازيكم عليه، و قيل: معناه إن تظهروا الشهادة أو تكتموها فإن الله يعلم ذلك و يجازيكم به عن ابن عباس و جماعة، و قيل: إنها عامة في الأحكام التي تقدم ذكرها في السورة، خوفهم الله تعالى من العمل بخلافها و قال قوم: إن هذه‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 223

الآية منسوخة بقوله:" لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها" و رووا في ذلك خبرا ضعيفا، و هذا لا يصح لأن تكليف ما ليس في الوسع غير جائز فكيف ينسخ و إنما المراد بالآية ما يتأوله الأمر و النهي من الاعتقادات و الإرادات و غير ذلك مما هو مستور عنا، و أما ما لا يدخل في التكليف من الوساوس و الهواجس مما لا يمكن التحفظ عنه من الخواطر فخارج عنه لدلالة العقل، و لقوله عليه السلام: و يعفى لهذه الأمة عن نسيانها و ما حدثت به أنفسها و على هذا تجوز أن تكون الآية الثانية بينت الأولى و أزالت توهم من صرف ذلك إلى غير وجه المراد، و الظن أن ما يخطر بالبال و يتحدث به النفس مما لا يتعلق بالتكليف فإن الله يؤاخذ به و الأمر بخلاف ذلك.

" فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ"

 (1) منهم رحمة و تفضلا

" وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ"

 (2) منهم ممن استحق العقاب عدلا" وَ اللَّهُ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ" من المغفرة و العذاب، عن ابن عباس، و لفظ الآية عام في جميع الأشياء، و القول فيما يخطر بالبال من المعاصي إن الله سبحانه لا يؤاخذ به، و إنما يؤاخذ بما يعزم الإنسان و يعقد قلبه عليه مع إمكان التحفظ عنه فيصير من أفعال القلب فيجازيه كما يجازيه على أفعال الجوارح، و إنما يجازيه جزاء العزم لا جزاء عين تلك المعصية لأنه لم يباشرها، و هذا بخلاف العزم على الطاعة فإن العازم على فعل الطاعة يجازي على عزمه ذلك جزاء تلك الطاعة كما جاء في الأخبار أن المنتظر للصلاة في الصلاة ما دام ينتظرها، و هذا من لطائف ما أنعم الله علي عباده، انتهى.

و الظاهر من الأخبار الكثيرة التي يأتي بعضها في هذا الكتاب عدم مؤاخذة هذه الأمة على الخواطر و العزم على المعاصي، فيمكن تخصيص هذه الآية بالعقائد كما هو ظاهر هذه الرواية و إن أمكن أن تكون نية المعصية و العزم عليها معصية يغفرها الله للمؤمنين، فالمراد بقوله:" لِمَنْ يَشاءُ" المؤمنون و يؤيده ما ذكره المحقق‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 224

الطوسي و غيره أن إرادة القبيح قبيحة فتأمل.

و يظهر من بعض الأخبار أن هذه الآية منسوخة و قد خففها الله عن هذه الأمة كما روى الديلمي في إرشاد القلوب بإسناده عن موسى بن جعفر عن آبائه عليهما السلام في خبر طويل في معراج النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال: ثم عرج به حتى انتهى إلى ساق العرش و ناجاه بما ذكره الله عز و جل في كتابه، قال تعالى:" لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ" و كانت هذه الآية قد عرضت على سائر الأمم من لدن آدم إلى أن بعث محمد صلى الله عليه و آله و سلم فأبوا جميعا أن يقبلوها من ثقلها، و قبلها محمد صلى الله عليه و آله فلما رأى الله عز و جل منه و من أمته القبول خفف عنه ثقلها، فقال الله عز و جل:" آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ" ثم إن الله عز و جل تكرم على محمد، و أشفق على أمته من تشديد الآية التي قبلها هو و أمته فأجاب عن نفسه و أمته فقال:" وَ الْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ" فقال الله عز و جل لهم المغفرة و الجنة إذا فعلوا ذلك، فقال النبي:" سَمِعْنا وَ أَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ" يعني المرجع في الآخرة فأجابه قد فعلت ذلك بتائبي أمتك قد أوجبت لهم المغفرة، ثم قال الله تعالى:" أما إذا قبلتها أنت و أمتك و قد كانت عرضت من قبل على الأنبياء و الأمم فلم يقبلوها فحق على أن أرفعها عن أمتك فقال الله تعالى:" لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ" من خير" وَ عَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ" من شر ثم ألهم الله عز و جل نبيه أن قال:" رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا" فقال الله سبحانه أعطيتك لكرامتك، إلى آخر الخبر.

و أما المخالفون فهم اختلفوا في ذلك، قال الرازي في تفسير هذه الآية: يروى عن ابن عباس أنه قال: لما نزلت هذه الآية جاء أبو بكر و عمر و عبد الرحمن بن‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 225

عوف و معاذ و ناس إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم فقالوا: يا رسول الله كلفنا من العمل ما لا نطيق إن أحدنا ليحدث نفسه بما لا يحب أن يثبت في قلبه و إنه لذنب؟ فقال النبي صلى الله عليه و آله و سلم:

فلعلكم تقولون كما قال بنو إسرائيل سَمِعْنا وَ عَصَيْنا فقولوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا فقالوا:

سمعنا و أطعنا و اشتد ذلك عليهم فمكثوا في ذلك حولا فأنزل الله تعالى:" لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها" فنسخت هذه الآية فقال النبي صلى الله عليه و آله و سلم: إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثوا به أنفسهم ما لم يعلموا أو تكلموا به.

و اعلم أن محل البحث في هذه الآية أن قوله:" إِنْ تُبْدُوا" يتناول حديث النفس و الخواطر الفاسدة التي ترد على القلب و لا يتمكن من رفعها، فالمؤاخذة بها تجري مجرى تكليف ما لا يطاق، و العلماء أجابوا عنه من وجوه:

الأول: أن الخواطر الحاصلة في القلب على قسمين فمنها ما يوطن الإنسان نفسه عليه و يعزم على إدخاله في الوجود، و منها ما لا يكون كذلك بل يكون أمورا خاطرة بالبال مع أن الإنسان يكرهها و لكنه لا يمكنه دفعها عن نفسه، فالقسم الأول يكون مؤاخذا به، و الثاني لا يكون مؤاخذا به، أ لا ترى إلى قوله تعالى:

" لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ" و قال في آخر هذه السورة" لَها ما كَسَبَتْ وَ عَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ" و قال:" إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ" هذا هو الجواب المعتمد.

الوجه الثاني: أن كل ما كان في القلب مما لا يدخل في العمل فإنه في محل العفو، و قوله:" وَ إِنْ تُبْدُوا" إلخ، فالمراد منه أن يدخل ذلك العمل في الوجود إما ظاهرا أو على سبيل الخفية، و أما ما يوجد في القلب من العزائم و الإرادات و لم يتصل بالعمل فكل ذلك في محل العفو، و هذا الجواب ضعيف لأن أكثر المؤاخذات إنما يكون‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 226

بأفعال القلوب، أ لا ترى أن اعتقاد الكفر و البدع ليس إلا من أعمال القلوب و أعظم أنواع العقاب مرتب عليه أيضا، و أفعال الجوارح إذا خلت من أعمال القلوب لا يترتب عليها عقاب كأفعال النائم و الساهي، فثبت ضعف هذا الجواب.

و الوجه الثالث: أنه تعالى يؤاخذ بها، و مؤاخذتها من الغموم في الدنيا، و روي ذلك خبرا عن عائشة عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم.

الوجه الرابع: أنه تعالى قال:" يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ" و لم يقل يؤاخذكم به الله، و قد ذكرنا في معنى كونه حسيبا و محاسبا وجوها، منها: كونه عالما بها، فرجع المعنى إلى كونه تعالى عالما بالضمائر و السرائر و روى عن ابن عباس أنه تعالى إذا جمع الخلائق يخبرهم بما كان في نفوسهم، فالمؤمن يخبره و يعفو عنه، و أهل الذنوب يخبرهم بما أخفوا من التكذيب و الذنب.

الوجه الخامس: أنه تعالى ذكر بعد هذه الآية" فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ" فيكون الغفران نصيبا لمن كان كارها لورود تلك الخواطر، و العذاب لمن كان مصرا عليها مستحسنا لها.

الوجه السادس: قال بعضهم: المراد بهذه الآية كتمان الشهادة و هو ضعيف و إن كان واردا عقيبه.

الوجه السابع: ما مر أنها منسوخة بقوله:" لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها" و هذا أيضا ضعيف بوجوه" أحدها" أن هذا النسخ إنما يصح لو قلنا أنهم كانوا قبل هذا النسخ مأمورين بالاحتراز عن تلك الخواطر التي كانوا عاجزين عن دفعها، و ذلك باطل لأن التكليف قط ما ورد إلا بما في القدرة، و لذلك قال صلى الله عليه و آله و سلم: بعثت بالحنيفية السمحة السهلة.

الثاني: أن النسخ إنما يحتاج إليه لو دلت الآية على حصول العقاب على تلك الخواطر، و قد بينا أنها لا تدل على ذلك.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 227

الثالث: أن نسخ الخبر لا يجوز و إنما يجوز نسخ الأوامر و النواهي، و اختلفوا في أن الخبر هل ينسخ أم لا، انتهى.

و قال أبو المعين النسفي: قال أهل السنة و الجماعة: العبد مؤاخذ بما عقد بقلبه نحو الزنا و اللواطة و غير ذلك، أما إذا خطر بباله و لم يقصد فلا يؤاخذ به، و قال بعضهم لا يؤاخذ في الصورتين جميعا، و حجتهم قوله صلى الله عليه و آله و سلم: عفي عن أمتي ما خطر ببالهم ما لم يتكلموا و يفعلوا، و حجتنا قوله تعالى:" وَ إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ" الآية، فثبت أنه مؤاخذ بقصده، و ما ذكرتم من الحديث فمحمول على ما خطر بباله و لم يقصد، أما إذا قصد فلا، انتهى.

" و هو رأس الإيمان"

 (1) كان التشبيه بالرأس باعتبار أن بانتفائه ينتفي الإيمان رأسا كما أن بانتفاء الرأس لا تبقى الحياة، و يفسد جميع البدن.

قوله عليه السلام: القول،

 (2) أي ما يجب التكلم به من الأقوال كإظهار الحق و الأمر بالمعروف، و النهي عن المنكر، و القراءة و الأذكار في الصلاة و أمثالها، فيكون‏

قوله:

و التعبير

 (3) تخصيصا بعد التعميم لمزيد الاهتمام.

" وَ قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً"

 (4) قال البيضاوي: أي قوله حسنا و سماه حسنا للمبالغة، و قرأ حمزة و يعقوب و الكسائي حسنا بفتحتين، انتهى.

أقول: في بعض الأخبار عن الصادق عليه السلام أنه قال: يعني قولوا محمد رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم، و في رواية أخرى عنه عليه السلام: نزلت في اليهود ثم نسخت بقوله:" قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ" الآية، و في بعض الروايات أنه حسن المعاشرة و القول الجميل،

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 228

و في بعضها أنه الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و كان التعميم أولى فيناسب التعميم في القول أولا و يؤيده أن في تفسير النعماني هكذا: و أما ما فرضه على اللسان فقوله عز و جل في معنى التفسير لما عقد به القلب و أقر به أو جحده‏

" قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ"

 (1) الآية، و قوله سبحانه وَ قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً، و قوله سبحانه:" وَ لا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا" فأمر سبحانه بقول الحق و نهى عن قول الباطل.

ثم إن الآية الثانية ليست في المصاحف هكذا، ففي سورة البقرة" قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَ ما أُنْزِلَ إِلى‏ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطِ" و في سورة العنكبوت:" وَ قُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَ أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَ إِلهُنا وَ إِلهُكُمْ واحِدٌ وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ" فالظاهر أن التغيير من النساخ أو نقل الآيتان بالمعنى، و في النعماني موافق للأولى و لعله كان في الخبر الآيتان فأسقطوا عجز الأولى و صدر الثانية.

و التنزه‏

 (2) الاجتناب‏

" و أن يعرض"

 (3) عطف على" أن يتنزه" و

الإصغاء

 (4) عطف على الموصول في قوله: عما لا يحل.

" وَ قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ"

 (5) هذه الآية في سورة النساء، و في تفسير علي بن إبراهيم إن‏

آيات الله‏

 (6) هم الأئمة عليهم السلام، و روى العياشي في تفسيرها: إذا سمعت‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 229

الرجل يجحد الحق و يكذب به و يقع في أهله فقم من عنده و لا تقاعده، قال الراغب:

و

الخوض‏

 (1) الشروع في الماء و المرور فيه، يستعار في الأمور و أكثر ما ورد في القرآن ورد فيما يذم الشروع فيه، و تتمة الآية" إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَ الْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً" و الاستثناء في سورة الأنعام حيث قال:" وَ إِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَ إِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ" الآية و يحتمل أن يكون قوله تعالى:" وَ قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ" إشارة إلى ما نزل في سورة الأنعام، فهذه الآية كالتفسير لتلك الآية فذكره عليه السلام آية النساء لبيان أن الخوض في الآيات المذكور في الأنعام هو الكفر و الاستهزاء بها، و إلا كان المناسب ذكر الآية المتصلة بالاستثناء فتفطن.

و روى العياشي عن الباقر عليه السلام في هذه الآية قال: الكلام في الله و الجدال في القرآن قال منه القصاص‏

" وَ إِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ"

 (2) أي النهي‏

" فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى‏"

 (3) أي بعد أن تذكره‏

" مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ"

 (4) أي معهم، فوضع الظاهر موضعه تنبيها على أنهم ظلموا بوضع التكذيب و الاستهزاء موضع التصديق و الاستعظام، و في الحديث عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم: من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فلا يجلس في مجلس يسب فيه إمام، أو يغتاب فيه مسلم إن الله تعالى يقول في كتابه:" وَ إِذا رَأَيْتَ" الآية.

ثم إن الخطاب في الآية إما خطاب عام أو الخطاب ظاهرا للرسول صلى الله عليه و آله و سلم و المراد به الأمة، لأن النسيان لا يجوز عليه صلى الله عليه و آله و سلم لا سيما إذا كان من الشيطان، فإن من جوز السهو و النسيان عليه صلى الله عليه و آله و سلم كالصدوق (ره) إنما جوز الإسهاء من‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 230

الله تعالى للمصلحة لا من الشيطان.

" فَبَشِّرْ عِبادِ"

 (1) الإضافة للتشريف، و أحسن القول ما فيه رضا الله أو أشد رضاه، و ما هو أشق على النفس، و هذه كلمة جامعة يندرج فيها القول في أصول الدين و فروعه و الإصلاح بين الناس و التميز بين الحق و الباطل، و إيثار الأفضل فالأفضل، و في رواية هو الرجل يسمع الحديث فيحدث به كما سمع لا يزيد فيه و لا ينقص منه.

" أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ"

 (2) لدينه‏

" وَ أُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ"

 (3) أي العقول السليمة عن منازعة الهوى و الوهم و العادات و" عبادي" في النسخ بإثبات الياء موافقا لرواية أبي عمرو برواية موسى حيث قرأ في الوصل بفتح الياء و في الوقف بإسكانها، و قرأ الباقون بإسقاط الياء و الاكتفاء بالكسرة.

" الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ"

 (4) قيل: أي خائفون من الله متذللون له يلزمون أبصارهم مساجدهم و في تفسير علي بن إبراهيم غضك بصرك في صلاتك و إقبالك عليها، و سيأتي تفسيره في كتاب الصلاة إنشاء الله.

" وَ الَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ"

 (5) قيل: اللغو ما لا يعنيهم من قول أو فعل، و في تفسير علي بن إبراهيم يعني عن الغناء و الملاهي، و في إرشاد المفيد عن أمير المؤمنين عليه السلام كل قول ليس فيه ذكر فهو لغو، و في المجمع عن الصادق عليه السلام قال: أن يتقول الرجل عليك بالباطل أو يأتيك بما ليس فيك فتعرض عنه لله، قال: و في رواية أخرى أنه الغناء و الملاهي، و في الاعتقادات عنه عليه السلام أنه سئل عن القصاص أ يحل الاستماع لهم،

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 231

فقال: لا، و الحاصل أن اللغو كل ما لا خير فيه من الكلام و الأصوات، و يكفي في الاستشهاد كون بعض أفراده حراما مثل الغناء و الدف و الصنج و الطنبور و الأكاذيب و غيرها.

و قال في سورة القصص:

" وَ إِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ"

 (1) قال علي بن إبراهيم: اللغو الكذب و اللهو و الغناء، و قال في الفرقان:

" وَ إِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً"

 (2) أي معرضين عنه مكرمين أنفسهم عن الوقوف عليه و الخوض فيه، و في أخبار كثيرة تفسير اللغو في هذه الآية بالغناء و الملاهي.

قوله: من الإيمان،

 (3)" من" تبعيضية

" و أن لا يصغي"

 (4) عطف بيان لهذا، و قيل:

من الإيمان مبتدأ و أن لا يصغي خبره، و فيه ما فيه.

" قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا"

 (5) الخطاب للرسول صلى الله عليه و آله و سلم و يغضوا مجزوم بتقدير اللام، أي ليغضوا فالمقصود تبليغهم أمر ربهم أو حكاية لمضمون أمره عليه السلام أو منصوب بتقدير أن أي أمرهم أن يغيضوا فإن" قل لهم" في معنى مرهم، و قيل: أنه جواب الأمر أي قل لهم غضوا يغضوا، و اعترض بأنه حينئذ ينبغي الفاء أي فيغضوا و فيه:

أنه سهل ليكن محذوفا و أبعد منه ما يقال: إن التقدير: قل لهم غضوا فإنك إن تقل لهم يغضوا و أصل الغض النقصان و الخفض كما في قوله:" وَ اغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ" و أجاز الأخفش أن تكون من زائدة و أباه سيبويه و قيل: إنه للتبعيض، و لعله الوجه،

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 232

و ليس المراد نقص المبصرات و تبعيضها و لا الأبصار بل النظر بها و هو المراد مما قيل:

المراد غض البصر و خفضه مما يحرم النظر إليه و الاقتصار به على ما يحل، و كذا

قوله:" وَ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ"

 (1) أي إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم، فلما كان المستثنى هنا كالشاذ النادر مع كونه معروفا معلوما بخلافه في غض الأبصار أطلق الحفظ هنا و قيد الغض بحرف التبعيض، و في الكشاف و يجوز أن يراد مع حفظها عن الإبداء و هذه الرواية و غيرها تدل على أن المراد بحفظ الفرج هنا ستره عن أن ينظر إليه أحد و كذا ظاهر الرواية تخصيص غض البصر بترك النظر إلى العورة.

قوله عليه السلام: ثم نظم‏

 (2)، أقول: و في تفسير النعماني: ثم نظم تعالى ما فرض على السمع و البصر و الفرج في آية واحدة فقال:

و ما كنتم‏

 (3)، و هو أظهر، و ما هنا يحتاج إلى تكلف في إدخال اللسان و القلب، فقيل: المراد

بالاستتار

 (4) ترك ذكر الأعمال القبيحة في المجالس‏

" و أن يشهد"

 (5) بتقدير من أن يشهد متعلقا بالاستتار بتضمين معنى الخوف، فقوله تستترون إشارة إلى فرض القلب و اللسان معا، و يحتمل أن يكون المراد بالآية الأخرى الجنس أي الآيتين، و الفؤاد داخل في الآية الثانية و كذا اللسان لأن قوله:" لا تَقْفُ" عبارة عن عدم متابعة غير المعلوم بعدم التصديق به بالقلب و عدم إظهار العلم به باللسان.

" وَ ما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ" قبل هذه الآية في حم التنزيل:" وَ يَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ، حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَ أَبْصارُهُمْ وَ جُلُودُهُمْ بِما

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 233

كانُوا يَعْمَلُونَ، وَ قالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ وَ هُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ" قال الطبرسي (ره): أي شهد عليهم سمعهم بما قرعه من الدعاء إلى الحق" فأعرضوا عنه" و لم يقبلوه و أبصارهم بما رأوه من الآيات الدالة على وحدانية الله فلم يؤمنوا و سائر جلودهم بما باشروه من المعاصي و الأعمال القبيحة، و قيل في شهادة الجوارح قولان: أحدهما: أن الله تعالى يبنيها بنية الحي و يلجئها إلى الاعتراف و الشهادة بما فعله أصحابها، و الآخر: أن الله تعالى تفعل الشهادة فيها و إنما أضاف الشهادة إليها مجازا، و قيل: في ذلك أيضا وجه ثالث و هو أنه يظهر فيه أماراته الدالة على كون أصحابها مستحقين للنار فسمي ذلك شهادة مجازا كما يقال: عيناك تشهدان لسهرك، و قيل: إن المراد بالجلود هنا الفروج على طريق الكناية عن ابن عباس و المفسرين ثم قال:" وَ ما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ" أي من أن يشهد عليكم سمعكم، معناه و ما كنتم تستخفون أي لم يكن مهيئا لكم أن تستروا أعمالكم عن هذه الأعضاء لأنكم كنتم بما تعملون، فجعلها الله شاهدة عليكم في القيامة، و قيل: معناه و ما كنتم تتركون المعاصي حذرا أن تشهد عليكم جوارحكم بها لأنكم ما كنتم تظنون ذلك و لكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما كنتم تعملون لجهلكم بالله تعالى، فهان عليكم ارتكاب المعاصي لذلك.

و روي عن ابن مسعود أنها نزلت في ثلاثة نفر تساروا فقالوا: أ ترى إن الله تعالى يسمع تسارنا.

و يجوز أن يكون المعنى أنكم عملتم عمل من ظن أن عمله يخفى على الله كما يقال أهلكت نفسي أي عملت عمل من أهلك النفس، و قيل: إن الكفار كانوا يقولون إن الله لا يعلم ما في أنفسنا لكنه يعلم ما نظهر عن ابن عباس.

" وَ ذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ" ذلكم مبتدأ، و ظنكم خبره، و أرديكم خبر ثان، و يجوز أن يكون ظنكم بدلا من ذلكم، و يكون المعنى و ظنكم الذي ظننتم بربكم أنه لا يعلم كثيرا مما تعملون أهلككم إذ هون عليكم أمر المعاصي‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 234

و أدى بكم إلى الكفر" فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ" أي فظللتم من جملة من خسرت تجارته، لأنكم خسرتم الجنة و خضتم في النار، انتهى.

فإن قيل: هذه الآيات في السور المكية و كذا

قوله:" وَ لا تَقْفُ" إلخ‏

 (1)، كما مر في الخبر السابق فكيف صار أعمال الجوارح فيها جزءا من الإيمان، و كيف يوعد عليها.

قلت: لعل الوعيد فيها باعتبار كفرهم و شركهم لأنها تدل على أنهم إنما فعلوا ذلك كفر بالله و استهانة بأمره و ظنهم أنه سبحانه لا يعلم كثيرا مما يعملون فالوعيد على شركهم و إتيانهم بتلك الأعمال من جهة الاستخفاف و الاستحلال وقفوا ما ليس لهم به علم كان في أصول الدين مع أنه قد مر أنه ليس فيها وعيد بالنار و كون جميع آيات حم مكية لم يثبت لعدم الاعتماد على قول المفسرين من العامة، و يحتمل أن يكون الغرض هنا محض كون الأعمال متعلقة بالجوارح و أن لها مدخلا في الإيمان و إن كان مدخليتها في كماله، و المقصود في الخبر السابق كان أمرا آخر، و كذا الكلام في قوله:" وَ لا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً" فإنها أيضا مكية.

قوله: إلى ما حرم الله‏

 (2)، مثل القتل و الضرب و النهب و السرقة و كتابة الجور و الكذب و الظلم و مس الأجانب و نحوها

" و فرض عليهما من الصدقة و صلة الرحم"

 (3) إذ إيصال الصدقة إلى الفقراء و الخير إلى الأقرباء و الضرب و البطش و القتال في الجهاد و الطهور للصلاة من فروض اليد، و قيل: يفهم منه وجوب استعمال اليد في غسل الوجه، و هو إما لأنه الفرد الغالب أو لأنه فرد الواجب التخييري.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 235

و أقول: يمكن أن يكون غسل الوجه داخلا فيما سيأتي من قوله: و قال فيما فرض الله.

" فَضَرْبَ الرِّقابِ"

 (1) ضرب الرقاب عبارة عن القتل بضرب العنق، و أصله فاضربوا الرقاب ضربا، حذف الفعل و أقيم المصدر مقامه، و أضيف إلى المفعول و

الإثخان‏

 (2) إكثار القتل أو الجراح بحيث لا يقدر على النهوض، و

الوثاق‏

 (3) بالفتح و الكسر ما يوثق به و شده كناية عن الأسر، و

" مَنًّا"

 (4) و

" فِداءً"

 (5) مفعول مطلق لفعل محذوف أي فإما تمنون منا، و إما تفدون فداءا، و

أوزار

 (6) الحرب أثقالها و آلاتها كالسيف و السنان و غيرهما، و هو كناية عن انقضاء أمرها.

و المروي و مذهب الأصحاب أن الأسير إن أخذ و الحرب قائمة تعين قتله إما بضرب عنقه أو بقطع يده و رجله من خلاف و تركه حتى ينزف و يموت، و إن أخذ بعد انقضاء الحرب تخير الإمام بين المن و الفداء و الاسترقاق، و لا يجوز القتل.

و الاسترقاق علم من السنة، و

العلاج‏

 (7): المزاولة،

" أن لا يمشي"

 (8) بصيغة المجهول، و الباء في‏

" بهما"

 (9) للآلة، و الظرف نائب الفاعل و

قوله عليه السلام: فقال‏

 (10)، لعله ليس لتفسير ما تقدم و الاستدلال عليه، بل لبيان نوع آخر من تكليف الرجلين و هو نوع المشي، و ما ذكر سابقا كان غاية المشي، و في رواية النعماني: أما ما فرضه الله‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 236

على الرجلين فالسعي بهما في ما يرضيه، و اجتناب السعي فيما يسخطه، و ذلك قوله سبحانه:" فَاسْعَوْا إِلى‏ ذِكْرِ اللَّهِ وَ ذَرُوا الْبَيْعَ" و

قوله سبحانه:" وَ لا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً"

 (1) و قوله:" وَ اقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَ اغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ" و فرض الله عليهما القيام في الصلاة فقال:" وَ قُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ" ثم أخبر أن الرجلين من الجوارح التي تشهد يوم القيامة حين تستنطق بقوله سبحانه:" الْيَوْمَ نَخْتِمُ" الآية.

و قال البيضاوي:

" وَ اقْصِدْ فِي مَشْيِكَ"

 (2) توسط فيه بين الدبيب و الإسراع، و عنه صلى الله عليه و آله و سلم: سرعة المشي تذهب بهاء المؤمن‏

" وَ اغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ"

 (3) و أنقص منه و اقصر

" إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ"

 (4) أوحشها

" لَصَوْتُ الْحَمِيرِ"

 (5) و الحمار مثل في الذم سيما نهاقه.

و لذلك يكنى عنه فيقال: طويل الأذنين و في تمثيل الصوت المرتفع بصوته ثم إخراجه مخرج الاستعارة مبالغة شديدة، و توحيد الصوت لأن المراد تفضيل الجنس في النكر دون الآحاد، أو لأنه مصدر.

و قال في قوله سبحانه:

" الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى‏ أَفْواهِهِمْ"

 (6) بأن نمنعها عن كلامهم‏

" وَ تُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ" إلخ‏

 (7)، بظهور آثار المعاصي عليها و دلالتها على أفعالها أو بإنطاق الله إياها، و في الحديث أنهم يجحدون و يخاصمون فيختم على أفواههم و تكلمهم أيديهم و أرجلهم، انتهى.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 237

و قيل: هذا لا ينافي ما روي أن الناس في هذا اليوم يحتجون لأنفسهم، و يسعى كل منهم في فكاك رقبته كما قال سبحانه:" يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها" و الله يلقن من يشاء حجته كما في دعاء الوضوء: اللهم لقني حجتي يوم ألقاك، لأن الختم مخصوص بالكفار كما قاله بعض المفسرين، أو أن الختم يكون بعد الاحتجاج و المجادلة كما في الرواية السابقة، و بالجملة الختم يقع في مقام و المجادلة في مقام آخر.

قوله: فهذا أيضا

 (1)، كأنه إشارة إلى ما تشهد به الجوارح، فمن في‏

قوله" مما"

 (2) تبعيضية، أو إلى التكليم و الشهادة فمن تعليلية، و يحتمل أن يكون إشارة إلى جميع ما تقدم، و قال البيضاوي في قوله تعالى:

" ارْكَعُوا وَ اسْجُدُوا"

 (3) أي في صلاتكم أمرهم بهما لأنهم ما كانوا يفعلونهما أول الإسلام، أو صلوا و عبر عن الصلاة بهما لأنهما أعظم أركانهما، أو اخضعوا لله و خروا له سجدا و اعبدوا ربكم بسائر ما تعبدكم به‏

" وَ افْعَلُوا الْخَيْرَ"

 (4) و تحروا ما هو خير و أصلح فيما تأتون و تذرون كنوافل الطاعات و صلة الأرحام و مكارم الأخلاق‏

" و لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ"

 (5) أي افعلوا هذه كلها و أنتم راجعون الفلاح غير متيقنين له، واثقين علي أعمالكم.

و أقول:" لعل" من الله موجبة، و هذه فريضة

جامعة

 (6) أي ما ذكر في هذه الآية من الركوع و السجود و العبادة و فعل الخير، و مدخلية الأعضاء المذكورة في تلك الأعمال في الجملة ظاهرة.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 238

" وَ أَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ"

 (1) ظاهر أنه عليه السلام فسر المساجد بالأعضاء السبعة التي تسجد عليها، أي خلقت لأن يعبد الله بها فلا تشركوا معه غيره في سجودكم عليها، و هذا التفسير هو المشهور بين المفسرين و المذكور في صحيحة حماد و المروي عن أبي جعفر الثاني عليه السلام حين سأله المعتصم عنها، و به قال ابن جبير و الزجاج و الفراء فلا عبرة بقول من قال: أن المراد بها المساجد المعروفة، و لا بقول من قال: هي بقاع الأرض كلها، و لا بقول من قال: هي المسجد الحرام، و الجمع باعتبار أنه قبلة لجميع المساجد، و لا بقول من قال: هي السجدات جمع مسجد بالفتح مصدرا أي السجودات لله فلا تفعل لغيره.

و قال في الفقيه: قال أمير المؤمنين عليه السلام في وصيته لابنه محمد بن الحنفية رضي الله عنه: يا بني لا تقل ما لا تعلم بل لا تقل كل ما تعلم، فإن الله تعالى قد فرض على جوارحك كلها فرائض يحج بها عليك يوم القيامة و يسألك عنها، و ساق الحديث إلى أن قال: ثم استعبدها بطاعته فقال عز و جل:" يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا" إلى قوله:" لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" فهذه فريضة جامعة واجبة على الجوارح، و قال عز و جل:

" وَ أَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ" إلخ، يعني بالمساجد الوجه و اليدين و الركبتين و الإبهامين، الحديث بطوله.

قوله: و قال فيما فرض على الجوارح من الطهور و

الصلاة بها،

 (2) أي بالجوارح و كان مفعول القول محذوف أي ما قال، أو

" من الطهور"

 (3) مفعوله بزيادة من، أو بتقدير شيئا أو كثيرا أو المراد قال ذلك أي آية المساجد فيما فرض الله على هذه الجوارح من الطهور و الصلاة، لأن الطهور أيضا يتعلق بالمساجد.

و على التقادير

قوله: و ذلك‏

 (4)، إشارة إلى كون الآيات السابقة دليلا على كون‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 239

الإيمان مبثوثا على الجوارح لأنها إنما دلت على أن الله تعالى فرض أعمالا متعلقة بتلك الجوارح، و لم تدل على أنها إيمان فاستدل عليه السلام على ذلك بأن الله تعالى سمي الصلاة المتعلقة بجميع الجوارح إيمانا فتم به الاستدلال بالآيات المذكورة على المطلوب.

و الظاهر أن في العبارة سقطا أو تحريفا أو اختصارا مخلا من الرواة أو من المصنف إذ في تفسير النعماني و أما ما افترضه على الرأس فهو أن يمسح من مقدمه بالماء في وقت الطهور للصلاة بقوله:" وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ" و هو من الإيمان و فرض على الوجه الغسل بالماء عند الطهور، فقال:" يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ" و فرض عليه السجود و على اليدين و الركبتين و الرجلين الركوع و هو من الإيمان، و قال فيما فرض الله على هذه الجوارح من الطهور و الصلاة و سماه في كتابه إيمانا حين تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، فقال المسلمون: يا رسول الله صارت صلاتنا إلى بيت المقدس و طهورنا ضياعا؟ فأنزل الله:" وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها" إلى قوله‏

" وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ"

 (1) فسمي الصلاة و الطهور إيمانا، انتهى.

و يحتمل أن يكون مفعول القول: و ما كان الله ليضيع أيمانكم، أو مبهما يفسره ذلك، حذف لدلالة التعليل عليه و قوله: و ذلك، تعليل للقول أي النزول، و قوله:

فأنزل الله، ليس جواب لما لعدم جواز دخول الفاء عليه بل الجواب محذوف، بتقدير أنزل وجه الحكمة في الصرف فأنزل.

قوله: فمن لقي الله‏

 (2)، عند الموت أو في القيامة أو الأعم‏

" حافظا لجوارحه"

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 240

 (1) عن المحرمات‏

" موفيا كل جارحة"

 (2) التوفية إعطاء الحق وافيا تاما و يمكن أن يقرأ كل بالرفع و بالنصب‏

" مستكملا لإيمانه"

 (3) أي مكملا له، في القاموس:

أكمله و استكمله و كمله أتمه و جمله‏

" و من خان في شي‏ء منها"

 (4) أي من الجوارح بفعل المنهيات‏

أو تعدى ما أمر الله عز و جل‏

 (5) في الجوارح، و يحتمل أن يكون الخيانة أعم من ترك المأمورات و فعل المنهيات، و التعدي بإيقاع الفرائض على وجه البدعة و مخالفا لما أمر الله، و في النعماني: و من كان مضيعا لشي‏ء مما فرضه الله تعالى في هذه الجوارح و تعدى ما أمر الله به و ارتكب ما نهاه عنه لقي الله ناقص الإيمان.

و أقول: حكم عليه السلام في الأول بدخول الجنة أي من غير عقاب، و في الثاني لم يحكم بدخول النار و لا بعدم دخول الجنة لأنه يدخل الجنة و لو بعد حين، و ليس دخوله النار مجزوما به لاحتمال عفو الله تعالى و غفرانه.

قوله: فمن أين جاءت زيادته‏

 (6)، يفهم منه أن السائل فهم من الزيادة كون ما يشترط في الإيمان متحققا و زاد عليه، لا أنه يكون الزائد بالنسبة إلى الناقص، و إلا فلم يحتج إلى السؤال لأن كل نقص إذا سلب كان زائدا بالنسبة إليه، فالأفراد ثلاثة: تام الإيمان و هو الذي اعتقد العقائد الحقة كلها، و عمل بالفرائض و اجتنب الكبائر و إن أتى بشي‏ء منها تاب بعده و لم يصر على الصغائر، و ناقص الإيمان و هو الذي أتى مع العقائد الحقة بشي‏ء من الكبائر و لم يتب منها أو ترك شيئا من الفرائض و لم يتداركها أو أصر على الصغائر، و زائد الإيمان و هو الذي زاد في العقائد على ما يجب كما و كيفا كما سيأتي، و في الأعمال بإيتاء سائر الواجبات و المستحبات و ترك الصغائر و المكروهات، و كلما زادت العقائد و الأعمال كما و كيفا زاد الإيمان‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 241

فإذا عرفت هذا فلم يحتج إلى ما تكلفه بعضهم أنه لما ذكر عليه السلام أن الإيمان مفروض على الجوارح و أنه يزيد و ينقص و علم السائل الأول صريحا من الآيات المذكورة، و الثاني ضمنا أو التزاما منها للعلم الضروري بأن العلم يزيد و ينقص سأل عن الآيات الدالة على الثاني صريحا، أو قصده من السؤال أني قد فهمت مما ذكر نقصان الإيمان العملي و تمامه باعتبار أن العمل يزيد و ينقص فمن أين جاءت زيادة الإيمان التصديقي و أية آية تدل عليها؟ و فيه حينئذ استخدام إذ أراد بلفظ الإيمان الإيمان العملي، و بضميره الإيمان التصديقي، و على التقديرين لا يرد أنه إذا علم نقصان الإيمان و تمامه فقد علم زيادته، لأن في التام زيادة ليست في الناقص، انتهى.

" فَمِنْهُمْ"

 (1) قال البيضاوي: فمن المنافقين‏

" مَنْ يَقُولُ"

 (2) إنكارا و استهزاء

" أَيُّكُمْ زادَتْهُ"

 (3)

" هذِهِ"

 (4) السورة

" إِيماناً"

 (5) و قرأ أيكم بالنصب على إضمار فعل يفسره زادته‏

" فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً"

 (6) بزيادة العلم الحاصل من تدبر السورة و انضمام الإيمان بها و بما فيها إلى أيمانهم‏

" وَ هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ"

 (7) بنزولها لأنها سبب لزيادة كما لهم و ارتفاع درجاتهم‏

" وَ أَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ"

 (8) كفر

" فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ"

 (9) كفرا بها مضموما إلى الكفر بغيرها" وَ ماتُوا وَ هُمْ كافِرُونَ" و استحكم ذلك فيهم حتى ماتوا عليه‏

" وَ زِدْناهُمْ هُدىً"

 (10) أي هداية إلى الإيمان أو زدناهم بسبب الإيمان ثباتا و شدة يقين و صبر على المكاره في الدين كما قال" وَ رَبَطْنا عَلى‏ قُلُوبِهِمْ" فهذه الهداية الخاصة الربانية زيادة على الإيمان الذي كانوا به متصفين حيث قال تعالى‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 242

أولا إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ‏

" و لو كان كله واحدا"

 (1) أي كل الإيمان واحدا لا زيادة فيه و لا نقصان لم يكن لأحد من المؤمنين فضل على الآخر، لأن الفضل إنما هو بالإيمان فلا فضل مع مساواتهم فيه‏

" و لاستوت النعم"

 (2) أي نعم الله بالهدايات الخاصة في الإيمان‏

" و لاستوى الناس"

 (3) في دخول الجنة أو في الخير و الشر، و بطل تفضيل بعضهم على بعض بالدرجات و الكمالات، و اللوازم كلها باطلة بالكتاب و السنة.

" و لكن بتمام الإيمان"

 (4) باعتبار أصل التصديق و العمل بالفرائض أو بالواجبات و ترك الكبائر أو المنهيات‏

" دخل المؤمنون"

 (5) المتصفون به‏

" الجنة و بالزيادة في الإيمان"

 (6) بضم سائر الواجبات مع المندوبات أو المندوبات و ترك الصغائر مع المكروهات، أو المكروهات و تحصيل الآداب المرغوبة و الأخلاق المطلوبة

" تفاضل المؤمنون"

 (7) المتصفون بها بدرجات الجنة العالية، و المنازل الرفيعة في قربه تعالى‏

" و بالنقصان"

 (8) في التصديق أو التقصير في الأعمال الواجبة و ارتكاب المحرمات‏

" دخل المفرطون"

 (9) في النار إن لم ينجوا بفضله و عفوه سبحانه.

 (الحديث الثاني)

 (10): مجهول، و الظاهر زيادة

عن أبيه‏

 (11) عن النساخ لأن محمد بن يحيى عطف على العدة، و البرقي هو محمد بن خالد كما هو المصرح به في بعض النسخ،

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 243

و أحمد البرقي و ابن عيسى يرويان عن محمد البرقي.

 (الحديث الثالث)

 (1): مرسل‏

قوله: شهادة أن لا إله إلا الله‏

 (2) أي التكلم بكلمة التوحيد و الإقرار به ظاهرا و إنما اكتفي بها عن الإقرار بالرسالة لتلازمهما أو هو داخل في‏

قوله: و الإقرار بما جاء من عند الله،

 (3) و الضمير في" جاء" راجع إلى الموصول أي الإقرار بكل ما أرسله الله من نبي أو كتاب أو حكم ما علم تفصيلا و ما لم يعلم إجمالا، و كل ذلك الإقرار الظاهري.

و

قوله: ما استقر في القلوب‏

 (4)، الإقرار القلبي بجميع ذلك، و هذا أحد معاني الإيمان كما عرفت، و لا يدخل فيه أعمال الجوارح سوى الإقرار الظاهري بما صدق به قلبا، و لما كان عند السائل أن الإيمان محض العلوم و العقائد و لا يدخل فيه الأعمال استبعد كون الشهادة التي هي من عمل الجوارح من الإيمان، فأجاب عليه السلام بأن العمل جزء الإيمان.

" و لا يثبت الإيمان"

 (5) أي لا يتحقق واقعا أو لا يثبت الإيمان عند الناس إلا بالإقرار و الشهادة التي هي عمل الجوارح أو لا يستقر الإيمان إلا بأعمال الجوارح، فإن التصديق الذي لم يكن معه عمل يزول و لا يبقى.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 244

 (الحديث الرابع)

 (1): مرسل‏

قوله عليه السلام: دين الله اسمه الإسلام،

 (2) لقوله تعالى:" إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ" و قوله:" وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً".

" و هو دين الله قبل أن تكونوا حيث كنتم"

 (3) أي قبل أن تكونوا في عالم من العوالم أي حين لم تكونوا في عالم الأجساد، و لا في عالم الأرواح و بعد أن تكونوا في أحد العوالم، أو قبل أن تكونوا و توجدوا على هذا الهيكل المخصوص حيث كنتم في الأظلة أو في العلم الأزلي‏

" و بعد أن تكونوا"

 (4) في عالم الأبدان، و الأول أظهر، و على التقديرين المراد عدم التغير في الأديان و الأزمان‏

" فمن أقر بدين الله"

 (5) أي العقائد التي أمر الله بالإقرار بها في كل دين قلبا و ظاهرا

" فهو مسلم و من عمل"

 (6) أي مع ذلك الإقرار

" بما أمر الله عز و جل به"

 (7) من الفرائض و ترك الكبائر أو الأعم‏

" فهو مؤمن"

 (8) و هذا أحد المعاني التي ذكرنا من الإسلام و الإيمان.

 (الحديث الخامس)

 (9): صحيح.

و سلام‏

 (10) يحتمل ابن المستنير الجعفي، و ابن أبي عمرة الخراساني و كلاهما مجهولان من أصحاب الباقر عليه السلام و

خيثمة

 (11) بفتح الخاء ثم الياء المثناة الساكنة ثم المثلثة المفتوحة غير مذكور في الرجال.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 245

قوله: من استقبل قبلتنا،

 (1) أي دين من استقبل‏

فقوله: فهو مسلم‏

 (2)، تفريع و تأكيد، أو قوله: فهو مسلم قائم مقام العائد لأنه بمنزلة فهو صاحبه، أو فهو المتصف به‏

" و شهد شهادتنا"

 (3) أي شهادة جميع المسلمين.

" و نسك نسكنا"

 (4) أي عبد كعبادة المسلمين فيأتي بالصلاة و الزكاة و الصوم و الحج، أو المراد بالنسك أفعال الحج أو الذبح، قال الراغب: النسك العبادة و الناسك العابد، و اختص بأعمال الحج، و المناسك مواقف النسك و أعمالها، و النسيكة مختصة بالذبيحة، قال:" فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ" و قال تعالى:" فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ" و قال:" مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ".

" و والى ولينا"

 (5) أي ولي جميع المسلمين‏

" و عادى عدونا"

 (6) أي عدو جميع المسلمين و هم المشركون و سائر الكفار فهذا يشمل جميع فرق المسلمين.

" و التصديق بكتاب الله"

 (7) يدخل فيه الإقرار بالرسالة و الإمامة و العدل و المعاد

" و أن لا يعصي الله"

 (8) بالعمل بالفرائض و ترك الكبائر أو العمل بجميع الواجبات و ترك جميع المحرمات، و الحاصل أنه يحتمل أن يكون المراد بالإسلام الإسلام الظاهري و إن لم يكن مع التصديق القلبي، و بالإيمان العقائد القلبية مع الإقرار بالولاية و الإتيان بالأعمال، و يحتمل أن يكون المراد بقوله: والى ولينا و عادى عدونا، موالاة أولياء الأئمة عليهم السلام و معاداة أعدائهم، فالإسلام عبارة عن الإذعان بجميع العقائد الحقة ظاهرا و باطنا و الإيمان عبارة عن انضمام العقائد القلبية و الأعمال معه أو الأعمال فقط، و على كل تقدير يرجع إلى أحد المعاني المتقدمة لهما.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 246

 (الحديث السادس)

 (1): صحيح و مضمونه قريب من الحديث الثالث.

" أ ليس هذا عمل"

 (2) كذا في النسخ بالرفع و لعله من تصحيف النساخ و يحتمل أن يكون اسم ليس ضمير الشأن و يكون مبنيا على لغة بني تميم حيث ذهبوا إلى أن ليس إذا انتقض نفيه يحمل على ما في الإهمال، و النفي هنا منتقض بالاستفهام الإنكاري.

قوله عليه السلام: لا يثبت له الإيمان‏

 (3)، الضمير راجع إلى المؤمن المدلول عليه بالإيمان.

 (الحديث السابع)

 (4): ضعيف على المشهور.

و هو جزء من الحديث الأول بتغييرات مخلة.

منها،

قوله: بالله الذي هو

 (5)، فإن الصحيح بالله الذي لا إله إلا هو و

قوله‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 247

بينه‏

 (1)، الأصح بين، و

قوله: المنتهى نقصانه‏

 (2)، كان البين نقصانه أصح، و

قوله: لا تورد

 (3) على بناء المجهول و الأصح لا ترد كما في بعض النسخ هنا أيضا.

قوله: ينطق به الكتاب‏

 (4) يظهر مما مر أنه سقط هنا نحو من سطرين، من ينطق به إلى ينطق به، و يمكن أن يتكلف في تصحيح ما في النسخ بأن يقال من عمل اللسان أن ما يكتب في الكتب يصير متلفظا به، فكان الكتاب ينطق بسبب اللسان كما قال تعالى:" هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ" و

" يشهد"

 (5) على بناء المفعول‏

" به"

 (6) أي بالكتاب‏

" عليها"

 (7) أي على اللسان بتأويل الجارحة، و في المصباح قال الفراء:

لم أسمع اللسان من العرب إلا مذكرا، و قال أبو عمرو بن العلاء: اللسان يذكر و يؤنث، انتهى.

و قد صرح في المغرب أيضا بأنه يذكر و يؤنث، أو المراد باللسان عند إرجاع الضمير الكلمات الصادرة عنه، فلذا أنت قال الجوهري: اللسان جارحة الكلام و قد يكنى بها عن الكلمة فيؤنث حينئذ، انتهى.

ففيه استخدام، و يحتمل أن يكون المراد بالكتاب أولا كتاب الأعمال، و يمكن إرجاع ضمير به إلى اللسان و ضمير عليها إلى الجوارح، أي تؤاخذ الجوارح بما يشهد اللسان عليها.

كل ذلك خطر بالبال و إن كان كل منها لا يخلو من بعد، و قيل: الظاهر

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 248

أن المراد بالكتاب القرآن و الضمير في" يشهد" راجع إليه و في" به" إلى النطق أو إلى اللسان بحذف مضاف أي بأقواله، و في" عليها" إلى اللسان و نطق القرآن بأقوال اللسان خيرا و شرا و شهادته عليها كثير، و يحتمل أن يراد بالكتاب كتاب الإيمان و صحيفتها و شهادته عليها يوم القيامة ظاهرة، و ربما يقرأ الكتاب بضم الكاف و تشديد التاء بأن يراد به الحفظة للأعمال.

 (الحديث الثامن)

 (1): مجهول.

و مفعول يقول‏

قوله: سبحان الله‏

 (2) إلى آخر الكلام، و إعادة

" فقال"

 (3) للتأكيد لطول الفصل، و قد مر أن‏

المرجئة

 (4) قوم يقولون أنه لا يضر مع الأيمان معصية كما أنه لا ينفع مع الكفر طاعة، و يظهر من هذا الخبر أنهم كانوا يقولون بأن الإيمان هو الإقرار الظاهري و لا يشترط فيه الاعتقاد القلبي، و كذا الكفر لكنه غير مشهور عنهم، قال في المواقف و شرحه: من كبار الفرق الإسلامية المرجئة لقبوا به لأنهم يرجئون العمل عن النية أي يؤخرونه، أو لأنهم يقولون لا يضر مع الأيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة، فهم يعطون الرجاء و على هذا ينبغي أن لا يهمز لفظ المرجئة و فرقهم خمس: اليونسية أصحاب يونس النميري،

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 249

قالوا: الإيمان هو المعرفة بالله و الخضوع له و المحبة بالقلب، فمن اجتمعت فيه هذه الصفات فهو مؤمن و لا يضر معها ترك الطاعات و ارتكاب المعاصي، و لا يعاقب عليها، و العبيدية أصحاب عبيد المكذب زادوا على اليونسية أن علم الله لم يزل شيئا غيره، و أنه تعالى على صورة الإنسان، و الغسانية أصحاب غسان الكوفي قالوا: الإيمان هو المعرفة بالله و رسوله و بما جاء من عندهما إجمالا لا تفصيلا و هو يزيد و لا ينقص، و غسان كان يحكيه عن أبي حنيفة و هو افتراء عليه، فإنه لما قال الإيمان هو التصديق و لا يزيد و لا ينقص ظن به الإرجاء بتأخير العمل عن الإيمان، و الثوبانية أصحاب الثوبان المرجئي قالوا: الإيمان هو المعرفة و الإقرار بالله و رسوله و بكل ما لا يجوز في العقل أن يعقله، و أما ما جاز في العقل أن يعقله فليس الاعتقاد به من الإيمان و أخروا العمل كله من الإيمان، و الثومنية أصحاب أبي معاذ الثومني قالوا: الإيمان هو المعرفة و التصديق و المحبة و الإخلاص و الإقرار بما جاء به الرسول و ترك كله أو بعضه كفر، و ليس بعضه إيمانا و لا بعض إيمان، و كل معصية لم يجمع على أنه كفر فصاحبه يقال: إنه فسق و عصى و إنه فاسق، و من ترك الصلاة مستحلا كفر لتكذيبه لما جاء به النبي صلى الله عليه و آله و سلم و من تركها بنية القضاء لم يكفر، و قالوا السجود للصنم ليس كفرا بل هو علامة الكفر، فهذه هي المرجئة الخالصة، و منهم من جمع إلى الإرجاء القدر، انتهى.

قوله: كما أن الكافر

 (1)، كأنه قاس الإيمان بالكفر فإن من أنكر ضروريا من ضروريات الدين ظاهرا من غير تقية فهو كافر و إن لم يعتقد ذلك، فإذا أقر بما جاء به النبي صلى الله عليه و آله و سلم يجب أن يكون مؤمنا غير معذب و إن لم يعتقد بقلبه شيئا من ذلك، و لم يضم إليه أفعال الجوارح من الطاعات و ترك المعاصي فأجاب عليه السلام بأنه مع بطلان القياس لا سيما في المسائل الأصولية فهو قياس مع الفارق، ثم شبه عليه السلام الأمرين بالإقرار و الإنكار ليظهر الفرق، فإن إنكار الضروري مستلزم لترك جزء من أجزاء الإيمان و هو الإقرار الظاهري فهو بمنزلة إقرار الإنسان على نفسه، فإنه لا يكلف‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 250

بينة

 (1) على إقراره بل يحكم بمحض الإقرار عليه و إن شهدت البينة على خلافه، بخلاف إظهار الإيمان و التكلم به، فإنه و إن أتى بجزء من الإيمان و هو الإقرار الظاهري لكن عمدة أجزائه التصديق القلبي و هو مع ذلك مدع لا بد له من شاهد من عمل الجوارح عند الناس و من النية و التصديق عند الله، فإذا اتفق الشاهدان و هما التصديق و العمل ثبت إيمانه عند الله، و لما كان التصديق القلبي أمرا لا يطلع عليه غير الله لم يكلف الناس في الحكم بإيمانه إلا بالإقرار الظاهري و العمل فإنهما شاهدان عدلان يحكم بهما ظاهرا و إن كانا كاذبين عند الله. و الحاصل أنه عليه السلام شبه الإقرار الظاهري بالدعوى في سائر الدعاوي، و كما أن الدعوى في سائر الدعاوي لا تقبل إلا ببينة فكذا جعل الله تعالى هذه الدعوى غير مقبولة إلا بشاهدين من قلبه و جوارحه فلا يثبت عنده إلا بهما، و أما عند الناس فيكفيهم في الحكم الإقرار و العمل الظاهري كما يكتفي عند الضرورة بالشاهد و اليمين، فالإيمان مركب من ثلاثة أجزاء و لا يثبت الإيمان الواقعي إلا بتحقق الجميع فهو من هذه الجهة يشبه سائر الدعاوي للزوم ثلاثة أشياء في تحققها الدعوى و الشاهدين.

و يمكن أن يكون الأصل في الإيمان الأمر القلبي و لما لم يكن ظهوره للناس إلا بالإقرار و العمل، فجعلهما الله من أجزاء الإيمان أو من شرائطه و لوازمه.

" و قد أصاب"

 (2) أي حكم بالحق و الصواب.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 251

ثم اعلم أن أكثر المتكلمين من الخاصة و العامة اختلفوا في أن الإيمان هل يقبل الزيادة و النقصان كما يدل عليه بعض أخبار هذا الباب أم لا و منهم من جعل هذا الخلاف فرع الخلاف في أن الأعمال داخلة فيه أم لا، قال إمامهم الرازي في المحصل: الإيمان عندنا لا يزيد و لا ينقص لأنه لما كان اسما لتصديق الرسول في كل ما علم بالضرورة مجيئه به، و هذا لا يقبل التفاوت فسمي الإيمان لا يقبل الزيادة و النقصان، و عند المعتزلة لما كان اسما لأداء العبادات كان قابلا لهما، و عند السلف لما كان اسما للإقرار و الاعتقاد و العمل فكذلك، و البحث لغوي و لكل واحد من الفرق نصوص، و التوفيق أن يقال: الأعمال من ثمرات التصديق، فما دل على أن الإيمان لا يقبل الزيادة و النقصان كان مصروفا إلى أصل الإيمان، و ما دل على كونه قابلا لهما فهو مصروف إلى الإيمان الكامل، انتهى.

و قال الشهيد الثاني قدس سره في رسالة العقائد: حقيقة الإيمان بعد الاتصاف بها بحيث يكون المتصف بها مؤمنا عند الله تعالى هل تقبل الزيادة أم لا، فقيل بالثاني لما تقدم من أنه التصديق القلبي الذي بلغ الجزم و الثبات، فلا تتصور فيه الزيادة عن ذلك، سواء أتى بالطاعات و ترك المعاصي أم لا، و كذا لا تعرض له النقيصة و إلا لما كان ثابتا و قد فرضناه كذلك هذا خلف و أيضا حقيقة الشي‏ء لو قبلت الزيادة و النقصان لكانت حقائق متعددة، و قد فرضناها واحدة، هذا خلف، و إن قلت: حقيقة الإيمان من الأمور الاعتبارية للشارع و حينئذ فيجوز أن يعتبر الشارع للإيمان حقائق متعددة متفاوتة زيادة و نقصانا بحسب مراتب المكلفين في قوة الإدراك و ضعفه، فإنا نقطع بتفاوت المكلفين في العلم و الإدراك؟ قلت: لو جاز ذلك و كان واقعا لوجب علي الشارع بيان حقيقة إيمان كل فرقة يتفاوتون في قوة الإدراك، مع أنه لم يبين ما ورد من جهة الشارع فيما به يتحقق الإيمان من حديث جبرئيل للنبي صلى الله عليه و آله و سلم و غيره من الأحاديث قد مر ذكره، و ليس فيه شي‏ء يدل على تعدد الحقائق بحسب‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 252

تفاوت قوي المكلفين.

و أما ما ورد في الكتاب العزيز و السنة المطهرة مما يشعر بقبوله الزيادة و النقصان كقوله تعالى:" وَ إِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً" و قوله تعالى:

" لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ" و قوله تعالى:" لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَ آمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَ أَحْسَنُوا وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ" و كذا ما ورد من أمثال ذلك في القرآن العزيز فمحمول على زيادة الكمال و هو أمر خارج عن أصل الحقيقة الذي هو محل النزاع، و الآية الثانية صريحة في ذلك فإن قوله تعالى:" مَعَ إِيمانِهِمْ" يدل على أن أصل الإيمان ثابت، أو على من كان في عصر النبي حيث كانوا يسمعون فرضا بعد فرض منه عليه السلام فيزداد إيمانهم به لأنهم لم يكونوا مصدقين به قبل أن يسمعوه.

و حاصله أن الحقيقة الشرعية للإيمان لم تكن حصلت بتمامها في ذلك الوقت، فكان كلما حصل منها شي‏ء صدقوا به، و اعترض بأن من كان بعد عصر النبي صلى الله عليه و آله و سلم يمكن في حقه تجدد الاطلاع على تفاصيل الفرائض المتوقف عليها الإيمان فإنه يجب الاعتقاد إجمالا فيما عليم إجمالا و تفصيلا فيما علم تفصيلا، و لا ريب أن اعتقاد الأمور المتعددة تفصيلا أزيد و أظهر عند النفس من اعتقادها إجمالا فعلم من ذلك قبول حقيقة الإيمان الزيادة.

أقول: فيه بحث فإن الجازم بحقيقة الجملة جازم بحقيقة كل جزء منها و إن لم يعلمه بعينه، أ لا ترى أنا بعد علمنا بصدق النبي صلى الله عليه و آله و سلم جازمون بصدق كل ما يخبر به و إن لم نعلم تفصيل ذلك جزءا جزءا، حتى لو فصل ذلك علينا واحدا واحدا لما ازداد

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 253

ذلك الجزم، نعم الزائد في التفصيل إنما هو إدراك الصور المتعددة من حيث التعدد و التشخص و هو لا يوجب زيادة في التصديق الإجمالي الجازم، فإن هذه الصور قد كانت مجزوما بها على تقدير دخولها في الهيئة الإجمالية، و إنما الشاذ عن النفس إدراك خصوصياتها و هو أمر خارج عن تحقق الحقيقة المجزوم بها، نعم لا ريب في حصول الأكملية به و ليس الكلام فيها.

و قد أجاب بعض المفسرين عن الآية الثالثة بأن تكرار الإيمان فيها ليس فيه دلالة على الزيادة، بل إما أن يكون باعتبار الأزمنة الثلاثة أو باعتبار الأحوال الثلاث، حال المؤمن مع نفسه، و حاله مع الناس، و حاله مع الله تعالى، و لذا بدل الإيمان بالإحسان كما يرشد إليه قوله صلى الله عليه و آله و سلم في تفسير الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، أو باعتبار المراتب الثلاث المبدأ و الوسط و المنتهى، أو باعتبار ما ينبغي فإنه ينبغي ترك المحرمات حذرا عن العقاب، و ترك الشبهات تباعدا عن الوقوع في المحرمات و هو مرتبة الورع، و ترك بعض المباحات المؤذنة بالنقص حفظا للنفس عن الخسة، و تهذيبا لها عن دنس الطبيعة، أو يكون هذا التكرار كناية عن أنه ينبغي للمؤمن أن يجدد الإيمان في كل وقت بقلبه و لسانه و أعماله الصالحة، و عبر عنه على بقائه و الثبات عليه عند الذهول ليصير الإيمان ملكة للنفس فلا يزلزله عروض شبهة، انتهى.

قيل: في بيان قبول الإيمان الزيادة أن الثبات و الدوام على الإيمان أمر زائد عليه في كل وقت و زمان، و حاصل ذلك يرجع إلى أن الإيمان عرض لأنه من الكيفيات النفسانية و العرض لا يبقى زمانين بل بقاؤه إنما يكون بتجدد الأمثال.

أقول: و هذا مع بنائه على ما لم يثبت حقيته بل نفيه فليس من الزيادة في شي‏ء، إذ لا يقال للمماثل الحاصل بعد انعدام مثله أنه زائد و هذا ظاهر، و قيل في‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 254

توجيه قبوله الزيادة: أنه بمعنى زيادة ثمرته من الطاعات و إشراق نوره و ضيائه في القلب و أنه يزيد بالطاعات و ينقص بالمعاصي.

أقول: هذا التوجيه وجيه لو كان النزاع في مطلق الزيادة لكنه ليس كذلك بل النزاع إنما هو في أصل حقيقته لا في كمالها.

و استدل بعض المحققين على أن حقيقة التصديق الجازم الثابت تقبل الزيادة و النقصان بأنا نقطع أن تصديقنا ليس كتصديق النبي صلى الله عليه و آله و سلم.

أقول: لا ريب في أنا قاطعون بأن تصديق النبي صلى الله عليه و آله و سلم أقوى من تصديقنا و أكمل، لكن هذا لا يدل على اختلاف أصل حقيقة الإيمان التي قدرها الشارع باعتقاد أمور مخصوصة على وجه الجزم و الثبات، فإن تلك الحقيقة إنما هي من اعتبارات الشارع، و لم يعهد من الشارع اختلاف حقيقة الإيمان باختلاف المكلفين في قوة الإدراك، بحيث يحكم بكفر قوي الإدراك لو كان جزمه بالمعارف الإلهية كجزم من هو أضعف إدراكا منه، نعم الذي تفاوت فيه المكلفون إنما هو مراتب كماله بعد تحقق أصل حقيقته التي يخاطب بتحصيلها كل مكلف و يعتبر بها مؤمنا عند الله تعالى و تستحق الثواب الدائم و بدونها العقاب الدائم، و أما تلك الكمالات الزائدة فإنما تكون باعتبار قرب المكلف إلى الله تعالى بسبب استشعاره لعظمة الله و كبريائه و شمول قدرته و علمه، و ذلك لإشراق نفسه و اطلاعها على ما في مصنوعات الله تعالى من الأحكام و الإتقان و الحكم و المصالح، فإن النفس إذا لاحظت هذه البدائع الغريبة العظيمة التي تحار في تعقلها مع علمها بأنها تشترك في الإمكان و الافتقار إلى صانع يبدعها و يبديها متوحد في ذاته بذاته انكشف عليها كبرياء ذلك الصانع و عظمته و جلاله و إحاطته بكل شي‏ء، فيكثر خوفها و خشيتها و احترامها لذلك الصانع حتى كأنها لا تشاهد سواه و لا تخشى غيره، فتنقطع عن غيره إليه و تسلم أزمة أمورها إليه حيث علمت أن لا رب غيره و أن المبدأ منه و المعاد إليه، فلا تزال شاخصة منتظرة

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 255

لأمره حتى تأتيها فتفر إليه من ضيق الجهالة إلى سعة معرفته و رحمته و لطفه، و في ذلك فليتنافس المتنافسون.

و كذا ما ورد من السنة المطهرة مما يشعر بقبوله الزيادة و النقصان يمكن حمله على ما ذكرناه كحديث الجوارح، ذكره في الكافي بإسناده عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قلت: صفه لي يعني الإيمان جعلت فداك حتى أفهمه، فقال: الإيمان حالات و درجات، إلى قوله: و بالنقصان دخل المفرطون النار، انتهى.

ثم قال (ره): اعلم أن سند هذا الحديث ضعيف لأن في طريقه بكر بن صالح الرازي و هو ضعيف جدا كثير التفرد بالغرائب، و أبو عمرو الزبيري و هو مجهول فسقط الاستدلال به، و لو سلم سنده فلا دلالة فيه على اختلاف نفس حقيقة الإيمان التي يترتب عليها النجاة، و جعل الناقص عنها يترتب عليه دخول النار، فلم يكن إيمانا و إلا لم يدخل صاحبه النار بقوله تعالى وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ.

و جعل الزيادة في الإيمان مما يوجب التفاضل في الدرجات، و لا ريب أن هذه الزيادة لو ترك و اقتصر المكلف على ما يحصل به التمام لم يعاقب على ترك هذه الزيادة، و لأنه عليه السلام جعل التمام موجبا للجنة فكيف يوجب العقاب ترك الزيادة مع أن ما دونه و هو التمام يوجب الجنة، و على هذا فتكون الزيادة غير مكلف بها فلم تكن داخلة في أصل حقيقة الإيمان لأنه مكلف به بالنص و الإجماع، فيكون من الكمال، فظهر بذلك كون الحديث دليلا على عدم قبول حقيقة الإيمان للزيادة و النقصان، لا دليلا على قبولهما، و هذا استخراج لم نسبق إليه، و بيان لم يعثره غيرنا عليه.

على أن هذا الحديث لو قطعنا النظر عما ذكرنا و حملناه على ظاهره لكان‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 256

معارضا بما سبق من حديث جبرئيل للنبي صلى الله عليه و آله و سلم حيث سأله عن الإيمان فقال: أن تؤمن بالله و رسله و اليوم الآخر، أي تصدق بذلك، و لو بقي من حقيقته شي‏ء سوى ما ذكره له لبينه له، فدل على أن حقيقته تتم بما أجابه بالقياس إلى كل مكلف أما للنبي صلى الله عليه و آله و سلم فلأنه المجاب به حين سأله، و أما لغيره فللتأسي به و طريق الجمع بينهما حينئذ حمل ما في حديث الجوارح من الزيادة عن ذلك على مرتبة الكمال بيناه سابقا.

و هيهنا بحث و هو أن حقيقة الإيمان لما كانت من الأمور الاعتبارية للشارع كان تحديدها إنما هو بجعل الشارع و تقريره لها، فلا يعلم حينئذ مقداره و حقيقته إلا منه، و حيث رأينا ما وصل إلينا من خطاباته تعالى غير قاطع في الدلالة على تعيين قدر مخصوص من أنواع الاعتقاد و الأعمال بحيث تشترك الكل في التكليف به من غير تفاوت بين قوي الإدراك و ضعيفة، بل رأيناها متفاوتة في الدلالة على ذلك يعلم ذلك من تتبع آيات الكتاب العزيز و السنة المطهرة و قد سبق نبذة من ذلك و لا يجوز الاختلاف في خطاباته، و لا أن يكلف عباده بأمر لا يبين لهم مراده تعالى منه، لاستحالة تكليف ما لا يطاق و إخلاله باللطف و رأينا الأكثر ورودا في كتابه بذلك الأمر بالاعتقاد القلبي من غير تعيين مقدار مخصوص منه بقاطع يوقفنا على اعتباره أمكن حينئذ أن يكون مراده منه مطلق الاعتقاد العلمي سواء كان علم الطمأنينة أو علم اليقين أو حق اليقين أو عين اليقين فتكون حقيقة واحدة و هو الإذعان القلبي و الاعتقاد العلمي، و التفاوت بالزيادة و النقصان إنما هو في أفراد تلك الحقيقة و من مشخصاتها فلا يكون داخلا في الحقيقة المذكورة، و ما ورد مما ظاهره الاختلاف في الدلالة على مراد الشارع منه يمكن تنزيله على تفاوت الأفراد المذكورة كعلم الطمأنينة و علم اليقين و غيرهما فيكون كل واحد منها مرادا و كافيا في امتثال أمر الشارع.

و هذا هو المناسب لسهولة التكليف و اختلاف طبقات المكلفين في الإدراك كما

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 257

لا يخفى، و بذلك يسهل الخطب في الحكم بإيمان أكثر العوالم الذين لا يتيسر لأنفسهم الاتصاف بالعلم الذي لا يقبل تشكيك المشكك، فإن علم الطمأنينة متيسر لكل واحد، و على هذا فيكون ما تشعر النفس به من الازدياد في التصديق و الاطمئنان عند ما تشاهده من برهان أو عيان، إنما هو انتقال في أفراد تلك الحقيقة و تبدل واحد بآخر، و الحقيقة واحدة.

لا يقال: أفراد الحقيقة الواحدة لا تنافي الاجتماع في القوة العاقلة فإن أفراد الحيوان و الإنسان يصلح اجتماعها في القوة العاقلة و ما نحن فيه ليس كذلك، إذ لا يمكن اتصاف الحصول بنفس علم الطمأنينة و علم اليقين في حالة واحدة لتضادهما و بهذا يزول الأول بحصول الثاني فلا يكون ما ذكرت أفراد حقيقة واحدة بل حقائق.

قلت: لا نسلم أن أفراد كل حقيقة يصح اجتماعها في الحصول عند القوة العاقلة، بل قد لا يصح ذلك لما بينها من التضاد كما في البياض و السواد فإنها فردان لحقيقة واحدة هي اللون مع عدم صحة اجتماعهما في محل واحد لا خارجا و لا ذهنا. بقي هيهنا شي‏ء و هو أنه لا ريب في تحقق الإيمان الشرعي بالتصديق الجازم الثابت و إن أخل المتصف به ببعض الطاعات، و قارف بعض المنهيات عند من يكتفي في حصول الإيمان بإذعان الجنان، و إذا كان الأمر كذلك فلا معنى للنزاع عند هؤلاء في أن حقيقة الإيمان هل تقبل الزيادة و النقصان، إذ لو قبلت شيئا منهما لم تكن واحدة بل متعددة، لأن القابل غير المقبول، و العارض غير المعروض فإن دخل الزائد في مفهوم الحقيقة بحيث صار ذاتيا لها تعددت و تبدلت، و كذا الناقص إذا خرج عنها فلا تكون واحدة، و قد فرضناها كذلك، هذا خلف، و إن لم يدخل و لم يخرج شي‏ء منهما كانت واحدة من غير نقصان و زيادة فيها بل هما راجعان إلى الكمال و عدمه‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 258

و حينئذ فيبقى محل النزاع هل يقبل كما لها الزيادة و النقصان، و أنت خبير بأن هذا مما لا يختلف في صحته اثنان، و قد ذكر بعض العلماء أن هذا النزاع إنما يتمشى على قول من جعل الطاعات من الإيمان.

و أقول: الذي يقتضيه النظر أنه لا يتمشى على قولهم أيضا، و ذلك أن ما اعتبروه في الإيمان من الطاعات إما أن يريدوا به توقف حصول الإيمان على جميع ما اعتبروه أو عليه في الجملة، و على الأول يلزم كون حقيقته واحدة، فإذا ترك فرضا من تلك الطاعات يخرج من الإيمان و على الثاني يلزم كون ما يتحقق به الإيمان من تلك الطاعات داخلا في حقيقته و ما زاد عليه خارجا فتكون واحدة على التقديرين، فليس الزيادة و النقصان إلا في الكمال على جميع الأقوال، انتهى كلامه رفع الله مقامه.

و قال شارح المقاصد: ظاهر الكتاب و السنة و هو مذهب الأشاعرة و المعتزلة و المحكي عن الشافعي و كثير من العلماء أن الإيمان يزيد و ينقص، و عند أبي حنيفة و أصحابه و كثير من العلماء و هو اختيار إمام الحرمين أنه لا يزيد و لا ينقص لأنه اسم للتصديق البالغ حد الجزم و الإذعان و لا يتصور فيه الزيادة و النقصان، و المصدق إذا ضم الطاعات إليه أو ارتكب المعاصي فتصديقه بحاله لم يتغير أصلا و إنما يتفاوت إذا كان اسما للطاعات المتفاوتة قلة و كثرة، و لهذا قال الإمام الرازي و غيره: إن هذا الخلاف فرع تفسير الأيمان، فإن قلنا: هو التصديق فلا يتفاوت، و إن قلنا هو الأعمال فمتفاوت.

و قال إمام الحرمين: إذا حملنا الإيمان على التصديق فلا يفضل تصديق تصديقا كما لا يفضل علم علما و من حمله على الطاعة سرا و علنا و قد مال إليه القلانسي فلا يبعد إطلاق القول بأنه يزيد بالطاعة و ينقص بالمعصية و نحن لا نؤثر هذا، ثم قال: و لقائل أن يقول: لا نسلم أن التصديق لا يتفاوت بل يتفاوت قوة و ضعفا كما في التصديق‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 259

بطلوع الشمس و التصديق بحدوث العالم لأنه إما نفس الاعتقاد القابل للتفاوت أو مبني عليه قلة و كثرة كما في التصديق الإجمالي و التفصيلي الملاحظ لبعض التفاصيل و أكثر، فإن ذلك من الإيمان لكونه تصديقا بما جاء به النبي صلى الله عليه و آله و سلم إجمالا فيما علم إجمالا، و تفصيلا فيما علم تفصيلا.

لا يقال: الواجب تصديق يبلغ حد اليقين و هو لا يتفاوت، لأن التفاوت لا يتصور إلا باحتمال النقيض.

لأنا نقول: اليقين من باب العلم و المعرفة، و قد سبق أنه غير التصديق، و لو سلم أنه التصديق و أن المراد به ما يبلغ حد الإذعان و القبول و يصدق عليه المعنى المسمى بگرويدن ليكون تصديقا قطعا فلا نسلم أنه لا يقبل التفاوت، بل لليقين مراتب من أجلى البديهيات إلى أخفى النظريات، و كون التفاوت راجعا إلى مجرد الجلاء و الخفاء غير مسلم بل عند الحصول و زوال التردد التفاوت بحاله، و كفاك قول الخليل:" وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي" و عن علي عليه السلام: لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا.

على أن القول بأن المعتبر في حق الكل هو اليقين و أن ليس للظن الغالب الذي لا يخطر معه النقيض بالبال حكم اليقين محل نظر.

احتج القائلون بالزيادة و النقصان بالعقل و النقل أما العقل فلأنه لو لم يتفاوت لكان إيمان آحاد الأمة بل المنهمك في الفسق مساويا لتصديق الأنبياء و اللازم باطل قطعا و أما النقل فلكثرة النصوص الواردة في هذا المعنى، قال الله:" وَ إِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً"" لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ"" وَ يَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً"" وَ ما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَ تَسْلِيماً"" فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً" و عن‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 260

ابن عمر قلنا: يا رسول الله إن الإيمان يزيد و ينقص؟ قال: نعم يزيد حتى يدخل صاحبه الجنة و ينقص حتى يدخل صاحبه النار.

و أجيب بوجوه: الأول: أن المراد الزيادة بحسب الدوام و الثبات و كثرة الأزمان و الساعات و هذا ما قال إمام الحرمين: النبي صلى الله عليه و آله و سلم يفضل من عداه باستمرار تصديقه و عصمة الله إياه من مخامرة الشكوك، و التصديق عرض لا يبقى، فيقع للنبي متواليا و لغيره على الفترات، فثبت للنبي صلى الله عليه و آله و سلم أعداد من الإيمان لا يثبت لغيره إلا بعضها، فيكون إيمانه أكثر، و الزيادة بهذا المعنى مما لا نزاع فيه.

و ما يقال: من أن حصول المثل بعد انعدام الشي‏ء لا يكون زيادة، مدفوع بأن المراد زيادة إعداد حصلت و عدم البقاء لا ينافي ذلك.

الثاني: أن المراد الزيادة بحسب زيادة المؤمن به، و الصحابة كانوا آمنوا في الجملة و كان يأتي فرض بعد فرض، و كانوا يؤمنون بكل فرض خاص، و حاصله أن الإيمان واجب إجمالا فيما علم إجمالا و تفصيلا فيما علم تفصيلا، و الناس متفاوتون في ملاحظة التفاصيل كثرة و قلة، فيتفاوت إيمانهم زيادة و نقصانا و لا يختص ذلك بعصر النبي صلى الله عليه و آله و سلم على ما يتوهم.

الثالث: أن المراد زيادة ثمرته و إشراق نوره في القلب فإنه يزيد بالطاعات و ينقص بالمعاصي، و هذا مما لا خفاء فيه، و هذه الوجوه جيدة في التأويل لو ثبت لهم أن التصديق في نفسه لا يقبل التفاوت و الكلام فيه، انتهى.

و الحق أن الإيمان يقبل الزيادة و النقصان، سواء كانت الأعمال أجزاءه أو شرائطه أو آثاره الدالة عليه، فإن التصديق القلبي بأي معنى فسر لا ريب أنه يزيد، و كلما ازدادت آثاره على الأعضاء و الجوارح فهي كثرة و قلة تدل على مراتب الإيمان زيادة و نقصانا، و كل منهما يتفرع على الآخر، فإن كل مرتبة من مراتب الإيمان يصير سببا لقدر من الأعمال يناسبها، فإذا أتى بها قوي الإيمان‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 261

القلبي، و حصلت مرتبة أعلى تقتضي عملا أكثر، و هكذا و سيأتي مزيد تأييد لذلك في الأخبار إنشاء الله تعالى.

باب السبق إلى الإيمان‏

 (1)

 (الحديث الأول)

 (2): ضعيف، و تتمة من الحديث الكبير المذكور في الباب السابق.

" درجات"

 (3) أي ذو درجات أو نفسه باعتبار إضافة الدرجات و قيل: الدرجات مراتب الترقيات، و المنازل مراتب التنزلات، و يحتمل أن يكون المقصود منهما واحدا أطلق عليهما اللفظان باعتبارين‏

" إن الله سبق"

 (4) على بناء التفعيل المعلوم، و يسبق على بناء التفعيل المجهول، أي قرر السبق و قدره بينهم في الإيمان، و ندبهم إليه كما يسابق بين الخيل يوم الرهان، و

الخيل‏

 (5) جماعة الأفراس لا واحد له، و قيل:

واحده خائل لأنه يختال و جمعه أخيال و خيول، و يطلق الخيل علي الفرسان، أيضا و المراهنة و

الرهان‏

 (6) بالكسر المسابقة على الخيل، و كأنه عليه السلام سبه مدة الحياة بالمضمار و الأرواح بالفرسان، و الأبدان بالخيول، و العلم الذي يسبق إليه منتهى مراتب الإيمان، و السبق الذي يراهن عليه الجنة، فمنهم من سبق الكل و بلغ الغاية و هو رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم، و منهم من تأخر عن الكل، و منهم من‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 262

بقي في وسط الميدان و منازلهم بحسب العقائد و الأعمال كما و كيفا لا يتناهى.

قوله عليه السلام: فجعل كل امرئ منهم،

 (1) أي أعطاه ما يستحقه من الكرامة و الأجر و الذكر الجميل، قيل في الاقتصار بنفي النقص دون الزيادة إيماء إلى جوازها من باب التفضل و إن لم يستحق.

" و لا يتقدم"

 (2) أي في الفضل و الثواب‏

" مسبوق"

 (3) في الإيمان‏

" سابقا"

 (4) فيه و لا مفضول في الكمالات و الأعمال الصالحة سابقا فيهما

" تفاضل"

 (5) استئناف بياني‏

" بذلك"

 (6) أي بالسبق‏

" أوائل هذه الأمة"

 (7) أي من تقدم إيمانه من الصحابة

" أواخرها"

 (8) منهم أو الأعم من الصحابة و غيرهم أو الصحابة على التابعين، و التابعين على غيرهم، و ظاهره السبق الزماني إشعارا بأن الغاصبين للخلافة و إن فرض منهم تحقق إسلام و عمل صالح فلا يجوز تقديمهم على أمير المؤمنين عليه السلام، و قد كان أولهم إيمانا و أسبقهم مع قطع النظر عن سائر الكمالات و الفضائل التي استحق بها التقديم.

و يحتمل أن يكون المراد أعم من السبق الزماني و السبق بحسب الرتبة و كمال اليقين، فالأكثرية بحسب الكمية لا الكيفية فإنها تابعة للكمالات النفسانية و الحقائق الإيمانية التي هي من الأعمال القلبية لكنه بعيد عن السياق، و

قوله: نعم‏

 (9) تأكيد لقوله: للحق، و

قوله و لتقدموهم‏

 (10) عطف على قوله: نعم، أو على قوله: للحق،

و قوله: إذا لم يكن‏

 (11) إعادة للشرط السابق تأكيدا.

أو المعنى أنه لو لم يكن للسبق الزماني مدخل في الفضل، للزم أن يجوز لحوق المتأخرين السابقين أو تقدمهم عليهم مع عدم تحقق فضل في أصل الإيمان و شرائطه‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 263

و مكملاته للسابقين على اللاحقين، فاللحوق في صورة المساواة، و التقدم في صورة زيادة إيمان اللاحقين على إيمان السابقين، و الحال أنه ليس كذلك فإن لهم بالتقدم الزماني فضلا عليهم، فالمراد بالفضل ما هو غير السبق الزماني، و قوله: و لكن إضراب عن قوله: نعم و لتقدموهم" إلخ".

أو المراد بالدرجات ما هو باعتبار السبق الزماني من الأولين أو من بعضهم مقدمين على الأولين أي مطلقا، لكن ليس كذلك بل ربما كان بعض الأولين باعتبار السبق أفضل من كثير من الآخرين و إن كانوا أقل منهم عملا باعتبار تقدمهم و سبقهم و صعوبة الإيمان في ذلك الزمان، و بسبب أن لهم مدخلا عظيما في أيمان الآخرين.

و الحاصل أن المسابقة تكون بحسب الرتبة و الزمان، فمن اجتمعا فيه كأمير المؤمنين صلوات الله عليه فهو الكامل حق الكمال، و السابق على كل حال، و من انتفى عنه الأمران فهو الناقص المستحق للخذلان و الوبال، و أما إذا تعارض الأمران فظاهر الخبر أن السابق زمانا أفضل و أعلى درجة من الآخر، و قال بعض المحققين:

الغرض من هذا الحديث أن يبين أن تفاضل درجات الإيمان بقدر السبق و المبادرة إلى إجابة الدعوة إلى الإيمان.

و هذا يحتمل عدة معان: أحدها: أن يكون المراد بالسبق السبق في الذر و عند الميثاق كما مر أنه سئل رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم بأي شي‏ء سبقت ولد آدم؟ قال: إنني أول من أقر بربي إن الله أخذ ميثاق النبيين و أشهدهم على أنفسهم أ لست بربكم قالوا بلى، فكنت أول من أجاب، و على هذا يكون المراد بأوائل هذه الأمة و أواخرها أوائلها و أواخرها في الإقرار و الإجابة هناك فالفضل للمتقدم في قوله بلى، و المبادرة إلى‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 264

ذلك، ثم المتقدم و المبادرة.

و المعنى الثاني أن يكون المراد بالسبق السبق في الشرف و الرتبة و العلم و الحكمة و زيادة العقل و البصيرة في الدين، و وفور سهام الإيمان الآتي ذكرها، و لا سيما اليقين كما يستفاد من الأخبار الآتية، و على هذا يكون المراد بأوائل هذه الأمة و أواخرها أوائلها و أواخرها في مراتب الشرف و العقل و العلم، فالفضل للأعقل و الأعلم و الأجمع للكمالات، و هذا المعنى يرجع إلى المعنى الأول لتلازمهما و وحدة ما لهما و اتحاد محصلهما، و الوجه في أن الفضل للسابق على هذين المعنيين ظاهر لا مرية فيه، و مما يدل على إرادة هذين المعنيين الذين مرجعهما إلى واحد،

قوله عليه السلام: و لو لم يكن سوابق يفضل بها المؤمنون إلى قوله: من قدم الله،

 (1) و لا سيما

قوله: أبي الله أن يدرك آخر درجات الإيمان أولها.

 (2) و من تأمل في تتمة الحديث أيضا حق التأمل يظهر له أنه المراد إنشاء الله تعالى.

و المعنى الثالث أن يكون المراد بالسبق الزماني في الدنيا عند دعوة النبي صلى الله عليه و آله و سلم إياهم إلى الإيمان، و على هذا يكون المراد بأوائل هذه الأمة و أواخرها في الإجابة للنبي صلى الله عليه و آله و سلم و قبول الإسلام و التسليم بالقلب و الانقياد للتكاليف الشرعية طوعا، و يعرف الحكم في سائر الأزمنة بالمقايسة.

و سبب فضل السابق على هذا المعنى أن السبق في الإجابة للحق دليل على زيادة البصيرة و العقل و الشرف التي هي الفضيلة و الكمال.

و المعنى الرابع أن يراد بالسبق السبق الزماني عند بلوغ الدعوة فيعم الأزمنة المتأخرة عن زمن النبي صلى الله عليه و آله و سلم.

و هذا المعنى يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون المراد بالأوائل و الأواخر ما ذكرناه أخيرا، و كذا السبب في الفضل، و الآخر: أن يكون المراد بالأوائل من‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 265

كان زمن النبي صلى الله عليه و آله و سلم، و بالأواخر من كان بعد ذلك، و يكون سبب فضل الأوائل صعوبة قبول الإسلام و ترك ما نشأوا عليه في تلك الزمن، و سهولته فيما بعد استقرار الأمر و ظهور الإسلام و انتشاره في البلاد، مع أن الأوائل سبب لاهتداء الأواخر إذ بهم و بنصرتهم استقر ما استقر و قوي ما قوي و بأن ما استبان و الله المستعان، انتهى.

قوله: أخبرني عما ندب الله،

 (1) لما دل كلامه عليه السلام سابقا على أنه تعالى طلب منهم الاستباق إلى الإيمان سأله الراوي عن الآيات الدالة عليه.

" سابِقُوا إِلى‏ مَغْفِرَةٍ"

 (2) كذا في سورة الحديد، و في سورة آل عمران:" وَ سارِعُوا إِلى‏ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ" و كان مقتضى الجمع بين الآيتين أن المراد بالمسارعة المسابقة، أي سارعوا مسابقين إلى سبب مغفرة من ربكم من الإيمان و الأعمال الصالحة

" وَ جَنَّةٍ"

 (3) أي إلى جنة

" عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ"

 (4) و في آل عمران" عَرْضُهَا السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ".

قال المحقق الأردبيلي قدس سره: كنى بالعرض عن مطلق المقدار و هو متعارف، و نقل على ذلك الإشعار في مجمع البيان، أو لأنه لما علم أن عرضه الذي هو أقل من الطول عرفا في غير المساوي علم أن طوله أيضا يكون إما أكثر أو مثله.

و قال القاضي: ذكر العرض للمبالغة في وصفها بالسعة على طريق التمثيل لأنه دون الطول، و عن ابن عباس كسبع سماوات و سبع أرضين لو وصل بعضها ببعض، و ظاهر الآية وجوب المسارعة أو رجحانها إلى الطاعة الموجبة للدخول في الجنة و أعظمها الإيمان بالله و كتبه و رسله و اليوم الآخر و الترقي إلى مقاماتها العالية.

" أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ"

 (5) ظاهر هذه الآية و غيرها من الآيات‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 266

و الروايات أن الجنة مخلوقة الآن و كذا النار و قال به الأصحاب، و صرح به الشيخ المفيد في بعض رسائله و قال: إن الجنة مخلوقة مسكونة سكنتها الملائكة و ظاهر الآية أنها في السماء، و الظاهر أن المراد به أنه يكون بعضها في المساء و يكون البعض الآخر فوقها، أو يكون أبوابها فيها أو فوق الكل، و ما ذكره الحكماء غير مسموع شرعا و هو ظاهر كما قيل أن النار تحت الأرض فتكون الآية دليلا على بطلان ما قالوه، انتهى.

و قال البيضاوي: فيه دلالة على أن الجنة مخلوقة و أنها خارجة عن هذا العالم، و ذهب جماعة من المعتزلة إلى أنهما غير مخلوقتين و أنهما تخلقان يوم القيامة.

" و قال: أي في الواقعة

" وَ السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ"

 (1) قال البيضاوي: أي الذين سبقوا إلى الإيمان و الطاعة بعد ظهور الحق من غير تلعثم و توان، أو سبقوا إلى حيازة الفضائل و الكمالات أو الأنبياء فإنهم مقدموا أهل الأديان هم الذين عرفت حالهم و عرفت ما لهم كقول أبي النجم:" و شعري شعري" أو الذين سبقوا إلى الجنة.

" أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ"

 (2)" فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ" أي الذين قربت درجاتهم في الجنة و أعليت مراتبهم.

" و قال"

 (3) أي في التوبة

" وَ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ"

 (4) في المجمع أي السابقون إلى الإيمان و إلى الطاعات، و إنما مدحهم بالسبق لأن السابق إلى الشي‏ء يتبعه غيره فيكون متبوعا و غيره تابع له، فهو إمام فيه وداع له إلى الخير بسبقه إليه، و كذلك من سبق إلى الشر يكون أسوأ حالا لهذه العلة

" مِنَ الْمُهاجِرِينَ"

 (5) الذين هاجروا من مكة إلى المدينة، و إلى الحبشة

" وَ الْأَنْصارِ"

 (6) أي و من الأنصار الذين سبقوا

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 267

نظراءهم من أهل المدينة إلى الإسلام، و قرأ يعقوب و الأنصار بالرفع فلم يجعلهم من السابقين، و جعل السبق للمهاجرين خاصة

" وَ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ"

 (1) أي بأفعال الخير و الدخول في الإسلام بعدهم و سلوك منهاجهم، و يدخل في ذلك من بعدهم إلى يوم القيامة

" رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ‏

 (2) وَ أَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ" قال: و في هذه الآية دلالة على فضل السابقين و مزيتهم على غيرهم لما لحقهم من أنواع المشقة في نصرة الدين، فمنها مفارقة العشائر و الأقربين و منها مباينة المألوف من الدين و منها نصرة الإسلام مع قلة العدد و كثرة العدو، و منها السبق إلى الإيمان و الدعاء إليه، انتهى.

و قال بعضهم: السابقون الأولون من المهاجرين هم الذين صلوا إلى القبلتين و شهدوا بدرا و أسلموا قبل الهجرة، و من الأنصار أهل بيعة العقبة الأولى، و كانوا سبعة نفر، و أهل بيعة العقبة الثانية و كانوا سبعين، و قال بعض المخالفين: كلمة" من" للتبيين فيتناول المدح جميع الصحابة.

قوله عليه السلام:" ثم ذكر"

 (3) كلمة ثم للتراخي بحسب المرتبة، إذ سورة البقرة نزلت قبل سورتي التوبة و الحديد

" فقال الله عز و جل"

 (4) أي في سورة البقرة

" تِلْكَ الرُّسُلُ"

 (5) قيل: إشارة إلى الجماعة المذكورة قصصها في السورة أو المعلومة للرسول أو جماعة الرسل و اللام للاستغراق.

" فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ"

 (6) بأن خصصناه بمنقبة ليست لغيره‏

" مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ"

 (7) تفصيل له و هو موسى، و قيل موسى و محمد صلى الله عليهما و آله، كلم موسى ليلة

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 268

الحيرة و في الطور، و محمدا ليلة المعراج، حين كان قاب قوسين أو أدنى و بينهما بون بعيد، و في المصاحف: و

رفع بعضهم درجات‏

 (1)، و ليس فيهما فوق بعض، فالزيادة إما من الرواة أو النساخ أو منه عليه السلام زاده للبيان و التفسير، و هذه الزيادة مذكورة في سورة الزخرف حيث قال:" نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ رَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ" فيحتمل أن يكون الزيادة للإشارة إلى الآيتين، قيل: و رفع بعضهم درجات بأن فضله على غيره من وجوه متعددة و بمراتب متباعدة و هو محمد صلى الله عليه و آله و سلم فإنه خص بالدعوة العامة و الحجج المتكاثرة و المعجزات المستمرة و الآيات المترتبة المتعاقبة بتعاقب الدهر و الفضائل العلمية و العملية الفائتة للحصر و الإبهام لتفخيم شأنه كأنه العلم المتعين لهذا الوصف، المستغني عن التعيين، و قيل: إبراهيم خصصه بالخلة التي هي أعلى المراتب، و قيل: إدريس لقوله تعالى:" وَ رَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا" و قيل:

أولوا العزم من الرسل، و بعد ذلك" وَ آتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَ أَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَ لكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَ مِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَ لكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ".

" و قال"

 (2) أي في سورة الأسرى:

" وَ لَقَدْ فَضَّلْنا" إلخ.

 (3) قال البيضاوي: أي بالفضائل النفسانية و التبري عن العلائق الجسمانية لا بكثرة الأموال و الأتباع حتى داود فإن شرفه بما أوحى إليه من الكتاب لا بما أوتي من الملك، و قيل: هو إشارة إلى تفضيل رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم لقوله:" آتَيْنا داوُدَ زَبُوراً" تنبيه على وجه تفضيله و هو أنه خاتم الأنبياء و أمته خير الأمم المدلول عليه بما كتب في الزبور من أن الأرض يرثها عبادي الصالحون.

" و قال"

 (4) أي في الأسرى أيضا قيل: هو عطف على ثم ذكر، لا على قوله: فقال،

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 269

لعدم اختصاص ما يذكر بعده بالأولياء بل هو في مطلق المؤمنين‏

" كيف فضلنا"

 (1) قيل:

أي في الرزق، و في المجمع بأن جعلنا بعضهم أغنياء و بعضهم فقراء و بعضهم عبيدا و بعضهم أصحاء و بعضهم مرضى على حسب ما علمناه من المصالح‏

" وَ لَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ"

 (2) أي درجاتها و مراتبها أعلى و أفضل، فينبغي أن يكون رغبتهم فيها و سعيهم لها أكثر.

" و قال"

 (3) أي في آل عمران‏

" هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ"

 (4) قيل: شبهوا بالدرجات لما بينهم من التفاوت في الثواب و العقاب، أو هم ذوو درجات فقال:" وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ".

" و قال"

 (5) أي في هود

" وَ يُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ"

 (6) أي في دينه‏

" فَضْلَهُ"

 (7) أي جزاء فضله في الدنيا و الآخرة، و يدل على عدم تفضيل المفضول.

" و قال"

 (8) أي في التوبة

" وَ هاجَرُوا"

 (9) أي إلى الرسول و فارقوا الأوطان و تركوا الأقارب و الجيران، و طلبوا مرضات الرحمن‏

" وَ جاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ"

 (10) بصرفها

" وَ أَنْفُسِهِمْ"

 (11) ببذلها

" أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ"

 (12) أي أعلى رتبة و أكثر كرامة، ممن لم يستجمع هذه الصفات أو من أهل السقاية و العمارة عندكم، إذ قبلها" أَ جَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَ عِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ جاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ".

" و قال"

 (13) أي في سورة النساء، و قبل الآية:" لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَ الْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَ كُلًّا

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 270

وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى‏ وَ

فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً"

 (1) قال البيضاوي:

نصب على المصدر لأن فضل بمعنى آجر، أو المفعول الثاني له لتضمنه معنى الإعطاء كأنه قال: و أعطاهم زيادة على القاعدين أجرا عظيما درجات منه و مغفرة و رحمة، كل واحد منها بدل من أجرا، و يجوز أن ينتصب درجات على المصدر كقولك ضربته أسواطا و أجرا على الحال عنها، تقدمت عليها لأنها نكرة

" وَ مَغْفِرَةً وَ رَحْمَةً"

 (2) على المصدر بإضمار فعلهما، و تتمة الآية" وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً".

" و قال" أي في سورة الحديد:

" لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ"

 (3) قال البيضاوي: بيان لتفاوت المنفقين باختلاف أحوالهم من السبق و قوة اليقين و تحري الحاجات حثا على تحري الأفضل منها بعد الحث على الإنفاق، و ذكر القتال للاستطراد، و قسم من أنفق محذوف لوضوحه و دلالة ما بعده عليه، و

الفتح‏

 (4) فتح مكة إذ أعز الإسلام به و كثر أهله و قلت الحاجة إلى المقاتلة و الإنفاق.

" مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَ قاتَلُوا"

 (5) أي من بعد الفتح، و التتمة" وَ كُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى‏ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ".

" و قال‏

 (6): أي في سورة المجادلة و الآية هكذا:" يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَ إِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ" و التفسح التوسع" وَ إِذا قِيلَ انْشُزُوا" أي أنهضوا للتوسعة أو لما أمرتم به كصلاة أو

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 271

جهاد أو ارتفعوا في المجلس‏

" يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ"

 (1) بالنصر و حسن الذكر في الدنيا و إيوائهم غرف الجنان في الآخرة

" وَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ"

 (2) و يرفع العلماء منهم خاصة

" دَرَجاتٍ"

 (3) بما جمعوا من العلم، و قد مر تفسيرهم بالأئمة عليهم السلام.

" و قال" أي في سورة التوبة حيث قال:" ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَ مَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، وَ لا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ" ذلك، قيل: إشارة إلى ما دل عليه قوله: ما كان، من النهي عن التخلف أو وجوب المتابعة لأنهم بسبب أنهم‏

" لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ"

 (4) أي شي‏ء من العطش‏

" وَ لا نَصَبٌ"

 (5) أي تعب‏

" وَ لا مَخْمَصَةٌ"

 (6) أي مجاعة

" فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ لا يَطَؤُنَ"

 (7) أي لا يدرسون‏

" مَوْطِئاً"

 (8) أي مكانا

" يَغِيظُ الْكُفَّارَ"

 (9) أي يغضبهم وطيه‏

" وَ لا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا"

 (10) كالقتل و الأسر و النهب‏

" إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ"

 (11) أي إلا استوجبوا الثواب و ذلك مما يوجب المسابقة" إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ".

" و قال"

 (12) أي في المزمل:

" وَ ما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ"

 (13) يمكن أن يكون عدم ذكر تتمة الكلام للاختصار، فإن التتمة" هُوَ خَيْراً وَ أَعْظَمَ أَجْراً" أي من الذي تؤخرونه إلى الوصية عند الموت، و خيرا ثاني مفعولي" تجدوه" و هو تأكيد أو فصل أو هو مبني على قراءة هو خير بالرفع كما قرأ في الشواذ، فالكلام إلى قوله:

عند الله، تمام و قوله: هو، مبتدأ و خير خبره و هي جملة أخرى مؤكدة للأولى.

" وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ"

 (14) الذرة هي النملة الصغيرة، أو الهباء المنبث في الجو

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 272

و بالجملة هذه الآيات كلها تدل على اختلاف مراتب المؤمنين في الثواب و الدرجات عند الله تعالى و المنازل في الجنة كما لا يخفى.

باب درجات الإيمان‏

 (1)

 (الحديث الأول)

 (2): مجهول بمعاد

و البر

 (3) الإحسان إلى نفسه و إلى غيره و يطلق غالبا على الإحسان بالوالدين و الأقربين و الإخوان من المؤمنين كما ورد من خالص الإيمان البر بالإخوان.

و الصدق‏

 (4) هو القول المطابق للواقع و يطلق أيضا على مطابقة العمل للقول و الاعتقاد، و على فعل القلب و الجوارح المطابقين للقوانين الشرعية و الموازين العقلية و منه الصديق و هو من حصل له ملكة الصدق في جميع هذه الأمور، و لا يصدر منه خلاف المطلوب عقلا و نقلا كما صرح به المحقق الطوسي (ره) في أوصاف الأشراف.

و اليقين‏

 (5) الاعتقاد الجازم المطابق للواقع، و في عرف الأخبار هو مرتبة من اليقين يصير سببا لظهور آثاره علي الجوارح و يطلق غالبا على ما يتعلق بأمور الآخرة، و بالقضاء و القدر كما ستعرف، و له مراتب أشير إليها في القرآن العزيز و هي علم اليقين و عين اليقين و حق اليقين كما قال تعالى:" لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ" و قال سبحانه:" وَ تَصْلِيَةُ جَحِيمٍ إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ".

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 273

و قالوا: الأول مرتبة أرباب الاستدلال كمن لم ير النار و استدل بالدخان، و الثاني مرتبة أصحاب المشاهدة و العيان كمن رأى النار بعينها بعينه، و الثالث مرتبة أرباب اليقين كمن كان في وسط النار و اتصف بصفاتها و إن لم يصر عينها كالحديدة المحماة في النار فإنك تظنها نارا و ليست بنار، و هذا هي التي زلت فيها الأقدام و ضلت العقول و الأحلام و ليس محل تحقيقها هذا المقام.

و الرضا

 (1) هو اطمئنان النفس بقضاء الله تعالى عند البلاء و الرخاء و عدم الاعتراض عليه سبحانه قولا و فعلا في شي‏ء من الأشياء.

و الوفاء

 (2) هو العمل بعهود الله تعالى من التكاليف الشرعية و ما عاهد الله تعالى عليه و ألزم على نفسه من الطاعات و الوفاء ببيعة النبي و الأئمة صلوات الله عليهم، و الوفاء بعهود الخلق ما لم تكن في معصية، و العلم هو معرفة الله و رسوله و حججه و ما أمر به و نهى عنه، و علم الشرائع و الأحكام و الحلال و الحرام، و الأخلاق و مقدماتها.

و الحلم‏

 (3) هو ملكة حاصلة للنفس مانعة لها عن المبادرة إلى الانتقام و طلب التسلط و الترفع و الغلبة.

" فهو كامل"

 (4) أي في الإيمان محتمل لشرائطه و أركانه، قابل لها كما ينبغي‏

" و لا تحملوا على صاحب السهم سهمين"

 (5) أي لما كانت القابليات و الاستعدادات متفاوتة و لم يكلف الله كل امرئ إلا على قدر قابليته فلا تحملوا في العلوم و الأعمال و الأخلاق على كل امرئ إلا بحسب طاقته و وسعه كما مر: إنما يداق الله العباد في الحساب على قدر ما أتاهم من العقول في الدنيا.

نعم للأعلى أن ينقل الأدنى إلى درجته بالتعليم و التدريج و الرفق حتى يصل إلى درجته إن كان قابلا لذلك كما سيأتي إن شاء الله، و على الأدنى أن يسعى و يتضرع‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 274

إلى الله تعالى لأن يوفقه للصعود إلى درجة العليا

" فتبهضوهم"

 (1) في بعض النسخ بالضاد و في بعضها بالظاء و هما معجمتان متقاربان معنى، قال في القاموس: بهضني الأمر كمنع و أبهضني أي فدحني و بالظاء أكثر، و قال: بهظه الأمر كمنع غلبه و ثقل عليه و بلغ به مشقة، و الراحلة أوقرها فأتعبها.

 (الحديث الثاني)

 (2): مجهول.

و الحيرة

 (3) بالكسر بلد كان قرب الكوفة، و

أنا

 (4) تأكيد للضمير المنصوب في بعثني، و تأكيد المنصوب و المجرور بالمرفوع جائز و

" جماعة"

 (5) عطف على الضمير أو الواو بمعنى مع‏

" معتمين"

 (6) الظاهر أنه بالعين المهملة على بناء الأفعال أو التفعيل، في القاموس: العتمة- محركة- ثلث الليل الأول بعد غيبوبة الشفق أو وقت صلاة العشاء الآخرة، و اعتم و عتم سار فيها أو أورد و أصدر فيها، و ظلمة الليل و رجوع الإبل من المرعى بعد ما تمسى، انتهى.

أي رجعنا داخلين في وقت العتمة، و في أكثر النسخ بالغين المعجمة من الغم و كأنه تصحيف، و ربما يقرأ مغتنمين من الغنيمة و هو تحريف، و

الحائر

 (7) المكان المطمئن‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 275

و البستان‏

" و أنا بحال"

 (1) أي بحال سوء من الضعف و الكلام‏

" أنهم لا يقولون ما نقول"

 (2) أي من مراتب فضائل الأئمة عليهم السلام و كمالاتهم و مراتب معرفة الله و دقائق مسائل القضاء و القدر و أمثال ذلك مما تختلف تكاليف العباد فيها بحسب إفهامهم و استعداداتهم لا في أصل المسائل الأصولية، أو المراد اختلافهم في المسائل الفروعية و الأول أظهر، و أما حمله على أدعية الصلاة و غيرها من المستحبات كما قيل فهو في غاية البعد و إن كان يوافقه التمثيل المذكور في آخر الخبر

" يتولونا و لا يقولون"

 (3) إلخ، استفهام على الإنكار.

" فهو ذا عندنا"

 (4) أي من المعارف و العلوم و الأخلاق و الأعمال‏

" ما ليس عندكم فينبغي لنا"

 (5) على الاستفهام‏

" أطرحنا"

 (6) أي عن الإيمان و الثواب أو عن درجة الاعتبار.

قوله: ما نفعل؟

 (7) لما فهم من كلامه عليه السلام نفي التبري تردد في أنه هل يلزمه التولي أو عدم ارتكاب شي‏ء من الأمرين فإن نفي أحدهما لا يستلزم ثبوت الآخر

" أن يحمل صاحب السهم على ما عليه صاحب السهمين"

 (8) أي يقاس حاله بحاله و يتوقع‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 276

منه ما يتوقع من الثاني من الفهم و المعرفة و العمل‏

" و زينه له"

 (1) أي حسن الإسلام في نظره‏

" فأتاه سحيرا"

 (2) هو تصغير السحر و هو سدس آخر الليل أو ساعة آخر الليل و قيل: قبيل الصبح، و التصغير لبيان أنه كان قريبا من الصبح أو بعيدا منه‏

" و مر بنا"

 (3) أي معنا

" و خرج معه"

 (4) أي إلى المسجد

" ما شاء الله"

 (5) أي كثيرا

" حتى أصبحا"

 (6) أي دخلا في الصباح، و المراد الإسفار و انتشار ضوء النهار و ظهور الحمرة في الأفق.

قال في المفردات: الصبح و الصباح أول النهار و هو وقت ما أحمر الأفق بحاجب الشمس.

قوله: و أقل من أوله،

 (7) أي مما انتظرت بعد الفجر لصلاة الظهر

" أدخله في شي‏ء"

 (8) أي من الإسلام صار سببا لخروجه من الإسلام رأسا أو المراد بالشي‏ء الكفر أي أدخله بجهله في الكفر الذي أخرجه منه‏

" أو قال أدخله في مثل هذا"

 (9) أي العمل الشديد

" و أخرجه من مثل هذا"

 (10) أي هذا الدين القويم.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 277

باب آخر منه‏

 (1) أي هذا باب آخر يمكن عده من الباب الأول و إنما جعله بابا آخر لأن الباب الأول كان مبنيا على قسمة الإيمان بسبعة أسهم، و أخبار هذا الباب مبنية على أكثر أو أقل أو عبر في أخبار الباب السابق بالسهام، و في أخبار هذا الباب بالأجزاء و الدرجات و المنازل، و على التقديرين لا تنافي بينهما لأنه لما كان تعدد درجات الإيمان و منازله متفاوتة تارة بحسب الأخلاق الحسنة كثرة و قلة و شدة و ضعفا، و تارة بحسب الاعتقادات الحقة قوة و ضعفا كلا و بعضا، و تارة بحسب الأعمال الصالحة كثرة و قلة، خالصة و مشوبة، و لا يدخل شي‏ء من ذلك تحت الحصر و العد يمكن اعتبار تقسيمها بوجوه مختلفة، بإدخال بعضها تحت بعض و عدمه، و قسمتها إلى الأجناس و إلى الأنواع و إلى الأصناف.

 (الحديث الأول)

 (2): مجهول.

" لم يلم أحد أحدا"

 (3) أي في عدم فهم الدقائق و القصور عن بعض المعارف أو في عدم اكتساب الفضائل و الأخلاق الحسنة، و ترك الإتيان بالنوافل و المستحبات و إلا فكيف يستقيم عدم الملامة علي ترك الفرائض و الواجبات و فعل الكبائر و المحرمات و قد مر أن الله تعالى لا يكلف الناس إلا بقدر وسعهم و ليسوا بمجبورين في فعل المعاصي و لا في ترك الواجبات لكن يمكن أن لا يكون في وسع بعضهم معرفة دقائق الأمور

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 278

و غوامض الأسرار فلم يكلفوا بها، و كذا عن تحصيل بعض مراتب الإخلاص و اليقين و غيرها من المكارم، فليسوا بملومين بتركها، فالتكاليف بالنسبة إلى العباد مختلفة بحسب اختلاف قابلياتهم و استعداداتهم، و لا يستحق من لم يكن قابلا لمرتبة من المراتب المذكورة أن يلام لم لا تفهم هذا المعنى و لم تفعل الصلاة كما كان أمير المؤمنين عليه السلام يفعله مثلا، و هكذا

قوله عليه السلام: بلغ بها

 (1)، كأنه جعل كل جزء من السهام السبعة المتقدمة سبعة.

قوله عليه السلام: فجعل الجزء عشرة أعشار

 (2)، كان هذا للتأكيد و التوضيح، و رفع توهم أن المراد جعل كل جزء عشرا من مرتبة فوقه، فيصير المجموع أربعمائة و تسعين عشرا

" حتى بلغ به"

 (3) الباء للتعدية و الضمير راجع إلى الإيمان، أو إلى الرجل المطلق المفهوم من رجل لا إلى الرجل المذكور و لا إلى آخر لاختلال المعنى و هذا أظهر

لقوله: حتى بلغ بأرفعهم إلا عشر جزء،

 (4) أي من القابلية أو قابلية عشر جزء من الإيمان و هكذا في البواقي.

 (الحديث الثاني)

 (5): ضعيف.

و القراطيسي‏

 (6) بايع القراطيس‏

" عشر درجات"

 (7) كأنه عليه السلام عد كل تسعة

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 279

و أربعين جزءا من السابق درجة، أو هذه الدرجات لبعض مراتب الإيمان لا لكلها، و قيل: يجوز أن يراد بالإيمان هنا التصديق أو الكامل المركب منه و من العمل‏

" ليصعد"

 (1) على بناء المجهول‏

" و منه"

 (2) نائب مناب الفاعل، و قيل" من" بمعنى في، و الضمير راجع إلى السلم، و

المرقاة

 (3) بالفتح و الكسر اسم مكان، أو آلة و هي الدرجة، و في المصباح المرقي و المرتقى موضع الرقي، و المرقاة مثله، و يجوز فيها فتح الميم على أنه موضع الارتقاء، و يجوز الكسر تشبيها باسم الآلة كالمطهرة، و أنكر أبو عبيد الكسر، انتهى" هو" منصوبة على الظرفية للمكان‏

" لست على شي‏ء"

 (4) أي من الإيمان أو الكمال‏

" فلا تسقط"

 (5) أي من الإيمان أو من درجة الاعتبار

" من هو دونك"

 (6) أي أسفل منك بدرجة أو أكثر فارفعه إليك.

فإن قلت: كيف يرفعه إليه مع أنه لا يطيقه كما مر في الخبر السابق؟ قلت: يمكن أن تكون الدرجات المذكورة في الخبر السابق درجات القابليات و الاستعدادات و لذا نسبها إلى أصل الخلق، و الدرجات المذكورة في هذا الخبر درجات الفعلية و التحقق فيمكن أن يكون رجلان في درجة واحدة من القابلية فسعى أحدهما و حصل ما كان قابلا له و الآخر لم يسع، و بقي في درجة أسفل منه فلو كلفه أن يفهم دفعة ما فهمه في أزمنة متطاولة يعسر الأمر عليه بل يصير سببا لضلالته و حيرته، بل ينبغي أن يرفق به و يكلمه تدريجا حتى يبلغ إلى تلك الدرجة، كما أن الكاتب الجيد الخط إذا كلف أميا لم يكتب قط أن يكتب مثله في يوم أو شهر أو سنة لكان تكليفا لما لا يطاق، بل يجب أن يرقيه تدريجا حتى يصل إلى مرتبته، و كذا في المراتب العقلية من‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 280

لم يحصل شيئا منها لا يمكن إفهامه دفعة جميع المسائل الغامضة، و لو ألقيت إليه لتحير، بل لم يطق فهمها و ضل عن السبيل و المعلم الأديب الكامل يرقيه أولا من البديهيات إلى أوائل النظريات و منها إلى أواسطها، و منها إلى غوامضها فلا ينكسر و لا يتحير.

و يمكن أن تحمل القدرة المذكورة في الخبر السابق على الوسع أي الإمكان بسهولة فلا ينافي المذكور في هذا الخبر و لكن الأول أظهر.

و ربما يجاب بأنه لما لم يكن معلوما لصاحب الدرجة العليا عدم قابلية صاحب الدرجة السفلى بل ربما يظن أنه قابل للترقي فهو مأمور بهذا رجاء لتحقق مظنونه و لا يخفى ما فيه‏

" فتكسره"

 (1) أي تكسر إيمانه و تضله لأنه يرفع يده عما هو فيه، و لا يصل إلى الدرجة الأخرى فيتحير في دينه أو يكلفه من الطاعات ما لا يطيقها فيسوء ظنه بما كان يعمله فيتركهما جميعا كما مر في الباب السابق.

" فعليه جبره"

 (2) أي يجب عليه جبره و ربما لا ينجبر و يلزمه إصلاح ما أفسد من إيمانه و ربما لم ينصلح.

 (الحديث الثالث)

 (3): ضعيف على المشهور و المراد

بالمنازل‏

 (4) الدرجات.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 281

قوله عليه السلام: و على هذه الدرجات،

 (1) كان المعنى و على هذا القياس الدرجات التي تنقسم هذه المنازل إليها فإن كلا منها ينقسم إلى سبعين درجة كما مر في الخبر الأول، و قيل: أي بقية الدرجات إلى العشر المذكور في الخبر الثاني، أو المراد بالدرجات المنازل أي على هذا الوجه الذي ذكرنا تنقسم الدرجات فيكون تأكيدا و الأول أظهر.

 (الحديث الرابع)

 (2): كالسابق.

" أنفذ بصرا"

 (3) أي بصيرة كما في بعض النسخ يعني فهما و فطانة

" و هي الدرجات"

 (4) أي درجات الإيمان فكل منهم على درجة منه فلا تبرءوا منهم و لا تخرجوهم عن الإيمان، أو هي الدرجات التي ذكرها الله في قوله:" هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ" و غيره.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 282

باب نسبة الإسلام‏

 (1)

 (الحديث الأول)

 (2): مرفوع.

" لأنسبن الإسلام نسبة"

 (3) يقال نسبت الرجل كنصرت، و قيل: و كضربت أي ذكرت نسبته، و المراد بيان الإسلام و الكشف التام عن معناه قيل: لما كان نسبة شي‏ء إلى شي‏ء يوضح أمره و حاله و ما يؤول هو إليه أطلق هنا على الإيضاح من باب ذكر الملزوم و إرادة اللازم.

و أقول: كان المراد بالإسلام هنا المعنى الإخلاص منه المرادف للإيمان كما يومئ إليه قوله: إن المؤمن لم يأخذ دينه عن رأيه، و قوله: إن المؤمن يرى يقينه في عمله، و حاصل الخبر

أن الإسلام هو التسليم‏

 (4) و الانقياد، و الانقياد التام لا يكون إلا باليقين، و

اليقين‏

 (5) هو التصديق الجازم و الإذعان الكامل بالأصول الخمسة أو تصديق الله و رسوله و الأئمة الهداة، و التصديق لا يظهر أو لا يفيد إلا بالإقرار الظاهري، و

الإقرار

 (6) التام لا يكون أو لا يظهر إلا بالعمل بالجوارح فإن الأعمال شهود الإيمان كما مر، و

العمل‏

 (7) الذي هو شاهد الإيمان هو أداء ما كلف الله تعالى به لا اختراع الأعمال و إبداعها كما تفعله المبتدعة.

و الأداء

 (8) اسم المصدر الذي هو التأدية و يحتمل أن يكون المراد بالأداء تأديته‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 283

و إيصاله إلى غيره، فيدل على أن التعليم ينبغي أن يكون بعد العمل و أنه من لوازم الإيمان، فظهر أن الحمل في بعضها حقيقي و في بعضها مجازي.

و قيل: أشار عليه السلام إلى أن الإسلام و هو دين الله الذي أشار إليه جل شأنه بقوله:" إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ" يتوقف حصوله على ستة أمور، و العبارة لا تخلو من لطف و هو أنه جعل التصديق الذي هو الإيمان الخالص الحقيقي بين ثلاثة و ثلاثة، و اشتراك الثلاثة التي قبله في أنها من مقتضياته و أسباب حصوله، و اشتراك الثلاثة التي بعده في أنها من لوازمه و آثاره و ثمراته، و بالجملة جعل التصديق الذي هو الإيمان وسطا و جعل أول مراتبه الإسلام ثم التسليم ثم اليقين، و جعل أول مراتبه من جهة المسببات الإقرار بما يجب الإقرار به، ثم العمل بالجوارح، ثم أداء ما افترض الله به، انتهى.

" إن المؤمن لم يأخذ دينه عن رأيه"

 (1) كأنه بيان لما بين سابقا و قرره من أن الإسلام لا يكون إلا بالتسليم لأئمة الهدى و الانقياد لهم فيما أمروا به و نهوا عنه و أنه لا يكون ذلك إلا بتصديق النبي و الأئمة عليهم السلام و الإقرار بما صدر عنهم و أداء الأعمال على نهج ما بينوه لأن الإيمان ليس أمرا يمكن اختراعه بالرأي و النظر، بل لا بد من الأخذ عمن يؤدى عن الله.

" فالمؤمن يرى"

 (2) على بناء المجهول أو المعلوم من باب الأفعال‏

" يقينه"

 (3) بالرفع أو بالنصب‏

" في عمله"

 (4) بأن يكون موافقا لما صدر عنهم و لم يكن مأخوذا من الآراء و المقاييس الباطلة، و الكافر بعكس ذلك‏

" ما عرفوا"

 (5) أي المخالفون أو المنافقون‏

" أمرهم"

 (6) أي أمور دينهم فروعا و أصولا فضلوا و أضلوا لعدم اتباعهم أئمة

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 284

الهدى و أخذهم العلم منهم‏

" فاعتبروا إنكار الكافرين و المنافقين بأعمالهم الخبيثة"

 (1) المخالفة لمحكمات الكتاب و السنة المبتنية على آرائهم الفاسدة، و المخالفون داخلون في الأول أو في الثاني بل فيهما حقيقة.

و أقول: روى السيد الرضي رضي الله عنه في نهج البلاغة جزءا من هذا الخبر هكذا، و قال عليه السلام: لأنسبن الإسلام نسبة لم ينسبها أحد قبلي، الإسلام هو التسليم، و التسليم هو اليقين، و اليقين هو التصديق، و التصديق هو الإقرار، و الإقرار هو الأداء و الأداء هو العمل.

و قال ابن أبي الحديد: خلاصة هذا الفصل يقتضي صحة مذهب أصحابنا المعتزلة في أن الإسلام و الإيمان عبارتان عن معنى واحد، و أن العمل داخل في مفهوم هذه اللفظة، أ لا ترى جعل كل واحدة من اللفظات قائمة مقام الأخرى في إفادة المفهوم، كما يقال: الليث هو الأسد و الأسد هو السبع، و السبع هو أبو الحارث فلا شبهة أن الليث يكون أبا الحارث أي أن الأسماء مترادفة، فإذا كان أول.

اللفظات الإسلام، و آخرها العمل دل على أن العمل هو الإسلام، و هكذا يقول أصحابنا أن تارك العمل أي تارك الواجب لا يسمى مسلما، فإن قلت: كيف يدل على أن الإسلام هو الإيمان؟ قلت: لأن كل من قال أن العمل داخل في مسمى الإسلام قال إن الإسلام هو الإيمان، فإن قلت: لم يقل عليه السلام كما تقوله المعتزلة لأنهم يقولون الإسلام اسم واقع على العمل و غيره من الاعتقاد و النطق باللسان و هو عليه السلام جعل الإسلام هو العمل؟ قلت: لا يجوز أن يريد غيره لأن لفظ العمل يشمل الاعتقاد و النطق باللسان و حركات الأركان بالعبادات إذ كل ذلك عمل و فعل و إن كان بعضه من أفعال القلوب و بعضه من أفعال الجوارح، و القول بأن الإسلام هو العمل بالأركان خاصة لم يقل به أحد، انتهى.

و قال ابن ميثم: هذا قياس مفصول مركب من قياسات طويت نتائجها و ينتج‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 285

القياس الأول أن الإسلام هو اليقين، و الثاني أنه التصديق، و الثالث أنه الإقرار، و الرابع أنه الأداء، و الخامس أنه العمل.

أما المقدمة الأولى فلأن الإسلام هو الدخول في الطاعة و يلزمه التسليم لله و صدق اللازم على ملزومه ظاهر، و أما الثانية فلان التسليم الحق إنما يكون ممن تيقن استحقاق المطاع للتسليم له فاليقين من لوازم التسليم لله، و أما الثالثة فلأن اليقين بذلك مستلزم للتصديق بما جاء به على لسان رسوله من وجوب طاعته، فصدق على اليقين به أنه تصديق له، و أما الرابعة فلان التصديق لله في وجوب طاعته إقرار بصدق الله، و أما الخامسة فلأن الإقرار و الاعتراف بوجوب أمر يستلزم أداء المقر المعترف لما أقر به، و كان إقراره أداء لازما، و السادسة أن أداء ما اعترف به لله من الطاعة الواجبة لا يكون إلا عملا، و يؤول حاصل هذا الترتيب إلى إنتاج أن الإسلام هو العمل لله بمقتضى أو أمره، و هو تفسير الخاصة كما سبق بيانه، انتهى.

و كان ما ذكرنا أنسب و أوفق. و قال الكيدري (ره): الإسلام هو التسليم يعني الدين هو الانقياد للحق و الإذعان له، و التسليم هو اليقين أي صادر عنه و لازم له فكأنه هو من فرط تعلقه به، و التصديق هو الإقرار أي إقرار الذهن و حكمه، و الإقرار هو الأداء أي مستلزم للأداء و شديد الشبه بالعلة له، لأن من تيقن حقية الشي‏ء و أن مصالحة منوط بفعله و مفاسده مترتبة على تركه، كان ذلك داعيا مقويا لداعيه على فعله غاية التقوية، يعني من حق المسلم الكامل في إسلامه أن يجمع بين علم اليقين و العمل الخالص ليحط رحله في المحل الأرفع، و يجاور الرفيق الأعلى.

و قال الشهيد الثاني رفع الله درجته في رسالة حقائق الإيمان بعد إيراد هذا الكلام من أمير المؤمنين عليه السلام ما هذا لفظه: البحث عن هذا الكلام يتعلق بأمرين:

الأول: ما المراد من هذه النسبة؟ الثاني: ما المراد من هذا المنسوب.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 286

أما الأول فقد ذكر بعض الشارحين أن هذه النسبة بالتعريف أشبه منها بالقياس فعرف الإسلام بأنه التسليم لله و الدخول في طاعته، و هو تفسير لفظ بلفظ أعرف منه، و التسليم بأنه اليقين و هو تعريف بلازم مساو إذا لتسليم الحق إنما يكون ممن تيقن صدق من سلم له و استحقاقه التسليم و اليقين بأنه التصديق أي التصديق الجازم المطابق البرهاني، فذكر جنسه و نبه بذلك على حده أو رسمه، و التصديق بأنه الإقرار بالله و رسله و ما جاء من البينات و هو تعريف بخاصة له، و الأداء بأنه العمل و هو تعريف له ببعض خواصه، انتهى.

أقول: هذا بناء على أن المراد من الإسلام المعرف في كلامه عليه السلام ما هو الإسلام حقيقة عند الله تعالى في نفس الأمر، أو الإسلام الكامل عند الله تعالى أيضا، و إلا فلا يخفى أن الإسلام يكفي في تحققه في ظاهر الشرع الإقرار بالشهادتين، سواء علم من المقر التصديق بالله تعالى و الدخول في طاعته أم لا، كما صرحوا به في تعريف الإسلام في كتب الفروع و غيرها، فعلم أن الحكم بكون تعريف الإسلام بالتسليم لله" إلخ" تعريفا لفظيا إنما يتم على المعنى الأول و هو الإسلام في نفس الأمر أو الكامل، و يمكن أن يقال أن التعريف حقيقي و ذلك لأن الإسلام لغة هو مطلق الانقياد و التسليم، فإذا قيد التسليم بكونه لله تعالى و الدخول في طاعته كان بيانا للماهية التي اعتبرها الشارع إسلاما، فهو من قبيل ما ذكر جنسه و نبه على حده أو رسمه.

و أقول أيضا: في جعله الإقرار بالله تعالى" إلخ" تعريف لفظ بلفظ أعرف للتصديق بحث لا يخفى، لأن المراد من التصديق المذكور هنا القلبي لا اللساني حيث فسره بأنه الجازم المطابق" إلخ" و الإقرار المراد منه الاعتراف باللسان إذ هو المتبادر منه، و لذا جعله بعضهم قسيما للتصديق في تعريف الإيمان حيث قال: هو

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 287

التصديق مع الإقرار و حينئذ فيكون بين معنى اللفظين غاية المباينة، فكيف يكون تعريف لفظ بلفظ، اللهم إلا أن يراد من الإقرار بالله و رسله مطلق الانقياد و التسليم بالقلب و اللسان على طريق عموم المجاز، و لا يخفى ما فيه.

و الذي يظهر لي أنه تعريف بلازم عرفي و ذلك لأن من أذعن بالله و رسله و بيناتهم لا يكاد ينفك عن إظهار ذلك بلسانه فإن الطبيعة جبلت على إظهار مضمرات القلوب كما دل عليه قوله عليه السلام: ما أضمر أحدكم شيئا إلا و أظهره الله على صفحات وجهه و فلتأت لسانه، و لما كان هذا الإقرار هنا مطلوبا للشارع مع كونه في حكم ما هو من مقتضيات الطبيعة، نبه عليه السلام على أن التصديق هو الإقرار مع تأكيد طلبه حتى كان التصديق غير مقبول إلا به أو غير معلوم للناس إلا به.

و كذا أقول في جعله الأداء خاصة للإقرار فإن خاصة الشي‏ء لا ينفك عنه، و الأداء قد ينفك عن الإقرار فإن المراد من الأداء هنا عمل الطاعات و الإقرار لا يستلزمه.

و يمكن الجواب بأنه عليه السلام أراد من الإقرار الكامل فكأنه لا يصير كاملا حتى يردفه بالأداء الذي هو العمل، و أما الثاني فقد علم من هذه النسبة الشارحة المنسوب أي المشروح هو الإسلام الكامل أو ما هو إسلام عند الله تعالى، بحيث لا يتحقق بدون الإسلام في الظاهر، و علم أيضا أن هذا الإسلام هو الإيمان، إما الكامل أو ما لا يتحقق حقيقة المطلوبة للشارع في نفس الأمر إلا به، لكن الثاني لا ينطبق إلا على مذهب من قال بأن حقيقة الإيمان هو تصديق بالجنان و إقرار باللسان و عمل بالأركان، و قد عرفت تزييف ذلك فيما تقدم و أن الحق عدم اعتبار جميع ذلك في أصل حقيقة الإيمان، نعم هو معتبر في كماله.

و على هذا فالمنسوب إن كان هو الإسلام الكامل كان الإيمان و الإسلام الكاملان واحدا و أما الأصليان فالظاهر اتحادهما أيضا، مع احتمال التفاوت بينهما، و إن كان‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 288

هذا المنسوب ما اعتبره الشارع في نفس الأمر إسلاما لا غيره لزم كون الأيمان أعم من الإسلام، و لزم ما تقدم من الاستهجان فيحصل من ذلك أن الإسلام إما مساو للإيمان أو أخص، و أما عمومه فلم يظهر له من ذلك احتمال إلا على وجه بعيد، فليتأمل.

 (الحديث الثاني)

 (1): ضعيف بسنديه.

" الإسلام عريان"

 (2) شبه عليه السلام الإسلام برجل، و

الحياء بلباسه‏

 (3)، فكما أن اللباس يستر العورات و القبائح الظاهرة، فكذلك الحياء يستر القبائح و المساوي الباطنة، و لا يبعد أن يكون المراد بالإسلام المسلم من حيث أنه مسلم أو يكون إسناد العري و اللباس إليه على المجاز، أي لباس صاحبه، و كذا الفقرات الآتية تحتملها فتفطن.

" و زينته الوفاء"

 (4) أي بعهود الله و رسوله و حججه و عهود الخلق و عودهم، و قيل إيفاء كل ذي حق حقه وافيا،

" و مروءته العمل الصالح"

 (5) المروءة بالضم مهموزا و قد يخفف الهمزة فليشد الواو الإنسانية، أي العمل بمقتضاها، قال في القاموس:

مرؤ ككرم مروءة فهو مري‏ء أي ذو مروءة و إنسانية، و في المصباح المروءة آداب نفسانية تحمل مراعاتها الإنسان على الوقوف عند محاسن الأخلاق و جميل العادات يقال: مرؤ الإنسان فهو مري‏ء مثل قرب فهو قريب، أي صار ذا مروءة، و قال الجوهري:

و قد يشدد فيقال: مروة، انتهى.

و الحاصل أن العمل الصالح من لوازم الإسلام و مما يجعل الإسلام حقيقا بأن يسمى إسلاما كما أن المروة من لوازم الإنسان و مما يصير به الإنسان حقيقا بأن يسمى إنسانا أو المسلم من حيث أنه مسلم مروته العمل الصالح فلا يسمى مرأى حقيقة أو مسلما إلا به.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 289

" و عماده الورع"

 (1) العماد بالكسر ما يسند به و عماد الخيمة و السقف ما يقام به و الحاصل أن ثبات الإسلام و بقاؤه و استقراره بالورع أي ترك المحرمات بل الشبهات أيضا كما أن بالمعاصي يتزلزل بل يزول، و الأس بالضم و

الأساس‏

 (2) بالفتح: أصل البناء و أصل كل شي‏ء، و الأساس بالكسر جمع أس، و الحاصل أنه كما يستقر البناء و لا يستقيم بغير أساس فكذا الإسلام لا يتحقق و لا يستقر إلا بحبهم الملزوم للقول بولايتهم و إمامتهم، فإن من أنكر حقهم فهو أعدى عدوهم.

و قوله صلى الله عليه و آله و سلم: حبنا

 (3) أي حبي و حب أهل بيتي، و يحتمل كون الفقرة الأخيرة كلام الصادق عليه السلام، لكنه بعيد.

 (الحديث الثالث)

 (4): حسن كالصحيح بل صحيح عندي، فإن عبد العظيم رضي الله عنه أجل من أن يحتاج إلى توثيق.

" فجعل له عرصة"

 (5) العرصة كل بقعة بين الدور واسعة ليس فيها بناء، و الظاهر أنه عليه السلام شبه الإسلام برجل لا بدار كما زعم، و شبه القرآن بعرصة يجول الإسلام فيه، و شبه الحكمة و العلوم الحقة بسراج و نور يستنير به الإسلام أو يبصر به صاحبه فإن بالعلم يظهر حقائق الإسلام و أوامره و نواهيه و أحكامه.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 290

" و أما حصنه فالمعروف"

 (1) أي الإحسان أو ما عرف بالعقل و الشرع حسنه، كما هو المراد في الأمر بالمعروف، فإنه بكل من المعنيين يكون سببا لحفظ الإسلام و بقائه و عدم تطرق شياطين الإنس و الجن للخلل فيه، أو المراد به الأمر بالمعروف فالتشبيه أظهر، و أما كونهم عليهم السلام و شيعتهم أنصار الإسلام فهو ظاهر و غيرهم يخربون الإسلام و يضيعونه.

" فنسبني"

 (2) أي ذكر نسبي أو وصفني و ذكر نبوتي و مناقبي، و أما ذكر نسبه لأهل الأرض فبالآيات التي أنزلها فيه و في أهل بيته و يقرأها الناس إلى يوم القيامة أو ذكر فضله و نادى به بحيث سمع من في أصلاب الرجال و أرحام النساء كنداء إبراهيم عليه السلام بالحج، و قيل: لما وجبت الصلوات الخمس في المعراج، فلما هبط عليه السلام علمها الناس و كان من أفعالها و الصلاة على محمد و آله في التشهد فدلهم بذلك على أنهم أفضل الخلق لأنه لو كان غيرهم أفضل لكانت الصلاة عليه أوجب، و الأول أظهر.

" ثم لقي الله"

 (3) أي عند الموت أو في القيامة، و

تفريج الصدر

 (4) كناية عن إظهار ما كان كامنا فيه على الناس في القيامة أو عن علمه تعالى به، و الأول أظهر.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 291

باب‏

 (1) لما كانت أخبار هذا الباب متقاربة المضمون مع الباب السابق لم يعنونه، و الفرق بينهما أن المذكور في الباب السابق نسبة الإسلام، و في هذا الباب نسبة الإيمان.

 (الحديث الأول)

 (2): مجهول لكن سيأتي هذا الخبر بعينه في باب المؤمن و علاماته و صفاته عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن محبوب عن جميل بن صالح عن عبد الله ابن غالب و هو أظهر، لأن عبد الملك غير مذكور في كتب الرجال، و عبد الله بن غالب الأسدي الشاعر ثقة معروف، فالخبر صحيح هيهنا و فيما سيأتي حسن كالصحيح.

و الوقور

 (3) فعول من الوقار بالفتح و هو الحلم و الرزانة، و الهز التحريك،

و الهزاهز

 (4) الفتن التي يفتتن الناس بها، أي لا يعرض له شك عند الفتن التي تصير سببا لشك الناس و كفرهم.

" صبور عند البلاء"

 (5) البلاء اسم ما يمتحن به من خير أو شر، و كثر استعماله في الشر و هو المراد هنا، و الصبر حبس النفس على الأمور الشاقة عليها، و ترك الاعتراض على المقدر لها و عدم الشكاية و الجزع، و هو من أعظم خصال الإيمان‏

" شكورا عند الرخاء"

 (6) الرخاء النعمة و الخصب و سعة العيش، و الشكر الاعتراف‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 292

بالنعمة ظاهرا و باطنا، و معرفة المنعم و صرفها فيما أمر به، و الشكر مبالغة فيه‏

" قانعا بما رزقه الله"

 (1) أي لا يبعثه الحرص على طلب الحرام و الشبهة، و تضييع العمر في جمع ما لا يحتاج إليه‏

" لا يظلم الأعداء"

 (2) الغرض نفي الظلم مطلقا، و إنما خص الأعداء بالذكر لأنهم مورد الظلم غالبا، و لأنه يستلزم ترك ظلم غيرهم بالطريق الأولى.

" و لا يتحامل للأصدقاء"

 (3) في القاموس: تحامل في الأمر و به تكلفه على مشقة و عليه كلفه ما لا يطيق، فالكلام يحتمل وجوها:

الأول: أنه لا يظلم الناس لأجل الأصدقاء.

الثاني: أنه لا يتحمل الوزر لأجلهم كان يشهد لهم بالزور أو يكتم الشهادة لرعايتهم أو يسعى لهم في حرام.

الثالث: أن يراد به أنه لا يحمل على نفسه للأصدقاء ما لا يمكنه الخروج عنه.

" بدنه منه في تعب"

 (4) لاشتغاله و إعراضه عن الرسوم و العادات، و سعيه في إعانة المؤمنين‏

" و الناس منه في راحة"

 (5) لعدم تعرضه و إعانته إياهم‏

" إن العلم خليل المؤمن"

 (6) الخلقة الصداقة و المحبة التي تخللت القلب، فصارت خلاله أي في باطنه، و الخليل الصديق، فعيل بمعنى فاعل، و إنما كان العلم خليل المؤمن لأنه لا ينتفع بخليل انتفاعه بالعلم في الدنيا و الآخرة.

" و الحلم وزيره"

 (7) فإنه يعاونه في أمور دنياه و آخرته، كمعاونة الوزير الناصح الملك‏

" و العقل أمير جنوده"

 (8) إذ جنوده في دفع وساوس الشياطين و صولاتهم الأعمال الصالحة، و الأخلاق الحسنة، و كلها تابعة للعقل كما مر بيانه في باب جنود العقل‏

" و الرفق أخوه"

 (9) أي اللين و اللطف و المداراة مع الصديق و العدو، و تمشية الأمور

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 293

بتدبير و تأمل بمنزلة الأخ له في أنه يصاحبه و لا يفارقه، أو في إعانته و إيصال النفع إليه‏

" و البر"

 (1) أي الإحسان إلى الوالدين أو إلى جميع من يستحق البر

" والده"

 (2) أي بمنزلة والده في رعايته و اختياره على جميع الأمور أو في الانتفاع منه، و كونه سببا لحياته المعنوية.

 (الحديث الثاني)

 (3): ضعيف على المشهور.

" له أركان أربعة"

 (4) إنما جعلها بمنزلة الأركان لعدم استقرار الإيمان و ثباته إلا بها

" التوكل على الله"

 (5) أي الاعتماد عليه في جميع الأمور و المهمات، و قطع النظر عن الأسباب الظاهرة و إن كان يجب التوسل بها ظاهرا، لكن من كمل يقينه بالله و أنه القادر على كل شي‏ء و أنه المسبب للأسباب لا يعتمد عليها بل على مسببها

" و تفويض الأمر إلى الله"

 (6) أي في دفع الأعادي الظاهرة و الباطنة، كما فوض مؤمن آل فرعون أمره إلى الله فوقاه الله سيئات ما مكروا.

و لا ريب أن هذا و ما قبله متفرعان على قوة الإيمان بالله، و يصيران سببا لشدة اليقين أيضا

" و الرضا بقضاء الله"

 (7) في الشدة و الرخاء و العافية و البلاء، و هذا أيضا يحصل من الإيمان بكونه سبحانه مالكا لنفع العباد و ضرهم، و لا يفعل بهم إلا ما هو الأصلح لهم و يصير أيضا سببا لكمال اليقين.

" و التسليم لأمر الله"

 (8) أي الانقياد له في كل ما أمر به و نهى عنه و لنبيه و أوصيائه فيما صدر عنهم من الأقوال و الأفعال كما قال سبحانه:" فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 294

وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً" و مدخلية هذه الخصلة في الإيمان و كما له أظهر من أن يحتاج إلى البيان و الله المستعان.

 (الحديث الثالث)

 (1): ضعيف و قد مضى بهذا السند بتغيير يسير في باب معرفة الإمام و الرد إليه من كتاب الحجة و شرحناه هناك و نوضح هنا بعض التوضيح.

" حتى تعرفوا"

 (2) قيل: أي إمام الزمان‏

" حتى تصدقوا"

 (3) أي الإمام، و تعده صادقا فيما يقول‏

" حتى تسلموا أبوابا أربعة"

 (4) قد مضى الكلام في الأبواب مفصلا.

و قال المحدث الأسترآبادي (ره): إشارة إلى الإقرار بالله و الإقرار برسوله و الإقرار بما جاء به الرسول صلى الله عليه و آله و سلم و الإقرار بتراجمة ما جاء به الرسول صلى الله عليه و آله و سلم،

و التيه‏

 (5): التحير و الذهاب عن الطريق المقصد، يقال: تاه في الأرض إذا ذهب متحيرا كما في القاموس.

" إن الله أخبر العباد"

 (6) تفصيل لما أجمل عليه السلام سابقا، و بيان للأبواب و الشروط و العهود المذكورة، و

المنار

 (7) جمع منارة على غير قياس، يعني موضع النور و محله، و قيل: كنى بالمنار عن الأئمة فإنها صيغة جمع على ما صرح به ابن الأثير في نهايته، و بتقوى الله فيما أمره عن الاهتداء إلى الإمام و الاقتداء به و بإتيان أبوابها عن الدخول في المعرفة من جهة الإمام عليه السلام، انتهى.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 295

" و استكمل وعده"

 (1) أي استحق وعده كاملا كما قال تعالى:" أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ".

" مات قوم" فيما مضى:

فات قوم‏

 (2)، و هو أظهر أي فأتوا عنا و لم يبايعونا أو ماتوا، فالثاني تأكيد

" من أتى البيوت"

 (3) أي بيوت الإيمان و العلم و الحكمة

" من أبوابها"

 (4) و هم الأئمة عليه السلام، إشارة إلى تأويل قوله تعالى:" وَ أْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها" وصل الله إشارة إلى قوله تعالى:" أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ" و قوله:" أَطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ" و قوله:" مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ".

" خُذُوا زِينَتَكُمْ"

 (5) إما بيان لما نزل أو استيناف، و أول عليه السلام الزينة بمعرفة الإمام، و

المسجد

 (6) بمطلق العبادة، و

البيوت‏

 (7) ببيوت أهل العصمة سلام الله عليهم، و

الرجال‏

 (8) بهم عليهم السلام، و المراد

بعدم إلهائهم التجارة و البيع عن ذكر الله‏

 (9) أنهم يجمعون بين ذين‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 296

و ذا، لا أنهم يتركونهما رأسا كما ورد النص عليه و في خبر آخر.

قوله عليه السلام: ثم استخلصهم‏

 (1) الضمير راجع إلى ولاة الأمر، و ذلك إشارة إلى الأمر، أي استخلص و اصطفى الأوصياء حال كونهم مصدقين لأمر الرسالة في النذر و هم الرسل فقوله: في نذره متعلق بقوله: مصدقين، و يحتمل أن يكون في نذره أيضا حالا أي حالكونهم مندرجين في النذر، و يمكن أن يكون ضمير استخلصهم راجعا إلى الرسل أي ثم بعد إرسال الرسل استخلصهم و أمرهم بأن يصدقوا أمر الخلافة في النذر بعدهم و هم الأوصياء عليهم السلام، و قيل: ثم للتراخي في الرتبة دون الزمان، يعني وقع ذلك الاستخلاص لهم حالكونهم مصدقين لذلك الاستخلاص في سائر نذره أيضا بمعنى تصديق كل منهم لذلك في الباقين.

و استشهد على استمرارهم في الإنذار بقوله تعالى:

" وَ إِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ"

 (2) ثم بين وجوب النذير و وجوب معرفته بتوقف الاهتداء على الإبصار، و توقف الإبصار على الإنذار، و توقف الإنذار على وجود النذير و معرفته، و أشار

بآثار الهدى‏

 (3) إلى الأئمة عليهم السلام، و في بعض النسخ ابتغوا آثار الهدى بتقديم الموحدة

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 297

على المثناة و الغين المعجمة.

و نبه‏

بقوله: لو أنكر رجل عيسى عليه السلام‏

 (1)، على وجوب الإيمان بهم جميعا من غير تخلف عن أحد منهم، ثم كرر الوصية بالاقتداء بهم معللا بأنهم منار طريق الله و أمر بالتماس آثارهم إن لم يتيسر الوصول إليهم.

 (الحديث الرابع)

 (2): صحيح.

" رفع إلى رسول الله"

 (3) كمنع على البناء المعلوم أي أسرعوا إليه أو على بناء المجهول أي ظهروا، فإن الرفع ملزوم للظهور، و قال في المصباح: رفعته أذعته، و منه رفعت على العامل رفيعة، و رفع البعير في سيره أسرع، و رفعته أسرعت به يتعدى و لا يتعدى، انتهى.

و قال الكرماني في شرح البخاري: فيه فرفعت لنا صخرة، أي ظهرت لأبصارنا، و فيه: فرفع لي البيت المعمور، أي قرب و كشف، انتهى.

و يمكن أن يقرأ بالدال، و لكن قد عرفت أنه لا حاجة إليه، قال في المصباح:

دفعت إلى كذا بالبناء للمفعول: انتهيت إليه.

" من القوم"

 (4) أي من أي صنف من الناس أنتم؟

" فقالوا مؤمنون"

 (5) أي نحن مؤمنون‏

" و ما بلغ من إيمانكم"

 (6)؟ من تبعيضية أي بأي حد بلغ، أو زائدة أو سببية أي ما بلغكم و وصل إليكم بسبب أيمانكم، أو البلوغ بمعنى الكمال و من للتبعيض أي ما كمل من صفات إيمانكم‏

" حلماء"

 (7) أي هم حلماء من الحلم بالكسر بمعنى العقل،

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 298

أو عدم المبادرة عند الغضب‏

" ما لا تسكنون"

 (1) أي ما يزيد على ما اضطررتم إليه من المسكن، و كذا

" لا تجمعوا"

 (2) ما لم تدعكم الضرورة للأكل إليه و يمكن تعميم الأكل بحيث يشمل سائر ما يحتاجون إليه كقوله تعالى:" وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ" أو خصهما بالذكر لأنهما عمدة مطالب الراغبين في الدنيا.

" وَ اتَّقُوا اللَّهَ" إلخ‏

 (3)، لما كانت تلك الصفات يقتضي الزهد في الدنيا و التقوى حثهم في تلك الفقرات عليهما.

باب‏

 (4) إنما لم يعنون لأنه من تتمة البابين السابقين، و إنما أفرده لأن فيه نسبة الإيمان و الإسلام معا أو لأن فيه مدح الإسلام و فضله لا صفاته.

 (الحديث الأول)

 (5): صحيح بل ثلاثة أحاديث حسن و صحيحان، بل ادعي استفاضته بل تواتره لقوله بأسانيد مختلفة عن الأصبغ.

و قوله: و روى غيره‏

 (6) أي غير الأصبغ، و عبد الله بن الكواء كان من الخوارج‏

" فكتب"

 (7) في كتاب‏

" و قرئ"

 (8) في المجالس كلا الفعلين مجهول، و إنما أمر للتشهير

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 299

و المبالغة على الضبط، لكثرة فوائده و الاهتمام بأخذه.

" أما بعد"

 (1) أي بعد الحمد و الصلاة

" فإن الله تبارك و تعالى"

 (2) و في نهج البلاغة و من خطبة له عليه السلام:" الحمد لله الذي‏

شرع الإسلام فسهل شرائعه لمن و رده"

 (3) الشرع و الشريعة بفتحهما ما شرع الله لعباده من الدين، أي سنة و افترضه عليهم، و شرع الله لنا كذا أي أظهره و أوضحه، و الشريعة مورد الإبل على الماء الجاري، و كذلك المشرعة، قال الأزهري: و تسميها العرب مشرعة إلا إذا كان الماء غير منقطع كماء الأنهار، و يكون ظاهرا معينا و لا يستقى منه برشاء فإن كان من ماء الأمطار فهو الكرع بفتحتين، و وردت الماء كوعدت إذا أحضرته لتشرب، و قيل: الشريعة مورد الشاربة، و يقال: لما شرع الله تعالى لعباده إذ به حياة الأبدان.

" و أعز أركانه لمن حاربه"

 (4) و ركن الشي‏ء جانبه أو الجانب الأقوى منه، و العز و المنعة، و ما يتقوى به من ملك و جند و غيره كما يستند إلى الركن من الحائط عند الضعف، و العز القوة و الشدة و الغلبة، و أعزه أي جعله عزيزا أي جعل أصوله و قواعده أو دلائله و براهينه قاهرة غالبة منيعة قوية لمن أراد محاربته أي هدمه و تضييعه، و قيل: محاربته كناية عن محاربة أهله، و في بعض النسخ جاربه كسأل بالجيم و الهمز أي استغاث به و لجأ إليه، و في النهج على من غالبة، أي حاول أن يغلبه و لعله أظهر، و في تحف العقول: على من جانبه.

" و جعله عزا لمن تولاه"

 (5) أي جعله سببا للعزة و الرفعة و الغلبة لمن أحبه و جعله وليه في الدنيا من القتل و الأسر و النهب و الذل، و في الآخرة من العذاب و الخزي، و في المجالس الشيخ: لمن والاه، و في النهج مكانه: فجعله أمنا لمن علقه أي نشب و استمسك به‏

" و سلما لمن دخله"

 (6) و السلم بالكسر كما في النهج و بالفتح أيضا

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 300

الصلح، و يطلق على المسالم أيضا و بالتحريك الاستسلام إذ من دخله يؤمن من المحاربة و القتل و الأسر

" لمن تجلله"

 (1) كأنه على الحذف و الإيصال أي تجلل به أو علاه الإسلام و ظهر عليه، أو أخذ جلاله و عمدته، قال الجوهري: تجليل الفرس أن تلبسه الجلل و تجلله أي علاه و تجلله أي أخذ جلاله، انتهى.

و ربما يقرأ بالحاء المهملة و يفسر بأن جعله حلة على نفسه، و لا يخفى ما فيه، و في المجالس و التحف لمن تحلى به و هو أظهر.

" و عذرا لمن انتحله"

 (2) الانتحال أخذه نحلة و دينا و يطلق غالبا على ادعاء أمر لم يتصف به، فعلى الثاني المراد أنه عذر ظاهرا في الدنيا و يجري عليه أحكام المسلمين و إن لم ينفعه في الآخرة، و في التحف: و دينا لمن انتحله، و

العروة

 (3) من الدلو و الكوز المقبض، و كل ما يتمسك به شبه الإسلام تارة بالعروة التي في الحبل يتمسك بها في الارتقاء إلى مدارج الكمال و النجاة من مهاوي الحيرة و الضلال كما قال تعالى:

" فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى‏ لَا انْفِصامَ لَها" و تارة بالحبل المتين يصعد بالتمسك به إلى درجات المقربين و الحبل يطلق على الرسن و على العهد و على الذمة و على الأمان و الكل مناسب، و قيل: شبهه بالعروة لأن من أخذ بعروة الشي‏ء كالكوز مثلا ملك كله، و كذلك من تمسك بالإسلام استولى على جمع الخيرات، و في المجالس و التحف" و عصمة لمن اعتصم به‏

و برهان لمن تكلم به"

 (4) البرهان الحجة و الدليل أي الإسلام إذا أحاط الإنسان بأصوله و فروعه يحصل معه براهين ساطعة على من أنكرها إذ لا تحصل الإحاطة التامة إلا بالعلم بالكتاب و السنة و فيهما برهان كل شي‏ء، و في النهج قبل هذه الفقرة قوله: و سلما لمن دخله، و ليست فيه الفقرات المتوسطة و قوله: شاهدا" إلخ" قبل‏

قوله: و نورا لمن استضاء به‏

 (5)، شبهه بالنور للاهتداء به إلى طريق النجاة، و رشحه بذكر الاستضائة.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 301

" و شاهدا لمن خاصم به"

 (1) إذ باشتماله على البراهين الحقة يشهد بحقية من خاصم به‏

" و فلجا لمن حاج به"

 (2) الفلج بالفتح الظفر و الفوز كالأفلاج، و الاسم بالضم و المحاجة المغالبة بالحجة

" و علما لمن وعاه"

 (3) أي سببا لحصول العلم و إن كان مسببا عنه أيضا في الجملة، إذ العلم به يزداد و يتكامل‏

" و حديثا لمن روي"

 (4) أي يتضمن الإحاطة بالإسلام أحاديث و أخبارا لمن أراد روايتها، ففي الفقرة السابقة حث على الدراية، و في هذه الفقرة حث على الرواية

" و حكما لمن قضى"

 (5) أي يتضمن ما به يحكم بين المتخاصمين لمن قضى بينهما

" و حلما لمن جرب"

 (6) الحلم بمعنى العقل أو بمعنى الأناة و ترك السفه و كلاهما يحصلان باختيار الإسلام و تجربة ما ورد فيه من المواعظ و الأحكام، و اختصاص التجربة بالإسلام لأن من سفه و بادر بسبب غضب عرض له يلزمه في دين الإسلام أحكام من الحد و التعزير و القصاص من جربها و اعتبر بها تحمله التجربة على العفو و الصفح و عدم الانتقام لا سيما مع تذكر العقوبات الأخروية على فعلها، و المثوبات الجليلة على تركها و كل ذلك يظهر من دين الإسلام.

" و لباسا لمن تدبر"

 (7) أي لباس عافية لمن تدبر في العواقب أو في أوامره و نواهيه بتقريب ما مر أو لباس زينة، و الأول أظهر و قد يقرأ تدثر بالثاء المثلثة أي لبسه و جعله مشتملا على نفسه كالدثار و هو تصحيف لطيف، و في النهج و الكتابين و لبا لمن تدبر و اللب بالضم العقل و هو أصوب‏

" و فهما لمن تفطن"

 (8) الفهم العلم و جودة تهيؤ الذهن بقبول ما يرد عليه، و الفطنة الحذق و التفطن طلب الفطانة أو إعماله، و ظاهر أن الإسلام و الانقياد للرسول و الأئمة عليهم السلام يصير سببا للعلم و جودة الذهن لمن أعمل الفطنة فيما يصدر عنهم من المعارف و الحكم، و في المجالس لمن فطن.

" و يقينا لمن عقل"

 (9) أي يصير سببا لحصول اليقين لمن تفكر و تدبر يقال‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 302

عقلت الشي‏ء عقلا كضربت أي تدبرته، و عقل كعلم لغة فيه و يمكن أن يراد بمن عقل من كان من أهل العقل و هو قوة بها يكون التميز بين الحسن و القبيح، و قيل:

غريزة يتهيأ بها الإنسان لفهم الخطاب، و في النهج مكان الفقرتين: و فهما لمن عقل.

" و بصيرة لمن عزم"

 (1) و قال الراغب: يقال: لقوة القلب المدركة بصيرة و بصر، و منه:

" أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى‏ بَصِيرَةٍ" أي على معرفة و تحقق، و قوله: تبصرة، أي تبصيرا و تبيينا يقال: بصرته تبصيرا و تبصرة، كما يقال: ذكرته تذكيرا و تذكرة، و قال: العزم و العزيمة عقد القلب على إمضاء الأمر يقال: عزمت الأمر و عزمت عليه و اعتزمت، انتهى.

أي تبصرة لمن عزم على الطاعة كيف يؤديها أو في جميع الأمور، فإن في الدين كيفية المخرج في جميع أمور الدين و الدنيا، و أيضا من كان ذا دين لا يعزم على أمر إلا على وجه البصيرة.

" و آية لمن توسم"

 (2) أي الإسلام مشتمل على علامات لمن تفرس و نظر بنور العلم و اليقين إشارة إلى قوله تعالى:" إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ" قال الراغب:

الوسم التأثير و السمة الأثر، قال تعالى:" سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ" و قال:" تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ" و قوله تعالى:" إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ" أي للمعتبرين العارفين المتفطنين و هذا التوسم هو الذي سماه قوم الذكاء، و قوم الفطنة و قوم الفراسة، و قال صلى الله عليه و آله و سلم: اتقوا فراسة المؤمن، و قال: المؤمن ينظر بنور الله، و توسمت تعرفت السمة.

" و عبرة لمن اتعظ"

 (3) العبرة بالكسر ما يتعظ به الإنسان و يعتبره ليستدل به على غيره، و الاتعاظ قبول الوعظ

" و نجاة لمن صدق"

 (4) بالتشديد و يحتمل التخفيف كما ورد في الخبر من صدق نجا، و الأول هو المضبوط في نسخ النهج‏

" و تؤدة"

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 303

 (1) كهمزة بالهمز

" لمن أصلح"

 (2) في القاموس: التؤدة بفتح الهمزة و سكونها الرزانة و التأني و قد اتأد و تؤاد، و في المصباح: اتئد في مشيه على افتعل اتئادا ترفق و لم يعجل، و هو يمشي على تؤدة وزان رطبة و فيه تؤدة أي تثبت، و أصل التاء فيها واو، انتهى.

أي يصير الإسلام سبب وقار و رزانة لمن أصلح نفسه بشرائعه و قوانينه، أو أصلح أموره بالتأني أو يتأنى في الإصلاح بين الناس أو بينه و بين الناس، و في بعض النسخ و مودة و هو بالأخير أنسب، و في المجالس و مودة من الله لمن أصلح، و في التحف و مودة من الله لمن صلح، أي يؤده الله أو يلقي حبه في قلوب العباد كما قال سبحانه:" إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا".

" و زلفى لمن اقترب"

 (3) الزلفى كحلبي القرب و المنزلة و الخطوة، و الاقتراب الدنو و طلب القرب، و كان المعنى: الإسلام سبب قرب من الله تعالى لمن طلب ذلك بالأعمال الصالحة التي دل عليها دين الإسلام و شرائعه، و في بعض النسخ لمن اقترن أي معه و لم يفارقه و كأنه تصحيف، و في المجالس و التحف: لمن ارتقب أي انتظر الموت أو رحمة الله أو حفظ شرائع الدين، و ترصد مواقيتها، في القاموس:

الرقيب: الحافظ و المنتظر و الحارس، و رقبة انتظره كترقبه و ارتقبه، و الشي‏ء حرسه كراقبه مراقبة و ارتقب أشرف و علا.

" و ثقة لمن توكل"

 (4) الثقة من يؤتمن و يعتمد عليه، يقال: وثقت به أثق بكسرهما ثقة و وثوقا أي ائتمنته و وثق الشي‏ء بالضم وثاقة فهو وثيق، أي ثابت محكم و توكل عليه أي الإسلام ثقة مأمون لمن وكل أموره إليه أي راعى في جميع الأمور قوانينه فلا يخدعه أو يصير الإسلام سببا لوثوق المرء على الله إذا توكل عليه و يعلم به أن الله حسبه و نعم الوكيل.

" و رجاء لمن فوض"

 (5) أي الإسلام سبب رجاء لمن فوض أموره إليه أو إلى الله‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 304

على الوجهين السابقين، و في بعض النسخ بالخاء المعجمة أي سعة عيش، و في النهج و الكتابين و راحة و هو أظهر

" و سبقة لمن أحسن"

 (1) في القاموس سبقه يسبقه تقدم، و الفرس في الحلبة جلي و السبق محركة و السبقة بالضم الخطر يوضع بين أهل السباق، و هما سبقان بالكسر أي يستبقان، انتهى.

و الظاهر هنا سبقة بالضم أي الإسلام متضمن بسبقة لمن أحسن المسابقة أو لمن أحسن إلى الناس فإنه من الأمور التي تحسن المسابقة فيه أو لمن أحسن صحبته أو لمن أتى بأمر حسن، فيشمل جميع الطاعات، و لا يبعد أن يكون إشارة إلى قوله تعالى:" وَ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَ الْأَنْصارِ وَ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ" بأن يكون المعنى اتبعوهم في الإحسان‏

" و خيرا لمن سارع"

 (2) على الوجوه المتقدمة إشارة إلى قوله سبحانه في مواضع:" يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ".

" و جنة لمن صبر"

 (3) الجنة بالضم الترس و كل ما وقى من سلاح و غيره فالإسلام يحث على الصبر و هو جنة لمخاوف الدنيا و الآخرة، و قيل: استعار لفظ الجنة للإسلام لأنه يحفظ من صبر على العمل بقواعده و أركانه من العقوبة الدنيوية و الأخروية، و قيل: جنة لمن صبر في المناظرة مع أعادي الدين.

" و لباسا لمن اتقى"

 (4) كأنه إشارة إلى قوله تعالى:" وَ لِباسُ التَّقْوى‏ ذلِكَ خَيْرٌ" بناء على أن المراد بلباس التقوى خشية الله أو الإيمان أو العمل الصالح، أو الحياء الذي يكسب التقوى، أو السمت الحسن، و قد قيل كل ذلك، أو اللباس الذي هو التقوى فإنه يستر الفضائح و القبائح و يذهبها، لا لباس الحرب كالدرع و المغفر و الآلات التي يتقي بها عن العدو كما قيل، فالإسلام سبب للبس لباس الإيمان و التقوى و الأعمال الصالحة و الحياء و هيئة أهل الخير لمن اتقى و عمل بشرائعه.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 305

" و ظهيرا لمن رشد"

 (1) أي معينا لمن اختار الرشد و الصلاح، في القاموس: رشد كنصر و فرح رشدا و رشدا و رشادا اهتدى، و الرشد الاستقامة على طريق الحق مع تصلب فيه، و في التحف: و تطهيرا لمن رشد،

" و كهفا لمن آمن"

 (2) الكهف:

كالغار في الجبل و الملجإ أي محل أمن من مخاوف الدنيا و العقبى لمن آمن بقلبه، لا لمن أظهر بلسانه و نافق بقلبه،

" و أمنه لمن أسلم"

 (3) الأمنة بالتحريك الأمن، و قيل في الآية جمع كالكتبة، و الظاهر أن المراد بالإسلام هنا الانقياد التام لله و لرسوله و لأئمة المؤمنين، فإن من كان كذلك فهو آمن في الدنيا و الآخرة من مضارهما

" و رجاء لمن صدق"

 (4) أي الإسلام باعتبار اشتماله على الوعد بالمثوبات الأخروية و الدرجات العالية سبب لرجاء من صدق به، و يمكن أن يقرأ بالتخفيف و يؤيده أن في التحف و روحا للصادقين، و في بعض نسخ الكتاب أيضا روحا، و منهم من فسر الفقرتين بأن الإسلام أمنه في الدنيا لمن أسلم ظاهرا، و روح في الآخرة لمن صدق باطنا.

أقول: و كأنه يؤيده قوله تعالى:" فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَ رَيْحانٌ وَ جَنَّةُ نَعِيمٍ".

" و غنى لمن قنع"

 (5) أي الإسلام لاشتماله على مدح القناعة و فوائدها فهو يصير سببا لرضا من قنع بالقليل و غناه عن الناس، و قيل: لأن التمسك بقواعده يوجب وصول ذلك القدر إليه كما قال عز شأنه:" وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ" و يحتمل أن يراد به أن الإسلام باعتبار اشتماله على ما لا بد للإنسان منه من العلوم الحقة و المعارف الإلهية و الأحكام الدينية يغني من قنع به عن الرجوع إلى العلوم الحكمية و القوانين الكلامية و الاستحسانات‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 306

العقلية و القياسات الفقهية، و إن كان بعيدا.

" فذلك الحق"

 (1) أي ما وصفت لك من صفة الإسلام حق، أو ذلك إشارة إلى الإسلام، أي فلما كان الإسلام متصفا بتلك الصفات فهو الحق الثابت الذي لا يتغير أو لا يشوبه باطل، أو ذلك هو الحق الذي قال الله تعالى:" أَ فَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى‏ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ" و

قوله: سبيله الهدى‏

 (2)، استيناف بياني أو الحق صفة لاسم الإشارة، و سبيله الهدى خبره أي هذا الدين الحق الذي عرفت فوائده و صفاته سبيله الهدى كما قيل في قوله سبحانه:

" أُولئِكَ عَلى‏ هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ" و كأنه إشارة إليه أيضا، و المراد بالهدي الهداية الربانية الموصلة إلى المطلوب.

" و مأثرته المجد"

 (3) المأثرة بفتح الميم و سكون الهمزة و ضم الثاء و فتحها واحدة المآثر، و هي المكارم من الأثر و هو النقل و الرواية لأنها تؤثر و تروى، و في القاموس: المكرمة المتوارثة، و المجد نيل الكرم و الشرف، و رجل ماجد أي كريم شريف، و يطلق غالبا على ما يكون بالآباء فكان المعنى أنه يصير سببا لمجد صاحبه حتى يسري في أعقابه أيضا

" و صفته الحسنى"

 (4) أي موصوف بأنه أحسن الأخلاق و الأحوال و الأعمال، و في المجالس بعد قوله: و جنة لمن صبر:

الحق سبيله و الهدى صفته، و الحسنى مأثرته، و في التحف فالإيمان أصل الحق و سبيله الهدى.

" فهو أبلج المنهاج"

 (5) و في المنهج: المناهج، في القاموس: بلج الصبح أضاء و أشرق كابتلج و تبلج و أبلج، و كل متضح أبلج، و النهج و المنهج و المنهاج:

الطريق الواضح، و أنهج وضح و أوضح، و في النهج بعده: واضح الولائج، أي‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 307

المداخل.

" مشرق المنار"

 (1) المنار جمع منارة و هي العلامة توضع في الطريق و كأنها سميت بذلك لأنهم كانوا يضعون عليها النار لاهتداء الضال في الليل، و في القاموس: المنارة و الأصل المنورة موضع النور كالمنار، و المسرجة و المأذنة و الجمع مناور و منائر، و المنار العلم، انتهى.

و في النهج مشرف بالفاء، أي العالي و بعده مشرق الجواد جمع الجادة

" ذاكي المصباح"

 (2) و في النهج و الكتابين مضي‏ء المصابيح، و في القاموس: ذكت النار و استذكت اشتد لهبها، و هي ذكية و أذكاها و ذكاها أوقدها

" رفيع الغاية"

 (3) الغاية منتهى السباق أو الراية المنصوبة في آخر المسافة، و هي خرقة تجعل على قصبة و تنصب في آخر المدى يأخذ بها السابق من الفرسان، و كان الرفعة كناية عن الظهور كما ستعرف، و قيل: هو من قولهم رفع البعير في سيره: بالغ أي يرفع إليها.

" يسير المضمار"

 (4) في النهاية تضمير الخيل هو أن تضامر عليها بالعلف حتى تسمن ثم لا تعلف إلا قوتا لتخف، و قيل: تشد عليها سروجها و تجلل بالأجلة حتى تعرق فيذهب رهلها و يشتد لحمها، و في حديث حذيفة: اليوم مضمار و غدا السباق أي اليوم العمل في الدنيا للاستباق في الجنة، و المضمار الموضع الذي تضمر فيه الخيل و يكون وقتا للأيام التي تضمر فيها و في القاموس: المضمار الموضع الذي يضمر فيه الخيل، و غاية الفرس في السباق، انتهى.

و الحاصل أن المضمار يطلق على موضع تضمير الفرس للسباق و زمانه، و على الميدان الذي يسابق فيه، و شبه عليه السلام أهل الإسلام بالخيل التي تجمع للسباق و مدة عمر الدنيا بالميدان الذي يسابق فيه، و الموت بالعلم المنصوب في نهاية الميدان،

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 308

فإن ما يتسابق فيه من الأعمال الصالحة إنما هو قبل الموت و القيامة بوضع تجمع فيه الخيل بعد السباق ليأخذ السبقة من سبق بقدر سبقه و يظهر خسران من تأخر، و الجنة بالسبقة، و النار بما يلحق المتأخر من الحرمان و الخسران.

أو شبه عليه السلام الدنيا بزمان تضمير الخيل أو مكانه و القيامة بميدان المسابقة فمن كان تضميره في الدنيا أحسن كانت سبقته في الآخرة أكثر كما ورد التشبيه كذلك في قوله عليه السلام في خطبة أخرى: ألا و إن اليوم المضمار وعدا السباق، و السبقة الجنة و الغاية النار، لكن ينافيه ظاهرا قوله: و الموت غايته، إلا أن يقال: المراد بالموت ما يلزمه من دخول الجنة أو النار إشارة إلى أن آثار السعادة و الشقاوة الأخروية تظهر عند الموت، كما ورد ليس بين أحدكم و بين الجنة و النار إلا الموت.

و على التقديرين المراد بقوله: يسير المضمار، قلة مدته و سرعة ظهور السبق و عدمه، أو سهولة قطعه و عدم وعورته، أو سهولة التضمير فيه و عدم صعوبته لقصر المدة و تهيئ الأسباب من الله تعالى، و في النهج كريم المضمار، فكان كرمه لكونه جامعا لجهات المصلحة التي خلق لأجله و هي اختبار العباد بالطاعات و فوز الفائزين بأرفع الدرجات، و لا ينافي ذلك ما ورد في ذم الدنيا لأنه يرجع إلى ذم من ركن إليها و قصر النظر عليها، كما بين عليه السلام ذلك في خطبة أوردناها في كتاب الروضة.

" جامع الحلبة"

 (1) الحلبة بالفتح خيل تجمع للسباق من كل أوب أي ناحية لا تخرج من إصطبل واحد، و يقال: للقوم إذا جاءوا من كل أوب للنصرة قد أحلبوا، و كون الحلبة جامعة عدم خروج أحد منها، أو المراد بالحلبة محلها و هو القيامة كما سيأتي، فالمراد أنه يجمع الجميع للحساب كما قال تعالى:" ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ".

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 309

" سريع السبقة"

 (1) السبقة بالفتح كما في النهج أي يحصل السبق سريعا في الدنيا للعاملين أو في القيامة إلى الجنة، أو بالضم أي يصل إلى السابقين عوض السباق و هو الجنة سريعا لأن مدة الدنيا قليلة و هو أظهر.

و في النهج و المجالس و التحف: متنافس السبقة فالضم أصوب و إن كان المضبوط في نسخ النهج بالفتح، و التنافس الرغبة في الشي‏ء النفيس الجيد في نوعه.

" أليم النقمة"

 (2) أي مؤلم انتقام من تأخر في المضمار لأنه النار

" كامل العدة"

 (3) بالضم و الشد ما أعددته و هيئاته من مال أو سلاح أو غير ذلك مما ينفعك يوما ما، و المراد هنا التقوى و كماله ظاهر

" كريم الفرسان"

 (4) و في النهج شريف الفرسان، و الفرسان بالضم جمع فارس كالفوارس.

ثم فسر صلوات الله عليه ما أبهم من الأمور المذكورة فقال:

فالإيمان منهاجه،

 (5) هذا ناظر إلى قوله: و أبلج المنهاج، أي المنهاج الواضح للإسلام هو التصديق القلبي بالله و برسوله و بما جاء به و البراهين القاطعة الدالة عليه، و في النهج و غيره: فالتصديق منهاجه و هو أظهر

" و الصالحات منارة"

 (6) ناظر إلى قوله: مشرق المنار، شبه الأعمال الصالحة و العبادات الموظفة بالإعلام و المنائر التي تنصب على طريق السالكين لئلا يضلوا، فمن اتبع الشريعة النبوية و أتى بالفرائض و النوافل يهديه الله للسلوك إليه، و بالعمل يقوى إيمانه و بقوة الإيمان يزداد عمله، و كلما وصل إلى علم يظهر له علم آخر، و يزداد يقينه بحقية الطريق إلى أن يقطع عمره، و يصل إلى أعلى درجات كماله بحسب قابليته التي جعلها الله له، أو شبه الإيمان بالطريق و الأعمال بالإعلام، فكما أن بسلوك الطريق تظهر الأعلام فكذلك بالتصديق بالله و رسله و حججه عليهم السلام تعرف الأعمال الصالحة، و قيل: الأعمال الصالحة علامات لإسلام المسلم، و بها يستدل على إيمانه و لا يتم حينئذ التشبيه.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 310

" و الفقه مصابيحه"

 (1) الفقه العلم بالمسائل الشرعية أو الأعم، و به يرى طريق السلوك إلى الله و أعلامه، و هو ناظر إلى قوله: ذاكي المصباح، إذ علوم الدين و شرائعه ظاهرة واضحة للناس بالأنبياء و الأوصياء عليهم السلام، و بما أفاضوا عليهم من العلوم الربانية.

" و الدنيا مضماره"

 (2) قال ابن أبي الحديد: كان الإنسان يجري في الدنيا إلى غاية الموت و إنما جعلها مضمار الإسلام لأن المسلم يقطع دنياه لا لدنياه بل لآخرته، فالدنيا له كالمضمار للفرس إلى الغاية المعينة

" و الموت غايته"

 (3) قد عرفت وجه تشبيه الموت بالغاية، و قال ابن أبي الحديد: أي إن الدنيا سجن المؤمن و بالموت يخلص من ذلك السجن.

و قال ابن ميثم: إنما جعل الموت غاية أي الغاية القريبة التي هي باب الوصول إلى الله تعالى، و يحتمل أن يريد بالموت موت الشهوات فإنها غاية قريبة للإسلام أيضا، و هذا ناظر إلى قوله: رفيع الغاية، و في سائر الكتب هذه الفقرة مقدمة على السابقة، فالنشر على ترتيب اللف، و على ما في الكتاب يمكن أن يقال: لعل التأخير هنا لأجل أن ذكر الغاية بعد ذكر المضمار أنسب بحسب الواقع و التقديم سابقا باعتبار الرفعة و الشرف، و إنما الفائدة المقصودة فأشير إلى الجهتين الواقعيتين بتغيير الترتيب‏

" و القيامة حلبته"

 (4) أي محل اجتماع الحلبة إما للسباق أو لحيازة السبقة كما مر، و إطلاق الحلبة عليها من قبيل تسمية المحل باسم الحال و قال ابن أبي الحديد: حلبته أي ذات حلبته، فحذف المضاف كقوله تعالى:" هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ" أي ذوو درجات.

" و الجنة سبقته"

 (5) في أكثر نسخ النهج سبقته بالفتح فلذا قال الشراح: أي جزاء سبقته فحذف المضاف و الظاهر سبقته بالضم فلا حاجة إلى تقدير كما عرفت‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 311

" و النار نقمته"

 (1) أي نصيب من تأخر و لم يحصل له استحقاق للسبقة أصلا النار، زائدا عن الحسرة و الحرمان‏

" و التقوى عدته"

 (2) ناظر إلى قوله: كامل العدة، لأن التقوى تنفع في أشد الأحوال و أعظمها و هو القيامة كما أن العدة من المال و غيره تنفع صاحبها عند الحاجة إليها.

" و المحسنون فرسانه"

 (3) لأنهم بالإحسان و الطاعات يتسابقون في هذا المضمار، فبالإيمان‏

" يستدل على الصالحات"

 (4) إذ تصديق الله و رسوله و حججه يوجب العلم بحسن الأعمال الصالحة و كيفيتها من واجبها و ندبها، و قيل: لأن الإيمان منهج الإسلام و طريقه و لا بد للطريق من زاد يناسبه، و زاد طريق الإسلام هو الأخلاق و الأعمال الصالحة، فيدل الإيمان عليها كدلالة السبب على المسبب و قيل: أي يستدل بوجوده في قلب العبد على ملازمته لها، انتهى.

و كأنه حمل الكلام على القلب و إلا فلا معنى للاستدلال بالأمر المخفي في القلب على الأمر الظاهر، نعم يمكن أن يكون المعنى أن بالإيمان يستدل على صحة الأعمال و قبولها فإنه لا تقبل أعمال غير المؤمن، و هذا معنى حسن لكن الأول أحسن‏

" و بالصالحات يعمر الفقه"

 (5) لأن العمل يصير سببا لزيادة العلم كما أن من بيده سراجا إذا وقف لا يرى إلا ما حوله و كلما مشى ينتفع بالضوء و يرى ما لم يره كما ورد: من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم، و قد مر أن العلم يهتف بالعمل فإن أجاب و إلا ارتحل عنه، و قيل: الفقرتان مبنيتان على أن المراد بالعمل الصالح ولاية أهل البيت عليهم السلام كما ورد في تأويل كثير من الآيات، و ظاهر أن بالإيمان يستدل على الولاية ربها يعمر الفقه لأخذه عنهم.

" و بالفقه يرهب الموت"

 (6) أي كثرة العلم و اليقين سبب لزيادة الخشية كما قال‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 312

تعالى:" إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ" فالمراد بخشية الموت خشية ما بعد الموت أو يخشى نزول الموت قبل الاستعداد له و لما بعده،

فقوله: و بالموت تختم الدنيا

 (1) كالتعليل لذلك لأن الدنيا التي هي مضمار العمل تختم بالموت فلذا يرهبه لحيلولته بينه و بين العمل و الاستعداد للقاء الله لا لحب الحياة و اللذات الدنيوية و المألوفات الفانية

" و بالدنيا تجوز القيامة"

 (2) هذه الفقرة أيضا كالتعليل لما سبق أي إنما ترهب الموت لأن بالدنيا و الأعمال الصالحة المكتسبة فيها تجوز من أهوال القيامة و تخرج عنها إلى نعيم الأبد بأن يكون على صيغة الخطاب من الجواز، و في بعض النسخ بصيغة الغيبة أي يجوز المؤمن أو الإنسان، و في بعضها يجاز على بناء المجهول و هو أظهر، و في بعضها يحاز بالحاء المهملة من الحيازة أي تحاز مثوبات القيامة و على التقادير فالوجه فيه أن كل ما يلقاه العبد في القيامة فإنما هو نتائج عقائده و أعماله و أخلاقه المكتسبة في الدنيا، فبالدنيا تجاز القيامة أو تحاز.

و منهم من قرأ تحوز بالحاء المهملة أي بسبب الدنيا و أعمالها تجمع القيامة الناس للحساب و الجزاء فإن القيامة جامع الحلبة كما مر، و في التحف تحذر القيامة و كأنه أظهر.

" و بالقيامة تزلف الجنة"

 (3) أي تقرب للمتقين كما قال تعالى:" وَ أُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ" و في المجالس: و تزلف الجنة للمتقين و تبرز الجحيم للغاوين، و قال البيضاوي وَ أُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ بحيث يرونها من الموقف فيتبجحون بأنهم المحشورون إليها" وَ بُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ" فيرونها مكشوفة و يتحسرون على أنهم المسوقون إليها، و في اختلاف الفعلين ترجيح لجانب الوعد، انتهى.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 313

" و الجنة حسرة أهل النار"

 (1) في القيامة حيث لا تنفع الحسرة و الندامة، و تلك علاوة لعذابهم العظيم‏

" و النار موعظة للمتقين"

 (2) في الدنيا حيث ينفعهم فيتركون ما يوجبها و يأتون بما يوجب البعد عنها

" و التقوى سنخ الإيمان"

 (3) أي أصله و أساسه، في القاموس: السنخ بالكسر الأصل.

باب صفة الإيمان‏

 (4)

 (الحديث الأول)

 (5): صحيح و هو من تتمة الخبر السابق، و هو مروي في الكتب الثلاثة بتغيير نشير إلى بعضه.

قال في النهج: سئل عليه السلام عن الإيمان؟ فقال:

الإيمان على أربع دعائم،

 (6) الدعامة بالكسر عماد البيت، و دعائم الإيمان ما يستقر عليه و يوجب ثباته و استمراره و قوته‏

" على الصبر و اليقين و العدل و الجهاد"

 (7) قال ابن ميثم: فاعلم أنه عليه السلام أراد الإيمان الكامل، و ذلك له أصل و له كمالات بها يتم أصله، فأصله هو التصديق بوجود الصانع، و ما له من صفات الكمال و نعوت الجلال، و بما تنزلت به كتبه و بلغته رسله، و كمالاته المتممة هي الأقوال المطابقة و مكارم الأخلاق و العبادات.

ثم إن هذا الأصل و متمماته هو كمال النفس الإنسانية لأنها ذات قوتين علمية و عملية، و كمالها بكمال هاتين القوتين، فأصل الإيمان هو كمال القوة العلمية منها، و متمماته و هي مكارم الأخلاق و العبادات هي كمال القوة العملية.

إذا عرفت هذا فنقول: لما كانت أصول الفضائل الخلقية التي هي كمال الإيمان‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 314

أربعا هي الحكمة و العفة و الشجاعة و العدل أشار إليها و استعار لها لفظ الدعائم باعتبار أن الإيمان الكامل لا يقوم في الوجود إلا بها، كدعائم البيت فعبر عن الحكمة باليقين، و الحكمة منها علمية و هي استكمال القوة النظرية بتصور الأمور و التصديق بالحقائق النظرية و العملية بقدر الطاقة البشرية، و لا تسمى حكمة حتى يصير هذا الكمال حاصلا لها باليقين و البرهان، و منها عملية و هي استكمال النفس بملكة العلم بوجوه الفضائل النفسانية الخلقية، و كيفية اكتسابها و وجوه الرذائل النفسانية و كيفية الاحتراز عنها و اجتنابها، و ظاهر أن العلم الذي صار ملكة هو اليقين و عبر عن العفة بالصبر.

و العفة هي الإمساك عن الشره في فنون الشهوات المحسوسة و عدم الانقياد للشهوة و قهرها و تصريفها بحسب الرأي الصحيح، و مقتضى الحكمة المذكورة، و إنما عبر عنها بالصبر لأنها لازم من لوازمه، إذ رسمه أنه ضبط النفس و قهرها عن الانقياد لقبائح اللذات.

و قيل: هو ضبط النفس عن أن يقهرها ألم مكروه ينزل بها، و يلزم في العقل احتماله أو يلزمها حب مشتهى يتشوق الإنسان إليه، و يلزمه في حكم العقل اجتنابه حتى لا يتناوله على غير وجهه، و ظاهر أن ذلك يلازم العفة و كذلك عبر عن الشجاعة بالجهاد لاستلزامه إياها إطلاقا لاسم الملزوم على لازمه.

و الشجاعة هي ملكة الإقدام الواجب على الأمور التي يحتاج الإنسان أن يعرض نفسه لاحتمال المكروه و الآلام الواصلة إليه منها، و أما العدل فهو ملكة فاضلة ينشأ عن الفضائل الثلاث المشهورة و تلزمها، إذ كل واحدة من هذه الفضائل محتوشة برذيلتين هما طرفا الإفراط و التفريط منها، و مقابلة برذيلة هي ضدها، انتهى.

" فالصبر من ذلك"

 (1) و في النهج منها

" على أربع شعب"

 (2) الشعبة من الشجرة

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 315

بالضم الغصن المتفرع منها، و قيل: الشعبة ما بين الغصنين و القرنين، و الطائفة من الشي‏ء و طرف الغصن، و المراد هنا فروع الصبر و أنواعه أو أسباب حصوله‏

" على الشوق و الإشفاق"

 (1) و في سائر الكتب و الشفق و الزهد، و في المجالس و الزهادة و الترقب، الشوق إلى الشي‏ء نزوع النفس إليه و حركة الهوى، و الشفق بالتحريك: الحذر و الخوف كالأشفاق، و

الزهد

 (2) ضد الرغبة

" و الترقب"

 (3) الانتظار أي انتظار الموت و مداومة ذكره و عدم الغفلة عنه، و لما كان الصبر أنواع ثلاثة كما سيأتي في بابه الصبر عند البلية و الصبر على مشقة الطاعة، و الصبر على ترك الشهوات المحرمة، و كان ترك الشهوات قد يكون للشوق إلى اللذات الأخروية، و قد يكون للخوف من عقوباتها جعل بناء الصبر على أربع، على الشوق إلى الجنة، ثم بين ذلك‏

بقوله:

فمن اشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات‏

 (4) أي نسيها و صبر على تركها، يقال: سلا عن الشي‏ء أي نسيه، و سلوت عنه سلوا كقعدت قعودا أي صبرت، و على الإشفاق عن النار، و بينها

بقوله: و من أشفق من النار رجع عن المحرمات‏

 (5)، و في المجالس و التحف عن الحرمات، و في النهج اجتنب المحرمات، و يمكن أن تكون الشهوات المذكورة سابقا شاملة للمكروهات أيضا.

و على الزهد و عدم الرغبة في الدنيا و ما فيها من الأموال و الأزواج و الأولاد و غيرها من ملاذها و مألوفاتها، و بينها بقوله: و من زهد في الدنيا هانت عليه المصائب، و في بعض النسخ و الكتابين:

المصيبات.

 (6) و في النهج: استهان بالمصيبات أي عدها سهلا هينا و استخف بها، لأن المصيبة حينئذ بفقد شي‏ء من الأمور التي زهد عنها و لم يستقر في قلبه حبها و على ارتقاب الموت و كثرة تذكره و بينها

بقوله: و من راقب الموت سارع إلى الخيرات‏

 (7)، و في الكتابين و من ارتقب، و في النهج: في الخيرات.

ثم إن تخصيص الشوق إلى الجنة و الإشفاق من النار بترك المشتهيات و المحرمات مع أنهما يصيران سببين لفعل الطاعات أيضا إما لشدة الاهتمام بترك المحرمات‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 316

و كون الصبر عليها أشق و أفضل كما سيأتي في الخبر، أو لأن فعل الطاعات أيضا داخلة فيهما فإن المانع عن الطاعات غالبا الاشتغال بالشهوات النفسانية، فالسلو عنها يستلزم فعلها، بل لا يبعد أن يكون الغرض الأصلي من الفقرة الأولى ذلك بل يمكن إدخال فعل الواجبات في الفقرة الثانية، لأن ترك كل واجب محرم و يدخل ترك المكروهات و فعل المندوبات في الفقرة الأولى.

" و اليقين على أربع شعب تبصرة الفطنة"

 (1) و في النهج و التحف على تبصرة، و التبصرة مصدر باب التفعيل، و الفطنة الحذق و جودة الفهم، و قال ابن ميثم: هي سرعة هجوم النفس على حقائق ما تورده الحواس عليها و قال: تبصرة الفطنة أعمالها.

أقول: يمكن أن تكون الإضافة إلى الفاعل، أي جعل الفطنة الإنسان بصيرا أو إلى المفعول أي جعل الإنسان الفطنة بصيرة، و يحتمل أن تكون التبصرة بمعنى الإبصار و الرؤية فرؤيتها كناية عن التوجه و التأمل فيها و في مقتضاها، فالإضافة إلى المفعول و حمله على الإضافة إلى الفاعل محوج إلى تكلف في قوله: فمن أبصر الفطنة.

" و تأول الحكمة"

 (2) التأول و التأويل تفسير ما يؤول إليه الشي‏ء، و قيل: أول الكلام و تأوله أي دبره و قدره و فسره، و الحكمة العلم بالأشياء على ما هي عليه، فتأول الحكمة التأول الناشئ من العلم و المعرفة، و هو الاستدلال على الأشياء بالبراهين الحقة و قال ابن ميثم: هو تفسير الحكمة و اكتساب الحقائق ببراهينها، و استخراج وجوه الفضائل و مكارم الأخلاق من مظانها ككلام يؤثر أو غيره يعتبر، و قال الكيدري: تأول الحكمة هو العلم بمراد الحكماء فيما قالوا، و أولي الحكمة بأن يعلم قول الله و رسوله قال تعالى:" وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ".

" و معرفة العبرة"

 (3) و في سائر الكتب: و موعظة العبرة، و العبرة ما يتعظ به‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 317

الإنسان و يعتبره ليستدل به على غيره، و الموعظة تذكير ما يلين القلب، و موعظة العبرة أن تعظ العبرة الإنسان فيتعظ بها

" و سنة الأولين"

 (1) السنة السيرة محمودة كانت أو مذمومة، أي معرفة سنة الماضين و ما آل أمرهم إليه من سعادة أو شقاوة فيتبع أعمال السعداء و يجتنب قبائح الأشقياء.

ثم بين عليه السلام فوائد هذه الشعب و كيفية ترتب اليقين عليها فقال:

فمن أبصر الفطنة

 (2) أي جعلها بصيرة أو نظر إليها و أعملها، كان من لم يعملها و لم يعمل بمقتضاها لم يبصرها، و في سائر الكتب تبصر في الفطنة و هو أظهر

" عرف الحكمة"

 (3) و في النهج تبينت له الحكمة، و في التحف تأول الحكمة، و في المجالس تبين الحكمة و الكل حسن، و قال الكيدري: تبصر أي نظر و تفكر، و صار ذا بصيرة و قال: الحكمة العلم الذي يدفع الإنسان عن فعل القبيح، مستعار من حكمة اللجام، و من تأول الحكمة و عرفها كما هي، عرف العبرة بأحوال السماء و الأرض و الدنيا و أهلها، فتحصل له الحكمة النظرية و العملية، و في النهج: و من تبينت له الحكمة، و في المجالس: و من تبين الحكمة.

" و من عرف العبرة عرف السنة"

 (4) أي سنة الأولين و سنة الله فيهم، فإنها من أعظم العبر

" و من عرف السنة فكأنما كان مع الأولين"

 (5) في حياتهم أو بعد موتهم أيضا فإن المعرفة الكاملة تفيد فائدة المعاينة لأهلها، و في التحف فكأنما عاش في الأولين و في النهج: و من عرف العبرة فكأنما كان في الأولين‏

" و اهتدى"

 (6) أي بذلك‏

" إلى التي هِيَ أَقْوَمُ"

 (7) أي الطريقة التي هي أقوم الطرائق.

ثم بين عليه السلام كيفية العبرة فقال:

" و نظر إلى من نجا"

 (8) أي من الأولين‏

" بما نجا"

 (9) من متابعة الأنبياء و المرسلين و الأوصياء المرضيين و الاقتداء بهم علما

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 318

و عملا

" و من هلك بما هلك"

 (1) من مخالفة أئمة الدين و متابعة الأهواء المضلة و الشهوات المزلة، و ليست هذه الفقرات من قوله: و اهتدى إلى قوله: بطاعته، في سائر الكتب.

" و العدل على أربع شعب"

 (2) و في النهج و العدل منها، و كان المراد بالعدل هنا ترك الظلم و الحكم بالحق بين الناس و إنصاف الناس من نفسه، لا ما هو مصطلح الحكماء من التوسط في الأمور فإنه يرجع إلى سائر الأخلاق الحسنة

" غامض الفهم"

 (3) الغامض خلاف الواضح من الكلام، و نسبته إلى الفهم مجاز، و كان المعنى فهم الغوامض، أو هو من قولهم أغمض حد السيف أي رققه، و في النهج و التحف:

غائص من الغوص و هو الدخول تحت الماء لإخراج اللؤلؤ و غيره، و قال الكيدري:

هو من إضافة الصفة إلى الموصوف للتأكيد و الفهم الغائص ما يهجم على الشي‏ء فيطلع على ما هو عليه كمن يغوص على الدر و اللؤلؤ.

" و غمر العلم"

 (4) أي كثرته في القاموس: الغمر الماء الكثير و غمر الماء غمارة و غمورة كثر، و غمرة الماء غمرا و اغتمره غطاه، و في التحف و الخصال: و غمرة العلم، و في النهج و غور العلم و غور كل شي‏ء قعره، و الغور الدخول في الشي‏ء و تدقيق النظر في الأمر.

" و زهرة الحكم"

 (5) الزهرة بالفتح البهجة و النضارة و الحسن و البياض، و نور النبات، و الحكم بالضم القضاء و العلم و الفقه‏

" و روضة الحلم"

 (6) الإضافة فيها و في الفقرة السابقة من قبيل لجين الماء، و فيهما مكنية و تخييلية حيث شبه الحكم الواقعي بالزهرة لكونه معجبا، و مثمر الأنواع الثمرات الدنيوية و الأخروية، و الحلم بالروضة لكونه رائقا و نافعا في الدارين، و في النهج و رساخة الحلم يقال: رسخ كمنع رسوخا بالضم و رساخة بالفتح أي ثبت، و الحلم الأناة و التثبت، و قيل: هو الإمساك عن‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 319

المبادرة إلى قضاء وطر الغضب و رساخة الحلم قوته و كماله‏

" فمن فهم فسر جميع العلم و من علم عرف شرائع الحكم"

 (1) أي من فهم غوامض العلوم فسر ما اشتبه على الناس منها، و من كان كذلك عرف شرائع الحكم بين الناس فلا يشتبه عليه الأمر و لا يظلم و لا يجور، و بعده في المجالس: و من عرف شرائع الحكم لم يضل" و من حلم لم يفرط في أمره" و لم يغضب على الناس و تثبت في الأمر، و في النهج فمن فهم علم غور العلم و من علم غور العلم صدر عن شرائع الحكم و من حلم" إلخ".

و الصدور الرجوع عن الماء، و الشريعة مورد الناس للاستسقاء، و الصدور عن شرائع الحكم كناية عن الإصابة فيه و عدم الوقوع في الخطإ،

و لم يفرط

 (2) على بناء التفعيل أي لم يقصر فيما يتعلق به من أمور القضاء و الحكم، أو مطلقا، و في بعض نسخ النهج على بناء الأفعال، أي لم يجاوز الحد.

" و عاش في الناس حميدا"

 (3) و في التحف و عاش به و العيش الحياة و الحميد المحمود المرضي.

" و الجهاد على أربع شعب"

 (4) تلك الشعب إما أسباب الجهاد أو أنواعه الخفية ذكرها لئلا يتوهم أنه منحصر في الجهاد بالسيف مع أنه أحد أفراد الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، بل الجهاد استفراغ الوسع في إعلاء كلمة الله و اتباع مرضاته، و ترويج شرائعه باليد و اللسان و القلب، قال الراغب: الجهاد و المجاهدة استفراغ الوسع في مدافعة العدو، و الجهاد ثلاثة أضرب: مجاهدة العدو الظاهر و مجاهدة الشيطان و مجاهدة النفس، و تدخل ثلاثتها في قوله:" وَ جاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ"" وَ جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ"" إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 320

بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ" و قال صلى الله عليه و آله و سلم: جاهدوا أهواءكم كما تجاهدون أعداءكم، و المجاهدة تكون باليد و اللسان قال عليه السلام: جاهدوا الكفار بأيديكم و ألسنتكم.

" على الأمر بالمعروف"

 (1) و هو الذي عرفه الشارع و عده حسنا، فإن كان واجبا فالأمر واجب، و إن كان مندوبا فالأمر مندوب‏

" و النهي عن المنكر"

 (2) أي ما أنكره الشارع و عده قبيحا و هما مشروطان بالعلم بكونه معروفا أو منكرا و تجويز التأثير و عدم المفسدة و هما يجبان باليد و اللسان و القلب.

" و الصدق في المواطن"

 (3) أي ترك الكذب على كل حال إلا مع خوف الضرر فيوري فلا يكون كذبا، و المواطن مواضع جهاد النفس، و جهاد العدو، و جهاد الفاسق بالأمر و النهي، و مواطن الرضا و السخط و الضر و النفع ما لم يصل إلى حد تجويز التقية، و أصل الصدق و الكذب أن يكونا في القول ثم في الخبر من أصناف الكلام كما قال تعالى:" وَ مَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا"" وَ مَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً" و قد يكونان بالعرض في غيره من أنواع الكلام كقول القائل: أ زيد في الدار؟ لتضمنه كونه جاهلا بحال زيد، و كما إذا قال: واسني لتضمنه أنه محتاج إلى المواساة و يستعملان في أفعال الجوارح فيقال: صدق في القتال إذا و في حقه، و صدق في الإيمان إذا فعل ما يقتضيه من الطاعة، فالصادق الكامل من يكون لسانه موافقا لضميره، و فعله مطابقا لقوله، و منه الصديق حيث يطلق على المعصوم، فيحتمل أن يكون الصدق هنا شاملا لجميع ذلك.

" و شنآن الفاسقين"

 (4) الشنآن بالتحريك و السكون و قد صح بهما في النهج‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 321

البغض، يقال: شنئه كسمعه و منعه شنأ مثلثة و شناءة و شنآنا و هذا أولى مراتب النهي عن المنكر، و قيل: هو مقتضى الإيمان و يجب على كل حال، و ليس داخلا في النهي عن المنكر.

" شد ظهر المؤمن"

 (1) و في النهج ظهور المؤمنين و شد الظهر كناية عن التقوية كما أن قصم الظهر كناية عن ضدها، و الأمر بالمعروف يقوى المؤمن لأنه يريد ترويج شرائع الإيمان و عسى أن لا يتمكن منه‏

" أرغم أنف المنافقين"

 (2) و في النهج أنوف المنافقين و إرغام الأنف كناية عن الإذلال، و أصله إلصاق الأنف بالرغام و هو التراب، و يطلق على الإكراه على الأمر و يقال: فعلته على رغم أنفه أي على كره منه، و الرغم مثلثة الكره، و المنكر مطلوب للمنافقين و الفساق الذين هم صنف منهم حقيقة، و النهي عن المنكر يرغم أنوفهم‏

" و من صدق في المواطن قضى الذي عليه"

 (3) و في سائر الكتب سوى الخصال: قضى ما عليه أي من الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر إذا لم يقدر على أكثر من ذلك أو من جميع التكاليف فإن الصدق في الإيمان و العقائد يقتضي العمل بجميع التكاليف فعلا و تركا أو لأنه يأتي بها لئلا يكون كاذبا إذا سئل عنها

" و من شنئ الفاسقين"

 (4) المضبوط في النهج بكسر النون، و فيه بعده:

و غضب لله غضب الله له‏

 (5) و أرضاه يوم القيامة، ثم ذكر دعائم الكفر كما سيأتي في أبواب الكفر، و الكليني فرق الخبر على الأبواب.

و لنتمم كلام المحقق البحراني و إن لم يكن فيه كثير فائدة بعد ما ذكرنا، قال بعد ما مر: و أما شعب هذه الدعائم فاعلم أنه جعل لكل دعامة منها أربع شعب من الفضائل بل تتشعب منها، و تتفرع عليها فهي كالفروع لها و الأغصان.

إما شعب الصبر الذي هو عبارة عن ملكة العفة فأحدها: الشوق إلى الجنة و محبة الخيرات الباقية، الثاني: الشفق و هو الخوف من النار و ما يؤدي إليها، الثالث: الزهد في الدنيا و هو الإعراض بالقلب عن متاعها و طيباتها، الرابع‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 322

ترقب الموت، و هذه الأربع فضائل منبعثة عن ملكة العفة لأن كلا منها يستلزمها.

و أما شعب اليقين فأحدها تبصرة الفطنة و أعمالها، الثاني: تأول الحكمة و هو تفسيرها، الثالث: موعظة العبرة، الرابع: أن يلحظ سنة الأولين حتى يصير كأنه فيهم، و هذه الأربع هي فضائل تحت الحكمة كالفروع لها و بعضها كالفروع للبعض.

و أما شعب العدل فأحدها غوص الفهم أي الفهم الغائص، فأضاف الصفة إلى الموصوف و قدمها للاهتمام بها و رسم هذه الفضيلة أنها قوة إدراك المعنى المشار إليه بلفظ أو كتابة أو إشارة و نحوها، الثاني: غور العلم و أقصاه و هو العلم بالشي‏ء كما هو بحقيقته و كنهه، الثالث: نور الحكم أي تكون الأحكام الصادرة عنه نيرة واضحة لا لبس فيها و لا شبهة، الرابع: ملكة الحلم و عبر عنها بالرسوخ لأن شأن الملكة ذلك، و الحلم هو الإمساك عن المبادرة إلى قضاء وطر الغضب فيمن يجني عليه جناية يصل مكروهها إليه.

و اعلم أن فضيلتي جودة الفهم و غور العلم و إن كانتا داخلتين تحت الحكمة و كذلك فضيلة الحلم داخلة تحت ملكة الشجاعة إلا أن العدل لما كان فضيلة موجودة في الأصول الثلاثة كانت في الحقيقة هي و فروعها شعبا للعدل، بيانه أن الفضائل كلها ملكات متوسطة بين طرف إفراط و تفريط، و توسطها ذلك هو معنى كونها عدلا فهي بأسرها شعب له و جزئيات تحته.

و أما شعب الشجاعة المعبر عنها بالجهاد فأحدها الأمر بالمعروف، و الثاني:

النهي عن المنكر، و الثالث: الصدق في المواطن المكروهة، و وجود الشجاعة في هذه الشعب الثلاث ظاهر، و الرابع: شنآن الفاسقين، و ظاهر أن بغضهم مستلزم لعداوتهم في الله، و ثوران القوة الغضبية في سبيله لجهادهم و هو مستلزم للشجاعة.

و أما ثمرات هذه الفضائل فأشار إليها للترغيب في مثمراتها، فثمرات شعب‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 323

العفة أربع: أحدها: ثمرة الشوق إلى الجنة و هو السلو عن الشهوات، و ظاهر كونه ثمرة له إذ السالك إلى الله ما لم يشتق إلى ما وعد المتقون لم يكن له صارف عن الشهوات الحاضرة مع توفر الدواعي إليها، فلم يسل عنها، الثانية: ثمرة الخوف من النار و هو اجتناب المحرمات، الثالثة: ثمرة الزهد و هي الاستهانة بالمصيبات لأن غالبها و عامها إنما يلحق بسبب فقد المحبوب من الأمور الدنيوية فمن أعرض عنها بقلبه كانت المصيبة بها هينة عنده، الرابعة: ثمرة ترقب الموت و هي المسارعة في الخيرات و العمل له و لما بعده.

و أما ثمرات اليقين فإن بعض شعبة ثمرة لبعض فإن تبين الحكمة و تعلمها ثمرات لإعمال الفطنة و الفكرة و معرفة العبر و مواقع الاعتبار بالماضين، و الاستدلال بذلك على صانع حكيم ثمرة لتبيين وجوه الحكمة و كيفية الاعتبار.

و أما ثمرات العدل فبعضها كذلك أيضا و ذلك أن جودة الفهم و غوصة مستلزم للوقوف على غور العلم و غامضة، و الوقوف على غامض العلم مستلزم للوقوف على شرائع الحكم العادل، و الصدور عنها بين الخلق من القضاء الحق.

و أما ثمرة الحلم فعدم وقوع الحليم في طرف التفريط و التقصير عن هذه الفضيلة و هي رذيلة الجبن، و أن يعيش في الناس محمودا بفضيلته.

و أما ثمرات الجهاد فأحدها ثمرة الأمر بالمعروف و هو شد ظهور المؤمنين و معاونتهم على إقامة الفضيلة، الثانية: ثمرة النهي عن المنكر و هي إرغام أنوف المنافقين و إذلالهم بالقهر عن ارتكاب المنكرات، و إظهار الرذيلة، الثالثة: ثمرة الصدق في المواطن المكروهة و هي قضاء الواجب من أمر الله تعالى في دفع أعدائه و الذب عن الحريم، و الرابعة: ثمرة بغض الفاسقين و الغضب لله و هي غضب الله لمن أبغضهم و إرضاؤه يوم القيامة في دار كرامته.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 324

باب فضل الإيمان على الإسلام و اليقين على الإيمان‏

 (1)

 (الحديث الأول)

 (2): ضعيف.

" يا أخا جعف"

 (3) أي يا جعفي و هم قبيلة من اليمن، و في المصباح هو أخو تميم أي واحد منهم، و فضل الإيمان على الإسلام إما باعتبار الولاية في الأول أو الإذعان القلبي فيه مع الأعمال أو بدونها كما مر جميع ذلك، و على أي معنى أخذت يعتبر في الإيمان ما لا يعتبر في الإسلام فهو أخص و أفضل، و كذا اليقين يعتبر فيه أعلى مراتب الجزم بحيث يترتب عليه الآثار، و يوجب فعل الطاعات و ترك المناهي، و لا يعتبر ذلك في الإيمان أي في حقيقته حتى يكون في جميع أفراده فهو أخص و أفضل أفراد الإيمان، أو يعتبر في اليقين عدم احتمال النقيض، و لا يعتبر ذلك في الإيمان مطلقا كما مر، و الأظهر أن التصديق الذي لا يحتمل النقيض تختلف مراتبه حتى يصل إلى مرتبة اليقين كما أومأنا إليه سابقا.

" و ما شي‏ء أعز من اليقين"

 (4) أي أقل وجودا في الناس منه أو أشرف منه، و الأول أظهر، إذ اليقين لا يجتمع مع المعصية لا سيما مع الإصرار عليها، و تارك ذلك نادر قليل، بل يمكن أن يدعى أن أيمان أكثر الخلق ليس إلا تقليدا و ظنا يزول بأدنى وسوسة من النفس و الشيطان، أ لا ترى أن الطبيب إذا أخبر أحدهم بأن الطعام الفلاني يضره أو يوجب زيادة مرضه أو بطوء برئه يحتمي الطعام بمحض‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 325

قول هذا الطبيب حفظا لنفسه من الضرر الضعيف المتوهم، و لا يترك المعصية الكبيرة مع إخبار الله و رسوله و أئمة الهدى عليهم السلام بأنها مهلكة و موجبة للعذاب الشديد و ليس ذلك إلا لضعف الإيمان و عدم اليقين.

 (الحديث الثاني)

 (1): ضعيف على المشهور معتبر.

و يدل على أن التقوى أفضل من الإيمان، و

التقوى‏

 (2) من الوقاية و هي في اللغة فرط الصيانة، و في العرف صيانة النفس عما يضرها في الآخرة و قصرها على ما ينفعها فيها، و لها ثلاث مراتب الأولى: وقاية النفس عن العذاب المخلد، بتصحيح العقائد الإيمانية، و الثانية: التجنب عن كل ما يؤثم من فعل أو ترك و هو المعروف عند أهل الشرع، و الثالثة: التوقي عن كل ما يشغل القلب عن الحق، و هذه درجة الخواص، من خاص الخاص.

و المراد هنا أحد المعنيين الأخيرين، و كونه فوق الإيمان بالمعنى الثالث ظاهر على أكثر معاني الإيمان التي سبق ذكرها، و إن أريد المعنى الثاني فالمراد بالإيمان إما محض العقائد الحقة أو مع فعل الفرائض و ترك الكبائر بأن يعتبر ترك الصغائر أيضا في المعنى الثاني، و قيل: باعتبار أن الملكة معتبرة فيها لا فيه، و لا يخفى ما فيه.

و كون‏

اليقين فوق التقوى‏

 (3) كأنه يعين حملها على المعنى الثاني و إلا فيشكل الفرق، لكن درجات المرتبة الأخيرة أيضا كثيرة فيمكن حمل اليقين على أعالي درجاتها، و ما قيل في الفرق: أن التقوى قد يوجد بدون اليقين كما في بعض المقلدين فهو ظاهر الفساد، إذ لا توجد هذه الدرجة الكاملة من التقوى لمن كان بناء إيمانه على الظن و التخمين.

و

قوله عليه السلام: و ما قسم للناس‏

 (4)، يدل على أن للاستعدادات الذاتية و العنايات‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 326

الإلهية مدخلا في مراتب الإيمان و اليقين كما مرت الإشارة إليه.

 (الحديث الثالث)

 (1): حسن.

و قد مر وجه هذا التشبيه في الفرق بين الإسلام و الإيمان.

 (الحديث الرابع)

 (2): مجهول.

" الإسلام درجة"

 (3) أي درجة من الدرجات أو أول درجة و هو استفهام أو خبر

" و نعم"

 (4) يقع في جوابهما

" على الإسلام"

 (5) أي مشرفا أو زائدا عليه‏

" ما أوتي الناس أقل من اليقين"

 (6) أي الإيمان أقل من سائر ما أعطي الناس من الكمالات أو هو عزيز نادر فيهم كما مر، و قيل: المعنى ما أعطى الناس شيئا قليلا من اليقين و لا يخفى بعده، و كأنه حمله على ذلك ما سيأتي.

قوله عليه السلام: بأدنى الإسلام،

 (7) كان المراد بالإسلام هنا مجموع العقائد الحقة بل مع قدر من الأعمال كما مر من اختلاف معاني الإسلام، و يحتمل أن يكون المراد بالخطاب غير المخاطب من ضعفاء الشيعة، و قيل: المراد بأدنى الإسلام أدنى الدرجات إلى الإسلام و هو الإيمان من قبيل يوسف أحسن إخوته.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 327

" أن ينفلت من أيديكم"

 (1) أي يخرج من قلوبكم فجأة فيدل على أن من لم يكن في درجة كاملة من الإيمان فهو على خطر من زواله فلا يغتر من لم يتق المعاصي بحصول العقائد له، فإنه يمكن زواله عنه بحيث لم يعلم، فإن الأعمال الصالحة و الأخلاق الحسنة حصون للإيمان تحفظه من سراق شياطين الإنس و الجان، قال الجوهري: يقال كان ذلك الأمر فلتة أي فجأة إذا لم يكن عن تدبر و لا تردد، و أفلت الشي‏ء و تفلت بمعنى، و أفلته غيره.

 (الحديث الخامس)

 (2): صحيح.

" إنما هو الإسلام"

 (3) كان الضمير راجع إلى الدين لقوله تعالى:" إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ" أو ليس أول الدخول في الدين إلا درجة الإسلام.

قوله عليه السلام: التوكل على الله،

 (4) تفسير اليقين بما ذكر من باب تعريف الشي‏ء بلوازمه و آثاره، فإنه إذا حصل اليقين في النفس بالله سبحانه و وحدانيته و علمه و قدرته و حكمته و تقديره للأشياء و تدبيره فيها و رأفته بالعباد و رحمته، يلزم التوكل عليه في أموره و الاعتماد عليه و الوثوق به، و إن توسل بالأسباب تعبدا و التسليم له في جميع أحكامه، و لخلفائه فيما يصدر عنهم، و الرضا بكل ما يقضي عليه على حسب المصالح من النعمة و البلاء و الفقر و الغناء، و العز و الذل و غيرها، و تفويض الأمر إليه في دفع شر الأعادي الظاهرة و الباطنة، أورد الأمر بالكلية إليه في جميع الأمور بحيث يرى قدرته مضمحلة في جنب قدرته، و إرادته معدومة

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 328

عند إرادته كما قال الله تعالى:" وَ ما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ" و يعبر عن هذه المرتبة بالفناء في الله.

قوله عليه السلام: هكذا" إلخ"

 (1) لما كان السائل قاصرا عن فهم حقائق هذه الصفات لم يجبه عليه السلام بالتفسير بل أكد حقيته بالرواية عن والده عليهما السلام، و قيل: استبعد الراوي كون هذه الأمور تفسيرا لليقين، فأجاب عليه السلام بأن الباقر عليه السلام كذا فسره‏

 (الحديث السادس)

 (2): صحيح و مطابق لحديث الوشاء.

قال بعض المحققين: اعلم أن العلم و العبادة جوهران لأجلهما كان كلما ترى و تسمع من تصنيف المصنفين و تعليم المعلمين و وعظ الواعظين و نظر الناظرين، بل لأجلهما أنزلت الكتب و أرسلت الرسل، بل لأجلهما خلقت السماوات و الأرض و ما فيهما من الخلق، و ناهيك لشرف العلم قول الله عز و جل:" اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَ مِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ، وَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عِلْماً" و لشرف العبادة قوله سبحانه:

" وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" فحق للعبد أن لا يشتغل إلا بهما، و لا يتعب إلا لهما، و أشرف الجوهرين العلم كما ورد: فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 329

و المراد بالعلم الدين أعني معرفة الله سبحانه و ملائكته و كتبه و رسله و اليوم الآخر قال الله عز و جل:" آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَ الْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ" و قال تعالى:" يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ الْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى‏ رَسُولِهِ وَ الْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَ مَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً" و مرجع الإيمان إلى العلم، و ذلك لأن الإيمان هو التصديق بالشي‏ء على ما هو عليه، و لا محالة هو مستلزم لتصور ذلك الشي‏ء كذلك بحسب الطاقة، و هما معنى العلم، و الكفر ما يقابله و هو بمعنى الستر و الغطاء، و مرجعه إلى الجهل، و قد خص الإيمان في الشرع بالتصديق بهذه الخمسة و لو إجمالا، فالعلم بها لا بد منه، و إليه الإشارة بقوله صلى الله عليه و آله و سلم: طلب العلم فريضة على كل مسلم و مسلمة، و لكن لكل إنسان بحسب طاقته و وسعه، لا يكلف الله نفسا إلا وسعها، فإن العلم و الإيمان درجات مترتبة في القوة و الضعف و الزيادة و النقصان، بعضها فوق بعض، كما دلت عليه الأخبار الكثيرة.

و ذلك لأن الإيمان إنما يكون بقدر العلم الذي به حياة القلب و هو نور يحصل في القلب بسبب ارتفاع الحجاب بينه و بين الله جل جلاله." اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ"" أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها" و ليس العلم بكثرة التعلم إنما هو نور يقذفه الله في قلب من يريد أن يهديه، و هذا النور قابل للقوة و الضعف و الاشتداد و النقص كسائر الأنوار." وَ إِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً"" وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً" كلما ارتفع حجاب ازداد نور فيقوى الإيمان‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 330

و يتكامل إلى أن ينبسط نور فينشرح صدره و يطلع على خلق الأشياء و تجلى له الغيوب و يعرف كل شي‏ء في موضعه، فيظهر له صدق الأنبياء عليهم السلام في جميع ما أخبروا عنه إجمالا و تفصيلا على حسب نوره، و بمقدار انشراح صدره، و ينبعث من قلبه داعية العمل بكل مأمور، و الاجتناب عن كل محظور فيضاف إلى نور معرفته أنوار الأخلاق الفاضلة و الملكات الحميدة" نُورُهُمْ يَسْعى‏ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمانِهِمْ"" نُورٌ عَلى‏ نُورٍ" و كل عبادة تقع على وجهها تورث في القلب صفاء يجعله مستعدا لحصول نور فيه و انشراح و معرفة و يقين، ثم ذلك النور و المعرفة و اليقين تحمله على عبادة أخرى و إخلاص آخر فيها يوجب نورا آخر و انشراحا أتم و معرفة أخرى و يقينا أقوى، و هكذا إلى ما شاء الله جل جلاله، و على كل من ذلك شواهد من الكتاب و السنة.

ثم اعلم أن أوائل درجات الإيمان تصديقات مشوبة بالشكوك و الشبه على اختلاف مراتبها، و يمكن معها الشرك" وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَ هُمْ مُشْرِكُونَ" و عنها يعبر بالإسلام في الأكثر" قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَ لَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ" و أواسطها تصديقات لا يشوبها شك و لا شبهة" الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا" و أكثر إطلاق الإيمان عليها خاصة" إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَ إِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَ عَلى‏ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ" و أواخرها تصديقات كذلك مع كشف و شهود و ذوق و عيان، و محبة كاملة لله سبحانه، و شوق تام إلى حضرته المقدسة يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ، أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ.، لا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ، ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 331

مَا اتَّقَوْا وَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَ آمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَ أَحْسَنُوا وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ" و إلى مقابلاته التي هي مراتب الكفر الإشارة بقوله جل و عز:

" إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا" فنسبة الإحسان و اليقين إلى الإيمان كنسبة الإيمان إلى الإسلام، و لليقين ثلاث مراتب علم اليقين و عين اليقين و حق اليقين" كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ" أن هذا لهو حق اليقين.

و الفرق بينها إنما ينكشف بمثال فعلم اليقين بالنار مثلا هو مشاهدة المرئيات بتوسط نورها، و عين اليقين بها هو معاينة جرمها، و حق اليقين بها الاحتراق فيها، و انمحاء الهوية بها و الصيرورة نارا صرفا و ليس وراء هذا غاية، و لا هو قابل للزيادة، لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا.

باب حقيقة الإيمان و اليقين‏

 (1)

 (الحديث الأول)

 (2): مجهول و قد مر مضمونه بسند صحيح قبل ذلك بورقة.

" بينا رسول الله"

 (3) بينا هي بين الظرفية أشبعت فتحتها فصارت ألفا و يقع بعدها حينئذ إذ الفجائية غالبا، و عاملها محذوف يفسره الفعل الواقع بعد إذ عند بعض،

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 332

و بعضهم يجعلها خبرا عن مصدر مسبوك من الفعل، أي بين أوقات سفره لقاء الركب،

و الركب‏

 (1) جمع راكب كصحب و صاحب.

" فقال ما أنتم"

 (2) أي أي صنف أنتم من الناس؟ قيل: كما أن ما تكون سؤالا عن حقيقة الشي‏ء يكون سؤالا عن خواصه و آثاره المترتبة عليه، و هو المراد هنا فلذلك أجابوا بها

" فقالوا نحن مؤمنون"

 (3) انتهى.

و قال الراغب في معاني" ما" الثالث: الاستفهام، و يسأل به عن جنس ذات الشي‏ء و نوعه، و عن جنس صفات الشي‏ء و نوعها، و قد يسأل به عن الأشخاص و الأعيان في غير الناطقين، انتهى.

" فما حقيقة إيمانكم"

 (4) لما كانت للإيمان حقائق مختلفة و درجات متفاوتة سألهم صلى الله عليه و آله و سلم عن حقيقة الإيمان الذي يدعونه فأجابوا بلوازمه و آثاره ليظهر حقيقة ما ادعوه، أو المراد بالحقيقة ما يحقه و يثبته أي الإيمان أمر قلبي إنما يثبت بآثاره، فما ظهر من آثار إيمانكم ليدل على ثبوته في قلوبكم، و المعنى الأول أنسب بما مر من مضمون هذا الخبر، حيث قال: و ما بلغ من إيمانكم، فإن الظاهر اتحاد الواقعة، و

التفويض إلى الله‏

 (5) هنا التوكل عليه في جميع الأمور.

 (الحديث الثاني)

 (6): موثق.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 333

" فنظر إلى شاب"

 (1) كأنه الحارثة الآتي في الخبر الثاني‏

" و هو يخفق و يهوي برأسه"

 (2) للنعاس بكثرة العبادة في الليل في القاموس: خفقت الراية ينخفق و تخفق و خفقا و خفقانا محركة اضطربت و تحركت، و فلان حرك رأسه إذا نعس كأخفق و قال: هوى هويا سقط من علو إلى سفل، انتهى.

فقوله: و يهوي برأسه كالتفسير لقوله: يخفق، أو مبالغة في الخفق إذ يكفي فيه الحركة القليلة و

نحف‏

 (3) كتعب و قرب نحافة: هزل‏

" كيف أصبحت"

 (4) أي على أي حال دخلت في الصباح، أو كيف صرت‏

" فعجب رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم"

 (5) كتعب أي تعجب منه لندرة مثل ذلك، أو أعجبه و سر به قال الراغب: العجب و التعجب حالة تعرض للإنسان عند الجهل بسبب الشي‏ء و لهذا قال بعض الحكماء: العجب ما لا يعرف سببه و لهذا قيل: لا يصح على الله التعجب إذ هو علام الغيوب، و يقال: لما لا يعهد مثله عجب، قال تعالى:" أَ كانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا"" كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً"" إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً" أي لم نعهد مثله و لم نعرف سببه، و يستعار تارة للمؤنق فيقال أعجبني كذا أي راقني، و قال تعالى:" وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ".

" إن لكل يقين"

 (6) أي فرد من أفراده أو صنف من أصنافه‏

" حقيقة فما حقيقة يقينك"

 (7) من أي نوع أو صنف، أو لكل يقين علامة تدل عليه فما علامة يقينك كما مر

" هو الذي أحزنني"

 (8) أي في أمر الآخرة

" و أسهر ليلي"

 (9) لحزن الآخرة أو

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 334

للاستعداد لها، أو لحب عبادة الله و مناجاته: عجبا للمحب كيف ينام، و الإسناد مجازي أي أسهرني في ليلي و كذا في‏

قوله:" و أظمأ هواجري"

 (1) مجاز عقلي أي أظمأني عند الهاجرة و شدة الحر للصوم في الصيف، و إنما خصه لأنه أشق و أفضل، في القاموس: الهاجرة نصف النهار عند زوال الشمس مع الظهر أو من عند زوالها إلى العصر لأن الناس يستكنون في بيوتهم كأنهم قد تهاجروا، و شدة الحر.

و قال: عزفت نفسي‏

 (2) عنه تعزف عزوفا زهدت فيه و انصرفت عنه، أو ملته.

" حتى كأني أنظر"

 (3) أي شدة اليقين بأحوال الآخرة صيرني إلى حالة المشاهدة،

و الاصطراخ‏

 (4) الاستغاثة

و زفير النار

 (5) صوت توقدها، في القاموس: زفر يزفر زفرا و زفيرا أخرج نفسه بعد مده إياه، و النار سمع لتوقدها صوت.

و قال: المسمع‏

 (6) كمنبر الأذن كالسامعة و الجمع مسامع، انتهى.

و قيل: المسامع جمع على غير قياس كمشابه و ملامح جمع شبه و لمحة، و قال بعض المحققين: هذا التنوير الذي أشير به في الحديث إنما يحصل بزيادة الإيمان و شدة اليقين فإنهما ينتهيان بصاحبهما إلى أن يطلع على حقائق الأشياء، محسوساتها و معقولاتها فتنكشف له حجبها و أستارها، فيعرفها بعين اليقين على ما هي عليه من غير وصمة ريب أو شائبة شك فيطمئن لها قلبه و يستريح بها روحه، و هذه هي الحكمة الحقيقة التي من أوتيها فقد أوتي خيرا كثيرا.

و إليه أشار أمير المؤمنين بقوله: هجم بهم العلم على حقائق الأمور، و باشروا رواح اليقين، و استلانوا ما استوعره المترفون، و أنسوا بما استوحش منه الجاهلون،

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 335

و صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالملأ الأعلى.

أراد عليه السلام بما استوعره المترفون يعني المتنعمون رفض الشهوات البدنية و قطع التعلقات الدنيوية و ملازمة الصمت و السهر و الجوع و المراقبة، و الاحتراز عما لا يعني و نحو ذلك، و إنما يتيسر ذلك بالتجافي عن دار الغرور، و الترقي إلى عالم النور، و الأنس بالله و الوحشة عما سواه، و صيرورة الهموم جميعا هما واحدا، و ذلك لأن القلب مستعد لأن يتجلى فيه حقيقة الحق في الأشياء كلها من اللوح المحفوظ الذي هو منقوش بجميع ما قضى الله تعالى به إلى يوم القيامة و إنما حيل بينه و بينها حجب كنقصان في جوهرة أو كدورة تراكمت عليه من كثرة الشهوات أو عدول به عن جهة الحقيقة المطلوبة، أو اعتقاد سبق إليه و رسخ فيه على سبيل التقليد و القبول بحسن الظن، أو جهل بالجهة التي منها يقع العثور على المطلوب، و إلى بعض هذه الحجب أشير في الحديث النبوي: لو لا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماء.

 (الحديث الثالث)

 (1): ضعيف على المشهور لا يقصر عن الصحيح عندي.

" مؤمن حقا"

 (2) قوله: حقا مؤكد كقولهم: هذا عبد الله حقا، و الحاصل أني مؤمن حق الإيمان، و كما ينبغي أن يكون المؤمن‏

" فأسهرت ليلي"

 (3) على صيغة

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 336

الغيبة بإرجاع الضمير إلى النفس أو على صيغة التكلم، و كذا الفقرة التالية تحتمل الوجهين، و

يقال: تزاوروا

 (1) أي زار بعضهم بعضا، و قال في النهاية في حديث حارثة:

كأني أسمع عواء أهل النار،

 (2) أي صياحهم و العواء صوت السباع و كأنه بالذئب و الكلب أخص، و في القاموس: عوى يعوي عيا و عواءا بالضم لوى خطمه ثم صوت أو مد صوته و لم يفصح.

و قال: السرية

 (3) من خمسة أنفس إلى ثلاثمائة أو أربعمائة، و في الصحاح:

السرية قطعة من الجيش.

قوله: و في رواية القاسم بن يزيد،

 (4) يحتمل الإرسال أو يكون الراوي عنه ابن سنان، فيكون بحكم السند السابق.

ثم اعلم أن هاتين الروايتين تدلان على أن حارثة استشهد في زمن الرسول صلى الله عليه و آله و سلم و قال بعضهم: و ينافيه ما ذكر الشيخ في رجاله حيث قال: حارثة بن نعمان الأنصاري كنيته أبو عبد الله شهد بدرا و أحدا و ما بعدهما من المشاهد، و ذكر هو أنه رأى جبرئيل عليه السلام دفعتين على صورة دحية الكلبي أو لهما حين خرج رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم إلى بني قريظة، و الثاني حين رجع من حنين، و شهد مع أمير المؤمنين عليه السلام القتال، و توفي في زمن معاوية، انتهى.

و هو خطاء لأن المذكور في الخبر حارثة بن مالك و جده النعمان، و ما ذكره الشيخ حارثة بن النعمان و هو غيره، و العجب أن هذا الحديث مذكور في‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 337

كتب العامة أيضا كما يظهر من النهاية، و هذا الرجل غير مذكور في رجالهم و كأنه لعدم الرواية عنه كما أن أصحابنا أيضا لم يذكروه لذلك.

 (الحديث الرابع)

 (1): ضعيف على المشهور.

و يمكن أن يكون المراد

بالحقيقة

 (2) الدليل العقلي و

بالنور

 (3) الدليل النقلي من الكتاب و السنة، أو يكون المراد بالحقيقة العلامة الدالة على وجوده كما مر، و بالنور الدلائل الدالة على المسائل الأصولية و الفروعية، عقلية كانت أو نقلية، و يحتمل أن يكون المراد بالنور الآيات القرآنية فالمراد بالحقيقة السنة أو الأعم منها و من الدلائل العقلية لأنه قد مضى هذا الخبر بهذا السند في باب الأخذ بالسنة و شواهد الكتاب، و له تتمة و هي قوله: فما وافق كتاب الله فخذوه و ما خالف كتاب الله فدعوه.

و قيل: المراد بالحق ظاهر الشريعة و بالحقيقة باطنه و غايته و ماله و ما به كماله، كما قيل: ينقسم ما جاء به الشارع إلى شريعة و حقيقة فالشريعة ظاهر ما ورد به النقل، و الحقيقة باطنه و هو بين العبد و بين الله، فحكم الشريعة على الظاهر و حكم الحقيقة على الباطن كما روى عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم نحن نحكم بالظاهر، و الله يتولى السرائر، فكل عبادة ظاهرة إن لم تصدر عن حقيقة باطنة كأعمال المنافقين و المرائين فهي باطلة، و كالتقوى فإن أوله حق يشمل عوام المؤمنين، و له حقيقة و غاية يبلغها خواص الأولياء و كذلك الأيمان فإن أوله حق و به يخرج عن الكفر و له حقيقة و غاية هي كماله يبلغها خواص المؤمنين.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 338

و بالجملة الحق في كل شي‏ء بمنزلة القشر و الحقيقة بمنزلة اللب، و إنما قال: على كل حق، و لم يقل لكل حق للتنبيه بالاستعلاء على أن حقيقة كل شي‏ء مرتفع على حقه و مستول عليه إذ هو المقصود منه و لمجانسة قوله: و على كل صواب نورا، و

الصواب‏

 (1) ضد الخطإ أي على كل صواب من قول أو فعل أو عقد برهان يحققه، و دليل يصدقه، و إنما سمي نورا لأنه سبب ظهوره.

باب التفكر

 (2)

 (الحديث الأول)

 (3): ضعيف على المشهور.

و التنبيه‏

 (4) الإيقاظ عن النوم و عن الغفلة، و في القاموس النبه بالضم الفطنة و القيام من النوم، و أنبهه و نبهه فتنبه و انتبه و هذا منبهة على كذا يشعر به، و لفلان مشعر بقدره و معل له، و ما نبه له كفرح: ما فطن و الاسم النبه بالضم، و نبه باسمه تنبيها نوه، انتهى.

و التفكر

 (5) إعمال الفكر فيما يفيد العلم به قوة الإيمان و اليقين، و الزهد في الدنيا و الرغبة في الآخرة، قال الغزالي: حقيقة التفكر طلب علم غير بديهي من مقدمات موصلة إليه كما إذا تفكر إن الآخرة باقية و الدنيا فانية، فإنه يحصل له العلم بأن الآخرة خير من الدنيا، و هو يبعثه على العمل للآخرة فالتفكر سبب لهذا العلم، و هذا العلم حالة نفسانية و هو التوجه إلى الآخرة و هذه الحالة تقتضي العمل لها، و قس على هذا فالتفكر موجب لتنور القلب و خروجه من الغفلة،

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 339

و أصل لجميع الخيرات.

و قال المحقق الطوسي قدس سره: التفكر سير الباطن من المبادئ إلى المقاصد و هو قريب من النظر و لا يرتقي أحد من النقص إلى الكمال إلا بهذا السير و مباديه الآفاق و الأنفس بأن يتفكر في أجزاء العالم و ذراته و في الأجرام العلوية من الأفلاك و الكواكب و حركاتها و أوضاعها و مقاديرها و اختلافاتها و مقارناتها و مفارقاتها و تأثيراتها و تغييراتها و في الأجرام السفلية و ترتيبها و تفاعلها و كيفياتها و مركباتها و معدنياتها و حيواناتها، و في أجزاء الإنسان و أعضائه من العظام و العضلات و العصبات و العروق و غيرها مما لا يحصى كثرة، و يستدل بها و بما فيها من المصالح و المنافع و الحكم و التغيير على كمال الصانع و عظمته و علمه و قدرته، و عدم ثبات ما سواه.

و بالجملة التفكر فيما ذكر و نحوه من حيث الخلق و الحكمة و المصالح أثره العلم بوجود الصانع و قدرته و حكمته، و من حيث تغييره و انقلابه و فنائه بعد وجوده أثره الانقطاع منه و التوجه بالكلية إلى الخالق الحق، و من هذا القبيل التفكر في أحوال الماضين و انقطاع أيديهم عن الدنيا و ما فيها، و رجوعهم إلى دار الآخرة فإنه يوجب قطع المحبة عن غير الله و الانقطاع إليه بالتقوى و الطاعة، و لذا أمر بهما بعد الأمر بالتفكر، و يمكن تعميم التفكر بحيث يشمل التفكر في معاني الآيات القرآنية و الأخبار النبوية و الآثار المروية عن الأئمة عليهم السلام، و المسائل الدينية و الأحكام الشرعية، و بالجملة كلما أمر الشارع الصادق بالخوض فيه و العلم به.

قوله عليه السلام: و جاف عن الليل جنبك،

 (1) الجفاء البعد، و جاف عنه كذا أي باعده عنه، في الصحاح: جفا السرج عن ظهر الفرس و أجفيته أنا إذا رفعته عنه، و جافاه عنه فتجافى جنبه عن الفراش أي نبأ، انتهى.

و قال سبحانه:" تَتَجافى‏ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ" و إسناد المجافاة إلى الليل مجاز في الإسناد، أي جاف عن الفراش بالليل أو فيه تقدير مضاف أي جاف عن فراش‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 340

الليل جنبك، و على التقادير كناية عن القيام بالليل للعبادة، و قد مر معنى التقوى و التوصيف بالرب للتعليل.

 (الحديث الثاني)

 (1): مرسل.

" خير من قيام ليلة"

 (2) أي للعبادة لأن التفكر من أعمال القلب و هو أفضل من أعمال الجوارح، و أيضا أثره أعظم و أدوم، إذ ربما صار تفكر ساعة سببا للتوبة عن المعاصي، و لزوم الطاعة تمام العمر.

" يمر بخربة"

 (3) كأنه عليه السلام ذكر ذلك على سبيل المثال لتفهيم السائل أو قال ذلك على قدر فهم السائل و رتبته فإنه كان قابلا لهذا النوع من التفكر، و المراد بالدار ما لم تخرب لكن مات من بناها و سكنها غيره، و بالخربة ما خرب و لم يسكنه.

أحد، و كون الترديد من الراوي كما زعم بعيد، و يحتمل أن يكون: أين ساكنوك؟

للخربة و أين بانوك؟ للدار على اللف و النشر المرتب، لكن كونهما لكل منهما أظهر، و الظاهر أن القول بلسان الحال، و يحتمل المقال،

و قوله: ما لك لا تتكلمين؟

 (4) بيان لغاية ظهور الحال أي العبرة فيك بينة بحيث كان ينبغي أن تتكلم بذلك، و قيل:

هو من قبيل ذكر اللازم و إرادة الملزوم، فنفي التكلم كناية عن نفي الاستماع أي لم لا يسمع الغافلون ما تتكلم به بلسان الحال جهرا أو قيل: استفهام إنكاري أي أنت تتكلمين لكن الغافلون لا يستمعون و هو بعيد، و يمكن أن يكون كلامها كناية عن تنبيه الغافلين أي لم تنتبه المغرورين بالدنيا مع هذه الحالة الواضحة، و يؤول إلى تعبير الجاهلين بعدم الاتعاظ به كما أنه يقول رجل لوالد رجل فاسق بحضرته:

لم لا تعظ ابنك؟ مع أنه يعلم أنه يعظه و إنما يقول ذلك تعييرا للابن.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 341

 (الحديث الثالث)

 (1): مرسل كالصحيح فإنه يقال مراسيل البزنطي في حكم المسانيد.

و الإدمان‏

 (2) الإدامة و

قوله عليه السلام: و في قدرته،

 (3) كأنه عطف تفسير لقوله: في الله، فإن التفكر في ذات الله و كنه صفاته ممنوع كما مر في الأخبار في كتاب التوحيد، لأنه يورث الحيرة و الدهش و اضطراب العقل، فالمراد بالتفكر في الله النظر إلى أفعاله و عجائب صنعه و بدائع أمره في خلقه، فإنها تدل على جلاله و كبريائه و تقدسه و تعاليه، و تدل على كمال علمه و حكمته، و على نفاذ مشيته و قدرته و إحاطته بالأشياء، و أنه سبحانه لكمال علمه و حكمته لم يخلق هذا الخلق عبثا من غير تكليف و معرفة و ثواب و عقاب فإنه لو لم تكن نشأة أخرى باقية غير هذه النشأة الفانية المحفوفة بأنواع المكاره و الآلام لكان خلقها عبثا كما قال تعالى:" أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَ أَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ".

و هذا تفكر أولي الألباب كما قال تعالى:" إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ، الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى‏ جُنُوبِهِمْ وَ يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ" و قال سبحانه وَ مِنْ آياتِهِ، وَ مِنْ آياتِهِ، في مواضع كثيرة فتلك الآيات هي مجاري التفكر في الله و في قدرته لأولي النهي لا ذاته تعالى، فقد روي عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم إنما قال: تفكروا في آلاء الله فإنكم لن تقدروا قدره.

 (الحديث الرابع)

 (4): صحيح.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 342

" ليس العبادة كثرة الصلاة"

 (1) أي ليست منحصرة فيها

" إنما العبادة"

 (2) أي الكاملة

" التفكر في أمر الله"

 (3) بالمعاني المتقدمة، و قد يقال: المراد بالتفكر في أمر الله طلب العلم بكيفية العمل و آدابه و شرائطه، و العبادة بدونه باطلة، فالحاصل أن كثرة الصلاة و الصوم بدون العلم بشرائطهما و كيفياتهما و أحكامهما ليست عبادة.

و أقول: يحتمل أن يكون المعنى أن كثرة الصلاة و الصوم بدون التفكر في معرفة الله و معرفة رسوله و معرفة أئمة الهدى كما يصنعه المخالفون غير مقبولة و موجبة للبعد عن الحق.

 (الحديث الخامس)

 (4): ضعيف.

" التفكر يدعو إلى البر"

 (5) كان التفكر الوارد في هذا الخبر شامل لجميع التفكرات الصحيحة التي أشرنا إليها كالتفكر في عظمة الله فإنه يدعو إلى خشيته و طاعته، و التفكر في فناء الدنيا و لذاتها فإنها يدعو إلى تركها، و التفكر في عواقب من مضى من الصالحين فيدعو إلى اقتفاء آثارهم، و في ما آل إليه أمر المجرمين فيدعو إلى اجتناب أطوارهم، و في عيوب النفس و آفاتها فيدعو إلى الإقبال على إصلاحها، و في أسرار العبادة و غاياتها فيدعو إلى السعي في تكميلها و رفع النقص عنها، و في رفعة درجات الآخرة فيدعو إلى تحصيلها، و في مسائل الشريعة فيدعو إلى العمل بها في مواضعها، و في حسن الأخلاق الحسنة فيدعو إلى تحصيلها، و في قبح الأخلاق السيئة و سوء آثارها فيدعو إلى تجنبها، و في نقص أعماله و معائبها فيدعو إلى السعي في إصلاحها، و في سيئاته و ما يترتب عليها من العقوبات و البعد عن الله‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 343

و الحرمان عن السعادات فيدعوه إلى الانتهاء عنها و تدارك ما أتى به بالتوبة و الندم، و في صفات الله و أفعاله من لطفه بعباده و إحسانه إليه بسوابغ النعماء و بسط الآلاء و التكليف دون الطاقة و الوعد لعمل قليل بثواب جزيل، و تسخيره له ما في السماوات و الأرض و ما بينهما. إلى غير ذلك فيدعوه إلى البر و العمل به، و الرغبة في الطاعات و الانتهاء عن السيئات، و بالمقايسة إلى ما ذكرنا يظهر آثار سائر التفكرات، و الله الموفق للخيرات.

باب المكارم‏

 (1)

 (الحديث الأول)

 (2): مجهول.

و في الخصال و مجالس الشيخ و المفيد عن الحسن بن عطية، فالحديث حسن كالصحيح و هو الظاهر.

و في القاموس: الكرم محركة ضد اللؤم، كرم بضم الراء كرامة فهو كريم و مكرمة و أكرمه و كرمه عظمه و نزهة، و الكريم الصفوح و المكرم و المكرمة بضم رأيهما فعل الكرم، و أرض مكرمة كريمة طيبة، انتهى.

و المكارم‏

 (3) جمع المكرمة أي الأخلاق و الأعمال الكريمة الشريفة التي توجب كرم المرء و شرافته.

" فإن استطعت"

 (4) يدل على أن تحصيل تلك الصفات أو كمالها لا يتيسر لكل أحد فإنها من العنايات الربانية و المواهب السبحانية التابعة للطينات الحسنة الطيبة، و بين عليه السلام ذلك بقوله. فإنها تكون في الرجل‏

و لا تكون في ولده‏

 (5) مع‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 344

شدة المناسبة و الخلطة و المعاشرة بينهما، و كذا العكس، و لا مدخل للشرافة النسبية في ذلك و لا الكرامة الدنيوية و بين عليه السلام ذلك‏

بقوله: و تكون في العبد،" إلخ".

 (1) فإن قيل: إذا كانت هذه الصفات من المواهب الربانية فلا اختيار للعباد فيها، فلا يتصور التكليف بها و المذمة على تركها؟ قلت: يمكن أن يجاب عنه بوجهين: الأول: أن يكون المراد بالاستطاعة بسهولة التحصيل، لا القدرة و الاختيار، و تكون العناية الإلهية سببا لسهولة الأمر لا التمكن منه، الثاني: أن تكون الاستطاعة في المستحبات كإقراء الضيف و إطعام السائل و التذمم و الحياء لا في الواجبات كصدق اللسان و أداء الأمانة.

قوله عليه السلام: صدق البأس،

 (2) في بعض نسخ الكتاب و مجالس الشيخ و غيره بالياء المثناة التحتانية، و في بعضها بالباء الموحدة.

فعلى الأول المراد به اليأس عما في أيدي الناس و قصر النظر على فضله تعالى و لطفه، و المراد بصدقه عدم كونه بمحض الدعوى من غير ظهور آثاره، إذ قد يطلق الصدق في غير الكلام من أفعال الجوارح، فيقال: صدق في القتال إذا و في حقه و فعل على ما يجب و كما يجب، و كذب في القتال إذا كان بخلاف ذلك، و قد يطلق على مطلق الحسن نحو قوله تعالى:" مَقْعَدِ صِدْقٍ" و" قَدَمَ صِدْقٍ".

و على الثاني المراد بالبأس أما الشجاعة و الشدة في الحرب و غيره، أي الشجاعة الحسنة الصادقة في الجهاد في سبيل الله، و إظهار الحق و النهي عن المنكر، أو من البؤس و الفقر كما قيل: أريد بصدق البأس موافقة خشوع ظاهره و إخباته لخشوع باطنه و إخباته لا يرى التخشع في الظاهر أكثر مما في باطنه، انتهى.

و هو بعيد عن اللفظ إذ الظاهر حينئذ البؤس بالضم و هو خلاف المضبوط من‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 345

الرسم، قال في القاموس: البأس العذاب و الشدة في الحرب، بؤس ككرم بأسا فهو بئيس شجاع، و بئس كسمع بؤسا اشتدت حاجته، و التباؤس التفاقر و أن يرى تخشع الفقراء إخباتا و تضرعا، انتهى.

و كأنه أخذه من المعنى الأخير و لا يخفى ما فيه، و قال بعضهم: صدق البأس أي الخوف أو الخضوع أو الشدة و الفقر و منه" الْبائِسَ الْفَقِيرَ" أو القوة و صدق الخوف من المعصية بأن يتركها، و من التقصير في العمل بأن يسعى في كماله، و من عدم الوصول إلى درجة الأبرار بأن يسعى في اكتساب الخيرات، و صدق الخضوع بأن يخضع لله لا لغيره، و صدق الفقر بأن يترك عن نفسه هواها و متمنياتها، و صدق القوة بأن يصرفها في الطاعات، انتهى.

و في أكثرها تكلف مستغنى عنه.

" و أداء الأمانة"

 (1) الأمانة ضد الخيانة و ما يؤتمن عليه و كأنها تعم المال و العرض و السر و غيرها من حقوق الله و حقوق النبي و الأئمة عليهم السلام و سائر الخلق، كما قال تعالى:" إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى‏ أَهْلِها" و قد فسرت الأمانة في هذه الآية و غيرها بالودائع و التكاليف، و الإمامة و الخلافة في أخبار كثيرة مر بعضها.

و في النهاية قد تكرر في الحديث ذكر

صلة الرحم‏

 (2) و هي كناية عن الإحسان إلى الأقربين من ذوي النسب و الأصهار و التعطف عليهم و الرفق بهم و الرعاية لأحوالهم، و كذلك إن بعدوا و أساءوا، و قطع الرحم ضد ذلك كله، يقال: وصل رحمه يصلها وصلا و صلة، و الهاء فيها عوض من الواو المحذوفة، فكأنه بالإحسان إليهم وصل ما بينه و بينهم من علاقة القرابة و الصهر، انتهى.

و شمولها للأصهار لا يخلو من نظر و إن كان حسنا.

" و إقراء الضيف"

 (3) كذا في نسخ الكتاب و غيره إلا في رواية أخرى رواها الشيخ‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 346

في المجالس موافقة المضامين لهذه الرواية فإن فيها قرى الضيف و هو أظهر و أوفق لما في كتب اللغة، في القاموس: قرى الضيف قرى بالكسر و القصر، و الفتح و المد أضافه و استقري و اقترى و أقرئ طلب ضيافة، انتهى.

لكن قد نرى كثيرا من الأبنية مستعملة في الأخبار و العرف العام و الخاص لم يتعرض لها اللغويون، و قد يقال: الأفعال هنا للتعريض نحو أباع البعير، و قيل:

إقراء الضيف طلبه للضيافة و لم أدر من أين أخذه، و كأنه أخذه من آخر كلام الفيروزآبادي، و لا يخفى ما فيه.

و القرى و الإطعام إما مختصان بالمؤمن أو بالمسلم مطلقا كما يدل عليه بعض الأخبار و إن كان يأباه بعضها أو الأعم منه و من الكفار كما اشتهر على الألسن:

أكرم الضيف و لو كان كافرا، و أما الحربي فالظاهر العدم، ثم هما يتفاوتان في الفضل بحسب تفاوت نية القاري أو المطعم و احتياجهما و استحقاق الضيف أو السائل و صلاحهما، و الغالب استحبابهما و قد يجبان عند خوف هلاك الضيف و السائل.

و المكافاة على الصنائع‏

 (1) أي المجازات على الإحسان، في القاموس: كافأه مكافأة و كفاء جازاه، و في النهاية: الاصطناع افتعال من الصنيعة و هي العطية و الكرامة و الإحسان، و لعلها من المستحبات و الآداب لجواز الأخذ من غير عوض لما رواه إسحاق بن عمار قال: قلت له: الرجل يهدي إلى الهدية يتعرض لما عندي فآخذها و لا أعطيه شيئا؟ قال: نعم هي لك حلال و لكن لا تدع أن تعطيه، و هذا هو الأشهر الأقوى.

و عن الشيخ أن مطلق الهبة يقتضي الثواب و مقتضاه لزوم بذله و إن لم يطلبه الواهب و هو بعيد، و عن أبي الصلاح أن هبة الأدنى للأعلى يقتضي الثواب فيعوض عنها بمثلها و لا يجوز التصرف فيها ما لم يعوض، و الأظهر خلافه.

نعم إن اشترط الواهب على المتهب العوض و عينه لزم و إن أطلق و لم يتفقا على‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 347

شي‏ء فالظاهر أنه يلزم المتهب مثل الموهوب أو قيمته إن أراد اللزوم، و هل يهب على المتهب الوفاء بالشرط أو له التخيير فيه و في رد العين؟ فيه قولان.

و في النهاية

التذمم للصاحب‏

 (1) هو أن يحفظ ذمامه و يطرح عن نفسه ذم الناس له إن لم يحفظه، و في القاموس تذمم استنكف يقال: لو لم أترك الكذب تأثما لتركته تذمما، و الحاصل أن يدفع الضرر عمن يصاحبه سفرا أو حضرا و عمن يجاوره في البيت أو في المجلس أيضا، أو من أجاره و آمنه خوفا من اللوم و الذم لكنه مقيد بما إذا لم ينته إلى الحمية و العصبية بأن يرتكب المعاصي لإعانته.

في القاموس: الجار المجاور، و الذي أجرته من أن يظلم، و المجير و المستجير و الحليف‏

" و رأسهن الحياء"

 (2) لأن جميع ما ذكر إنما يحصل و يتم بالحياء من الله أو من الخلق، فهي بالنسبة إليها كالرأس من البدن، و الحياء انقباض النفس عن القبائح و تركها لذلك.

 (الحديث الثاني)

 (3): موثق و آخره مرسل.

و الخلق‏

 (4) بالضم ملكة للنفس يصدر عنها الفعل بسهولة، و منها ما تكون خلقية و منها ما تكون كسبية بالتفكر و المجاهدة و الممارسة و تمرين النفس عليها، فلا ينافي وقوع التكليف بها كما أن البخيل يعطي أولا بمشقة و مجادلة للنفس ثم يكرر ذلك حتى يصير خلقا و عادة له، و المراد بتخصيص الرسل بها أن الفرد الكامل منها مقصورة عليهم أو هم مقصورون عليها دون أضدادها، فإن الباء قد تدخل على المقصور كما هو المشهور و قد تدخل على المقصور عليه، أو المعنى خص الرسل بإنزال المكارم عليهم و أمرهم بتبليغها كما روي عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم: بعثت لأتمم مكارم الأخلاق‏

" و اعلموا أن‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 348

ذلك من خير"

 (1) أي من خير عظيم أراد الله بكم أو علم الله فيكم من صفاء طينتكم أو من عمل خير أو نية خير صدر عنكم فاستحققتم أن يتفضل عليكم بذلك. أو اعلموا أن ذلك من توفيق الله سبحانه، و لا يمكن تحصيل ذلك إلا به، أو عدوه من الخيرات العظيمة أو خص رسله من بين سائر الخلق بالنبوة و الرسالة و الكرامة بسبب مكارم الأخلاق التي علمها فيهم.

و اليقين‏

 (2) أعلى مراتب الإيمان بحيث يبعث على العمل بمقتضاه كما مر.

و القناعة

 (3) الاجتزاء باليسير من الأعراض المحتاج إليها يقال: قنع يقنع قناعة إذا رضي، و الأظهر عندي أنها الاكتفاء بما أعطاه الله تعالى و عدم طلب الزيادة منه قليلا كان أم كثيرا.

و الصبر

 (4) هو حبس النفس عن الجزع عند المصيبة و عن ترك الطاعة لمشقتها و عن ارتكاب المعصية لغلبة شهوتها.

و الشكر

 (5) مكافأة نعم الله في جميع الأحوال باللسان و الجنان و الأركان.

و الحلم‏

 (6) ضبط النفس عن المبادرة إلى الانتقام فيما يحسن لا مطلقا.

و حسن الخلق‏

 (7) هو المعاشرة الجميلة مع الناس بالبشاشة و التودد و التلطف و الإشفاق و احتمال الأذى عنهم.

و السخاء

 (8) هو بذل المال بسهولة على قدر لا يؤدي إلى الإسراف في موضعه، و أفضله ما كان بغير سؤال.

و الغيرة

 (9) الحمية في الدين و ترك المسامحة فيما يرى في نسائه و حرمه من القبائح، لا تغير الطبع بالباطل و الحمية فيه، و القتل و الضرب بالظن من غير ثبوت شي‏ء عليه شرعا و أمثال بذلك.

و الشجاعة

 (10) الجرأة في الجهاد مع أعادي الدين مع تحقق شرائطه، و الأمر

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 349

بالمعروف و النهي عن المنكر، و مجاهدة النفس و الشيطان.

و المروءة

 (1) بالهمز و قد يشدد الواو بتخفيف الهمزة هي الإنسانية، و هي صفات إذا كانت في الإنسان يحق أن يسمى إنسانا أو يحق الإنسان من حيث أنه إنسان أن يأتي بها فهو مشتق من المرء فهي من أمهات الصفات الكمالية، قال في المصباح:

المروءة آداب نفسانية تحمل مراعاتها الإنسان على الوقوف عند محاسن الأخلاق و جميل العادات، انتهى.

و قريب منه معنى الفتوة و يعبر عنهما بالفارسية (بمردى و جوانمردي) و يرجع أكثر ما يندرج فيه إلى البذل و السخاء و حسن المعاشرة و كثرة النفع للعباد و الإتيان بما يعظم عند الناس من ذلك.

و روى الصدوق (ره) في معاني الأخبار بسند مرفوع إلى أبي عبد الله عليه السلام قال: تذاكرنا أمر الفتوة عنده فقال: أ تظنون أن الفتوة بالفسق و الفجور! إنما الفتوة طعام موضوع و نائل مبذول، و بشر معروف و أذى مكفوف، و أما تلك فشطارة و فسق، ثم قال: ما المروة؟ قلنا: لا نعلم قال: المروة و الله أن يضع الرجل خوانه في فناء داره.

قوله: قال: و روى بعضهم، الظاهر أن فاعل قال البرقي حيث روي من كتابه، و يحتمل ابن مسكان أيضا، و على التقديرين قوله: روي، و" زاد فيها" تنازعا في الصدق،

فقوله: و زاد فيها

 (2) تأكيد للكلام السابق لئلا يتوهم أنه أتى بها بدلا من خصلتين من العشر تركهما، فلا بد من سقوط عشرة من الرواية الأخيرة كما في الرواية الآتية، أو إبدالها باثنتي عشرة، و يحتمل أن يكون المراد بقوله: و زاد فيها أنه زاد في أصل العدد أيضا بما ذكرنا من الإبدال و الله أعلم بحقيقة الحال.

 (الحديث الثالث)

 (3): ضعيف.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 350

و قد مر تفسير العقل في أول الكتاب و الأظهر هنا أنه ملكة للنفس يدعو إلى اختيار الخير و النافع و اجتناب الشرور و المضار، و بها تقوى النفس على زجر الدواعي الشهوية و الغضبية و الوساوس الشيطانية.

و الفهم‏

 (1) هو جودة تهيؤ الذهن لقبول ما يرد عليه من الحق و ينتقل من المبادئ إلى المطالب بسرعة، و

الفقه‏

 (2) العلم بالأحكام من الحلال و الحرام و بالأخلاق و آفات النفوس و موانع القرب من الحق، و قيل: بصيرة قلبية في أمر الدين تابعة للعلم و العمل، مستلزم للخوف و الخشية، و قال الراغب: الفقه هو التوصل إلى علم غائب بعلم شاهد، فهو أخص من العلم، قال تعالى:" فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً"" بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ" إلى غير ذلك من الآيات.

و الفقه العلم بأحكام الشريعة يقال: فقه الرجل إذا صار فقيها و تفقه إذا طلبه، فتخصص به، قال تعالى:" لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ" و

المداراة

 (3) الملاطفة و الملاينة مع الناس و ترك مجادلتهم و مناقشتهم و قد يهمز قال في القاموس: درأه كجعله دفعه و درأته و درايته دافعته و لا ينته ضد، و في النهاية فيه: كان لا يداري و لا يماري، أي لا يشاغب و لا يخالف، و هو مهموز فأما المداراة في حسن الخلق و الصحبة فغير مهموز و قد يهمز، انتهى.

و

الوفي‏

 (4) الكثير الوفاء بعهود الله و عهود الخلق، و هو قريب من الصدق ملازم له كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: الوفاء توأم الصدق و يومئ الحديث إلى التحريص‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 351

على محبة الموصوف بالصفات المذكورة، و اختيار مصاحبته.

و الورع‏

 (1) قريب من التقوى بل أخص منها ببعض معانيها، فإنه يعتبر فيه الكف عن الشبهات بل المكروهات و بعض المباحات، قال في النهاية فيه: ملاك الدين الورع، الورع في الأصل الكف عن المحارم و التحرج منه، ثم أستعير للكف عن المباح و الحلال.

و البر

 (2) هو الإحسان بالوالدين و الأقربين بل بالناس أجمعين، و قد يطلق على جميع الأعمال الصالحة و الخيرات.

 (الحديث الرابع)

 (3): مرسل.

" ارتضى لكم الإسلام"

 (4) إشارة إلى قوله تعالى:" وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً" و لما ورد في الأخبار المتواترة أن الآية نزلت بعد نصب أمير المؤمنين عليه السلام بالخلافة فالخطاب في الرواية متوجه إلى الشيعة لأنهم الذين قبلوا الولاية

" فأحسنوا صحبته"

 (5) شبه الإسلام برجل صالح يصاحبه المؤمن فإن أحسن صحبته لازمه و إلا فارقه ففيه إشعار بأنه إذا ترك هاتين الخصلتين لا يؤمن أن يفارقه الإسلام فيدل على أن للأعمال الحسنة و الأخلاق الجميلة مدخلا في رسوخ الإسلام و الإيمان و ثباتهما و كمالهما.

 (الحديث الخامس)

 (6): ضعيف على المشهور.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 352

" الإيمان أربعة أركان"

 (1) أي مركب منها أو له هذه الأربعة عليها بناؤه و استقراره فكأنه عينها و قد مر تفسير تلك الدعائم و سيأتي أيضا إنشاء الله.

 (الحديث السادس)

 (2): ضعيف على المشهور.

و كان المراد

برجل من بني هاشم‏

 (3) الصادق عليه السلام عبر هكذا لشدة التقية، أو الرجل راو و ضمير قال راجع إليه عليه السلام، فالحديث مضمر، و الخبر مروي بسند آخر عن أبي ولاد عن الصادق عليه السلام، و سيأتي في باب حسن الخلق.

" أربع"

 (4) أي أربع خصال‏

" لم تنقصه"

 (5) ضمير المفعول راجع إلى الإسلام أو إلى الموصول أي لم ينقصه شيئا من الإسلام، قيل: أي يوفقه الله للتوبة بسبب تلك الخصال فلا ينقصه شيئا من ثواب الآخرة، مع أن حصول هذه الصفات يوجب ترك أكثر المعاصي و يستلزمه.

 (الحديث السابع)

 (6): حسن كالصحيح.

" بخير رجالكم"

 (7) ربما يتوهم التنافي بين هذا و بين‏

قوله: من خير رجالكم،

 (8) و أجيب بأن المراد بالأول الصنف، و بالثاني كل فرد من هذا الصنف أو الحصر في الأول إضافي بالنسبة إلى من لم يوجد فيه الصفات المذكورة، دون الخير على الإطلاق.

و أقول: يحتمل أن يكون عليه السلام أراد ذكر الكل ثم اكتفى بذكر البعض،

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 353

أو المراد أن المتصف بكل من الصفات المذكورة من جملة الخير، أو المراد بقوله بخير رجالكم ببعضهم بقرينة الأخير، و مرجعه إلى بعض الوجوه المتقدمة

" النقي"

 (1) أي من الشرك و ما يوجب الخروج من الإيمان أو من سائر المعاصي أيضا، فقوله:

النقي الطرفين، تخصيص بعد التعميم أو المراد به الاحتراز عن الشبهات، و النقي النظيف الطاهر من الأوساخ الجسمانية و الأدناس النفسانية من رذائل العقائد و الأخلاق.

" السمح الكفين"

 (2) قال في النهاية: سمح و أسمح إذا جاد و أعطى عن كرم و سخاء، انتهى.

و الإسناد إلى الكفين لظهور العطاء منهما، و التثنية للمبالغة أو إشارة إلى عطاء الواجبات و المندوبات.

" النقي الطرفين"

 (3) أي الفرج عن الحرام و الشبهة، و اللسان عن الكذب و الخنى و الافتراء و الفحش و الغيبة و سائر المعاصي، و ما لا يفيد من الكلام، أو الفرجين أو الفرج و الفم عن أكل الحرام و الشبهة، أو المراد كريم الأبوين و الأول أظهر، قال في النهاية: طرفا الإنسان لسانه و ذكره، و منه قولهم: لا يدري أي طرفيه أطول، و فيه: و ما أدري أي طرفيه أسرع، أراد حلقه و دبره أي أصابه القي‏ء و الإسهال، فلم أدر أيهما أسرع خروجا من كثرته، انتهى.

و المعنى الثالث أيضا حسن لما روي عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أن أكثر ما يدخل النار الأجوفان، قالوا: يا رسول الله و ما الأجوفان؟ قال: الفرج و الفم و أيضا قرنوا في أخبار كثيرة في بيان المهلكات بين شهوة البطن و الفرج، و روي في معاني الأخبار عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنه قال: من ضمن لي ما بين لحييه و ما بين رجليه ضمنت له الجنة، و حمله الأكثر على المعنى الأول، قال الصدوق (ره): يعني من ضمن لي لسانه و فرجه‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 354

و أسباب البلايا تنفتح من هذين العضوين، انتهى.

" البر بوالديه"

 (1) أي المحسن إليهما و المطيع لهما و المتحري لمحابهما

" و لا يلجئ عياله إلى غيره"

 (2) أي لم يضطرهم لعدم الإنفاق عليهم مع القدرة عليه إلى السؤال عن غيره، يقال: ألجأته إليه و لجأته بالهمزة و التضعيف أي اضطررته و أكرهته.

باب فضل اليقين‏

 (3)

 (الحديث الأول)

 (4): ضعيف على المشهور معتبر.

و قال المحقق الطوسي (ره) في أوصاف الأشراف: اليقين اعتقاد جازم مطابق ثابت لا يمكن زواله، و هو في الحقيقة مؤلف من علمين العلم بالمعلوم، و العلم بأن خلاف ذلك العلم محال، و له مراتب، علم اليقين و عين اليقين و حق اليقين.

و قال قدس سره في بعض مصنفاته إن مراتب المعرفة مثل مراتب معرفة النار مثلا فإن أدناها من سمع أن في الوجود شيئا يعدم كل شي‏ء يلاقيه و يظهر أثره في كل شي‏ء يحاذيه، و أي شي‏ء أخذ منه لم ينقص منه شي‏ء، و يسمى ذلك الموجود نارا و نظير هذه المرتبة في معرفة الله تعالى معرفة المقلدين الذين صدقوا بالدين من غير وقوف على الحجة، و أعلى منها مرتبة من وصل إليه دخان النار و علم أنه لا بد من مؤثر فحكم بذات لها أثر هو الدخان، و نظير هذه المرتبة في معرفة الله تعالى معرفة أهل النظر و الاستدلال الذين حكموا بالبراهين القاطعة على وجود الصانع، و أعلى منها مرتبة من أحس بحرارة النار بسبب مجاورتها و شاهد الموجودات‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 355

بنورها و انتفع بذلك الأثر.

و نظير هذه المرتبة في معرفة الله سبحانه معرفة المؤمنين الخلص الذين اطمأنت قلوبهم بالله و تيقنوا أن الله نور السماوات و الأرض كما وصف به نفسه، و أعلى منها مرتبة من احترق بالنار بكليته و تلاشى فيها بجملته، و نظير هذه المرتبة في معرفة الله تعالى معرفة أهل الشهود و الفناء في الله و هو الدرجة العليا و المرتبة القصوى رزقنا الله الوصول إليها و الوقوف عليها بمنه و كرمه، انتهى.

و المراد

بالحد

 (1) هنا إما علامته أو تعريفه أو نهايته، فعلى الأول المعنى أن علامة التوكل اليقين، و على الثاني تعريف له بلازمه، و على الثالث المعنى أن التوكل ينتهي إلى اليقين فإنه إذا تمرن على التوكل و عرف آثاره حصل له اليقين بأن الله مدبر أمره و أنه الضار النافع، و كذا الفقرة الثانية تحتمل الوجوه المذكورة و عدم الخوف من غيره سبحانه لا ينافي التقية و عدم إلقاء النفس إلى التهلكة إطاعة لأمره تعالى فإن صاحب اليقين يفعلهما خوفا منه تعالى كما أن التوكل لا ينافي التوسل بالوسائل و الأسباب تعبدوا مع كون الاعتماد على الله تعالى في جميع الأمور.

 (الحديث الثاني)

 (2): له سندان أولهما ضعيف على المشهور كالصحيح عندي، و ثانيهما صحيح، فهما في غاية الصحة و القوة.

" من صحة يقين المرء المسلم"

 (3) أي من علامات كون يقينه بالله و بكونه مالكا لنفعه و ضره و قاسما لرزقه على ما علم صلاح دنياه و آخرته فيه، و أن الله مقلب‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 356

القلوب و هي بيده يصرفها كيف يشاء و أن الآخرة الباقية خير من الدنيا الفانية صحيحا غير معلول و لا مشوب بشك و شبهة و أنه واقع ليس محض الدعوى.

" أن لا يرضى الناس بسخط الله"

 (1) بأن يوافقهم في معاصيه تعالى طلبا لما عندهم من الزخارف الدنيوية أو المناصب الباطلة، و يفتيهم بما يوافق رضاهم من غير خوف أو تقية، و لا يأمرهم بالمعروف و لا ينهاهم عن المنكر من غير خوف ضرر أو عدم تجويز تأثير، بل لمحض رعاية رضاهم و طلب التقرب عندهم، أو يأتي أبواب الظالمين و يتذلل عندهم لا لتقية تجوزه و لا لمصلحة جلب نفع لمؤمن أو لدفع ضرر عنه، بل لطلب ما في أيديهم لسوء يقينه بالله و برازقيته، مع أنه يترتب عليه خلاف ما أمله، كما روي: من أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه و أسخط عليه الناس.

قوله عليه السلام: و لا يلومهم على ما لم يؤته الله،

 (2) أي لا يذمهم و لا يشكرهم على ترك صلتهم إياه بالمال و غيره فإنه يعلم صاحب اليقين أن ذلك شي‏ء لم يقدره الله له و لا يرزقه إياه لعدم كون صلاحه فيه مطلقا أو في كونه بيد هذا الرجل و بتوسطه بل يوصله إليه من حيث لا يحتسب فلا يلوم أحدا بذلك لأنه ينظر إلى مسبب الأسباب و لا ينظر إليها و لا يعترض على الله فيما فعل به.

و هذا اللوم يتضمن نوعا من الشرك حيث جعلهم الرازق و المعطي مع الله و سخطا لقضاء الله و الموقن بري‏ء منهما، فضمير يؤته راجع إلى المرء المسلم، و عائد

" ما"

 (3) محذوف بتقدير إياه.

و قيل: يحتمل أن يكون المراد أنه لا يلومهم على ما لم يؤته الله إياهم فإن الله خلق كل أحد على ما هو عليه و كل ميسر لما خلق له فيكون كقوله عليه السلام لو علم الناس كيف خلق الله هذا الخلق لم يلم أحد أحدا.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 357

و لا يخفى بعده لا سيما بالنظر إلى التعليل‏

بقوله فإن الرزق لا يسوقه حرص حريص‏

 (1) أي الرزق الذي قدره الله للإنسان لا يحتاج في وصوله إلى حرص بل يأتيه بأدنى سعي أمر الله به‏

" و لا يرده"

 (2) هذا الرزق‏

" كراهة كاره"

 (3) لرزق نفسه لقلته أو للزهد، أو كاره لرزق غيره حسدا، و يؤكد الأول:

و لو أن أحدكم" إلخ"

 (4) و هذا يدل على أن الرزق مقدر من الله تعالى و يصل إلى العبد البتة.

و فيه مقامان: الأول: أن الرزق هل يشمل الحرام أم لا؟ فالمشهور بين الإمامية و المعتزلة الثاني، و بين الأشاعرة الأول قال الرازي في تفسير قوله تعالى:

" وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ" الرزق في كلام العرب الحظ و قال بعضهم: كل شي‏ء يؤكل أو يستعمل، و قال آخرون: الرزق هو ما يملك، و أما في عرف الشرع فقد اختلفوا فيه فقال أبو الحسن البصري: الرزق هو تمكين الحيوان من الانتفاع بالشي‏ء و الحظر غير أن يمنعه من الانتفاع به فإذا قلنا رزقنا الله الأموال فمعنى ذلك أنه مكننا من الانتفاع بها و المعتزلة لما فسروا الرزق بذلك لا جرم قالوا: الحرام لا يكون رزقا و قال أصحابنا: الحرام قد يكون رزقا.

حجة الأصحاب من وجهين: الأول: أن الرزق في أصل اللغة هو الحظ و النصيب على ما بيناه فمن انتفع بالحرام فذلك الحرام صار حظا و نصيبا له، فوجب أن يكون رزقا له، الثاني: أنه تعالى قال:" وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها" و قد يعيش الرجل طول عمره لا يأكل إلا من السرقة فوجب أن يقال:

أنه طول عمره لم يأكل من رزقه شيئا.

و أما المعتزلة فقد احتجوا بالكتاب و السنة، و المعنى، أما الكتاب فوجوه‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 358

أحدها: قوله تعالى:" وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ" مدحهم على الإنفاق مما رزقهم الله تعالى فلو كان الحرام رزقا لوجب أن يستحقوا المدح إذا أنفقوا من الحرام و ذلك باطل بالاتفاق، و ثانيها. لو كان الحرام رزقا لجاز أن ينفق الغاصب منه لقوله تعالى:

" وَ أَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ" و أجمع المسلمون على أنه لا يجوز للغاصب أن ينفق منه بل يجب عليه رده، فدل على أن الحرام لا يكون رزقا، و ثالثها: قوله تعالى:

" قُلْ أَ رَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَ حَلالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ" فبين أن من حرم رزق الله فهو مفتر على الله، فثبت أن الحرام لا يكون رزقا.

و أما السنة فما رواه أبو الحسين في كتاب الغرر بإسناده عن صفوان بن أمية قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم إذ جاء عمرو بن مرة فقال: يا رسول الله إن الله كتب على الشقوة فلا أراني أرزق إلا من دفي بكفي فأذن لي في الغناء من غير فاحشة؟

فقال عليه السلام: لا آذن لك و لا كرامة و لا نعمة، كذبت أي عدو الله لقد رزقك الله طيبا فاخترت ما حرم الله عليك من رزقه مكان ما أحل الله لك من حلاله، أما إنك لو قلت بعد هذه النوبة شيئا ضربتك ضربا وجيعا.

و أما المعنى فهو أن الله تعالى منع المكلف من الانتفاع به و أمر غيره بمنعه من الانتفاع به، و من منع من أخذ شي‏ء و الانتفاع به لا يقال أنه رزقه إياه، أ لا ترى أنه لا يقال: أن السلطان رزق جنده مالا و قد منعهم من أخذه.

الثاني: أن الرزق هل يجب على الله إيصاله من غير سعي و كسب، أم لا بد من الكسب و السعي فيه؟ ظاهر هذا الخبر و غيره الأول، و قد روي في النهج عن أمير المؤمنين‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 359

عليه السلام أنه قيل له عليه السلام: لو سد على رجل باب بيت و ترك فيه من أين كان يأتيه رزقه؟ فقال عليه السلام: من حيث يأتيه أجله، و ظاهر كثير من الأخبار الثاني، و سيأتي تمام الكلام فيه في كتاب المكاسب إنشاء الله تعالى.

قوله عليه السلام: و قسطه،

 (1) العطف للتفسير و التأكيد، و كذا الراحة، و

الروح‏

 (2) راحة القلب و سكونه عن الاضطراب، و

الراحة

 (3) فراغ البدن و عدم المبالغة في الاكتساب‏

" في اليقين"

 (4) برازقيته سبحانه و لطفه و سعة كرمه، و أنه لا يفعل بعباده إلا ما هو أصلح لهم، و أنه لا يصل إلى العباد إلا ما قدر لهم‏

" و الرضا"

 (5) بما يصل من الله إليه و هو ثمرة اليقين، و الحزن بالضم و التحريك أيضا إما عطف تفسير للهم أو الهم اضطراب النفس عند تحصيله و الحزن جزعها و اغتمامها بعد فواته‏

" في الشك"

 (6) أي عدم اطمئنان النفس بما ذكر في اليقين‏

" و السخط"

 (7) و عدم الرضا بقضاء الله المترتب على الشك.

و نعم ما قيل:

         ما العيش إلا في الرضا             و الصبر في حكم القضاء

             ما بات من عدم الرضا             إلا على جمر الغضا

 

 (الحديث الثالث)

 (8): صحيح.

و ابن محبوب معلق على ثاني سندي الخبر السابق، و يدل على أن لكمال اليقين و قوة العقائد مدخلا عظيما في قبول الأعمال و فضلها بل لا يحصل الإخلاص الذي هو روح العبادة و ملاكها إلا بها، و كان قيد الدوام معتبر في الثاني أيضا ليظهر مزيد فضل اليقين، و يحتمل أن يكون حذف قيد الدوام في الثاني للإشعار بأن إحدى‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 360

ثمرات اليقين دوام العمل فإن اليقين الذي هو سببه لا يزول بخلاف العمل الكثير على غير يقين فإنه غالبا يكون متفرعا على غرض من الأغراض تتبدل سريعا، أو إيمان ناقص هو بمعرض الضعف و الزوال على نهج قول أمير المؤمنين عليه السلام: قليل مدوم عليه خير من كثير مملول منه.

 (الحديث الرابع)

 (1): ضعيف على المشهور.

قوله عليه السلام: طعم الإيمان،

 (2) قيل: إن فيه مكنية و تخييلية حيث شبه الإيمان بالطعام في أنه غذاء للروح به ينمو و يبلغ حد الكمال كما أن الطعام غذاء للبدن.

قوله عليه السلام: لم يكن ليخطئه‏

 (3) يحتمل أن يكون من المعتل أي يتجاوزه، أو من المهموز أي لا يصيبه كما يخطئ السهم الرمية.

قال الراغب: الخطأ العدول عن الجهة و ذلك أضرب: أحدها: أن يريد غير ما يحسن إرادته فيفعله، و الثاني: أن يريد ما يحسن فعله و لكن يقع منه خلاف ما يريد، و هذا قد أصاب في الإرادة و أخطأ في الفعل، و الثالث: أن يريد ما لا يحسن فعله و يتفق منه خلافه فهذا مخطئ في الإرادة و مصيب في الفعل، فهو مذموم بقصده و غير محمود على فعله، و جملة الأمر أن من أراد شيئا و اتفق منه غيره يقال: أخطأ، و إن وقع منه كما أراده يقال: أصاب، و قد يقال لمن فعل فعلا لا يحسن أو أراد إرادة لا تجمل أنه أخطأ.

و قال الجوهري في المعتل قولهم في الدعاء: إذا دعوا للإنسان خطى‏ء عنه السوء أي دفع عنه السوء و تخطئته تجاوزته، و تخطيت رقاب الناس و تخطيت إلى كذا، و لا تقل تخاطئت.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 361

و في المصباح: الخطأ مهموزا ضد الصواب يقصر و يمد، و هو اسم من أخطأ فهو مخطئ، قال أبو عبيدة: خطى‏ء خطاء من باب علم و أخطأ بمعنى واحد لمن يذنب على غير عمد، و قال غيره: خطى‏ء في الدين و أخطأ في كل شي‏ء عامدا أو كان غير عامد، و أخطأ الحق بعد عنه، و أخطأه السهم تجاوزه و لم يصبه، و تخفيف الرباعي جائز.

و قال الزمخشري في الأساس في المهموز: و من المجاز لن يخطأك ما كتب لك، و ما أخطئك لم يكن ليصيبك و ما أصابك لم يكن ليخطئك، و قال في المعتل:

و من المجاز تخطأه المكروه، انتهى.

و أقول: فظهر أن الهمزة أظهر، و حاصل المعنى أن ما أصابه في الدنيا كان يجب أن يصيبه و لم يكن بحيث يتجاوزه إذا لم يبالغ السعي فيه، و ما لم يصبه في الدنيا لم يكن يصيبه إذا بالغ في السعي، أو المعنى أن ما أصابه في التقدير الأزلي لا يتجاوزه و إن قصر في السعي و كذا العكس، و هذا الخبر بظاهره مما يوهم الجبر، و لذا أول و خص بما لم يكلف العبد به فعلا و تركا، أو بما يصل إليه بغير اختياره من النعم و البلايا، و الصحة و المرض و أشباهها، و قد أوردنا الكلام في أمثاله في كتاب العدل [من البحار].

 (الحديث الخامس)

 (1): حسن كالصحيح.

" فإنه معور"

 (2) على بناء الفاعل من باب الأفعال أي ذو شق و خلل يخاف منه، أو على بناء المفعول من التفعيل أو الأفعال أي ذو عيب، قال في النهاية: العوار بالفتح العيب و قد يضم، و العورة كل ما يستحيي منه إذا ظهر، و فيه رأيته و قد طلع في طريق معورة، أي ذات عورة يخاف فيها الضلال و الانقطاع، و كل عيب و خلل في‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 362

شي‏ء فهو عورة، و في الأساس مكان معورة ذو عورة.

قوله عليه السلام: حرس امرءا أجله‏

 (1)، امرءا مفعول حرس، و أجله فاعله، و هذا مما استعمل فيه النكرة في سياق الإثبات للعموم، أي حرس كل امرئ أجله كقولهم: أنجز حر ما وعد، و يؤيده ما في النهج أنه قال عليه السلام: كفى بالأجل حارسا، و من العجب ما ذكره بعض الشارحين أن امرءا مرفوع على الفاعلية و أجله منصوب على المفعولية و العكس محتمل، و المقصود الإنكار لأن أجل المرء ليس بيده حتى يحرسه، انتهى.

و يشكل هذا بأنه يدل على جواز إلقاء النفس إلى التهلكة و عدم وجوب الفرار عما يظن عنده الهلاك، و المشهور عند الأصحاب خلافه.

و يمكن أن يجاب عنه بوجوه: الأول: أنه يمكن أن يكون هذا الجدار مما يظن عدم انهدامه في ذلك الوقت و لكن الناس كانوا يحترزون عن ذلك بالاحتمال البعيد لشدة تعلقهم بالحياة، فأجاب عليه السلام: بأن الأجل حارس و لا يحسن الحذر عند الاحتمالات البعيدة لذلك، و إنما تحترز عند الظن بالهلاك تعبدا و هذا ليس من ذلك، لكن‏

قوله عليه السلام: فلما قام" إلخ"

 (2) مما يبعد هذا الوجه و يقعده و إن أمكن توجيهه.

الثاني: أن يقال: هذا كان من خصائصه عليه السلام و أضرابه، حيث كان يعلم وقت أجله بإخبار النبي صلى الله عليه و آله و سلم و غيره، فكان يعلم أن هذا الحائط لا يسقط في ذلك الوقت و إن كان مشرفا على الانهدام لعدم الكذب في إخباره، و أما من لم يعلم ذلك فهو مكلف بالاحتراز، و كون هذا من اليقين لكونه متفرعا على اليقين بخبر النبي صلى الله عليه و آله و سلم الثالث: أن يقال أنه من خصائصه عليه السلام على وجه آخر، و هو أنه عليه السلام كان يعلم أن هذا الحائط لا ينهدم في هذا الوقت، فلما علم أنه حان وقت سقوطه قام‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 363

فسقط، و يؤيده ما رواه الصدوق في التوحيد بإسناده عن الأصبغ بن نباتة أن أمير المؤمنين عليه السلام عدل من عند حائط مائل إلى حائط آخر فقيل له: يا أمير المؤمنين! تفر من قضاء الله؟ قال: أفر من قضاء الله إلى قدر الله.

و لعل المعنى أني لما علمت أنه ينهدم و أعلم أن الله قدر لي أجلا متأخرا عن هذا الوقت فأفر من هذا إلى أن يحصل لي القدر الذي قدره الله لي، أو المراد بقدر الله أمره و حكمه، أي إنما أفر من هذا القضاء بأمره تعالى، أو المعنى أن الفرار أيضا من تقديره تعالى، فلا ينافي كون الأشياء بقضاء الله تعالى، الفرار من البلايا، و السعي لتحصيل ما يجب السعي له فإن كل ذلك داخل في علمه و قضائه، و لا ينافي شي‏ء من ذلك اختيار العبد كما حققناه في محله.

و يؤيد الوجوه كلها ما روي في الخصال بإسناده عن أبي عبد الله عليه السلام قال:

قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: خمسة لا يستجاب لهم، أحدهم رجل مر بحائط مائل و هو يقبل إليه و لم يسرع المشي حتى سقط عليه." الخبر".

الرابع: ما قال بعضهم: التكليف بالفرار مختص بغير الموقن لأن الموقن يتوكل على الله و يفوض أمره إليه فيقيه عن كل مكروه كما قال عز و جل:" أَ لَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ" و كما قال مؤمن آل فرعون:" وَ أُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا" و سر ذلك أن المؤمن الموقن المنتهى إلى حد الكمال لا ينظر إلى الأسباب و الوسائط في النفع و الضرر، و إنما نظره إلى مسببها، و أما من لم يبلغ ذلك الحد من اليقين فإنه يخاطب بالفرار قضاء لحق الوسائط.

" و هذا اليقين"

 (1) أي من ثمرات اليقين بقضاء الله و قدره و قدرته و حكمته و لطفه‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 364

و رأفته و صدق أنبيائه و رسله.

 (الحديث السادس)

 (1): صحيح.

" وَ أَمَّا الْجِدارُ" إلخ‏

 (2)، هذا في قصة موسى و الخضر عليهما السلام حيث قال تعالى:

" فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ" هي أنطاكية و قيل: إيلة بصرة، و قيل: باجروان أرمنية، و قيل: هي قرية على ساحل البحر يقال لها ناصرة، و هو المروي عن أبي عبد الله عليه السلام" اسْتَطْعَما أَهْلَها" أي سألاهم الطعام" فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما" أي لم يضيفهما أحد من أهلها، و قال أبو عبد الله عليه السلام: لم يضيفوهما و لا يضيفون بعدهما أحدا إلى يوم القيامة" فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ" أي أشرف على أن ينهدم استعيرت الإرادة للمشارفة" فَأَقامَهُ" بعمارته أو بعمود عمد به، و قيل: مسحه بيده فقام، و قيل: نقضه و بناه" قالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً" قيل: هو تحريص على أخذ الجعل ليسدا به جوعتهما، و قيل: تعريض بأنه فضول.

فلما أراد الخضر فراق موسى عليهما السلام بين له علل ما فعله حتى قال:" وَ أَمَّا الْجِدارُ

فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ"

 (3) أي في القرية المذكورة

" وَ كانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما"

 (4) قال الطبرسي رحمه الله الكنز هو كل مال مذخور من ذهب أو فضة و غير ذلك، و اختلف في هذا الكنز فقيل: كانت صحف علم مدفونة تحته عن ابن عباس و ابن جبير و مجاهد، قال ابن عباس: ما كان ذلك الكنز إلا علما، و قيل: كان كنزا من الذهب و الفضة رواه أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم، و قيل: كان لوحا من الذهب و فيه مكتوب:

عجبا لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن، عجبا لمن أيقن بالرزق كيف يتعب، عجبا لمن أيقن بالموت كيف يفرح، عجبا لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل، عجبا لمن رأى الدنيا

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 365

و تقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها، لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم عن ابن عباس و الحسن، و روي ذلك عن أبي عبد الله عليه السلام، و في بعض الروايات زيادة و نقصان، و هذا القول يجمع القولين الأولين لأنه يتضمن أن الكنز كان مالا كتب فيه علم فهو مال و علم.

" وَ كانَ أَبُوهُما صالِحاً" بين سبحانه أنه حفظ الغلامين بصلاح أبيهما، و لم يذكر منهما صلاحا عن ابن عباس، و روي عن أبي عبد الله عليه السلام أنه كان بينهما و بين ذلك الأب الصالح سبعة آباء، و قال عليه السلام: إن الله ليصلح بصلاح الرجل المؤمن ولده و ولد ولده و أهل دويرته و دويرات حوله، فلا يزالون في حفظ الله لكرامته على الله.

" فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما" قال البيضاوي: أي الحلم و كمال الرأي" وَ يَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ" أي مرحومين من ربك، و يجوز أن يكون علة أو مصدرا لأراد، فإن إرادة الخير رحمة، و قيل: يتعلق بمحذوف تقديره: فعلت ما فعلت رحمة من ربك، انتهى.

قوله عليه السلام: ما كان ذهبا و لا فضة،

 (1) أقول: يدل على أن الأخبار الواردة بأنه كان من ذهب محمول على التقية، و يمكن أن يحمل هذا الخبر على أنه لم يكن كونه كنزا و ادخاره و حفظ الخضر عليه السلام له لكونه ذهبا بل للعلم الذي كان فيه.

و إنما اقتصر على هذه الأربع لأن الأولى مشتملة على توحيد الله و تنزيهه عن كل ما يليق به سبحانه، و الثانية على تذكر الموت و الاستعداد لما بعده، و الثالثة على تذكر أحوال القيامة، و أهوالها الموجب لعدم الفرح بالذات الدنيا و الرغبة في زخارفها، و الرابعة على اليقين بالقضاء و القدر المتضمن لعدم الخشية من غير الله و هي من أعظم أركان الإيمان و من أمهات الصفات الكمالية.

" لم يضحك سنة"

 (2) إنما نسب الضحك إلى السن لإخراج التبسم فإنه ممدوح،

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 366

و كان ضحك رسول الله تبسما، و قراءته بالنصب بأن يكون المراد بالسن العمر بعيد، و ظاهر أن تذكر الموت و الأهوال التي بعده يصير الإنسان مغموما مهموما متهيئا لرفع تلك الأهوال، فلا يدع في قلبه فرحا من اللذات يصير سببا لضحكه، و كذا اليقين بالحساب لا يدع فرحا في قلب أولي الألباب، و كذا من أيقن بأن جميع الأمور بقضاء الله و قدره علم أنه الضار النافع في الدنيا و الآخرة فلا يخشى و لا يرجو غيره سبحانه.

 (الحديث السابع)

 (1): صحيح.

" و الله هو الضار النافع"

 (2) لأن كل نفع و ضرر بتقديره تعالى و إن كان بتوسط الغير و أن النفع و الضرر الحقيقيان منه تعالى، و أما الضرر اليسير من الغير مع الجزاء الكثير في الآخرة فليس بضرر حقيقة، و كذا المنافع الفانية الدنيوية إذا كانت مع العقوبات الأخروية فهو عين الضرر، و بالجملة كل نفع و ضرر يعتد بهما فهو من عنده تعالى، و أيضا كل نفع أو ضرر من غيره فهو بتوفيقه أو خذلانه سبحانه.

 (الحديث الثامن)

 (3): حسن.

" في مثل هذا الموضع"

 (4) فيه تقدير أي تكتفي بلبس القميص و الإزار من غير

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 367

درع و جنة في مثل هذا الموضع‏

" حافظ"

 (1) أي ملك حافظ لأعماله و ملائكة واقية له من البلايا دافعة لها عنه كما قال تعالى:" لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ" و روي علي بن إبراهيم في تفسيرها عن أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام" مِنْ أَمْرِ اللَّهِ" يقول: بأمر الله من أن يقع في ركي أو يقع عليه حائط أو يصيبه شي‏ء حتى إذا جاء القدر خلوا بينه و بينه يدفعونه إلى المقادير، و هما ملكان يحفظانه بالليل و ملكان يحفظانه بالنهار يتعاقبانه، و روي عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: إنما نزلت" له معقبات من خلفه و رقيب من بين يديه يحفظونه بأمر الله".

و قال الطبرسي (ره) في سياق الوجوه المذكورة في تفسيرها: و الثاني أنهم ملائكة يحفظونه من المهالك حتى ينتهوا به إلى المقادير فيحولون بينه و بين المقادير عن علي عليه السلام، و قيل: هم عشرة أملاك على كل آدمي يحفظونه من بين يديه و من خلفه يحفظونه من أمر الله أي يطوفون به كما يطوف الموكل بالحفظ، و قيل يحفظون ما تقدم من عمله و ما تأخر إلى أن يموت فيكتبونه، و قيل: يحفظونه من وجوه المهالك و المعاطب، و من الجن و الإنس و الهوام، و قال ابن عباس:

يحفظونه مما لم يقدر نزوله، فإذا جاء المقدر بطل الحفظ، و قيل: من أمر الله أي بأمر الله، و قيل: يحفظونه عن خلق الله فمن بمعنى عن، قال كعب: لو لا أن الله و كل بكم ملائكة يذبون عنكم في مطعمكم و مشربكم و عوراتكم لتخطفنكم الجن، انتهى.

و روى الصدوق (ره) في التوحيد بإسناده عن أبي حيان التميمي عن أبيه و كان مع علي عليه السلام يوم صفين و معاوية مستقبلة على فرس له يتأكل تحته تأكلا

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 368

و علي عليه السلام على فرس رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم المرتجز و بيده حربة رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم و هو متقلد سيفه ذا الفقار، فقال رجل من أصحابه: احترس يا أمير المؤمنين فإنا نخشى أن يغتالك هذا الملعون؟ فقال علي عليه السلام: لئن قلت ذلك إنه غير مأمون على دينه و أنه لأشقى القاسطين و ألعن الخارجين على الأئمة المهتدين، و لكن كفى بالأجل حارسا، ليس أحد من الناس إلا و معه ملائكة حفظة يحفظونه من أن يتردى في بئر أو يقع عليه حائط أو يصيبه سوء، فإذا حان أجله خلوا بينه و بين ما يصيبه، و كذلك أنا إذا حان أجلي انبعث أشقاها مخضب هذه من هذا- و أشار إلى لحيته و رأسه- عهدا معهودا و وعدا غير مكذوب.

و قيل: التاء في‏

قوله واقية

 (1) للنقل إلى الاسمية إذ المراد الواقية من خصوص الموت و قيل: واقية أي جنة واقعية كأنها من الصفات الغالبة أو التاء فيها للمبالغة عطف تفسيري للحافظ، انتهى.

و قد مضى الكلام فيه في الحديث الخامس.

 (الحديث التاسع)

 (2): ضعيف على المشهور معتبر عندي.

و قوله: كان فيه‏

 (3)، تأكيد لقوله كان في الكنز، و اختلاف الأخبار في المكتوب في اللوح لا ضير فيه لأن الجميع كان فيه و اختلاف العبارات للنقل بالمعنى مع أن الظاهر أنها لم تكن عربية و في النقل من لغة إلى لغة كثيرا ما تقع تلك الاختلافات.

فإن قلت: الحصر في الحديث السادس بإنما ينافي تجويز الزيادة على الأربع؟

قلت: الظاهر أن الحصر بالإضافة إلى الذهب و الفضة مع أن المضامين قريبة، و إنما التفاوت بالإجمال و التفصيل، و نسبة التعجب إلى الله تعالى مجاز، و الغرض الإخبار

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 369

عن ندرة الوقوع أو عدمه.

و قال بعض المحققين: إنما اختلفت ألفاظ الروايتين مع أنهما إخبار عن أمر واحد لأنهما إنما تخبران عن المعنى دون اللفظ فلعل اللفظ كان غير عربي، أما ما يتراءى فيهما من الاختلاف في المعنى فيمكن إرجاع إحداهما إلى الأخرى و ذلك لأن التوحيد و التسمية مشتركان في الثناء و لعلهما كانا مجتمعين فاكتفى في كل من الروايتين بذكر أحدهما، و من أيقن بالقدر علم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، و ما أخطأه لم يكن ليصيبه، فلم يحزن على ما فاته و لم يخش إلا الله، و من أيقن بالحساب نظر إلى الدنيا بعين العبرة و رأى تقلبها بأهلها فلم يركن إليها فلم يفرح بما آتاه، فهذه خصال متلازمة اكتفي في إحدى الروايتين ببعضها، و في الأخرى بآخر، و أما

قوله: ينبغي.

 (1) إلى آخره، فلعله من كلام الرضا عليه السلام دون أن يكون من جملة ما في الكنز و على تقدير أن يكون من جملة ذلك فذكره في إحدى الروايتين لا ينافي السكوت عنه في الأخرى، انتهى.

" لمن عقل عن الله"

 (2) أي حصل له معرفة ذاته و صفاته المقدسة من علمه و حكمته و لطفه و رحمته، أو أعطاه الله عقلا كاملا أو علم الأمور بعلم ينتهي إلى الله بأن أخذه عن أنبيائه و حججه عليهما السلام إما بلا واسطة أو بواسطة، أو بلغ عقله إلى درجة يفيض الله علومه عليه بغير تعليم بشر، أو تفكر فيما أجرى الله على لسان الأنبياء و الأوصياء و فيما أراه من آياته في الآفاق و الأنفس و تقلب أحوال الدنيا و أمثالها، و الثاني أظهر لقول الكاظم عليه السلام لهشام: يا هشام ما بعث الله أنبياءه و رسله إلى عباده إلا ليعقلوا عن الله، و قال أيضا: أنه لم يخف الله من لم يعقل عن الله، و من لم يعقل عن الله لم يعقد قلبه على معرفة ثابتة يبصرها و يجد حقيقتها في قلبه.

" أن لا يتهم الله في قضائه"

 (3) بأن يظن أن ما لم يقدره الله له خير مما قدر له،

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 370

أو يفعل من السعي و الجزع ما يوهم ذلك‏

" و لا يستبطئه"

 (1) أي لا يعده بطيئا

" في رزقه"

 (2) إن تأخر بأن يعترض عليه في الإبطاء بلسان الحال أو المقال، و يدل على رجحان كتابة الحديث و عدم الاتكال على الحفظ.

 (الحديث العاشر)

 (3): مجهول.

و قنبر

 (4) كان مولى أمير المؤمنين عليه السلام و من خواصه و قتله الحجاج لعنه الله على حبه عليه السلام، روى الكشي بإسناده عن أبي الحسن العسكري عليه السلام أن قنبرا مولى أمير المؤمنين عليه السلام أدخل على الحجاج بن يوسف فقال: ما الذي كنت تلي من علي بن أبي طالب عليه السلام قال: كنت أوضيه فقال له: ما كان يقول إذا فرغ من وضوئه؟ فقال: كان يتلو هذه الآية:" فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْ‏ءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ، فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ" فقال الحجاج: أظنه كان يتأولها علينا؟

قال: نعم، فقال: ما أنت صانع إذا ضربت علاوتك؟ قال: إذا أسعد و تشقى، فأمر به.

قوله عليه السلام: فإذا خرج،

 (5) روي أنه عليه السلام كان يخرج في أكثر الليالي إلى ظهر الكوفة فيعبد الله هناك.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 371

" إلا بإذن الله من السماء"

 (1) إنما نسب إلى السماء لأن التقديرات فيها، و الإذن بالتخلية كما مر.

 (الحديث الحادي عشر)

 (2): مرسل.

" بهذا الكلام"

 (3) أي بدعوى الإمامة

" و السيف"

 (4) أي سيف هارون‏

" يقطر"

 (5) على بناء المعلوم من باب نصر و

" دما"

 (6) تميز، و كونه من باب الأفعال و دما مفعولا بعيد، و في القاموس: البخت بالضم الإبل الخراسانية كالبختية و الجمع بخاتي و

بخاتي‏

 (7) و بخات، انتهى.

و ذكر بعض المؤرخين أن عسكر بعض الخلفاء وصلوا إلى موضع فنظروا عن جانب الطريق إلى واد يلوح منها ذهب كثير، فلما توجهوا إليها خرج إليهم نمل كثير كالبغال فقتلت أكثرهم.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏7، ص: 372

إلى هنا تم الجزء السابع- حسب تجزئتنا- و يليه الجزء الثامن- إنشاء الله تعالى- و أوله" باب الرضا بالقضاء" و كان الفراغ منه في الثامن و العشرين من شهر شوال المكرم سنة 1396. و الحمد لله أولا و آخرا.

و أنا العبد المذنب الفاني السيد هاشم الرسولي المحلاتي‏