مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 1
الجزء الثامن
تتمة كتاب الإيمان و الكفر
باب الرضا بالقضاء
(1)
(الحديث الأول)
(2): مجهول.
" رأس طاعة الله"
(3) و في بعض نسخ الحديث: كل طاعة الله، أي
أشرفها أو ما به بقاؤها فشبه الطاعة بإنسان و أثبت له الرأس، و في القاموس: الرأس
معروف و أعلى كل شيء و سيد القوم، و في بعض كتب الحديث كل طاعة الله.
" فيما أحب"
(4) أي العبد مثل الصحة و السعة و الأمن
" أو كره"
(5) كالسقم و الضيق
إلا كان
(6) أي ما قضاه الله بقرينة المقام، فإن الرضا
عن الله هو الرضا بقضائه و إرجاعه إلى الرضا بعيد، و الرضا به لا ينافي الفرار عنه
و الدعاء لرفعه لأنهما أيضا بأمره و قضائه سبحانه.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 2
(الحديث الثاني)
(1): صحيح.
" إن أعلم الناس" إلخ
(2) يدل على أن الرضا بالقضاء تابع للعلم و
المعرفة و أنه قابل للشدة و الضعف مثلهما، و ذلك لأن الرضا مبني على العلم بأنه
سبحانه قادر قاهر عدل حكيم لطيف بعباده لا يفعل بهم إلا الأصلح و أنه المدبر
للعالم و بيده نظامه، فكلما كان العلم بتلك الأمور أتم كان الرضا بقضائه أكمل و
أعظم، و أيضا الرضا من ثمرات المحبة، و المحبة تابعة للمعرفة، فإذا كملت المحبة
كلما أتاه من محبوبة التذ به و هذه أعلى مدارج الكمال.
(الحديث الثالث)
(3): صحيح.
و ضمير
عنه
(4) راجع إلى أحمد، و مضمونه موافق للحديث الأول
فإن
قوله عليه السلام و من صبر و رضي،
إلخ
(5) المراد به أن الصبر و الرضا وقعا موقعهما،
لأن المقضي عليه لا محالة خير له لا أنه إذا لم يرض و لم يصبر لم يكن خيرا له، و
لو حمل على هذا الوجه و اعتبر المفهوم يحتمل أن يكون الرضا سببا لمزيد الخيرية، و
لو لم يكن إلا الأجر المترتب على الصبر و الرضا لكفى في ذلك مع أنه قد جرب أن
الراضي بالسوء من القضاء تتبدل حاله سريعا من الشدة إلى الرخاء، و قيل: لا بد من
القول بأن المفهوم غير معتبر، أو القول بأن ما قضاه الله شر له لفقده أجر الصبر و
الرضا، أو في نظره بخلاف الصابر و الراضي فإنه خير في نظرهما و في الواقع.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 3
(الحديث الرابع)
(1): مختلف فيه صحيح على الظاهر.
و الغناء
(2) بالكسر و القصر و بالفتح و المد ضد الفقر، و
السعة
(3) بالفتح و الكسر مصدر وسعه الشيء بالكسر
يسعه سعة و هي تأكيد للغنى أو المراد بها كثرة الغناء و قد مر تأويل الاختبار
مرارا، فظهر أن اختلاف أحوالهم مبني على اختبارهم فيختبر بعضهم بالغنى ليظهر شكره
أو كفرانه، و لعلمه بأنه أصلح لدينه، و بعضهم بالفقر ليظهر شكره أو شكايته، و
لعلمه بأنه أصلح لدينه و هكذا.
و بالجملة يختبر كلا منهم بما هو
أصلح لدينه، و دنياه، و
الرقاد
(4) بالضم النوم أو هو خاص بالليل، و
الوساد
(5) بالفتح المتكإ و المخدة كالوسادة مثلثة، و
إضافة اللذيذ إليه إضافة الصفة إلى الموصوف، و الاجتهاد السعي و الجد في العبادة،
و
الليالي
(6) منصوب بالظرفية.
" فأضربه بالنعاس"
(7) كأنه على الاستعارة أي أسلطه عليه أو هو
نظير قوله تعالى:
" فَضَرَبْنا عَلَى
آذانِهِمْ" و قال الراغب: الضرب إيقاع شيء على شيء، و لتصور
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 4
اختلاف الضرب خولف بين تفاسيرها كضرب
الشيء باليد و العصا و ضرب الأرض بالمطر و ضرب الدراهم اعتبارا بضربه بالمطرقة و
الضرب في الأرض الذهاب فيه لضربها بالأرجل، و ضرب الخيمة لضرب أوتادها، و
قال:" ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَ الْمَسْكَنَةُ" أي التحفتهم
الذلة التحاف الخيمة لو ضربت عليه، و منه أستعير" فَضَرَبْنا عَلَى
آذانِهِمْ" و ضرب اللبن بعضه ببعض بالخلط.
و في القاموس:
نظر
(1) لهم رثى لهم و أعانهم، و في النهاية:
أبقيت
(2) عليه أبقى إبقاء إذا رحمته و أشفقت عليه، و
الاسم البقيا.
و قال:
المقت
(3) أشد البغض، و قال:
زريت
(4) عليه زراية إذا عبته، و العجب ابتهاج
الإنسان و سروره بتصور الكمال في نفسه و إعجابه بأعماله بظن كمالها و خلوصها، و
هذا من أقبح الأدواء النفسانية و أعظم الآفات للأعمال الحسنة حتى روي عن النبي صلى
الله عليه و آله و سلم أنه قال: لو لم تذنبوا لخشيت عليكم ما هو أكبر من ذلك
العجب، و لا ينشأ ذلك إلا من الجهل بآفات النفس و أدوائها، و بشرائط الأعمال و
مفسداتها، و عظمة المعبود و جلاله و غنائه عن طاعة المخلوقين.
" فيصيره العجب إلى الفتنة
بأعماله"
(5) أي إلى أن يفتتن بها و يحبها و يراها كاملة
فائقة على أعمال غيره أو إلى الضلالة أو الإثم بسبب الأعمال، و الأول أظهر قال في
القاموس: الفتنة بالكسر إعجابك بالشيء و الضلال و الإثم و الكفر، و الفضيحة قال
في القاموس: الفتنة بالكسر إعجابك بالشيء و الضلال و الإثم و الكفر، و الفضيحة و
العذاب و المحنة.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 5
" فلا يتكل العاملون على
أعمالهم التي يعملونها لثوابي"
(1) لأنها و إن كانت كاملة فهي في جنب عظمة
المعبود ناقصة و في جنب الثواب الذي يرجونها قاصرة و كان في العبارة إشعارا بذلك،
و أيضا قد عرفت أن شرائط الأعمال و آفاتها كثيرة تخفى أكثرها على الإنسان، و فيه
دلالة على جواز العمل بقصد الثواب كما مر تحقيقه.
" فيما يطلبون"
(2) أي في جنب ما يطلبونه عندي و هي كرامتهم علي
في الدنيا و الآخرة
" و قربهم عندي في جواري"
(3) أي مجاورة رحمتي أو مجاورة أوليائي أو في
أماني
" و لكن فبرحمتي"
(4) و في مجالس الشيخ برحمتي فليثقوا و فضلي
فليرجوا و في غيره: و من فضلي فليرجوا، و ما في الكتاب أنسب بقوله تعالى:"
قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَ بِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا" و الباء
متعلقة بفعل يفسره ما بعده، و الفاء لمعنى الشرط كأنه قيل: إن وثقوا بشيء فبرحمتي
فليثقوا
" و إلى حسن الظن بي
فليطمئنوا"
(5) أي ينبغي أن يروا أعمالهم قاصرة و يظنوا
بسعة رحمته و عفوه قبولها.
" فإن رحمتي عند ذلك
تداركهم"
(6) أي تتلافاهم بحذف إحدى التائين، و في
المجالس و غيره تدركهم، قال الجوهري: الإدراك اللحوق، و استدركت ما فات و تداركته
بمعنى، و تدارك القوم أي تلاحقوا و
" مني"
(7) بالفتح أي نعمتي يبلغهم رضواني أو يوصلهم
إليه، و في المجالس و بمني أبلغهم رضواني و ألبسهم عفوي، و في فقه
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 6
الرضا عليه السلام و منتي تبلغهم و رضواني
و مغفرتي [و عفوي] تلبسهم.
(الحديث الخامس)
(1): ضعيف و قد مر مضمونه
(الحديث السادس)
(2): مجهول.
" بياع الهروي"
(3) أي بياع الثوب المعمول في هراة بخراسان
" لا أصرفه في شيء"
(4) بالتخفيف و كان في بمعنى إلى كقوله
تعالى:" وَ إِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ" أو على بناء
التفعيل يقال: صرفته في الأمر تصريفا فتصرف، قلبته فتقلب، و الصديق الكثير الصدق
في الأقوال و الأفعال بحيث يكون فعله لقوله موافقا، أو الكثير التصديق للأنبياء
المتقدم في ذلك على غيره.
(الحديث السابع)
(5): صحيح.
و البلاء يكون في الخير و الشر و
الأول هنا أظهر، قال في النهاية: قال القتيبي: يقال من الخير
أبليته
(6) أبليه إبلاء و من الشر بلوته أبلوه بلاء، و
المعروف أن الابتلاء يكون في الخير و الشر معا من غير فرق بين فعليهما، و منه قوله
تعالى
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 7
" وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ
الْخَيْرِ فِتْنَةً" و قال في حديث الدعاء: و ما
زويت
(1) عني مما أحب، أي صرفته عني و قبضته، انتهى.
(الحديث الثامن)
(2): صحيح.
" للمرء المسلم"
(3) كان المراد المسلم بالمعنى الأخص أي المؤمن
المنقاد لله، و ربما يقرأ بالتشديد من التسليم
" و إن قرض"
(4) على بناء المجهول من باب ضرب أو على بناء
التفعيل للتكثير و المبالغة، في المصباح قرضت الشيء قرضا من باب ضرب قطعته
بالمقراضين، و المقراض أيضا بكسر الميم و الجمع مقاريض و لا يقال إذا جمع بينهما
مقراض كما تقوله العامة و إنما يقال عند اجتماعهما قرضته قرضا من باب ضرب قطعته
بالمقراضين، و في الواحد قطعته بالمقراض، انتهى.
" و إن ملك"
(5) على بناء المجرد المعلوم من باب ضرب أو على
بناء المفعول من التفعيل، و ربما يحمل التعجب هنا علي المجاز إظهارا لغرابة الأمر
و عظمه فإنه محل التعجب و أما التعجب حقيقة فلا يكون إلا عند خفاء الأسباب و هي لم
تكن مخفية عليه صلى الله عليه و آله و سلم.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 8
(الحديث التاسع)
(1): ضعيف.
" أن يسلم"
(2) بفتح الهمزة بتقدير الباء أي بأن يسلم على
بناء التفعيل و يحتمل الأفعال
" بما قضى الله"
(3) أي من البلايا و المصائب و تقتير الرزق و
أمثال ذلك مما ليس له فيه اختيار
" و عظم الله أجره"
(4) الضمير راجع إلى القضاء، فالمراد بالأجر
العوض على طريقة المتكلمين لا الثواب الدائم، و يحتمل رجوع الضمير إلى"
من" فالأجر يشملهما أي ثواب الرضا و أجر القضاء أو الأعم منهما أيضا فإن
الصفات الكمالية تصير سببا لتضاعف أجر سائر الطاعات أيضا، و كذا
قوله عليه السلام: أحبط الله أجره،
(5) يحتمل الوجوه، و قيل: يحتمل أن يكون المراد
به إحباط ثواب الرضا و إحباط أجر القضاء أيضا و يؤيد الأول ما روي عن أبي عبد الله
عليه السلام قال: ثواب المؤمن من ولده إذا مات الجنة، صبر أو لم يصبر.
فائدة
قال المحقق الطوسي قدس الله روحه في
التجريد: بعض إلا لم قبيح يصدر منا خاصة، و بعض حسن يصدر منه تعالى و منا، و حسنه إما
لاستحقاقه أو لاشتماله على النفع أو دفع الضرر الزائدين أو لكونه عاديا أو على وجه
الدفع، و يجوز في المستحق كونه عقابا و لا يكفي اللطف في ألم المكلف في الحسن، و
لا يشترط في الحسن اختيار المتألم بالفعل، و العوض نفع مستحق خال عن تعظيم و إجلال
و يستحق عليه تعالى بإنزال الآلام و تفويت المنافع لمصلحة الغير و إنزال الغموم
سواء استندت إلى علم ضروري أو مكتسب أو ظن، لا ما يستند إلى فعل العبد و أمر
عباده
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 9
بالمضار و إباحته أو تمكين غير
العاقل بخلاف الإحراق عند الإلقاء في النار، و القتل عند شهادة الزور، و الانتصاف
عليه تعالى واجب عقلا و سمعا فلا يجوز تمكين الظالم من الظلم من دون عوض في الحال
يوازي ظلمه، فإن كان المظلوم من أهل الجنة فرق الله أعواضه على الأوقات أو تفضل
عليه بمثلها، و إن كان من أهل العقاب أسقط بها جزءا من عقابه بحيث لا يظهر له
التخفيف بأن يفرق الناقص على الأوقات و لا يجب دوامه لحسن الزائد بما يختار معه
الألم و إن كان منقطعا، و لا يجب حصوله في الدنيا لاحتمال مصلحة التأخير و الألم
على القطع ممنوع مع أنه غير محل النزاع، و لا يجب إشعار صاحبه بإيصاله عوضا و لا
يتعين منافعه و لا يصح إسقاطه و العوض عليه تعالى يجب تزايده إلى حد الرضا عند كل
عاقل، و علينا تجب مساواته.
و قال العلامة نور الله ضريحه في
شرحه: اعلم أنا قد بينا وجوب الألطاف و المصالح و هي ضربان مصالح في الدين و مصالح
في الدنيا أعني المنافع الدنيوية، و مصالح، الدين إما مضار أو منافع و المضار منها
آلام و أمراض و غيرهما كالآجال و الغلاء، و المنافع الصحة و السعة في الرزق و
الرخص، و اختلف الناس في قبح الألم و حسنه، فذهب الثنوية إلى قبح جميع الآلام و
ذهبت المجبرة إلى حسن جميعها من الله تعالى، و ذهبت البكرية و أهل التناسخ و
العدلية إلى حسن بعضها و قبح الباقي، و اختلفوا في وجه الحسن إلى أن قال:
و قالت المعتزلة: إنه يحسن عند
شروط" أحدها": أن يكون مستحقا" و ثانيها" أن يكون فيها نفع
عظيم يوفى عليها" و ثالثها" أن يكون فيها دفع ضرر أعظم منها" و
رابعها" أن يكون مفعولا على مجرى العادة كما يفعله الله تعالى بالحي إذا
ألقيناه في النار" و خامسها" أن يكون مفعولا على سبيل الدفع عن النفس
كما إذا آلمنا من يقصد قتلنا، لأنا متى علمنا اشتمال الألم علي أحد هذه الوجوه
حكمنا
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 10
بحسنه قطعا، و شرط حسن الألم المبتدأ
الذي يفعله الله تعالى كونه مشتملا على اللطف إما للمتألم أو لغيره لأن خلو الألم
عن النفع الزائد الذي يختار المولم معه الألم يستلزم الظلم، و خلوه عن اللطف
يستلزم العبث و هما قبيحان، و لذا أوجب أبو هاشم في أمراض الصبيان مع الأعواض
الزائدة اشتمالها على اللطف لمكلف آخر و جوز المصنف كأبي الحسين البصري أن تقع
الآلام في الكفار و الفساق عقابا للكافر و الفاسق و منع قاضي القضاة من ذلك و جزم
بكون أمراضهم محنا لا عقوبات.
و ذهب المصنف كالقاضي و الشيخين إلى
أنه لا يكفي اللطف، في ألم المكلف في الحسن بل لا بد من عوض خلافا لجماعة اكتفوا
باللطف و لو فرضنا اشتمال اللذة على اللطف الذي اشتمل عليه الألم هل يحسن منه
تعالى فعل الألم بالحي لأجل لطف الغير مع العوض الذي يختار المكلف لو عرض عليه؟
قال أبو هاشم: نعم، و أبو الحسين منع ذلك و تبعه المصنف، و لا يشترط في حسن إلا لم
المفعول ابتداء من الله تعالى اختيار المتألم للعوض الزائد عليه بالفعل، و قيد
الخلو عن تعظيم و إجلال ليخرج به الثواب.
و الوجوه التي يستحق بها العوض على
الله تعالى أمور" الأول" إنزال الآلام بالعبد كالمرض و غيره.
" الثاني" تفويت المنافع
إذا كانت منه تعالى لمصلحة الغير فلو أمات الله تعالى ابنا لزيد و كان في معلومه
تعالى أنه لو عاش لانتفع به زيد لاستحق عليه تعالى العوض عما فاته من منافع ولده،
و لو كان في معلومه تعالى عدم انتفاعه به لأنه يموت قبل الانتفاع به لم يستحق منه
عوضا لعدم تفويت المنفعة منه تعالى، و لذلك لو أهلك ماله استحق العوض بذلك سواء
أشعر بهلاك ماله أو لم يشعر لأن تفويت المنفعة كإنزال الألم، و لو آلمه و لم يشعر
به لاستحق العوض، و كذا لو قوت عليه منفعة لم يشعر بها و عندي في هذا الوجه نظر.
مرآة
العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 11
" الثالث" إنزال الغموم
بأن يفعل الله تعالى أسباب الغم أما الغم الحاصل من العبد نفسه فإنه لا عوض فيه
عليه تعالى.
" الرابع" أمر الله تعالى
عباده بإيلام الحيوان أو إباحته سواء كان الأمر للإيجاب أو للندب فإن العوض في ذلك
كله على الله تعالى.
" الخامس" تمكين غير
العاقل مثل سباع الوحش و سباع الطير و الهوام و قد اختلف أهل العدل هنا على أربعة
أقوال فذهب بعضهم إلى أن العوض على الله تعالى مطلقا و يعزى إلى الجبائي، و قال
آخرون أن العوض على فاعل الألم عن أبي علي و قال آخرون: لا عوض هنا على الله تعالى
و لا على الحيوان، و قال القاضي: إن كان الحيوان ملجئا إلى إلى الإيلام كان العوض
عليه تعالى و إن لم يكن ملجئا كان العوض على الحيوان، و إذ أطرحنا صبيا في النار
فاحترق فإن الفاعل للألم هو الله تعالى و العوض علينا و يحسن لأن فعل الألم واجب
في الحكمة من حيث إجراء العادة و الله قد منعنا من طرحه و نهانا عنه فصار الطارح
كأنه الموصل إليه الألم، فلهذا كان العوض علينا دونه تعالى، و كذلك إذا شهد عند
الإمام شاهدا زور بالقتل فإن العوض على الشهود و إن كان الله تعالى قد أوجب القتل
و الإمام تولاه و ليس عليهما عوض لأنهما أوجبا بشهادتهما على الإمام إيصال الألم
إليه من جهة الشرع، فصارا كأنهما فعلاه لأن قبول الشاهدين عادة شرعية يجب إجراؤها
على قانونها كالعادات الحسية.
و اختلف أهل العدل في وجوب الانتصاف
عليه تعالى، فذهب قوم منهم إلى أن الانتصاف للمظلوم من الظالم واجب على الله تعالى
عقلا لأنه هو المدبر لعباده فنظره كنظر الوالد لولده، و قال آخرون منهم أنه يجب
سمعا و المصنف (ره) اختار وجوبه عقلا و سمعا، و هل يجوز أن يمكن الله تعالى من
الظلم من لا عوض له في الحال يوازي ظلمه، فمنع منه المصنف قدس سره.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 12
و قد اختلف أهل العدل هنا فقال أبو
هاشم و الكعبي: أنه يجوز لكنهما اختلفا فقال الكعبي: يجوز أن يخرج من الدنيا و لا
عوض له يوازي ظلمه، و قال: إن الله تعالى يتفضل عليه بالعوض المستحق عليه، و يدفعه
إلى المظلوم، و قال أبو هاشم: لا يجوز بل يجب التبقية لأن الانتصاف واجب و التفضل
ليس بواجب، و لا يجوز تعليق الواجب بالجائز، و قال السيد المرتضى رضي الله عنه: أن
التبقية تفضل أيضا فلا يجوز تعليق الانتصاف بها، فلهذا وجب العوض في الحال، و
اختاره المصنف (ره) لما ذكرناه.
و اعلم أن المستحق للعوض إما أن يكون
مستحقا للجنة أو للنار، فإن كان مستحقا للجنة فإن قلنا أن العوض دائم فلا بحث، و
إن قلنا أنه منقطع توجه الإشكال بأن يقال لو أوصل العوض إليه ثم انقطع عنه حصل له
الألم بانقطاعه.
و الجواب من وجهين: الأول، أنه يوصل
إليه عوضه متفرقا على الأوقات بحيث لا يتبين له انقطاعه فلا يحصل له الألم،
الثاني: أن يتفضل الله تعالى عليه بعد انقطاعه بمثله دائما فلا يحصل له ألم و إن
كان مستحقا للعقاب جعل الله عوضه جزءا من عقابه، بمعنى دائما فلا يحصل له ألم و إن
كان مستحقا للعقاب جعل الله عوضه جزءا من عقابه، بمعنى أنه يسقط من عقابه بإزاء ما
يستحقه من الأعواض إذ لا فرق في العقل بين إيصال النفع و دفع الضرر في الإيثار،
فإذا خفف عقابه و كانت آلامه عظيمة علم أن آلامه بعد إسقاط ذلك القدر من العقاب
أشد و لا يظهر له أنه كان في راحة.
أو نقول: أنه تعالى ينقص من آلامه ما
يستحقه من أعواضه متفرقا على الأوقات، بحيث لا تظهر له الخفة من قبل، و اختلف في
أنه هل يجب دوام العوض أم لا، فقال الجبائي: يجب دوامه، و قال أبو هاشم: لا يجب، و
اختاره المصنف (ره) و لا يجب إشعار مستحق العوض بتوفيره عوضا له بخلاف الثواب، و
حينئذ أمكن أن يوفره الله تعالى في الدنيا على بعض المعوضين غير المكلفين و أن
ينتصف لبعضهم من بعض في الدنيا، و لا تجب إعادتهم في الآخرة، و العوض لا يجب
إيصاله في منفعة معينة
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 13
دون أخرى، بل يصح توفيره بكل ما يحصل
فيه شهوة المعوض بخلاف الثواب لأنه يجب أن يكون من جنس ما ألفه المكلف من ملاذه و
لا يصح إسقاط العوض و لا هبته ممن وجب عليه في الدنيا و لا في الآخرة سواء كان
العوض عليه تعالى أو علينا، هذا قول أبي هاشم و القاضي و جزم أبو الحسين بصحة
إسقاط العوض علينا إذا استحل الظالم من المظلوم و جعله في حل، بخلاف العوض عليه
تعالى فإنه لا يسقط لأن إسقاطه عنه تعالى عبث لعدم انتفاعه به.
ثم قال بعد إيراد دليل القاضي على
عدم صحة الهبة مطلقا: و الوجه عندي جواز ذلك لأنه حقه و في هبته نفع للموهوب، و
يمكن نقل هذا الحق إليه، و على هذا لو كان العوض مستحقا عليه تعالى أمكن هبة
مستحقه لغيره من العباد، أما الثواب المستحق عليه تعالى فلا يصح منا هبته لغيرنا
لأنه مستحق بالمدح فلا يصح نقله إلى من لا يستحقه.
ثم قال: العوض الواجب عليه تعالى يجب
أن يكون زائدا على الألم الحاصل بفعله أو بأمره أو بإباحته أو بتمكينه لغير العاقل
زيادة تنتهي إلى حد الرضا من كل عاقل بذلك العوض في مقابلة ذلك الألم لو فعل به
لأنه لو لا ذلك لزم الظلم، أما مع مثل هذا العوض فإنه يصير كأنه لم يفعل، و أما
العوض علينا فإنه يجب مساواته لما فعله من الألم أو فوته من المنفعة لأن الزائد
على ما يستحق عليه من الضمان يكون ظلما، و لا يخرج ما فعلناه بالضمان عن كونه ظلما
قبيحا، فلا يلزم أن يبلغ الحد الذي شرطناه في الآلام الصادرة عنه تعالى، انتهى
ملخص ما ذكره قدس سره.
و إنما ذكرناها بطولها لتطلع على ما
ذكره أصحابنا تبعا لأصحاب الاعتزال و أكثر دلائلهم على جل ما ذكر في غاية
الاعتلال، بل ينافي بعض ما ذكروه كثير من الآيات و الأخبار، و نقلها و تحصيلها و
شرحها و تفصيلها لا يناسب هذا المقام، و الله أعلم بالصواب.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 14
(الحديث العاشر)
(1): ضعيف.
و يدل على أن للزهد في الدنيا و ترك
الرغبة فيها مراتب تنتهي أعلاها إلى أدنى درجات الورع أي ترك المحرمات و الشبهات،
و له أيضا مراتب تنتهي أعلاها إلى أدنى درجات الورع أي ترك المحرمات و الشبهات و
له أيضا مراتب تنتهي أعلاها إلى أدنى درجات الرضا بقضاء الله فهو أعلى درجات القرب
و الكمال.
(الحديث الحادي عشر)
(2): ضعيف.
و" كيف"
(3) للإنكار
" مؤمنا"
(4) أي كاملا في الإيمان مستحقا لهذا الاسم
" و هو"
(5) الواو للحال
" يسخط قسمه"
(6) القسم بالكسر و هو النصيب أو بالفتح مصدر
قسمه كضربه أو بكسر القاف و فتح السين جمع قسمة بالكسر مصدرا أيضا، و على الأول
الضمير البارز راجع إلى المؤمن، و على الأخيرين إما راجع إليه أيضا بالإضافة إلى
المفعول أو إلى الله
" و يحقر منزلته"
(7) الضمير راجع إلى المؤمن أيضا أي يحقر منزلته
التي أعطاه الله إياها بين الناس في المال و العزة و غيرهما، و قيل: أي منزلته عند
الله، لأنه تعالى جعل ذلك قسما له لرفع منزلته فتحقير القسم السبب لها تحقير لها و
ما ذكرنا أظهر، و يمكن إرجاعه إلى القسم أو إلى الله بالإضافة إلى الفاعل
" و الحاكم عليه الله"
(8) الواو للحال و ضمير عليه للمؤمن أو للقسم، و
قيل: و الحاكم عطف على منزلته، و الله بدل
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 15
عن الحاكم أي و يحقر الحاكم عليه و
هو الله لأن تحقير حكم الحاكم تحقير له، و لا يخفى بعده.
و في القاموس
هجس
(1) الشيء في صدره يهجس خطر بباله أو هو أن
يحدث نفسه في صدره مثل الوسواس، و يدل على أن الرضا بالقضاء موجب لاستجابة الدعاء.
(الحديث الثاني عشر)
(2): ضعيف على المشهور.
" بأنه مؤمن"
(3) أي متصف بكمال الإيمان
" بالتسليم لله"
(4) أي في أحكامه و أو أمره و نواهيه
" فيما ورد عليه"
(5) أي من قضاياه و تقديراته.
(الحديث الثالث عشر)
(6): كالسابق.
" لو كان غيره"
(7) لو للتمني، و كان تامة.
و أقول: روى مسلم في صحيحه عن النبي
صلى الله عليه و آله و سلم أنه قال: إن أصابك شيء فلا تقل إني لو فعلت كذا لم
يصبني كذا، فإن لو تفتح عمل الشيطان، و قال الآبي:
و ألحق الشاطبي بلو" ليت"
و هو كذلك إذا أريد بليت الندم و التأسف على عدم فعل ما لو فعله لم يصبه، لا تمنى
لو فعل ذلك، و قال عياض: النهي عن هذا القول مختص بالماضي، لأن النهي إنما هو عن
دعوى رد القدر بعد وقوعه، و أما المستقبل فيجوز فيه ذلك، و منه قوله عليه السلام:
لو لا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 16
كل صلاة، لأنه مستقبل لا اعتراض فيه
على قدر مضى و إنما أخبر فيه أنه كان يفعل ما هو في قدرته لو لا المانع و أما ما
مضى و ذهب فليس في القدرة و الإمكان فعله، و قال الآبي: و الذي عندي أن النهي على
عمومه و لكنه نهي تنزيه، و قال المازري:
النهي عن هذا القول في الماضي ينافي
ما جاء عنه: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدى، و أجاب: بأن الظاهر أن
النهي إنما هو عن إطلاق ذلك فيما لا فائدة فيه نهي تنزيه، و أما من يقول تأسفا على
فعل طاعة فلا بأس به، و عليه يحمل أكثر ما جاء من استعمال ذلك في الأحاديث.
باب التفويض إلى الله و التوكل عليه
(1)
(الحديث الأول)
(2): ضعيف على المشهور.
" عبد من عبادي"
(3) أي مؤمن
" عرفت"
(4) نعت للعبد، و
الكيد
(5) المكر و الحلية و الحرب، و الظاهر أن تكيد
كتبيع و ربما يقرأ على بناء التفعل، و
أسخت
(6) بالخاء المعجمة و تشديد التاء من السخت و هو
الشديد، و هو من اللغات المشتركة بين العرب و العجم، أي لا ينبت له زرع و لا يخرج
له خير من الأرض أو من السوخ و هو الانخساف على بناء الأفعال أي خسفت الأرض به، و
ربما يقرأ بالحاء المهملة
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 17
من السياحة كناية عن الزلزلة
" و لم أبال"
(1) كناية عن سلب اللطف و التوفيق عنه و عدم
علمه سبحانه الخير فيه و عدم استحقاقه للطف.
(الحديث الثاني)
(2): مجهول بسنديه و في القاموس
وجاهك
(3) و تجاهك مثلثتين تلقاء وجهك، و في النهاية و
طائفة تجاه العدو أي مقابلهم و حذاؤهم و التاء فيه بدل من واو و جاه، أي مما يلي
وجوههم
" فرزق الله حاضر"
(4) جزاء للشرط المحذوف، و أقيم الدليل مقام
المدلول، و التقدير إن كان على الدنيا فلا تحزن لأن رزق الله. و كذا
قوله: فوعد صادق
(5)، و
قوله: أو قال قادر
(6)، ترديد من الثمالي أو أحد الرواة عنه.
و في هذا التعليل خفاء و يحتمل
وجوها" الأول" أن يكون المعنى أن الله لما وعد على الطاعات المثوبات
العظيمة و قد أتيت بها و لا يخلف الله وعده فلا ينبغي الحزن عليها مع أنك من أهل
العصمة، و قد ضمن الله عصمتك، فلأي شيء حزنك فيكون مختصا به عليه السلام فلا
ينافي مطلوبية الحزن للآخرة لغيرهم عليهم السلام.
الثاني: أن الحزن إنما يكون لأمر لم
يكن منه مخرج، و هنا المخرج موجود
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 18
لأن وعد الله صادق و قد وعد على
الطاعة الثواب و على المعصية العقاب، فينبغي فعل الطاعة و ترك المعصية لنيل الثواب
و الحذر عن العقوبات و لا فائدة للحزن.
الثالث: ما قيل: أن المراد بالحزين
من به غاية الحزن لضم الكئيب معه فلا ينافي استحباب قدر من الحزن للآخرة و الأول
أظهر و أنسب بالمقام.
" و ما فيه الناس"
(1) أي من الاضطراب و الشدة لفتنته، أو المراد
بالناس الشيعة لأنه كان ينتقم منهم، و ابن الزبير هو عبد الله، و كان أعدى عدو أهل
البيت عليهم السلام و هو صار سببا لعدول الزبير عن ناحية أمير المؤمنين عليه
السلام حيث قال عليه السلام: لأزال الزبير معنا حتى أدرك فرخه.
و المشهور أنه بويع له بالخلافة بعد
شهادة الحسين عليه السلام لسبع بقين من رجب سنة أربع و ستين في أيام يزيد، و قيل:
لما استشهد الحسين عليه السلام في سنة ستين من الهجرة دعا ابن الزبير بمكة إلى
نفسه و عاب يزيد بالفسوق و المعاصي و شرب الخمور، فبايعه أهل تهامة و الحجاز فلما
بلغ يزيد ذلك ندب له الحصين بن نمير، و روح بن زنباع، و ضم إلى كل واحد جيشا و
استعمل على الجميع مسلم بن عقبة، و جعله أمير الأمراء و لما ودعهم قال: يا مسلم لا
ترد أهل الشام عن شيء يريدونه لعدوهم، و اجعل طريقك على المدينة فإن حاربوك
فحاربهم فإن ظفرت بهم فأبحهم ثلاثا.
فسار مسلم حتى نزل الحرة، فخرج أهل
المدينة فعسكروا بها و أميرهم عبد الله ابن حنظلة الراهب غسيل الملائكة فدعاهم
مسلم ثلاثا فلم يجيبوا، فقاتلهم فغلب أهل الشام و قتل عبد الله و سبعمائة من
المهاجرين و الأنصار، و دخل مسلم المدينة و أباحها ثلاثة أيام.
ثم شخص بالجيش إلى مكة و كتب إلى
يزيد بما صنع بالمدينة و مات مسلم
مرآة العقول في
شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 19
لعنه الله في الطريق فتولي أمر الجيش
الحصين بن نمير حتى وافى مكة فتحصن منه ابن الزبير في المسجد الحرام في جميع من
كان معه، و نصب الحصين المنجنيق على أبي قبيس و رمى به الكعبة فبينما هم كذلك إذ
ورد الخبر على الحصين بموت يزيد لعنة الله عليهما، فأرسل إلى ابن الزبير يسأله
الموادعة فأجابه إلى ذلك، و فتح الأبواب و اختلط العسكران يطوفون بالبيت، فبينما
الحصين يطوف ليلة بعد العشاء إذ استقبله ابن الزبير فأخذ الحصين بيده و قال له
سرا: هل لك في الخروج معي إلى الشام فأدعو الناس إلى بيعتك فإن أمرهم قد مرج و لا
أدري أحدا أحق بها اليوم منك، و لست أعصي هناك فاجتذب ابن الزبير يده من يده و هو
يجهر: دون أن أقتل بكل واحد من أهل الحجاز عشرة من الشام، فقال الحصين: لقد كذب
الذي زعم أنك من دهاة العرب، أكلمك سرا و تكلمني علانية، و أدعوك إلى الخلافة و
تدعوني إلى الحرب.
ثم انصرف بمن معه إلى الشام و قالوا
بايعه أهل العراق و أهل مصر و بعض أهل الشام إلى أن بايعوا المروان بعد حروب و
استمر له العراق إلى سنة إحدى و سبعين، و هي التي قتل فيها عبد الملك بن مروان
أخاه مصعب بن الزبير و هدم قصر الإمارة بالكوفة.
و لما قتل مصعب انهزم أصحابه فاستدعى
بهم عبد الملك فبايعوه و سار إلى الكوفة و دخلها و استقر له الأمر بالعراق و الشام
و مصر ثم جهز الحجاج في سنة ثلاث و سبعين إلى عبد الله بن الزبير فحصره بمكة و رمى
البيت بالمنجنيق ثم ظفر به و قتله و اجتز الحجاج رأسه و صلبه منكسا، ثم أنزله و
دفنه في مقابر اليهود.
و كانت خلافته بالحجاز و العراق تسع
سنين و اثنين و عشرين يوما و له من العمر ثلاث و سبعون سنة، و قيل: اثنان و سبعون
سنة، و كانت أمه أسماء بنت أبي بكر.
و أقول: الظاهر أن خوفه عليه السلام
كان من ابن الزبير عليه و على شيعته،
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 20
و يحتمل أن يكون من الحجاج و غيره
ممن حاربه، و كان الفرق بين الدعاء و السؤال أن الدعاء لدفع الضرر، و السؤال لجلب
النفع.
" فهل رأيت أحدا"
(1) أي من الأئمة عليهم السلام فإنهم لا يدعون
إلا لأمر علموا أن الله لم يتعلق إرادته الحتمية بخلافه، أو هو مقيد بشرائط
الإجابة التي منها ما ذكر كما فصلناه في كتاب الدعاء.
ثم الظاهر أن هذا الرجل إما كان ملكا
تمثل بشرا بأمر الله تعالى، أو كان بشرا كخضر و إلياس عليهما السلام، و كونه عليه
السلام أفضل و أعلم منهم لا ينافي إرسال الله تعالى بعضهم إليه لتذكيره و تنبيهه و
تسكينه كإرسال بعض الملائكة إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم مع كونه أفضل
منهم، و كإرسال خضر إلى موسى عليهما السلام، و كونه عليه السلام عالما بما ألقي
إليه لا ينافي التذكير و التنبيه، فإن أكثر أرباب المصائب عالمون بما يلقى إليهم
على سبيل التسلية و التعزية و مع ذلك ينفعهم، لا سيما إذا علم أن ذلك من قبل الله
تعالى.
و قيل: أنه عليه السلام كان مترددا
في أن يدعو على ابن الزبير و هل هو مقرون برضاه سبحانه، فلما أذن بتوسط هذا الرجل
أو الملك في الدعاء عليه دعا فاستجيب له، فلذا لم يمنع الله من ألقى المنجنيق إلى
الكعبة لقتله كما منع الفيل لأن حرمة الإمام عليه السلام أعظم من الكعبة، انتهى.
(الحديث الثالث)
(2): ضعيف بسنديه.
" يجولان"
(3) من الجولان أي يسيران و يتحركان لطلب موطن و
منزل يقيمان فيه،
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 21
فإذا وجدا موضع التوكل
(1) أي المتوكل
" أوطنا"
(2) عنده و لزماه و كأنه استعارة تمثيلية لبيان
أن الغناء و العز يلزمان التوكل فإن المتوكل يعتمد على الله و لا يلتجئ إلى
المخلوقين فينجو من ذل الطلب و يستغني عنهم فإن الغناء غنى النفس لا الغناء
بالمال، مع أنه سبحانه يغنيه عن التوسل إليهم على كل حال.
ثم إن التوكل ليس معناه ترك السعي في
الأمور الضرورية و عدم الحذر عن الأمور المحذورة بالكلية بل لا بد من التوسل
بالوسائل و الأسباب على ما ورد في الشريعة من غير حرص و مبالغة فيه و مع ذلك لا
يعتمد على سعيه و ما يحصله من الأسباب بل يعتمد على مسبب الأسباب، قال المحقق
الطوسي (ره) في أوصاف الأشراف: المراد بالتوكل أن يكل العبد جميع ما يصدر عنه و
يرد عليه إلى الله تعالى، لعلمه بأنه أقوى و أقدر و يصنع ما قدر عليه على وجه أحسن
و أكمل، ثم يرضى بما فعل و هو مع ذلك يسعى و يجتهد فيما و كله الله إليه و يعد
نفسه و عمله و قدرته و إرادته من الأسباب و الشروط و المخصصة لتعلق قدرته تعالى و
إرادته بما صنعه بالنسبة إليه، و من ذلك يظهر معنى: لا جبر و لا تفويض بل أمر بين
أمرين.
بما صنعه بالنسبة إليه، و من ذلك
يظهر معنى: لا جبر و لا تفويض بل أمرين أمرين.
(الحديث الرابع)
(3): صحيح.
و في القاموس
إذن أقبل قبلك،
(4) بالضم أقصد قصيدك، و قبالته بالضم تجاهه، و
القبل محركة المحجة الواضحة، و لي قبله بكسر القاف أي عنده، انتهى.
و المراد إقبال العبد نحو ما يحبه
الله و كون ذلك مقصوده دائما، و إقبال
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 22
الله نحو ما يحبه العبد توجيه أسباب
ما يحبه العبد من مطلوبات الدنيا و الآخرة، و الاعتصام بالله الاعتماد و التوكل عليه.
" و من أقبل الله" إلخ،
(1) هذه الجمل تحتمل وجهين: الأول: أن يكون لم
يبال، خبرا للموصول، و
قوله: لو سقطت
(2) جملة أخرى استئنافية و
قوله: كان في حزب الله،
(3) جزاء الشرط" الثاني" أن يكون لم
يبال جزاء الشرط و مجموع الشرط و الجزاء خبر الموصول، و قوله: كان في حزب الله
استئنافا
" فشملتهم بلية"
(4) بالنصب على التميز، أو بالرفع أي شملتهم
بلية بسبب النازلة أو يكون من قبيل وضع الظاهر موضع المضمر" بالتقوى" أي
بسببه كما هو ظاهر الآية فقوله من كل بلية متعلق بمحذوف أي محفوظا من كل بلية أو
الباء للملابسة، و من كل متعلق بالتقوى أي يقيه من كل بلية، و الأول أظهر.
و قوله: في حزب الله، كناية عن
الغلبة و الظفر، أي الحزب الذين وعد الله نصرهم و يتيسر أمورهم، كما قال
تعالى:" فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ".
" إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي
مَقامٍ"
(5) قرأ ابن عامر و نافع بضم الميم و الباقون
بالفتح، أي في موضع إقامة
" أَمِينٍ"
(6) أي أمنوا فيه الغير من الموت و الحوادث، أو
أمنوا فيه من الشيطان و الأحزان، و قال البيضاوي: يأمن صاحبه عن الآفة و الانتقال،
انتهى.
و أقول: ظاهر أكثر المفسرين أن
المراد وصف مقامهم في الآخرة بالأمن، و ظاهر الرواية الدنيا، و يمكن حمله علي
الأعم و لا يأبى عنه الخبر، و لعل المراد
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 23
أمنهم من الضلال و الحيرة و مضلات
الفتن في الدنيا، و من جميع الآفات و العقوبات في الآخرة، و عليه يحمل قوله
سبحانه:" أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ
يَحْزَنُونَ" فإنه لا يتخوف عليهم الضلالة بعد الهداية، و لا يحزنون من مصائب
الدنيا لعلمهم بحسن عواقبها، و يحتمل أن يكون المعنى هنا أن الله تعالى يحفظ
المطيعين و المتقين المتوكلين عليه من أكثر النوازل و المصائب و ينصرهم على
أعدائهم غالبا كما نصر كثيرا من الأنبياء و الأولياء على كثير من الفراعنة، و لا
ينافي مغلوبيتهم في بعض الأحيان لبعض المصالح.
(الحديث الخامس)
(1): مرسل كالموثق.
و الحلال
(2) بالتشديد بياع الحل بالفتح و هو دهن السمسم
" وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى
اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ"
(3) أي و من يفوض أموره إلى الله و وثق بحسن
تدبيره و تقديره فهو كافيه يكفيه أمر دنياه و يعطيه ثواب الجنة، و يجعله بحيث لا
يحتاج إلى غيره.
" منها أن تتوكل"
(4) الظاهر أن هذا آخر أفراد التوكل و سائر درجات
التوكل أن يتوكل على الله في بعض أموره دون بعض، و تعددها بحسب كثرة الأمور
المتوكل فيها و قلتها.
" فما فعل بك" إلخ،
(5) بيان للوازم التوكل و آثاره و أسبابه، و
الألو التقصير و إذا عدي إلى مفعولين ضمن معنى المنع، قال في النهاية: ألوت قصرت،
يقال
مرآة
العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 24
إلى الرجل و آلى إذا قصر و ترك
الجهد،
قوله: فيها،
(1) أي في أمورك كلها
" و في غيرها"
(2) أي في أمور غيرك من عشائرك و أتباعك و
غيرهم.
(الحديث السادس)
(3): مجهول.
و النشر في الآيات علي عكس ترتيب
اللف و المراد بالإعطاء توفيق الإتيان به في الكل و التخلف المتوهم في بعض الموارد
لعدم تحقق بعض الشرائط فإن" كلا" منها مشروط بعدم كون المصلحة في
خلافها، و عدم صدور ما يمنع الاستحقاق عن فاعله، و قد قال تعالى:" أَوْفُوا
بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ" و سيأتي مزيد تحقيق لذلك إنشاء الله تعالى.
(الحديث السابع)
(4): ضعيف على المشهور.
و أسعف حاجته قضاها له، و في أكثر
النسخ
لا تسعف
(5) و لا تنجح بالتاء فهما
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 25
على بناء المفعول و في بعضها بالياء
فهما على بناء الفاعل و حينئذ
" لا يبلغك"
(1) علي التفعيل أو الأفعال و الضمائر المستترة
لفلان، و ما علمك أي ما سبب علمك.
و العزة
(2) الشدة و القوة و الغلبة و السلطنة و الملك،
قال الراغب: العزة حالة مانعة للإنسان من أن يقهر من قولهم أرض عزاز أي صلبة و العزيز
الذي يقهر و لا يقهر و الجلالة العظمة و التنزه عن النقائص، قال الراغب:
الجلالة
(3) عظم القدر، و الجلال بغير الهاء التناهي في
ذلك، و خص بوصف الله فقيل: ذو الجلال و لم يستعمل في غيره، و الجليل: العظيم
القدر، و وصفه تعالى بذلك إما لخلقه الأشياء العظيمة المستدل بها عليه أو لأنه يجل
عن الإحاطة به أو لأنه يجل عن أن يدرك بالحواس و قال:
المجد
(4) السعة في الكرم و الجلالة، انتهى.
و ارتفاعه إما على عرش العظمة و
الجلال أو هو كناية عن استيلائه على العرش العظيم، فهو يتضمن الاستيلاء علي كل
شيء لأن تقدير جميع الأمور فيه، أو لكونه محيطا بالجميع، أو المراد بالعرش جميع
الأشياء و هو أحد إطلاقاته كما مر.
و قوله باليأس
(5) متعلق بقوله: لا قطعن أي ييأس غالبا أو إلا
بإذنه تعالى، و إضافة الثوب إلى المذلة من إضافة المشبه به إلى المشبه، و الكسوة
ترشيح التشبيه،
و لأنحينه
(6) أي لأبعدنه و أزيلنه
" و الشدائد بيدي"
(7) أي تحت قدرتي و
" يقرع بالفكر"
(8) تشبيه الفكر باليد مكنية، و إثبات القرع له
تخييلية و ذكر الباب ترشيح.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 26
" و هي مغلقة"
(1) أي أبواب الحاجات مغلقة و مفاتيحها بيده
سبحانه، و هو استعارة على التمثيل للتنبيه على أن قضاء الحاجة المرفوعة إلى الخلق
لا يتحقق إلا بإذنه و النائبة المصيبة واحدة
نوائب
(2) الدهر أي أمل رحمتي لدفع نوائبه.
" فقطعته دونها"
(3) أي فجعلته منقطعا عاجزا قبل الوصول إلى
دفعها من قولهم قطع بفلان فهو مقطوع به إذا عجز عن سفره من نفقة ذهبت أو قامت عليه
راحلة و نحوه، فالدفع أو نحوه مقدر في الموضعين، أو التقدير فقطعته أي تجاوزت عنه
عند تلك المصيبة فلم أخلصه عنها من قولهم قطع النهر إذا تجاوزه، و قيل: المعنى
قطعته عن نفسي قبل تلك المصيبة فلم أرافقه لدفعها، و قيل: أي قطعته عند النوائب و
هجرته، أو منعته من أمله و رجائه و لم أدفع نوائبه تقول: قطعت الصديق قطيعة إذا
هجرته، و قطعته من حقه إذا منعته.
" لعظيمة"
(4) أي لمطالب عظيمة أو لنازلة عظيمة عندي
محفوظة أي لم أعطهم إياها لعدم مصلحتهم، و حفظت عوضها من المثوبات العظيمة فلم
يرضوا بهذا الحفظ بل حملوه على التقصير أو العجز، أو قلة اللطف و عجلوا طلبها و
طلبوا من غيري
" ممن لا يمل"
(5) أي من الملائكة
" و أمرتهم أن لا يغلقوا
الأبواب"
(6) كناية عن السعي في قضاء حوائجهم أو رفع
وساوس الشيطان عنهم و توفيقهم للدعاء و المسألة، بل الدعاء و سؤال المغفرة و
الرحمة لهم، أو رفع حاجاتهم إلى الله و عرضها عليه سبحانه و إن كان تعالى عالما
بها، فإنه من أسباب الإجابة، و كل ذلك ورد في الآيات و الأخبار مع أنه لا استبعاد
في أن يكون للسماوات أبواب تفتح عند دعاء المؤمنين علامة لإجابتهم.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 27
" فلم يثقوا بقولي"
(1) أي وعدي الإجابة لهم و أني أعطيهم مع عدم
الإجابة أفضل من ذلك و أن مفاتيح الأمور بيدي
" من طرقته"
(2) أي نزلت به و أتته مطلقا و إن كان إطلاقه على
ما نزل بالليل أكثر
" إلا من بعد إذني"
(3) أي يتيسر الأسباب و رفع الموانع
" أعطيته"
(4) الضمير راجع إلى من طرقته نائبة أو إلى
الإنسان مطلقا
" أ فيراني"
(5) الاستفهام للإنكار و التعجب و يقال بخلة
بالتشديد أي نسبه إلى البخل.
" أو ليس"
(6) عطف على بخيل أو الهمزة للاستفهام و الواو
للعطف على الجمل السابقة، و كذا الفقرة الآتية يحتمل الوجهين
" فمن يقطعها دوني"
(7) أي فمن يقدر أن يقطع آمال العباد عني قبل
وصولها إلى أو من يقدر أن يقطع الآمال عن العباد غيري، و على الأول أيضا يشعر بأنه
سبحانه قادر على قطع آمال العباد بعضهم عن بعض.
" أ فلا يخشى المؤملون"
(8) الخشية إما من العقوبة أو من قطع الآمال أو
من الإبعاد عن مقام القرب، أو من إزالة النعماء عنه
" أنا قيمه"
(9) أي قائم بسياسة أموره، و فيه إشارة إلى أن
مقدوراته تعالى غير متناهية، و الزيادة و النقصان من خواص المتناهي
" فيا بؤسا"
(10) البؤس و البأساء الشدة و الفقر و الحزن، و
نصب بؤسا بالنداء
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 28
لكونه نكرة و النداء مجاز لبيان أن
القانط و العاصي هو محل ذلك و مستحقه، و قيل:
تقديره يا قوم أبصروا بؤسا.
و أقول: يحتمل أن يكون"
يا" للتنبيه و قوله بؤسا كقوله سبحانه:" فَسُحْقاً لِأَصْحابِ
السَّعِيرِ" فإن التقدير أسحقهم الله سحقا، فكذا هيهنا
" و لم يراقبني"
(1) أي لم يخف عذابي أو لم يحفظ حقوقي.
(الحديث الثامن)
(2): مجهول.
و قد مر بعض أحوال موسى بن عبد الله
بن الحسن في كتاب الحجة، و في القاموس
ينبع
(3) كينصر حصن له عيون و نخيل و زروع بطريق حاج
مصر.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 29
باب الخوف و الرجاء
(1)
(الحديث الأول)
(2): ضعيف.
و الأعاجيب
(3) جمع الأعجوبة و هي ما يعجبك حسنة أو قبحه، و
المراد هنا الأول و يدل على أنه ينبغي أن يكون الخوف و الرجاء كلاهما كاملين في
النفس، و لا تنافي بينهما فإن ملاحظة سعة رحمة الله و غنائه وجوده و لطفه على
عباده سبب للرجاء و النظر إلى شدة بأس الله و بطشه و ما أوعد العاصين من عباده
موجب للخوف مع أن أسباب الخوف ترجع إلى نقص العبد و تقصيره و سوء أعماله و قصوره
عن الوصول إلى مراتب القرب و الوصال، و انهماكه فيما يوجب الخسران و الوبال، و
أسباب الرجاء تؤول إلى لطف الله و رحمته و عفوه و غفرانه و وفور إحسانه، و كل
منهما في أعلى مدارج الكمال.
قال بعضهم: كلما يلاقيك من مكروه و
محبوب ينقسم إلى موجود في الحال و إلى موجود فيما مضى و إلى منتظر في الاستقبال،
فإذا خطر ببالك موجود فيما مضى سمي فكرا و تذكرا و إن كان ما خطر بقلبك موجودا في
الحال سمي إدراكا و إن كان خطر ببالك وجود شيء في الاستقبال و غلب ذلك على قلبك
سمي انتظارا و توقعا، فإن كان المنتظر مكروها حصل منه ألم في القلب سمي خوفا و
إشفاقا و إن كان محبوبا حصل من انتظاره و تعلق القلب و إخطار وجوده بالبال لذة في
القلب و ارتياح يسمى
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 30
ذلك الارتياح
رجاء
(1)، فالرجاء هو ارتياح القلب لانتظار ما هو
محبوب، و لكن ذلك المحبوب المتوقع لا بد و أن يكون له سبب، فإن كان انتظاره لأجل
حصول أكثر أسبابه فاسم الرجاء عليه صادق، و إن كان ذلك انتظارا مع عدم تهيئ أسبابه
و اضطرابها، فاسم الغرور و الحمق عليه أصدق من اسم الرجاء، و إن لم تكن الأسباب
معلومة الوجود و لا معلومة الانتفاء فاسم التمني أصدق على انتظاره لأنه انتظار من
غير سبب، و على كل حال فلا يطلق اسم الرجاء و الخوف إلا على ما يتردد فيه، أما ما
يقطع به فلا، إذ لا يقال أرجو طلوع الشمس وقت الطلوع و أخاف غروبها وقت الغروب،
لأن ذلك مقطوع به، نعم يقال أرجو نزول المطر و أخاف انقطاعه.
و قد علم أرباب القلوب أن الدنيا
مزرعة الآخرة، و القلب كالأرض و الإيمان كالبذر فيه و الطاعات جارية مجرى تقليب
الأرض و تطهيرها و مجرى حفر الأنهار و سياقة الماء إليها، و القلب المستغرق
بالدنيا كالأرض السبخة التي لا ينمو فيها البذر، و يوم القيامة الحصاد و لا يحصد
أحد إلا ما زرع و لا ينمو زرع إلا من بذر الإيمان و قل ما ينفع إيمان مع خبث القلب
و سوء أخلاقه كما لا ينمو بذر في أرض سبخة.
فينبغي أن يقاس رجاء العبد للمغفرة
برجاء صاحب الزرع فكل من طلب أرضا طيبة و ألقى فيها بذرا جيدا غير عفن و لا مسوس
ثم أمده بما يحتاج إليه و هو سياق الماء إليه في أوقاته ثم نقى الأرض عن الشوك و
الحشيش و كلما يمنع نبات البذر أو يفسده ثم جلس منتظرا من فضل الله دفع الصواعق و
الآفات المفسدة إلى أن يثمر الزرع و يبلغ غايته سمي انتظاره رجاء، و إن بث البذر
في أرض صلبة سبخة مرتفعة لا ينصب الماء إليها و لم يشغل بتعهد البذر أصلا ثم انتظر
حصاد الزرع يسمى انتظاره حمقا و غرورا لا رجاء، و إن بث البذر في أرض طيبة و لكن
لا ماء
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 31
لها و ينتظر مياه الأمطار حيث لا
تغلب الأمطار و لا يمتنع سمي انتظاره تمنيا لا رجاء.
فإذا اسم الرجاء إنما يصدق على
انتظار محبوب تمهدت جميع أسبابه الداخلة تحت اختيار العبد، و لم يبق إلا ما ليس
يدخل تحت اختياره و هو فضل الله بصرف القواطع و المفسدات، فالعبد إذا بث بذر
الإيمان و سقاه بماء الطاعة، و طهر القلب عن شوك الأخلاق الرديئة و انتظر من فضل
الله تعالى تثبيته على ذلك إلى الموت و حسن الخاتمة المفضية إلى المغفرة كان
انتظاره رجاء حقيقيا محمودا في نفسه باعثا له على المواظبة و القيام بمقتضى
الإيمان في إتمام أسباب المغفرة إلى الموت، و إن انقطع عن بذر الإيمان تعهده بماء
الطاعات أو ترك القلب مشحونا برذائل الأخلاق، و انهمك في طلب لذات الدنيا ثم انتظر
المغفرة فانتظاره حمق و غرور، كما قال تعالى:" فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ
خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَ يَقُولُونَ
سَيُغْفَرُ لَنا" و إنما الرجاء بعد تأكد الأسباب و لذا قال تعالى:"
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ" و أما من ينهمك فيما يكرهه الله و لا
يذم نفسه عليه و لا يعزم على التوبة و الرجوع فرجاؤه المغفرة حمق كرجاء من بث
البذر في أرض سبخة و عزم على أن لا يتعهدها بسقي و لا تنقية.
فإذا عرفت حقيقة الرجاء و مظنته فقد
عرفت أنها حالة أثمرها العلم بجريان أكثر الأسباب، و هذه الحالة تثمر الجهد للقيام
ببقية الأسباب على حسب الإمكان، فإن من حسن بذره و طابت أرضه و غزر ماؤه صدق رجاؤه
فلا يزال يحمله صدق الرجاء على تفقد الأرض و تعهده و تنقية كل حشيش ينبت فيه، و لا
يفتر عن تعهده أصلا إلى وقت الحصاد، و هذا لأن الرجاء يضاده اليأس، و اليأس يمنع
من التعهد
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 32
و الخوف ليس بضد للرجاء، بل هو رفيق
له و باعث آخر بطريق الرهبة كما أن الرجاء باعث بطريق الرغبة، انتهى.
ثم ظاهر الخبر أنه لا بد أن يكون
العبد دائما بين الخوف و الرجاء، لا يغلب أحدهما على الآخر إذ لو رجح الرجاء لزم
الأمن لا في موضعه و قال تعالى:" أَ فَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ
مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ" و لو رجح الخوف لزم اليأس
الموجب للهلاك كما قال سبحانه:" إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ
إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ" و قيل: يستحب أن يغلب في حال الصحة الخوف،
فإذا انقطع الأجل يستحب أن يغلب الرجاء ليلقى الله على حالة هي أحب إليه إذ هو
سبحانه الرحمن الرحيم و يحب الرجاء، و قيل: ثمرة الخوف الكف عن المعاصي فعند دنو
الأجل زالت تلك الثمرة فينبغي غلبة الرجاء.
و قال بعضهم: الخوف ليس من الفضائل و
الكمالات العقلية في النشأة الآخرة و إنما هو من الأمور النافعة للنفس في الهرب عن
المعاصي و فعل الطاعات ما دامت في دار العمل، و أما عند انقضاء الأجل و الخروج من
الدنيا فلا فائدة فيه، و أما الرجاء فإنه باق أبدا إلى يوم القيامة لا ينقطع لأنه
كلما نال العبد من رحمة الله أكثر كان ازدياد طمعه فيما عند الله أعظم و أشد لأن
خزائن جوده و خيره و رحمته غير متناهية لا تبيد و لا تنقص، فثبت أن الخوف منقطع و
الرجاء أبدا لا ينقطع، انتهى.
و الحق أن العبد ما دام في دار
التكليف لا بد له من الخوف و الرجاء و بعد مشاهدة أمور الآخرة يغلب عليه أحدهما لا
محالة بحسب ما يشاهده من أحوالها.
(الحديث الثاني)
(1): ضعيف على المشهور.
و اعلم أن
الرؤية
(2) تطلق على الرؤية بالبصر و على الرؤية
القلبية و هي كناية
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 33
عن غاية الانكشاف و الظهور، و المعنى
الأول هنا أنسب أي خف الله خوف من يشاهده بعينه و إن كان محالا، و يحتمل الثاني
أيضا فإن المخاطب لما لم يكن من أهل الرؤية القلبية و لم يرتق إلى تلك الدرجة
العلية فإنها مخصوصة بالأنبياء و الأوصياء عليهم السلام قال: كأنك تراه، و هذه
مرتبة عين اليقين و أعلى مراتب السالكين، و
قوله: فإن لم تكن تراه،
(1) أي إن لم تحصل لك هذه المرتبة من الانكشاف و
العيان، فكن بحيث تتذكر دائما أنه يراك، و هذه مقام المراقبة كما قال تعالى:"
أَ فَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ. إِنَّ اللَّهَ كانَ
عَلَيْكُمْ رَقِيباً" و المراقبة مراعاة القلب للرقيب و اشتغاله به و المثمر
لها هو تذكر أن الله تعالى مطلع على كل نفس بما كسبت، و أنه سبحانه عالم بسرائر
القلوب و خطراتها، فإذا استقر هذا العلم في القلب جذبه إلى مراقبة الله سبحانه
دائما و ترك معاصيه خوفا و حياءا، و المواظبة على طاعته و خدمته دائما.
و قوله: و إن كنت ترى
(2)، تعليم لطريق جعل المراقبة ملكة للنفس فتصير
سببا لترك المعاصي، و الحق أن هذه شبهة عظيمة للحكم بكفر أرباب المعاصي، و لا يمكن
التفصي عنها إلا بالاتكال على عفوه و كرمه سبحانه، و من هنا يظهر أنه لا يجتمع
الإيمان الحقيقي مع الإصرار على المعاصي، كما مرت الإشارة إليه.
" ثم برزت له بالمعصية"
(3) أي أظهرت له المعصية، أو من البراز للمقاتلة
كأنك عاديته و حاربته، و
" عليك"
(4) متعلق بأهون.
(الحديث الثالث)
(5): مجهول، و المضمون مجرب معلوم.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 34
(الحديث الرابع)
(1): كالسابق.
و يقال:
سخي
(2) عن الشيء يسخى من باب تعب ترك، و يدل على
أن الخوف من الله لازم لمعرفته كما قال تعالى:" إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ
عِبادِهِ الْعُلَماءُ" و ذلك لأن من عرف عظمته و غلبته على جميع الأشياء، و
قدرته على جميع الممكنات بالإيجاد و الإفناء خاف منه، و أيضا من علم من علم
احتياجه إليه في وجوده و بقائه و سائر كمالاته في جميع أحواله خاف سلب ذلك منه، و
معلوم أن الخوف من الله سبب لترك ملاذ الدنيا و شهواتها الموجبة لسخط الله.
(الحديث الخامس)
(3): مرسل.
" و يقولون نرجو"
(4) أي رحمة الله و غفرانه
" حتى تأتيهم الموت"
(5) أي بلا توبة و لا تدارك، و
الترجح
(6) تذبذب الشيء المعلق في الهواء و التميل من
جانب إلى جانب، و ترجحت به الأرجوحة مالت، و هي حبل يعلق و يركبه الصبيان، فكأنه
عليه السلام شبه أمانيهم بأرجوحة يركبه الصبيان، يتحرك بأدنى نسيم و حركة، فكذا
هؤلاء يميلون بسبب الأماني من الخوف إلى الرجاء بأدنى و هم، و
" في"
(7) يحتمل الظرفية و السببية، و كونه بمعنى على،
و لما كان الخوف و الرجاء متلازمين ذكر الخوف أيضا فإن رجاء كل شيء مستلزم للخوف
من فواته.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 35
(الحديث السادس)
(1): مرفوع.
و في القاموس:
أ لم
(2) باشر اللمم، و به نزل كلم و اللمم: صغار
الذنوب
" ليسوا لنا بموال"
(3) لأن الموالاة ليست مجرد القول، بل هي اعتقاد
و محبة في الباطن و متابعة و موافقة في الظاهر لا ينفك أحدهما عن الآخر.
و روي في نهج البلاغة عن أمير
المؤمنين عليه السلام أنه قال بعد كلام طويل لمدع كاذب أنه يرجو الله يدعي أنه
يرجو الله: كذب و الله العظيم ما باله لا يتبين رجاؤه في عمله، و كل من رجا عرف
رجاؤه في عمله، إلا رجاء الله فإنه مدخول، و كل خوف محقق إلا خوف الله فإنه معلول
يرجو الله فإنه مدخول، و كل خوف محقق إلا خوف الله فإنه معلول يرجو الله في
الكبير، و يرجو العباد في الصغير، فيعطى العبد ما لا يعطي الرب، فما بال الله جل
ثناؤه يقصر به عما يصنع لعباده أ لا تخاف أن تكون في رجائك له كاذبا، أو تكون لا
تراه للرجاء موضعا، و كذلك إن هو خاف عبدا من عبيده أعطاه من خوفه ما لا يعطي ربه
فجعل خوفه من العباد فقدا و خوفه من خالقه ضمارا و وعدا.
و قال ابن ميثم في شرح هذا الكلام:
المدخول الذي فيه شبهة و ريبة، و المعلول الغير الخالص، و الضمار الذي لا يرجى من
الموعود، قال: و بيان الدليل أن كل من رجا أمرا من سلطان أو غيره فإنه يخدمه
الخدمة التامة و يبالغ في طلب رضاه، و يكون عمله له بقدر قوة رجائه له و خلوصه، و يرى
هذا المدعي للرجاء غير عامل فيستدل بتقصيره في الأعمال الدينية على عدم رجائه
الخالص في الله، و كذلك كل خوف محقق إلا خوف الله فإنه معلول توبيخ للطامعين في
رجائه مع تقصيرهم في الأعمال الدينية، انتهى.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 36
و الحاصل أن الأحاديث الواردة في سعة
عفو الله سبحانه و جزيل رحمته و وفور مغفرته كثيرة جدا، و لكن لا بد لمن يرجوها و
يتوقعها من العمل الخالص المعد لحصولها، و ترك الانهماك في المعاصي، المفوت لهذا
الاستعداد كما عرفت في التمثيل بالباذرين سابقا، فاحذر أن يغرك الشيطان و يثبطك عن
العمل و يقنعك بمحض الرجاء و الأمل، و انظر إلى حال الأنبياء و الأولياء و
اجتهادهم في الطاعات و صرفهم العمر في العبادات ليلا و نهارا، أما كانوا يرجون عفو
الله و رحمته! بلى و الله إنهم كانوا أعلم بسعة رحمته و أرجى لها منك و من كل أحد،
و لكن علموا أن رجاء الرحمة من دون العمل غرور محض و سفه بحث فصرفوا في العبادات
أعمارهم، و قصروا على الطاعات ليلهم و نهارهم.
(الحديث السابع)
(1): كالسابق.
" إن من العبادة"
(2) أي من أعظم أسبابها أو هي بنفسها عبادة أمر
الله بها كما سيأتي، و الخوف مبدؤه تصور عظمة الخالق و وعيده و أهوال الآخرة، و
التصديق بها و بحسب قوة ذلك التصور و هذا التصديق يكون قوة الخوف و شدته و هي
مطلوبة ما لم تبلغ حد القنوط.
" إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ
عِبادِهِ الْعُلَماءُ"
(3) و هم الذين علموا عظمة الله و جلاله و عزه و
قهره وجوده و فضله علما يقينيا يورث العمل و معاينة أحوال الآخرة و أهوالها كما
مر.
و قال المحقق الطوسي (ره) في أوصاف
الأشراف ما حاصله: أن الخوف
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 37
و الخشية و إن كانا بمعنى واحد في
اللغة إلا أن بينهما فرقا بين أرباب القلوب، و هو أن الخوف تألم النفس من المكروه
المنتظر، و العقاب المتوقع بسبب احتمال فعل المنهيات و ترك الطاعات، و هو يحصل
لأكثر الخلق و إن كانت مراتبه متفاوتة جدا و المرتبة العليا منه لا تحصل إلا
للقليل، و الخشية حالة نفسانية تنشأ عن الشعور بعظمة الرب و هيبته، و خوف الحجب
عنه، و هذه الحالة لا تحصل إلا لمن اطلع على جلال الكبرياء و ذاق لذة القرب، و
لذلك قال سبحانه:" إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ"
و الخشية خوف خاص و قد يطلقون عليها الخوف أيضا، انتهى.
" وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ
يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً"
(1) التقوى على مراتب: أولها: التبري عن الشرك و
ما يوجب الخلود في النار، و ثانيها: التجنب عما يؤثم و الاتقاء عن العذاب مطلقا، و
ثالثها: التنزه عما يشغل القلب عن الحق، و بناء الكل على الخوف من العقوبة، و
البعد عن الحق.
و لعل المراد هنا إحدى الأخيرتين، أي
و من يتق الله خوفا منه يجعل له مخرجا من شدائد الدنيا و الآخرة، كما روي عن ابن
عباس أو من ضيق المعاش كما يشعر به قوله تعالى:" وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ
لا يَحْتَسِبُ" قيل: و كان السر في الأول أن شدائد الدارين من الحرص على
الدنيا و اقتراف الذنوب و الغفلة عن الحق و المتقي منزه عن جميع ذلك، و في الثاني
أن فيضه تعالى وجوده عام لا بخل فيه، و إنما المانع من قبول فيضه هو بعد العبد
عنه، و عدم استعداده له بالذنوب، فإذا اتقى منها قرب منه تعالى، و استحق قبول فيضه
بلا تعب و لا كلفة، فيجمع بذلك خير الدنيا و الآخرة.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 38
" إن حب الشرف و الذكر"
(1) أي حب الجاه و الرئاسة و العزة في الناس، و
حب الذكر و المدح و الثناء منهم و الشهرة فيهم" لا يكونان في قلب الخائف
الراهب" لأن حبهما من آثار الميل إلى الدنيا و أهلها، و الخائف الراهب منزه
عنه، و أيضا حبهما من الأمراض النفسانية المهلكة، و الخوف و الرهبة ينزهان النفس
عنها، و ذكر الراهب بعد الخائف من قبيل ذكر الخاص بعد العام إذ الرهبة بمعنى
الخشية و هي أخص من الخوف.
(الحديث الثامن)
(2): ضعيف.
" ركب البحر"
(3) البحر مفعول به أو مفعول فيه، أي ركب
السفينة في البحر، و قيل: أراد بالبحر السفينة من قبيل تسمية الحال باسم المحل
بقرينة رجوع الضمير المستتر في
قوله" فكسر"
(4) إليه، و الباء في
" بأهله"
(5) بمعنى مع، و انتهاك الحرمة تناولها بما لا
يحل، و الحرمة بالضم ما لا يحل انتهاكه
" فلم يعلم"
(6) أي تلك الواقعة
" إلا"
(7) في حالة كانت المرأة قائمة على رأسها.
" مجلس الرجل"
(8) أي وقت الجماع، و يقال:
فرق
(9) كتعب أي خاف، و المصدر الفرق بالتحريك و
صادفه
(10) وجده و لقيه،
حمي
(11) الشمس كرضى اشتد حرها، و
تجاسر
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 39
(1) عليه اجترأ
" و تؤمن"
(2) على بناء التفعيل، أي تقول آمين
" فما كان"
(3) أي شيء أسرع من تظليل الغمامة، و في
النهاية:
الملي
(4) طائفة من الزمان لا حد لها، يقال: مضى ملي
من النهار، و ملي من الدهر، أي طائفة منه و يدل على أن ترك كبيرة واحدة مع القدرة
عليها خوفا من الله و خالصا لوجهه موجب لغفران الذنوب كلها و لو كان حق الناس، لأن
الرجل كان يقطع الطريق مع احتمال أن تكون المغفرة للخوف مع التوبة إلى الله و
المراجعة إلى الناس في حقوقهم، كما يفهم من قوله: و ليس له همة إلا التوبة و
المراجعة
(5).
(الحديث التاسع)
(6): مجهول.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 40
" إن لكم معالم"
(1) في القاموس معلم الشيء كمقعد مظنته و ما
يستدل به، و في الصحاح المعلم الأثر يستدل به على الطريق و المراد هنا إما الآيات
القرآنية لا سيما الآيات الدالة على إمامة أئمة الدين و وجوب متابعتهم، أو كل ما
يعلم منه حكم من أحكام الدين أصولا و فروعا من الكتاب و السنة، بل البراهين
القاطعة العقلية أيضا، و يمكن شموله لكل ما يعتبر به من آيات الله في الآفاق و
الأنفس، أو المراد بها أئمة الدين فإنها معالم الحلال و الحرام و الحكم و الأحكام
كما مر في الأخبار، و النهاية بالكسر الغاية التي ينتهي إليها، و المراد هنا إما
الإمام بقرينة الأفراد إذ ليس في كل عصر إلا إمام واحد، أو المراد نهاية كل شخص في
القرب و الكمال بحسب استعداده و قابليته، و قيل: المستقر في الجنة و القرار في دار
القرار، و قيل: المراد به الأجل الموعود و هو بعيد.
قوله: بين أجل
(2)، قد مضى المراد بالأجل هنا العمر، و قيل: دل
هذا على أن الخوف يطلق بالنسبة إلى ما مضى، و لا يخفى وهنه لأن الخوف ليس من
الأجل، بل من العقوبة المترتبة على ما عمل في ما مضى من العمر، فالخوف من
المستقبل، بل المعنى يعمل بين سبب مخافتين، و
قوله: لا يدري ما الله قاض فيه
(3)، شامل للمصائب الدينية و الدنيوية معا
" فليأخذ العبد من نفسه
لنفسه"
(4) يعني ليجتهد في الطاعة و العبادة و يروض
نفسه بالأعمال الصالحة في أيام قلائل لراحة الأبد، و النعيم المخلد، و من دنياه
لآخرته بأن ينفق ما حصله في دنياه لتحصيل آخرته.
" و في الشيبة قبل الكبر"
(5) كذا في بعض النسخ الشبيبة بالبائين كسفينة،
قال
مرآة العقول في
شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 41
الجوهري: الشباب الحداثة و كذلك
الشبيبة و هو خلاف الشيب، و في بعض النسخ و في الشيبة و هي كبر السن و ابيضاض
الشعر، و على الأول و هو الأظهر المعنى و ليعمل في سن الشباب قبل سن الشيخوخة لأنه
قد لا يصل إلى الكبر، و إن وصل فالعمل في الحالتين أفضل من العمل في حالة واحدة،
مع أن المرء في الشباب أقوى على العمل منه في المشيب، و إذا صار العمل ملكة في
الشباب تصير سببا لسهولة العمل عليه في المشيب و أيضا إذا أقبل على الطاعات في
شبابه لا يتكدر و لا يرين مرآة قلبه بالفسوق و المعاصي و إذا أقبل على المعاصي و
ران قلبه بها فلما ينفك عنها، و لو تركها قلما تصفو نفسه من كدوراتها، و على
الثاني المراد بالكبر سن الهرم و الزمن أي ينبغي أن يغتنم أوائل الشيخوخة للطاعة
قبل تعطل القوي و ذهاب العقل، فيكون قريبا من الفقرة الآتية
" و في الحياة قبل الممات"
(1) أي ينبغي أن يغتنم كل جزء من الحياة و لا
يسوف العمل لاحتمال انقطاع الحياة بعده.
و المستعتب
(2) إما مصدر أو اسم مكان، و الاستعتاب
الاسترضاء قال في النهاية:
أعتبني فلان، إذا عاد إلى مسرتي و
استعتب طلب أن يرضى عنه كما يقول: استرضيته فأرضاني، و المعتب المرضي، و منه
الحديث: لا يتمنين أحدكم الموت إما محسنا فلعله يزداد، و إما مسيئا فلعله يستعتب
أي يرجع عن الإساءة و يطلب الرضا، و منه الحديث: و لا بعد الموت من مستعتب، أي ليس
بعد الموت من استرضاء لأن الأعمال بطلت و انقضى زمانها، و ما بعد الموت دار جزاء
لا دار عمل و العتبي الرجوع عن الذنب و الإساءة.
(الحديث العاشر)
(3): مختلف فيه صحيح عندي.
" وَ لِمَنْ خافَ مَقامَ
رَبِّهِ"
(4) قال البيضاوي: أي موقفه الذي يقف فيه العباد
للحساب
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 42
أو قيامه على أحواله من قام عليه إذا
راقبه أو مقام الخائف عند ربه للحساب بأحد المعنيين فأضاف إلى الرب تفخيما و
تهويلا أو ربه مقام مقحم للمبالغة
" جَنَّتانِ"
(1) جنة للخائف الإنسي و جنة للخائف الجني، فإن
الخطاب للفريقين و المعنى لكل خائفين منكما، أو لكل أحد جنة لعقيدته و أخرى لعمله،
أو جنة لفعل الطاعات و أخرى لترك المعاصي، أو جنة يثاب بها و أخرى يتفضل بها عليه،
أو روحانية و جسمانية، انتهى.
و أقول: يحتمل أن يكون المراد جنة
البرزخ و جنة الخلد أو اللذات المعنوية في الدنيا للمقربين و جنات الآخرة،
قوله: فذلك الذي
(2)، إشارة إلى تفسير آية أخرى في النازعات
تنبيها على تقارب مضمون الآيتين و اتحاد الموصول في الموضعين و أن نهي النفس عن
الهوى مراد في تلك الآية أيضا، فإن الخوف بدون ترك المناهي ليس بخوف حقيقة، و وحدة
الجنة لا تنافي التثنية في الأخرى، لأن المراد بها الجنس و أشار عليه السلام إلى
أن الخوف تابع للعلم كما قال سبحانه:" إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ
الْعُلَماءُ".
(الحديث الحادي عشر)
(3) ضعيف على المشهور، و يدل على أن كمال
الإيمان منوط بالخوف و الرجاء، و الخوف و الرجاء لا يصدقان إلا بالعمل.
مرآة
العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 43
(الحديث الثاني عشر)
(1): صحيح.
و يدل على أنه لا يصلح الإنسان، و لا
تنكسر شهواته إلا بالخوف منه تعالى.
(الحديث الثالث عشر)
(2): حسن و قد مر مضمونه.
باب حسن الظن بالله عز و جل
(3)
(الحديث الأول)
(4): مختلف فيه صحيح عندي، و هو جزء من خبر قد
مضى في باب الرضا.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 44
(الحديث الثاني)
(1): صحيح و معلق على الخبر السابق.
قوله عليه السلام: إلا بحسن ظنه
(2) قيل: معناه حسن ظنه بالغفران إذا ظنه حين
يستغفر، و بالقبول إذا ظنه حين يتوب و بالإجابة إذا ظنه حين يدعو، و بالكفاية إذا
ظنها حين يستكفي، لأن هذه صفات لا تظهر إلا إذا حسن ظنه بالله تعالى و كذلك تحسين
الظن بقبول العمل عند فعله إياه، فينبغي للمستغفر و التائب و الداعي و العامل أن
يأتوا بذلك موقنين بالإجابة بوعد الله الصادق، فإن الله تعالى و عد بقبول التوبة
الصادقة و الأعمال الصالحة، و أما لو فعل هذه الأشياء و هو يظن أن لا يقبل و لا
ينفعه فذلك قنوط من رحمة الله تعالى و القنوط كبيرة مهلكة، و أما ظن المغفرة مع
الإصرار و ظن الثواب مع ترك الأعمال فذلك جهل و غرور يجر إلى مذهب المرجئة، و الظن
هو ترجيح أحد الجانبين بسبب يقتضي الترجيح، فإذا خلا عن سبب فإنما هو غرور و تمن
للمحال.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 45
(الحديث الثالث)
(1): صحيح.
" أنا عند ظن عبدي"
(2) هذا الخبر مروي من طرق العامة أيضا، و قال
الخطابي:
معناه أنا عند ظن عبدي في حسن عمله و
سوء عمله، لأن من حسن عمله حسن ظنه و من ساء عمله ساء ظنه.
(الحديث الرابع)
(3): ضعيف.
و فيه إشارة إلى أن حسن الظن بالله
ليس معناه و مقتضاه ترك العمل و الاجتراء على المعاصي اتكالا على رحمة الله، بل
معناه أنه مع العمل لا يتكل على عمله و إنما يرجو قبوله من فضله و كرمه، و يكون
خوفه من ذنبه و قصور عمله لا من ربه فحسن الظن لا ينافي الخوف، بل لا بد من الخوف
و ضمه مع الرجاء و حسن الظن كما مر.
باب الاعتراف بالتقصير
(4)
(الحديث الأول)
(5): صحيح.
" لا تخرجن نفسك من حد
التقصير"
(6) أي عد نفسك مقصرا في طاعة الله و إن
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 46
بذلت الجهد فيها، فإن الله لا يمكن
أن يعبد حق عبادته كما قال سيد البشر: ما عبدناك حق عبادتك.
(الحديث الثاني)
(1): مجهول.
" عن بعض العراقيين"
(2) أي علماء الكوفة
" لا أخرجك الله"
(3) أي وفقك الله لأن تعد عبادتك ناقصة و نفسك
مقصرة أبدا.
(الحديث الثالث)
(4): موثق.
و القربان
(5) بالضم ما يتقرب به إلى الله من هدى أو غيره،
و كانت علامة القبول في بني إسرائيل أن تجيء نار من السماء فتحرقه، و قال في
المغرب: من هنا
أتيت،
(6) أي من هنا دخل البلاء عليك.
" فأوحى الله"
(7) يحتمل أن يكون ذلك الرجل نبيا و يحتمل أن
يكون الوحي بتوسط نبي في ذلك الزمان، مع أنه لم يثبت امتناع نزول الوحي على غير
الأنبياء كما أن ظاهر الآية نزول الوحي على أم موسى.
قال الطبرسي قدس سره في قوله
تعالى:" وَ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى" أي ألهمناها و قذفنا في
قلبها و ليس بوحي نبوة، عن قتادة و غيره، و قيل: أتاها جبرئيل بذلك، عن مقاتل، و
قيل: كان هذا الوحي رؤيا منام عبر عنها من تثق به من علماء بني إسرائيل عن
الجبائي.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 47
(الحديث الرابع)
(1): مجهول.
" من المعارين"
(2) قال السيد الداماد قدس الله روحه: المعاري
من يركب الفرس عريانا، قال في القاموس: اعرورى سار في الأرض وحده و قبيحا أتاه، و
فرسه ركبه عريانا، و نحن نعاري: نركب الخيل أعراء، و المعني بالمعاري هيهنا:
المتعبدون الذين يتعبدون لا على أسبغ الوجوه، و الطائعون الذين يلتزمون الطاعات و
لكن لا على قصيا المراتب بل على ضرب من التقصير كالذين يركبون الخيل و لكن أعراء
بلغنا الله تعالى أقصى المدى في طاعته، انتهى.
و لعله" ره" غفل عن هذا
الخبر و غيره مما سيأتي في باب المعارين فإنها صريحة في أنه مأخوذ من العارية.
" إلا من عصمه الله"
(3) أي من الأنبياء و الأوصياء عليهم السلام
فإنهم لا يقصرون في شرائط الطاعة بحسب الإمكان و إن كانوا أيضا يعدون أنفسهم
مقصرين، إظهارا للعجز و النقصان و لما يرون أعمالهم قاصرة في جنب ما أنعم الله
عليهم من الفضل و الإحسان إلا من عصمه الله من التقصير بالاعتراف بالتقصير.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 48
باب الطاعة و التقوى
(1)
(الحديث الأول)
(2): مجهول.
" لا يذهب بكم المذاهب"
(3) على بناء المعلوم و الباء للتعدية و إسناد
الإذهاب إلى المذاهب على المجاز فإن فاعله النفس أو الشيطان، أي لا يذهبكم المذاهب
الباطلة إلى الضلال و الوبال أو على بناء المجهول أي لا يذهب بكم الشيطان في المذاهب
الباطلة من الأماني الكاذبة و العقائد الفاسدة بأن تجترئوا على المعاصي اتكالا على
دعوى التشيع و المحبة و الولاية من غير حقيقة فإنه ليس شيعتهم إلا من شايعهم في
الأقوال و الأفعال لا من ادعى التشيع بمحض المقال.
(الحديث الثاني)
(4): موثق كالصحيح.
و الروح الأمين
(5) جبرئيل لأنه سبب لحياة النفوس بالعلم و أمين
على وحي الله
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 49
إلى الرسل، و في النهاية: فيه:
أن روح القدس نفث في روعي
(1)، يعني جبرئيل أي أوحى و ألقى، من النفث
بالضم و هو شبيه بالنفخ، و هو أقل من التفل لأن التفل لا يكون إلا و معه شيء من
الريق، في روعي أي في نفسي و خلدي، انتهى.
" حتى تستكمل رزقها"
(2) أي تأخذ رزقها المقدر على وجه الكمال
" فاتقوا الله"
(3) أي في خصوص طلب الرزق أو مطلقا
" و أجملوا في الطلب"
(4) أي اطلبوا طلبا جميلا و لا يكن كدكم كدا
فاحشا، و في المصباح أجملت في الطلب رفقت، قال الشيخ البهائي قدس سره: يحتمل
معنيين: الأول أن يكون المراد اتقوا الله في هذا الكد الفاحش أي لا تقيموا عليه،
كما تقول: اتق الله في فعل كذا أي لا تفعله، و الثاني: أن يكون المراد أنكم إذا اتقيتموه
لا تحتاجون إلى هذا الكد و التعب، و يكون إشارة إلى قوله تعالى:" وَ مَنْ
يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا
يَحْتَسِبُ".
" و لا يحمل أحدكم"
(5) أي لا يبعثه و يحدوه، و المصدر المسبوك من
أن المصدرية و معمولها منصوب بنزع الخافض، أي لا يبعثكم استبطاء الرزق على طلبه من
غير حله، و سيأتي في خبر آخر: و لا يحملنكم استبطاء شيء من الرزق أن تطلبوه بشيء
من معصية الله فإن الله تعالى قسم الأرزاق بين خلقه حلالا و لم يقسمها حراما فمن
اتقى الله و صبر أتاه رزقه من حله، و من هتك حجاب ستر الله عز و جل و أخذه من غير
حله قصر به من رزقه الحلال و حوسب عليه يوم القيامة.
و أقول: هذه الجمل كالتفسير
لقوله عليه السلام: فإنه لا يدرك ما
عند الله،
(6) أي من الثواب الجزيل و الرزق الحلال إلا
بطاعته في الأوامر و النواهي، و الحاصل أن
مرآة
العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 50
قوله: ما عند الله يحتمل الرزق
الحلال و الدرجات الأخروية و الأعم و الأول أوفق بالتعليل، و كذا الثالث و إن كان
الثاني أظهر في نفسه.
و اعلم أن الرزق عند المعتزلة كلما
صح الانتفاع به بالتغذي و غيره و ليس لأحد منعه منه، و ليس الحرام عندهم رزقا، و
الحديث يدل عليه، و عند الأشاعرة كلما ينتفع به ذو حياة بالتغذي و غيره، و إن كان
حراما، و خص بعضهم بالأغذية و الأشربة، و سيأتي تمام القول في ذلك في كتاب المكاسب
إنشاء الله تعالى.
(الحديث الثالث)
(1): ضعيف.
" من ينتحل التشيع"
(2) أي يدعيه من غير أن يتصف به، في القاموس:
انتحله و تنحله ادعاه لنفسه و هو لغيره
" و ما كانوا يعرفون"
(3) على بناء المجهول، و الضمير راجع إلى الشيعة
أو إلى خيار العباد، أي كان في زمن النبي صلى الله عليه و آله و سلم و أمير
المؤمنين و سائر الأئمة الماضين صلوات الله عليهم يعرفون الشيعة بتلك الصفات فمن
لم يكن فيه تلك الخلال لم يكونوا يعدونهم من الشيعة أو كانوا موصوفين معروفين
باتصافهم بها
" إلا بالتواضع"
(4) أي بالتذلل لله عند أو أمره و نواهيه و
لأئمة الدين بتعظيمهم و إطاعتهم و للمؤمنين بتكريمهم و إظهار حبهم و عدم التكبر
عليهم و حسن العشرة معهم و التخشع إظهار الخشوع و هو التذلل لله مع الخوف منه و
استعمال الجوارح فيما أمر الله به، و ينسب إلى القلب و إلى الجوارح معا، و الأمانة
ضد الخيانة أي أداء حقوق الله و الخلق و عهودهم و ترك الغدر و الخيانة فيها، و في
مجالس الشيخ و الإنابة أي التوبة و الرجوع إلى الله.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 51
" و كثرة ذكر الله"
(1) باللسان و القلب، و الصوم عطف على الذكر، و
التعهد للجيران
(2) أي رعاية أحوالهم و ترك إيذائهم، و تحمل الأذى
عنهم، و عيادة مرضاهم و تشييع جنائزهم و عدم منع الماعون عنهم و سيأتي الخلاف في
كون الفقير أسوأ حالا أو المسكين و التخصيص بهما لكون رعايتهما أهم و إلا يلزم
رعاية الجيران مطلقا، و في المجالس: و تعاهد الجيران
" و الغارمين"
(3) إما عطف على الفقراء أو على الجيران
" و كانوا أمناء عشائرهم"
(4) أي يأتمنونهم و يعتمدون عليهم في جميع
الأشياء من الأموال و الفروج و حفظ الأسرار، و العشائر جمع العشيرة و هي القبيلة.
" حسب الرجل أن يقول"
(5) التركيب مثل حسبك درهم أي كافيك و حرف
الاستفهام مقدر و هو على الإنكار أي لا يكفيه ذلك
" فعالا"
(6) أي كثير الفعل لما يقتضيه اعتقاده من متابعة
الأئمة عليهم السلام في جميع الأمور.
قوله: فرسول الله،
(7) الظاهر أنها جملة معترضة، و في المجالس و
بعض الكتب و رسول الله و هو أظهر، فتكون جملة حالية، و يحتمل أن يكون على النسختين
عطفا على أحب و يكون داخلا في مقول القول، أي لو قال المخالف إني أحب رسول الله و
هو أفضل من علي فكما أنكم تتكلمون على حب علي عليه السلام أنا اتكل على حب رسول
الله صلى الله عليه و آله و سلم لم يمكنكم إلزامه بالجواب لأنكم إذا قلتم لا
ينفعكم حب محمد صلى الله عليه و آله و سلم مع مخالفته في القول بأوصيائه يمكنه أن
يقول فكذا لا ينفعكم حب على
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 52
مع مخالفتكم له في الأقوال و
الأفعال.
" ليس بين الله و بين أحد
قرابة"
(1) أي ليس بين الله و بين الشيعة قرابة حتى
يسامحكم و لا يسامح مخالفيكم مع كونكم مشتركين معهم في مخالفته تعالى أو ليس بينه
و بين علي عليه السلام قرابة حتى يسامح شيعة علي عليه السلام، و لا يسامح شيعة
الرسول، و الحاصل أن جهة القرب بين العبد و بين الله إنما هي بالطاعة و التقوى، و
لذا صار أئمتكم أحب الخلق إلى الله فلو لم تكن هذه الجهة فيكم لم ينفعكم شيء
" و ما معنا براءة من
النار"
(2) أي ليس معنا صك و حكم ببراءتنا و براءة
شيعتنا من النار، و إن عملوا بعمل الفجار.
" و لا على الله لأحد من
حجة"
(3) أي ليس لأحد على الله حجة إذا لم يغفر له
بأن يقول. كنت من شيعة علي، فلم لم تغفر لي، لأن الله لم يحتم بغفران من ادعى
التشيع بلا عمل، أو المعنى ليس لنا على الله حجة في إنقاذ من ادعى التشيع من
العذاب، و يؤيده أن في المجالس: و ما لنا على الله حجة
" من كان لله مطيعا"
(4) كأنه جواب عما يتوهم في هذا المقام أنهم
عليهم السلام حكموا بأن شيعتهم و أولياءهم لا يدخلون النار، فأجاب عليه السلام بأن
العاصي لله ليس بولي لنا و لا تدرك ولايتنا إلا بالعمل بالطاعات و الورع عن
المعاصي.
قيل: للورع
(5) أربع درجات: الأولى: ورع التائبين و هو ما
يخرج به الإنسان من الفسق و هو المصحح لقبول الشهادة، الثانية: ورع الصالحين و هو
الاجتناب عن الشبهات خوفا منها و من الوقوع في المحرمات، الثالثة: ورع المتقين و
هو ترك
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 53
الحلال خوفا من أن ينجر إلى الحرام
مثل ترك التحدث بأحوال الناس مخافة أن ينجر إلى الغيبة، الرابع: ورع السالكين و هو
الإعراض عما سواه تعالى خوفا من صرف ساعة من العمر فيما لا يفيد زيادة القرب منه
تعالى و إن علم أنه ينجر إلى الحرام.
(الحديث الرابع)
(1): حسن كالصحيح.
و في النهاية:
عنق،
(2) أي جماعة من الناس و في القاموس: العنق
بالضم و بضمتين الجماعة من الناس و الرؤساء
" أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ
حِسابٍ"
(3) قيل: أي أجرا لا يهتدي إليه حساب الحساب، و
يظهر من الخبر أن المعنى أنهم لا يوقفون في موقف الحساب بل يذهب بهم إلى الجنة
بغير حساب، قال الطبرسي (ره): لكثرته لا يمكن عده و حسابه، و روى العياشي بالإسناد
عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله
عليه و آله و سلم: إذا نشرت الدواوين و نصبت الموازين لم ينصب لأهل البلاء ميزان،
و لم ينشر لهم ديوان، ثم تلا هذه الآية:" إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ
بِغَيْرِ حِسابٍ".
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 54
(الحديث الخامس)
(1): ضعيف على المشهور.
" و كيف يقل ما يتقبل"
(2) لأن الله تعالى يقول:" إِنَّما
يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ".
(الحديث السادس)
(3): مرسل.
و قال الجوهري:
النمرقة
(4) وسادة صغيرة و كذلك النمرقة بالكسر لغة
حكاها يعقوب، و ربما سموا الطنفسة التي فوق الرحل نمرقة عن أبي عبيد، و في
القاموس:
النمرق و النمرقة مثلثة الوسادة
الصغيرة أو المثيرة أو الطنفسة فوق الرحل، و النمرقة بالكسر من السحاب ما كان بينه
فتوق، انتهى.
و كان التشبيه بالنمرقة باعتبار أنها
محل الاعتماد، و التقييد بالوسطى لكونهم واسطة بين الإفراط و التفريط، أو التشبيه
بالنمرقة الوسطى باعتبار أنها في المجالس صدر و مكان لصاحبه يلحق به، و يتوجه إليه
من على الجانبين، و قيل:
المراد كونوا أهل النمرقة الوسطى و
قيل: المراد أنه كما كانت الوسادة التي يتوسد عليها الرجل إذا كانت رفيعة جدا أو
خفيفة جدا لا تصلح للتوسد بل لا بد لها من حد من الارتفاع و الانخفاض، حتى يصلح
لذلك، كذلك أنتم في دينكم و أئمتكم لا تكونوا غالين تجاوزون بهم عن مرتبتهم التي أقامهم
الله عليها و جعلهم أهلا لها و هي الإمامة
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 55
و الوصاية النازلتان عن الألوهية و
النبوة كالنصارى الغالين في المسيح المعتقدين فيه الألوهية أو النبوة لآله، و لا
تكونوا أيضا مقصرين فيهم تنزلونهم عن مرتبتهم و تجعلونهم كسائر الناس أو أنزل،
كالمقصرين من اليهود في المسيح المنزلين له عن مرتبته، بل كونوا كالنمرقة الوسطى و
هي المقتصدة للتوسد" يرجع إليكم الغالي و يلحق بكم التالي".
قوله عليه السلام: ما لا نقوله في
أنفسنا
(1)، كالألوهية و كونهم خالقين للأشياء و النبوة
" المرتاد يريد الخير يبلغه
الخير"
(2) كأنه من قبيل وضع الظاهر موضع المضمر أي
يريد الأعمال الصالحة التي تبلغه أن يعملها، و لكن لا يعمل بها يؤجر عليه بمحض هذه
النية، أو المعنى أنه المرتاد الطالب لدين الحق و كما له، و قوله:
يبلغه الخير، جملة أخرى لبيان أن
طالب الخير سيجده و يوفقه الله لذلك، كما قال تعالى:" وَ الَّذِينَ جاهَدُوا
فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا" و
قوله: يؤجر عليه
(3)، لبيان أنه بمحض الطلب مأجور، و قيل:
المرتاد الطالب للاهتداء الذي لا يعرف الإمام، و مراسم الدين بعد يريد التعلم و
نيل الحق، يبلغه الخير بدل من الخير يعني يريد أن يبلغه الخير ليوجر عليه، و قيل:
المرتاد أي الطالب من ارتاد الرجل الشيء إذا طلبه، و المطلوب أعم من الخير و
الشر، فقوله: يريد الخير تخصيص و بيان للمعنى المراد هيهنا" يبلغه
الخير" من الإبلاغ أو التبليغ و فاعله معلوم بقرينة المقام، أي من يوصله إلى
الخير المطلوب ثم يؤجر عليه لهدايته و إرشاده.
و أقول: على هذا يمكن أن يكون فاعله
الضمير الراجع إلى النمرقة لما فهم
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 56
سابقا أنه يلحق التالي بنفسه، و قيل:
جملة يريد الخير صفة المرتاد، إذ اللام للعهد الذهني و هو في حكم النكرة، و
جملة" يبلغه" إما على المجرد من باب نصر أو على بناء الأفعال أو التفعيل
استئناف بياني، و علي الأول الخير مرفوع بالفاعلية إشارة إلى أن الدين الحق لوضوح
براهينه كأنه يطلبه و يصل إليه، و علي الثاني و الثالث الضمير راجع إلى مصدر يريد،
و الخير منصوب و يؤجر عليه استئناف للاستئناف الأول لدفع توهم أن لا يؤجر لشدة
وضوح الأمر، فكأنه اضطر إليه و أكثر الوجوه لا تخلو من تكلف، و كان فيه تصحيفا و
تحريفا.
" و لا لنا علي الله حجة"
(1) أي بمحض قرابة الرسول صلى الله عليه و آله و
سلم من غير عمل لأنفسنا، و لا لتخليص شيعتنا
" و لا نتقرب"
(2) بصيغة المتكلم أو الغائب المجهول
" ويحكم لا تغتروا"
(3) في القاموس ويح لزيد و ويحا له كلمة رحمة و
رفعه على الابتداء، و نصبه بإضمار فعل و ويح زيد و ويحه نصبهما به أيضا أو أصله وي
فوصلت بحاء مرة و بلام مرة، و بياء مرة و بسين مرة، و في النهاية: ويح كلمة ترحم و
توجع يقال لمن وقع في هلكة لا يستحقها و قد يقال بمعنى المدح و التعجب و هي منصوبة
على المصدر، و قد ترفع و تضاف و لا تضاف، يقال: ويح زيد و ويحا له و ويح له، انتهى.
(الحديث السابع)
(4): ضعيف على المشهور معتبر.
" فذكرنا الأعمال"
(5) أي قلتها و كثرتها أو مدخليتها في الإيمان
" ما أضعف"
(6) على صيغة تعجب كما هو الظاهر، أو ما نافية و
أضعف بصيغة المتكلم أي ما أعد
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 57
عملي ضعيفا، و على الأول يتوهم في
نهيه عليه السلام عنه و أمره بالاستغفار منافاة لما مر في الأخبار من ترك العجب و
الاعتراف بالتقصير.
و يمكن الجواب عنه بوجوه:"
الأول" ما قيل: أن النهي للفتوى بغير علم لا للاعتراف بالتقصير.
الثاني: أنه كان ذلك لاستشمامه منه
رائحة الاتكال علي العمل، مع أن العمل هين جدا في جنب التقوى لاشتراط قبوله بها، و
لذا نبهه على ذلك، و الحاصل أنه لما كان كلامه مبنيا على أن المدار علي قلة العمل
و كثرته نهاه عن ذلك.
الثالث: ما قيل أن الأقوال و الأفعال
يختلف حكمها باختلاف النيات و القصود، و هو لم يقصد بهذا القول أن عمله ضعيف قليل
بالنظر إلى عظمة الحق و ما يستحقه من العبادة و إنما قصد به ضعفه و قلته لذاته، و
بينهما فرق ظاهر و الأول هو الاعتراف بالتقصير دون الثاني.
الرابع: أنه عليه السلام لما علم أن
المفضل يعتد بعمله و يعده كثيرا و إنما يقول ذلك تواضعا و إخفاء للعمل نهاه عن
ذلك، و في القاموس:
رفق
(1) فلانا نفعه كأرفقه و وطئ الرجل كناية عن
كثرة الضيافة قال في القاموس: رجل
موطأ
(2) الأكناف كمعظم سهل دمث كريم مضياف، أو يتمكن
في ناحيته صاحبه غير مؤذى و لا ناب به موضعه، و في النهاية في قوله صلى الله عليه
و آله و سلم: أحاسنكم أخلاقا الموطئون أكنافا، هذا مثل و حقيقته من التوطئة و هي
التمهيد و التذليل، و فراش و وطؤ لا يؤذي جنب النائم و الأكناف الجوانب، أراد
الذين جوانبهم وطئة يتمكن فيها من يصاحبهم، و لا
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 58
يتأذى، انتهى. يتأذى، انتهى.
و قيل: توطئة الرجل كناية عن التواضع
و التذلل.
" فإذا ارتفع له الباب من
الحرام"
(1) أي ظهر له ما يدخله في الحرام من مال حرام
أو فرج حرام و غير ذلك
" ليس عنده"
(2) أي العمل الكثير الذي كان عند صاحبه.
(الحديث الثامن)
(3): ضعيف على المشهور.
" و آنسه من غير بشر"
(4) أي من غير أنيس من البشر بل الله مؤنسه كما
قال أمير المؤمنين عليه السلام: اللهم إنك أنس الآنسين بأوليائك.
باب الورع
(5)
(الحديث الأول)
(6): مجهول كالحسن.
و لعل المراد
بالتقوى
(7) ترك المحرمات و
بالورع
(8) ترك الشبهات بل بعض المباحات
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 59
و
بالاجتهاد
(1) بذل الجهد في فعل الطاعات، يقال: وقاه الله
السوء يقيه وقاية، أي حفظه و اتقيت الله اتقاء أي حفظت نفسي من عذابه أو من
مخالفته، و التقوى اسم منه و التاء مبدلة من واو، و الأصل و قوي من وقيت لكن أبدل
و لزمت التاء في تصاريف الكلمة، و في النهاية: فيه ملاك الدين الورع، الورع في
الأصل الكف عن المحارم و التحرج منه، يقال: ورع الرجل يرع بالكسر فيهما ورعا ورعة
فهو ورع، و تورع من كذا ثم أستعير للكف عن المباح و الحلال
" لا ينفع"
(2) أي نفعا كاملا.
(الحديث الثاني)
(3): صحيح، و يدل على أن ترك الورع عن المحرمات
يصير الإيمان بمعرض الضياع و الزوال، فإن فعل الطاعات و ترك المعاصي حصون للإيمان
من أن يذهب به الشيطان.
(الحديث الثالث)
(4): ضعيف بيزيد لأنه واقفي لكن فيه مدح
" فأمر"
(5) أي بالطاعات و ما يوجب الفوز بأرفع الدرجات،
و
" زهد"
(6) على بناء التفعيل أي أمر بالزهد في الشيء و
عن الشيء خلاف الترغيب فيه.
(الحديث الرابع)
(7): ضعيف و قد مر.
(الحديث الخامس)
(8): مجهول.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 60
" إن أشد العبادة الورع"
(1) إذ ترك المحرمات أشق على النفس من فعل
الطاعات و أفضل الأعمال أحمزها.
(الحديث السادس)
(2): موثق.
و كان فيه نوع ذم لأبي الصباح و إن
كان ثقة، قال الشيخ البهائي رحمه الله:
يعلم منه أنه لم يرتض عليه السلام ما
قاله أبو الصباح، لما فيه من الخشونة و سوء الأدب
" و عمل لخالقه"
(3) أي أخلص العمل لله
" و رجا ثوابه"
(4) كأنه إشارة إلى أن رجاء الثواب إنما يحسن مع
الورع و الطاعة و إلا فهو غرور كما مر، و إلى أنه مع العمل أيضا لا ينبغي اليقين
بالثواب لكثرة آفات العمل، و يمكن أن يكون ما ذكره عليه السلام إيماء إلى أن ما
تسمعون من المخالفين إنما هو لعدم الطاعة إما بترك الطاعات و الأعمال الرضية أو
لترك ما أمرتكم به من التقية.
(الحديث السابع)
(5): مجهول.
و كان
الأورع
(6) بالنسبة إلى من يجتنب المكروهات و يأتي
بالسنن و يجترئ على
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 61
المحارم و ترك الطاعات كما هو الشائع
بين الناس، أو هو تعريض بأرباب البدع الذين يحرمون ما أحل الله على أنفسهم و
يسمونه ورعا أو تنبيه على أن الورع إنما هو بترك المعاصي لا بالمبالغة في الطاعات
و الإكثار منها.
(الحديث الثامن)
(1): ضعيف و الوجوه السابقة جارية فيه.
(الحديث التاسع)
(2): صحيح.
" و حسن الجوار"
(3) لكل من جاوره و صاحبه أو لجار بيته
" و كونوا دعاة"
(4) أي كونوا داعين للناس إلى طريقتكم المثلي و
مذهبكم الحق بمحاسن أعمالكم و مكارم أخلاقكم، فإن الناس إذا رأوكم على سيرة حسنة و
هدى جميل نازعتهم أنفسهم إلى الدخول فيما ذهبتم إليه من التشيع و تصويبكم فيما
تقلدتم من طاعة أئمتكم عليهم السلام
" و كونوا زينا"
(5) أي زينة لنا
" و لا تكونوا شينا"
(6) أي عيبا و عارا علينا، و في النهاية في حديث
أبي هريرة إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول يا ويله، الويل:
الحزن و الهلاك و المشقة من العذاب و كل من وقع في هلكة دعا بالويل، و معنى النداء
فيه يا ويلي و يا حزني و يا هلاكي و يا عذابي احضر فهذا وقتك و أو أنك، فكأنه نادى
الويل أن يحضره لما عرض له من الأمر الفظيع و هو الندم على ترك السجود لآدم عليه
السلام، و أضاف الويل إلى ضمير الغائب حملا على
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 62
المعنى، و عدل عن حكاية قول إبليس يا
ويلي كراهة أن يضيف الويل إلى نفسه، انتهى.
و قال: النووي: هو من أدب الكلام أنه
إذا عرض في الحكاية عن الغير ما فيه سوء صرف الحاكي عن نفسه إلى الغيبة صونا عن
صورة إضافة السؤال إلى نفسه، انتهى.
و قيل: الضمير راجع إلى الساجد و دعا
إبليس له بالعذاب و الويل، أو هو من كلام الإمام و الضمير لإبليس و الجملة معترضة،
و لا يخفى بعدهما، و يحتمل على الأول أن يكون المنادي محذوفا نحو ألا يا اسجدوا أي
يا قوم احضروا ويلي.
(الحديث العاشر)
(1): مجهول.
و قال الجوهري:
الرحب
(2) بالضم السعة، و قولهم: مرحبا و أهلا أي أتيت
سعة و أتيت أهلا فاستأنس و لا تستوحش، و قدر حب به ترحيبا إذا قال له مرحبا،
انتهى.
و في النهاية: و قيل: معناه رحب الله
بك مرحبا، فجعل المرحب موضع الترحيب، انتهى.
و قوله: و لا كرامة
(3) جملة معترضة أي لا كرامة له عند الله أو
عندنا أو أعم منهما
" فيه مائة ألف"
(4) أي من المخالفين أو الأعم، و يدل على مدح
عيسى بن عبد الله و روى الشيخ المفيد في مجالسه حديثا يدل على مدح عظيم له، و أنه
قال عليه السلام فيه هو منا أهل البيت، و زعم الأكثر أنه الأشعري جد أحمد بن محمد،
و الأظهر عندي أنه غيره لبعد ملاقاة الأشعري الصادق عليه السلام، بل ذكروا أن له
مسائل عن الرضا عليه السلام.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 63
(الحديث الحادي عشر)
(1): مجهول، و قد مر مضمونه.
(الحديث الثاني عشر)
(2): صحيح.
" أعينونا بالورع"
(3) إشارة إلى أن الأئمة عليهم السلام متكفلون
لنجاة شيعتهم من العذاب، فكلما كان ورعهم أشد و أكمل كانت الشفاعة عليهم أسهل،
فالورع إعانة لهم عليهم السلام على ذلك.
فإن قلت: مع الورع أي حاجة إلى
الشفاعة فإنه يجب عليه سبحانه بمقتضى وعده إدخالهم الجنة و إبعادهم عن العذاب.
قلت: يحتمل أن يكون المراد عدم تجشم
الشفاعة أو يكون الورع ترك المعاصي فقط، فلا ينافي الاحتياج إلى الشفاعة للتقصير
في الواجبات، أو يكون المراد بالورع ترك الكبائر أو أعم من ترك كل المعاصي أو
بعضها مع أنه لا استبعاد في الحاجة إلى الشفاعة مع فعل الطاعات و ترك المعاصي
لسرعة دخول الجنة أو التخلص من أهوال القيامة أو عدم الحساب، أو تخفيفه.
" كان له عند الله فرجا"
(4) اسم كان الضمير المستتر الراجع إلى الورع، و
قيل:
إلى اللقاء و فرجا بالجيم خبره، و
ربما يقرأ بالحاء المهملة و على التقديرين التنوين للتعظيم
" مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ
رَسُولَهُ"
(5) في سورة النساء" وَ الرَّسُولَ" و
كأنه نقل بالمعنى مع الإشارة إلى ما في سورة النور" وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ
وَ رَسُولَهُ وَ يَخْشَ اللَّهَ وَ يَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 64
الْفائِزُونَ" و إطاعة الله و
الرسول لا تكون إلا مع الورع، فالاستشهاد لذلك و قيل:
المراد بطاعة الله و رسوله إطاعتهما
في الاعتقاد بإمامة أئمة الهدى عليهم السلام و إن كان مع المعاصي فالاستشهاد
للشفاعة.
" فمنا"
(1) أي من بني هاشم و كان المراد
بالصديق
(2) أمير المؤمنين عليه السلام و
بالشهداء
(3) الحسنان عليه السلام أو الحسين عليه السلام
و
بالصالحين
(4) باقي الأئمة عليهم السلام، أو المراد
بالشهداء جميع الأئمة عليهم السلام و بالصالحين شيعتهم، و قد فسرت الآية بالوجهين
في الأخبار.
(الحديث الثالث عشر)
(5): حسن
" إنا لا نعد الرجل مؤمنا"
(6) هذا أحد معاني الإيمان التي مضت
" مريدا"
(7) أي لجميع أمرنا
" يرحمكم الله"
(8) جواب الأمر أو جملة دعائية و كذا قوله:
ينعشكم الله يحتمل الوجهين
" و كيدوا به"
(9) في أكثر النسخ بالياء المثناة أي حاربوهم
بالورع لتغلبوا أو ادفعوا به كيدهم سمي كيدا مجازا أي الورع يصير سببا لكف ألسنتهم
عنكم و ترك ذمهم لكم أو احتالوا بالورع ليرغبوا في دينكم كما مر في قوله: عليه
السلام" كونوا دعاة" إلخ، و كأنه أظهر، و في بعض النسخ بالباء الموحدة
المشددة من الكبد بمعنى الشدة و المشقة، أي أوقعوهم في الألم و المشقة لأنه يصعب
عليهم ورعكم و الأول أكثر و أظهر.
" ينعشكم الله"
(10) أي يرفعكم الله في الدنيا و الآخرة، في
القاموس: نعشه الله كمنعه رفعه كأنعشه و نعشه و فلانا جبره بعد فقر، و الميت ذكره
ذكرا حسنا.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 65
(الحديث الرابع عشر)
(1): صحيح.
" فإن ذلك داعية"
(2) أي للمخالفين إلى الدخول في دينكم كما مر، و
التاء للمبالغة و سيأتي هذا الخبر في باب الصدق بأدنى تفاوت في السند و المتن، و
فيه الصدق مكان الصلاة.
(الحديث الخامس عشر)
(3): مجهول.
و في القاموس
الخدر
(4) بالكسر ستر يمد للجارية في ناحية البيت، و
كل ما واراك من بيت و نحوه، و الجمع خدور و أخدار، و بالفتح إلزام البنت الخدر
كالإخدار و التخدير و هي مخدرة و مخدرة، انتهى.
و المعنى اشتهر ورعه بحيث تتحدث
النساء المستورات غير البارزات بورعه في بيوتهن، و قيل: إنه يدل على أن إظهار
الصلاح ليشتهر أمر مطلوب، و لكن بشرط أن لا يكون لقصد الرياء و السمعة بل لغرض
صحيح مثل الاقتداء به و التحفظ من نسبة الفسق إليه و نحوهما، و فيه نظر.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 66
باب العفة
(1)
(الحديث الأول)
(2): حسن كالصحيح.
و العفة
(3) في الأصل الكف قال في القاموس: عف عفا و
عفافا و عفافة بفتحهن و عفة بالكسر فهو عف و عفيف: كف عما لا يحل و لا يجمل كاستعف
و تعفف، و قال الراغب: العفة حصول حالة للنفس تمنع بها عن غلبة الشهوة، و المتعفف
المتعاطي لذلك بضرب من الممارسة و القهر، و أصله الاقتصار على تناول الشيء القليل
الجاري مجرى العفافة، و العفة أي البقية من الشيء أو مجرى العفف و هو ثمر الأراك،
و الاستعفاف طلب العفة، انتهى.
و تطلق في الأخبار غالبا على عفة
البطن و الفرج و كفهما عن مشتهياتها المحرمة بل المشتبهة و المكروهة أيضا من
المأكولات و المشروبات و المنكوحات، بل من مقدماتهما من تحصيل الأموال المحرمة
لذلك و من القبلة و اللمس و النظر إلى المحرم، و يدل على أن ترك المحرمات من
العبادات و كونهما من أفضل العبادات، لكونهما أشقهما.
(الحديث الثاني)
(4): حسن أو موثق.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 67
(الحديث الثالث)
(1): ضعيف، و يمكن حمل
العفاف
(2) هنا على ما يشمل ترك جميع المحرمات.
(الحديث الرابع)
(3): صحيح، و
الاجتهاد
(4) بذل الوسع في طلب الأمر و المراد هنا
المبالغة في الطاعة.
(الحديث الخامس)
(5): ضعيف على المشهور.
" ما تلج"
(6) أي تدخل، و في النهاية:
الأجوف
(7) الذي له جوف، و منه الحديث:
أن لا تنسوا الجوف و ما وعى، أي ما
يدخل إليه من الطعام و الشراب و يجمع فيه، و قيل: أراد بالجوف القلب و ما وعى و
حفظ من معرفة الله تعالى، و قيل: أراد بالجوف البطن و الفرج معا، و منه الحديث: إن
أخوف ما أخاف عليكم الأجوفان.
" و بإسناده"
(8) الضمير لعلي أو للسكوني، و على التقديرين
المراد به الإسناد
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 68
السابق و قيل: ليس هذا في نسخة
الشهيد الثاني (ره)، و أقول: قد وقعت الأمة في كل ما خاف صلى الله عليه و آله و
سلم عليهم إلا من عصمه الله، و هم قليل من الأمة.
(الحديث السادس)
(1): مرسل.
(الحديث السابع)
(2): صحيح.
باب اجتناب المحارم
(3)
(الحديث الأول)
(4): مختلف فيه صحيح على الأقوى، و قد مر في آخر
باب الخوف و الرجاء بأدنى تغيير في المتن مع شرحه.
(الحديث الثاني)
(5): حسن كالصحيح.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 69
" في سبيل الله"
(1) أي في الجهاد أو الأعم منه و من السفر إلى
الحج و الزيارات أو الأعم منها و من السهر للعبادة و مطالعة العلوم الدينية و هذا
أظهر، و إسناد الفيض إلى العين مجاز يقال: فاض الماء و الدمع يفيض فيضا كثر حتى
سال، و
غضت
(2) على بناء المفعول يقال غض طرفه أي كسره و
أطرق و لم يفتح عينه.
(الحديث الثالث)
(3): مرسل.
" جنات عدن"
(4) قال الراغب: أي استقرار و ثبات، و عدن بمكان
كذا استقر و منه المعدن لمستقر الجواهر.
(الحديث الرابع)
(5): حسن كالصحيح.
" ما فرض الله"
(6) أي قرره أعم من الواجب و الندب، و يحتمل
الوجوب
" و إن كان"
(7) أي هذا الذكر اللساني
" منه"
(8) أي من مطلق الذكر، لكن الذكر الشديد الذكر
عند الطاعة و المعصية، و الذكر اللساني هين بالنسبة إليه، و الحاصل أن الله سبحانه
أمر بالذكر و مدحه في مواضع كثيرة من الذكر الحكيم كقوله سبحانه:
" اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً
كَثِيراً" و قوله وَ اذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَ خِيفَةً وَ
دُونَ
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 70
الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ
بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ" و قوله تعالى:" الَّذِينَ يَذْكُرُونَ
اللَّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِهِمْ" و أصل الذكر التذكر
بالقلب و منه: و" اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ"
أي تذكروا ثم يطلق على الذكر اللساني حقيقة أو من باب تسمية الدال باسم المدلول ثم
كثر استعماله فيه لظهوره حتى صار هو السابق إلى الفهم، فنص عليه السلام على إرادة
الأول دون الثاني فقط دفعا لتوهم تخصيصه بالثاني، و إشارة إلى أكمل أفراده.
و قال بعضهم: ذكر اللسان مع خلو
القلب عنه لا يخلو من فائدة لأنه يمنعه من التكلم باللغو، و يجعل لسانه معتادا
بالخير، و قد يلقي الشيطان إليه أن حركة اللسان بدون توجه القلب عبث ينبغي تركه
فاللائق بحال الذكر حينئذ أن يحضر قلبه رغما للشيطان، و لو لم يحضره فاللائق به أن
لا يترك ذكر اللسان رغما لأنفه أيضا.
و أن يجيبه بأن اللسان آلة للذكر
كالقلب و لا يترك أحدهما بترك الآخر فإن لكل عضو عبادة.
ثم اعلم أن الذكر القلبي من أعظم
بواعث المحبة و المحبة أرفع منازل المقربين، رزقنا الله إياها و سائر المؤمنين.
(الحديث الخامس)
(1): كالسابق
" وَ قَدِمْنا"
(2) أي عمدنا و قصدنا
" إِلى ما عَمِلُوا مِنْ
عَمَلٍ"
(3) كقري الضعيف و صلة الرحم و إغاثة الملهوف و
غيرها
" فَجَعَلْناهُ هَباءً
مَنْثُوراً"
(4) فلم يبق له أثر و الهباء غبار
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 71
في شعاع الشمس الطالع من الكوة من
الهبوة و هو الغبار، و
القباطي
(1) بالفتح جمع القبطية بالكسر ثياب بيض رقاق من
كتان تتخذ بمصر و قد يضم لأنهم يغيرون في النسبة، و في المصباح القبطي بالضم من
كتان رقيق يعمل بمصر نسبة إلى القبط على غير قياس فرقا بين الإنسان و الثوب و ثياب
قبطية أيضا بالضم و الجمع قباطي، انتهى.
و فيه دلالة على حبط الطاعات بالفسوق
و خصه بعض المفسرين بالكفر و لا كلام فيه.
و لنذكر هنا مجملا من معاني الحبط و
التكفير و الاختلافات الواردة فيه.
اعلم أن الإحباط في عرف المتكلمين
عبارة عن إبطال الحسنة بعدم ترتب ما يتوقع منها عليها و يقابلها التكفير و هو
إسقاط السيئة بعدم جريان مقتضاها عليها فهو في المعصية نظير الإحباط في الطاعة، و
الحبط و التكفير، و إطلاقهما بهذين اللفظين و بما يساوقهما كثير في الآيات و
الأخبار، و قد اشتهر بين المتكلمين أن الوعيدية من المعتزلة و غيرهم يقولون
بالإحباط و التكفير دون من سواهم من الأشاعرة و غيرهم و هذا على إطلاقه غير صحيح
فإن أصل الإحباط و التكفير مما لا يمكن إنكاره لأحد من المسلمين كما ظهر مما تلونا
عليك فلا بد أن يحرر مقصود كل طائفة ليتبين ما هو الحق.
فنقول: لا خلاف بين من يعتد به من
أهل الإسلام في أن كل مؤمن صالح يدخل الجنة خالدا فيها حقيقة، و كل كافر يدخل
النار خالدا فيها كذلك، و أما المؤمن الذي خلط عملا صالحا بعمل غير صالح فاختلفوا
فيه فذهب بعض المرجئة إلى أن الإيمان يحبط الزلات فلا عقاب على زلة مع الإيمان،
كما لا ثواب لطاعة مع
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 72
الكفر، و ذهب الآخرون إلى ثبوت
الثواب و العقاب في حقه، أما المعتزلة فبعنوان الاستحقاق المعلوم عقلا باعتبار
الحسن و القبح العقليين، و شرعا باعتبار الآيات الدالة عليه من الوعد و الوعيد، و
أما الأشاعرة فبعنوان الاتفاق يقولون: أنه لا يجب على الله شيء فلا يستحق المكلف
ثوابا منه تعالى فإن أثابه فبفضله و إن عاقبه فبعدله، بل له أثابه العاصي و عقاب
المطيع أيضا، و بالجملة قول المعتزلة في المؤمن الخارج من الدنيا بغير توبة عن
كبيرة ارتكبها أنه استحق الخلود في النار لكن يكون عقابه أخف من عقاب الكفار أما
مطلق الاستحقاق فلما عرفت و أما خصوص الخلود فللعمومات المتداولة عند غيرهم
بتخصيصها بالكفار أو بحمل الخلود على المكث الطويل لقوله تعالى:" وَ مَنْ
يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها" و
قوله:" وَ يَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها" فلهذا
حكموا بأن كبيرة واحدة تحبط جميع الطاعات فإن الخلود الموعود مستلزم لذلك.
هذا قول جمهورهم في أصل الإحباط.
ثم إن الجبائيين أبا علي و ابنه أبا
هاشم منهم على ما نقل عنهما الآمدي ذهبا إلى اشتراط الكثرة في المحبط بمعنى أن من
زادت معاصيه على طاعاته أحبطت معاصيه طاعاته و بالعكس، لكنهما اختلفا فقال أبو
علي: ينحبط الناقص برمته من غير أن ينتقص من الزائد شيء، و قال أبو هاشم: بل
ينتقص من الزائد أيضا بقدره و يبقى الباقي.
إذا عرفت هذا فاعلم أن ما ذكره أكثر
أصحابنا من نفي الإحباط و التكفير مع ورود الآيات الكثيرة و الأخبار المستفيضة بل
المتواترة بالمعنى في كل منهما مما يقضي منه العجب، مع أنه ليس لهم على ذلك إلا
شبه ضعيفة مذكورة في كتب
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 73
الكلام كالتجريد و غيره، لكن بعد
التأمل و التحقيق يظهر أن الذي ينفونه منهما لا ينافي ظواهر الآيات و الأخبار
كثيرا بل يرجع إلى مناقشة لفظية لأنهم قائلون بأن التوبة ترفع العقاب و أن الموت
على الكفر تبطل ثواب جميع الأعمال، لكن الأكثر يقولون ليس هذا بالإحباط، بل
باشتراط الموافاة على الإيمان في استحقاق الثواب على القول بالاستحقاق، و في الوعد
بالثواب علي القول بعدم الاستحقاق، و كذا يمكنهم القول بأحد الأمرين في المعاصي
التي وردت أنها حابطة لبعض الحسنات من غير قول بالحبط بأن يكون الاستحقاق أو الوعد
مشروطا بعدم صدور تلك المعصية و أما التوبة و الأعمال المكفرة فلا حاجة إلى ارتكاب
أمثال ذلك فيها إذ في تجويز التفضل و العفو كما هو مذهبنا غنى عنها، و أيضا لا
نقول بإذهاب كل معصية كل طاعة و بالعكس كما ذهب إليه المعتزلة، بل نتبع في ذلك
النصوص الواردة في ذلك فكل معصية وردت في الكتاب أو في الآثار الصحيحة أنها ذاهبة
أو منقصة لثواب جميع الحسنات و بعضها نقول به و بالعكس، تابعين للنص في جميع ذلك.
و من أصحابنا من لم يقل بالموافاة و
لا بالإحباط بل يقول كل من الإيمان و الكفر يتحقق بتحقق شروطه المقارنة، و ليس
شيء من استحقاق الثواب و العقاب مشروطا بشرط متأخر، بل إن تحقق الإيمان تحقق
استحقاق الثواب و إن تحقق الكفر تحقق معه استحقاق العقاب، فإن كفر بعد الإيمان كان
كفره اللاحق كاشفا عن أنه لم يكن مؤمنا سابقا و لم يكن مستحقا للثواب عليه، و
إطلاق المؤمن عليه بمحض اللفظ و بحسب الظاهر، و إن آمن أحد بعد الكفر زال كفره
الأصلي بالإيمان اللاحق، و سقط استحقاقه العقاب لعفو الله تعالى لا بالإحباط و لا
لعدم الموافاة كما يقول الآخرون.
و تفصيل هذا المطلب و تنقيحه يحتاج
إلى إيراد مقاصد:
الأول: أن النافين للحسن و القبح لا
يثبتون استحقاق شيء من الثواب و العقاب بشيء من الأعمال، بل المالك للعباد عندهم
قادر على الثواب و العقاب و مالك للتصرف
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 74
فيهم كيف شاء، و ليس من شأن فعله في
خلقه استحقاق الذم بل و لا المدح و كلاهما اصطلاح و مواضعة من الشارع، و أما
المثبتون لهما فلا كلام عندهم في استحقاق العقاب نعم ربما قيل بعدم استقلال العقل
فيه ضرورة أو نظرا و أما الثواب فعند بعضهم أنه مما يستحقه العبد بطاعته، و إليه
يذهب جماعة من أصحابنا و يحتجون لذلك بأن إلزام المشقة بدون التزام نفع في مقابله
قبيح، و ربما يوجه عليه أن التزام النفع في مقابله إنما يلزم لو لم يسبق النعم
عليه بما يحسن إلزام المشقة بإزائها و الفرق بين النفع المستقبل و النعمة الماضية
تحكم و ربما كفى في إلزام المشقة حسن العمل الشاق و لم نحتج في حسن الإلزام إلى
أزيد منه، و لهذا ذهب بعض أصحابنا و غيرهم إلى أن الثواب تفضل و وعد منه تعالى
بدون استحقاق للعبد، و هو الظاهر من كلام أكثر أصحابنا رضوان الله عليهم، و يدل
عليه كثير من الأخبار و الأدعية.
الثاني: أن الثواب و العقاب هل يجب
دوامهما أم لا فذهب المعتزلة إلى الأول و طريقه العقل عندهم، و الصحيح عند أصحابنا
أنه لا يجب عقلا، و أما شرعا فالثواب دائم و كذا عقاب الكفر إجماعا من المسلمين
إلا ما نقل من شذاذ من المتصوفين الذين لا يعدون من المسلمين، و أما عقاب العاصي
فمنقطع و يكفي هنا عدم وجدان طريق عقلي إلى دوامهما، و في عبارة التجريد في هذا
المطلب تناقض يحتاج إلى تكلف تام في دفعه.
الثالث: أن الإحباط بالمعنى الذي
ذكرناه من إفناء كل من الاستحقاقين للآخر أو المتأخر للمتقدم باطل عند أصحابنا، و
مذهب أبي علي و هو بقاء المتأخر و فناء المتقدم مناف للنصوص الكثيرة المتضمنة لعدم
تضييع العمل، و أما مذهب أبي هاشم فلا ينافي ظواهر النصوص لأنه إذا أفنى المتقدم
المتأخر أيضا فليس بضائع و لا مما لم يره العامل، لكن الظاهر أن ما ذهب إليه من
إبطاله له من جهة المنافاة بينهما فليس بصحيح، إذ لا منافاة عقلا بين الثواب و
العقاب و استحقاقهما، بل يكاد
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 75
العقل يجزم بعدم مساواة من أعقب
كثيرا من الطاعة بقليل من المعصية مع من اكتفى بالفضل بينهما حسب، و عدم مساواة من
أعقب أحدهما بما يساوي الآخر مع من لم يفعل شيئا.
ثم إنه يمكن أن يسقط العقاب المتقدم
عند الطاعة المتأخرة و على سبيل العفو و هو إسقاط الله تعالى ما يستحقه على العبد
من العقوبة و هو الظاهر من مذاهب أصحابنا رضي الله عنهم، و أما الثواب فلا يتصور
فيه ذلك، و يمكن أن يكون الوعد بالثواب على الطاعة المتقدمة أو استحقاقه مشروطا
بعدم معاقبة المعصية لها كما يشترط ثواب الإيمان و الطاعات بالموافاة على الإيمان
بأن يموت مؤمنا عند كثير من أصحابنا.
لكن ذلك الاشتراط ليس بعام لجميع
المعاصي بل مخصوص بمقتضى النصوص ببعضها، و ليس كلما ورد بطلان الطاعة بسببه مما
يقطع باشتراط الثواب به لأن كلا منها أخبار آحاد لا تفيد القطع، نعم ربما حصل
القطع بأن شيئا من تلك المعاصي يشترط استمرار انتفائه لاستحقاق الثواب أو هو شرط
في الوعد به.
و الفرق بين هذا و بين الإحباط ظاهر
من وجوه:
الأول: أن إبطال الثواب في الإحباط
من حيث التضاد عقلا بين الاستحقاقين و هيهنا من جهة اشتراطه شرعا بنفي المعصية.
الثاني: أن المنافاة هناك بين
الاستحقاقين فلو لم يحصل استحقاق العقاب لانتفاء شرطه لم يحصل الإحباط و هيهنا
بنفس المعصية ينتفي الثواب، أو استحقاقه إن ثبت و كان مستمرا و إن توقف أصل
الاستحقاق على استمرار النفي لم يحصل أصلا و إنما يحصل في موضع الحصول بالموت، و
لا يختلف الحال باستحقاق العقاب على تلك المعصية لاستجماع شرائطه و عدمه لفقد شيء
منه كمنع الله تعالى لطفا معلوما عن المكلف، و كما لو أعلم الله تعالى المكلف أنه
يغفر له و يعفو عن جميع معاصيه فكان مغريا له بالقبيح، و كما لو لم يقع فعل القبيح
و لا الإخلال بالواجب عن المكلف على سبيل
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 76
إيثاره على فعل الواجب و الامتناع من
القبيح، بل وقع لا على وجه الإيثار فإن العاصي في جميع هذه الصور يستحق ذما، و لا
يستحق عقابا عند أبي هاشم و من يحذو حذوه و على تقدير الاشتراط باستمرار انتفاء
المعصية ينتفي استحقاق الثواب و على تقدير الإحباط لا ينتفي.
الثالث: أن التوبة على مذهب الإحباط
يمنع من الإحباط و على ما ذكرنا لا يمنع من الإحباط، نعم لو كان الشرط استمرار
انتفاء المعصية أو الموافاة بالتوبة من المعصية دون استمرار انتفائها فقط منع من
الإحباط كمذهب القائلين به.
الثالث: أن التوبة على مذهب الإحباط
يمنع من الإحباط و على ما ذكرنا لا يمنع من إحباط، نعم لو كان الشرط استمرار
انتفاء المعصية أو الموافاة بالتوبة من المعصية دون استمرار انتفائها فقط منع من
الإحباط كمذهب القائلين به.
الرابع: أن هذا يجري في مذهب النافين
للاستحقاق دون الإحباط، و هذا الذي ذكرناه و إن لم يكن مذهبا صريحا لأصحابنا إلا
أن من يذهب إلى الموافاة لا بدله من تجويزه و به يجمع بين نفي الإحباط كما تقتضيه
الأدلة بزعمهم و بين الآيات و كثير من الروايات الدالة على أن بعضا من المعاصي
يبطل الأعمال السابقة و يمكن القول بمثل هذا في المعاصي بأن يكون استحقاق العقاب
عليها أو استمراره مشروط بعدم بعض الطاعات في المستقبل، فيأول ما يتضمن شبه هذا
المعنى من الروايات به لكن عدم استحقاق العقاب بتعمد معصية الله تعالى و توقفه على
أمر منتظر بعيد، و كذلك انقطاع استمراره و في العفو مندوحة عنه، و الكلام فيه
كالكلام في التوبة و هو ظاهر النصوص.
و في كلام الشارح العلامة الحلي قدس
سره في شرح التجريد عند قول المصنف (ره): و هو مشروط بالموافاة" إلخ" ما
يدل على أن في المعتزلة من يقول باشتراط الطاعات بالمعاصي المتأخرة و بالعكس، و
ظاهره أنه حمل كلام المصنف على هذا المعنى فيكون قائلا بالموافاة في الطاعات
باشتراطه بانتفائه الذنب في المستقبل، و في المعاصي باشتراطه بعدم الطاعة الصالحة
للتكفير في المستقبل إلا أني لم أقف على
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 77
قائل به من الأصحاب صريحا، و كلام
التجريد ليس بصريح إلا في الموافاة بالإيمان.
الرابع: أن العفو مطلقا سواء كانت
المعصية مما تاب المكلف منها أو لا و سواء كانت صغيرة مكفرة أو كبيرة غير واقع
بالسمع عند جميع المعتزلة و ذهب بعضهم و هم البغداديون منهم إلى أنه قبيح عقلا و
السمع أكده، و البصريون إلى جوازه عقلا و إنما المانع منه السمع فمزيل العقاب
عندهم منحصر في أمرين أحدهما التوبة، و الثاني التكفير بالثواب، و ذلك عند من قال
بأن التوبة إنما تسقط العقاب لكونه ندما على المعصية، و إما عند من قال أنه يسقط
لكثرة الثواب فالمزيل منحصر في أمر واحد هو الإحباط فتوهم غير هذا باطل، و دعوى
الاتفاق على العفو من الصغائر عند اجتناب الكبائر، و من الذنوب مطلقا عند التوبة
كما وقع من الشارح الجديد للتجريد مضمحل عند التحقيق كما ذكره بعض الأفاضل.
قال صاحب الكشاف في تفسير قوله
تعالى:" إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ
سَيِّئاتِكُمْ" نمط ما تستحقونه من العقاب في كل وقت على صغائركم، و نجعلها
كان لم تكن لزيادة الثواب المستحق على اجتنابكم الكبائر و صبركم عنها على عقاب
السيئات، و أما إسقاط التوبة للعقاب ففيه ثلاث مذاهب:" الأول" أنها
تسقطه على سبيل الوجوب عند اجتماع شرائطها لكونها ندما على المعصية كما أن الندم
على الطاعة يحبطها لكونه ندما عليها مع قطن النظر عن استتباعها الثواب و العقاب
الثاني: أنها تسقطه على سبيل الوجوب، لا لكونها ندما عليها، بل لاستتباعها ثوابا
كثيرا، الثالث: أنها لا تسقطه و إنما تسقط العقاب عندها، لأنها على سبيل العفو دون
الاستحقاق، و هذه المذاهب مشهورة مسطورة في كتب الكلام.
و أقول: بهذا التفصيل الذي ذكر ارتفع
التشنيع و اللوم عن محققي أصحابنا
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 78
رضوان الله عليهم بمخالفتهم للآيات
المتظافرة و الروايات المتواترة، و أن الإحباط و التكفير بالمعنى الذي هو المتنازع
فيه بين أصحابنا و بين المعتزلة نفيهما لا ينافي شيئا من ذلك و إنما أطنبنا الكلام
في هذا المقام لأنه من مهمات المسائل الكلامية، و من تعرض لتحقيقه لم يستوف حقه، و
الله الموفق.
(الحديث السادس)
(1): ضعيف على المشهور.
و يمكن تعميم المعصية ليشمل ترك
الطاعة أيضا، و عدم ذكر ما يرضيه به لتفخيمه إيماء إلى أن عقل البشر لا يصل إلى
كنه حقيقته كما قال سبحانه:" وَ رِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ".
باب أداء الفرائض
(2)
(الحديث الأول)
(3): حسن كالصحيح.
" فهو من خير الناس"
(4) ليس من في بعض النسخ فالخيرية إضافية
بالنسبة إلى من يأتي بالمستحبات، و يترك بعض الفرائض.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 79
(الحديث الثاني)
(1): حسن أو موثق.
(الحديث الثالث)
(2): ضعيف على المشهور و آخره مجهول.
" اصْبِرُوا"
(3) قال الطبرسي (ره): اختلف في معناها على
وجوه:
أحدها: أن المعنى فاصبروا على دينكم
أي اثبتوا عليه و صابروا الكفار و رابطوهم في سبيل الله فالمعنى اصبروا على طاعة
الله سبحانه و عن معاصيه، و قاتلوا العدو
" وَ صابِرُوا"
(4) على قتالهم في الحق كما يصبرون على قتالكم
في الباطل لأن الرباط هو المرابطة فيكون بين اثنين يعني أعدوا لهم من الخيل ما
يعدونه لكم.
و ثانيها: أن المراد اصبروا على
دينكم و صابروا وعدي إياكم، و رابطوا عدوي و عدوكم.
و ثالثها: أن المراد اصبروا على
الجهاد، و قيل: إن معنى رابطوا رابطوا الصلوات، و معناه انتظروها واحدة بعد واحدة،
لأن المرابطة لم تكن حينئذ روي ذلك عن علي عليه السلام، و روي عن النبي صلى الله
عليه و آله و سلم أنه سئل عن أفضل الأعمال فقال: إسباغ الوضوء في السبرات، و نقل
الأقدام إلى الجماعات، و انتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط.
و روي عن أبي جعفر عليه السلام أنه
قال: معناه اصبروا على المصائب و صابروا على عدوكم و رابطوا عدوكم و هو قريب من
الأول، انتهى.
" على الفرائض"
(5) يحتمل شمولها لترك المحرمات أيضا
" و صابروا على المصائب"
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 80
(1) لعل صيغة المفاعلة على هذا الوجه للمبالغة
لأن ما يكون بين الاثنين يكون الاهتمام فيه أشد أو لأن فيه معارضة النفس و
الشيطان، و كذا
قوله: رابطوا
(2) يحتمل الوجهين لأن المراد به ربط النفس على
طاعتهم و انقيادهم و انتظار فرجهم مع أن في ذلك معارضة لعدوهم
" فيما افترض عليكم"
(3) من فعل الواجبات و ترك المحرمات.
(الحديث الرابع)
(4): ضعيف على المشهور و قد مر الكلام فيه.
(الحديث الخامس)
(5): ضعيف و التحبب جلب المحبة و إظهارها و
الأول أنسب، و لو لم تكن الفرائض أحب إليه تعالى لما افترضه.
باب استواء العمل و المداومة عليه
(6)
(الحديث الأول)
(7): حسن كالصحيح.
" ثم يتحول عنه إنشاء" إلى
غيره
(8) من الطاعات لا أن يتركه بغير عوض
" يكون"
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 81
(1) خبر أن و
" فيها"
(2) خبر يكون، و الضمير راجع إلى الليلة و
قوله: ما شاء الله أن يكون،
(3) اسم يكون، و
قوله: في عامه
(4) متعلق بيكون أو حال عن الليلة، و الحاصل أنه
إذا داوم سنة يصادف ليلة القدر التي يكون فيها ما شاء الله كونه من البركات و
الخيرات و المضاعفات، فيصير له هذا العمل مضاعفا مقبولا، و يحتمل أن يكون الكون
بمعنى التقدير أو يقدر مضاف في ما شاء الله، فالمعنى لما كان تقدير الأمور في ليلة
القدر، فإذا صادفها يصير سببا لتقدير الأمور العظيمة له، و كون العمل في اليوم لا
ينافي ذلك فإنه قد ورد أن يومها مثل الليلة في الفضل، و قيل: المستتر في تكون
لليلة القدر، و ضمير فيها للسنة، و في عامة بتشديد الميم متعلق بتكون أو بقوله
فيها، و المراد بالعامة المجموع، و المشار إليه بذلك مصدر فليدم، و المراد زمان
الدوام، و ما شاء الله بدل بعض للعامة، و الحاصل أنه يكون فيه ليلة القدر، سواء
وقع أو له أو وسطه أو آخره، و ما ذكرنا أظهر.
(الحديث الثاني)
(5): حسن كالصحيح، و يدل على أن العمل القليل
الذي يداوم عليه خير من عمل كثير يفارقه و يتركه كما قال أمير المؤمنين عليه
السلام: قليل من عمل يدوم عليه خير من كثير من عمل مملول، أي يمل منه.
(الحديث الثالث)
(6): مجهول.
مرآة
العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 82
(الحديث الرابع)
(1): كالسابق.
(الحديث الخامس)
(2): كالسابق.
" و عملي مستو"
(3) كان المراد بالاستواء الاشتراك في الكمال و
عدم النقص، فلا ينافي ما روي عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم من استوى يوماه
فهو مغبون، و يمكن أن يكون المراد الاستواء في الترقي فإن من كان كل يوم منه أزيد
من السابق فعمله مستو للاشتراك في هذا المعنى، أو يكون المراد بأحدهما الكيفية و
بالأخرى الكمية.
(الحديث السادس)
(4): موثق.
" أن تفرض على نفسك"
(5) أي تقرر عليها أمرا من الطاعات لا على سبيل
النذر فإنه لا تجوز مفارقته بعد السنة أيضا، و يحتمل شموله للنذر القلبي أيضا فإن
الوفاء به مستحب أيضا.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 83
باب العبادة
(1)
(الحديث الأول)
(2): صحيح.
" تفرغ لعبادتي"
(3) في القاموس تفرغ تخلى من الشغل، أي اجعل
نفسك و قلبك فارغا عن أشغال الدنيا و شهواتها و علائقها، و اللام للتعليل أو
للظرفية
" أملأ قلبك غنى"
(4) أي عن الناس و علي بتشديد الياء و الجملة
حالية، و ربما يقرأ بالتخفيف عطفا على أملأ بحسب المعنى لأنه في قوة على أن أملأ و
الأول أظهر
" و إن لا تفرغ"
(5) إن للشرط و لا نافية و أكلك بالجزم.
(الحديث الثاني)
(6): ضعيف.
" تنعموا بعبادتي"
(7) الظاهر أن الباء صلة فإن الصديقين و
المقربين يلتذون بعبادة ربهم و يتقون بها و هي عندهم أعظم اللذات الروحانية، و
قيل: الباء سببية فإن العبادة سبب الرزق كما قال تعالى:" وَ مَنْ يَتَّقِ
اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً" و هو
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 84
بعيد
" فإنكم تتنعمون بها"
(1) أي بأصل العبادة فإنها أشهى عندهم من اللذات
الجسمانية فهم يعبدون للذة لا للتكليف، كما أن الملائكة طعامهم التسبيح و شرابهم
التقديس أو بسببها أو بقدرها أو بعوضها و الأول أظهر.
(الحديث الثالث)
(2): كالسابق.
و عشق
(3) من باب تعب، و الاسم العشق و هو الإفراط في
المحبة أي أحبها حبا مفرطا من حيث كونه وسيلة إلى القرب الذي هو المطلوب الحقيقي و
ربما يتوهم أن العشق مخصوص بمحبة الأمور الباطلة فلا يستعمل في حبه سبحانه و ما
يتعلق به، و هذا يدل على خلافه و إن كان الأحوط عدم إطلاق الأسماء المشتقة منه على
الله تعالى بل الفعل المشتق منه أيضا بناء على التوقيف، قيل: ذكرت الحكماء في
كتبهم الطبية أن العشق ضرب من الماليخوليا و الجنون و الأمراض السوداوية و قرروا
في كتبهم الإلهية أنه من أعظم الكمالات و السعادات و ربما يظن أن بين الكلامين
تخالفا و هو من واهي الظنون، فإن المذموم هو العشق الجسماني الحيواني الشهواني و
الممدوح هو الروحاني الإنساني النفساني، و الأول يزول و يفنى بمجرد الوصال و
الاتصال، و الثاني يبقى و يستمر أبد الآباد، و على كل حال.
" على ما أصبح"
(4) أي على أي حال دخل في الصباح، أو صار
" أم على يسر"
(5) فيه دلالة على أن اليسر و المال لا ينافي
حبه تعالى و حب عبادته و تفريغ القلب عن غيرها لأجلها، و إنما المنافي له تعلق
القلب به.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 85
(الحديث الرابع)
(1): مرسل.
" حسن النية بالطاعة"
(2) كان المعنى أن العبادة الصحيحة المقبولة هي
ما يكون مع النية الحسنة الخالصة من شوائب الرياء و السمعة و غيرها، مع طاعة أئمة
الحق عليهم السلام و تكون تلك العبادة مأخوذة من الوجوه التي يطاع الله منها أي لا
تكون مبتدعة بل تكون مأخوذة عن الدلائل الحقة و الآثار الصحيحة أو تكون تلك الطاعة
مستندة إلى البراهين الواضحة ليخرج منها طاعة أئمة الضلالة أو المعنى شدة العزم في
طاعة من تجب طاعته حال كون تلك الطاعة من الوجوه التي يطاع الله منها، أي لم تكن
مخلوطة ببدعة و لا رياء و لا سمعة و هذا أنسب بما بعده.
و قيل: يعني أن يكون له في طاعة من
يعبده نية حسنة، فإن تيسر له الإتيان بما وافق نيته و إلا فقد أدى ما عليه من
العبادة بحسن نيته.
" أ ليس تكون"
(3) هذا المعنى للناسخ و المنسوخ موافق و مؤيد
لما ورد في الأخبار في تفسير قوله تعالى:" ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ
نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها" أن المراد به ذهاب إمام و
نصب إمام بعده فهو خير منه أو مثله و قيل: لعل المراد بهذه الوجوه الأئمة واحد بعد
واحد لأنهم الوجوه التي يطاع الله منها لإرشادهم و هدايتهم و بالطاعة الطاعة
المعلومة بتعليمهم و إطاعتهم و الانقياد لهم و بحسن النية تعلق القلب بها من
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 86
صميمه بلا منازعة و لا مخاطرة، و
يحتمل أن يراد بالوجوه وجوه العبادات و أنواعها و بحسن النية تخليصها عن شوائب
النقص.
(الحديث الخامس)
(1): حسن كالصحيح.
" العباد ثلاثة"
(2) في بعض النسخ هكذا فلا يحتاج إلى تقدير، و
في بعضها: العبادة، فيحتاج إلى تقدير إما في العبادة أو ذوو العبادة أو في الأقوام
أي عبادة قوم، و حاصل المعنى أن العبادة الصحيحة المترتبة عليها الثواب و الكرامة
في الجملة ثلاثة أقسام، و أما غيرها كعبادة المرائين و نحوها فليست بعبادة و لا
داخلة في المقسم
" فتلك عبادة العبيد"
(3) إذا لعابد فيها شبيه بالعبيد في أنه يطيع
السيد خوفا منه، و تحرزا من عقوبته.
" فتلك عبادة الأجراء"
(4) فإنهم يعبدون للثواب كما أن الأجير يعمل
للأجر
" حبا له"
(5) أي لكونه محبا له، و المحب يطلب رضا المحبوب
أو يعبده ليصل إلى درجة المحبين و يفوز بمحبة رب العالمين و الأول أظهر.
" فتلك عبادة الأحرار"
(6) أي الذين تحرروا من رق الشهوات، و خلعوا من
رقابهم طوق طاعة النفس الأمارة بالسوء الطالبة اللذات و الشهوات فهم لا يقصدون في
عبادتهم شيئا سوى رضا عالم الأسرار و تحصيل قرب الكريم الغفار و لا ينظرون إلى
الجنة و النار، و كونها أفضل العبادة لا يخفى على أولي الأبصار، و في صيغة التفضيل
دلالة على أن كلا من الوجهين السابقين أيضا عبادة صحيحة و لها فضل في الجملة فهو
حجة على من قال ببطلان عبادة من قصد التحرز عن العقاب أو الفوز بالثواب.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 87
(الحديث السادس)
(1): ضعيف على المشهور.
" ما أقبح الفقر بعد
الغناء"
(2) لعل المعنى قبحه عند الناس و إن كان ممدوحا
عند الله، أو يكون محمولا على من فعل ذلك باختياره بالإسراف و التبذير أو ترك
الكسب و أشباهه، أو يكون المراد التعيش بعيش الفقراء بعد حصول الغناء على سياق
قوله عليه السلام: و أقبح الخطيئة
بعد المسكنة،
(3) فإن الظاهر أن المراد به بيان قبح ارتكاب
الخطايا بعد حصول الفقر و المسكنة، لضعف الدواعي و قلة الآلات و الأدوات و إن
احتمل أن يكون الغرض بيان قبح الذنوب بعد كونه مبتلى بالفقر و المسكنة فأغناه الله
فارتكب بعد ذلك الخطايا لتضمنه كفران النعمة و نسيان الحالة السابقة، و يحتمل أن
يكون المراد بالمسكنة التذلل لله بترك المعصية فيكون أنسب بما قبله و ما بعده، و
أقبح مبتدأ أو خبر فالعابد أيضا يحتملهما، و
" ثم يدع"
(4) عطف على العابد إذ اللام في اسم الفاعل
بمعنى الذي فهو بتقدير الذي يعبد الله ثم يدع.
(الحديث السابع)
(5): ضعيف على المشهور و قد مر مضمونه.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 88
باب النية
(1)
(الحديث الأول)
(2): حسن كالصحيح.
" لا عمل إلا بنية"
(3) أي لا عمل صحيحة كما فهمه الأكثر إلا بنية،
و خص بالعبادات لأنه لو كان المراد مطلق تصور الفعل و تصور فائدته و التصديق بترتب
الغاية عليه و انبعاث العزم من النفس إليه فهذا لازم لكل فعل اختياري، و معلوم أنه
ليس غرض الشارع بيان هذا المعنى بل لا بد أن يكون المراد بها نية خاصة خالصة بها
يصير العمل كاملا أو صحيحا، و الصحة أقرب إلى نفي الحقيقة الذي هو الحقيقة في هذا
التركيب فلا بد من تخصيصها بالعبادات لعدم القول باشتراط نية القربة و أمثالها في
غيرها، و لذا استدلوا به و بأمثاله على وجوب النية و تفصيله في كتب الفروع و قد
حققناه في كتاب بحار الأنوار و غيره.
و قال المحقق الطوسي قدس سره في بعض
رسائله: النية هي القصد إلى الفعل و هي واسطة بين العلم و العمل إذ ما لم يعلم
الشيء لم يمكن قصده و ما لم يقصده لم يصدر عنه، ثم لما كان غرض السالك العامل
الوصول إلى مقصد معين كامل على الإطلاق و هو الله تعالى لا بد من اشتماله على قصد
التقرب به و قال بعض المحققين: يعني لا عمل يحسب من عبادة الله تعالى و يعد من
طاعته بحيث يصح أن يترتب عليه الأجر في الآخرة إلا ما يراد به التقرب إلى الله
تعالى و الدار الآخرة أعني يقصد به وجه الله سبحانه أو التوصل إلى ثوابه أو الخلاص
من عقابه، و بالجملة امتثال أمر الله تعالى فيما ندب
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 89
عباده إليه و وعدهم الأجر عليه و
إنما يأجرهم على حسب أقدارهم و منازلهم و نياتهم، فمن عرف الله بجماله و جلاله و
لطف فعاله فأحبه و اشتاق إليه و أخلص عبادته له لكونه أهلا للعبادة و لمحبته له
أحبه الله و أخلصه و اجتباه و قربه إلى نفسه و أدناه قربا معنويا و دنوا روحانيا
كما قال في حق بعض من هذه صفته:" وَ إِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَ حُسْنَ
مَآبٍ" و قال أمير المؤمنين و سيد الموحدين صلوات الله عليه: ما عبدتك خوفا
من نارك و لا طمعا في جنتك و لكن وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك، و من لم يعرف من الله
سوى كونه إلها صانعا للعالم قادرا قاهرا عالما و أن له جنة ينعم بها المطيعين و
نارا يعذب بها العاصين فعبده ليفوز بجنته أو يكون له النجاة من ناره أدخله الله
تعالى بعبادته و طاعته الجنة و أنجاه من النار لا محالة كما أخبر عنه في غير موضع
من كتابه، فإنما لكل امرئ ما نوى.
فلا تصغ إلى قول من ذهب إلى بطلان
العبادة إذا قصد بفعلها تحصيل الثواب أو الخلاص من العقاب زعما منه أن هذا القصد
مناف للإخلاص الذي هو إرادة وجه الله سبحانه وحده و أن من قصد ذلك فإنما قصد جلب
النفع إلى نفسه و دفع الضرر عنها لا وجه الله سبحانه، فإن هذا قول من لا معرفة له
بحقائق التكاليف و مراتب الناس فيها، فإن أكثر الناس يتعذر منهم العبادة ابتغاء
وجه الله بهذا المعنى، لأنهم لا يعرفون من الله إلا المرجو و المخوف فغايتهم أن
يتذكروا النار و يحذروا أنفسهم عقابها و يتذكروا الجنة و يرغبوا أنفسهم ثوابها و
خصوصا من كان الغالب على قلبه الميل إلى الدنيا.
فإنه قلما ينبعث له داعية إلى فعل
الخيرات لينال بها ثواب الآخرة فضلا عن عبادته على نية إجلال الله عز و جل
لاستحقاقه الطاعة و العبودية فإنه قل من
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 90
يفهمها فضلا عمن يتعاطاها و الناس في
نياتهم في العبادات على أقسام أدناهم من يكون عمله إجابة لباعث الخوف فإنه يتقي
النار، و منهم من يعمل إجابة لباعث الرجاء فإنه يرغب في الجنة و كل من القصدين و
إن كان نازلا بالإضافة إلى قصد طاعة الله و تعظيمه لذاته و لجلالة لا لأمر سواه،
إلا أنه من جملة النيات الصحيحة لأنه ميل إلى الموعود في الآخرة و إن كان من جنس
المألوف في الدنيا.
و أما قول القائل إنه ينافي الإخلاص،
فجوابه أنك ما تريد بالإخلاص؟ إن أردت به أن يكون خالصا للآخرة لا يكون مشوبا
بشوائب الدنيا و الحظوظ العاجلة للنفس كمدح الناس و الخلاص من النفقة بعتق العبد و
نحو ذلك فظاهر أن إرادة الجنة و الخلاص من النار لا ينافيان الإخلاص بهذا المعنى،
و إن أردت بالإخلاص أن لا يراد بالعمل سوى جمال الله و جلاله من غير شوب من حظوظ
النفس و إن كان حظا أخرويا فاشتراطه في صحة العبادة متوقف على دليل شرعي و أنى لك
به؟ بل الدلائل على، خلافه أكثر من أن تذكر، مع أنه تكليف بما لا يطاق بالنسبة إلى
أكثر الخلائق لأنهم لا يعرفون الله بجماله و جلاله، و لا تتأتى منهم العبادة إلا
من خوف النار أو للطمع في الجنة.
و أيضا فإن الله سبحانه قد قال"
ادْعُوهُ خَوْفاً وَ طَمَعاً"" وَ يَدْعُونَنا رَغَباً وَ رَهَباً"
فرغب و رهب و وعد و أوعد، فلو كان مثل هذه النيات مفسدا للعبادات لكان الترغيب و
الترهيب و الوعد و الوعيد عبثا بل مخلا بالمقصود.
و أيضا فإن أولياء الله قد يعملون
بعض الأعمال للجنة و صرف النار لأن حبيبهم يحب ذلك أو لتعليم الناس إخلاص العمل
للآخرة، إذا كانوا أئمة يقتدى بهم.
هذا أمير المؤمنين سيد الأولياء قد
كتب كتابا لبعض ما وقفه من أمواله فصدر
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 91
كتابه بعد التسمية بهذا: هذا ما أوصى
به و قضى به في ماله عبد الله على ابتغاء وجه الله تعالى ليولجني به الجنة و
يصرفني به عن النار، و يصرف النار عني يوم تبيض وجوه و تسود وجوه.
فإن لم تكن العبادة بهذه النية صحيحة
لم يصلح له أن يفعل ذلك و يلقن به غيره و يظهره في كلامه، إن قيل: إن جنة الأولياء
لقاء الله و قربه، و نارهم فراقه و بعده، فيجوز أن يكون أمير المؤمنين عليه السلام
أراد ذلك؟ قلنا: إرادة ذلك ترجع إلى طلب القرب المعنوي و الدنو الروحاني و مثل هذه
النية مختص بأولياء الله كما اعترفت به، فغيرهم لما ذا يعبدون و ليس في الآخرة إلا
الله و الجنة و النار، فمن لم يكن من أهل الله و أوليائه لا يمكن له أن يطلب إلا
الجنة أو يهرب إلا من النار المعهودتين إذ لا يعرف غير ذلك، و كل يعمل على شاكلته
و لما يحبه و يهواه، غير هذا لا يكون أبدا.
و لعل هذا القائل لم يعرف معنى النية
و حقيقتها و أن النية ليست مجرد قولك عند الصلاة، و الصوم أو التدريس أصلي أو أصوم
أو أدرس قربة إلى الله تعالى ملاحظا معاني هذه الألفاظ بخاطرك و متصورا لها بقلبك.
هيهات إنما هذا تحريك لسان و حديث
نفس و إنما النية المعتبرة انبعاث النفس و ميلها و توجهها إلى ما فيه غرضها و
مطلبها إما عاجلا و إما آجلا، و هذا الانبعاث و الميل إذا لم يكن حاصلا لها لا
يمكنها اختراعه و اكتسابه بمجرد النطق بتلك الألفاظ و تصور تلك المعاني و ما ذلك
إلا كقول الشبعان: أشتهي الطعام و أميل إليه قاصدا حصول الميل و الاشتهاء، و كقول
الفارغ: أعشق فلانا و أحبه و انقاد إليه و أطيعه، بل لا طريق إلى اكتساب صرف القلب
إلى الشيء و ميلة إليه و إقباله عليه إلا بتحصيل الأسباب الموجبة لذلك الميل و
الانبعاث و اجتناب الأمور المنافية لذلك المضادة له فإن النفس
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 92
إنما تنبعث إلى الفعل أو تقصده و
تميل إليه تحصيلا للغرض الملائم لها بحسب ما يغلب عليها من الصفات.
فإذا غلب على قلب المدرس مثلا حب
الشهرة و إظهار الفضيلة و إقبال الطلبة إليه فلا يتمكن من التدريس بنية القربة إلى
الله سبحانه. بنشر العلم و إرشاد الجاهلين بل لا يكون تدريسه إلا لتحصيل تلك
المقاصد الواهية و الأغراض الفاسدة و إن قال بلسانه أدرس قربة إلى الله و تصور ذلك
بقلبه و أثبته في ضميره، و ما دام لم يقلع تلك الصفات الذميمة عن قلبه لا عبرة
بنيته أصلا.
و كذلك إذا كان قلبك عند نية الصلاة
منهمكا في أمور الدنيا و التهالك عليها و الانبعاث في طلبها فلا يتيسر لك توجيهه
بكليته، و تحصيل الميل الصادق إليها و الإقبال الحقيقي عليها، بل لا يكون دخولك
فيها دخول متكلف لها متبرم بها و يكون قولك أصلي قربة إلى الله كقول الشبعان أشتهي
الطعام، و قول الفارغ: أعشق فلانا مثلا.
و الحاصل أنه لا يحصل لك النية
الكاملة المعتد بها في العبادات من دون ذلك الميل و الإقبال، و قمع ما يضاده من
الصوارف و الأشغال، و هو لا يتيسر إلا إذا صرفت قلبك عن الأمور الدنيوية و طهرت
نفسك عن الصفات الذميمة الدنية و قطعت نظرك عن حظوظك العاجلة بالكلية.
و أقول: أمر النية قد اشتبه على كثير
من علمائنا رضوان الله عليهم لاشتباهه على المخالفين و لم يحققوا ذلك على الحق و
اليقين، و قد حقق شيخنا البهائي قدس سره شيئا من ذلك في شرح الأربعين، و حققنا
كثيرا من غوامض إسرارها في كتاب عين الحياة و رسالة العقائد فمن أراد تحقيق ذلك
فليرجع إليهما.
(الحديث الثاني)
(1): ضعيف على المشهور.
" نية المؤمن خير من عمله، و
نية الكافر شر من عمله"
(2) هذا الحديث من الأخبار
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 93
المشهورة بين الخاصة و العامة و قد
قيل فيه وجوه:
الأول: أن المراد بنية المؤمن
اعتقاده الحق و لا ريب أنه خير من أعماله إذ ثمرته الخلود في الجنة و عدمه يوجب
الخلود في النار بخلاف العمل.
الثاني: أن المراد أن النية بدون
العمل خير من العمل بدون النية، و رد بأن العمل بدون نية لا خير فيه أصلا، و حقيقة
التفضيل تقتضي المشاركة و لو في الجملة.
الثالث: ما نقل عن ابن دريد و هو أن
المؤمن ينوي خيرات كثيرة لا يساعده الزمان على عملها فكان الثواب المترتب على نياته
أكثر من الثواب المترتب على أعماله.
الرابع: ما ذكره بعض المحققين و هو
أن المؤمن ينوي أن يوقع عباداته على أحسن الوجوه لأن إيمانه يقتضي ذلك ثم إذا كان
يشتغل بها لا يتيسر له ذلك، و لا يتأتى كما يريد فلا يأتي بها كما ينبغي، فالذي
ينوي دائما خير من الذي يعمل في كل عبادة، و هذا قريب من المعنى الأول و يمكن
الجمع بينهما و يؤيدهما الخبر الثالث و الخامس، و ما رواه الصدوق في علل الشرائع
بإسناده عن أبي جعفر أنه كان يقول نية المؤمن خير من عمله و ذلك لأنه ينوي من
الخير ما لا يدركه، و نية الكافر شر من عمله و ذلك لأن الكافر ينوي الشر و يأمل من
الشر ما لا يدركه، و نية الكافر شر من عمله و ذلك لأن الكافر ينوي الشر و يأمل من
الشر ما لا يدركه، و بإسناده عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال له زيد الشحام:
إني سمعتك تقول: نية المؤمن خير من عمله فكيف تكون النية خيرا من العمل؟ قال: لأن
العمل إنما كان رياء للمخلوقين و النية خالصة لرب العالمين، فيعطي عز و جل على
النية ما لا يعطي على العمل، قال أبو عبد الله عليه السلام إن العبد لينوي من
نهاره أن يصلي بالليل فتغلبه عينه فينام فيثبت الله له صلاته و يكتب نفسه تسبيحا و
يجعل نومه صدقة.
الخامس: أن طبيعة النية خير من طبيعة
العمل لأنه لا يترتب عليها عقاب أصلا بل إن كانت خيرا أثيب عليها و إن كانت شرا
كان وجودها كعدمها بخلاف
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 94
العمل فإن من يعمل مثقال ذرة خيرا
يره. و من يعمل مثقال ذرة شرا يره فصح أن النية بهذا الاعتبار خير من العمل. و
أقول: يمكن أن يقال هذا في الشر أيضا بناء على أن الكافر يعاقب على نيات الشر و
إنما العفو عن المؤمنين.
السادس: أن النية من أعمال القلب و
هو أفضل من الجوارح فعمله أفضل من عملها أ لا ترى إلى قوله تعالى:" أَقِمِ
الصَّلاةَ لِذِكْرِي" جعل سبحانه الصلاة وسيلة إلى الذكر و المقصود أشرف من
الوسيلة، و أيضا فأعمال القلب مستورة عن الخلق لا يتطرق إليها الرياء و غيره بخلاف
أعمال الجوارح.
السابع: أن المراد أن نية بعض
الأعمال الشاقة كالحج و الجهاد خير من بعض الأعمال الخفية كتلاوة آية من القرآن و
الصدقة بدرهم مثلا.
الثامن: ما ذكره السيد المرتضى رضي
الله عنه في الغرر أن لفظة خير ليست اسم تفضيل بل المراد أن نية المؤمن عمل خير من
جملة أعماله، و" من" تبعيضية و به دفع التنافي بين هذا الحديث و بين ما
يروي عنه صلى الله عليه و آله و سلم: أفضل الأعمال أحمزها، و يجري هذا الوجه في
قوله: و نية الكافر شر من عمله فإن المعنى فيه ليس معنى التفضيل بل المعنى شر من
جملة أعماله، فإن قيل: كيف يصح هذا مع ما ورد في الحديث من أن ابن آدم إذا هم
بالحسنة، كتبت له حسنة و إذا هم بالسيئة لم يكتب عليه شيء حتى يعمل؟
قلنا: قد ذكرنا سابقا أن ظاهر بعض
الأخبار أن ذلك مخصوص بالمؤمنين.
التاسع: أن المراد بالنية تأثر القلب
عند العمل و انقياده إلى الطاعة و إقباله على الآخرة و انصرافه عن الدنيا و ذلك
يشتد بشغل الجوارح في الطاعات و كفها عن المعاصي فإن بين الجوارح و القلب علاقة
شديدة يتأثر كل منهما بالآخر كما إذا حصل للأعضاء آفة سرى أثرها إلى القلب فاضطرب
و إذا تألم القلب بخوف مثلا سرى أثره
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 95
إلى الجوارح فارتعدت و القلب هو
الأمير المتبوع و الجوارح كالرعايا و الأتباع، و المقصود من أعمالها حصول ثمرة
للقلب فلا تظن أن في وضع الجبهة على الأرض غرضا من حيث أنه جمع بين الجبهة و الأرض
بل من حيث أنه بحكم العادة يؤكد صفة التواضع في القلب فإن من يجد في نفسه تواضعا
فإذا استعان بأعضائه و صورها بصورة التواضع تأكد بذلك تواضعه، و أما من يسجد غافلا
عن التواضع و هو مشغول القلب بأغراض الدنيا فلا يصل من وضع جبهته على الأرض أثر
إلى قلبه بل سجوده كعدمه نظرا إلى الغرض المطلوب منه فكانت النية روح العمل و
ثمرته و المقصد الأصلي من التكليف به فكانت أفضل، و هذا الوجه قريب مما ذكره
الغزالي في إحيائه و هو أن كل طاعة تنتظم بنية و عمل، و كل منهما من جملة الخيرات
إلا أن النية من الطاعتين خير من العمل، لأن أثر النية في المقصود أكثر من أثر
العمل، لأن صلاح القلب هو المقصود من التكليف، و الأعضاء آلات موصلة إلى المقصود،
و الغرض من حركات الجوارح أن يعتاد القلب إرادة الخير و يؤكد الميل إليه ليتفرغ عن
شهوات الدنيا و يقبل على الذكر و الفكر، فبالضرورة يكون خيرا بالإضافة إلى الغرض،
قال الله تعالى:" لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَ لا دِماؤُها وَ لكِنْ
يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ" و التقوى صفة القلب، و في الحديث: أن في الجسد
لمضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد.
العاشر: أن نية المؤمن هي الباعثة له
على عمل الخير فهي أصل العمل و علته و العمل فرعها، لأنه لا يحصل العمل و لا يوجد
إلا بتصور المقصود الحقيقي و التصديق بحصوله و انبعاث النفس إليه حتى يشتد العزم و
يوجد الفعل فبهذه الجهة هي أشرف و كذا نية الكافر سبب لعمله الخبيث فهي شر منه.
الحادي عشر: أن النية روح العمل، و
العمل بمثابة البدن لها فخيريته و شريته
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 96
تابعتان لخيرية النية و شريتها كما
أن شرافة البدن و خباثته تابعتان لشرافة الروح و خباثته، فبهذا الاعتبار نية
المؤمن خير من عمله و نية الكافر شر من عمله.
الثاني عشر: أن نية المؤمن و قصده أو
لا هو الله، و ثانيا العمل لأنه يوصل إليه، و نية الكافر و قصده غيره تعالى و عمله
يوصله إليه، و بهذا الاعتبار صح ما ذكر، و هذا الوجه و ما تقدمه مستفادان من كلام
المحقق الطوسي قدس سره، و الوجوه المذكورة ربما يرجع بعضها إلى بعض.
و بعد ما أحطت خبرا بما ذكرنا نذكر
ما هو أقوى عندنا بعد الإعراض عن الفضول و هو الحق الحقيق بالقبول، فاعلم أن
الإشكالات الناشئة من هذا الخبر إنما هو لعدم تحقيق معنى النية و توهم أنها تصور
الغرض و الغاية و إخطارها بالبال، و إذا حققتها كما أومأنا إليها سابقا عرفت أن
تصحيح النية من أشق الأعمال و أحمزها و أنها تابعة للحالة التي النفس متصفة بها، و
كمال الأعمال و قبولها و فضلها منوط.
بها، و لا يتيسر تصحيحها إلا بإخراج
حب الدنيا و فخرها و عزها من القلب برياضات شاقة و تفكرات صحيحة و مجاهدات كثيرة،
فإن القلب سلطان البدن و كل ما استولى عليه يتبعه سائر الجوارح، بل هو الحصن الذي
كل حب استولى عليه و تصرف فيه يستخدم سائر الجوارح و القوي، و يحكم عليها و لا
تستقر فيه محبتان غالبتان كما قال الله عز و جل: يا عيسى لا يصلح لسانان في فم
واحد و لا قلبان في صدر واحد، و كذلك الأذهان، و قال سبحانه:" ما جَعَلَ
اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ" فالدنيا و الآخرة ضرتان لا
يجتمع حبهما في قلب.
فمن استولى على قلبه حب المال لا
يذهب فكره و خياله و قواه و جوارحه إلا إليه و لا يعمل عملا إلا و مقصوده الحقيقي
فيه تحصيله و إن ادعى غيره كان كاذبا
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 97
و لذا يطلب الأعمال التي و عد فيها
كثرة المال و لا يتوجه إلى الطاعات التي و عد فيها قرب ذي الجلال، و كذا من استولى
عليه حب الجاه ليس مقصوده في أعماله إلا ما يوجب حصوله، و كذا سائر الأغراض
الباطلة الدنيوية فلا يخلص العمل لله سبحانه و للآخرة إلا بإخراج حب هذه الأمور من
القلب و تصفيته عما يوجب البعد عن الحق.
فللناس في نياتهم مراتب شتى بل غير
متناهية بحسب حالاتهم، فمنها ما يوجب فساد العمل و بطلانه، و منها ما يوجب صحته، و
منها ما يوجب كما له، و مراتب كما له أيضا كثيرة فأما ما يوجب بطلانه فلا ريب في
أنه إذا قصد الرياء المحض أو الغالب بحيث لو لم يكن رؤية الغير له لا يعمل هذا
العمل أنه باطل لا يستحق الثواب عليه بل يستحق العقاب كما دلت عليه الآيات و
الأخبار الكثيرة، و أما إذا ضم إلى القربة غيرها بحيث كان الغالب القربة و لو لم
تكن الضميمة يأتي بها ففيه إشكال و لا تبعد الصحة، و لو تعلق الرياء ببعض صفاته
المندوبة كإسباغ الوضوء و تطويل الصلاة فأشد إشكالا، و لو ضم إليها غير الرياء
كالتبريد ففيه أقوال ثالثها التفصيل بالصحة مع كون القربة مقصودة بالذات، و
البطلان مع العكس.
قال في الذكرى: لو ضم إلى النية
منافيا فالأقرب البطلان كالرياء و الندب في الواجب، لأن تنافي المرادات يستلزم
تنافي الإرادات، و ظاهر المرتضى الصحة بمنى عدم الإعادة لا بمعنى حصول الثواب، ذكر
ذلك في الصلاة المنوي بها الرياء و هو يستلزم الصحة فيها و في غيرها، مع ضم الرياء
إلى التقرب، و لو ضم اللازم كالتبرد قطع الشيخ و صاحب المعتبر بالصحة لأنه فعل
الواجب و زيادة غير منافية، و يمكن البطلان لعدم الإخلاص الذي هو شرط الصحة، و كذا
التسخن و النظافة، انتهى.
و أقول: لو ضم إلى القربة بعض
المطالب المباحة الدنيوية فهل تبطل عبادته؟
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 98
ظاهر جماعة من الأصحاب البطلان، و
يشكل بأن صلوات الحاجة و الاستخارة و تلاوة القرآن و الأذكار و الدعوات المأثورة
للمقاصد الدنيوية عبادات بلا ريب، مع أن تكليف خلو القصد عنها تكليف بالمحال، و
الجمع بين الضدين كان يقول أحد: ائت الموضع الفلاني لرؤية الأسد من غير أن يكون
غرضك رؤيته، أو اذهب إلى السوق و اشتر المتاع من غير أن تقصد شراء المتاع، و قد
ورد في الأخبار الكثيرة منافع دنيوية للطاعات ككون صلاة الليل سببا لوسعة الرزق، و
كون الحج موجبا للغناء و أمثال ذلك كثيرة، فلو كانت هذه مخلة بالقربة لكان ذكرها
إغراء بالقبيح، إذ بعد السماع ربما يمتنع تخلية القصد عنها.
نعم يمكن أن تؤول هذه القصود بالأخرة
إلى القربة، كان يكون غرض طالب الرزق صرفه في وجوه البر و التقوى به على الطاعة، و
من يكون مقصوده من طول العمر تحصيل رضا الرب تعالى، لكن هذا القصد لا يتحقق واقعا
و حقيقة إلا لآحاد المقربين و لا يتيسر لأكثر الناس هذه النية و هذا الغرض إلا
بالانتحال و الدعاوي الكاذبة، و توهم أن الإخطار بالبال نية واقعية و بينهما بعد
المشرقين فالظاهر أنه يكفي لكونه طاعة و قربة كونه بأمره سبحانه، و موافقا لرضاه و
متضمنا لذكره و التوسل إليه و إن كان المقصود تحصيل بعض الأمور المباحة لنيل
اللذات المحللة، و أما النيات الكاملة و الأغراض العرية عن المطالب الدنية
الدنيوية فهي تختلف بحسب الأشخاص و الأحوال، و لكل منهم نية تابعة لشاكلته و
طريقته و حالته، بل لكل شخص في كل حالة نية تتبع تلك الحالة، و لنذكر بعض منازلها
و درجاتها:
فالأولى: نية من تنبه و تفكر في شديد
عذاب الله و أليم عقابه، فصار ذلك موجبا لحط الدنيا و لذاتها عن نظره، فهو يعمل
كلما أراد من الأعمال الحسنة و يترك ما ينتهي عنه من الأعمال السيئة خوفا من
عذابه.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 99
الثانية: نية من غلب عليه الشوق إلى
ما أعد الله للمحسنين في الجنة من نعيمها و حورها و قصورها فهو يعبد الله لتحصيل
تلك الأمور.
و هاتان نيتان صحيحتان على الأظهر و
إن توهم الأكثر بطلان العبادة بهما، لغفلتهم عن معنى النية كما عرفت.
و العجب أن العلامة (ره) ادعى اتفاق
العدلية على أن من فعل فعلا لطلب الثواب أو خوف العقاب فإنه لا يستحق بذلك ثوابا.
و أقول: لهاتين النيتين أيضا مراتب
شتى بحسب اختلاف أحوال الناس، فإن من الناس من يطلب الجنة لحصول مشتهياته
الجسمانية فيه، و منهم من يطلبها لكونها دار كرامة الله و محل قرب الله، و كذا
منهم من يهرب من النار لألمها، و منهم من يهرب منها لكونها دار البعد و الهجران و
الحرمان، و محل سخط الله كما قال أمير المؤمنين عليه السلام في الدعاء الذي علمه
كميل بن زياد النخعي: فلئن صيرتني في العقوبات مع أعدائك، و جمعت بيني و بين أهل
بلائك، و فرقت بيني و بين أحبائك و أوليائك فهبني يا إلهي و سيدي صبرت على عذابك
فكيف أصبر على فراقك، و هبني صبرت على حر نارك فكيف أصبر عن النظر إلى كرامتك، إلى
آخر ما ذكر في هذا الدعاء المشتمل على جميع منازل المحبين و درجات العارفين.
فظهر أن هاتين الغايتين و طلبهما لا
تنافيان درجات المقربين.
الثالثة: نية من يعبد الله تعالى
شكرا له فإنه يتفكر في نعم الله التي لا تحصى عليه، فيحكم عقله بأن شكر المنعم
واجب فيعبده لذلك، كما هو طريقة المتكلمين، و قد قال أمير المؤمنين صلوات الله
عليه: أن قوما عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار، و إن قوما عبدوا الله رهبة فتلك
عبادة العبيد، و إن قوما عبدوا الله شكرا فتلك عبادة الأحرار.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
100
الرابعة: نية من يعبده حياءا فإنه
يحكم عقله بحسن الحسنات و قبح السيئات و يتذكر أن الرب الجليل مطلع عليه في جميع
أحواله فيعبده و يترك معاصيه لذلك و إليه يشير قول النبي صلى الله عليه و آله و
سلم: الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
الخامسة: نية من يعبده تقربا إليه
تعالى تشبيها للقرب المعنوي بالقرب المكاني، و هذا هو الذي ذكره أكثر الفقهاء و لم
أر في كلامهم تحقيق القرب المعنوي، فالمراد إما القرب بحسب الدرجة و الكمال إذ
العبد لا مكانه في غاية النقص عار عن جميع الكمالات، و الرب سبحانه متصف بجميع
الصفات الكمالية فبينهما غاية البعد فكلما رفع عن نفسه شيئا من النقائص و اتصف
بشيء من الكمالات حصل له قرب ما بذلك الجناب، أو القرب بحسب التذكر و المصاحبة
المعنوية، فإن من كان دائما في ذكر أحد و مشغولا بخدماته فكأنه معه و إن كان
بينهما غاية البعد بحسب المكان، و في قوة هذه النية إيقاع الفعل امتثالا لأمره
تعالى أو موافقة لإرادته أو انقيادا و إجابة لدعوته، أو ابتغاء لمرضاته، فهذه
النيات التي ذكرها أكثر الأصحاب و قالوا لو قصد الله مجردا عن جميع ذلك كان مجزيا
فإنه تعالى غاية كل مقصد و إن كان يرجع إلى بعض الأمور السالفة.
السادسة: نية من عبد الله لكونه أهلا
للعبادة و هذه نية الصديقين كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: ما عبدتك خوفا من
نارك و لا طمعا في جنتك و لكن وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك، و لا تسمع هذه الدعوى من
غيرهم، و إنما يقبل ممن يعلم منه أنه لو لم يكن لله جنة و لا نار بل لو كان على
الفرض المحال يدخل العاصي الجنة و المطيع النار لاختار العبادة لكونه أهلا لها،
كما أنهم في الدنيا اختاروا النار لذلك فجعلها الله عليهم بردا و سلاما، و عقوبة
الأشرار فجعلها الله عندهم لذة و راحة و نعيما.
السابعة: نية من عبد الله حبا له، و
درجة المحبة أعلى درجات المقربين،
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
101
و المحب يختار رضا محبوبة و لا ينظر
إلى ثواب و لا يحذر من عقاب، و حبه تعالى إذا استولى على القلب يطهره عن حب ما
سواه، و لا يختار في شيء من الأمور إلا رضا مولاه، كما روى الصدوق (ره) بإسناده
عن الصادق عليه السلام أنه قال أن الناس يعبدون الله على ثلاثة أوجه فطبقة يعبدونه
رغبة في ثوابه فتلك عبادة الحرصاء و هو الطمع، و آخرون يعبدونه فرقا من النار فتلك
عبادة العبيد و هي رهبة، و لكني أعبده حباله عز و جل فتلك عبادة الكرام و هو
الأمن، لقوله عز و جل:" وَ هُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ" و
لقوله عز و جل:" قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي
يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ" فمن أحب الله أحبه
الله، و من أحبه الله عز و جل كان من الآمنين.
و في تفسير الإمام عليه السلام قال
علي بن الحسين عليه السلام: إني أكره أن أعبد الله لأغراض لي و لثوابه، فأكون
كالعبد الطمع المطمع، إن طمع عمل و إلا لم يعمل، و أكره أن أعبده لخوف عباده فأكون
كالعبد السوء إن لم يخف لم يعمل، قيل: فلم تعبده؟
قال: لما هو أهله بأياديه على و
إنعامه.
و قال محمد بن علي الباقر عليه
السلام: لا يكون العبد عابد الله حق عبادته حتى ينقطع عن الخلق كله إليه، فحينئذ
يقول هذا خالص لي فيتقبله بكرمه.
و قال جعفر بن محمد عليه السلام: ما
أنعم الله عز و جل على عبد أجل من أن لا يكون في قلبه مع الله غيره.
و قال موسى بن جعفر عليه السلام:
أشرف الأعمال التقرب بعبادة الله عز و جل.
و قال علي الرضا عليه السلام:"
إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ" قول لا إله إلا الله محمد رسول الله
علي ولي الله، و خليفة محمد رسول الله حقا و خلفاؤه خلفاء الله" وَ الْعَمَلُ
الصَّالِحُ
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
102
يَرْفَعُهُ" علمه في قلبه بأن
هذا صحيح كما قلته بلساني.
و أقول: لكل من النيات الفاسدة و
الصحيحة أفراد أخرى يعلم بالمقايسة بما ذكرنا، و هي تابعة لأحواله و صفاته و
ملكاته الراسخة منبعثة عنها، و من هذا يظهر سر أن أهل الجنة يخلدون فيها بنياتهم
لأن النية الحسنة تستلزم طينة طيبة و صفات حسنة و ملكات جميلة، تستحق الخلود بذلك،
إذ لم يكن مانع العمل من قبله، فهو بتلك الحالة مهيئ للأعمال الحسنة و الأفعال
الجميلة، و الكافر مهيئ لضد ذلك، و بتلك الصفات الخبيثة المستلزمة لتلك النية
الرديئة استحق الخلود في النار.
و بما ذكرنا ظهر معنى
قوله عليه السلام: و كل عامل يعمل
على نيته،
(1) أي عمل كل عامل يقع على وفق نيته في النقص و
الكمال و الرد و القبول، و المدار عليها كما عرفت، و على بعض الاحتمالات المعنى أن
النية سبب للفعل و باعث عليه، و لا يتأتى العمل إلا بها كما مر.
(الحديث الثالث)
(2): صحيح.
" ليقول"
(3) أي بلسانه أو بقلبه أو الأعم منهما
" فإذا علم الله عز و جل
ذلك"
(4) أي علم أنه إن رزقه يفي بما يعده من الخير
فإن كثيرا من المتمنيات و المواعيد كاذبة لا يفي الإنسان به
" إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ"
(5) القدرة أو واسع العطاء
" كريم"
(6) بالذات، فالإثابة على نية الخير من سعة جوده
و كرمه لا من استحقاقهم ذلك.
قال الشيخ البهائي قدس سره: هذا
الحديث يمكن أن يجعل تفسيرا لقوله عليه السلام نية المؤمن خير من عمله، فإن المؤمن
ينوي كثيرا من هذه النيات فيثاب عليها و لا يتيسر العمل إلا قليلا، انتهى.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
103
و أقول: النية تطلق على النية
المقارنة للفعل و على العزم المتقدم عليه، سواء تيسر العمل أم لا، و على التمني
للفعل و إن علم عدم تمكنه منه، و المراد هنا أحد المعنيين الأخيرين، و يمكن أن
يقال: إن النية لما كانت من الأفعال الاختيارية القلبية فلا محالة يترتب عليها
ثواب، و إذا فعل الفعل المنوي يترتب عليه ثواب آخر، و لا ينافي اشتراط العمل بها
تعدد الثواب كما أن الصلاة صحتها مشروطة بالوضوء و يترتب على كل منهما ثواب إذا اقترنا،
فإذا لم يتيسر الفعل لعدم دخوله تحت قدرته أو لمانع عرض له يثاب على العزم، و ترتب
الثواب عليه غير مشروط بحصول الفعل، بل بعدم تقصيره فيه فالثواب الوارد في الخبر
يحتمل أن يكون هذا الثواب فله مع الفعل ثوابان، و بدونه ثواب واحد، فلا يلزم كون
العمل لغوا و لا كون ثواب النية و العمل معا كثوابها فقط، و يحتمل أن يكون ثواب
النية كثوابها مع العمل بلا مضاعفة و مع العمل يضاعف عشر أمثالها أو أكثر.
و يؤيده ما سيأتي أن الله جعل لآدم
أن من هم من ذريته بسيئة لم تكتب عليه، و إن عملها كتبت عليه سيئة، و من هم منهم
بحسنة فإن لم يعملها كتبت له حسنة، فإن هو عملها كتبت له عشرا، و إن أمكن حمله على
ما إذا لم يعملها مع القدرة عليها، و على ما حققنا أن النية تابعة للشاكلة و
الحالة، و أن كمالها لا يحصل إلا بكمال النفس و اتصافها بالأخلاق الرضية الواقعية
فلا استبعاد في تساوي ثواب من عزم على فعل على وجه خاص من الكمال و لم يتيسر له، و
من فعله على هذا الوجه.
و قيل: أثابه المؤمن بنيته أمر خير
متفق عليه بين الأمة و رواه الخاصة و العامة روى مسلم بإسناده عن رسول الله صلى
الله عليه و آله و سلم قال: من طلب الشهادة صادقا أعطيها و لو لم تصبه، و بإسناد
آخر عنه صلى الله عليه و آله و سلم قال: من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل
الشهداء و إن مات على فراشه، قال المازري: و فيهما دلالة على أن من نوى شيئا من
أعمال
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
104
البر و لم يفعله لعذر كان بمنزلة من
عمله، و على استحباب طلب الشهادة و نية الخير و قد صرح بذلك جماعة من علمائهم حتى
قال الآبي: لو لم ينوه كان حاله حال المنافق لا يفعل الخير و لا ينويه.
(الحديث الرابع)
(1): مجهول و قد مضى الكلام فيه، و الحاصل أنه
حد العبادة
(2) الصحيحة المقبولة بالنية الحسنة غير المشوبة
مع طاعة الإمام لأنهما العمدة في الصحة و القبول، فالحمل على المبالغة، أو المراد
بالطاعة الإتيان بالوجوه التي يطاع الله منها مطلقا.
(الحديث الخامس)
(3): ضعيف.
و كان الاستشهاد بالآية مبني على ما
حققنا سابقا أن المدار في الأعمال علي النية التابعة للحالة التي اتصفت النفس بها
من العقائد و الأخلاق الحسنة و السيئة فإذا كانت النفس على العقائد الثابتة و
الأخلاق الحسنة الراسخة التي لا يتخلف عنها الأعمال الصالحة الكاملة لو بقي في
الدنيا أبدا فبتلك الشاكلة و الحالة استحق الخلود في الجنة، و إذا كانت على
العقائد الباطلة و الأخلاق الرديئة التي علم الله تعالى أنه لو بقي في الدنيا أبدا
لعصى الله تعالى دائما فبتلك الشاكلة استحق الخلود في النار
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
105
لا بالأعمال التي لم يعملها.
فلا يرد أنه ينافي الأخبار الواردة
في أنه إذا أراد السيئة و لم يعملها لم تكتب عليه، مع أنه يمكن حمله على ما إذا لم
تصر شاكلة له، و لم تكن بحيث علم الله أنه لو بقي لأتى بها، أو يحمل عدم كتابة
السيئة على المؤمنين، و هذا إنما هو في الكفار و قد يستدل بهذا الخبر على أن كل
كافر يمكن في حقه التوبة و الإيمان لا يموت على الكفر.
أقول: و يمكن أن يستدل به على أن
بالعزم على المعصية يستحق العقاب و إن عفا الله عن المؤمنين تفضلا.
و ما ذكره المحقق الطوسي (ره) في
التجريد في مسألة خلق الأعمال حيث قال:
و إرادة القبيح قبيحة يدل على أنه
بعد إرادة العباد للحرام فعلا قبيحا محرما و هو الظاهر من كلام أكثر الأصحاب سواء
كان تاما مستتبعا للقبيح أو عزما ناقصا غير مستتبع لكن قد تقرر عندهم أن إرادة
القبيح إذا كانت غير مقارنة لفعل قبيح يتعلق بها العفو كما دلت عليه الروايات و
سيأتي بعضها، و أما إذا كانت مقارنة فلعله أيضا كذلك و ادعى بعضهم الإجماع على أن
فعل المعصية لا تتعلق به إلا أثم واحد، و من البعيد أن يتعلق به إثمان أحدهما
بإرادته و الآخر بإيقاعه.
قال بعض المحققين من المعاصرين في
شرح هذه الفقرة المنقولة من التجريد بعد إيراد نحو مما ذكرنا: فيندفع حينئذ
التدافع بين ما ذكره المصنف (ره) من قبح إرادة القبيح و بين ما هو المشهور من أن
الله تعالى لا يعاقب بإرادة الحرام و إنما يعاقب بفعله، و ما أوله به بعضهم من أن
المراد أنه لا يعاقب العقوبة الخاصة بفعل المعصية بمجرد إرادتها و يثيب الثواب
الخاص بفعل الطاعة بمجرد إرادتها، ففيه أن شيئا من ذلك غير صحيح، فإن الظاهر من
النصوص أنه تعالى لا يعاقب و لا يؤاخذ على إرادة المعصية أصلا و أن الإجماع قائم
على أن ثواب الطاعة لا يترتب على إرادتها
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
106
بل المترتب عليها نوع آخر من الثواب
يختلف باختلاف الأحوال المقارنة لها من خلوص النية و شدة الجد فيها، و الاستمرار
عليها إلى غير ذلك، و لا مانع من أن يصير في بعض الأحوال أعظم من ثواب نفس الفعل
الذي لم يكن لصاحبه تلك الإرادة البالغة الجامعة لهذه الخصوصيات و كان تتبع الآثار
المأثورة يغني عن الإطالة في هذا الباب.
و أقول: قد عرفت بعض ما حققنا في ذلك
و سيأتي إنشاء الله تمام الكلام عند شرح بعض الأخبار في أواخر هذا المجلد، و قد مر
بعض القول فيه في باب أن الإيمان مبثوث لجوارح البدن.
باب
(1) إنما لم يعنون الباب لأنه يمكن إدخاله في
عنوان الباب الآتي، و لعله لو ذكر بعده كان أولى، و أما مناسبته للباب السابق كما
توهم فهي ضعيفة.
(الحديث الأول)
(2): مجهول.
" إن لكل عبادة شرة"
(3) الشره بكسر الشين و تشديد الراء شدة الرغبة،
قال في النهاية فيه: إن لهذا القرآن شرة، ثم إن للناس عنه فترة، الشره: النشاط و
الرغبة، و منه الحديث الآخر: لكل عابد شرة، و قال في حديث ابن مسعود: أنه مرض فبكى
فقال: إنما أبكي لأنه أصابني على حال فترة، و لم يصبني على حال اجتهاد، أي في حال
سكون و تقليل من العبادات و المجاهدات، انتهى.
مرآة العقول في
شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 107
" إلى سنتي"
(1) أي منتهيا إليها، أو إلى بمعنى مع، أي لا
تدعوه كثرة الرغبة في العبادة إلى ارتكاب البدع كالرياضات المبتدعة للمتصوفة، بل
يعمل بالسنن و التطوعات الواردة في السنة، و يحتمل أن يكون المراد بانتهاء الشره
أن يكون ترك الشره بالاقتصاد و الاكتفاء بالسنن و ترك بعض التطوعات لا بترك السنن
أيضا، و يؤيده الخبر الآتي.
" في تباب"
(2) أي تباب العمل أو صاحبه، و التباب الخسران و
الهلاك، و في بعض النسخ في تبار بالراء و هو أيضا الهلاك.
" كفى بالموت موعظة"
(3) الباء زائدة و الموعظة ما يتعظ الإنسان به،
و يصير سببا لانزجار النفس عن الخطايا و الميل إلى الدنيا و الركون إليها و أعظمها
الموت، إذ العاقل إذا تفكر فيه و في غمراته و ما يعقبه من أحوال البرزخ و القيامة
و أهوالها و ما فعله بأهل الدنيا من قطع أيديهم عنها و إخراجهم منها طوعا أو كرها
فجأة من غير اطلاع منهم على وقت نزوله و كيفية حلوله، هانت عنده الدنيا و ما فيها،
و شرع في التهيئة له إن أعطاه الله تعالى بصيرة في ذلك.
" و كفى باليقين غنى"
(4) أي كفى اليقين بأن الله رازق العباد، و أنه
يوسع على من يشاء و يقتر على من يشاء بحسب المصالح سببا لغني النفس و عدم الحرص و
ترك التوسل بالمخلوقين، و هو من اليقين بالقضاء و القدر، و قد مر في باب اليقين
أنه يطلق غالبا عليه
" و كفى بالعبادة شغلا"
(5) كان المقصود أن النفس يطلب شغلا يشتغل به،
فإذا شغلها المرء بالعبادة تحيط بجميع أوقاته فلا يكون له فراغ يصرفه في الملاهي،
و إذا لم يشتغل بالعبادة يدعوه الفراغ إلى البطر و اللهو و صرف العمر في المعاصي و
الملاهي
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
108
و الأمور الباطلة، كسماع القصص
الكاذبة و أمثالها، و الغرض الترغيب في العبادة و بيان عمدة ثمراتها، و الظاهر أن
هذه الفقرات الأخيرة مواعظ آخر لا ارتباط لها بما تقدمها، و قد يتكلف بجعلها
مربوطة بها بأن المراد بالأولى كفى الموت موعظة في عدم مخالفته السنة، و كفى
اليقين غنى لئلا يطلب الدنيا بالرياء و ارتكاب البدع، و كفت العبادة المقررة
الشرعية شغلا، فلا يلزم الاشتغال بالبدع.
(الحديث الثاني)
(1): ضعيف على المشهور و قد مر مضمونه.
و الحاصل أن لكل أحد شوقا و نشاطا في
العبادة في أول الأمر، ثم يعرض له فترة و سكون، فمن كانت فترته بالاكتفاء بالسنن و
ترك البدع أو ترك التطوعات الزائدة فطوبى له، و من كانت فترته بترك السنن أيضا أو
بترك الطاعات رأسا و ارتكاب المعاصي، أو بالاقتصار على البدع فويل له، و قد مر في
آخر كتاب العقل بسند آخر عن أبي جعفر عليه السلام قال: ما من أحد إلا و له شرة و
فترة فمن كانت فترته إلى سنة فقد اهتدى، و من كانت فترته إلى بدعة فقد غوى، و هو
يؤيد ما ذكرنا.
باب الاقتصاد في العبادة
(2)
(الحديث الأول)
(3): ضعيف بسنديه.
و قال في النهاية
المتين
(4) الشديد القوي، و قال فيه:
إن هذا الدين متين فأوغل
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
109
فيه برفق،
(1) الإيغال: السير الشديد يقال: أوغل القوم و
توغلوا إذا أمعنوا في سيرهم، و الوغول الدخول في الشيء و قد وغل يغل وغولا يريد:
سر فيه برفق، و أبلغ الغاية القصوى منه بالرفق، لا على سبيل التهافت و الخرق، و لا
تحمل نفسك و تكلفها ما لا تطيقه فتعجز و تترك الدين و العمل.
و قال فيه: فإن المنبت لا أرضا قطع و
لا ظهرا أبقى، يقال للرجل إذا انقطع به في سفره و عطبت راحلته قد أنبت من البت
القطع، و هو مطاوع بت يقال بتة و أبته يريد أنه بقي في طريقه عاجزا عن مقصده لم
يقض وطره و قد أعطب ظهره، انتهى.
" و لا تكرهوا عبادة الله"
(2) كان المعنى أنكم إذا أفرطتم في الطاعات يريد
الناس متابعتكم في ذلك، فيشق عليهم فيكرهون عبادة الله و يفعلونها من غير رغبة و
شوق، و يحتمل أن يكون أوغلوا في فعل أنفسهم و لا تكرهوا في دعوة الغير، أي لا
تحملوا على الناس في تعليمهم و هدايتهم فوق سعتهم و ما يشق عليهم كما مر في حديث
الرجل الذي هدى النصراني في باب درجات الإيمان، و يحتمل أن يكون عباد الله شاملا
لأنفسهم أيضا، و يمكن أن يكون الإيغال هنا متعديا أي أدخلوا الناس فيه برفق ليوافق
الفقرة الثانية، قال في القاموس: وغل في الشيء يغل وغولا دخل و توارى، أو بعد و
ذهب، و أوغل في البلاد و العلم ذهب و بالغ و أبعد كتوغل، و كل داخل مستعجلا موغل،
و قد أوغلته الحاجة.
(الحديث الثاني)
(3): حسن كالصحيح.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
110
و حاصله النهي عن الإفراط في التطوعات
بحيث يكرهها النفس، و لا يكون فيها راغبا ناشطا.
(الحديث الثالث)
(1): موثق.
و في القاموس
تعاظمه
(2) عظم عليه، و كان في أكثر هذه الأخبار إشارة
إلى أن السعي في زيادة كيفية العمل أحسن من السعي في زيادة كميته، و أن السعي في
تصحيح العقائد و الأخلاق أهم من السعي في كثرة الأعمال.
(الحديث الرابع)
(3): مجهول.
" إذا أحب عبدا"
(4) أي بحسن العقائد و الأخلاق و رعاية الشرائط
في الأعمال التي منها التقوى.
(الحديث الخامس)
(5): حسن كالصحيح.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
111
" دون ما أراك تصنع"
(1) دون منصوب بفعل مقدر أي أصنع دون ذلك.
(الحديث السادس)
(2): ضعيف.
" فاعمل عمل من يرجو أن يموت
هرما"
(3) أي تأن و ارفق و لا تستعجل، فإن من يرجو
البقاء طويلا لا يسارع في الفعل كثيرا، أو أن من يرجو ذلك لا يتعب نفسه بل يداري
بدنه و لا ينهكه بكثرة الصيام و السهر و أمثالها، و احذر عن المنهيات كحذر من يخاف
أن يموت غدا، قيل: و لعل السر فيه أن العبادات أعمال و فيها تعب الأركان و شغل عما
سواها، فأمر فيها بالرفق و الاقتصاد كيلا تكل بها الجوارح و لا تبغضها النفس، و لا
تفوت بسببها حق من الحقوق، فأما الحذر عن المعاصي و المنهيات فهو ترك و اطراح و
ليس فيه كثير كد و لا ملالة، و لا شغل عن شيء فيترك ترك من يخاف أن يموت غدا على
معصية الله تعالى، و قيل: الفرق أن فعل الطاعات نفل و فضل، و ترك المخالفات حتم و
فرض.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
112
باب من بلغه ثواب من الله على عمل
(1)
(الحديث الأول)
(2): حسن كالصحيح.
" كان"
(3) أي الثواب
" له"
(4) و في بعض النسخ كان له أجره.
(الحديث الثاني)
(5): ضعيف على المشهور.
و يدل على صحة العمل بنية الثواب و
أنها لا تنافي الإخلاص كما عرفت.
فائدة جليلة اعلم أن أصحابنا رضوان
الله عليهم كثيرا ما يستدلون بالأخبار الضعيفة و المجهولة على السنن و الآداب، و
يحكمون بها بالكراهة و الاستحباب، و أورد عليه أن الاستحباب أيضا حكم شرعي كالوجوب
فلا وجه للفرق بينهما و الاكتفاء فيه بأخبار الضعفاء و المجاهيل، و كذا الكراهة و
الحرمة لا فرق بينهما في ذلك، و أجيب عنه بأن الحكم بالاستحباب فيما ضعف مستنده
ليس في الحقيقة بذلك الخبر الضعيف، بل بالروايات الواردة في هذا الباب و غيره.
فإن قيل: هذه الروايات أيضا ليست
صحيحة على مصطلح القوم؟ قلت: الخبر الأول و إن كان حسنا لكن حسن إبراهيم بن هاشم
لا يقصر عن الصحيح، مع أنه مؤيد
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
113
بالخبر الثاني، و بما رواه الصدوق في
ثواب الأعمال عن أبيه عن علي بن موسى عن أحمد بن محمد عن علي بن الحكم عن هشام عن
صفوان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من بلغه شيء من الثواب على شيء من الخير
فعمله كان له أجر ذلك و إن كان رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم لم يقله، و
بما رواه البرقي في المحاسن عن أبيه عن أحمد بن النضر عن محمد بن مروان عن أبي عبد
الله عليه السلام قال: من بلغه عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم شيء من الثواب
ففعل ذلك طلب قول النبي صلى الله عليه و آله و سلم كان له ذلك الثواب و إن كان
النبي لم يقله.
مع أنه روى البرقي بسند صحيح أيضا و
إن غفل عنه الأكثر و قالوا: لم يرد فيه خبر صحيح حيث روي عن أبيه عن علي بن الحكم
عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من بلغه عن النبي صلى الله عليه
و آله و سلم شيء من الثواب فعمله كان أجر ذلك له و إن كان رسول الله صلى الله
عليه و آله و سلم لم يقله، و قد روته العامة أيضا بأسانيد عن النبي، فلا يبعد عده
من المتواترات فمهما عملنا بخبر ضعيف لم نعمل بهذا الخبر بل بهذه الأخبار
المستفيضة الدالة على جواز العمل به، و ترتب الثواب عليه.
و مع ذلك فقد يخدش بوجوه: الأول: أن
مفاد الروايات أنه إذا روي أن في العمل الفلاني ثوابا معينا فعمل أحد ذلك العمل
رجاء ذلك الثواب يعطي ذلك الثواب و إن كان الخبر خلاف الواقع و لم يقله المعصوم
عليه السلام فلا تشمل هذه الأخبار ما لم يرد فيه ثواب مع أن الأصحاب يستدلون
بالأخبار غير الصحيحة التي لم تشتمل على الثواب على الكراهة و الاستحباب، و يمكن
أن يجاب بأن الأمر بالعبادة يستلزم ترتب الثواب عليه و إن لم يذكر في الخبر، فإذا
فعل المؤمن ذلك العمل رجاء للثواب المعلوم ترتبه على العمل و إن لم يعلم مقداره
يكون داخلا في تلك الأخبار، و لا بد أن يثاب في الجملة لاقتضائها ذلك و لا يخلو من
تمحل.
الثاني: أن الثواب كما يكون للمستحب
كذلك يكون للواجب أيضا، فلم
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
114
خصصوا الحكم بالمستحب، و الجواب أنك
قد عرفت أنا لم نعمل بهذا الخبر الدال على الوجوب بل إنما عملنا بتلك الأخبار و هي
لا تدل إلا على رجحان العمل به و ترتب الثواب عليه و لا تدل على ترتب العقاب على
تركه فالحكم الثابت لنار بهذا الخبر بانضمام تلك الروايات ليس إلا الحكم
الاستحبابي فافهم.
الثالث: أن بين تلك الروايات و بين
ما يدل على عدم جواز العمل بخبر الفاسق كقوله تعالى:" إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ
بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا" عموما من وجه، فلا وجه لتخصيص الثاني بالأول بل
العكس أولى لقطعية طريقه و تأيده بالأصل، إذ الأصل عدم التكليف و براءة الذمة منه،
و يمكن أن يجاب بأن الآية إنما تدل على عدم العمل بخبر الفاسق بدون التثبت و
التبين، و العمل به فيما نحن فيه بعد ورود الروايات ليس عملا بلا تثبت فلم تخصص
الآية بالأخبار، بل بسبب ورودها خرجت تلك الأخبار الضعيفة عن عنوان الحكم المثبت
في الآية الكريمة.
الرابع: أن هذه المسألة أي ثبوت
الاستحباب بالأدلة الضعيفة إنما هو من مسائل الأصول على المشهور و جواز الاكتفاء
فيه بالظن الحاصل من خبر الواحد مشكل، و الجواب أن مثل هذا الخبر المشتهر بين
الفريقين الوارد بأسانيد كثيرة مما يورث القطع بمضمونه، مع أن وجوب تحقق العلم
القطعي في جميع مسائل الأصول مما يمكن المناقشة فيه.
الخامس: أن عموم العمل الذي ورد في
الخبر ترتب الثواب عليه غير معلوم، فإنه فيما سبق من الأخبار نكرة في سياق الإثبات
و هي غير مفيدة للعموم، فحينئذ يحتمل أن يكون المراد فيها أن من سمع ثوابا من الله
على عمل ثابت بدليل شرعي قطعي أو ظني جائز العمل به، ثم عمل بذلك العمل أعطي ذلك
الأجر فلا يدل
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
115
على إثبات أصل العمل بالأخبار الغير
المعتبرة، و الجواب أن العمل و إن كان نكرة في إثبات و هو لا يفيد العموم إلا أنه
لما كان مقنن القوانين و من صدر عنه الحكم لما كان حكيما لا يليق به أن يصدر عنه
حكم مجمل لا يمكن العمل به، و لا يفيد المخاطب فائدة تامة فلا بد من حمل النكرة
على العموم، مثلها في قوله تعالى:" عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ" و
قولهم: تمرة خير من جرادة، أو يقال أن العموم المستفاد من لفظة" من" كاف
لإفادة عموم العمل أيضا فإنه يصدق على من بلغه ثواب من الله على عمل غير ثابت
بدليل شرعي خارج أنه ممن بلغه الحديث، فإن اسم الموصول و غيره من أدوات العموم كما
يقتضي عموم الأفراد يقتضي عموم جميع ما يتعلق به و يتم به الصلة أو الاسم الذي دخل
عليه أداة العموم.
ففي ما نحن فيه نقول: اسم الموصول
دخل على بلغه ثواب من الله على عمل، فكل شيء يصدق عليه أنه بلغه ثواب ما على عمل
ما يتناوله اسم الموصول مع قطع النظر عن عمومه تناولا كتناول المطلق لأفراده، و
معنى العموم شموله بحسب الحكم لكل ما تناوله تناولا إطلاقيا، فلو فرضنا أن بلوغا
ما أو ثوابا ما أو عملا ما خارج عن تعلق هذا الحكم لم يكن العام المفروض عاما
لجميع من بلغه ثواب على عمل و هو يخل بالعموم.
و من أقوى الشواهد على ذلك أن
علماءنا و علماء العامة اتفقوا على أن قوله تعالى:" وَ الَّذِينَ
يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً" عام يشمل أولات الحمل و
غيرها في قوله تعالى:" وَ أُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ
حَمْلَهُنَّ" و اختلفوا في
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
116
ترجيح تخصيص أيهما بالآخر لما بينهما
من العموم من وجه و قصة أمير المؤمنين عليه السلام في ذلك مع ابن مسعود مشهورة، و
لو لا ما ذكرنا أمكن أن يقال: أن أزواجا جمع منكر فلا عموم له، و أولات الأحمال
جمع مضاف فيعم فلا تعارض.
و بهذا يظهر فساد ما في شرح المختصر
في بحث دلالة الأمر على الوجوب حيث استدل عليها بقوله:" فَلْيَحْذَرِ
الَّذِينَ" الآية، ثم اعترض بأن الاستدلال موقوف على عموم الأمر و هو مطلق، و
أجاب بأن الأمر مصدر مضاف فيعم، و على ما ذكرنا تناول الأمر بإطلاقه لجميع الأوامر
كاف إذ يكون المعنى حينئذ الأمر بحذر كل من يخالف أمرا ما من الأوامر فيدل على أن
كل من يخالف أي أمر من الأوامر يتحقق في حقه مقتضى الحذر، و ما هو إلا استحقاق
العقاب و الشواهد علي ما ذكرنا كثيرة يظهر علي المتتبع.
ثم اعلم أنه يشكل ترتب الأحكام الأخر
على هذا الفعل سوى ترتب الثواب عليه، كما إذا ورد خبر ضعيف يدل على ترتب الثواب
على غسل، فعلى القول بحصول الاستباحة من الأغسال المندوبة يشكل حصول الاستباحة من
هذا الغسل إلا أن يقال: لما ثبت بهذه الأخبار شرعية هذا الغسل يترتب عليه جميع
الأحكام، و لا فرق بين هذا الغسل و غيره من الأغسال المندوبة، و كل دليل يدل على
حصول الاستباحة من الأغسال الأخر، يدل على هذا أيضا.
قال الشيخ البهائي قدس سره: يحتمل أن
يراد بسماع الثواب مطلق بلوغه إليه، سواء كان على سبيل الرواية أو الفتوى أو
المذاكرة أو نحو ذلك، كما لو أراه في شيء من كتب الحديث أو الفقه مثلا، و يؤيد
هذا التعميم أنه ورد في حديث آخر عن الصادق عليه السلام: من بلغه شيء من الثواب،
و يمكن أن يراد السماع من لفظ
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
117
الراوي أو المفتي خاصة، فإنه هو
الشائع الغالب في الزمن السالف، و أما الحمل على التحمل بأحد الوجوه الستة
المشهورة فلا يخلو من بعد.
و ظاهر الإطلاق أن ظن صدق الناقل غير
شرط في ترتب الثواب، فلو تساوى صدقه و كذبه في نظر السامع و عمل بقوله فاز بالأجر،
نعم يشترط عدم ظن كذبه لقيام بعض القرائن و الظاهر أن تصريح الراوي بترتب الثواب
غير شرط، بل قوله إن العمل الفلاني مستحب أو مكروه كاف في ترتب الثواب على فعله أو
تركه.
" على شيء" أي على فعل
شيء أو تركه" فصنعه" أي أتى بذلك الشيء سواء كان فعلا أو تركا"
كان له أجره" الضمير في أجره" الضمير في أجره إما أن يعود إلى الشيء أي
كان له الأجر المرتب على ذلك الشيء أو إلى من، أي كان لذلك العامل أجره أي الأجر
الذي طلبه بذلك العمل" و إن لم يكن على ما بلغه" اسم يكن ضمير الشأن و
يجوز عوده إلى الشيء أو الثواب أو المسموع، و يؤيده أن في رواية أخرى و إن لم يكن
الحديث كما بلغه، انتهى.
و قال المحقق الدواني في أنموزجه:
اتفقوا على أن الحديث الضعيف لا تثبت به الأحكام الشرعية ثم ذكروا أنه يجوز بل
يستحب العمل بالأحاديث الضعيفة في فضائل الأعمال، و ممن صرح بذلك النووي في كتبه، لا
سيما كتاب الأذكار، و فيه إشكال لأن جواز العمل و استحبابه كلاهما من الأحكام
الخمسة الشرعية فإذا استحب العمل بمقتضى الحديث الضعيف كان ثبوته بالحديث الضعيف،
و ذلك ينافي ما تقرر من عدم ثبوت الأحكام بالأحاديث الضعيفة، و قد حاول بعضهم
التفصي عن ذلك و قال: مراد النبوي أنه إذا ثبت حديث حسن أو صحيح في فضيلة عمل من
الأعمال يجوز رواية الحديث الضعيف في هذا الباب، و لا يخفى أن هذا لا يرتبط بكلام
النووي أصلا فضلا عن أن يكون مراده ذلك، فلم يكن جواز العمل و استحبابه
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
118
مجرد نقل الحديث، على أنه لو لم يثبت
الحديث الصحيح و الحسن في فضيلة عمل يجوز نقل الحديث الضعيف فيها، لا سيما مع
التنبيه على ضعفه، و مثل ذلك في كتب الحديث و غيره شائع كثير يشهد به من تتبع أدنى
تتبع، و الذي يصلح للتعويل عليه حينئذ أنه إذا وجد حديث ضعيف في فضيلة عمل من
الأعمال، و لم يكن هذا العمل مما يحتمل الحرمة و الكراهة فإنه يجوز العمل به و
يستحب لأنه مأمون الخطر و مرجو النفع، إذ دائر بين الإباحة و الاستحباب، فالاحتياط
العمل به رجاء الثواب، و أما إذا دار بين الحرمة و الاستحباب فلا وجه لاستحباب
العمل به، و إذا دار بين الكراهة و الاستحباب فمجال النظر فيه واسع إذ في العمل
دغدغة الوقوع في المكروه، و في الترك مظنة ترك المستحب، فلينظر إن كان خطر الكراهة
أشد بأن تكون الكراهة المحتملة شديدة و الاستحباب المحتمل ضعيفا فحينئذ يترجح
الترك على الفعل، فلا يستحب العمل به و إن كان الكراهة أضعف بأن تكون الكراهة على
تقدير وقوعها كراهة ضعيفة دون مرتبة ترك العمل على تقدير استحبابه فالاحتياط العمل
به، و في صورة المساواة تحتاج إلى نظر تام، و أظن أنه يستحب أيضا لأن المباحات
تصير بالنية عبادة فكيف ما فيه شبهة الاستحباب لأجل الحديث الضعيف، فجواز العمل و
استحبابه مشروطان، أما جواز العمل فبعدم احتمال الحرمة و أما الاستحباب فبما ذكرنا
مفصلا.
بقي هيهنا شيء و هو أنه إذا عدم
احتمال الحرمة فجواز العمل ليس لأجل الحديث إذ لو لم يوجد يجوز العمل أيضا لأن
المفروض انتفاء الحرمة، لا يقال:
الحديث الضعيف ينفى احتمال الحرمة؟
لأنا نقول: الحديث الضعيف لا يثبت به شيء من الأحكام الخمسة، و انتفاء الحرمة
يستلزم ثبوت الإباحة، و الإباحة حكم شرعي فلا يثبت بالحديث الضعيف، و لعل مراد
النووي ما ذكرنا، و إنما ذكر
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
119
الجواز توطئة للاستحباب، و حاصل
الجواب أن الجواز معلوم من خارج، و الاستحباب أيضا معلوم من القواعد الشرعية
الدالة على استحباب الاحتياط في أمر الدين، فلم يثبت شيء من الأحكام بالحديث
الضعيف بل أوقع الحديث الضعيف شبهة الاستحباب، فصار الاحتياط أن يعمل به، و
استحباب الاحتياط معلوم من قواعد الشرع، انتهى.
و اعترض عليه الشيخ البهائي قدس سره
بأن خطر الحرمة في هذا الفعل الذي تضمن الحديث الضعيف استحبابه حاصل كلما فعله
المكلف لرجاء الثواب، لأنه لا يعتد به شرعا و لا يصير منشأ لاستحقاق الثواب إلا
إذا فعله المكلف بقصد القربة، و لاحظ رجحان فعله شرعا، فإن الأعمال بالنيات و فعله
على هذا الوجه مردد بين كونه سنة و رد الحديث في الجملة، و بين كونه تشريعا و
إدخالا لما ليس من الدين فيه، و لا ريب أن ترك السنة أولى من الوقوع في البدعة،
فليس الفعل المذكور دائرا في وقت من الأوقات بين الإباحة و الاستحباب، بل هو دائما
دائر بين الحرمة و الاستحباب فتاركه متيقن للسلامة و فاعله متعرض للندامة.
على أن قولنا بدورانه بين الحرمة و
الاستحباب إنما هو على سبيل المماشاة و إرخاء العنان، و إلا فالقول بالحرمة من غير
ترديد ليس عن السداد ببعيد، و التأمل الصادق على ذلك شهيد، هذا.
و قد تفصى بعض الفضلاء عن أصل
الإشكال بأن معنى قولهم يجوز العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال دون مسائل
الحرام و الحلال، أنه إذا ورد حديث صحيح أو حسن في استحباب عمل و ورد حديث ضعيف في
أن ثوابه كذا و كذا، جاز العمل بذلك الحديث الضعيف، و الحكم بترتب ذلك الثواب على
ذلك الفعل، و ليس هذا الحكم أحد الأحكام الخمسة التي لا تثبت بالأحاديث الضعيفة.
و بعضهم بأن معنى قولهم الأحكام لا
تثبت بالأحاديث الضعيفة أنها لا تستقل
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
120
بإثباتها لا أنها لا تصير مقوية و
مؤكدة لما ثبت به، و معنى تجويزهم العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال أنه إذا
دل على استحباب عمل حديثان صحيح و ضعيف مثلا، جاز للمكلف حال العمل ملاحظة دلالة
الضعيف أيضا عليه، فيكون عاملا به في الجملة و لا يخفى ما في هذين الكلامين من
الخلل، أما الأول فلمخالفة منطوق عبارات القوم فإنها صريحة في استحباب الإتيان
بالفعل إذا ورد في استحبابه حديث ضعيف غير قابلة لهذا التأويل السخيف، و أما
الثاني فمع بعده و سماجته يقتضي عدم صحة التخصيص بفضائل الأعمال دون مسائل الحرام
و الحلال، فإن العمل بالحديث الضعيف بهذا المعنى لا نزاع بين أهل الإسلام في جوازه
في جميع الأحكام.
باب الصبر
(1)
(الحديث الأول)
(2): ضعيف على المشهور.
و قال المحقق الطوسي قدس سره:
الصبر
(3) حبس النفس عن الجزع عند المكروه، و هو بمنع
الباطن عن الاضطراب، و اللسان عن الشكاية، و الأعضاء عن الحركات غير المعتادة،
انتهى.
و قد مر و سيأتي أن الصبر يكون على
البلاء و على فعل الطاعة و على ترك المعصية، و على سوء أخلاق الخلق، قال الراغب:
الصبر الإمساك في ضيق، يقال:
صبرت الدابة حبستها بلا علف و صبرت فلانا
حلفته حلفة لا خروج له منها، و الصبر حبس النفس على ما يقتضيه العقل أو الشرع أو
عما يقتضيان حبسها عنه، فالصبر لفظ عام و ربما خولف بين أسمائه بحسب اختلاف
مواقعه، فإن كان حبس النفس لمصيبة سمي صبرا لا غير، و يضاده الجزع، و إن كان في
محاربة سمي شجاعة و يضاده الجبن،
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
121
و إن كان في نائبه مضجرة سمي رحب
الصدر و يضاده الضجر، و إن كان في إمساك الكلام سمي كتمانا و يضاده الإذاعة، و قد
سمي الله تعالى كل ذلك صبرا و نبه عليه بقوله:
" وَ الصَّابِرِينَ فِي
الْبَأْساءِ وَ الضَّرَّاءِ وَ حِينَ الْبَأْسِ"" وَ الصَّابِرِينَ
عَلى ما أَصابَهُمْ"" وَ الصَّابِرِينَ وَ الصَّابِراتِ" و سمي
الصوم صبرا لكونه كالنوع له.
و قوله:" اصْبِرُوا وَ
صابِرُوا" أي احبسوا أنفسكم علي العبادة و جاهدوا أهواءكم، و قوله عز و
جل:" اصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ" أي تحمل الصبر بجهدك، و قوله:
" أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ
الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا" أي بما تحملوه من الصبر في الوصول إلى مرضات
الله.
قوله: رأس الإيمان
(1)، هو من قبيل تشبيه المعقول بالمحسوس، و وجه
الشبه ما سيأتي في الخبر الآتي و وجهه أن الإنسان ما دام في تلك النشأة هو مورد
للمصائب و الآفات و محل للحوادث و النوائب و العاهات، و مبتلى بتحمل الأذى من بني
نوعه في المعاملات و مكلف بفعل الطاعات و ترك المنهيات و المشتهيات، و كل ذلك ثقيل
على النفس لا تشتهيها بطبعها، فلا بد من أن تكون فيه قوة ثابتة و ملكة راسخة بها
يقتدر على حبس النفس علي هذه الأمور الشاقة، و رعاية ما يوافق الشرع و العقل فيها،
و ترك الجزع و الانتقام و سائر ما ينافي الآداب المستحسنة المرضية عقلا و شرعا، و
هي المسماة بالصبر، و من البين أن الإيمان الكامل بل نفس التصديق أيضا يبقى ببقائه،
و يفنى بفنائه، فلذلك هو من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
122
(الحديث الثاني)
(1): ضعيف على المشهور.
(الحديث الثالث)
(2): ضعيف.
" صبر قليلا"
(3) نصب قليلا إما على المصدرية أو الظرفية أي
صبر صبرا قليلا أو زمانا قليلا، و هو زمان العمر أو زمان البلية
" في جميع أمورك"
(4) فإن كل ما يصدر عنه من الفعل و الترك و
العقد و كل ما يرد عليه من المصائب و النوائب من قبله تعالى، أو من قبل غيره يحتاج
إلى الصبر إذ لا يمكنه تحمل ذلك بدون جهاده مع النفس و الشيطان و حبس النفس عليه.
" وَ اصْبِرْ عَلى ما
يَقُولُونَ"
(5) أي من الخرافات و الشتم و الإيذاء
" وَ اهْجُرْهُمْ هَجْراً
جَمِيلًا"
(6) بأن تجانبهم و تداريهم و لا تكافيهم و تكل
أمرهم إلى الله كما قال:
" وَ ذَرْنِي وَ
الْمُكَذِّبِينَ"
(7) أي دعني و إياهم و كل إلى أمرهم فإني
أجازيهم في الدنيا و الآخرة
" أُولِي النَّعْمَةِ"
(8) النعمة بالفتح لين الملمس أي المتنعمين ذوي
الثروة في الدنيا، و هم صناديد قريش و غيرهم.
" ادْفَعْ"
(9) أول الآية هكذا:" وَ لا تَسْتَوِي
الْحَسَنَةُ وَ لَا السَّيِّئَةُ" أي في الجزاء و حسن العاقبة" و
لا" الثانية مزيدة لتأكيد النفي
" ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ
أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ"
(10) كذا
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
123
في أكثر نسخ الكتاب و تفسير علي بن
إبراهيم، و السيئة غير مذكورة في المصاحف و كأنه عليه السلام زادها تفسيرا و ليست
في بعض النسخ و هو أظهر، و قيل: المعنى ادفع السيئة حيث اعترضتك بالتي هي أحسن
منها و هي الحسنة، على أن المراد بالأحسن الزائد مطلقا أو بأحسن ما يمكن دفعها به
من الحسنات، إنما أخرج مخرج الاستئناف على أنه جواب من قال كيف أصنع؟ للمبالغة، و
لذلك وضع أحسن موضع الحسنة، كذا ذكره البيضاوي، و قيل: اسم التفضيل مجرد عن معناه،
أو أصل الفعل معتبر في المفضل عليه على سبيل الفرض، أو المعنى ادفع السيئة بالحسنة
التي هي أحسن من العفو أو المكافاة، و تلك الحسنة هي الإحسان في مقابل الإساءة، و
معنى التفضيل حينئذ بحاله لأن كلا من العفو أو المكافاة أيضا حسنة إلا أن الإحسان
أحسن منهما و هذا قريب مما ذكره الزمخشري من أن لا غير مزيدة، و المعنى أن الحسنة
و السيئة متفاوتان في أنفسهما فخذ بالحسنة التي هي أحسن أن تحسن إليه مكان إساءته.
" فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَ
بَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ"
(1) أي إذا فعلت ذلك صار عدوك المشاق مثل الولي
الشفيق
" وَ ما يُلَقَّاها"
(2) أي ما يلقي هذه السجية و هي مقابلة الإساءة
بالإحسان
" إِلَّا الَّذِينَ
صَبَرُوا"
(3) فإنها تحبس النفس عن الانتقام
" وَ ما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو
حَظٍّ عَظِيمٍ"
(4) من الخير و كمال النفس، و قيل: الحظ العظيم
الجنة، يقال:
لقاه الشيء أي ألقاه إليه
" حتى نالوه بالعظائم"
(5) يعني نسبوه إلى الكذب و الجنون و السحر و
غير ذلك، و افتروا عليه.
" أَنَّكَ يَضِيقُ
صَدْرُكَ"
(6) كناية عن الغم
" بِما يَقُولُونَ"
(7) من الشرك أو الطعن فيك
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
124
و في القرآن و الاستهزاء بك و به
" فَسَبِّحْ بِحَمْدِ
رَبِّكَ"
(1) أي فنزه ربك عما يقولون مما لا يليق به
متلبسا بحمده في توفيقك له أو فافزع إلى الله فيما نابك من الغم بالتسبيح و
التحميد فإنهما يكشفان الغم عنك
" وَ كُنْ مِنَ
السَّاجِدِينَ"
(2) للشكر في توفيقك أو رفع غمك أو كن من
المصلين فإن في الصلاة قطع العلائق عن الغير
" إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي
يَقُولُونَ"
(3) الضمير للشأن أي ما يقولون إنك شاعر أو
مجنون و أشباه ذلك.
" فَإِنَّهُمْ لا
يُكَذِّبُونَكَ"
(4) قال الطبرسي (ره): اختلف في معناه على وجوه:
أحدها أن معناه لا يكذبونك بقلوبهم اعتقادا و إن كانوا يظهرون بأفواههم التكذيب
عنادا و هو قول أكثر المفسرين و يؤيده ما روي أن رسول الله صلى الله عليه و آله و
سلم لقي أبا جهل فصافحه أبو جهل فقيل له في ذلك؟ فقال: و الله إني لأعلم أنه صادق
و لكنا متى كنا تبعا لعبد مناف؟ فأنزل الله هذه الآية.
و ثانيها: أن المعنى لا يكذبونك بحجة
و لا يتمكنون من إبطال ما جئت به ببرهان، و يدل عليه ما روي عن علي عليه السلام
أنه كان يقرأ: لا يكذبونك، و يقول: إن المراد بها أنهم لا يأتون بحق هو أحق من
حقك.
و ثالثها: أن المراد لا يصادفونك
كاذبا، تقول العرب: قاتلناكم فما أجبناكم أي ما أصبناكم جبناء، و لا يختص هذا
الوجه بالقراءة بالتخفيف لأن أفعلت و فعلت يجوزان في هذا الموضع إلا أن التخفيف
أشبه بهذا الوجه.
و رابعها: أن المراد لا ينسبونك إلى
الكذب فيما أتيت به لأنك كنت عندهم أمينا صادقا، و إنما يدفعون ما أتيت به و
يقصدون التكذيب بآيات الله، و يقوي هذا الوجه قوله: و لكن الظالمين بآيات الله
يجحدون، و قوله: و كذب به قومك و هو
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
125
الحق، و لم يقل: و كذبك قومك، و ما
روي أن أبا جهل قال للنبي صلى الله عليه و آله و سلم: ما نتهمك و لا نكذبك و لكننا
نتهم الذي جئت به و نكذبه.
و خامسها: أن المراد أنهم لا يكذبونك
بل يكذبونني فإن تكذيبك راجع إلى و لست مختصا به لأنك رسول فمن رد عليك فقد رد
على، و ذلك تسلية منه تعالى للنبي صلى الله عليه و آله و سلم.
" وَ لكِنَّ الظَّالِمِينَ
بِآياتِ اللَّهِ"
(1) أي بالقرآن و المعجزات
" يَجْحَدُونَ"
(2) بغير حجة سفها و جهلا و عنادا، و دخلت الباء
لتضمين معنى التكذيب و قال أبو علي: الباء تتعلق بالظالمين، ثم زاد في تسلية النبي
صلى الله عليه و آله و سلم
بقوله:" وَ لَقَدْ كُذِّبَتْ
رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَ أُوذُوا"
(3) أي صبروا على ما نالهم منهم من التكذيب و
الأذى في أداء الرسالة
" حَتَّى أَتاهُمْ
نَصْرُنا"
(4) إياهم على المكذبين، و هذا أمر منه تعالى
لنبيه بالصبر على أذى كفار قومه إلى أن يأتيه النصر كما صبرت الأنبياء، و
بعده" وَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ" أي لا يقدر أحد على تكذيب
خبر الله على الحقيقة و لا على إخلاف وعده" وَ لَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ
الْمُرْسَلِينَ" أي خبرهم في القرآن كيف أنجيناهم و نصرناهم على قومهم.
قوله عليه السلام: فذكروا الله،
(5) أي نسبوا إليه ما لا يليق بجنابة
" وَ لَقَدْ خَلَقْنَا
السَّماواتِ"
(6) قيل: هذا إشارة إلى حسن التأني و ترك
التعجيل في الأمور، و تمهيد للأمر بالصبر، و أقول: يحتمل أن يكون توطئة للصبر على
وجه آخر، و هو بيان عظم قدرته و أنه قادر على الانتقام منهم
" وَ ما مَسَّنا مِنْ
لُغُوبٍ"
(7) أي من تعب و إعياء، و هو رد لما
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
126
زعمت اليهود من أنه تعالى بدء خلق
العالم يوم الأحد، و فرغ منه يوم الجمعة و استراح يوم السبت و استلقى على العرش
" فَاصْبِرْ عَلى ما
يَقُولُونَ"
(1) أي ما يقول المشركون من إنكارهم البعث، فإن
من قدر على خلق العالم بلا إعياء قدر على بعثهم و الانتقام منهم أو ما يقول اليهود
من الكفر و التشبيه.
قوله عليه السلام: ثم بشر
(2)، على بناء المجهول و قبل الآية في سورة
التنزيل هكذا،" وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ
مِنْ لِقائِهِ وَ جَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ
أَئِمَّةً" و في أكثر نسخ الكتاب و جعلناهم و كأنه تصحيف، و في بعضها:
جعلنا منهم، كما في المصاحف.
ثم إنه يرد عليه أن الظاهر من سياق
الآية رجوع ضمير منهم إلى بني إسرائيل فكيف تكون بشارة للنبي صلى الله عليه و آله
و سلم في عترته و كيف وصفوا بالصبر؟
و الجواب ما عرفت أن ذكر القصص في
القرآن لإنذار هذه الأمة و تبشيرهم، مع أنه قد قال رسول الله صلى الله عليه و آله
و سلم: أنه يقع في هذه الأمة ما وقع في بني إسرائيل حذو النعل بالنعل، فذكر قصة
موسى و إيتائه الكتاب و جعل الأئمة من بني إسرائيل أي هارون و أولاده، ذكر نظير
لبعثة النبي صلى الله عليه و آله و سلم و إيتائه القرآن و جعل الأئمة من أخيه و
ابن عمه و أولاده كما قال صلى الله عليه و آله و سلم: أنت مني بمنزلة هارون من
موسى، و قد يقال: إن قوله:" فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ" المراد
به لا تكن في تعجب من سقوط الكتاب بعدك و عدم عمل الأمة به فإنا نجعل بعدك أمة
يهدون بالكتاب كما جعلنا في بني إسرائيل أئمة يهدون بالتوراة.
و المفسرون ذكروا فيه وجوها: الأول
أن المعنى لا تكن في شك من لقائك موسى ليلة الأسرى، الثاني: من لقاء موسى الكتاب،
الثالث: من لقائك الكتاب،
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول،
ج8، ص: 127
الرابع: من لقائك الأذى كما لقي موسى
الأذى.
" و جعلناه"
(1) أي موسى أو المنزل عليه
" يَهْدُونَ"
(2) أي الناس إلى ما فيه من الحكم و الأحكام
" بِأَمْرِنا"
(3) إياهم أو بتوفيقنا لهم
" لَمَّا صَبَرُوا"
(4) أي لصبرهم على الطاعة أو على أذى القوم أو
عن الدنيا و ملاذها كما قيل
" وَ كانُوا بِآياتِنا
يُوقِنُونَ"
(5) لا يشكون في شيء منها، و يعرفونها حق
المعرفة.
" فشكر الله ذلك له"
(6) إشارة إلى الصبر على جميع الأحوال و ذلك
القول الدال على الرضا بالصبر، و شكر الله تعالى لعباده عبارة عن قبول العمل و
مقابلته بالإحسان و الجزاء في الدنيا و الآخرة
" وَ تَمَّتْ كَلِمَتُ
رَبِّكَ"
(7) صدر الآية:" وَ أَوْرَثْنَا الْقَوْمَ
الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ" يعني بني إسرائيل في ظهر الآية فإن القبط
كانوا يستضعفونهم فأورثهم الله بأن مكنهم و حكم لهم بالتصرف، و أباح لهم بعد إهلاك
فرعون و قومه" مَشارِقَ الْأَرْضِ وَ مَغارِبَهَا" أي أرض الشام شرقها و
غربها، أو أرض الشام و مصر، و قيل: كل الأرض لأن داود و سليمان كانا منهم و ملكا
الأرض التي باركنا فيها بإخراج الزرع و الثمار و ضروب المنافع" وَ تَمَّتْ
كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ" قال الطبرسي (ره):
معناه صح كلام ربك بإنجاز الوعد بإهلاك عدوهم و استخلافهم في الأرض، و إنما كان
الإنجاز تماما للكلام لتمام النعمة به، و قيل: إن كلمة الحسنى قوله سبحانه:"
وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ" إلى
قوله:" يَحْذَرُونَ" و قال: الحسنى، و إن كانت كلمات الله كلها حسنة
لأنها وعد بما يحبون، و قال الحسن: أراد وعد الله لهم بالجنة
" بِما صَبَرُوا"
(8) على أذى فرعون و قومه
" وَ دَمَّرْنا ما
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
128
كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَ
قَوْمُهُ"
(1) أي أهلكنا ما كانوا يبنون من الأبنية و
القصور و الديار
" وَ ما كانُوا
يَعْرِشُونَ"
(2) من الأشجار و الأعناب و الثمار، و قيل:
يعرشون يسقفون من القصور و البيوت
" فقال صلى الله عليه و آله و
سلم: إنه بشرى"
(3) أي لي و لا صحابي
" و انتقام"
(4) من أعدائي و وجه البشارة ما مر أن ذكر هذه
القصة تسلية للنبي صلى الله عليه و آله و سلم بأني أنصرك على أعدائك و أهلكهم و
أنصر الأئمة من أهل بيتك على الفراعنة الذين غلبوا عليهم و ظلموهم في زمن القائم
عليه السلام و أملكهم جميع الأرض، فظهر الآية لموسى و بني إسرائيل، و بطنها لمحمد
و آل محمد صلى الله و عليه و آله و سلم.
" فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ"
(5) الآية هكذا:" فَإِذَا انْسَلَخَ
الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ"
قيل: أي من حل و حرم
" وَ خُذُوهُمْ"
(6) أي و أسروهم و الأخيذ الأسير
" وَ احْصُرُوهُمْ"
(7) أي و احبسوهم أو حيلوا بينهم و بين المسجد
الحرام
" وَ اقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ
مَرْصَدٍ"
(8) أي كل ممر لئلا ينتشروا في البلاد، و
انتصابه على الظرف، و قال تعالى في سورة البقرة:" وَ قاتِلُوا فِي سَبِيلِ
اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَ لا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ
الْمُعْتَدِينَ
وَ اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ
(9) وَ أَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ
أَخْرَجُوكُمْ" يقال ثقفه أي صادفه أو أخذه أو ظفر به أو أدركه.
" فقتلهم الله"
(10) أي في غزوة بدر و غيرها" و عجل له
الثواب ثواب صبره" و في بعض النسخ و
جعل له ثواب صبره
(11) و الأول أظهر و موافق للتفسير، و الحاصل أن
هذه النصرة
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
129
و قتل الأعداء كان ثوابا عاجلا على
صبره منضما مع ما ادخر له في الآخرة من مزيد الزلفى و الكرامة
" و احتسب"
(1) أي كان غرضه القربة إلى الله ليكون محسوبا
من أعماله الصالحة
" حتى يقر الله عينه"
(2) أي يسره في أعدائه بنصره عليهم مع ما يدخر
له في الآخرة من الأجر الجميل و الثواب الجزيل.
(الحديث الرابع)
(3): مجهول مرفوع.
(الحديث الخامس)
(4): حسن كالصحيح و قد مر بعينه بسند آخر.
(الحديث السادس)
(5): صحيح.
و الحر
(6) ضد العبد و المراد هنا من نجا في الدنيا من
رق الشهوات النفسانية و أعتق في الآخرة من أغلال العقوبات الربانية فهو كالأحرار
عزيز غني في جميع الأحوال.
قال الراغب: الحر خلاف العبد و
الحرية ضربان: الأول من لم يجر عليه حكم السبي نحو" الْحُرُّ
بِالْحُرِّ" و الثاني من لم يتملكه قواه الذميمة من الحرص
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
130
و الشره على المقتنيات الدنيوية، و
إلى العبودية التي تضاد ذلك، أشار النبي صلى الله عليه و آله و سلم بقوله: تعس عبد
الدرهم، تعس عبد الدينار، و قول الشاعر:" ورق ذوي الأطماع رق مخلد"، و
قيل: عبد الشهوة أذل من عبد الرق، انتهى.
و في القاموس: الحر بالضم خلاف
العبد، و خيار كل شيء و الفرس العتيق، و من الطين و الرمل الطيب.
" إن نابته نائبة صبر لها"
(1) أي إن عرض له حادثة أو نازلة أو مصيبة صبر
عليها أو حمل عليه مال يؤخذ منه أداه و لا يذل نفسه بالبخل فيه، قال في النهاية:
في حديث خيبر قسمها نصفين نصفا لنوائبه و نصفا بين المسلمين، النوائب جمع النائبة
و هي ما ينوب الإنسان أي ينزل به من المهمات و الحوادث، و قد نابه ينوبه نوبا و
منه الحديث:
احتاطوا لأهل الأموال في النائبة و
الواطية أي الأضياف الذين ينوبونهم.
" و إن تداكت عليه
المصائب"
(2) أي اجتمعت و ازدحمت، قال في النهاية: و في
حديث علي عليه السلام: ثم تداككتم على تداكك الإبل الهيم على حياضها، أي ازدحمتم و
أصل الدك الكسر، انتهى.
" لم تكسره"
(3) أي لم تعجزه عن الصبر و لم تحمله على الجزع
و ترك الرضا بقضاء الله تعالى
" و إن أسر"
(4) إن وصلية
" و استبدل باليسر عسرا"
(5) عطف على أسر، و في بعض النسخ و استبدل
بالعسر يسرا فهو عطف على قوله لم تكسره فتكون غاية للصبر
" إن استبعد"
(6) على بناء المجهول فاعل لم يضرر، و المراد
بحريته عزه و رفعته و صبره على تلك المصائب و رضاه بقضاء الله و اختياره طاعة الله
و عدم تذلله للمخوقين
" و ما ناله"
(7) أي من ظلم الإخوان و سائر الأحزان
" أن من الله"
(8) أي في أن من الله أو هو بدل اشتمال
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
131
للضمير في لم تضرره أو بتقدير إلى
فالظرف متعلق بلم تضرر في الموضعين على سبيل التنازع.
و أقول: يحتمل أن يكون ما ناله عطفا
على الضمير في لم يضرره، و أن من الله بيانا لما بتقدير من أو بدلا منه، فيحتمل أن
يكون فاعل نال يوسف عليه السلام و قيل:
اللام فيه مقدر أي لأن من الله فيكون
تعليلا لقوله: لم تضرر في الموضعين أو ما ناله مبتدأ و أن من الله خبره، و الجملة
معطوفة على لم تضرره أو يكون الواو بمعنى مع، أي لم تضرره ذلك مع ما ناله و أن من
بيان لما.
و العاتي
(1) من العتو بمعنى التجبر و التكبر و التجاوز
عن الحد، و الجبار بائعه في مصر أو العزيز فالمراد بصيرورته عبدا له أنه صار مطيعا
له، مع أنه قد روى الثعلبي و غيره أن ملك مصر كان ريان بن الوليد و العزيز الذي
اشترى يوسف عليه السلام كان وزيره و كان اسمه قطفير فلما عبر يوسف رؤيا الملك عزل
قطفير عما كان عليه و فوض إلى يوسف أمر مصر و ألبسه التاج و أجلسه على سرير الملك
و أعطاه خاتمه و هلك قطفير في تلك الليالي فزوج الملك يوسف زليخا امرأة قطفير، و
كان اسمها راعيل فولدت له ابنين أفراثيم و ميشا فلما دخلت السنة الأولى من سني
الجدب هلك فيها كل شيء أعدوه في السنين المخصبة فجعل أهل مصر يبتاعون من يوسف
الطعام فباعهم أول سنة بالنقود حتى لم يبق بمصر دينار و لا درهم إلا قبضه، و باعهم
السنة الثانية بالحلي و الجواهر حتى لم يبق في أيدي الناس منها شيء، و باعهم
السنة الثالثة بالمواشي و الدواب حتى احتوى عليها أجمع و باعهم السنة الرابعة
بالعبيد و الإماء حتى لم يبق عبد و لا أمة في يد أحد، و باعهم السنة الخامسة
بالضياع و العقار و الدور حتى احتوى عليها، و باعهم السنة السادسة بأولادهم حتى
استرقهم و باعهم السنة السابعة برقابهم حتى لم تبق بمصر حر و لا حرة إلا صار عبدا
له، ثم استأذن الملك و أعتقهم كلهم
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
132
و رد أموالهم إليهم، فظهر أن الله
ملكه جميع أهل مصر و أموالهم عوضا عن مملوكيته صلوات الله عليه لهم، فهذه ثمرة
الصبر و الطاعة.
و المراد بإرساله إرساله إلى الخلق
بالنبوة و برحم الأمة به نجاتهم عن العقوبة الأبدية بإيمانهم به أو عن القحط و
الجوع أو الأعم.
" و كذلك الصبر يعقب خيرا"
(1) يعقب على بناء الأفعال قال الراغب: أعقبه
كذا أورثه ذلك قال تعالى:" فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ" و
فلان لم يعقب أي لم يترك ولدا، انتهى.
أي كما أن صبر يوسف عليه السلام أعقب
خيرا عظيما له كذلك صبر كل أحد يعقب خيرا له، و من ثم قيل: اصبر تظفر، و قيل:
إني رأيت للأيام تجربة للصبر عاقبة محمودة الأثر
و قل من جد في أمر يطالبه فاستصحب الصبر إلا فاز بالظفر
(الحديث السابع)
(2): مجهول.
و مضمونه متفق عليه بين الخاصة و
العامة، فقد روى مسلم عن أنس قال: قال رسول الله عليه السلام: حفت الجنة بالمكاره،
و حفت النار بالشهوات، و هذا من بديع كلامه، و قال الراوندي في ضوء الشهاب يقال:
حف
(3) القوم حول زيد إذا أطافوا به، و استداروا و
حففته بشيء أي أدرته عليه، يقال: حففت الهودج بالثياب، و يقال: إنه مشتق من حفا
في الشيء أي جانبيه، يقول صلى الله عليه و آله و سلم: المكاره مطيفة محدقة بالجنة
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
133
و هي الطاعات، و الشهوات محدقة
مستديرة بالنار و هي المعاصي و هذا مثل يعني أنك لا يمكنك نيل الجنة إلا باحتمال
مشاق و مكاره و هي فعل الطاعات و الامتناع عن المقبحات و لا التفصي عن النار إلا
بترك الشهوات و هي المعاصي التي تتعلق الشهوة بها فكان الجنة محفوفة بمكاره تحتاج
أن تقطعها بتكلفها و النار محفوفة بملاذ و شهوات تحتاج أن تتركها.
و روي أن الله تعالى لما خلق الجنة
قال لجبرئيل عليه السلام: انظر إليها فلما نظر إليها قال: يا رب لا يتركها أحد إلا
دخلها فلما حفها بالمكاره قال: انظر إليها فلما نظر إليها قال: يا رب أخشى أن لا
يدخلها أحد و لما خلق النار قال له: انظر إليها فلما نظر إليها قال: يا رب لا
يدخلها أحد فلما حفها بالشهوات قال: انظر إليها فلما نظر إليها قال يا رب أخشى أن
يدخلها كل أحد.
و فائدة الحديث إعلام أن الأعمال
المفضية إلى الجنة مكروهة قرنا الله بها الكراهة و بالعكس منها الأعمال الموصلة
إلى النار قرن بها الشهوة ليجاهد الإنسان نفسه فيحتمل تلك و يجتنب هذه.
(الحديث الثامن)
(1): كالسابق.
و البر
(2) يطلق على مطلق أعمال الخير و على مطلق
الإحسان إلى الغير و على الإحسان إلى الوالدين أو إليهما و إلى ذوي الأرحام، و المراد
هنا أحد المعاني سوى المعنى الأول، قال الراغب: البر خلاف البحر و تصور منه التوسع
فاشتق منه البر أي التوسع في فعل الخير و ينسب ذلك إلى الله تارة نحو"
إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ" و
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 134
إلى العبد تارة فيقال بر العبد ربه
أي توسع في طاعته فمن الله تعالى الثواب و من العبد الطاعة، و بر الوالدين التوسع
في الإحسان إليهما و ضده العقوق
" مطل"
(1) بالطاء المهملة من قولهم اطل عليهم أي أشرف،
و في بعض النسخ بالمعجمة و هو قريب المعنى من الأول لكن التعدية بعلى بالأول أنسب
" دونكم"
(2) اسم فعل بمعنى خذوا، و يدل ظاهرا على تجسم
الأعمال و الأخلاق في الآخرة و من أنكره يأوله و أمثاله بأن الله تعالى يخلق صورا
مناسبة للأعمال يريه إياها لتفريحه أو تحزينه، أو الكلام مبني على الاستعارة
التمثيلية و تنحي الصبر و تمكنه في إعانته يناسب ذاته فتفطن.
(الحديث التاسع)
(3): كالسابق أيضا.
" أصبت"
(4) على بناء المجهول
" بأبي و أخي"
(5) أي ماتا
" و أخشى أن أكون قد وجلت"
(6) الوجل: استشعار الخوف و كان المعنى أخشى أن
يكون حزني بلغ حدا مذموما شرعا فعبر عنه بالوجل أو أخشى أن تنشق مرارتي من شدة
الألم أو أخشى الوجل الذي يوجب الجنون
" عليك"
(7) اسم فعل بمعنى الزم و الباء للتقوية
" بتقوى الله"
(8) أي في الشكاية و الجزع و غيرهما مما يوجب
نقص الإيمان، و كأنه إشارة إلى قوله تعالى:" وَ إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا
فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ".
" تقدم"
(9) على بناء المعلوم من باب علم بالجزم جزاء
للأمر في" عليك" أو
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
135
بالرفع استئنافا بيانيا و ضمير
" عليه"
(1) راجع إلى الصبر بتقدير مضاف أي جزاءه، أو
إلى الله أي ثوابه، و قيل: إلى كل من الأب و الأخ، فإن فوته جزءا خير للعلة أو إلى
الأب لأنه الأصل و الكل بعيد.
" غدا"
(2) أي في القيامة أو عند الموت أو سريعا.
(الحديث العاشر)
(3): موثق.
و الاغتباط
(4) مطاوع غبطه، تقول: غبطه أغبطه غبطا و غبطه
فاغتبط هو كمنعته فامتنع، و الغبطة إن تتمنى حال المغبوط لكونها في غاية الحسن من
غير أن تريد زوالها عنه، و هذا هو الفرق بينها و بين الحسد، و في القاموس: الغبطة
بالكسر حسن الحال و المسرة و قد اغتبط، و قال: الاغتباط: التبهج بالحال الحسنة،
انتهى.
و الاغتباط أما في الآخرة بجزيل
الأجر و حسن الجزاء، و في الدنيا أيضا بتبديل الضراء بالسراء، فإن الصبر مفتاح
الفرج، و قد قال أمير المؤمنين عليه السلام: أضيق ما يكون الحرج أقرب ما يكون
الفرج، مع أن الكاره تزداد مصيبته فإن فوات الأجر مصيبة أخرى، و الكراهة الموجبة
لحزن القلب مصيبة عظيمة، و من ثم قيل: المصيبة للصابر واحدة و للجازع اثنتان، بل
له أربع مصيبات الثلاثة المذكورة و شماتة الأعداء، و من ثم قيل: الصبر عند المصيبة
مصيبة على الشامت.
(الحديث الحادي عشر)
(5): ضعيف.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 136
" صبر"
(1) خبر مبتدإ محذوف أي أحدهما صبر، و حسن أيضا
خبر مبتدإ محذوف، أي هو حسن، و يحتمل أن يكون صبر مبتدأ و حسن خبره، فتكون الجملة
استئنافا بيانيا، و
قوله: ذكر الله
(2) خبر مبتدإ محذوف ليس إلا
" فيكون"
(3) أي الذكر و الفاء بيانية
" حاجزا"
(4) أي مانعا عن فعل الحرام.
(الحديث الثاني عشر)
(5): صحيح.
" لا ينال الملك فيه"
(6) أي السلطنة
" إلا بالقتل"
(7) لعدم إطاعتهم أما الحق فيتسلط عليهم الملوك
الجورة فيقتلونهم و يتجبرون عليهم، و ذلك من فساد الزمان و إلا لم يتسلط عليهم
هؤلاء
" و لا الغناء إلا بالغصب و
البخل"
(8) و ذلك من فساد الزمان و أهله لأنهم لسوء
عقائدهم يظنون أن الغناء إنما يحصل بغصب أموال الناس و البخل في حقوق الله و
الخلق، مع أنه لا يتوقف على ذلك، بل الأمانة و أداء الحقوق ادعى إلى الغناء لأنه
بيد الله، و لأنه لفسق أهل الزمان منع الله عنهم البركات، فلا يحصل الغناء إلا
بهما
" و لا المحبة"
(9) أي جلب محبة الناس
" إلا باستخراج الدين"
(10) أي طلب خروج الدين من القلب أي بطلب خروجهم
من الدين،
" و اتباع الهوى"
(11) أي الأهواء النفسانية أو أهوائهم الباطلة،
و ذلك لأن أهل تلك الأزمنة لفسادهم لا
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
137
يحبون أهل الدين و العبادة، فمن طلب
مودتهم لا بد من خروجه من الدين و متابعتهم في الفسوق.
" و صبر على البغضة"
(1) أي بغضة الناس له لعدم اتباعه أهواءهم، و
صبر على الذل كأنه ناظر إلى نيل الملك، فالنشر ليس على ترتيب اللف فالمراد بالعز
هنا الملك و الاستيلاء، أو المراد بالملك هناك مطلق العز و الرفعة، و يحتمل أن
تكون الفقرتان الأخيرتان ناظرتين إلى الفقرة الأخيرة و لم يتعرض للأولى لكون الملك
عزيز المنال لا يتيسر لكل أحد، و الأول أظهر.
و في جامع الأخبار الرواية هكذا: و
قال أمير المؤمنين عليه السلام: أنه سيكون زمان لا يستقيم لهم الملك إلا بالقتل و
الجور، و لا يستقيم لهم الغناء إلا بالبخل و لا يستقيم لهم الصحبة في الناس إلا
باتباع أهوائهم و الاستخراج من الدين، فمن أدرك ذلك الزمان فصبر على الفقر و هو يقدر
على الغناء، و صبر على الذل و هو يقدر على العز و صبر على بغضة الناس و هو يقدر
على المحبة أعطاه الله ثواب خمسين صديقا.
(الحديث الثالث عشر)
(2): ضعيف.
" اصبر على الحق"
(3) أي على فعل الحق، من ارتكاب الطاعات و ترك
المنهيات
" و إن كان مرا"
(4) ثقيلا على الطبع لكونه مخالفا للمشتهيات
النفسانية غالبا أو على
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
138
قول الحق و إن كان مرا على الناس،
فالصبر على ما يترتب على هذا القول من بغض الناس و أذيتهم، أو على سماع الحق الذي
إليك و إن كان مرا عليك مكروها لك.
كمن واجهك بعيب من عيوبك فتصدقه
فتقبله أو اطلعك على خطإ في الاجتهاد أو الرأي فتقبله و يمكن التعميم ليشمل
الجميع.
(الحديث الرابع عشر)
(1): مرفوع، و ضمير عنه راجع إلى أحمد فتنسحب
عليه العدة
(الحديث الخامس عشر)
(2): ضعيف.
" حتى يردها"
(3) أي المصيبة و شدتها
" بحسن عزائها"
(4) أي بحسن الصبر اللائق لتلك المصيبة
" ثلاثمائة درجة"
(5) أي من درجات الجنة أو درجات الكمال فالتشبيه
من تشبيه المعقول بالمحسوس، و في الصحاح: التخم منتهى كل قرية أو أرض، و الجمع
تخوم كفلس و فلوس، انتهى.
و يدل على أن ارتفاع الجنة أكثر من
تخوم الأرض إلى العرش، و لا ينافي ذلك كون عرضها كعرض السماء و الأرض، مع أنه قد
قيل في الآية وجوه مع بعضها رفع التنافي أظهر.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
139
(الحديث السادس عشر)
(1): موثق كالصحيح.
و الظاهر أنه المفضل بن عمر و يدل
على مدح عظيم له، و أنه كان من خواص أصحابه و أحبائه، و إسماعيل ولده الأكبر الذي
كان يظن الناس أنه الإمام بعده عليه السلام، فلما مات في حياته علم أنه لم يكن
إماما، و هذا هو المراد
بقوله عليه السلام:
أردنا أمرا،
(2) أي إمامته بظاهر الحال أو بشهوة الطبع، أو
المراد إرادة الشيعة كالمفضل و أضرابه، و أدخل عليه السلام نفسه تغليبا و مماشاة،
و يدل على لزوم الرضا بقضاء الله و التسليم له، و قيل: المعنى أردنا طول عمر
إسماعيل و أراد الله موته، و أغرب من ذلك أنه قال: عزى المفضل بابن له مات في ذلك
الوقت بذكر فوت إسماعيل.
(الحديث السابع عشر)
(3): حسن كالصحيح.
قوله عليه السلام: مثل أجر ألف شهيد
(4)، فإن قيل: كيف يستقيم هذا مع أن الشهيد أيضا
من الصابرين حيث صبر حتى استشهد؟ قلت: يحتمل أن يكون المراد بهم شهداء سائر الأمم
أو المعنى مثل ما يستحق ألف شهيد و إن كان ثوابهم التفضلي أضعاف ذلك، و قيل:
المراد بهم الشهداء الذين لم تكن لهم نية خالصة فلم يستحقوا ثوابا عظيما و الأوسط
كأنه أظهر.
(الحديث الثامن عشر)
(5): ضعيف على المشهور.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
140
و الوبال
(1) الشدة و الثقل و العذاب، أي صارت النعمة مع
عدم الشكر نكالا و عذابا عليهم في الدنيا و الآخرة، و صار البلاء على الصابر نعمة
في الدنيا و الآخرة.
(الحديث التاسع عشر)
(2): مجهول و آخره مرسل.
و كأنه تتمة الخبر الثاني المتقدم في
باب أداء الفرائض و قد مر تفسير الآية و لا تنافي بينها فإن للآيات معاني شتى ظهرا
و بطنا.
(الحديث العشرون)
(3): ضعيف.
و التفطر
(4) التشقق من الفطر و هو الشق، و
الصفا
(5) جمع الصفاة و هي الحجر الصلد الضخم لا تنبت،
و فيه إيماء إلى أن الصبر من لوازم الإيمان و من لم يصبر عند البلاء لا يستحق اسم
الإيمان كما مر أنه من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد و يشعر بكثرة ورود البلاء
على المؤمن.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
141
(الحديث الحادي و العشرون)
(1): صحيح.
" بين عبادي قرضا"
(2) القرض القطع و ما سلفت من إساءة أو إحسان، و
ما تعطيه لتقضاه، و المعنى أعطيتهم مقسوما بينهم ليقرضوني فأعوضهم أضعافها لا
ليمسكوا عليها، و قيل: أي جعلتها قطعة قطعة و أعطيت كلا منهم نصيبا
" فمن أقرضني منها قرضا"
(3) أي نوعا من القرض كصلة الإمام و الصدقة و
الهدية إلى الإخوان و نحوها
" و ما شئت من ذلك"
(4) أي من عدد العطية أو الزيادة زائدا على
السبعمائة كما قال تعالى:" وَ اللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ" و قيل:
إشارة إلى كيفية الثواب المذكور و التفاوت باعتبار تفاوت مراتب الإخلاص و طيب
المال، و استحقاق الأخذ و صلاحه و قرابته و أشباه ذلك، و القسر: القهر
" لرضوا بها مني"
(5) أي رضا كاملا.
" الَّذِينَ"
(6) صدر الآية:" وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ
بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَ الْجُوعِ وَ نَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَ الْأَنْفُسِ
وَ الثَّمَراتِ وَ بَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ
إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ"
(7) قال الطبرسي قدس الله روحه: أي نالتهم نكبة
في النفس أو المال فوطنوا أنفسهم على ذلك احتسابا للأجر، و المصيبة المشقة الداخلة
على النفس لما يلحقها من المضرة و هو من الإصابة كأنها يصيبها بالنكبة
" قالُوا إِنَّا لِلَّهِ"
(8) إقرارا بالعبودية أي نحن عبيد الله و ملكه
" وَ إِنَّا إِلَيْهِ
راجِعُونَ"
(9) هذا إقرار بالبعث و النشور أي نحن إلى حكمه
نصير، و لهذا قال
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
142
أمير المؤمنين عليه السلام: إن قولنا
إنا لله، إقرار علي أنفسنا بالملك، و قولنا و إنا إليه راجعون، إقرار على أنفسنا
بالهلك، و إنما كانت هذه اللفظة تعزية عن المصيبة لما فيها من الدلالة على أن الله
تعالى يجبرها إن كانت عدلا، و ينصف من فاعلها إن كانت ظلما، و تقديره إنا لله
تسليما لأمره و رضا بتدبيره، و إنا إليه راجعون، ثقة بأنا نصير إلى عدله و انفراده
بالحكم في أموره.
" صَلَواتٌ مِنْ
رَبِّهِمْ"
(1) أي ثناء جميل من ربهم و تزكية و هو بمعنى
الدعاء لأن الثناء يستحق دائما، ففيه معنى اللزوم كما أن الدعاء يدعى به مرة بعد
مرة، ففيه معنى اللزوم، و قيل: بركات من ربهم عن ابن عباس، و قيل: مغفرة من ربهم و
رحمة أي نعمة عاجلا و آجلا، فالرحمة النعمة على المحتاج، و كل أحد يحتاج إلى نعمة
الله في دنياه و عقباه.
" وَ أُولئِكَ هُمُ
الْمُهْتَدُونَ"
(2) أي المصيبون طريق الحق في الاسترجاع و قيل:
إلى الجنة و الثواب، انتهى.
قوله: هذا لمن أخذ الله منه شيئا
قسرا،
(3) أي فكيف من أنفق بطيب نفسه.
(الحديث الثاني و العشرون)
(4): ضعيف.
و قد مضى معنى
المروة
(5) و هي الصفات التي بها تكمل إنسانية الإنسان،
و
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
143
الفاقة
(1) الفقر و الحاجة، و
التعفف
(2) ترك السؤال عن الناس و هو عطف على الصبر و
الغناء
(3) بالغين المعجمة أيضا الاستغناء عن الناس و
إظهار الغناء لهم، و في بعض النسخ بالمهملة بمعنى التعب فعطفه على الحاجة حينئذ
أنسب، و تخلل التعطف في البين مما يبعده فالأظهر على تقديره عطفه على الصبر أيضا.
(الحديث الثالث و العشرون)
(4): كالسابق.
" شكوى إلى الناس"
(5) ظاهره عموم الناس و ربما يختص بغير المؤمن
لقول أمير المؤمنين عليه السلام: من شكا الحاجة إلى مؤمن فكأنما شكاها إلى الله، و
من شكاها إلى كافر فكأنما شكا الله.
(الحديث الرابع و العشرون)
(6): مرسل.
" من لا يعد الصبر"
(7) أي لم يجعل الصبر ملكة راسخة في نفسه يدفع
صولة نزول النوائب و المصائب به يعجز طبعه و نفسه عن مقاومتها و تحملها فيهلك
بالهلاك الصوري و المعنوي أيضا بالجزع و تفويت الأجر، و ربما انتهى به إلى الفسق
بل الكفر.
(الحديث الخامس و العشرون)
(8): ضعيف.
و الصبر
(9) بضم الصاد و تشديد الباء المفتوحة جمع
الصابر
" أصبر منا"
(10) أي الصبر
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
144
عليهم أشق و أشد
" لأنا نصبر على ما نعلم".
(1) أقول: يحتمل وجوها:" الأول" و هو
الأظهر أن المعنى إنا نصبر على ما نعلم نزوله قبل وقوعه، و هذا مما يهين المصيبة و
يسهلها و شيعتنا تنزل عليهم المصائب فجأة مع عدم علمهم بها قبل وقوعها، فهي عليهم
أشد، و يؤيده ما مر أن قوله تعالى:
" ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي
الْأَرْضِ وَ لا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها
إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ، لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَ لا
تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ" نزل فيهم عليهم السلام فتدبر.
الثاني: أن المعنى إنا نصبر على ما
نعلم كنه ثوابه، و الحكمة في وقوعه، و رفعة الدرجات بسببه و شيعتنا ليس علمهم
بجميع ذلك كعلمنا و هذه كلها مما يسكن النفس عند المصيبة و يعزيها.
الثالث: أنا نصبر على ما نعلم عواقبه
و كيفية زواله و تبدل الأحوال بعده كعلم يوسف عليه السلام في الجب بعاقبة أمره و
احتياج الأخوة إليه، و كذا علم الأئمة عليهم السلام برجوع الدولة إليهم و الانتقام
من أعدائهم و ابتلاء أعدائهم بأنواع العقوبات في الدنيا و الآخرة، و هذا قريب من
الوجه الثاني.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
145
باب الشكر
(1)
(الحديث الأول)
(2): ضعيف على المشهور.
و قال الراغب:
الشكر
(3) تصور النعمة و إظهارها، قيل: و هو مقلوب عن
الكشر أي الكشف و يضاده الكفر و هو نسيان النعمة و سترها، و دابة شكور مظهر لسمنه
إسداء صاحبه إليه، و قيل: أصله من عين شكري أي ممتلئة، فالشكر علي هذا هو الامتلاء
من ذكر المنعم عليه و الشكر ثلاثة أضرب شكر القلب و هو تصور النعمة، و شكر باللسان
و هو الثناء على المنعم، و شكر بسائر الجوارح و هو مكافأة النعمة بقدر استحقاقها،
انتهى.
و قال المحقق الطوسي قدس سره: الشكر
أشرف الأعمال و أفضلها، و اعلم أن الشكر مقابلة النعمة بالقول و الفعل و النية، و
له أركان ثلاثة: الأول: معرفة المنعم و صفاته اللائقة به و معرفة النعمة من حيث
إنها نعمة، و لا تتم تلك المعرفة إلا بأن يعرف أن النعم كلها جليها و خفيها من
الله سبحانه، و أنه المنعم الحقيقي، و أن الأوساط كلها منقادون لحكمه مسخرون
لأمره، الثاني: الحال التي هي ثمرة تلك المعرفة، و هي الخضوع و التواضع و السرور
بالنعم من حيث إنها هدية دالة على عناية المنعم بك، و علامة ذلك أن لا تفرح من
الدنيا إلا بما يوجب القرب منه، الثالث: العمل الذي هو ثمرة تلك الحال فإن تلك
الحال إذا حصلت في القلب حصل فيه نشاط للعمل الموجب للقرب منه.
و هذا العمل يتعلق بالقلب و اللسان و
الجوارح، أما عمل القلب فالقصد إلى
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
146
تعظيمه و تحميده و تمجيده، و التفكر
في صنائعه و أفعاله و آثار لطفه، و العزم على إيصال الخير و الإحسان إلى كافة
خلقه، و أما عمل اللسان فإظهار ذلك المقصود بالتحميد و التمجيد و التسبيح و
التهليل، و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر إلى غير ذلك، و أما عمل الجوارح
فاستعمال نعمه الظاهرة و الباطنة في طاعته و عبادته، و التوقي من الاستعانة بها في
معصيته و مخالفته، كاستعمال العين في مطالعة مصنوعاته و تلاوة كتابه و تذكر العلوم
المأثورة من الأنبياء و الأوصياء عليهم السلام، و كذا سائر الجوارح.
فظهر أن الشكر من أمهات صفات الكمال
و تحقق الكامل منه نادر كما قال سبحانه:" وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ
الشَّكُورُ" و لما كان الشكر بالجوارح التي هي من نعمه تعالى و لا يتأتى إلا
بتوفيقه سبحانه فالشكر أيضا نعمة من نعمه و يوجب شكرا آخر، فينتهي إلى الاعتراف
بالعجز عن الشكر، فآخر مراتب الشكر الاعتراف بالعجز عنه، كما أن آخر مراتب المعرفة
و الثناء الاعتراف بالعجز عنهما، و كذا العبادة كما قال سيد العابدين و العارفين و
الشاكرين صلى الله عليه و آله و سلم: لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، و
قال صلى الله عليه و آله و سلم: ما عبدناك حق عبادتك و ما عرفناك حق معرفتك.
قوله عليه السلام: الطاعم الشاكر
(1)، الطاعم يطلق على الآكل و الشارب، كما قال
تعالى:" وَ مَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ" و يقال: فلان احتسب عمله و بعمله إذا
نوى به وجه الله، و
المعطي
(2) اسم مفعول، و المحروم من حرم العطاء من الله
أو من الخلق و القانع الراضي بما أعطاه الله.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
147
(الحديث الثاني)
(1): مثل الأول.
" فخزن"
(2) أي أحرز و منع، و مثله في نهج البلاغة: ما
كان الله ليفتح على عبد باب الشكر و يغلق عليه باب الزيادة و هما إشارتان إلى قوله
تعالى:" لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ".
(الحديث الثالث)
(3): مجهول.
" من أنعم عليك"
(4) يشمل المنعم الحقيقي و غيره
" زيادة في النعم"
(5) أي سبب لزيادتها
" و أمان من الغير"
(6) أي من تغير النعمة بالنقمة و الغير بكسر
الغين و فتح الباء اسم للتغير و يظهر من القاموس أنه بفتح الغين و سكون الياء، قال
في النهاية في حديث الاستسقاء:
من يكفر بالله يلق الغير، أي تغير
الحال و انتقالها من الصلاح إلى الفساد، و الغير الاسم من قولك غيرت الشيء فتغير،
و في بعض النسخ بالباء الموحدة و هو محركة داهية لا يهتدي لمثلها، و الظاهر أنه
تصحيف.
(الحديث الرابع)
(7): ضعيف.
و قد مر مضمونه.
مرآة العقول في
شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 148
(الحديث الخامس)
(1): موثق.
" وَ أَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ
فَحَدِّثْ"
(2) قال في مجمع البيان: معناه: اذكر نعم الله
تعالى و أظهرها و حدث بها، و في الحديث التحدث بنعمة الله شكر و تركه كفر، و قال
الكلبي: يريد بالنعمة القرآن و كان أعظم ما أنعم الله عليه به، فأمره أن يقرأه و
قال مجاهد و الزجاج: يريد بالنبوة التي أعطاك ربك أي بلغ ما أرسلت به و حدث
بالنبوة التي أتاكها الله، و هي أجل النعم و قيل: معناه اشكر بما ذكر من النعمة
عليك في هذه السورة، و قال الصادق عليه السلام: معناه فحدث بما أعطاك الله و فضلك
و رزقك و أحسن إليك و هداك، انتهى.
قوله: بما فضلك
(3)، بيان للنعمة أي بتفضيلك على سائر الخلق، أو
بما فضلك به من النبوة الخاصة و أعطاك من العلم و المعرفة و المحبة و سائر
الكمالات النفسانية و الشفاعة و اللواء و الحوض و سائر النعم الأخروية
" و أحسن إليك"
(4) من النعم الدنيوية أو الأعم.
" ثم قال"
(5): أي الإمام عليه السلام،
فحدث
(6) بصيغة الماضي أي النبي صلى الله عليه و آله
و سلم عملا بما أمر به
" بدينه"
(7) أي العقائد الإيمانية و العبادات القلبية و
البدنية
" و ما أعطاه"
(8) من النبوة و الفضل و الكرامة في الدنيا و
الآخرة
" و ما أنعم به عليه"
(9) من النعم الدنيوية و الأخروية و الجسمانية و
الروحانية.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
149
(الحديث السادس)
(1): كالسابق.
" و قد غفر الله لك"
(2) إشارة إلى قوله تعالى:" إِنَّا
فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ
ذَنْبِكَ وَ ما تَأَخَّرَ" و للشيعة في تأويله أقوال: أحدها: أن المراد ليغفر
لك الله ما تقدم من ذنب أمتك و ما تأخر بشفاعتك و إضافة ذنوب أمته إليه للاتصال و
السبب بينه و بين أمته، و يؤيده ما رواه المفضل بن عمر عن الصادق عليه السلام قال:
سأله رجل عن هذه الآية فقال: و الله
ما كان له ذنب و لكن الله سبحانه ضمن له أن يغفر ذنوب شيعة على ما تقدم من ذنبهم و
ما تأخر، و روى عمر بن يزيد عنه عليه السلام قال: ما كان له ذنب و لا هم بذنب و
لكن الله حمله ذنوب شيعته ثم غفرها له.
و الثاني: ما ذكره السيد المرتضى رضي
الله عنه أن الذنب مصدر و المصدر يجوز إضافته إلى الفاعل و المفعول معا فيكون هنا
مضافا إلى المفعول و المراد ما تقدم من ذنبهم إليك في منعهم إياك عن مكة و صدهم لك
عن المسجد الحرام و يكون معنى المغفرة على هذا التأويل الإزالة و النسخ لأحكام
أعدائه من المشركين عليه أي يزيل الله ذلك عنده و يستر عليك تلك الوصمة بما يفتح
الله لك من مكة فستدخلها فيما بعد، و لذلك جعله جزاء على جهاده و غرضا في الفتح و
وجها له، قال: و لو أنه أراد مغفرة ذنوبه لم يكن لقوله:" إِنَّا فَتَحْنا
لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ" معنى معقول لأن المغفرة
للذنوب لا تعلق لها بالفتح فلا يكون غرضا فيه، و أما
قوله:" ما تقدم و ما تأخر"
(3) فلا يمتنع أن يريد به ما تقدم زمانه من
فعلهم القبيح بك و بقومك.
الثالث: أن معناه لو كان لك ذنب قديم
أو حديث لغفرناه لك.
الرابع: أن المراد بالذنب هناك ترك
المندوب، و حسن ذلك لأن من المعلوم
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
150
أنه عليه السلام ممن لا يخالف
الأوامر الواجبة فجاز أن يسمى ذنبا منه ما لو وقع من غيره لم يسم ذنبا لعلو قدره و
رفعة شأنه.
الخامس: أن القول خرج مخرج التعظيم و
حسن الخطاب كما قيل في قوله:
" عَفَا اللَّهُ عَنْكَ".
أقول: و قد روى الصدوق في العيون
بإسناده عن علي بن محمد بن الجهم قال:
حضرت مجلس المأمون و عنده الرضا عليه
السلام فقال له المأمون: يا بن رسول الله أ ليس من قولك أن الأنبياء معصومون؟ قال:
بلى، قال: فما معنى قول الله:" لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ
ذَنْبِكَ وَ ما تَأَخَّرَ"؟ قال الرضا عليه السلام: لم يكن أحد عند مشركي مكة
أعظم ذنبا من رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم لأنهم كانوا يعبدون من دون الله
ثلاثمائة و ستين صنما، فلما جاءهم صلى الله عليه و آله و سلم بالدعوة إلى كلمة
الإخلاص كبر ذلك عليهم و عظم و قالوا:
" أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً
واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ" إلى قوله:" إِنْ هذا إِلَّا
اخْتِلاقٌ" فلما فتح الله تعالى على نبيه صلى الله عليه و آله و سلم مكة قال
له: يا محمد إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما
تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ ما تَأَخَّرَ عند مشركي أهل مكة بدعائك إلى توحيد الله
فيما تقدم و ما تأخر لأن مشركي مكة أسلم بعضهم و خرج بعضهم عن مكة و من بقي منهم
لم يقدر على إنكار التوحيد عليه إذا دعا الناس إليه، فصار ذنبه عندهم في ذلك
مغفورا بظهوره عليهم، فقال المأمون: لله درك يا أبا الحسن.
و كان هذا الحديث بالوجه الرابع
أنسب، لتقريره صلى الله عليه و آله و سلم كلام عائشة و إن أمكن توجيهه على بعض
الوجوه الأخر.
و الحاصل أن عائشة توهمت أن ارتكاب
المشقة في الطاعات إنما يكون
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
151
لمحو السيئات فأجاب صلى الله عليه و
آله و سلم بأنه ليس منحصرا في ذلك بل يكون لشكر النعم الغير المتناهية و رفع
الدرجات الصورية و المعنوية بل الطاعات عند المحبين من أعظم اللذات كما عرفت.
" طه"
(1) قيل: معنى" طه" يا رجل عن ابن
عباس و جماعة، و قد دلت الأخبار الكثيرة أنه من أسماء النبي صلى الله عليه و آله و
سلم روى علي بن إبراهيم في تفسيره بإسناده عن أبي جعفر و أبي عبد الله عليهما
السلام قالا: كان رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم إذا صلى قام على أصابع
رجليه حتى تورم فأنزل الله تبارك و تعالى طه بلغة طي يا محمد ما أَنْزَلْنا.
الآية.
و روى الصدوق في معاني الأخبار بإسناده
عن سفيان الثوري عن الصادق عليه السلام في حديث طويل قال فيه: فأما طه فاسم من
أسماء النبي صلى الله عليه و آله و سلم و معناه: يا طالب الحق الهادي إليه،
ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى
(2) بل لتسعد، و روى الطبرسي في الاحتجاج عن
موسى بن جعفر عن آبائه عليهم السلام قال قال أمير المؤمنين عليه السلام: و لقد قام
رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم عشر سنين على أطراف أصابعه حتى تورمت قدماه و
أصفر وجهه يقوم الليل أجمع حتى عوتب في ذلك، فقال الله عز و جل طه ما أَنْزَلْنا
عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى بل لتسعد به" الخبر".
و قال النسفي من العامة: قال
القشيري: الطاء إشارة إلى طهارة قلبه عن غير الله، و الهاء إلى اهتداء قلبه إلى
الله، و قيل: الطاء طرب أهل الجنة و الهاء هوان أهل النار، و قال الطبرسي (ره):
روي عن الحسن أنه قرأ طه بفتح الطاء و سكون الهاء، فإن صح ذلك عنه فأصله طاه فأبدل
من الهمزة هاء و معناه طأ الأرض بقدميك جميعا فقد روي أن النبي صلى الله عليه و
آله و سلم كان يرفع إحدى رجليه في الصلاة ليزيد تعبه، فأنزل الله: طه ما أنزلنا
عليك القرآن لتشقى، فوضعها، و روي ذلك عن أبي عبد الله عليه السلام.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
152
و قال الحسن: هو جواب للمشركين حين
قالوا إنه شقي فقال سبحانه: يا رجل ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى
لكن لتسعد به تنال الكرامة به في الدنيا و الآخرة.
قال قتادة: و كان يصلي الليل كله و
يعلق صدره بحبل حتى لا يغلبه النوم فأمره الله سبحانه أن يخفف عن نفسه، و ذكر أنه
ما أنزل عليه الوحي ليتعب كل هذا التعب.
و قال البيضاوي: المعنى ما أنزلنا
عليك القرآن لتتعب بفرط تأسفك على كفر قريش، إذ ما عليك إلا أن تبلغ أو بكثرة
الرياضة و كثرة التهجد و القيام على ساق، و الشقاء شائع بمعنى التعب. و لعله عدل
إليه للإشعار بأنه أنزل عليه ليسعد، و قيل: رد و تكذيب للكفرة فإنهم لما رأوا كثرة
عبادته قالوا إنك لتشقى بترك ديننا و أن القرآن أنزل إليك لتشقى به، انتهى.
و أقول: القيام على رجل واحد و على
أطراف الأصابع و أمثالهما لعلها كانت ابتداء في شريعته صلى الله عليه و آله و سلم
ثم نسخت، بناء على ما هو الأظهر من أنه صلى الله عليه و آله و سلم كان عاملا
بشريعة نفسه أو في شريعة من كان يعمل بشريعته على الأقوال الأخر، و قد بسطنا القول
في ذلك في الكتاب الكبير.
(الحديث السابع)
(1): مجهول.
و مفاده معلوم لأن الدعاء يدفع الكرب
و الاستغفار يمحو الذنوب و الشكر يوجب عدم زوال النعمة، و يؤمن من كونها استدراجا
و وبالا في الآخرة.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
153
(الحديث الثامن)
(1): ضعيف على المشهور.
(الحديث التاسع)
(2): مرسل.
" فعرفها بقلبه"
(3) أي عرف قدر النعمة و عظمتها و أنها من الله
تعالى لأنه مسبب الأسباب و فيه إشعار بأن الشكر الموجب للمزيد هو القلبي مع
اللساني.
(الحديث العاشر)
(4): مجهول.
و يدل على أن اجتناب المحارم من أعظم
الشكر الأركاني، و أن الحمد لله رب العالمين فرد كامل من الشكر لأنه يستفاد منه
اختصاص جميع المحامد بالله سبحانه فيدل على أنه المولى بجميع النعم الظاهرة و
الباطنة، و أنه رب لجميع ما سواه و خالق و مرب لها، و أنه لا شريك له في الخالقية
و المعبودية و الرازقية، و
قوله:
تمام الشكر
(5)، المراد به الشكر التام الكامل أو هو متمم
لاجتناب المحارم و مكمل له.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
154
(الحديث الحادي عشر)
(1): حسن.
و يدل على أن الشكر يتحقق بالحمد
اللساني و لا ينافي كون كماله بانضمام شكر الجنان و الأركان.
(الحديث الثاني عشر)
(2): صحيح.
قوله: حق،
(3) أي واجب أو الأعم
" و منه"
(4) أي من الشكر أو من الحق الذي يجب أداؤه فيما
أنعم الله عليه أن يقول عند ركوب الفلك أو الدابة اللتين أنعم الله بهما عليه ما
قال سبحانه تعليما لعباده و إرشادا لهم حيث قال عز و جل:" وَ جَعَلَ لَكُمْ
مِنَ الْفُلْكِ وَ الْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ
تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَ تَقُولُوا
سُبْحانَ الَّذِي" إلى قوله:
" وَ ما كُنَّا لَهُ
مُقْرِنِينَ"
(5) أي مطيقين، من أقرنت الشيء إقرانا أطقته و
قويت عليه.
قال الطبرسي (ره) في تفسير هذه
الآية: ثم تذكروا نعمة ربكم فتشكروه على تلك النعمة التي هي تسخير ذلك المركب و
تقولوا معترفين بنعمة منزهين له عن شبه المخلوقين:
سبحان الذي سخر لنا هذا،
(6) أي ذلله لنا حتى ركبناه قال قتادة
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 155
قد علمكم كيف تقولون إذا ركبتم.
و روى العياشي بإسناده عن أبي عبد
الله عليه السلام قال: ذكر النعمة أن تقول:
الحمد لله الذي هدانا للإسلام و
علمنا القرآن و من علينا بمحمد صلى الله عليه و آله و سلم و تقول بعده:
" سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ
لَنا هذا" إلى قوله:" وَ إِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ" و
منه قوله تعالى:
رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ
إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ.
ليس هذا في بعض النسخ و على تقديره
المعنى أنه من موسى عليه السلام كان متضمنا للشكر على نعمة الفقر و غيره لاشتماله
على الاعتراف بالمنعم الحقيقي و التوسل إليه في جميع الأمور، و روي عن أمير
المؤمنين عليه السلام أنه قال: و الله ما سأله إلا خبزا يأكله لأنه كان يأكل بقلة
الأرض و لقد كانت خضرة البقل ترى من شفيف صفاق بطنه لهزاله و تشذب لحمه، و كذا علم
سبحانه نوحا عليه السلام الشكر حيث أمره أن يقول عند دخول سفينة أو عند الخروج
منها:" رَبِّ أَنْزِلْنِي" و صدر الآية هكذا:
" فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ
وَ مَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ
الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ
وَ قُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي
مُنْزَلًا"
(1) قرأ أبو بكر منزلا بفتح الميم و كسر الزاي
أي موضع النزول، قيل: هو السفينة بعد الركوب، و قيل: هو الأرض بعد النزول، و قرأ
الباقون منزلا بضم الميم و فتح الزاي أي إنزالا مباركا، فالبركة في السفينة النجاة
و في النزول بعد الخروج كثرة النسل من أولاده، و قيل: مباركا بالماء و الشجر.
" وَ أَنْتَ خَيْرُ
الْمُنْزِلِينَ"
(2) لأنه لا يقدر أحد على أن يصون غيره من
الآفات إذا أنزل منزلا و يكفيه جميع ما يحتاج إليه إلا أنت فظهر أن هذا شكر أمر
الله به و توسل إلى جنابه سبحانه، و كذا كل من قرأ هذه الآية عند نزول منزل أو دار
فقد شكر الله، و كذا ما علمه الله الرسول صلى الله عليه و آله و سلم أن يقول عند
دخول مكة أو في جميع
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
156
الأمور
" رَبِّ أَدْخِلْنِي"
(1) قيل: أي أدخلني في جميع ما أرسلتني به إدخال
صدق و أخرجني منه سالما إخراج صدق، أي أعني على الوحي و الرسالة، و قيل: معناه
أدخلني المدينة و أخرجني منها إلى مكة للفتح، و قيل: إنه أمر بهذا الدعاء إذا دخل
في أمر أو خرج من أمر، و قيل: أي أدخلني القبر عند الموت مدخل صدق و أخرجني منه
عند البعث مخرج صدق، و مدخل الصدق ما تحمد عاقبته في الدنيا و الدين
" وَ اجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ
سُلْطاناً نَصِيراً"
(2) أي عزا أمتنع به ممن يحاول صدي عن إقامة
فرائضك، و قوة تنصرني بها على من عاداني، و قيل: اجعل لي ملكا عزيزا أقهر به العصاة
فنصر بالرعب، و قد ورد قراءتها عند الدخول على سلطان، و التقريب في كونه شكرا ما
مر.
(الحديث الثالث عشر)
(3): صحيح.
" و كان الحمد"
(4) أي توفيق الحمد نعمة أخرى أفضل من النعمة
الأولى، و يستحق بذلك شكرا آخر فلا يمكن الخروج عن عهدة الشكر، فمنتهى الشكر الاعتراف
بالعجز، أو المعنى أن أصل الحمد أفضل له من تلك النعمة لأن ثمراته الدنيوية و
الأخروية له أعظم.
(الحديث الرابع عشر)
(5): كالسابق.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
157
(الحديث الخامس عشر)
(1): ضعيف.
" فعرفها بقلبه"
(2) أي عرف قدر تلك النعمة و أن الله هو المنعم
بها.
(الحديث السادس عشر)
(3): حسن أو موثق.
و يدل على استحباب تثليث الشرب، و
استحباب الافتتاح بالتسمية مرة و الاختتام بالتحميد ثلاثا و سيأتي في أبواب الشرب
في صحيحة ابن سنان تثليث التحميد من غير تسمية، و في رواية أخرى عن عمر بن يزيد
الافتتاح و الاختتام بالتسمية و التحميد في كل مرة و هو أفضل.
قوله عليه السلام: فيضعه،
(4) أي يريد وضعه أو يقرب وضعه على مجاز
المشارفة إذ لا تسمية بعد الوضع.
(الحديث السابع عشر)
(5): حسن كالصحيح.
و قال في القاموس:
استدرجه
(6) خدعه و أدناه كدرجة و استدراجه تعالى العبد
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
158
أنه كلما جدد خطيئة جدد له نعمة و
أنساه الاستغفار، أو أن يأخذه قليلا قليلا و لا يباغته.
(الحديث الثامن عشر)
(1): ضعيف على المشهور.
و يدل على أن قول الحمد لله، أفضل
أفراد الحمد اللساني، و كفى به فضلا افتتاحه سبحانه كتابه به، مع أنه على الوجه
الذي قاله عليه السلام مقرونا بغاية الإخلاص و المعرفة كان حق الشكر له تعالى.
(الحديث التاسع عشر)
(2): ضعيف.
" يغتم به"
(3) على بناء المعلوم و قد يقرأ على المجهول
" الحمد لله على كل حال"
(4) أي هو المستحق للحمد على النعمة و البلاء،
لأن كل ما يفعله الله بعبده ففيه لا محالة صلاحه.
قيل: في كل بلاء خمسة أنواع من
الشكر.
الأول: يمكن أن يكون دافعا أشد منه
كما أن موت دابته دافع لموت نفسه فينبغي الشكر على عدم ابتلائه بالأشد.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
159
الثاني: أن البلاء أما كفارة للذنوب
أو سبب لرفع الدرجة فينبغي الشكر على كل منهما.
الثالث: أن البلاء مصيبة دنيوية
فينبغي الشكر على أنه ليس مصيبة دينية، و قد نقل أن عيسى عليه السلام مر على رجل
أعمى مجذوم مبروص مفلوج فسمع منه يشكر و يقول الحمد لله الذي عافاني من بلاء ابتلى
به أكثر الخلق فقال عليه السلام: ما بقي من بلاء لم يصبك؟ قال: عافاني من بلاء هو
أعظم البلايا و هو الكفر فمسه عليه السلام فشفاه الله من تلك الأمراض و حسن وجهه،
فصاحبه و هو يعبد معه.
الرابع: أن البلاء كان مكتوبا في
اللوح المحفوظ و كان في طريقه لا محالة فينبغي الشكر على أنه مضي و وقع خلف ظهره.
الخامس: أن بلاء الدنيا سبب لثواب
الآخرة و زوال حب الدنيا من القلب فينبغي الشكر عليها.
(الحديث العشرون)
(1): حسن كالصحيح.
" إلى المبتلي"
(2) قد يقال يعم المبتلي بالمعصية أيضا إلا أن
عدم الإسماع لا يناسبه من غير أن تسمعه لئلا ينكسر قلبه و يكون موهما للشماتة.
(الحديث الحادي و العشرون)
(3): مرسل.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
160
(الحديث الثاني و العشرون:)
(1) مجهول.
" لا أسخر"
(2) أي لا أستهزئ، يقال: سخر منه و به كفرح هزأ
و المعنى لا أسخر من هذا المبتلي بابتلائه بذلك و لا أفخر عليه ببراءتي منه.
(الحديث الثالث و العشرون)
(3): مجهول.
(الحديث الرابع و العشرون)
(4): موثق.
و يدل على استحباب سجدة الشكر عند
تجدد كل نعمة و البشارة بها، و لا خلاف فيه بين أصحابنا و إن أنكره المخالفون
خلافا للشيعة مع ورودها في رواياتهم كثيرا و سيأتي في كتاب الصلاة إنشاء الله.
(الحديث الخامس و العشرون)
(5): مجهول.
و يدل على استحباب وضع الخد في سجدة
الشكر و على استحبابها عند تذكر
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
161
النعم أيضا، و لو كان بعد حدوثها
بمدة و على استحباب حمد الله فيها.
(الحديث السادس و العشرون)
(1): حسن كالصحيح.
و يدل على فورية سجدة الشكر و على
أنهم عليهم السلام يذهلون عن بعض الأمور في بعض الأحيان و كان هذا ليس من السهو
المتنازع فيه.
(الحديث السابع و العشرون)
(2): مجهول.
تقول أديت حق فلان إذا قابلت إحسانه
بإحسان مثله، و المراد هنا طلب أداء شكر نعمته على وجه التفصيل و هو لا يمكن من
وجوه:
الأول: أن نعمه غير متناهية لا يمكن
إحصاؤها تفصيلا فلا يمكن مقابلتها بالشكر.
الثاني: أن كل ما نتعاطاه مستند إلى
جوارحنا و قدرتنا من الأفعال فهي في الحقيقة نعمة و موهبة من الله تعالى، و كذلك
الطاعات و غيرها نعمة منه، فتقابل نعمته
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
162
بنعمته.
الثالث: أن الشكر أيضا نعمة منه حصل
بتوفيقه فمقابلة كل نعمة بالشكر يوجب التسلسل و العجز، و قول موسى عليه السلام
يحتمل كلا من الوجهين الأخيرين، و قد روي هذا عن داود عليه السلام أيضا حيث قال:
يا رب كيف أشكرك و أنا لا أستطيع أن أشكرك إلا بنعمة ثانية من نعمك، فأوحى الله
تعالى إليه: إذا عرفت هذا فقد شكرتني.
(الحديث الثامن و العشرون)
(1): حسن كالصحيح.
" ما أصبحت بي"
(2) الإصباح الدخول في الصباح، و قد يراد به
الدخول في الأوقات مطلقا، و على الأول ذكره على المثال، فيقول في المساء ما أمست و
ما موصولة مبتدأ، و الظرف مستقر و الباء للملابسة أي متلبسا بي فهو حال عن
الموصول، و" من نعمة" بيان له و لذا أنث الضمير العائد إلى الموصول في
أصبحت رعاية للمعنى، و في بعض الروايات أصبح رعاية للفظ، و
قوله: فمنك
(3)، خبر الموصول و الفاء لتضمن المبتدأ معنى
الشرط و ربما يقرأ منك بفتح الميم و تشديد النون و هو تصحيف.
" حتى ترضى"
(4) المراد به أول مراتب الرضا،
" و بعد الرضا"
(5) أي سائر مراتبه فإن كان المراد بقوله لك
الحمد و لك الشكر إنك تستحقهما يكون أول مراتب الرضا دون الاستحقاق، فإن الله
سبحانه يرضى بقليل مما يستحقه من الحمد و الشكر و الطاعة، و إن كان
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
163
المراد لك مني الحمد و الشكر أي
أحمدك و أشكرك فلا يحتاج إلى ذلك
" كنت قد أديت"
(1) أي يرضي الله منك بذلك لا أنك أديت ما
يستحقه.
(الحديث التاسع و العشرون)
(2): كالسابق.
" يقول ذلك"
(3) أي الدعاء المذكور في الحديث السابق و سيأتي
في كتاب الدعاء أن نوحا عليه السلام كان يقول ذلك عند الصباح و عند المساء، و
الأخبار في ذلك كثيرة بأدنى اختلاف أوردتها في الكتاب الكبير.
و قوله صلى الله عليه و آله و سلم:
من صدق الله نجا
(4)، معناه أنه إذا أظهر العبد حالة عند الله و
كان صادقا في ذلك بحيث لا يعتقد و لا يعمل ما يخالفه يصير سبب نجاته من مهالك
الدنيا و الآخرة، و لعل ذكره في هذا المقام لبيان أن نوحا عليه السلام كان صادقا
فيما ادعى في هذا الدعاء من أن جميع النعم الواصلة إلى العبد من الله تعالى و أنه
متوحد بالإنعام و الربوبية و استحقاق الحمد و الشكر و الطاعة، فكان موقنا بجميع
ذلك و لم يأت بما ينافيه من التوسل إلى المخلوقين و رعاية رضاهم دون رضا رب
العالمين، أو معه، فلذلك صار سببا لنجاته و تسمية الله له شكورا، و ربما يقرأ صدق
على بناء التفعيل كما قال بعض الأفاضل لعله عليه السلام أشار بآخر الحديث إلى
تسمية نوح عليه السلام بنحي الله، و يستفاد منه أن هذه الكلمات تصديق لله سبحانه
فيما وصف الله به نفسه، و شهد به من التوحيد.
و قال آخر: تصديقه في تكاليفه عبارة
عن الإقرار بها و الإتيان بمقتضاها و في
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
164
نعمائه عبارة عن معونتها بالقلب و
مقابلتها بالشكر و الثناء، انتهى.
و لا يخفى أن ما ذكرنا أظهر.
(الحديث الثلاثون)
(1): ضعيف.
" كل قلب حزين"
(2) أي لأمور الآخرة متفكر فيها و فيما ينجي من
عقوباتها غير غافل عما يراد بالمرء و منه لا محزون بأمور الدنيا و إن احتمل أن
يكون المعنى إذا أحب الله عبدا ابتلاه بالبلايا فيصير محزونا، لكنه بعيد.
" كل عبد شكور"
(3) أي كثير الشكر بحيث يشكر الله و يشكر وسائط
نعم الله كالنبي صلى الله عليه و آله و سلم الأئمة عليهم السلام و الوالدين و
أرباب الإحسان من المخلوقين، و في الأخبار ظاهرا تناف في هذا المطلب لورود هذا
الخبر و أمثاله و قد روي عن أمير المؤمنين صلوات الله عليه: و لا يحمد حامد إلا
ربه، و مثله كثير، و يمكن الجمع بينها بأنه إذا حمد المخلوق و شكره لأن مولى النعم
أمر بشكره فقد شكر ربه و يحتمل أن يكون هذا هو المراد بقوله: لم تشكرني إذ لم
تشكره، أو تكون أخبار الشكر محمولة على أن يشكرهم باعتقاد أنهم وسائط نعم الله و
لهم مدخلية قليلة في ذلك، و لا يسلب عليهم رأسا فينتهي إلى الجبر، و أخبار الترك
محمولة على أنه لا يجوز شكرهم بقصد أنهم مستقلون في إيصال النعمة فإن هذا في معنى
الشرك كما عرفت أن النعم كلها أصولها و وجود المنعم المجازي و آلات العطاء و توفيق
الإعطاء كلها من الله تعالى، و هذا أحد معاني الأمر بين الأمرين كما عرفت، و إليه
يرجع ما قيل: أن الغير يتحمل المشقة يحمل رزق الله إليك فالنهي عن الحمد لغير الله
على أصل الرزق لأن الرازق هو الله، و الترغيب و الحمد له على تكلف من حمل الرزق و
كلفة إيصاله بإذن الله ليعطيه
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 165
أجر مشقة الحمل و الإيصال.
و بالجملة هناك شكران شكر للرزق و هو
لله و شكر للحمل و هو الغير و أيد بما روي لا تحمدن أحدا على رزق الله، و قيل:
النهي مختص بالخواص من أهل اليقين الذين شاهدوه رازقا و شغلوا عن رؤية الوسائط
فنهاهم عن الإقبال عليها لأنه تعالى يتولى جزاء الوسائط عنهم بنفسه و الأمر بالشكر
مختص بغيرهم ممن لاحظ الأسباب و الوسائط كأكثر الناس لأن فيه قضاء حق السبب أيضا.
و الوجه الثاني الذي ذكرنا كأنه أظهر
الوجوه لأن الله تعالى مع أنه مولى النعم على الحقيقة و إليه يرجع كل الطاعات و
نفعها يصل إلى العباد يشكرهم على أعمالهم قولا و فعلا في الدنيا و الآخرة فكيف لا
يحسن شكر العباد بعضهم بعضا لمدخليتهم في ذلك.
و يمكن أن يكون قوله تعالى: لم
تشكرني إذ لم تشكره إشارة إلى ذلك، أي إذا لم تشكر المنعم الظاهري يتوهم أنه لم
يكن له مدخل في النعمة فكيف تنسب شكري إلى نفسك لأنه نسبة الفعلين إلى الفاعلين
واحدة فأنت أيضا لم تشكرني فلم نسبت الشكر إلى نفسك و نفيت الفعل عن غيرك، و هذا
معنى لطيف لم أر من تفطن به و إن كان بعيدا في الجملة، و الوجه الأول أيضا وجه
ظاهر، و كان آخر الخبر يؤيده و إن احتمل وجوها كما لا يخفى.
مرآة
العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 166
باب حسن الخلق
(1)
(الحديث الأول)
(2): صحيح.
و الخلق
(3) بالضم يطلق على الملكات و الصفات الراسخة في
النفس حسنة كانت أم قبيحة و هي في مقابلة الأعمال، و يطلق حسن الخلق غالبا على ما
يوجب حسن المعاشرة و مخالطة الناس بالجميل.
قال الراغب: الخلق و الخلق في الأصل
واحد لكن خص الخلق بالهيئات و الأشكال و الصور المدركة بالبصر، و خص الخلق بالقوى
و السجايا المدركة بالبصيرة و قال في النهاية: فيه ليس شيء في الميزان أثقل من
حسن الخلق، الخلق بضم اللام و سكونها الدين و الطبع و السجية و حقيقته أنه لصورة
الإنسان الباطنة و هي نفسها و أوصافها و معانيها المختصة بها بمنزلة الخلق لصورته
الظاهرة و أوصافها و معانيها و لهما أوصاف حسنة و قبيحة، و الثواب و العقاب
يتعلقان بأوصاف الصورة الباطنة أكثر مما يتعلقان بأوصاف الصورة الظاهرة، و لهذا
تكررت الأحاديث في مدح حسن الخلق في غير موضع، كقوله: أكثر ما يدخل الناس الجنة
تقوى الله و حسن الخلق، و
قوله أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم
خلقا
(4) و قوله: إن العبد ليدرك بحسن خلقه درجة
الصائم القائم، و قوله: بعثت لأتمم مكارم الأخلاق، و أحاديث من هذا النوع كثيرة و
كذلك جاء في ذم سوء الخلق أحاديث كثيرة، انتهى.
و قيل: حسن الخلق إنما يحصل من
الاعتدال بين الإفراط و التفريط في
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
167
القوة الشهوية و القوة الغضبية، و
يعرف ذلك بمخالطة الناس بالجميل و التودد و الصلة و الصدق و اللطف و المبرة و حسن
الصحبة و العشرة و المراعاة و المساواة و الرفق و الحلم و الصبر و الاحتمال لهم، و
الإشفاق عليهم.
و بالجملة هي حالة نفسانية يتوقف
حصولها على اشتباك الأخلاق النفسانية بعضها ببعض، و من ثم قيل: هو حسن الصورة
الباطنة التي هي صورة الناطقة كما أن حسن الخلق هو حسن الصورة الظاهرة، و تناسب
الأجزاء إلا أن حسن الصورة الباطنة قد يكون مكتسبا و لذا تكررت الأحاديث في الحث
به و بتحصيله.
و قال الراوندي رحمه الله في ضوء
الشهاب: الخلق السجية و الطبيعة ثم يستعمل في العادات التي يتعودها الإنسان من خير
أو شر و الخلق ما يوصف العبد بالقدرة عليه و لذلك يمدح و يذم به، يدل علي ذلك قوله
صلى الله عليه و آله و سلم: خالق الناس بخلق حسن، انتهى.
و أقول: مدخلية حسن الخلق في كمال
الإيمان قد مر تحقيقه في أبواب الإيمان.
الحديث الثاني:
(1) ضعيف على المشهور.
و هو مما يستدل به على تجسم الأعمال،
و قد مضى الكلام فيه.
(الحديث الثالث)
(2): صحيح.
" و أربع"
(3) مبتدأ و كان موصوفة مقدر، أي خصال أربع، و
الموصول بصلته خبره
" و إن كان من قرنه إلى قدمه
ذنوبا"
(4) مبالغة في كثرة ذنوبه أو كناية عن صدورها
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
168
من كل جارحة من جوارحه، و يمكن حملها
على الصغائر فإن صاحب هذه الخصال لا يجترئ على الإصرار على الكبائر أو أنه يوفق
للتوبة و هذه الخصال تدعوه إليها مع أن الصدق يخرج كثيرا من الذنوب كالكذب و ما
يشاكله، و كذا أداء الأمانة يخرج كثيرا من الذنوب كالخيانة في أموال الناس و منع
الزكوات و الأخماس و سائر، حقوق الله و كذا الحياء من الخلق يمنعه من التظاهر
بأكثر المعاصي و الحياء من الله يمنعه من تعمد المعالي و الإصرار عليها و يدعوه
إلى التوبة سريعا و كذا حسن الخلق يمنعه عن المعاصي المتعلقة بإيذاء الخلق كعقوق
الوالدين و قطع الأرحام و الإضرار بالمسلمين فلا يبقى من الذنوب إلا قليل لا يضر
في إيمانه مع أنه موفق للتوبة و الله الموفق.
(الحديث الرابع)
(1): كالسابق.
ما يقدم
(2) كيعلم قدوما و تعديته بعلى لتضمين معنى
الإقبال، و الباء في
قوله: بعمل
(3) لمصاحبة، و يحتمل التعدية
" من أن يسع الناس بخلقه"
(4) أي يكون خلقه الحسن وسيعا بحيث يشمل جميع
الناس.
(الحديث الخامس)
(5): كالسابق أيضا.
و يدل على أن الأخلاق لها ثواب مثل
ثواب الأعمال.
مرآة العقول
في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 169
(الحديث السادس)
(1): ضعيف على المشهور.
و التقوى
(2) حسن المعاملة مع الرب و
حسن الخلق
(3) حسن المعاملة مع الخلق، و هما يوجبان دخول
الجنة و
الولوج
(4) الدخول.
(الحديث السابع)
(5): حسن كالصحيح.
و الميث و الموث
(6) الإذابة مثت الشيء أميثه و أموثه من بابي
باع، و قال: فانماث إذا دفته و خلطته بالماء و أذبته، و في النهاية: فيه حسن الخلق
يذيب الخطايا كما يذيب الشمس الجليد،
الجليد
(7) هو الماء الجامد من البرد، و في المغرب
الجليد ما يسقط على الأرض من الندى فيجمد.
(الحديث الثامن)
(8): كالسابق، و
البر
(9) الإحسان إلى الغير.
(الحديث التاسع)
(10): ضعيف على المشهور.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
170
(الحديث العاشر)
(1): صحيح.
و المستتر في
قوله صلى الله عليه و آله و سلم:
فأتى
(2) للنبي صلى الله عليه و آله و سلم، و منهم من
قرأ أتي على بناء المفعول من باب التفعيل، فالنائب للفاعل الضمير المستتر الراجع
إلى الرجل و
الحفارين
(3) مفعوله الثاني، و لا يخفى ما فيه، و
الصفا
(4) جمع الصفاة و هي الصخرة الملساء، و
قوله:" و لم"
(5) استفهام إنكاري أو تعجبي
" إن كان"
(6) الظاهر أن إن مخففة عن المثقلة، و تعجبه صلى
الله عليه و آله و سلم من أنه لم اشتد الأرض عليهم مع كون صاحبهم حسن الخلق فإنه
يوجب يسر الأمر في الحياة و بعد الوفاة بخلاف سوء الخلق فإنه يوجب اشتداد الأمر
فيهما، و الحاصل أنه لما كان حسن الخلق فليس هذا الاشتداد من قبله، فهو من قبل
صلابة الأرض فصب الماء المتبرك بيده المباركة على الموضع فصار بإعجازه في غاية
الرخاوة، و قيل: إن للشرط و لم قائم مقام جزاء الشرط فحاصله أنه لو كان حسن الخلق
لم يشتد الحفر على الحفارين فرش صاحب الخلق الحسن الماء الذي أدخل يده المباركة
فيه لرفع تأثير خلقه السيء و لا يخفى بعده.
و قال في النهاية: كل شيء أرسلته
إرسالا من طعام أو تراب أو
رمل فقد هلته
(7) هيلا يقال: هلت الماء و أهلته إذا صببته و
أرسلته، و منه حديث الخندق فعادت كثيبا أهيل أي رملا سائلا، انتهى.
و بعضهم يقول: هلت التراب حركت أسفله
فسال من أعلاه.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
171
(الحديث الحادي عشر)
(1): ضعيف على المشهور.
و المنيحة
(2) كسفينة و المنحة بالكسر العطية
" فمنه سجية"
(3) أي جبلة و طبيعة خلق عليها
" و منه نية"
(4) أي يحصل عن قصد و اكتساب و تعمل، و الحاصل
أنه يتمرن عليه حتى يصير كالغريزة، فبطل قول من قال: أنه غريزة لا مدخل للاكتساب
فيه، و قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه: عود نفسك الصبر على المكروه فنعم الخلق
التصبر، و المراد
بالتصبر
(5) تحمل الصبر بتكلف و مشقة لكونه غير خلق.
(الحديث الثاني عشر)
(6): ضعيف.
و اللهب
(7) بالكسر قبيلة
" كما يعطي المجاهد"
(8) لمشقتهما على النفس و لكون جهاد النفس كجهاد
العدو بل أشق و أشد و لذا سمي بالجهاد الأكبر و إن كان في جهاد العدو جهاد النفس
أيضا، و
قوله: يغدو عليه و يروح
(9)، حال عن المجاهد كناية عن استمراره في
الجهاد في أول النهار و آخره، فإن الغدو أول النهار و الرواح آخره، أو المعنى يذهب
أول النهار و يرجع آخره و الأول أظهر.
و قال في المصباح: غدا غدوا من باب
فقد ذهب غدوة، و هي ما بين صلاة الصبح و طلوع الشمس، ثم كسر حتى استعمل في الذهاب
و الانطلاق أي وقت كان، و راح يروح رواحا أي رجع كما في قوله تعالى:"
غُدُوُّها شَهْرٌ وَ رَواحُها شَهْرٌ" أي ذهابها
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
172
شهر و رجوعها شهر، و قد يتوهم بعض
الناس أن الرواح لا يكون إلا في آخر النهار و ليس كذلك، بل الرواح و الغدو عند
العرب يستعملان في المسير أي وقت كان من ليل أو نهار، و قال الأزهري و غيره: و
عليه قوله عليه السلام: من راح إلى الجمعة في أول النهار فله كذا، أي ذهب، انتهى.
و كان الأنسب هنا ما ذكرنا أولا، و
قيل: لعل المراد أن الثواب يغدو على حسن خلقه و يروح يعني أنه ملازم له كملازمة
حسن خلقه، و لا يخلو من بعد.
(الحديث الثالث عشر)
(1): مجهول و آخره مرسل.
" أعار أعداءه"
(2) كان الإعارة إشارة إلى أن هذه الأخلاق لا
يبقى لهم ثمرتها و لا ينتفعون بها في الآخرة فكأنها عارية تسلب منهم بعد الموت، أو
أن هذه ليست مقتضى ذواتهم و طيناتهم و إنما اكتسبوها من مخالطة طينتهم مع طينة
المؤمنين كما ورد في بعض الأخبار، و قد مر شرحها، أو إلى أنها لما لم تكن مقتضى
عقائدهم و نياتهم الفاسدة و إنما أعطوها لمصلحة غيرهم فكأنها عارية عندهم، و
الوجوه متقاربة.
(الحديث الرابع عشر)
(3): مجهول.
و العليا
(4) بالضم مؤنث الأعلى، و هي خبر كانت، و عليه
متعلق بالعليا، و التعريف يفيد الحصر
" فافعل"
(5) أي الإحسان أو المخالطة و الأول أظهر، أي كن
أنت المحسن عليه أو أكثر إحسانا لا بالعكس، و يحتمل كون العليا صفة لليد و"
عليه" خبر كانت
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
173
أي يدك المعطية ثابتة أو مفيضة أو
مشرفة عليه، و الأول أظهر، و في كتاب الزهد للحسين بن سعيد يدك عليه العليا، قال
في النهاية: فيه: اليد العليا خير من اليد السفلى، العليا المتعففة و السفلى
السائلة، روي ذلك عن ابن عمر، و روي عنه أنها المنفقة، و قيل: العليا المعطية و
السفلى الآخذة، و قيل: السفلى المانعة.
و قال السيد المرتضى رضي الله عنه في
الغرر و الدرر، و معنى قوله صلى الله عليه و آله و سلم: أن اليد النعمة و العطية،
و هذا الإطلاق شائع بين العرب، فالمعنى أن العطية الجزيلة خير من العطية القليلة،
و هذا حث منه صلى الله عليه و آله و سلم على المكارم، و تحضيض على اصطناع المعروف
بأوجز الكلام و أحسنه، انتهى.
و التعليل المذكور بعده مبني على أن
الكرم أيضا من حسن الخلق أو هو من لوازمه
" الصائم القائم"
(1) أي المواظب على الصيام بالنهار في غير
الأيام المحرمة أو في الأيام المسنونة، و على قيام الليل أي تمامه أو على صلاة
الليل مراعيا لآدابها.
(الحديث الخامس عشر)
(2): كالسابق.
" يسر"
(3) أي سبب ليسر الأمور على صاحبه، و يمكن أن
يقرأ يسرا بصيغة المضارع، أي يصير سببا لسرور صاحبه أو الناس أو الأعم
" ما هو"
(4) ما نافية، و الجملة صفة للحديث
" و هو قائم"
(5) حال عن بعض الأنصار، و قيل: إنما ذكر ذلك
للإشعار بأن
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
174
مالكها لم يكن مطلعا على هذا الأمر
فحسن الخلق فيه أظهر
" فقام لها النبي صلى الله عليه
و آله و سلم"
(1) كان قيامه صلى الله عليه و آله و سلم لظن
أنها تريده لحاجة يذهب معها، فقام صلى الله عليه و آله و سلم لذلك فلما لم تقل
شيئا و لم يعلم غرضها جلس، و قيل: إنما قام لترى الجارية أن الهدية في أي موضع من
الثوب فتأخذ.
و قال في النهاية: هدب الثوب و هدبته
و هدابه طرف الثوب مما يلي طرته، و في القاموس:
الهدب
(2) بالضم و بضمتين شعر أشفار العين و خمل
الثوب، واحدتها بهاء.
" فعل الله بك و فعل"
(3) كناية عن كثرة الدعاء عليه بإيذائه النبي
صلى الله عليه و آله و سلم و هذا شائع في عرف العرب و العجم، و
قولها: يستشفي
(4) الضمير المستتر راجع إلى المريض و هو
استئناف بياني أو حال مقدرة عن الهدبة، أو هو بتقدير لأن يستشفي، و في بعض النسخ
بل أكثرها ليستشفي
" و هو يراني"
(5) حال عن فاعل أخذها، و قيل:
و أكره حال عن فاعل استحيت.
(الحديث السادس عشر)
(6): حسن كالصحيح.
" أحسنكم"
(7) خبر أفاضلكم، و يجوز في أفعل التفضيل المضاف
إلى المفضل عليه الأفراد و الموافقة مع صاحبه في التثنية و الجمع، كما روعي في
قوله: الموطئون،
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
175
(1) و في بعض الروايات أحاسنكم كما في كتاب
الزهد للحسين بن سعيد و غيره، قال في النهاية: الواطية المارة و السابلة سموا بذلك
لوطئهم الطريق، و منه الحديث: أ لا أخبركم بأحبكم إلى و أقربكم مني مجلسا يوم
القيامة أحاسنكم أخلاقا الموطئون أكنافا الذين يألفون و يؤلفون، هذا مثل و حقيقته
من التوطئة و هي التمهيد و التذلل، و فراش وطئ لا يؤذي جنب النائم، و
الأكناف
(2) الجوانب، أراد الذين جوانبهم وطيئة يتمكن
فيها من يصاحبهم و لا يتأذى، انتهى.
و يقال رجل موطأ الأكناف أي كريم
مضياف، و في بعض النسخ بالناء كناية عن غاية حسن الخلق كأنهم يحملون الناس على
أكتافهم و رقابهم، و كأنه تصحيف و إن كان موافقا لما في كتاب الحسين بن سعيد، و في
المصباح:
ألفته
(3) ألفا من باب علم أنست به و أحببته و الاسم
الألفة بالضم، و الألفة أيضا اسم من الإيلاف و هو الالتئام و الاجتماع، و اسم
الفاعل آلف مثل عالم، و الجمع ألاف مثل كفار، انتهى.
و توطأ رحالهم أي للضيافة أو للزيارة
أو لطلب الحاجة أو الأعم و رحل الرجل منزله و مأواه و أثاث بيته.
(الحديث السابع عشر)
(4): ضعيف على المشهور.
و فيه حث على الألفة و حمل على
الألفة بالخيار و إن احتمل التعميم إذا لم يوافقهم بالمعاصي كما وردت الأخبار في
حسن المعاشرة.
(الحديث الثامن عشر)
(5): حسن كالصحيح.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
176
و قد مر مضمونه و يبلغ كينصر و الباء
للتعدية.
باب حسن البشر
(1)
(الحديث الأول)
(2): ضعيف على المشهور.
لأن الحسن بن الحسين و إن كان مشتركا
لكن الراوي عن الصادق عليه السلام منهم ثقة و سنده الثاني ضعيف.
و في النهاية يقال:
وسعه
(3) الشيء يسعه سعة فهو واسع و وسع بالضم و ساعة
فهو وسيع، و الوسع و السعة الجدة و الطاقة، و منه الحديث إنكم لن تسعوا الناس
بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم أي لا تتسع أموالكم بعطائهم فوسعوا أخلاقكم لصحبتهم، و
قال:
فيه أن تلقاه بوجه طلق، يقال:
طلق
(4) الرجل بالضم يطلق طلاقة فهو طلق و طليق، أي
منبسط الوجه متهلله، و في القاموس: هو طلق الوجه مثلثة و ككتف و أمير ضاحكة مشرقة،
و
البشر
(5) بالكسر طلاقة الوجه و بشاشته، و قيل: حسن
البشر تنبيه على أن زيادة البشر و كثرة الضحك مذمومة بل الممدوح الوسط من ذلك.
أقول: و يحتمل أن يكون للمبالغة في
ذلك أو يكون إشارة إلى أن البشر إنما
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
177
يكون حسنا إذا كان عن صفاء الطوية و
المحبة القلبية لا ما يكون على وجه الخداع و الحيلة.
و بنو هاشم
(1) و بنو عبد المطلب مصداقهما واحد، لأنه لم
يبق لهاشم ولد إلا من عبد المطلب.
(الحديث الثاني)
(2): موثق.
و
الإقتار
(3) التضييق على الإنسان في الرزق، يقال أقتر
الله رزقه أي ضيقه و قلله و الإنفاق أعم من الواجب و المستحب و كان المراد
بالإقتار عدم الغناء و التوسعة في الرزق و إن كان له زائدا على رزقه و رزق عياله
ما ينفقه، و يحتمل شموله للإيثار أيضا بناء على كونه حسنا مطلقا أو لبعض الناس فإن
الأخبار في ذلك مختلفة ظاهرا فبعضها يدل على حسنه و بعضها يدل على ذمه و أنه كان
ممدوحا في صدر الإسلام فنسخ، و ربما يجمع بينهما باختلاف ذلك بحسب الأشخاص، فيكون
حسنا لمن يمكنه تحمل المشقة في ذلك، و يكمل توكله و لا يضطرب عند شدة الفاقة، و
مذموما لمن لم يكن كذلك، و عسى أن نفصل ذلك في موضع آخر إنشاء الله، و ربما يحمل
ذلك على من ينقص من كفافه شيئا و يعطيه من هو أحوج منه أو من لا شيء له.
" و البشر بجميع العالم"
(4) هذا إما على عمومه بأن يكون البشر للمؤمنين
لإيمانهم و حبه لهم، و للمنافقين و الفاسقين تقية منهم و مداراة لهم كما قيل:
دارهم ما دمت في دارهم و أرضهم ما كنت في أرضهم، أو مخصوص بالمؤمنين كما يشعر به
الخبر الآتي.
و على التقديرين لا بد من تخصيصه
بغير الفساق الذين يعلم من حالتهم أنهم يتركون المعصية إذا لقيهم بوجه مكفهر و لا
يتركونها بغير ذلك و لا يتضرر منهم في ذلك فإن ذلك أحد مراتب النهي عن المنكر
الواجب على المؤمنين
" و الإنصاف من
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
178
نفسه"
(1) هو أن يرجع إلى نفسه و يحكم لهم عليها فيما
ينبغي أن يأتي به إليهم من غير أن يحكم عليه حاكم، و سيأتي في باب الإنصاف هو أن
يرضى لهم ما يرضى لنفسه و يكره لهم ما يكره لنفسه.
قال الراغب: الإنصاف في المعاملة
العدالة و هو أن لا يأخذ من صاحبه من المنافع إلا مثل ما يعطيه و لا ينيله من
المضار إلا مثل ما يناله منه، و قال الجوهري: أنصف أي عدل، يقال: أنصفه من نفسه و
انتصفت أنا منه، و تناصفوا أي أنصف بعضهم بعضا من نفسه.
(الحديث الثالث)
(2): حسن كالصحيح.
و التخصيص بالأخ
(3) لشدة الاهتمام أو المراد به انبساط الوجه مع
حب القلب.
(الحديث الرابع)
(4): مرسل كالحسن لإجماع العصابة على المرسل و
الضمير فيه و في الخبر الآتي راجعان إلى إبراهيم بن هاشم.
و
تليين الجناح
(5) كناية عن عدم تأذي من يجاوره و يجالسه و
يحاوره من خشونته بأن يكون سلس الانقياد لهم و يكف أذاه عنهم أو كناية عن شفقته
عليهم كما أن الطائر يبسط جناحه على أولاده ليحفظهم و يكنفهم كقوله تعالى:"
وَ اخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ".
قال الراغب: الجناح جناح الطائر و
سمي جانبا الشيء جناحاه، فقيل
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول،
ج8، ص: 179
جناحا السفينة و جناحا العسكر، و
جناحا الإنسان لجانبيه، و قوله تعالى:" وَ اخْفِضْ لَهُما جَناحَ
الذُّلِّ" فاستعارة و ذلك أنه لما كان الذل ضربين ضرب يضع الإنسان، و ضرب
يرفعه، و قصد في هذا المكان إلى ما يرفع الإنسان لا إلى ما يضعه استعار لفظ الجناح
فكأنه قيل: استعمل الذل الذي يرفعك عند الله من أجل اكتسابك الرحمة أو من أجل
رحمتك لهم و قال: الخفض ضد الرفع و الخفض الدعة و السير اللين، فهو حث على تليين
الجانب و الانقياد و كأنه ضد قوله: أن لا تعلوا على.
و قال البيضاوي في قوله تعالى:"
وَ اخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ" تذلل لهما و تواضع فيهما، جعل للذل جناحا
و أمره بخفضها للمبالغة أو أراد جناحه كقوله:" وَ اخْفِضْ جَناحَكَ
لِلْمُؤْمِنِينَ" و إضافته إلى الذل للبيان و المبالغة كما أضيف حاتم إلى
الجود، و المعنى و اخفض لهما جناحك الذليل.
(الحديث الخامس)
(1): كالصحيح موقوف و الظاهر أنه مضمر.
و الضمير في
" قال"
(2) راجع إلى الباقر أو الصادق عليهما السلام و
كأنه سقط من النساخ أو الرواة، و
صنائع المعروف
(3) الإحسان إلى الغير بما يعرف حسنه شرعا و
عقلا و كان الإضافة للبيان. قال في النهاية: الاصطناع افتعال من الصنيعة، و هي العطية
و الكرامة و الإحسان. و قال: المعروف اسم جامع لكل ما عرف من طاعة الله تعالى، و
التقرب إليه و الإحسان إلى الناس و كل ما ندب إليه الشرع و نهى عنه من المحسنات و
المقبحات" و هو من الصفات الغالبة" أي أمر معروف بين الناس إذا رأوه لا
ينكرونه، و المعروف
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
180
النصفة و حسن الصحبة مع الأهل و
غيرهم من الناس و المنكر ضد ذلك جميعه
" يكسبان المحبة"
(1) أي محبته تعالى بمعنى إفاضة الرحمات و
الهدايات أو محبة الخلق، و يؤيد الأول
قوله: و يبعدان من الله
(2) لأن الظاهر أن يترتب على أحد الضدين نقيض ما
يترتب على الضد الآخر.
(الحديث السادس)
(3): موثق.
و
السخيمة
(4) الحقد في النفس.
باب الصدق و أداء الأمانة
(5)
(الحديث الأول)
(6): حسن.
" إلا بصدق الحديث"
(7) أي متصفا بهما أو كان الأمر بهما في شريعته،
و قد مر أنه يحتمل شمول الأمانة لجميع حقوق الله، و حقوق الخلق، لكن الظاهر منه
أداء كل حق ائتمنك عليه إنسان، برا كان أو فاجرا، و الظاهر أن الفاجر يشمل الكافر
أيضا فيدل على عدم جواز الخيانة بل التقاص أيضا في ودائع الكفار و أماناتهم، و
اختلف الأصحاب في التقاص مع تحقق شرائطه في الوديعة فذهب الشيخ في الاستبصار و
أكثر المتأخرين إلى الجواز على كراهة و ذهب الشيخ في النهاية
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
181
و جماعة إلى التحريم، و الأخبار
مختلفة و سيأتي تحقيقه في محله إنشاء الله، و ستأتي الأخبار في وجوب أداء الأمانة
و الوديعة إلى الكافر، و إلى قاتل علي صلوات الله عليه.
(الحديث الثاني)
(1): موثق.
و قال الجوهري:
اغتر
(2) بالشيء خدع به، و قال:
اللهج
(3) بالشيء الولوع به، و قد لهج به بالكسر يلهج
لهجا إذا أغرى به فثابر عليه، انتهى.
و حاصل الحديث أن كثرة الصلاة و
الصوم ليست مما يختبر به صلاح المرء و خوفه من الله تعالى، فإنهما من الأفعال
الظاهرة التي لا بد للمرء من الإتيان بها خوفا أو طمعا و رياء لا سيما للمتسمين
بالصلاح فيأتون بها من غير إخلاص حتى يعتادونها، و لا غرض لهم في تركها غالبا و
الدواعي الدنيوية في فعلها لهم كثيرة بخلاف الصدق و الأمانة فإنهما من الأمور
الخفية و ظهور خلافهما على الناس نادر، و الدواعي الدنيوية على تركهما كثيرة
فاختبروهم بهما، لأن الآتي بهما غالبا من أهل الصلاح و الخوف من الله مع أنهما من
الصفات الحسنة التي تدعو إلى كثير من الخيرات، و بهما يحصل كمال النفس و إن لم
تكونا لله، و أيضا الصدق يمنع كون العمل لغير الله فإن الرياء حقيقة من أقبح أنواع
الكذب كما يومئ إليه الخبر الآتي.
(الحديث الثالث)
(4): ضعيف على المشهور.
" زكي عمله"
(5) أي يصير عمله بسببه زاكيا أي ناميا في
الثواب لأنه إنما يتقبل الله من المتقين، و هو من أعظم أركان التقوى، أو كثيرا لأن
الصدق مع الله يوجب
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
182
الإتيان بما أمر الله و الصدق مع
الخلق أيضا يوجب ذلك، لأنه إذا سئل عن عمل هل يفعله؟ و لم يفعله لا يمكنه ادعاء
فعله، فيأتي بذلك، و لعله بذلك يصير خالصا لله، أو يقال لما كان الصدق لازما للخوف
و الخوف ملزوما لكثرة الأعمال فالصدق ملزوم لها، أو المعنى طهر عمله من الرياء
فإنها نوع من الكذب كما أشرنا إليه في الخبر السابق و في بعض النسخ زكي على
المجهول من بناء التفعيل بمعنى القبول، أي يمدح الله عمله و يقبله، فيرجع إلى
المعنى الأول و يؤيده.
(الحديث الرابع)
(1): ضعيف.
و
الدخلة
(2) مصدر كالجلسة و إن لم يذكر بخصوصه في اللغة
" تعلموا الصدق"
(3) أي قواعده كجواز النقل بالمعنى، و نسبة
الحديث المأخوذ عن واحد من الأئمة إلى آبائه أو إلى الرسول صلى الله عليه و آله و
سلم أو تبعيض الحديث و أمثال ذلك، أو يكون تعلمه كناية عن العمل به و التمرن عليه
على المشاكلة، أو المراد تعلم وجوبه و لزومه و حرمة تركه
" قبل الحديث"
(4) أي قبل سماع الحديث منا و روايته و ضبطه و
نقله، و هذا يناسب أول دخوله فإنه كان مريدا لسماع الحديث منه عليه السلام و لم
يسمع بعد هذا ما أفهمه.
و قيل فيه وجوه مبنية على أن المراد
بالحديث التكلم لا الحديث بالمعنى المصطلح:
الأول: أن المراد التفكر في الكلام
ليعرف الصدق و فيما يتكلم به، و مثله قول أمير المؤمنين عليه السلام: لسان العاقل
وراء قلبه و قلب الأحمق وراء لسانه، يعني أن العاقل يعلم الصدق و الكذب أولا و
يتفكر فيما يقول ثم يقول ما هو الحق و الصدق، و الأحمق يتكلم و يقول من غير تأمل و
تفكر فيتكلم بالكذب و الباطل كثيرا.
الثاني: أن لا يكون قبل متعلقا
بتعلموا، بل يكون بدلا من قوله في أول دخلة.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
183
الثالث: أن يكون قبل متعلقا بقال أي
قال عليه السلام ابتداء قبل التكلم بكلام آخر:
تعلموا.
الرابع: أن يكون المعنى تعلموا الصدق
قبل تعلم آداب التكلم من قواعد العربية و الفصاحة و البلاغة و أمثالها.
و لا يخفى بعد الجميع لا سيما الثاني
و الثالث، و كون ما ذكرنا أظهر و أنسب.
(الحديث الخامس)
(1): مجهول.
" ما بلغ به علي عليه
السلام"
(2) كان مفعول البلوغ محذوف، أي انظر الشيء
الذي بسببه بلغ علي عليه السلام عند رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم المبلغ
الذي بلغه من القرب و المنزلة، و قوله بعد ذلك: ما بلغ به، كأنه زيدت كلمة"
به" من النساخ، و ليست في بعض النسخ، و على تقديرها كان الباء زائدة، فإنه
يقال بلغت المنزل أو الدار، و قد يقال بلغت إليه بتضمين، فيمكن أن يكون الباء
بمعنى إلى، و يحتمل على بعد أن يكون
قوله: فإن عليا
(3) تعليلا للزوم و ضمير" به" راجعا
إلى الموصول في ما بلغ به أولا، و
قوله: بصدق الحديث
(4) كلاما مستأنفا متعلقا بفعل مقدر أي بلغ ذلك
بصدق الحديث.
(الحديث السادس)
(5): مجهول، و المضمون معلوم.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
184
(الحديث السابع)
(1): حسن.
و اختلف المفسرون في
إسماعيل
(2) المذكور في هذه الآية، قال الطبرسي (ره):
هو إسماعيل بن إبراهيم و أنه كان
صادق الوعد، إذا وعد بشيء و في به و لم يخلف، و كان مع ذلك رسولا إلى جرهم نبيا
رفيع الشأن، عالي القدر، قال ابن عباس: أنه واعد رجلا أن ينتظره في مكان و نسي
الرجل فانتظره سنة حتى أتاه الرجل، و روي ذلك عن أبي عبد الله عليه السلام، و قيل:
أقام ينتظره ثلاثة أيام عن مقاتل.
و قيل: إن إسماعيل بن إبراهيم مات
قبل أبيه إبراهيم و إن هذا هو إسماعيل بن حزقيل، بعثه الله إلى قوم فسلخوا جلدة
وجهه و فروة رأسه فخيره الله فيما شاء من عذابهم فاستعفاه و رضي بثوابه، و فوض
أمرهم إلى الله في عفوه و عقابه، و رواه أصحابنا عن أبي عبد الله عليه السلام، ثم
قال في آخره: أتاه ملك من ربه يقرئه السلام و يقول: قد رأيت ما صنع بك و قد أمرني
بطاعتك، فمرني بما شئت، فقال: يكون بي بالحسين أسوة.
(الحديث الثامن)
(3): مجهول.
و
الصديق
(4) مبالغة في الصدق أو التصديق و الإيمان
بالرسول قولا و فعلا، قال الطبرسي (ره) في قوله تعالى:" إِنَّهُ كانَ
صِدِّيقاً" أي كثير التصديق في أمور الدين عن الجبائي، و قيل: صادقا مبالغا
في الصدق فيما يخبر عن الله.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
185
و قال الراغب: الصدق و الكذب أصلهما
في القول ماضيا كان أو مستقبلا و عدا كان أو غيره، و لا يكونان بالقصد الأول إلا
في القول، و لا يكونان من القول إلا في الخبر دون غيره من أصناف الكلام، و قد
يكونان بالعرض في غيره من أنواع الكلام الاستفهام و الأمر و الدعاء، و ذلك نحو قول
القائل: أ زيد في الدار؟ فإن في ضمنه إخبارا بكونه جاهلا بحال زيد، و كذا إذا قال:
واسني، في ضمنه أنه محتاج إلى المواساة، و إذا قال: لا تؤذني ففي ضمنه أنه يؤذيه.
و الصديق من كثر منه الصدق، و قيل:
بل يقال ذلك لمن لم يكذب قط، و قيل: بل لمن لا يتأتى منه الكذب لتعوده الصدق، و
قيل: بل لمن صدق بقوله و اعتقاده و حقق صدقه بفعله فالصديقون هم قوم دوين الأنبياء
في الفضيلة و قد يستعمل الصدق و الكذب في كل ما يحق و يحصل في الاعتقاد، نحو صدق
ظني و كذب، و يستعملان في أفعال الجوارح، فيقال: صدق في القتال إذا و في حقه، و
فعل على ما يجب و كما يجب، و كذب في القتال إذا كان بخلاف ذلك، قال الله تعالى:"
رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ" أي حققوا العهد بما أظهروه من
أفعالهم، و قوله:" لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ" أي يسأل
من صدق بلسانه عن صدق فعله تنبيها على أنه لا يكفي الاعتراف بالحق دون تحريه
بالفعل.
(الحديث التاسع)
(1): ضعيف على المشهور.
و يدل على رفعة درجة الصادقين عند
الله، و قال الراغب:
البر
(2) التوسع في فعل
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
186
الخير و يستعمل في الصدق لكونه بعض
الخيرات المتوسع فيه، و بر العبد ربه: توسع في طاعته، و قال: سمي الكاذب فاجرا
لكون الكذب بعض الفجور.
(الحديث العاشر)
(1): صحيح، و الضمير راجع إلى أحمد.
" بغير ألسنتكم"
(2) أي بجوار حكم و أعمالكم الصادرة عنها، و إن
كان اللسان أيضا داخلا فيها من جهة الأعمال لا من جهة الدعوة الصريحة، و الاجتهاد
المبالغة في الطاعات و الورع اجتناب المنهيات و الشبهات كما مر.
(الحديث الحادي عشر)
(3): مجهول.
" و من حسنت نيته"
(4) أي عزمه على الطاعات أو على إيصال النفع إلى
العباد" أو سريرته" في معاملة الخلق بأن يكون ناصحا لهم غير مبطن لهم
غشا و عداوة و خديعة، أو في معاملة الله أيضا بأن يكون مخلصا، و لا يكون مرائيا و
لا يكون عازما على المعاصي، و مبطنا خلاف ما يظهر من مخافة الله عز و جل، و المراد
بأهل بيته
(5) عياله أو الأعم منهم و من أقاربه بالتوسعة
عليهم و حسن المعاشرة معهم.
(الحديث الثاني عشر)
(6): مرفوع.
و المراد بطول الركوع و السجود
(7) حقيقته أو كناية عن كثرة الصلاة و الأول
أظهر
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
187
باب الحياء
(1)
(الحديث الأول)
(2): ضعيف على المشهور.
و
الحياء
(3) ملكة للنفس توجب انقباضها عن القبيح و
انزجارها عن خلاف الآداب خوفا من اللوم، و
" من"
(4) في قوله: من الإيمان، إما سببية أي تحصل
بسبب الإيمان، لأن الإيمان بالله و برسوله و بالثواب و العقاب و قبح ما بين الشارع
قبحه يوجب الحياء من الله و من الرسول، و من الملائكة و انزجار النفس من القبائح و
المحرمات لذلك، أو تبعيضية أي من الخصال التي هي من أركان الإيمان، أو توجب كماله
و قال الراوندي (ره) في ضوء الشهاب: الحياء انقباض النفس عن القبائح و تركها لذلك،
يقال: حيي يحيي حياء فهو حيي و استحيا فهو مستحيي، و استحى فهو مستح، و الحياء إذا
نسب إلى الله فالمراد به التنزيه، و أنه لا يرضي فيوصف بأنه يستحي منه، و يتركه
كرما.
و ما أكثر ما يمنع الحياء من الفواحش
و الذنوب، و لذلك قال صلى الله عليه و آله و سلم الحياء من الإيمان، الحياء خير
كله، الحياء لا يأتي إلا بالخير، فإن الرجل إذا كان حييا لم يرخص حياؤه من الخلق
في شيء من الفواحش فضلا عن الحياء من الله، و روى ابن مسعود أنه جاء قوم إلى
النبي صلى الله عليه و آله و سلم فقالوا: إن صاحبنا قد أفسده الحياء؟ فقال النبي
صلى الله عليه و آله و سلم: إن الحياء من الإسلام و إن البذاء من لؤم المرء،
انتهى.
" و الإيمان في الجنة"
(5) أي صاحبه.
مرآة
العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 188
(الحديث الثاني)
(1): ضعيف على المشهور.
و العفاف
(2) أي ترك المحرمات بل الشبهات أيضا و يطلق
غالبا على عفة البطن و الفرج، و في القاموس:
عي
(3) بالأمر و عيي كرضي، و تعايا و استعيا و تعيا
لم يهتد لوجه مراده أو عجز عنه و لم يطق أحكامه، و عيي في المنطق كرضى عيا بالكسر
حصر، و أعيى الماشي كل، انتهى.
و المراد
بعي اللسان
(4) ترك الكلام فيما لا فائدة فيه، و عدم
الاجتراء على الفتوى بغير علم، و على إيذاء الناس و أمثاله و هذا ممدوح، و
عي القلب
(5) عجزه عن إدراك دقائق المسائل، و حقائق
الأمور و هو مذموم.
" من الإيمان"
(6) قيل: أي من قبيلة في المنع عن القبائح أو من
أفراده أو من أجزائه، أو من شيم أهله و محاسنه التي ينبغي التخلق بها، انتهى.
أقول: و روى الحسين بن سعيد في كتاب
الزهد عن محمد بن سنان عن ابن مسكان عن الصيقل قال: كنت عند أبي عبد الله عليه
السلام جالسا فبعث غلاما له أعجميا في حاجة إلى رجل فانطلق ثم رجع فجعل أبي عبد
الله عليه السلام يستفهمه الجواب و جعل الغلام لا يفهمه مرارا، قال: فلما رأيته لا
يتعبر لسانه و لا يفهمه ظننت أن أبا عبد الله عليه السلام سيغضب عليه، قال: و أحد
أبو عبد الله عليه السلام النظر إليه ثم قال: أما و الله لئن كنت عيي اللسان فما
أنت بعيي القلب، ثم قال: إن الحياء و العي عي اللسان لا عي القلب من الإيمان، و
الفحش و البذاء و السلاطة من النفاق.
(الحديث الثالث)
(7): ضعيف.
مرآة
العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 189
و المراد
برقة الوجه
(1) الاستحياء عن السؤال و طلب العلم، و هو
مذموم فإنه لا حياء في طلب العلم، و لا في إظهار الحق، و إنما الحياء عن الأمر
القبيح، قال تعالى:" وَ اللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ" و
رقة العلم
(2) كناية عن قلته، و ما قيل:
إن المراد برقة الوجه قلة الحياء
فضعفه ظاهر، و في القاموس: الرقة بالكسر الرحمة، رققت له أرق و الاستحياء و الرقة،
رق يرق فهو رقاق، انتهى.
و استعارة رقة الوجه للحياء شائع بين
العرب و العجم، و قيل: المراد برقة العلم الاكتفاء بما يجب و يحسن طلبه، لا الغلو
فيه بطلب ما لا يفيد بل يضر كعلم الفلاسفة و نحوه، أو استعارة للإنتاج فإن الثوب
الرقيق يحكي ما تحته أو يكون نسبة الرقة إلى العلم على المجاز، و المراد رقة
المعلوم أي يتعلق علمه بالدقائق و الحقائق الخفية، و لا يخفى ما في الجميع من
التكلف و التعسف.
(الحديث الرابع)
(3): مجهول.
و في القاموس:
القرن
(4) بالتحريك حبل يجمع به البعيران، و خيط من
سلب يشد به الفدان، انتهى.
و الغرض بيان تلازمهما، و لا ينافي
الجزئية، و يحتمل أن يكون المراد هنا بالإيمان العقائد اليقينية المستلزمة للأخلاق
الجميلة و الأفعال الحسنة كما عرفت أنه أحد معانيه.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
190
(الحديث الخامس)
(1): ضعيف على المشهور و مؤيد للسابق.
(الحديث السادس)
(2): مرسل.
و يدل على انقسام الحياء إلى قسمين،
ممدوح و مذموم، فأما الممدوح فهو حياء ناش عن العقل بأن يكون حياؤه و انقباض نفسه
عن أمر يحكم العقل الصحيح أو الشرع بقبحه، كالحياء عن المعاصي أو المكروهات، و أما
المذموم فهو الحياء الناشئ عن الحمق بأن يستحيي عن أمر يستقبحه أهل العرف من
العوام، و ليست له قباحة واقعية يحكم بها العقل الصحيح و الشرع الصريح كالاستحياء
عن سؤال المسائل العلمية أو الإتيان بالعبادات الشرعية التي يستقبحها الجهال"
فحياء العقل هو العلم"
(3) أي موجب لوفور العلم، أو سببه العلم المميز
بين الحسن و القبيح، و حياء الحمق سببه الجهل و عدم التميز المذكور، أو موجب للجهل
لأنه يستحيى عن طلب العلم، فهو مؤيد لما ذكرنا في الخبر الثالث.
(الحديث السابع)
(4): ضعيف.
" بدلها الله حسنات"
(5) إشارة إلى قوله تعالى:" إِلَّا مَنْ
تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ عَمَلًا
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
191
صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ
اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً" و قد قيل
في هذا التبديل وجوه:" الأول": أنه يمحو سوابق معاصيهم بالتوبة و يثبت
مكانها لواحق طاعاتهم" الثاني" أنه يبدل ملكة المعصية في النفس بملكة
الطاعة" الثالث" أنه تعالى يوفقه لأضداد ما سلف منه" الرابع"
أنه يثبت له بدل كل عقاب ثوابا.
و يؤيده ما رواه مسلم عن أبي ذر رضي
الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم:
يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقال:
أعرضا عليه صغار ذنوبه و نحيا عنه كبارها، فيقال: عملت يوم كذا و كذا كذا و كذا، و
هو مقر لا ينكر و هو مشفق من الكبار، فيقال: أعطوه مكان كل سيئة عملها حسنة،
فيقول: إن لي ذنوبا ما أراها ههنا؟
قال: و لقد رأيت رسول الله صلى الله
عليه و آله و سلم ضحك حتى بدت نواجذه.
و ما رواه علي بن إبراهيم بإسناده عن
الرضا عليه السلام قال: إذا كان يوم القيامة أوقف الله عز و جل المؤمن بين يديه و
يعرض عليه عمله فينظر في صحيفته فأول ما يرى سيئاته فيتغير لذلك لونه و ترتعد
فرائصه ثم تعرض عليه حسناته فتفرح لذلك نفسه، فيقول الله عز و جل: بدلوا سيئاتهم
حسنات و أظهروها للناس، فيبدل الله لهم فيقول الناس: أما كان لهؤلاء سيئة واحدة؟ و
هو قوله تعالى:" يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ".
و أقول: أكثر الوجوه جارية في الخبر
بأن يوفقه الله للتوبة و الأعمال الصالحة فيبدل فسوقه بالطاعات، أو مساوئ أخلاقه
بمحاسنها أو يكتب له في القيامة بدل سيئاته حسنات.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
192
باب العفو
(1)
(الحديث الأول)
(2): حسن كالصحيح.
و الخلائق
(3) جمع الخليفة و هي الطبيعة، و المراد هنا
الملكات النفسانية الراسخة أي خير الصفات النافعة في الدنيا و الآخرة، و تصل في
سائر الروايات و صلة و على ما هنا لعله مصدر أيضا بتقدير" أن" أو يقال:
عدل إلى الجملة الفعلية التي هي في قوة الأمر لزيادة التأكيد، و الفرق بينها و بين
الأولى أن القطع لا يستلزم الظلم بل أريد بها المعاشرة لمن اختار الهجران، و يمكن
تخصيصها بالرحم لاستعمال الصلة غالبا فيها، و
الإحسان
(4) في مقابلة الإساءة أخص منهما، لأن الإحسان
يزيد على العفو، و
الإساءة
(5) أخص من القطع الذي هو ترك المواصلة، و كذا
الحرمان غير الإساءة و القطع إذ يعتبر في الإساءة فعل ما يضره و القطع إنما هو في
المعاشرة مع أنه يمكن أن يكون بعضها تأكيدا لبعض كما هو الشائع في الخطب و
المواعظ.
(الحديث الثاني)
(6): ضعيف.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
193
(الحديث الثالث)
(1): مجهول.
و اللفائفي
(2) كأنه بياع اللفافة، و في القاموس: اللفافة بالكسر
ما يلف به على الرجل و غيرها، و الجمع لفائف، انتهى.
و يقال:
جهل على غيره
(3) سفه.
(الحديث الرابع)
(4): حسن موثق.
و في القاموس:
العنق
(5) بالضم و بضمتين و كأمير و صرد الجيد، و
الجمع أعناق، و الجماعة من الناس و الرؤساء، انتهى.
و المراد
بأهل الفضل
(6) أما أهل الفضيلة و الكمال أو أهل الرجحان أو
أهل التفضيل و الإحسان
" فيقال لهم"
(7) أي من قبل الله تعالى
" صدقتم"
(8) أي في اتصافكم بتلك الصفات أو في كونها سبب
الفضل أو فيهما معا و هو أظهر.
و اعلم أن هذه الخصال فضيلة و أية
فضيلة، و مكرمة و أية مكرمة، لا يدرك كنه شرفها و فضلها، إذ العامل بها يثبت بها
لنفسه الفضيلة، و يرفع بها عن صاحبه الرذيلة
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
194
و يغلب على صاحبه بقوة قلبه يكسر بها
عدو نفسه و نفس عدوه، و إلى هذا أشير في القرآن المجيد بقوله سبحانه:"
ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" يعني" السيئة فَإِذَا الَّذِي
بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ" ثم أشير إلى فضلها
العالي و شرفها الرفيع بقوله عز و جل:" وَ ما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ
عَظِيمٍ" يعني من الإيمان و المعرفة، رزقنا الله الوصول إليها و جعلنا من
أهلها.
(الحديث الخامس)
(1): ضعيف على المشهور.
" لا يزيد العبد إلا عزا"
(2) أي في الدنيا ردا على يسول الشيطان للإنسان
بأن ترك الانتقام يوجب المذلة بين الناس، و جرأتهم عليه، و ليس كذلك، بل يصير سببا
لرفعة قدره و علو أمره عند الناس، لا سيما إذا عفا مع القدرة، و ترك العفو ينجر
إلى المعارضات و المجادلات و المرافعة إلى الحكام أو إلى إثارة الفتن الموجبة لتلف
النفوس و الأموال، و كل ذلك مورث للمذلة، و العزة الأخروية ظاهرة كما مر، و
التعافي
(3) عفو كل عن صاحبه.
(الحديث السادس)
(4): ضعيف على المشهور حسن عندي.
" الندامة على العفو أفضل"
(5) يحتمل وجوها: الأول: أن صاحب الندامة الأولى
أفضل من صاحب الندامة الثانية و إن كانت الندامة الأولى أخس و أرذل.
الثاني: أن يكون الكلام مبنيا على
التنزل، أي لو كان في العفو ندامة فهي
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 195
أفضل و أيسر إذ يمكن تداركه غالبا،
بخلاف الندامة على العقوبة فإنه لا يمكن تدارك العقوبة بعد وقوعها غالبا، فلا تزول
تلك الندامة، فيرجع إلى أن العفو أفضل فإنه يمكن إزالة الندامة بخلاف المبادرة بالعقوبة
فإنه لا يمكن إزالة ندامتها و تداركها.
الثالث: أن يقدر مضاف فيهما مثل
الدفع أو الرفع، أي رفع تلك الندامة أيسر من رفع هذه.
الرابع: أن يكون المعنى أن مجموع تلك
الحالتين أي العفو و الندم عليه أفضل من مجموع حالتي العقوبة و الندم عليها فلا
ينافي كون الندم على العقوبة ممدوحا و الندم على العفو مذموما، إذ العفو أفضل من
تلك الندم و العقوبة أقبح من هذا الندم و هذا وجه وجيه.
(الحديث السابع)
(1): مجهول.
و صرم النخل
(2) جزه، و الفعل كضرب، و في القاموس:
الكارة
(3) مقدار معلوم من الطعام، و يدل على استحباب
العفو عن السارق و ترك ما سرقه له.
(الحديث الثامن)
(4): موثق كالصحيح.
و أبو الحسن
(5) هو الرضا عليه السلام و يدل على أن نية
العفو تورث الغلبة على الخصم.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
196
(الحديث التاسع)
(1): كالسابق و يدل علي حسن العفو عن الكافر و
إن أراد القتل و تمسك بحجة كاذبة، و ظاهر أكثر الروايات أنه صلى الله عليه و آله و
سلم أكل منها و لكن بإعجازه لم يؤثر فيه عاجلا، و في بعض الروايات أن أثره بقي في
جسده صلى الله عليه و آله و سلم حتى توفي به بعد سنين، فصار شهيدا فجمع الله له
بذلك بين كرم النبوة و فضل الشهادة، و اختلف المخالفون في أنه صلى الله عليه و آله
و سلم هل قتلها أم لا؟ و اختلفت رواياتهم أيضا في ذلك، ففي أكثر روايات الفريقين
أنه عفا عنها و لم يقتلها، و قال بعضهم: أنه قتلها، و رووا عن ابن عباس أنه دفعها
إلى أولياء بشر و قد كان أكل من الشاة فمات فقتلوها، و به جمعوا بين الروايات.
(الحديث العاشر)
(2): ضعيف.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
197
باب كظم الغيظ
(1)
(الحديث الأول)
(2): حسن كالصحيح.
و ذل النفس
(3) بالكسر سهولتها و انقيادها، و هي ذلول و
بالضم مذلتها و ضعفها و هي ذليل، و
النعم
(4) المال الراعي و هو جمع لا واحد له من لفظه،
و أكثر ما يقع على الإبل، قال أبو عبيد: النعم الجمال فقط، و يؤنث و يذكر، و جمعه
نعمان و إنعام أيضا، و قيل: النعم الإبل خاصة، و الأنعام ذوات الخف و الظلف و هي
الإبل و البقر و الغنم، و قيل: تطلق الأنعام على هذه الثلاثة فإذا انفردت الإبل
فهي نعم، و إن انفردت البقر و الغنم لم تسم نعما كذا في المصباح و قال الكرماني:
حمر النعم بضم الحاء و سكون الميم أي أقواها و أجلدها، و قال الطيبي: أي الإبل
الحمر و هي أنفس أموال العرب، و قال في المغرب: حمر النعم كرائمها و هي مثل في كل
نفيس، و قيل: الحسن أحمر، انتهى و ربما يقرأ النعم بالكسر جمع نعمة، و الحمرة
كناية عن الحسن أي محاسن النعم و الأول أشهر و أظهر.
و الخبر يحتمل وجهين:"
الأول" أن يكون الذل بالضم و الباء للسببية أو المصاحبة أي لا أحب أن يكون لي
مع ذل نفسي أو بسببه نفائس أموال الدنيا أقتنيها أو أتصدق بها لأنه لم يكن للمال
عنده عليه السلام قدر و منزلة، و قال الطيبي: هو كناية عن خير الدنيا كله، و
الحاصل أني ما أرضى أن أذل نفسي و لي بذلك كرائم الدنيا،
مرآة
العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 198
و نبه عليه السلام بذكر تجرع الغيظ
عقيب هذا علي أن في التجرع العز و في المكافاة الذل كما مر و سيأتي، أو المعنى مع
أني لا أرضى بذل نفسي أحب ذلك لكثرة ثوابه و عظم فوائده و الأول أظهر.
الثاني: أن يكون الذل بالكسر و الباء
للعوض، أي لا أرضى أن يكون لي عوض انقياد نفسي و سهولتها و تواضعها، أو بالضم أيضا
أي المذلة الحاصلة عند إطاعة أمر الله بكظم الغيظ و العفو نفائس الأموال، و قيل:
التشبيه للتقريب إلى الأفهام و إلا قذرة من الآخرة خير من الأرض و ما فيها.
قوله عليه السلام: و ما تجرعت جرعة،
(1) الجرعة من الماء كاللقمة من الطعام و هو ما
يجرع مرة واحدة و الجمع جرع كغرفة و غرف، و تجرع الغصص مستعار منه و أصله الشرب من
عجلة و قيل: الشرب قليلا و إضافة الجرعة إلى الغيظ من قبيل لجين الماء، و
الغيظ
(2) صفة للنفس عند احتدادها موجبة لتحركها نحو
الانتقام، و في الكلام تمثيل.
و قال بعض الأفاضل: لا يقال الغيظ
أمر جبلي لا اختيار للعبد في حصوله فكيف يكلف برفعه؟ لأنا نقول: هو مكلف بتصفية
النفس على وجه لا يحركها أسباب الغيظ بسهولة.
و أقول: على تقدير حصول الغيظ بغير
اختيار فهو غير مكلف برفعه و لكنه بعدم العمل بمقتضاه فإنه باختياره غالبا و إن
سلب اختياره فلا يكون مكلفا.
(الحديث الثاني)
(3): صحيح.
" لمن عظيم البلاء"
(4) أي الامتحان و الاختبار فإن الله تعالى
ابتلى المؤمنين بمعاشرة
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
199
المخالفين و الظلمة و أرباب الأخلاق
السيئة و أمرهم بالصبر و كظم الغيظ و هذا من أشد البلاء و أشق الابتلاء.
(الحديث الثالث)
(1): كالسابق.
و الضمير لأحمد و لعل المراد
بأعداء النعم
(2) الحاسدون الذين يحبون زوال النعم عن غيرهم
فهم أعداء لنعم غيرهم يسعون في سلبها، أو الذين أنعم الله عليهم بنعم و هم يطغون و
يظلمون الناس فبذلك يتعرضون لزوال النعم عن أنفسهم فهم أعداء لنعم أنفسهم، و يحتمل
أن يكون المراد بالنعم الأئمة عليهم السلام
" من عصى الله فيك"
(3) بالحسد و ما يترتب عليه، أو بالظلم و الطغيان
و الأذى
" من أن تطيع الله فيه"
(4) بالعفو و كظم الغيظ و الصبر على أذاه كما
قال تعالى:" وَ الْكاظِمِينَ الْغَيْظَ" الآية و في صيغة التفضيل دلالة
على جواز المكافاة بشرط أن لا يتعدى كما قال سبحانه" فَمَنِ اعْتَدى
عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ" و غيره و
لكن العفو أفضل.
(الحديث الرابع)
(5): ضعيف على المشهور، و في النهاية
كظم الغيظ
(6) تجرعه و احتمال سببه و الصبر عليه، و منه
الحديث إذا تثاءب أحدكم فليكظم ما استطاع، أي ليحبسه ما أمكنه، و قال: الحزم ضبط
الرجل أمره و الحذر من فواته من قولهم حزمت الشيء أي شددته، و في القاموس
الحزم
(7): ضبط الأمر و الأخذ فيه بالثقة، و قال:
المظاظة
(8) شدة
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
200
الخلق و فظاظته و مظظته لمته. و
ماظظته مماظة و مماظا شاردته و نازعته، و الخصم لازمته و قال:
جامله
(1) لم يصفه الإخاء بل ماسحة بالجميل له و أحسن
عشرته،
قوله:
يسمن ذلك عندهم
(2)، كذا في أكثر النسخ من قولهم سمن فلان يسمن
من باب تعب، و في لغة من باب قرب إذا كثر لحمه و شحمه كناية عن العظمة و النمو و
يمكن أن يقرأ على بناء المفعول من الأفعال أو التفعيل، أي يفعل الله ذلك مرضيا
محبوبا عندهم، و في بعض النسخ يسمى على بناء المفعول من التسمية أي يذكر عندهم و
يحمدونكم بذلك، فيكون مرفوعا بالاستيناف البياني و
الحمل على الرقاب
(3) كناية عن التسلط و الاستيلاء.
(الحديث الخامس)
(4): مجهول.
" و قد قال الله"
(5) بيان لعز الآخرة لأنه تعالى قال في سورة آل
عمران:" وَ سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ عَرْضُهَا
السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي
السَّرَّاءِ وَ الضَّرَّاءِ وَ
الْكاظِمِينَ الْغَيْظَ
(6)" قال البيضاوي: الممسكين عليه، الكافين
عن إمضائه مع القدرة، من كظمت القربة إذا ملأتها و شددت رأسها، و عن النبي صلى
الله عليه و آله و سلم: من كظم غيظا و هو يقدر على إنفاذه ملأ الله قلبه أمنا و
إيمانا
" وَ الْعافِينَ عَنِ
النَّاسِ"
(7) التاركين عقوبة من استحقوا مؤاخذته
" وَ اللَّهُ يُحِبُّ
الْمُحْسِنِينَ"
(8) يحتمل الجنس و يدخل تحته هؤلاء، و العهد
فيكون إشارة إليهم، انتهى.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
201
فكفى عزا لهم في الآخرة بأن بشر الله
لهم بالجنة و حكم بأنها أعدت لهم و أنه تعالى يحبهم، و يحتمل أن يكون تعليلا لعز
الدنيا أيضا بأنهم يدخلون تحت هذه الآية و هذا شرف في الدنيا أيضا، أو تدل الآية
على أنهم من المحسنين و ممن يحبهم الله و محبوبة تعالى عزيز في الدنيا و الآخرة
كما قيل.
قوله عليه السلام: و أثابه الله مكان
غيظه ذلك
(1)، يحتمل أن يكون ذلك إشارة إلى المذكور في
الآية و يكون فيه تقدير أي مكان كظم غيظه أي لأجله أو عوضه، و يحتمل أن يكون ذلك
عطف بيان أو بدلا من غيظه، و يكون أثابه عطفا على زاده أي و يعطيه الله أيضا مع عز
الدنيا و الآخرة أجرا لأصل الغيظ لأنه من البلايا التي يصيب الإنسان بغير اختياره،
و يعطي الله لها عوضا على اصطلاح المتكلمين فالمراد بالثواب العوض لأن الثواب إنما
يكون علي الأمور الاختيارية بزعمهم، و الغيظ ليس باختياره و إن كان الكظم باختياره
فالجنة على الكظم، و الثواب أي العوض لأصل الغيظ، و قيل: المراد بالمكان المنزل
المخصوص لكل من أهل الجنة و إضافته من قبيل إضافة المعلول إلى العلة.
(الحديث السادس)
(2): مرسل.
" و لو شاء أن يمضيه"
(3) أي يعمل بمقتضى الغيظ
" أملأ الله قلبه يوم
القيامة"
(4) أي يعطيه من الثواب و الكرامة و الشفاعة و الدرجة
حتى يرضى رضا كاملا لا يتصور فوقه.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
202
(الحديث السابع)
(1): مجهول.
" أمنا و إيمانا"
(2) كان المراد بالإيمان التصديق الكامل بكرمه و
لطفه و رحمته، لكثرة ما يعطيه من الثواب فيرجع إلى الخبر السابق، و يحتمل الأعم
بأن يزيد الله تعالى في يقينه و إيمانه فيستحق مزيد الثواب و الكرامة، و لا دليل
على عدم جواز مزيد الإيمان في ذلك اليوم.
(الحديث الثامن)
(3): ضعيف على المشهور.
و في
قوله: فأحسنوا صحبته
(4)، إيماء إلى أن مع ترك هاتين الخصلتين يخاف
زوال الإسلام، فإن لم يحسن صحبته يهجر غالبا.
(الحديث التاسع)
(5): مجهول.
" تردها"
(6) هذا على التمثيل كان المغتاظ الذي يريد
إظهار غيظه فيدفعه و لا يظهره لمنافعه الدنيوية و الأخروية كمن شرب دواء بشعا لا
يقبله طبعه، و يريد
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
203
أن يدفعه فيتصور نفع هذا الدواء
فيرده، و كذا الصبر عند البلاء و ترك الجزع يشبه تلك الحالة، ففيهما استعارة
تمثيلية، و الفرق بين الكظم و الصبر أن الكظم فيما يقدر على الانتقام، و الصبر
فيما لا يقدر عليه.
(الحديث العاشر)
(1): مرسل.
" ما من شيء"
(2) ما نافية و من زائدة للتصريح بالتعميم، و هو
مرفوع محلا لأنه اسم" ما" و
أقر
(3) خبره، و اللام في
لعين
(4) للتعدية، قال الراغب: قرت عينه تقر سرت قال
تعالى:" كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها" و قيل: لمن يسر به قرة عين قال تعالى:
" قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَ
لَكَ" قيل: أصله من القر أي البرد، فقرت عينه قيل: معناه بردت فصحت، و قيل:
بل لأن للسرور دمعة قارة، و للحزن دمعة حارة، و كذلك يقال فيمن يدعي عليه: أسخن
الله عينه، و قيل: هو من القرار و المعنى أعطاه الله ما تسكن به عينه، فلا تطمح إلى
غيره.
قوله عليه السلام: عاقبتها صبر
(5)، كان المراد بالصبر الرضا بكظم الغيظ، و
العزم على ترك الانتقام، أو المعنى أنه يكظم الغيظ بشدة و مشقة إلى أن ينتهي إلى
درجة الصابرين، بحيث يكون موافقا لطبعه غير كاره له، و هذا من أفضل صفات المقربين،
و قيل: إشارة إلى أن كظم الغيظ إنما هو مع القدرة على الانتقام، و هو محبوب، و إن
انتهى إلى حد يصبر مع عدم القدرة علي الانتقام أيضا، و لا يخفى ما فيه.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
204
(الحديث الحادي عشر)
(1): حسن كالصحيح و قد مر بسند آخر.
(الحديث الثاني عشر)
(2): مجهول و قد مر.
(الحديث الثالث عشر)
(3): حسن.
و المراد
بترددها في قلبه
(4) إقدام القلب تارة إلى تجرعها لما فيه من
الأجر الجزيل و إصلاح النفس، و تارة إلى ترك تجرعها لما فيه من البشاعة و المرارة
" إما بصبر و إما بحلم"
(5) الفرق بينهما إما بأن الأول فيما إذا لم يكن
حليما فيتحلم و يصبر، و الثاني فيما إذا كان حليما و كان ذلك خلقه و كان عليه
يسرا، أو الأول فيما إذا لم يقدر على الانتقام فيصبر و لا يجزع، و الثاني فيما إذا
قدر و لم يفعل حلما و تكرما بناء على أن كظم الغيظ قد يستعمل فيما إذا لم يقدر علي
الانتقام أيضا، و قيل: الصبر هو أن لا يقول و لا يفعل شيئا أصلا، و الحلم أن يقول
أو يفعل شيئا يوجب رفع الفتنة و تسكين الغضب، فيكون الحلم بمعنى العقل و استعماله.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
205
باب الحلم
(1)
(الحديث الأول)
(2): مجهول.
و قال الراغب:
الحلم
(3) ضبط النفس عن هيجان الغضب، و قيل: الحلم
الأناءة و التثبت في الأمور، و هو يحصل من الاعتدال في القوة الغضبية و يمنع النفس
من الانفعال عن الواردات المكروهة المؤذية، و من آثاره عدم جزع النفس عند الأمور
الهائلة، و عدم طيشها في المؤاخذة و عدم صدور حركات غير منتظمة منها، و عدم إظهار
المزية على الغير، و عدم التهاون في حفظ ما يجب حفظه شرعا و عقلا، انتهى.
و يدل الحديث على اشتراط قبول
العبادة و كمالها بالحلم لأن السفيه يبادر بأمور قبيحة من الفحش و البذاء و الضرب
و الإيذاء بل الجراحة و القتل، و كل ذلك يفسد العبادة فإن الله إنما يتقبلها من
المتقين، و قيل: الحليم هنا العاقل و قد مر أن عبادة غير العاقل ليس بكامل و لما
كانت الصمت عما لا يعني من لوازم الحلم غالبا ذكره بعده، و لذلك قال النبي صلى
الله عليه و آله و سلم: إذا غضب أحدكم فليسكت.
و صوم الصمت
(4) كان في بني إسرائيل، و هو و إن نسخ في هذه
الأمة لكن كمال الصمت غير منسوخ فاستشهد عليه السلام على حسنه بكونه شرعا مقررا في
بني إسرائيل و لم يكونوا يعدون الرجل في العابدين المعروفين بالعبادة إلا بعد
المواظبة على صوم الصمت أو أصله عشر سنين.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
206
(الحديث الثاني)
(1): صحيح.
" خلط عمله"
(2) في مجالس الصدوق علمه و هو أظهر و أوفق
بسائر الأخبار، إذ العلم بدون العمل يصير غالبا سببا للتكبر و الترفع و السفاهة و
ترك الحلم" يجلس ليعلم" أي يختار مجلسا يحصل فيه التعلم و إنما يجلس له
لا للأغراض الفاسدة، و في المجالس بعده: و ينصت ليسلم أي من مفاسد النطق
" و ينطق ليفهم"
(3) أي إنما ينطق في تلك المجالس ليفهم ما أفاده
العالم إن لم يفهمه لا للمعارضة و الجدال و إظهار الفضل
" لا يحدث أمانته"
(4) أي السر الذي ائتمن عليه
" الأصدقاء"
(5) فكيف الأعداء
" و لا يكتم شهادته
الأعداء"
(6) أي لو كان عنده شهادة لعدو لا تحمله العداوة
على أن لا- يقول له أنا شاهد لك، أو لا يكتمه إذا استشهده، و طلب منه أداء
الشهادة، أو المراد للأعداء
" و لا يفعل شيئا من الحق"
(7) أي العبادات الحقة ليراه الناس، و فيه إشعار
بأنه لا يفعل شيئا إلا ما هو حق و لا يأتي ببدعة.
" و لا يتركه"
(8) أي الحق
" حياء"
(9) لأنه من الحياء المذموم و لا حياء في الحق
" إن زكي"
(10) أي أثنى عليه و مدح بما يفعله
" خاف مما يقولون"
(11) و في المجالس ما يقولون و كلاهما حسن، أي
خاف أن يصير قولهم سببا لإعجابه بنفسه و بعمله فتضيع أعماله، أو يكونوا في ذلك
كاذبين و رضي بكذبهم فيعاقب على ذلك، مع أنه لا ينفع تزكيتهم كما قال تعالى:"
فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ- بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ".
" مما لا يعلمون"
(12) أي من عيوبه و معاصيه التي صار عدم علمهم
بها سببا لتزكيتهم،
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
207
و قال أمير المؤمنين عليه السلام: و
إذا زكي أحد منهم خاف مما يقال فيه فيقول: أنا أعلم بنفسي من غيري، و ربي أعلم مني
بنفسي اللهم لا تؤاخذني بما يقولون و اجعلني أفضل مما يظنون، و اغفر لي ما لا
يعلمون
" لا يغره"
(1) تأكيد لما سبق أو استيناف بياني و كذا
الفقرة الثانية على اللف و النشر المرتب، أي لا يغتر بتزكية من لا يطلع على عيوبه
الخفية، فيعجب بقولهم، و يخشى إحصاء الله أو الملائكة ما عمله من المعاصي، و في
المجالس و يخشى إحصاء من قد علمه و كأنه أظهر.
(الحديث الثالث)
(2): موثق كالصحيح، و
قوله: أن يدركه
(3) بدل اشتمال للرجل.
(الحديث الرابع)
(4): ضعيف.
(الحديث الخامس)
(5): مرفوع.
و الجهل
(6) يطلق على خلاف العلم، و على ما هو مقتضاه من
السفاهة و صدور الأفعال المخالفة للعقل، و هنا يحتمل الوجهين كما أن الحلم يحتمل
مقابلهما و الثاني أظهر فيهما.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
208
(الحديث السادس)
(1): مرسل.
" كفى بالحلم ناصرا"
(2) لأنه بالحلم تندفع الخصومة، بل يصير الخصم
محبا له و هذا أحسن النصر، مع أن. الحليم يصير محبوبا عند الناس فالناس ينصرونه
على الخصوم و يعينونه في المكاره
" و قال: إذا لم تكن
حليما"
(3) أي بحسب الخلقة و الطبع
" فتحلم"
(4) أي أظهر الحلم تكلفا، و جاهد نفسك في ذلك
حتى يصير خلقا لك و يسهل عليك، مع أن تكلفه بمشقة أكثر ثوابا كما مر، و قال أمير
المؤمنين عليه السلام: إن لم تكن حليما فتحلم فإنه قل من تشبه بقوم إلا أوشك أن
يكون منهم.
(الحديث السابع)
(5): مجهول.
" تنام"
(6) مرفوع أو منصوب بتقدير أن، و هو بدل ذلك
" لك الليل"
(7) استئناف و يدل على جواز تكليف العبد بعدم
النوم في النهار إذا لم يستخدمه في الليل، و على استحباب عدم تنبيه المملوك عن
النوم و ترويحه، و هذا غاية المروة و الحلم.
(الحديث الثامن)
(8): ضعيف.
و العفيف
(9) المجتنب عن المحرمات لا سيما ما يتعلق منها
بالبطن و الفرج،
و المتعفف
(10) إما تأكيد كقولهم ليل أليل أو العفيف عن
المحرمات المتعفف عن المكروهات
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
209
لأنه أشد فيناسب هذا البناء، أو
العفيف في البطن المتعفف في الفرج أو العفيف عن الحرام المتعفف عن السؤال كما قال
تعالى:" يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ" أو
العفيف خلقا المتعفف تكلفا فإن العفة قد يكون عن بعض المحرمات خلقا و طبيعيا، و عن
بعضها تكلفا و لعل هذا أنسب.
قال الراغب: العفة حصول حالة للنفس
تمتنع بها عن غلبة الشهوة، و التعفف التعاطي لذلك بضرب من الممارسة و القهر، و
أصله الاقتصار على تناول الشيء القليل الجاري مجرى العفافة، و العفة أي البقية من
الشيء أو العفف و هو ثمر الأراك، و في النهاية فيه من يستعفف يعفه الله،
الاستعفاف طلب العفاف و التعفف و هو الكف عن الحرام و السؤال من الناس، أي من طلب
العفة و تكلفها أعطاه الله تعالى إياها.
(الحديث التاسع)
(1): مجهول.
" قلت و قلت"
(2) التكرار لبيان كثرة الشتم و قول الباطل، و
ربما يقرأ الثاني بالفاء، قال في النهاية يقال: فال الرجل في رأيه و فيل إذا لم
يصب فيه، و رجل فائل الرأي و فاله و فيل، انتهى و الظاهر أنه تصحيف.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
210
" فإن رد الحليم عليه"
(1) أي بعد حلمه عنه أولا ارتفع الملكان ساخطين
عليهما و يكلانهما إلى الملكين ليكتبا عليهما قولهما، و الرد بعد مبالغة الآخر في
الشتم و الفحش لا ينافي وصفه بالحلم لأنه قد حلم أولا و مراتب الحلم متفاوتة.
باب الصمت و حفظ اللسان
(2)
(الحديث الأول)
(3): صحيح.
و كان المراد
بالفقه
(4) العلم المقرون بالعمل، فلا ينافي كون مطلق
العلم من علاماته، أو المراد بالفقه التفكر و التدبر في الأمور، قال الراغب: الفقه
هو التوصل إلى علم غائب بعلم شاهد فهو أخص من العلم، قال تعالى:" فَما
لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً" بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ
لا يَفْقَهُونَ" إلى غير ذلك من الآيات، و الفقه العلم بأحكام الشريعة،
انتهى.
و قيل: أراد العلم فيما يقول و الصمت
عما لا يعلم أو يضر، و قيل: المراد بالعلم آثاره أعني إثبات الحق و إبطال الباطل،
و ترويج الدين و حل المشكلات، انتهى.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
211
و أقول: قد مر بسند آخر عنه عليه
السلام من علامات الفقيه الحلم و الصمت، و يظهر من بعض الأخبار أن الفقه هو العلم
الرباني المستقر في القلب الذي يظهر آثاره على الجوارح.
" إن الصمت باب من أبواب
الحكمة"
(1) أي سبب من أسباب حصول العلوم الربانية فإن
بالصمت يتم التفكر، و بالتفكر يحصل الحكمة أو هو سبب لإفاضة الحكم عليه من الله
سبحانه، أو الصمت عند العالم و عدم معارضته، و الإنصات إليه سبب لإفاضة الحكم منه،
أو الصمت دليل من دلائل وجود الحكمة في صاحبه
" يكسب المحبة"
(2) أي محبة الله أو محبة الخلق، لأن عمدة أسباب
العداوة بين الخلق الكلام من المنازعة و المجادلة و الشتم و الغيبة و النميمة و
المزاح، و في بعض النسخ يكسب الجنة، و في سائر نسخ الحديث المحبة
" أنه دليل على كل خير"
(3) أي وجود كل خير في صاحبه أو دليل لصاحبه إلى
كل خير.
(الحديث الثاني)
(4): صحيح.
و
الخرس
(5) بالضم جمع الأخرس، أي هم لا يتكلمون باللغو
و الباطل، و فيما لا يعلمون، و في مقام التقية خوفا على أئمتهم و أنفسهم و إخوانهم
فكلامهم قليل فكأنهم خرس.
(الحديث الثالث)
(6): مجهول.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
212
و ضمير
شفتيه
(1) للإمام عليه السلام و رجوعه إلى سالم بعيد
" تسلم"
(2) أي من معاصي اللسان و مفاسد الكلام
" و لا تحمل الناس على
رقابنا"
(3) أي لا تسلطهم علينا بترك التقية و إذاعة
أسرارنا.
(الحديث الرابع)
(4): موثق.
و قال الراغب
الوصية
(5) التقدم إلى الغير بما يعمل به مقترنا بوعظ،
من قولهم أرض واصية متصلة النبات، يقال: أوصاه و وصاه، و
القياد
(6) ككتاب حبل تقاد به الدابة و تمكين الناس من
القياد كناية عن تسلطهم و إعطاء حجة لهم على إيذائه و إهانته بترك التقية، و نسبة
الإذلال إلى الرقبة لظهور الذل فيها أكثر من سائر الأعضاء، و فيه ترشيح للاستعارة
السابقة لأن القياد يشد على الرقبة.
(الحديث الخامس)
(7): حسن.
" أنل مما أنالك الله"
(8) أي أعط المحتاجين مما أعطاك الله تعالى، قال
الجوهري:
نال خيرا ينال نيلا أي أصاب، و أنا
له غيره و الأمر فيه نل بفتح النون
" للأخرق"
(9) أي الجاهل بمصالح نفسه، في القاموس: صنع
إليه معروفا كمنع صنعا بالضم و صنع به صنيعا قبيحا فعله، و الشيء صنعا بالفتح و
الضم عمله، و صنعة الفرس حسن القيام عليه، و أصنع أعان آخر و الأخرق تعلم و أحكم و
اصطنع عنده صنيعة اتخذها، و
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
213
في النهاية: الخرق بالضم الجهل و
الحمق، و قد خرق يخرق خرقا فهو أخرق، و الاسم الخرق بالضم، و منه الحديث تعين
ضائعا أو تصنع لأخرق، أي جاهل بما يجب أن يعمله و لم يكن في يده صنعة يكتسب بها،
انتهى.
و الظاهر أن
" يعني"
(1) من كلام الصادق عليه السلام و يحتمل كونه
كلام بعض الرواة أي ليس المراد نفعه بمال و نحوه، بل برأي و مشورة ينفعه، و فيه حث
على إرشاد كل من لم يعلم أمرا من مصالح الدين و الدنيا.
" فإن كنت أخرق"
(2) أي أشد خرقا و إن كان نادرا
" فأصمت"
(3) على بناء المجرد أو الأفعال، و في القاموس:
الصمت و الصموت و الصمات السكوت كالأصمات و التصميت و أصمته و صمته أسكته لا زمان
متعديان، و المراد بالخير ما يورث ثوابا في الآخرة أو نفعا في الدنيا بلا مضرة أحد
فالمباح غالبا مما ينبغي السكوت عنه، و الأمر لمطلق الطلب الشامل للوجوب و
الرجحان.
و اختلف في المباح هل يكتب أم لا؟
نقل عن ابن العباس أنه لا يكتب و لا يجازي عليه و الأظهر أنه يكتب لعموم قوله
تعالى:" ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ" و
قوله سبحانه:" كُلُّ صَغِيرٍ وَ كَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ" و لدلالة كثير من الروايات
عليه، و قد أوردناها في كتابنا الكبير، و عدم المجازاة لا يدل على عدم الكتابة إذ
لعل الكتابة لغرض آخر كالتأسف و التحسر على تضييع العمر فيما لا ينفع مع القدرة
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
214
على فعل ما يوجب الثواب، و يدل الخبر
على أن كمال خصلة واحدة من تلك الخصال يوجب الجنة، و يحتمل اشتراطها بترك الكبائر
أو نحوه، أو يكون الجر إليها كناية عن القرب منها، و قيل: يمكن أن يراد أن الخصلة
الواحدة تجر إلى أسباب الدخول في الجنة و هي الخصال الأخر، فإن الخير بعضه يفضي إلى
بعض.
(الحديث السادس)
(1): ضعيف على المشهور.
و يدل على أن السكوت أفضل من الكلام،
و كأنه مبني على الغالب و إلا فظاهر أن الكلام خير من السكوت في كثير من الموارد،
بل يجب الكلام و يحرم السكوت عند إظهار أصول الدين و فروعه و الأمر بالمعروف و
النهي عن المنكر، و يستحب في المواعظ و النصائح و إرشاد الناس إلى مصالحهم و ترويج
العلوم الدينية و الشفاعة للمؤمنين و قضاء حوائجهم و أمثال ذلك.
فتلك الأخبار مخصوصة بغير تلك
الموارد، أو بأحوال عامة الخلق فإن غالب كلامهم إنما هو فيما لا يعنيهم أو هو
مقصور على المباحات كما روى الطبرسي في كتاب الاحتجاج أنه سئل علي بن الحسين عليه
السلام عن الكلام و السكوت أيهما أفضل؟
فقال عليه السلام: لكل واحد منهما
آفات فإذا سلما من الآفات فالكلام أفضل من السكوت، قيل: كيف ذلك يا بن رسول الله؟
قال: لأن الله عز و جل ما بعث الأنبياء و الأوصياء بالسكوت إنما بعثهم بالكلام، و
لا استحقت الجنة بالسكوت، و لا استوجبت ولاية الله بالسكوت، و لا توفيت النار
بالسكوت، إنما ذلك كله بالكلام، ما كنت لأعدل القمر بالشمس إنك تصف السكوت بالكلام
و لست تصف فضل الكلام بالسكوت.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
215
و قال رسول الله صلى الله عليه و آله
و سلم: من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، و قال أمير- المؤمنين عليه السلام:
جمع الخير كله في ثلاث خصال: النظر و السكوت و الكلام فكل نظر ليس فيه اعتبار فهو
سهو، و كل سكوت ليس فيه فكرة فهو سهو، و كل كلام ليس فيه ذكر فهو لغو، و قال أبو
جعفر عليه السلام: إن داود قال لسليمان عليه السلام يا بني عليك بطول الصمت إلا من
خير، فإن الندامة على طول الصمت مرة واحدة خير من الندامة على كثرة الكلام مرات.
و قال الصادق عليه السلام: النوم
راحة للجسد، و النطق راحة للروح، و السكوت راحة للعقل.
و قال عليه السلام: لا تتكلم بما لا
يعنيك و دع كثيرا من الكلام فيما يعنيك.
و في نهج البلاغة قال أمير المؤمنين
عليه السلام: لا خير في الصمت عن الحكم كما أنه لا خير في القول بالجهل.
و قال عليه السلام: من كثر كلامه كثر
خطاؤه، و من كثر خطاؤه قل حياؤه و من قل حياؤه قل ورعه، و من قل ورعه مات قلبه، و
من مات قلبه دخل النار.
و قال عليه السلام: من علم أن كلامه
من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه.
و قال عليه السلام: تكلموا تعرفوا
فإن المرء مخبوء تحت لسانه.
و قد مر في كتاب العقل في حديث هشام
أن أمير المؤمنين عليه السلام كان يقول إن من علامة العاقل أن يكون فيه ثلاث خصال:
يجيب إذا سئل و ينطق إذا عجز القوم عن الكلام، و يشير بالرأي الذي فيه صلاح أهله،
فمن لم يكن فيه من هذه الخصال الثلاث شيء فهو أحمق.
أقول: و قد أوردت الأخبار الكثيرة في
ذلك في كتاب البحار و إنما أوردت قليلا منها هنا لتعرف موقع حسن الكلام و موضع فضل
السكوت و تجمع به بين الأخبار.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
216
(الحديث السابع)
(1): مرفوع.
" فإنها"
(2) أي الإمساك و التأنيث بتأويل الخصلة أو
الفعلة أو الصفة أي صفته أنه صدقة أو باعتبار تأنيث الخبر و تشبيه الإمساك بالصدقة
على النفس باعتبار أنه ينفعها في الدنيا و الآخرة، كما أن الصدقة تنفع الفقير و
باعتبار أنه معط يدفع عنه البلايا و يوجب قربه من الحق كالصدقة فالتشبيه كامل من
الجهتين.
" و لا يعرف عبد. إلخ"
(3) أشار عليه السلام بذلك إلى أن الإيمان لا
يكمل إلا باستقامة اللسان على الحق و خزنه عن الباطل كالغيبة و النميمة و القذف و
الشتم و الكذب و الزور و الفتوى بغير الحق و القول بالرأي و أشباهها من الأمور
التي نهى الشارع عنها، و ذلك لأن الإيمان عبارة عن التصديق بالله و برسوله و
الاعتقاد بحقية جميع ما جاء به النبي صلى الله عليه و آله و سلم و هو يستلزم
استقامة اللسان و هي إقراره بالشهادتين و جميع العقائد الحقة و لوازمها و إمساكه
عما لا ينبغي، و من البين أن الملزوم لا يستقيم بدون استقامة اللازم، و قد أشار
إليه النبي صلى الله عليه و آله و سلم بقوله: لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم
قلبه، و لا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه، و أيضا كلما يتناوله اللسان من الأباطيل
و الأكاذيب تدخل مفهوماتها في القلب، و هو ينافي استقرار حقيقة الإيمان فيه.
(الحديث الثامن)
(4): حسن موثق.
و الآية في سورة النساء هكذا: أَ
لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَ
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
217
أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا
الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ
النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَ قالُوا رَبَّنا لِمَ
كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ، قُلْ
مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَ لا تُظْلَمُونَ
فَتِيلًا و قال المفسرون: قيل لهم أي بمكة
" كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ"
(1) أي أمسكوا عن قتال الكفار فإني لم أومر
بقتالهم" فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ" بالمدينة خافوا من
الناس و قتلهم إياهم كخشية الله من عقابه" أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَ قالُوا
رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ
قَرِيبٍ" و هو أن نموت بآجالنا و كذا في تفسير علي بن إبراهيم أيضا.
و في بعض الأخبار أن ذلك أمر لشيعتنا
بالتقية إلى زمن القائم عليه السلام كما قال الصادق عليه السلام: أ ما ترضون أن
تقيموا الصلاة و تؤتوا الزكاة و تكفوا و تدخلوا الجنة، و عن الباقر عليه السلام:
أنتم و الله أهل هذه الآية، و في بعض الأخبار" كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ" مع
الحسن عليه السلام" كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ" مع الحسين عليه
السلام" إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ" إلى خروج القائم عليه السلام فإن معه الظفر،
فهذا الخبر إما تفسير لظهر الآية كما ذكرنا أولا أو لبطنها بتنزيل الآية على
الشيعة في زمن التقية و هذا أنسب بكف الألسن تقية فإن أحوال أمير المؤمنين صلوات
الله عليه في أول أمره و آخره كان شبيها بأحوال الرسول في أول الأمر حين كونه بمكة
و ترك القتال لعدم الأعوان و أمره في المدينة بالجهاد لوجود الأنصار، و كذا حال
الحسن عليه السلام في الصلح و الهدنة و حال الحسين عليه السلام عند وجود الأنصار
ظاهرا و حال سائر الأئمة عليهم السلام في ترك القتال و التقية مع حال القائم عليه
السلام، فالآية و إن نزلت في حال الرسول صلى الله عليه و آله و سلم فهي شاملة لتلك
الأحوال أيضا لمشابهتها لها و اشتراك العلل بينها و بينها.
و أما تفسيره عليه السلام كف الأيدي
بكف الألسن على الوجهين يحتمل وجوها
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
218
الأول: أن يكون المعنى أن المراد بكف
الأيدي عن القتال الكف عنها و عما يوجب بسطها بسط الأيدي و هي الألسنة فإن مع عدم
كف الألسنة ينتهي الأمر إلى القتال شاءوا أم أبوا، فالنهي عن بسط الأيدي يستلزم
النهي عن بسط الألسنة فالنهي عن القتال في زمن الهدنة يستلزم الأمر بالتقية.
الثاني: أن يكون المراد بكف الأيدي
كف الألسن إطلاقا لاسم المسبب على السبب أو الملزوم على اللازم.
الثالث: أن يكون المراد بالأيدي في
الآية الألسن لتشابههما في القوة و كونهما آلة المجادلة و هذا أبعد الوجوه كما أن
الأول أقربها.
(الحديث التاسع)
(1): مرفوع.
" نجاة المؤمن"
(2) أي من مهالك الدنيا و الآخرة
" حفظ لسانه"
(3) الحمل علي المبالغة و في بعض النسخ من حفظ
لسانه أي هو من أعظم أسباب النجاة فكأنها منحصرة فيه، و الحاصل أنه لا ينجو إلا من
حفظ لسانه.
(الحديث العاشر)
(4): حسن.
" يا مبتغي العلم"
(5) أي يا طالبه، و فيه ترغيب على التكلم بما
ينفع في الآخرة أو في الدنيا أيضا إذا لم يضر بالآخرة
" فاختم على لسانك"
(6) أي إذا كان اللسان مفتاحا للشر فاخزنه حتى
لا يجري عليه ما يوجب خسارك و بوارك، كما أن ذهبك و فضتك تخزنهما لتوهم صلاح عاجل
فيهما فاللسان أولى بذلك، فإنه مادة لصلاح الدنيا و الآخرة، و فساده يوجب فساد
الدارين، و في القاموس:
الورق
(7) مثلثة و ككتف
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
219
و جبل، الدراهم المضروبة و الجمع
أوراق و وراق، و في المصباح: و منهم من يقول هو النقرة مضروبة أو غير مضروبة، و
قال الفارابي: الورق المال من الدراهم.
و في نهج البلاغة قال أمير المؤمنين
عليه السلام: الكلام في وثاقك ما لم تتكلم به فإذا تكلمت به صرت في وثاقه، فاخزن
لسانك كما تخزن ذهبك و ورقك فرب كلمة سلبت نعمة.
(الحديث الحادي عشر)
(1): ضعيف.
و قساوة القلب
(2) غلظه و شدته و صلابته بحيث يتأبى عن قبول
الحق كالحجر الصلب يمر عليه الماء و لا يقف فيه، و فيه دلالة على أن كثرة الكلام
في الأمور المباحة يوجب قساوة القلب، و أما الكلام في الأمور الباطلة فقليله
كالكثير في إيجاب القساوة و النهي عنه، و كان في الحديث إشارة إلى قوله
سبحانه:" أَ فَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ
مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي
ضَلالٍ مُبِينٍ" قال البيضاوي: الآية في حمزة و على و أبي لهب و ولده.
(الحديث الثاني عشر)
(3): كالسابق.
و في النهاية في حديث الخدري: إذا
أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
220
اللسان أي تذل و تخضع، و التكفير هو
أن ينحني الإنسان و يطأطئ رأسه قريبا من الركوع كما يفعل من يريد تعظيم صاحبه و
قال:
نشدتك الله
(1) و الرحم أي سألتك بالله و بالرحم، يقال:
نشدتك الله و أنشدك الله و بالله و ناشدتك الله و بالله، أي سألتك و أقسمت عليك و
تعديته إلى مفعولين إما لأنه بمنزلة دعوت، أو لأنهم ضمنوه معنى ذكرت فأما أنشدتك
بالله فخطأ، انتهى.
و كان الكلام بلسان الحال، و فيه
استعارة تمثيلية.
قوله:" أن نعذب"
(2) كان في الكلام تقديرا أي تكف نفسك من
أن نعذب فيك
(3) أي بسببك.
(الحديث الثالث عشر)
(4): صحيح.
قوله عليه السلام: يشرف
(5) كان إشرافه كناية عن تسلطه عليها و عليها و
كونها تحت حكمه
و الله
(6) منصوب بتقدير اتق أو أحذر، و التكرار
للتأكيد، و الحصر في
قوله: إنما نثاب،
(7) ادعائي بناء على الغالب، و الحاصل أن العمدة
في ثوابنا و عقابنا أنت.
(الحديث الرابع عشر)
(8): مرفوع.
" جاء رجل"
(9) في روايات العامة أن الرجل كان معاذ بن جبل،
و
ويح
(10) كأنه
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
221
منصوب على النداء كما يصرح به كثير،
أورد للتعجب من حاله كيف استصغر ما أوصاه به و لم يكتف و طلب غيره بتكرار السؤال،
و في النهاية ويح كلمة ترحم و توجع، يقال لمن وقع في هلكة لا يستحقها، و قد يقال
بمعنى المدح و التعجب و هي منصوبة على المصدر، و قال في الحديث: و
هل يكب الناس على مناخر هم في النار
إلا حصائد ألسنتهم،
(1) أي ما يقطعونه من الكلام الذي لا خير فيه،
واحدتها حصيدة تشبيها بما يحصد من الزرع، و تشبيها للسان و ما يقتطعه من القول بحد
المنجل الذي يحصد به، و في القاموس كبه: قلبه و صرعه كأكبه و كبكبه فأكب فهو لازم
متعد و قال: المنخر بفتح الميم و الخاء و بكسرهما و ضمهما و كمجلس و مملول: الأنف،
انتهى.
و الحصر كما مر و كأنه إشارة إلى
قوله تعالى:" فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَ الْغاوُونَ" و قد وردت أخبار
بأن الغاوين قوم وصفوا عدلا ثم خالفوه إلى غيره.
(الحديث الخامس عشر)
(2): مرسل.
" من لم يحسب"
(3) من باب نصر من الحساب أو كنعم من الحسبان
بمعنى الظن و الأول أظهر، و هذا رد علي ما يسبق إلى أوهام أكثر الخلق، من الخواص و
العوام أن الكلام ليس مما يترتب عليه عقاب فيجترون على أنواع الكلام بلا تأمل و
تفكر مع أن أكثر أنواع الكفر و المعاصي من جهة اللسان لأن اللسان له تصرف في كل
موجود و موهوم و معدوم، و له يد في العقليات و الخياليات و المسموعات و المشمومات
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
222
و المبصرات و المذوقات و الملموسات،
فصاحب هذا الحسبان الباطل لا يبالي بالكلام في أباطيل هذه الأمور و أكاذيبها
فيجتمع عليه من كل وجه خطيئة فتكثر خطاياه، و أما غير اللسان فخطاياه قليلة
بالنسبة إليه، فإن خطيئة السمع ليست إلا المسموعات و خطيئة البصر ليست إلا
المبصرات، و قس عليهما سائر الجوارح، و المراد
بحضور عذابه
(1) حضور أسبابه، و قيل: إنما حضر عذابه لأنه
أكثر ما يكون يندم على بعض ما قاله و لا ينفعه الندم، و لأنه قلما يكون كلام لا
يكون موردا للاعتراض و لا سيما إذا كثر.
(الحديث السادس عشر)
(2): ضعيف على المشهور.
" خرجت منك كلمة"
(3) أي من الفتاوى الباطلة أو الأعم منها و من
أحكام الملوك و غيرهم، و سائر ما يكون سببا لأمثال ذلك، و
قوله: من جوارحك
(4) إما بتقدير مضاف أي جوارح صاحبك، أو الإضافة
للمجاورة و الملابسة أو للإشارة إلى أن سائر الجوارح تابعة له و هو رئيسها، و كان
الكلام مبني على التمثيل و السؤال و الجواب بلسان الحال، و يحتمل أن يكون الله
تعالى يعطيه حياة و شعورا و قدرة على الكلام كما قيل في شهادة الجوارح.
(الحديث السابع عشر)
(5): كالسابق.
و
الشؤم
(6) أصله الهمز و قد يخفف، بل الغالب عليه
التخفيف لكن الجوهري و
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 223
الفيروزآبادي لم يذكراه إلا مهموزا
قال الجوهري: الشؤم نقيض اليمن، يقال:
رجل مشوم و مشؤوم، و قد شام فلان على
قومه يشأمهم فهو شائم إذا جر عليهم الشؤم و قد شئم عليهم فهو مشؤوم إذا صار شؤما
عليهم، انتهى.
و قال في النهاية: فيه إن كان الشؤم
ففي ثلاث المرأة و الدار و الفرس، أي إن كان ما يكره و يخاف عاقبته ثم قال: و
الواو في الشؤم همزة و لكنها خففت فصارت واوا غلب عليها التخفيف حتى لم ينطق بها
مهموزة، و الشؤم ضد اليمن يقال: تشأمت بالشيء و تيمنت به.
و أقول: الحديث الذي أورده مروي في
طرقنا أيضا، فالحصر في هذا الخبر بالنسبة إلى أعضاء الإنسان، و كثرة شؤم اللسان
لكثرة المضرات و المفاسد المترتبة عليها ظاهرة قد سبق القول فيها.
(الحديث الثامن عشر)
(1): ضعيف على المشهور معتبر، لتعاضد السندين مع
عدم ضرر ضعف الرجلين لكونهما من مشايخ إجازة كتاب الوشاء و هو أشهر من البيضاء.
" صمت قبل ذلك"
(2) أي عما لا ينبغي و تلك المدة ليصير الصمت
ملكة له ثم كان يشتغل بالعبادة و الاجتهاد فيها لتقع العبادة صافية خالية عن
المفاسد.
و أقول: يحتمل أن يكون الصمت في تلك
المدة للتفكر في المعارف اليقينية و العلوم الدينية حتى يكمل في العلم و يستحق لتعليم
العباد و إرشادهم و تكميل نفسه بالأعمال الصالحة أيضا فيأمن عن الخطإ و الخطل في
القول و العمل، ثم يشرع في
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
224
أنواع العبادات التي منها هداية
الخلق و تعليمهم و تكميلهم كما مر عن أمير المؤمنين عليه السلام: كل سكوت ليس فيه
فكرة فهو سهو، و قال الكاظم عليه السلام: دليل العقل التفكر و دليل التفكر الصمت و
مثله كثير، و هذا وجه حسن لم يسبقني إليه فطن و إن كان بفضل المفيض المالك، و جل
ما أوردته في تلك التعليقات كذلك.
(الحديث التاسع عشر)
(1): ضعيف.
و
الغفار
(2) ككتاب حي من العرب.
" من رأى موضع كلامه من
عمله"
(3) أي يعلم أن كلامه أكثر من سائر أعماله، أو
يعلم أنه محسوب من أعماله و مجازي به كما مر و الأول هنا أظهر، و يمكن إدراج
المعنيين فيه
" فيما يعنيه"
(4) أي يهمه و ينفعه.
(الحديث العشرون)
(5): موثق.
" في حكم آل داود"
(6) أي الزبور أو الأعم منه و مما صدر عنه عليه
السلام أو عنهم من الحكم
" على العاقل"
(7) أي يجب أو يلزم عليه
" أن يكون عارفا بزمانه"
(8) أي بأهل زمانه ليميز بين صديقه و عدوه
الواقعيين و بين من يضله و من يهديه، و بين من تجب متابعته و من تجب مفارقته و
مجانبته، فلا ينخدع منهم في دينه و دنياه، و يعلم موضع التقية و العشرة و العزلة و
الحب و البغض، و قد مر في حديث:
و العالم بزمانه لا تهجم عليه
اللوابس، و في حديث آخر: عارفا بأهل زمانه مستوحشا
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
225
من أوثق إخوانه، و في وصية أمير
المؤمنين للحسن صلوات الله عليهما: يا بني إنه لا بد للعاقل من أن ينظر في شأنه
فليحفظ لسانه و ليعرف أهل زمانه.
قوله عليه السلام: مقبلا على شأنه
(1) أي يكون دائما مشتغلا بإصلاح نفسه و
محاسبتها و معالجة أدوائها و تحصيل ما ينفعها و الاجتناب عما يرديها و يضرها و لا
يصرف شيئا من عمره فيما لا يعنيه حافظا للسانه من اللغو و الباطل كما قال أمير
المؤمنين عليه السلام: إذا تم العقل نقص الكلام.
(الحديث الحادي و العشرون)
(2): مرسل.
" يكتب محسنا"
(3) إما لإيمانه أو لسكوته فإنه من الأعمال
الصالحة كما ذكره الناظرون في هذا الخبر.
و أقول: الأول عندي أظهر و إن لم
يتفطن به الأكثر
لقوله عليه السلام: فإذا تكلم كتب
محسنا أو مسيئا
(4) لأنه على الاحتمال الثاني يبطل الحصر لأنه
يمكن أن يتكلم بالمباح فلا يكون محسنا و لا مسيئا إلا أن يعم المسيء تجوزا بحيث
يشمل غير المحسن مطلقا و هو بعيد.
فإن قيل: يرد على ما اخترته أن في
حال التكلم بالحرام ثواب الإيمان حاصل له فيكتب محسنا و مسيئا معا فلا يصح
الترديد.
قلت: يمكن أن يكون المراد بالمحسن
المحسن من غير إساءة كما هو الظاهر فتصح المقابلة مع أن بقاء ثواب استمرار الإيمان
مع فعل المعصية في محل المنع، و يومئ إلى عدمه قولهم عليه السلام: لا يزني الزاني
حين يزني و هو مؤمن و أمثاله مما قد مر بعضها، و يمكن أن يكون هذا أحد محامل هذه
الأخبار، و أحد علل ما
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
226
ورد أن نوم العالم عبادة أي هو في
حال النوم في حكم العبادة لاستمرار ثواب عمله و إيمانه، و عدم صدور شيء منه يبطله
في تلك الحالة.
باب المداراة
(1)
(الحديث الأول)
(2): ضعيف على المشهور.
و" ثلاث"
(3) أي ثلاث خصال
" لم يتم له عمل"
(4) أي لم يكمل و لم يقبل منه عمل من العبادات
أو الأعم منها و من أمور المعاش و معاشرة الخلق فتأثير الورع في قبول الطاعات و
كمالها ظاهر لأنه إنما يتقبل الله من المتقين، و كذا الأخيران لأن تركهما قد ينتهي
إلى ارتكاب المعاصي و يحتمل أن يكونا لأمور المعاش بناء على تعميم العمل، و كان
الفرق بين الخلق و الحلم أن الخلق وجودي و هو فعل ما يوجب تطييب قلوب الناس و
رضاهم، و الحلم عدمي و هو ترك المعارضة و الانتقام في الإساءة، و قال في النهاية:
فيه رأس العقل بعد الإيمان مداراة الناس، المداراة غير مهموزة ملائنة الناس و حسن
صحبتهم و احتمالهم لئلا ينفروا عنك و قد تهمز.
(الحديث الثاني)
(5): مجهول:
و المداراة
(6) إما مخصوصة بالمؤمنين أو مع المشركين أيضا
مع عدم الاضطرار إلى المقاتلة و المحاربة، كما كان دأبه صلى الله عليه و آله و سلم
فإنه كان يداريهم ما أمكن، فإذا
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
227
لم يكن ينفع الوعظ و المداراة كان
يقاتلهم ليسلموا، و بعد الظفر عليهم أيضا كان يعفو و يصفح و لا ينتقم منهم، أو كان
ذلك قبل أن يؤمر صلى الله عليه و آله و سلم بالجهاد.
(الحديث الثالث)
(1): حسن.
" فيما ناجى الله"
(2) يقال: ناجاه مناجاة و نجاء ساتره، و المراد
هنا وحيه إليه بلا توسط ملك، و إضافة المكتوم إلى السر من إضافة الصفة إلى الموصوف
للمبالغة فإن السر هو الحديث المكتوم في النفس، فكان المراد بالسريرة هنا القلب،
لأنه محل السر تسمية للمحل باسم الحال قال الجوهري: السر الذي يكتم و الجمع
الأسرار، و السريرة مثله و الجمع السرائر، انتهى.
و يحتمل أن يكون بمعناه أي في جملة
ما تسره و تكتمه من أسرارك، و كان المراد بالسر هنا ما أمر بإخفائه عنهم من العلوم
التي ألقاه إليه من عدم إيمانهم مثلا، و انتهاء أمرهم إلى الهلاك و الفرق، أو
الحكم بكون أسلافهم في النار، كما أن فرعون لما سأله عليه السلام عن أحوالهم من
السعادة و الشقاوة بقوله:" فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى" لم يحكم
بشقاوتهم و كونهم في النار، بل أجمل و" قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ
لا يَضِلُّ رَبِّي وَ لا يَنْسى" على بعض الوجوه المذكورة في الآية أو بعض
الأسرار التي لم يكونوا قابلين لفهمها" و أظهر في علانيتك المداراة عني"
كان التعدية بعن لتضمين معنى الدفع أو يكون مهموزا من الدرء بمعنى الدفع أو لأن
أصله لما كان من الدرء بمعنى الدفع عدي بها، و النسبة إلى المتكلم لبيان أن الضرر
الواصل إليك كأنه واصل إلى فالمراد المداراة عنك،
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
228
و يحتمل أن يكون عني متعلقا بأظهر أي
أظهر من قبلي المداراة كما قال تعالى:
" فَقُولا لَهُ قَوْلًا
لَيِّناً".
" و لا تستسب لي عندهم"
(1) أي لا تظهر عندهم من مكتوم سري ما يصير سببا
لسبهم و شتمهم لي أو لك فيكون بمنزلة سبي كما ورد هذا في قوله تعالى:" وَ لا
تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً
بِغَيْرِ عِلْمٍ" فقد روى العياشي عن الصادق عليه السلام أنه سئل عن هذه
الآية؟ فقال: أ رأيت أحدا يسب الله؟ فقيل: لا، و كيف؟ قال: من سب ولي الله فقد سب
الله؟ و في غيره عنه عليه السلام قال: لا تسبوهم فإنهم يسبوكم، و من سب ولي الله
فقد سب الله.
" فتشرك عدوك"
(2) يدل على أن السبب للفعل كالفاعل له.
(الحديث الرابع)
(3): صحيح على الظاهر لأن في حمزة كلام
" بأداء الفرائض"
(4) أي الصلوات الخمس أو كلما أمر به في القرآن.
(الحديث الخامس)
(5): ضعيف.
و كان المراد
بالمداراة
(6) هنا التغافل و الحلم عنهم و عدم معارضتهم، و
بالرفق
(7) الإحسان إليهم و حسن معاشرتهم، و يحتمل أن
يكون مرجعهما إلى أمر واحد،
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
229
و يكون تفننا في العبارة، فالغرض
بيان أن المداراة و الرفق بالعباد لهما مدخل عظيم في صلاح أمور الدين و تعيش
الدنيا، و الثاني ظاهر و الأول لأنه إطاعة لأمر الشارع حيث أمر به و موجب لهداية
الخلق و إرشادهم بأحسن الوجوه كما قال تعالى:" ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ
بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ
أَحْسَنُ" و
العيش
(1) الحياة و المراد هنا التعيش الحسن برفاهية
" خالطوا الأبرار سرا"
(2) أي أحبوهم بقلوبكم أو أفشوا إليهم أسراركم
بخلاف الفجار فإنه إنما يحسن مخالطتهم في الظاهر للتقية و المداراة، و لا يجوز
مودتهم قلبا من حيث فسقهم و ليسوا محالا لأسرار المؤمنين، و بين عليه السلام ذلك
بقوله: و لا تميلوا عليهم،
(3) على بناء المجرد، و التعدية بعلى للضرر أي
لا تعارضوهم إرادة للغلبة، قال في المصباح: مال الحاكم في حكمه ميلا جار و ظلم فهو
مائل، و مال عليهم الدهر أصابهم بجوانحه.
و في النهاية: فيه لا يهلك أمتي حتى
يكون بينهم التمايل و التمايز، أي لا يكون لهم سلطان يكف الناس عن التظالم فيميل
بعضهم على بعض بالأذى و الحيف، انتهى.
و قيل: هو على بناء الأفعال أو
التفعيل أي لا تعارضوهم لتميلوهم من مذهب إلى مذهب آخر و هو تكلف و إن كان أنسب
بما بعده، و في القاموس: رجل
أبله
(4) بين البله و البلاهة: غافل أو عن الشر أو
أحمق لا تمييز له، و الميت الداء، أي من شره ميت، و الحسن الخلق القليل الفطنة
لمداق الأمور أو من غلبة سلامة الصدر.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
230
و في المصباح:
صبرت
(1) صبرا من باب ضرب حبست النفس عن الجزع و صبرت
زيدا يستعمل لازما و متعديا، و صبرته بالتثقيل حملته على الصبر بوعد الأجر أو قلت
له: اصبر، انتهى.
و الحاصل أنه لفساد الزمان و غلبة
أهل الباطل يختار العزلة، و الخمول، و لا يعارض الناس و لا يتعرض لهم، و يتحمل
منهم أنواع الأذى حتى يظن الناس أن ذلك لبلاهته و قلة عقله.
(الحديث السادس)
(2): ضعيف على المشهور.
قوله عليه السلام: فأنفوا من قريش،
(3) كذا في أكثر النسخ و كأنه على بناء الأفعال
مشتقا من النفي بمعنى الانتفاء فإن النفي يكون لازما و متعديا لكن هذا البناء لم
يأت في اللغة أو هو على بناء المفعول من أنف، من قولهم أنفه يأنفه و يأنفه ضرب
أنفه، فيدل على النفي مع مبالغة فيه و هو أظهر و أبلغ، و قيل: كأنه صيغة مجهول من
الأنفة بمعنى الاستنكاف، إذ لم يأت الإنفاء بمعنى النفي، انتهى.
و أقول: هذا أيضا لا يستقيم لأن
الفساد مشترك إذ لم يأت أنف بهذا المعنى على بناء المجهول فإنه يقال: أنف منه كفرح
أنفا و أنفة استنكف، و في كثير من النسخ فألقوا أي أخرجوا و أطرحوا منهم، و في
الخصال: فنفوا و هو أظهر.
ثم أشار عليه السلام مؤكدا بالقسم
إلى أن ذلك الإلقاء كان باعتبار سوء معاشرتهم و فوات حسب أنفسهم و مأثرها لا
باعتبار قدح في نسبهم أو في حسب آبائهم و مآثر أسلافهم
بقوله: و أيم الله ما كان بأحسابهم
بأس.
(4) قال الجوهري: اليمين القسم و الجمع أيمن و
أيمان ثم قال: و أيمن الله
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
231
اسم وضع للقسم هكذا بضم الميم و
النون و ألفه ألف وصل عند أكثر النحويين و لم يجيء في الأسماء ألف الوصل مفتوحة
غيرها، و قد تدخل عليه اللام لتأكيد الابتداء تقول: ليمن الله فتذهب الألف في
الوصل و هو مرفوع بالابتداء و خبره محذوف، و التقدير ليمن الله قسمي و ليمن الله
ما أقسم به، و إذا خاطبت قلت ليمنك، و ربما حذفوا منه النون قالوا: أيم الله و ايم
الله بكسر الهمزة، و ربما حذفوا منه الياء قالوا أم الله، و ربما أبقوا الميم
وحدها قالوا: م الله، ثم يكسرونها لأنها صارت حرفا واحدا فيشبهونها بالباء فيقولون
م الله، و ربما قالوا من الله بضم الميم و النون، و من الله بفتحهما، و من الله
بكسرهما، قال أبو عبيد: و كانوا يحلفون باليمين يقولون: يمين الله لا أفعل ثم يجمع
اليمين على أيمن ثم حلفوا به فقالوا: أيمن الله لأفعلن كذا، قال: فهذا هو الأصل في
أيمن الله ثم كثر هذا في كلامهم و خف على ألسنتهم حتى حذفوا منه النون كما حذفوا
في قوله:
لم يكن فقالوا لم يك، قال: و فيها
لغات كثيرة سوى هذا، و إلى هذا ذهب ابن كيسان و ابن درستويه فقالا: ألف أيمن ألف
قطع، و هو جمع يمين و إنما خففت و طرحت في الوصل لكثرة استعمالهم لها.
و قال:
الحسب
(1) ما يعده الإنسان من مفاخر آبائه و يقال:
حسبه دينه و يقال:
ماله و الرجل حسيب، قال ابن السكيت:
الحسب و الكرم يكونان في الرجل و إن لم يكن له آباء لهم شرف، قال: و الشرف و المجد
لا يكونان إلا بالآباء انتهى.
و الحاصل أن الكلام يحتمل وجهين:
أحدهما: أنه لا بد من حسن المعاشرة و المداراة مع المخالفين في دولاتهم مع
المخالفة لهم باطنا في أديانهم و أعمالهم فإن قوما قلت مداراتهم للمخالفين فنفاهم
خلفاء الجور و الضلالة من قبيلة قريش
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
232
و ضيعوا أنسابهم و أحسابهم مع أنه لم
يكن في أحساب أنفسهم شيء إلا ترك المداراة و التقية أو لم يكن في شرف آبائهم نقص،
و إن قوما من غير قريش لم يكن فيهم حسب أو في آبائهم شرف فألحقهم خلفاء الضلالة و
قضاة الجور في الشرف و العطاء و الكرم بالبيت الرفيع من قريش، و هم بنو هاشم.
و ثانيهما: أن المعنى أن القوم الأول
بتركهم متابعة الأئمة عليهم السلام في أو أمرهم التي منها المداراة مع المخالفين
في دولاتهم و مع سائر الناس نفاهم الأئمة عن أنفسهم فذهب فضلهم و كأنهم خرجوا من
قريش و لم ينفعهم شرف آبائهم، و إن قوما من غير قريش بسبب متابعة الأئمة عليهم
السلام ألحقوا بالبيت الرفيع و هم أهل البيت عليهم السلام كقوله صلى الله عليه و
آله و سلم: سلمان منا أهل البيت و كأصحاب سائر الأئمة عليهم السلام، من الموالي
فإنهم كانوا أقرب إلى الأئمة من كثير من بني هاشم بل كثير من أولاد الأئمة عليهم
السلام و المراد بالبيت هنا بيت الشرف و الكرامة.
قال في المصباح: بيت العرب شرفها
يقال بيت تميم في حنظلة أي شرفها، أو المراد أهل البيت الرفيع و هم آل النبي صلى
الله عليه و آله و سلم
" من كف يده"
(1) هذا مثل ما قال أمير المؤمنين عليه السلام:
و من يقبض يده عن عشيرته فإنما يقبض عنهم يدا واحدة و يقبض منهم عنه أيدي كثيرة، و
من تلن حاشيته يستدم من قومه المودة.
قال السيد الرضي رضي الله عنه: و ما
أحسن هذا المعنى الذي أراده عليه السلام بقوله: من يقبض فإن الممسك خيره يعني ماله
عن عشيرته إنما يمسك نفع يد واحدة، و إذا احتاج إلى نصرتهم و اضطر إلى مرادفتهم و
معاونتهم قعدوا من نصره و تثاقلوا عن صوته و استغاثته فمنع ترافد الأيدي الكثيرة و
تناهض الأقدام الجمة، انتهى.
و أقول: يحتمل أن يكون المراد بكف يد
واحدة كف ضرر يد واحدة و يصير ذلك سببا لكف ضرر أيد كثيرة عنه، و كان هذا أنسب
بالمقام.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
233
باب الرفق
(1)
(الحديث الأول)
(2): ضعيف.
و قال في النهاية: الرفق لين الجانب
و هو خلاف العنف، تقول منه رفق يرفق و يرفق و منه الحديث: ما كان الرفق في شيء
إلا زانه أي اللطف و الحديث الآخر: أنت رفيق و الله الطبيب، أي أنت ترفق بالمريض و
تتلطفه و هو الذي يبرئه و يعافيه، و منه الحديث في إرفاق ضعيفهم و سد خلتهم أي
إيصال الرفق إليهم، انتهى.
" إن لكل شيء قفلا"
(3) أي حافظا له من ورود أمر فاسد عليه، و خروج
أمر صالح منه على الاستعارة و تشبيه المعقول بالمحسوس
" و قفل الإيمان الرفق"
(4) و هو لين الجانب و الرأفة و ترك العنف و
الغلظة في الأفعال و الأقوال على الخلق في جميع الأحوال، سواء صدر عنهم بالنسبة
إليه خلاف الآداب أو لم يصدر، ففيه تشبيه الإيمان بالجوهر النفيس الذي يعتنى بحفظه
و القلب بخزانته، و الرفق بالقفل لأنه يحفظه عن خروجه و طريان المفاسد عليه، فإن
الشيطان سارق الإيمان و مع فتح القفل و ترك الرفق يبعث الإنسان على أمور من
الخشونة و الفحش و القهر و الضرب، و أنواع الفساد و غيرها من الأمور التي توجب نقص
الإيمان، أو زواله.
و قال بعض الأفاضل: و ذلك لأن من لم
يرفق يعنف فيعنف عليه فيغضب فيحمله الغضب على قول أو فعل به يخرج الإيمان من قلبه
فالرفق قفل الإيمان يحفظه.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
234
(الحديث الثاني)
(1): كالسابق.
" من قسم له الرفق"
(2) أي قدر له قسط منه في علم الله
" قسم له الإيمان"
(3) أي الكامل منه.
(الحديث الثالث)
(4): مجهول.
" إن الله تعالى رفيق"
(5) أقول: روى مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله
عليه و آله و سلم أنه قال:
إن الله رفيق يحب الرفق و يعطي على
الرفق ما لا يعطي على العنف، قال القرطبي: الرفيق هو الكثير الرفق يجيء بمعنى
التسهيل و هو ضد العنف و التشديد و التعصيب، و بمعنى الإرفاق و هو إعطاء ما يرتفق
به، و بمعنى التأني و العجلة، و صحت نسبة هذه المعاني إلى الله تعالى لأنه المسهل
و المعطي و غير المعجل في عقوبة العصاة، و قال الطيبي: الرفق اللطف و أخذ الأمر
بأحسن الوجوه و أيسرها" الله رفيق" أي لطيف بعباده يريد بهم اليسر لا
العسر و لا يجوز إطلاقه على الله لأنه لم يتواتر و لم يستعمل هنا على التسمية، بل
تمهيد الأمر أي الرفق أنجح الأسباب و أنفعها فلا ينبغي الحرص في الرزق بل يكل إلى
الله.
و قال النووي: يجوز تسمية الله
بالرفيق و غيره مما ورد في خبر الواحد على الصحيح و اختلف أهل الأصول في التسمية
بخبر الواحد، انتهى.
و قال في المصباح: رفقت العمل من باب
قتل أحكمته، انتهى.
فيجوز أن يكون إطلاق الرفيق عليه
سبحانه بهذا المعنى، و معنى يحب الرفق أنه يأمر به و يحث عليه و يثيب به، و
السل
(6) انتزاعك الشيء و إخراجه في رفق كالاستلال
كذا في القاموس، و كان بناء التفعيل للمبالغة، و
الضغن
(7) بالكسر و الضغينة
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
235
الحقد، و الأضغان جمع الضغن كالأحمال
و الحمل، و المعنى أنه من رفقه بعباده و لطفه لهم أنه يخرج أضغانهم قليلا و تدريجا
من قلوبهم و إلا لأفنى بعضهم بعضا، و قيل:
لم يكلفهم برفعها دفعة لصعوبتها
عليهم بل كلفهم بأن يسعوا في ذلك و يخرجوها تدريجا و هو بعيد.
و يحتمل أن يكون المعنى أنه أمر
أنبياءه و أوصياءهم بالرفق بعباده الكافرين و المنافقين و الإحسان إليهم و تأليف
قلوبهم ببذل الأموال و حسن العشرة فيسل بذلك أضغانهم الله و للرسول و للمؤمنين
برفق، و يمكن أن يكون المراد بالتسليل إظهار كفرهم و نفاقهم على المؤمنين لئلا
ينخدعوا منهم كما قال سبحانه:" أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ
أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ" أي أحقادهم على المؤمنين ثم قال:
" وَ لَوْ نَشاءُ
لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَ لَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ
الْقَوْلِ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ، إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ
وَ لَهْوٌ وَ إِنْ تُؤْمِنُوا وَ تَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَ لا
يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ، إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَ
يُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ" قالوا إن يسألكموها فيحفكم أي يجهدكم بمسألة جميعها
أو أجرا على الرسالة فيبالغ فيه تبخلوا بها فلا تعطوها و يخرج أضغانكم أي بغضكم و
عداوتكم لله و الرسول، و لكنه فرض عليكم ربع العشر أو لم يسألكم أجرا على الرسالة،
و هذا يؤيد المعنى السابق أيضا.
قوله: و مضادتهم لهواهم و قلوبهم
(1)، هذا أيضا يحتمل وجوها:" الأول"
أن يكون معطوفا على الأضغان أي من لطفه بعباده دفع مضادة أهوية بعضهم لبعض و قلوب
بعضهم لبعض، فيكون قريبا من الفقرة السابقة على بعض الوجوه.
الثاني: أن يكون عطفا على تسليله، أي
من لطفه بعباده المؤمنين أن جعل
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
236
أهوية المخالفين و الكافرين متضادة
مختلفة فلو كانوا مجتمعين متفقين في الأهواء لأفنوا المؤمنين و استأصلوهم كما قال
تعالى:" لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ
وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَ
قُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ".
الثالث: أن يكون عطفا على تسليله
أيضا و المعنى أنه من لطفه جعل المضادة بين هوى كل امرء و قلبه أي روحه و عقله،
فلو لم يكن القلب معارضا للهوى لم يختر أحد الآخرة على الدنيا، و في بعض النسخ و
مضادته و هو أنسب بهذا المعنى، و المضادة بمعنى جعل الشيء ضد الشيء شائع كما قال
أمير المؤمنين عليه السلام: ضاد النور بالظلمة و اليبس بالبلل.
الرابع: أن يكون الواو بمعنى مع، و
يكون تتمة للفقرة السابقة أي أخرج أحقادهم مع وجود سببها و هو مضادة أهوائهم و
قلوبهم.
الخامس: أن يكون المعنى من رفقه أنه
أوجب عليهم التكاليف المضادة لهواهم و قلوبهم، لكن برفق و لين بحيث لم يشق عليهم،
بل إنما كلف عباده بالأوامر و النواهي متدرجا كيلا ينفروا كما أنهم لما كانوا
اعتادوا بشرب الخمر نزلت أو لا آية تدل على مفاسدها ثم نهوا عن شربها قريبا من وقت
الصلاة ثم عمم و شدد و لم ينزل عليهم الأحكام دفعة ليشد عليهم بل أنزلها تدريجا و
كل ذلك ظاهر لم تتبع موارد نزول الآيات و تقرير الأحكام، و في لفظ المضادة إيماء
إلى ذلك، قال الفيروزآبادي ضده في الخصومة: غلبه و عنه صرفه و منعه برفق و ضاده
خالفه.
" و من رفقه بهم أنه يدعهم على
الأمر"
(1) حاصله أنه يريد إزالتهم عن أمر من الأمور
لكن يعلم أنه لو بادر إلى ذلك يثقل عليهم فيؤخر ذلك إلى أن يسهل عليهم ثم يحولهم
عنه إلى غيره فيصير الأول منسوخا، كأمر القبلة فإن الله تعالى كان يحب
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
237
لنبيه صلى الله عليه و آله و سلم
التوجه إلى الكعبة و كان في أول وروده صلى الله عليه و آله و سلم المدينة هذا
الحكم شاقا عليهم لألفهم بالصلاة إلى بيت المقدس فتركهم عليها فلما كملوا و أنسوا
بأحكام الإسلام و صار سهلا يسيرا عليهم حولهم إلى الكعبة.
و عرى الإسلام أحكامه و شرائعه كأنها
للإسلام بمنزلة العروة من جهة أن من أراد الشرب من الكوز يتمسك بعروته فكذا من
أراد التمتع بالإسلام يستمسك بشرائعه و أحكامه، و التعبير عن الثقل بالمثاقلة
للمبالغة اللازمة للمفاعلة، و لا يبعد أن يكون في الأصل مثاقيله، يقال: ألقى عليه
مثاقيله أي مؤنته.
و قيل: المراد أنه تعالى يعلم أن
صلاح العباد في أمرين و أنه لو كلفهم بها دفعة و في زمان واحد ثقل ذلك عليهم، و
ضعفوا عن تحملها فمن رفقه بهم أن يأمرهم بأحدهما و يدعهم عليه حينا ثم إذا أراد
إزالتهم عنه نسخ الأمر الأول بالأمر الآخر ليفوزوا بالمصلحتين، و هذا وجه آخر
للنسخ غير ما هو المعروف من اختصاص كل أمر بوقت دون آخر، انتهى.
و لا يخفى ما فيه، و
قوله عليه السلام: نسخ الأمر بالآخر
(1) إما من مؤيدات اليسر لأن ترك الناس أمرا
رأسا أشق عليهم من تبديله بأمر آخر، أو لبيان أن النسخ يكون كذلك كما قال
تعالى:" ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ
مِثْلِها" و سيأتي ما يؤيد الأول.
(الحديث الرابع)
(2): صحيح.
و اليمن
(3) بالضم البركة كالميمنة، يمن كعلم و عني و
جعل و كرم فهو ميمون
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
238
كذا في القاموس، أي الرفق مبارك
ميمون، فإذا استعمل في أمر كان ذلك الأمر مقرونا بخير الدنيا و الآخرة: و
الخرق
(1) بعكسه، قال في القاموس: الخرق بالضم و
بالتحريك ضد الرفق و أن لا يحسن الرجل العمل و التصرف في الأمور، و الحمق.
(الحديث الخامس)
(2): ضعيف.
" يعطي على الرفق"
(3) من أجر الدنيا و ثواب الآخرة.
(الحديث السادس)
(4): حسن كالصحيح.
و في المصباح
زان
(5) الشيء صاحبه زينا من باب سار، و أزانه
مثله، و الاسم الزينة و زينه تزيينا مثله، و الزين ضد الشين، و قال:
شأنه
(6) شينا من باب باع: عابه، و الشين خلاف الزين.
(الحديث السابع)
(7): ضعيف.
" إن في الرفق الزيادة"
(8) أي في الرزق أو في جميع الخيرات و البركة و
الثبات فيها،
" و من يحرم الرفق"
(9) على بناء المجهول أي منع منه و لم يوفق له
حرم خيرات الدنيا و الآخرة، في القاموس: حرمة الشيء كضربه و علمه حريما و حرمانا
بالكسر منعه و أحرمه لغة و المحروم الممنوع من الخير و من لا ينمي له مال، و
المحارف الذي لا يكاد يكتسب.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
239
(الحديث الثامن)
(1): مرسل.
" ما زوي"
(2) على بناء المفعول أي نحي و أبعد، في
القاموس: زواه زيا و زويا نحاه فانزوى و سره عنه طواه، و الشيء جمعه و قبضه.
(الحديث التاسع)
(3): ضعيف.
" أعطوا حظهم"
(4) أي أعطاهم الله نصيبا وافرا من الرفق، أي
رفق بعضهم ببعض أو رفقهم بخلق الله أو رفقهم في المعيشة بالتوسط من غير إسراف و
تقتير أو الأعم من الجميع
" فقد وسع الله عليهم في
الرزق"
(5) لأن أعظم أسباب الرزق المداراة مع الخلق و
حسن المعاملة معهم، فإنه يوجب إقبالهم إليه، مع أن الله تعالى يوفقه لا طاعة أمره
لا سيما مع التقدير في المعيشة كما
قال عليه السلام: و الرفق في تقدير
المعيشة
(6) أي في خصوص هذا الأمر أو معه بأن يكون"
في" بمعنى" مع" و تقدير المعيشة يكون بمعنى التقتير كقوله
تعالى" يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ" و بمعنى التوسط
بين الإسراف و التقتير و هو المراد هنا
" خير من السعة في المال"
(7) أي بلا تقدير و
قوله عليه السلام: و الرفق لا يعجز
عنه شيء
(8)، كأنه تعليل للمقدمتين السابقتين أي الرفق
في تقدير المعيشة لا يضعف و لا يقصر عنه شيء من المال أو الكسب، لأن القليل منهما
يكفي مع التقدير و القدر الضروري قد ضمنه العدل الحكيم
" و التبذير"
(9) أي الإسراف
" لا يبقى معه شيء"
(10) من المال و إن كثر، و قيل:
أراد بقوله: الرفق لا يعجز عنه شيء
و أن الرفيق يقدر على كل ما يريد بخلاف الأخرق
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
240
و لا يخفى ما فيه.
ثم قال: و السر في جميع ذلك أن الناس
إذا رأوا من أحد الرفق أحبوه و أعانوه و ألقى الله تعالى له في قلوبهم العطف و
الود فلم يدعوه يتعب أو يتعسر عليه أمره.
(الحديث العاشر)
(1): ضعيف.
" فإن كفر أحدهم في غضبه"
(2) لأن أكثر الناس عند الغضب يتكلمون بكلمة
الكفر و ينسبون إلى الله سبحانه و إلى الأنبياء و الأوصياء عليهم السلام ما لا
يليق بهم، و أي خير يتوقع ممن لا يبالي عند الغضب من الخروج عن الإسلام و استحقاق
القتل في الدنيا و العقاب الدائم في الآخرة. فإذا لم يبال بذلك لم يبال بشتمك و
ضربك و قتلك و الافتراء عليك بما يوجب استئصالك.
و يحتمل أن يكون الكفر هنا شاملا
لارتكاب الكبائر كما مر أنه أحد معانيه.
(الحديث الحادي عشر)
(3): كالسابق.
" نصف العيش"
(4) أي نصف أسباب العيش الطيب لأن رفاهية العيش
إما بكثرة المال و الجاه و حصول أسباب الغلبة أو بالرفق في المعيشة و المعاشرة، بل
هذا أحسن كما مر، و إذا تأملت ذلك علمت أنه شامل لجميع الأمور حتى التعيش في الدار
و المعاملة مع أهلها فإن تحصيل رضاهم إما بالتوسعة عليهم في المال، أو بالرفق معهم
في كل حال و بكل منهما يحصل رضاهم، و الغالب أنهم بالثاني أرضي.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
241
(الحديث الثاني عشر)
(1): ضعيف على المشهور.
" و يعين عليه"
(2) أي يهيئ أسباب الرفق أو يعين بسبب الرفق أو
معه أو كائنا عليه على سائر الأمور كما مر و التفريع
بقوله عليه السلام: فإذا ركبتم
(3)، للتنبيه على أن الرفق مطلوب حتى مع
الحيوانات، و قال في المغرب:
العجف
(4) بالتحريك الهزال و الأعجف المهزول و الأنثى
العجفاء، و العجفاء يجمع على عجف كصماء على صم، انتهى.
و قوله: فأنزلوها منازلها
(5) أولا، يحتمل وجهين:" الأول" أن
يكون المراد الإنزال المعنوي أي راعوا حالها في إنزالها المنازل، و المراد في
الثاني المعنى الحقيقي و الثاني: أن يكون الأول مجملا و الثاني تفصيلا و تعيينا
لمحل ذلك الحكم، و على التقديرين الفاء في
قوله: فإن
(6) كانت للتفصيل، و في المصباح
الجدب
(7) هو المحل لفظا و معنى و هو انقطاع المطر و
يبس الأرض يقال: جدب البلد بالضم جدوبة فهو جدب و جديب و أرض جدبة و جدوب و أجدبت
إجدابا فهي مجدبة، و قال الجوهري:
نجوت
(8) نجاءا ممدودا أي أسرعت و سبقت، و الناجية و
النجاة الناقة السريعة تنجو بمن ركبها، و البعير ناج، و
الخصب
(9) بالكسر نقيض الجدب، و قد أخصبت الأرض و مكان
مخصب و خصيب، و أخصب القوم أي صاروا إلى الخصب.
قوله: فأنزلوها منازلها،
(10) أي منازلها اللائقة بحالها من حيث الماء و
الكلاء، أو المراد بها المنازل المقررة في الأسفار، أي لا تسيروا عليها أكثر من
المنازل المقررة كجعل المنزلين منزلا لضعف الدابة، و إنما يجوز ذلك مع جدب الأرض
فإن مصلحتها أيضا في ذلك.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
242
(الحديث الثالث عشر)
(1): ضعيف.
(الحديث الرابع عشر)
(2): مرسل.
و قد عرفت الوجوه في حله، و كان
الأنسب هنا عطف مضادة علي أضغانكم إشارة إلى قوله تعالى:" لَوْ أَنْفَقْتَ ما
فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَ لكِنَّ اللَّهَ
أَلَّفَ بَيْنَهُمْ" و يحتمل أيضا العطف على التسليل بالإضافة إلى المفعول
كما مر.
قوله: كراهية تثاقل الحق عليه
(3)، قيل: الكراهية علة لتحويله بالناسخ و الحق
الأمر المنسوخ، و وجه التثاقل أن النفس يثقل عليها الأمر المكرر و ينشط بالأمر
الجديد أو علة لتحويله بالناسخ دون جمعه معه، مع أن في كلا الأمرين صلاح العبد إلا
أن الرفق يقتضي النسخ لئلا يتثاقل الحق عليه، انتهى.
و أقول: لا يخفى ما في الوجهين، أما
الأول فلان ترك المعتاد أشق على النفس و لذا كانت الأمم يثقل عليهم قبول الشرائع
المتجددة و إن كانت أسهل و كانوا يرغبون إلى ما ألفوا به و مضوا عليه من طريقة
آبائهم، نعم قد كان بعض الشرائع الناسخة أسهل من المنسوخة كعدة الوفاة نقلهم فيها
من السنة إلى أربعة أشهر و عشرة أيام، و كثبات القدم في الجهاد من العشرة إلى
النصف لكن أكثرها كان أشق.
و أما الثاني ففي غالب الأمر لا يمكن
الجمع بين الناسخ و المنسوخ لتضادهما
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
243
كالقبلتين و العدتين و الحكمين في
الجهاد و تحليل الخمر و تحريمه، و إباحة الجماع في ليالي شهر رمضان و عدمها، و
الأكل و الشرب فيها بعد النوم و عدمهما، نعم قد يتصور نادرا كصوم عاشوراء و صوم
شهر رمضان إن ثبت ذلك فالأوجه ما ذكرنا سابقا.
(الحديث الخامس عشر)
(1): ضعيف على المشهور.
و يقال:
اصطحب
(2) القوم أي صحب بعضهم بعضا، و يدل على فضل
الرفق لا سيما في المصطحبين المترافقين.
(الحديث السادس عشر)
(3): ضعيف.
و مضمونه مجرب و وجهه ظاهر.
باب التواضع
(4)
(الحديث الأول)
(5): ضعيف.
و النجاشي
(6) بفتح النون و تخفيف الجيم و بالشين المعجمة
لقب ملك الحبشة و المراد هنا الذي أسلم و آمن بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم و
اسمه أصحمة بن بحر، أسلم قبل الفتح و مات قبله صلى عليه النبي صلى الله عليه و آله
و سلم لما جاء خبر موته، و قد ذكرنا جمل أحواله في كتابنا الكبير.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
244
و قال الفيروزآبادي: النجاشي بتشديد
الياء و بتخفيفها أفصح و تكسر نونها أو هو أفصح: أصحمة ملك الحبشة، انتهى.
و جعفر بن أبي طالب
(1) هو أخو أمير المؤمنين عليه السلام و كان
أكبر منه عليه السلام بعشر سنين و هو من كبار الصحابة و من الشهداء الأولين و هو
صاحب الهجرتين هجرة الحبشة و هجرة المدينة، و استشهد يوم مؤتة سنة ثمان، و له إحدى
و أربعون سنة فوجد فيما أقبل من جسده تسعون ضربة ما بين طعنة برمح و ضربة بسيف، و
قطعت يداه في الحرب فأعطاه الله جناحين يطير بهما في الجنة فلقب ذا الجناحين، و
قال الجوهري:
ثوب خلق
(2) أي بال، يستوي فيه المذكر و المؤنث لأنه في
الأصل مصدر الأخلق و هو الأملس و الجمع خلقان، انتهى.
" فأشفقنا منه"
(3) أي خفنا عن حاله و مما رأينا منه أن يكون
أصابه سوء، يقال:
أشفق منه أي خاف و حذر و أشفق عليه
أي عطف عليه، و
العين
(4) الجاسوس
" و أهلك عدوه"
(5) أي السبعين الذين قتلوا، منهم أبو جهل و
عتبة و شيبة و أسر أيضا سبعون، و
بدر
(6) اسم موضع بين مكة و المدينة و هو إلى
المدينة أقرب، و يقال: هو منها على ثمانية و عشرين فرسخا، و عن الشعبي أنه اسم بئر
هناك، قال: و سميت بدرا لأن الماء كان لرجل من جهينة اسمه بدر كذا في المصباح، و
قال:
الأراك
(7) شجر من الخمط يستاك بقضبانه، الواحدة أراكة
و يقال: هي شجرة طويلة ناعمة كثيرة الورق و الأغصان خوارة
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
245
العود، و لها ثمر في عناقيد يسمى
البرين يملأ العنقود الكف.
" لكأني أنظر إليه"
(1) أي هو في بالي كأني أنظر إليه الآن، و
حيث
(2) للتعليل، و يحتمل المكان بدلا من الضمير، و
بنو ضمرة
(3) بفتح الضاد و سكون الميم رهط عمر و بن أمية
الضمري، و قيل: لكأني، حكاية كلام العين و هو بعيد، بل هو إشارة إلى ما ذكروا أن
والد النجاشي كان ملك الحبشة و لم يكن له ولد غيره، و كان للنجاشي عم له اثنا عشر
ولدا و أهل الحبشة قتلوا والد النجاشي و أطاعوا عمه و جعلوه ملكا و كان النجاشي في
خدمة عمه، فقالت الحبشة للملك: إنا لا نأمن هذا الولد أن يتسلط علينا يوما و يطلب
منا دم والده فاقتله قال الملك: قتلتم والده بالأمس و أقتل ولده اليوم، أنا لا
أرضى بذلك و إن أردتم بيعوه من رجل غريب يخرجه من دياركم ففعلوا ذلك فبعد زمان
أصيب الملك بصاعقة فمات و لم يكن أحد من أولاده قابلا للسلطنة فاضطروا إلى أن أتوا
و أخذوا النجاشي من سيده قهرا بلا ثمن و ردوه إلى بلادهم و ملكوه عليهم فجاء سيده
و ادعى عليهم و رفع أمره إلى النجاشي و هو لا يعرفه فحكم له عليهم، و قال: أعطوه
أما الغلام و إما الثمن، فأدوا إليه الثمن.
و التواضع
(4) هو إظهار الخشوع و الخضوع و الذل و الافتقار
إليه تعالى عند ملاحظة عظمته و عند تجدد نعمه تعالى أو تذكرها، و لذا استحبت سجدة
الشكر في هذه الأمة، و ورد مثل هذا التذلل بلبس أخس الثياب و أخشنها و إيصال مكارم
البدن إلى التراب في بعض صلوات الحاجة.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
246
" نزيد صاحبها كثرة"
(1) أي في الأموال و الأولاد و الأعوان في
الدنيا و في الأجر في الآخرة
" و أن التواضع"
(2) أي عدم التكبر و الترفع و إظهار التذلل لله
و للمؤمنين يوجب رفع صاحبه في الدنيا و الآخرة.
(الحديث الثاني)
(3): حسن كالصحيح.
" رفعاه"
(4) أي بالثناء عليه أو بإعانته في حصول المطالب
و تيسر أسباب العزة و الرفعة في الدارين و في التكبر بالعكس فيهما.
(الحديث الثالث)
(5): كالسابق.
و في القاموس
قباء
(6) بالضم و يذكر و يقصر موضع قرب المدينة، و
قال:
العساس
(7) ككتاب الأقداح العظام و الواحد عس بالضم و
قال:
مخض
(8) اللبن يمخضه مثلثة الآتي أخذ زبدة فهو مخيض،
و ممخوض بعسل أي ممزوج بعسل، و قيل: إنما امتنع صلى الله عليه و آله و سلم لأن
اللبن المخيض الحامض الممزوج بالعسل لا لذة فيه، فيكون إسرافا، فالمراد بالتواضع
لله الانقياد لأمره في ترك الإسراف، و لا يخفى بعده.
و روى الحسين بن سعيد في كتاب الزهد
هذا الخبر عن ابن أبي عمير عن
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
247
عبد الرحمن عنه عليه السلام مثله،
إلا أنه قال: بعس من لبن مخيض بعسل.
و روى البرقي في المحاسن عن جعفر بن
محمد عن ابن القداح عن أبي عبد الله عليه السلام عن آبائه قال: دخل النبي صلى الله
عليه و آله و سلم مسجد قبا فأتي بإناء فيه لبن حليب مخيض بعسل فشرب منه حسوة أو
حسوتين فوضعه، فقيل: يا رسول الله أ تدعه محرما؟ فقال: اللهم إني أتركه تواضعا
لله.
و يدل على أن التواضع بترك الأطعمة
اللذيذة مستحب و يعارضه أخبار كثيرة و يمكن اختصاصه بالنبي و الأئمة عليهم السلام
كما يظهر من بعض الأخبار، و الاقتصاد:
التوسط و ترك الإسراف و التقتير، و
التبذير في الأصل التفريق و يستعمل في تفريق المال في غير الجهات الشرعية إسرافا و
إتلافا و صرفا في المحرم.
" و من أكثر ذكر الموت أحبه
الله"
(1) لأن كثرة ذكر الموت توجب الزهد في الدنيا و
الميل إلى الآخرة و ترك المعاصي و سائر ما يوجب حبه تعالى.
(الحديث الرابع)
(2): ضعيف على المشهور.
و هذه الفقرة بدل من الفقرة الأخيرة
في الخبر السابق، و ذكر الله أعم أن يكون باللسان أو الجنان، و أعم من أن يكون
بذكر أسمائه الحسنى و صفاته العليا أو بتلاوة كتابه أو بذكر شرائعه و أحكامه أو
بذكر أنبيائه و حججه، فإنه قد ورد إذا ذكرنا ذكر الله.
" أظله الله في جنته"
(3) أي آواه تحت قصورها و أشجارها أو وقع عليه
ظل رحمته، أو أدخله في كنفه و حمايته، كما يقال: فلان في ظل فلان.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
248
(الحديث الخامس)
(1): موثق كالصحيح.
" قال فنظر إلى جبرئيل"
(2) أي قال أبو جعفر عليه السلام: فنظر الرسول
إلى جبرئيل مستشيرا منه و إن كان عالما و كان لا يحب الملك و كان هذا أيضا من
تواضعه
" فأومأ"
(3) جبرئيل عليه السلام بيده
" أن تواضع"
(4) و أن مفسرة، و يحتمل أن يكون المستتر في قال
راجعا إلى الرسول و إلى بالتشديد، و كان الأول أظهر كما أنه في مشكاة الأنوار،
قال: فنظر إلى جبرئيل عليه السلام فأومأ إليه بيده أن يتواضع، و على التقديرين
من" قال" إلى قوله: تواضع، معترضة
" فقال: عبدا"
(5) أي اخترت أن أكون عبدا
" فقال الرسول"
(6) أي الملك
" مع أنه"
(7) أي الملك أو اختياره
" مما عند ربك"
(8) أي من القرب و المنزلة و المثوبات و
الدرجات
" قال و معه"
(9) أي قال أبو جعفر عليه السلام و كان مع الملك
عند تبليغ هذه الرسالة المفاتيح أتى بها ليعطيه إياها إن اختار الملك.
و يحتمل أن يكون ضمير قال راجعا إلى
الملك، و مفعول القول محذوفا و الواو في قوله: و معه، للحال أي قال ذلك و معه
المفاتيح، و قيل: ضمير قال راجع إلى الرسول أي قال صلى الله عليه و آله و سلم لا
أقبل و إن كان معه المفاتيح، و لا يخفى ما فيه.
و المفاتيح
(10) جمع المفتاح جمع المفتح، و المفاتيح يمكن
حملها على الحقيقة أي أتى بآلة يمكن بها التسلط على خزائن الأرض و الاطلاع عليها،
أو يكون تصويرا لتقدير ذلك و تحقيقا للقول بأنك إذا اخترت ذلك كان سهل الحصول لك
كهذه المفاتيح تكون بيدك فتفتح بها، أو يكون الكلام مبنيا على الاستعارة أي أتى
بأمور
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
249
يتيسر بها الملك، و عبر عنها
بالمفتاح مجازا كخاتم سليمان و بساطه مثلا و أشباه ذلك مما يسهل معه الاستيلاء على
جميع الأرض، أو العلم بطريق الوصول إليها و القدرة عليها.
(الحديث السادس)
(1): ضعيف على المشهور.
" بالمجلس دون المجلس"
(2) أي ترضى بمجلس هو أدون من المجلس الذي هو
لائق بشرفك بحسب العرف، أو تجلس أي مجلس اتفق و لا تتقيد بمجلس خاص و الأول أظهر
" على من تلقى"
(3) أي على كل من تلقاه أي من المسلمين و استثني
منه التسليم على المرأة الشابة إلا أن يأمن على نفسه، و سيأتي تفصيل ذلك في كتاب
العشرة إنشاء الله.
" و أن تترك المراء"
(4) أي المجادلة و المنازعة و أما إظهار الحق بحيث
لا ينتهي إلى المراء فهو حسن بل واجب، و قيل: إذا كان الغرض الغلبة و التعجيز يكون
مراء، و إن كان الغرض إظهار الحق فليس بمراء.
قال في المصباح: ماريته أمارية
مماراة و مراء جادلته و يقال: ماريته أيضا إذا طعنت في قوله تزييفا للقول و تصغيرا
للقائل و لا يكون المراء إلا اعتراضا بخلاف الجدال فإنه يكون ابتداء و اعتراضا،
انتهى.
" و لا تحب أن تحمد على
التقوى"
(5) فإن هذا من آثار العجب، و ينافي الإخلاص في
العمل كما مر.
(الحديث السابع)
(6): مرسل.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 250
" بكلامي"
(1) أي بأن أكلمك بلا توسط ملك
" إني قلبت عبادي"
(2) أي اختبرتهم بملاحظة ظواهرهم و بواطنهم،
كناية عن إحاطة علمه سبحانه بهم و بجميع صفاتهم و أحوالهم، قال في المصباح: قلبته
قلبا من باب ضرب حولته عن وجهه، و قلبت الرداء حولته و جعلت أعلاه أسفله و قلبت
الشيء للابتياع قلبا أيضا تصفحته فرأيت داخله و باطنه، و قلبت الأمر ظهرا لبطن
اختبرته، انتهى.
و قيل: ظهرا بدل عن عبادي و اللام في
لبطن للغاية فهي بمعنى الواو مع مبالغة
" أو قال"
(3) الترديد من الراوي، و يدل على استحباب وضع
الخد على التراب أو الأرض بعد الصلاة.
(الحديث الثامن)
(4): حسن كالصحيح.
و في القاموس:
الجذام
(5) كغراب علة تحدث من انتشار السوداء في البدن
كله فيفسد مزاج الأعضاء و هيئاتها، و ربما انتهى إلى تأكل الأعضاء و سقوطها من
تقرح جذم كعني فهو مجذوم و مجذم و أجذم، و وهم الجوهري في منعه، و كان صومه صلى
الله عليه و آله و سلم كان واجبا حيث لم يفطر مع الدعوة.
" أن يتألقوا" و في بعض
النسخ
يتنوقوا
(6) أي يتكلفوا فيه و يعملوه لذيذا حسنا، في
القاموس: تأنق فيه عمله بالإتقان كتنوق، و قال: تنيق في مطعمه و ملبسه تجود و بالغ
كتنوق، انتهى.
مرآة
العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 251
" فتغدوا عنده"
(1) أي في اليوم الآخر أو أطلق التغدي على
التعشي للمشاكلة
" و تغدى معهم"
(2) هذا ليس بصريح في الأكل معهم في إناء واحد
فلا ينافي الأمر بالفرار من المجذوم، مع أنه يمكن أن يكونوا مستثنين من هذا الحكم
لقوة توكلهم و عدم تأثر نفوسهم بأمثال ذلك أو لعلمهم بأن الله لا يبتليهم بأمثال
البلايا التي توجب نفرة الخلق.
و في مشكاة الأنوار عن أبي عبد الله
أن علي بن الحسين عليهما السلام مر على المجذومين يأكلون فسلم عليهم فدعوه إلى
طعامهم فمضى، ثم قال: إن الله عز و جل لا يحب المتكبرين و كان صائما فرجع إليهم
فقال: إني صائم ثم قال: ائتوني في المنزل فأتوه فأطعمهم و أعطاهم، و زاد فيه ابن
أبي عمير أنه بعد منعهم.
ثم اعلم أن الأخبار في العدوي
مختلفة، فسيأتي في الروضة أن النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال: لا عدوي و لا
طيرة، و قد ورد: فر من المجذوم فرارك من الأسد، و قيل في الجمع بينهما: أن حديث
الفرار ليس للوجوب بل للجواز أو الندب احتياطا خوف ما يقع في النفس من العدوي و
الأكل و المجالسة للدلالة على الجواز، و أيد ذلك بما روي من طرق العامة عن جابر
أنه صلى الله عليه و آله و سلم أكل مع المجذوم، فقال: آكل ثقة بالله و توكلا عليه،
و من طرقهم أيضا أن امرأة سألت بعض أزواجه صلى الله عليه و آله و سلم عن الفرار من
المجذوم فقالت: كلا و الله، و قد قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: لا
عدوى، و قد كان لنا مولى أصابه ذلك و كان يأكل في صحافي و يشرب من قداحي و ينام
على فراشي، و قال بعض العامة: حديث الأكل ناسخ لحديث الفرار، و رده بعضهم بأن
الأصل عدم النسخ، على أن الحكم بالنسخ يتوقف على العلم بتأخير حديث الأكل و هو غير
معلوم، و قال بعضهم للجمع: حديث الفرار على تقدير وجوبه إنما كان لخوف أن
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
252
يقع في العلة بمشية الله فيعتقد أن
العدوي حق.
أقول: قد بسطنا القول في ذلك في
كتابنا الكبير.
(الحديث التاسع)
(1): موثق.
" دون شرفه"
(2) أي عند المجلس الذي يقتضي شرفه الجلوس فيه
أو أدون منه و الأخير أظهر و أحسن.
(الحديث العاشر)
(3): موثق.
و يدل على استحباب شراء الطعام للأهل
و حمله إليهم و أنه مع ملامة الناس الترك أولى.
(الحديث الحادي عشر)
(4): ضعيف.
و التواضع
(5) ترك التكبر و التذلل لله و لرسوله و لأولي
الأمر و للمؤمنين و عدم حب الرفعة و الاستيلاء، و كل ذلك موجب للقرب، و إذا كان
أحد الضدين موجبا للقرب كان الآخر موجبا للبعد.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
253
(الحديث الثاني عشر)
(1): مرفوع.
" في السنة التي قبض فيها"
(2) أي بعد القبض و كان أول إمامته لا قبله كما
قيل، و المراد بفلان أحد الأشراف الذين كانوا يعدون أنفسهم من أقرانه
" و كان"
(3) أي نوح عليه السلام
" فيها
(4) أي في السفينة
" ما شاء الله
(5) من الزمان" أي زمانا طويلا، و يحتمل أن
يكون ما شاء الله اسم كان أي ما شاء الله حفظه من المؤمنين و الحيوانات و الأشجار
و الحبوب، و كل ما يحتاج إليه بنو آدم و الأول أظهر، و اختلف في مدة مكثه عليه
السلام في السفينة فقيل: سبعة أيام كما روي عن الصادق عليه السلام، و في رواية
أخرى مائة و خمسون يوما، و قيل: ستة أشهر و قيل: خمسة أشهر
" و كانت السفينة مأمورة"
(6) أي بأمر الله يذهب به حيث أراد، و قيل: بأمر
نوح، قالوا: كان إذا أراد وقوفها قال: بسم الله، فوقفت و إذا أراد جريها قال: بسم
الله، فجرت كما قال تعالى:" بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَ مُرْساها".
" فطافت بالبيت"
(7) كأنه لما دخلت السفينة الحرم أحرم عليه
السلام بعمرة مفردة و طواف النساء للإحلال منها بأن أتى ببقية الأفعال قبله، و
التخصيص لبيان أن في شرعه أيضا كان طواف النساء، و يحتمل أن يكون في شرعه عليه
السلام هذا مجزيا عن طواف الزيارة و الأول أظهر، بل يحتمل أن يكون الإحرام للحج و
أتى بجميع أفعاله كما سيأتي في هذا الكتاب عن علي بن أبي حمزة عن أبي الحسن عليه
السلام قال
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
254
إن سفينة نوح كانت مأمورة فطافت
بالبيت حيث غرقت الأرض ثم أتت مني في أيامها ثم رجعت السفينة و كانت مأمورة و طافت
بالبيت طواف النساء، فهذا الخبر كالتفسير لخبر المتن.
و في القاموس: طاولني فطلته كنت أطول
منه في الطول و الطول جميعا و
تطاول
(1) و تطايل و استطال امتد و ارتفع و تفضل و
تطاول، و قال:
شمخ
(2) الجبل علا و طال، و الرجل بأنفه تكبر،
انتهى.
و هذه الجملة إما على الاستعارة
التمثيلية إشارة إلى أن الناس لما ظنوا وقوعها على أطول الجبال و أعظمها و لم
يظنوا ذلك بالجودي، و جعلها الله عليه فكأنها تطاولت و كان الجودي خضع فإذا كان
التواضع الخلقي مؤثرا في ذلك فالتواضع الإرادي أولى بذلك، و يحتمل أن يكون الله
تعالى أعطاها في ذلك الوقت الشعور و خاطبها للمصلحة، فالجميع محمول على الحقيقة، و
قد يقال: للجمادات شعور ضعيف بل لها نفوس أيضا و فهمه مشكل و إن أو ما إليه بعض
الآيات و الروايات.
قوله عليه السلام: و هو جبل عندكم،
(3) أقول: في تفسير العياشي و تواضع جبل عندكم
بالموصل يقال له الجودي، و أقول: اختلفوا في الجودي قال الطبرسي: قال الزجاج:
الجودي جبل بناحية آمد و قال غيره: بقرب جزيرة الموصل، و قال أبو مسلم:
الجودي اسم لكل جبل و أرض صلبة،
انتهى.
و أقول: يظهر من بعض الأخبار أنه كان
بقرب الكوفة، و من بعضها أنها الغري على مشرفه السلام، و
الجؤجؤ
(4) كهدهد: الصدر، و اللام في الجبل للعهد أي
الجودي، و في العياشي: فمرت السفينة تدور في الطوفان على الجبال كلها حتى انتهت
إلى الجودي فوقعت عليه، فقال نوح: بارأت قنى، بارأت قنى، قال: قلت:
جعلت فداك أي شيء هذا الكلام؟ فقال:
اللهم أصلح، اللهم أصلح، و أقول: كأنه
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
255
ظهر في السفينة اضطراب عند الوقوع
على الجودي خافوا منه الغرق، فلذا شرع عليه السلام في التضرع و الدعاء كما روى علي
بن إبراهيم في حديث طويل عن الصادق عليه السلام إلى أن قال: فبقي الماء ينصب من
السماء أربعين صباحا، و من الأرض العيون حتى ارتفعت السفينة فمسحت السماء قال:
فرفع نوح عليه السلام يده ثم قال: يا رهمان أتقن، و تفسيرها: رب أحسن، فأمر الله
الأرض أن تبلع ماءها.
و روى الصدوق في العيون و غيره عن
الرضا عليه السلام أن نوحا عليه السلام لما ركب السفينة أوحى الله عز و جل إليه:
يا نوح إن خفت الغرق فهللني ألفا ثم سلني النجاة أنجك من الغرق و من آمن معك، قال:
فلما استوى نوح و من معه في السفينة و رفع القلس عصفت الريح عليهم فلم يأمن نوح
الغرق فأعجلته الريح فلم يدرك أن يهلل ألف مرة فقال بالسريانية: هلوليا ألفا ألفا
يا
ماريا أتقن
(1)، قال: فاستوى القلس و استمرت السفينة،
الخبر.
قوله: عرض بنفسه
(2)، التعريض توجيه الكلام إلى جانب و إرادة
جانب آخر و هو خلاف التصريح أي غرضه عليه السلام من هذا التمثيل بيان أنه اختار
الكبش للتواضع، و هو مورث للعزة في الدارين، و يدل على أن اختيار أقل الأمرين في
المستحبات إذا كان مستلزما للتواضع أحسن، مع أن الإخلاص فيه أكثر و عن الرياء و
السمعة و التكبر أبعد.
و يحتمل أن يكون في ذلك تقية أيضا، و
لا يبعد كون الكبش في الهدي و الأضحية أفضل لدلالة الأخبار الكثيرة عليه، و سيأتي
القول فيه في محله إن شاء الله تعالى.
(الحديث الثالث عشر)
(3): مرسل كالموثق و آخره مرسل.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
256
" أن تعطى الناس"
(1) أي من التعظيم و الإكرام و العطاء
" ما تحب أن تعطاه"
(2) منهم في جميع ذلك
" التواضع درجات"
(3) أي التواضع لله و للخلق درجات أو ذوو درجات
باعتبار كمال النفس و نقصها
" أن يعرف المرء قدر نفسه"
(4) بملاحظة عيوبها و تقصيراتها في خدمة خالقه
" بقلب سليم"
(5) من الشك و الشرك و الرياء و العجب و الحقد و
العداوة و النفاق، فإنها من أمراض القلب قال تعالى:" فِي قُلُوبِهِمْ
مَرَضٌ"
" لا يحب أن يأتي إلى أحد"
(6) من قبل الله أو من قبله أو الأعم
" إلا مثل ما يؤتى إليه"
(7) كان المناسب للمعنى المذكور ما ذكرنا"
أن يأتي إليه" على المعلوم و كان الظرف فيهما مقدر و التقدير لا يحب أن يأتي
إلى أحد بشيء إلا مثل ما يؤتى به إليه، و يؤيده أنه روي في مشكاة الأنوار نقلا من
المحاسن عن أبي الحسن موسى عليه السلام أنه سأله علي بن سويد المدني عن التواضع
الذي إذا فعل العبد كان متواضعا؟ فقال: التواضع درجات منها أن يعرف المرء قدر نفسه
فينزلها منزلتها بقلب سليم، و لا يحب أن يأتي إلى أحد إلا مثل ما يأتون إليه، إلى
آخر الخبر.
و يمكن أن يقرأ على بناء التفعيل في
الموضعين من قولهم أتيت الماء تأتيه و تأتيا أي سهلت سبيله ليخرج إلى موضع، ذكره
الجوهري لكنه بعيد
" درأها"
(8) أي دفعها
" بالحسنة"
(9) أي بالخصلة أو المداراة أو الموعظة الحسنة
إشارة إلى قوله تعالى:" وَ يَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ" قال
البيضاوي: يدفعونها بها فيجازون الإساءة بالإحسان أو يتبعون الحسنة السيئة
فتمحوها.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 257
باب الحب في الله و البغض في الله
(1)
(الحديث الأول)
(2): صحيح.
" من أحب لله"
(3) أي أحب من أحب لأن الله يحبه و أمر بحبة من
الأنبياء و الأوصياء عليهم السلام و الصلحاء من المؤمنين لا للأغراض الدنيوية و
الأطماع الدنية
" و أبغض لله"
(4) أي أبغض من أبغض لأن الله يبغضه و أمر ببغضه
من أئمة الضلالة و الكفار و المشركين و المخالفين و الظلمة و الفجار لمخالفتهم لله
تعالى
" و أعطى لله"
(5) أي أعطى من أمر الله بإعطائه من أئمة الدين
و فقراء المؤمنين و صلحائهم خالصا لله من غير رياء و لا سمعة، و في بعض النسخ في الله
في المواضع فهو أيضا بمعنى لله و في للتعليل أو بمعنى الحب في سبيل طاعته فيرجع
إليه أيضا
" فهو ممن كمل إيمانه"
(6) لأن ولاية أولياء الله و معاداة أعدائه و
إخلاص العمل عمدة الإيمان و أعظم أركانه.
(الحديث الثاني)
(7): كالسابق سندا و متنا.
و العروة
(8) ما يكون في الجبل يتمسك به من أراد الصعود و
عروة الكوز و نحوه، و الأول هنا أنسب كأنه عليه السلام شبه الإيمان بجبل يرتقي به
إلى الجنة و
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
258
الدرجات العالية، و الأعمال
الإيمانية و أخلاقها بالعري التي تكون فيه يتمسك بها من أراد الصعود عليه، و فيه
إشارة إلى قوله تعالى:" فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ
فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا انْفِصامَ لَها".
و المنع في الله
(1) أن يكون عدم بذله و إعطائه لكونه سبحانه منع
منه كالحد المنتهى إلى التبذير أو إعطاء الكفار لغير مصلحة و الفجار لإعانتهم علي
الفجور و أمثال ذلك.
(الحديث الثالث)
(2): مجهول، و في القاموس
الود
(3) و الوداد الحب و يثلثان كالودادة و المودة،
و في المصباح الشعبة من الشجرة الغصن المتفرع منها و الجمع شعب مثل غرفة و غرف، و
الشعبة من الشيء الطائفة منه، و انشعبت أغصان الشجرة تفرعت عن أصلها و تفرقت و
يقال: هذه المسألة كثيرة الشعب، انتهى.
و شعب الإيمان
(4) الأعمال و الأخلاق التي يقتضي الإيمان
الإتيان بها، و
الصفي:
(5) الحبيب المصافي و خالص كل شيء.
(الحديث الرابع)
(6): ضعيف على المشهور.
" إن المتحابين في الله"
(7) أي الذين يحب كل منهم الآخرين لمحض رضاء
الله
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
259
و كونهم من أحباء الله لا للأغراض
الباطلة و يكون أضاء لازما و متعديا يقال: أضاء الشيء و إضاءة غيره، ذكره في
المصباح.
(الحديث الخامس)
(1): حسن كالصحيح.
" عن الحب و البغض"
(2) أي حب الأئمة عليهم السلام و بغض أعدائهم أو
الأعم منهما و من حب المؤمنين و الطاعة و بغض المخالفين و المعصية، و الغرض من
السؤال إما استعلام أن الاعتقاد بإمامة الأئمة عليهم السلام و محبتهم و التبري عن
أعدائهم هل هما من أجزاء الإيمان و أصول الدين كما هو مذهب الإمامية، أو من فروع
الدين و الواجبات الخارجة عن حقيقة الإيمان كما ذهب إليه المخالفون، أو استبانة أن
حب أولياء الله و بغض أعدائه هل هما من الأمور الاختيارية التي يقع التكليف بهما
أو هما من فعل الله تعالى، و ليس للعبد فيه اختيار فلا يكون مما كلف الله به، و
الأول أظهر.
فأجاب عليه السلام على الاستفهام
الإنكاري بأن مدار الإيمان على الحب و البغض، لأن الاعتقاد بالشيء لا ينفك عن حبه
و إنكاره عن بغضه، أو عمدة الإيمان ولاية الأئمة عليهم السلام و البراءة من
أعدائهم إذ بهما يتم الإيمان و بدونهما لا ينفع شيء من العقائد و الأعمال كما مر
مفصلا، فكان الإيمان منحصر فيهما أو لما كانا أصل الإيمان و عمدته كيف لم يكونا
مكلفا به و كيف لم تكن مباديهما بالاختيار، و الاستشهاد بالآية على الأول ظاهر، و
على الثاني فلأنه لما حصر الله تعالى الرشد و الصلاح فيهما فلو لم يكونا اختياريين
لزم الجبر و التكليف بما لا يطاق، و هما منفيان بالدلائل العقلية
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
260
و النقلية.
و أما الآية فقال الطبرسي (ره):
" و لكن حَبَّبَ إِلَيْكُمُ
الْإِيمانَ"
(1) أي جعله أحب الأديان إليكم بأن أقام الأدلة
على صحته و بما وعد من الثواب عليه
" وَ زَيَّنَهُ فِي
قُلُوبِكُمْ"
(2) بالألطاف الداعية إليه
" وَ كَرَّهَ إِلَيْكُمُ
الْكُفْرَ"
(3) بما وصف من العقاب عليه و بوجوه الألطاف
الصارفة عنه
" وَ الْفُسُوقَ"
(4) أي الخروج عن الطاعة إلى المعاصي
" وَ الْعِصْيانَ"
(5) أي جميع المعاصي، و قيل: الفسوق الكذب و هو
المروي عن أبي جعفر عليه السلام
" أُولئِكَ هُمُ
الرَّاشِدُونَ"
(6) يعني الذين وصفهم بالإيمان و زينه في قلوبهم
هم المهتدون إلى معالي الأمور، و قيل: هم الذين أصابوا الرشد و اهتدوا إلى الجنة،
انتهى.
و يحتمل أن يكون المراد بالكفر
الإخلال بالعقائد الإيمانية، و بالفسوق الكبائر و بالعصيان الصغائر أو الأعم أو
بالكفر ترك الإيمان ظاهرا و باطنا، و بالفسق النفاق و بالعصيان جميع المعاصي، و قد
ورد في أخبار كثيرة قد مر بعضها أن الإيمان أمير المؤمنين و ولايته و الكفر و
الفسوق و العصيان الأول و الثاني و الثالث لعنهم الله، فيؤيد المعنى الأول الذي
ذكرنا في صدر الكلام.
(الحديث السادس)
(7): مجهول.
و الغرض من السؤال امتحان فهم القوم
و شدة اهتمامهم باستعلام ما هو الحق في ذلك و بالعمل به و كان اختيار كل منهم فعلا
و ذكره على سبيل الاحتمال أو الاستفهام، و لم يكن حكما منهم بأنه كذلك فإنه حينئذ
يكون قولا بغير علم
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
261
و فتوى بالباطل و هذا حرام، فكيف
يقرر هم صلى الله عليه و آله و سلم به و يحثهم عليه
" و ليس به"
(1) ضمير ليس للفضل المذكور، و ضمير"
به" للأوثق، أو ضمير ليس لكل من المذكورات و ضمير به للذي أراد صلى الله عليه
و آله و سلم و
توالي أولياء الله
(2) الاعتقاد بإمامة الذين جعلهم الله أولى
بالمؤمنين من أنفسهم، و
أعداء الله
(3) أضدادهم و غاصبوا خلافتهم أو الأعم منهم و
من سائر المخالفين و الكفار.
(الحديث السابع)
(4): ضعيف.
" على أرض زبرجدة"
(5) الإضافة كخاتم حديد
" في ظل عرشه"
(6) قال في النهاية:
أي في ظل رحمته، و قال النووي: قيل:
الظل عبارة عن الراحة و النعيم، نحو هو في عيش ظليل، و المراد ظل الكرامة لا ظل
الشمس لأنها و سائر العالم تحت العرش، و قال الآبي: و من جواب شيخنا أنه يحتمل جعل
جزء من العرش حائلا تحت فلك الشمس، و قال عياض: ظاهره أنه سبحانه يظلهم حقيقة من
حر الشمس و وهج الموقف، و أنفاس الخلائق و هو تأويل أكثرهم، و قال بعضهم: هو كناية
عن كنهم و جعلهم في كنفه و ستره، و منه قولهم: السلطان ظل الله، و قولهم: فلان في
ظل فلان أي في كنفه و عزه، انتهى.
و ظاهر الأخبار و الآيات أن العرش
يوضع يوم القيامة في الموقف و أن له
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول،
ج8، ص: 262
يمينا و شمالا، فيمكن أن يكون
المقربون في يمينه و من دونهم في شماله، و كلاهما يمين مبارك يأمن من استقر فيهما.
و قيل: يحتمل أن يراد به الرحمة و لها أفراد متفاوتة فأقواهما يمين و أدونهما يسار
و كلاهما مبارك ينجي من أهوال القيامة و قال في النهاية: فيه:
و كلتا يديه يمين،
(1) أي أن يديه تبارك و تعالى بصفة الكمال لا
نقص في واحدة منهما، لأن الشمال ينقص عن اليمين، و كل ما جاء في القرآن و الحديث
من إضافة اليد و الأيدي و اليمين و غير ذلك من أسماء الجوارح إلى الله فإنما هو
على سبيل المجاز و الاستعارة، و الله تعالى منزه عن التشبيه و التجسيم، انتهى.
" يغبطهم"
(2) تقول: غبطهم كضرب غبطا إذا تمنى مثل ما ناله
من غير أن يريد زواله لما أعجبه من حسنه، و كان المعنى أن الملك و النبي مع جلالة
قدرهما و عظم نعمتهما يعجبهما هذه المنزلة و يعدانها عظيمة، فلا يستلزم كون منزلته
دون منزلتهما و ربما يقرأ يغبطهم على بناء التفعيل، أي يعد أنهم ذوي غبطة، و حسن
حال أو مغبوطين للناس.
(الحديث الثامن)
(3): صحيح.
" يسمع الناس"
(4) على بناء الأفعال حال عن فاعل فنادى
" فتلقاهم"
(5) على بناء
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
263
المجرد أو على بناء التفعيل بحذف
إحدى التائين أي تستقبلهم
" و أي شيء كانت أعمالكم"
(1) أي منصوب بخبرية كانت، أي أية مرتبة بلغ تحابكم،
و أي شيء فعلتم حتى سميتم بهذا الاسم؟ قيل: هو استبعاد لكون محض التحاب سبب هذه
المنزلة
" نِعْمَ أَجْرُ
الْعامِلِينَ"
(2) المخصوص بالمدح محذوف أي أجركم و ما أعطاكم
ربكم.
(الحديث التاسع)
(3): ضعيف.
" علمه بالله"
(4) أي بذاته و صفاته بقدر وسعه و طاقته
" و من يحب و من يبغض"
(5) أي من يحبه الله من الأنبياء و الأوصياء
عليهم السلام و من يبغضه الله من الكفار و أهل الضلال أو الضمير في الفعلين راجع
إلى المؤمن أي علمه بمن يحب أن يحبه و يحب أن يبغضه و كأنه أظهر.
(الحديث العاشر)
(6): حسن كالصحيح.
قوله عليه السلام: إن الرجل ليحبكم،
(7) أقول: يحتمل وجوها: الأول: أن يكون المراد
بهم المستضعفين من المخالفين فإنهم يحبون الشيعة و لا يعرفون مذهبهم، و يحتمل
دخولهم الجنة بذلك.
الثاني: أن يكون المراد بهم
المستضعفين من الشيعة فإنهم يحبون علماء الشيعة و صلحائهم و لكن لم يصلوا إلى ما
هم عليه من العقائد الحقة و الأعمال الصالحة فيدخلون بذلك الجنة، و منهم من يبغض
العلماء و الصلحاء فيدخلون بذلك النار،
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
264
فإن كان بغضهم للعلم و الصلاح فهم
كفرة و إلا فهم فسقة كما ورد: كن عالما أو متعلما أو محبا للعلماء و لا تكن رابعا
فتهلك.
الثالث: أن يكون المراد بما أنتم
عليه الصلاح و الورع دون التشيع كما ذكره بعض المحققين.
الرابع: أن يكون المراد بما أنتم
عليه المعصية كما روي أن حفصا كان يلعب.
بالشطرنج، فالمراد أن من أحبكم لظاهر
إيمانكم و تشيعكم مع عدم علمه بالمعاصي التي أنتم عليه فبذلك يدخل الجنة، و من
أبغضكم لكونكم مؤمنين و لم يعلم فسقكم ليبغضكم لذلك فهو من أهل النار لأن بغض
المؤمن لإيمانه كفر.
(الحديث الحادي عشر)
(1): مجهول.
" يحب أهل طاعة الله"
(2) أي سواء وصل منهم ضرر إلى دنياه أو لم يصل
" و يبغض أهل معصيته"
(3) سواء وصل منهم إليه نفع أو لم يصل
" و إذا كان يبغض أهل طاعة
الله"
(4) لضرر دنيوي
" و يحب أهل معصيته"
(5) لنفع دنيوي، و قيل: أصل المحبة الميل و هو
على الله سبحانه محال، فمحبة الله للعبد رحمته و هدايته إلى بساط قربه و رضاه عنه،
و إرادته إيصال الخير إليه و فعله له فعل المحب، و بغضه سلب رحمته عنه و طرده عن
مقام قربه و وكوله إلى نفسه، و كون المرء من أحب لا يستلزم أن يكون مثله في
الدرجات أو في الدركات فإن دخوله مع محبوبة في الجنة أو في النار يكفي لصدق ذلك.
مرآة
العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 265
(الحديث الثاني عشر)
(1) مرسل.
قوله عليه السلام: لأثابه الله،
(2) أقول: هذا إذا لم يكن مقصرا في ذلك و لم يكن
مستندا إلى ضلالته و جهالته كالذين يحبون أئمة الضلالة و يزعمون أن ذلك لله فإن
ذلك لمحض تقصيرهم عن تتبع الدلائل و اتكالهم على متابعة الآباء و تقليد الكبراء و
استحسان الأهواء بل هو كمن أحب منافقا يظهر الإيمان و الأعمال الصالحة و في باطنه
منافق فاسق فهو يحبه لإيمانه و صلاحه لله و هو مثاب بذلك و كذا الثاني فإن أكثر
المنافقين يبغضون الشيعة و يزعمون أنه لله و هم مقصرون في ذلك كما عرفت.
و أما من رأي شيعة يتقي من المخالفين
و يظهر عقائدهم و أعمالهم و لم ير و لا سمع منه ما يدل على تشيعه فإن أبغضه و لعنه
فهو في ذلك مثاب مأجور و إن كان من أبغضه من أهل الجنة و مثابا عند الله بتقية أو
كأحد من علماء الشيعة زعم عقيدة من العقائد كفرا أو عملا من الأعمال فسقا و أبغض
المتصف بأحدهما لله و لم يكن أحدهما مقصرا في بذل الجهد في تحقيق تلك المسألة فهما
مثابان و هما من أهل الجنة إن لم يكن أحدهما ضروريا للدين.
(الحديث الثالث عشر)
(3): مجهول.
" قد يكون حب في الله و
رسوله"
(4) أي لهما كحب الأنبياء و الأئمة عليهم السلام
و حب
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
266
العلماء و السادات و الصلحاء و
الإخوان من المؤمنين لعلمهم و سيادتهم و صلاحهم و إيمانهم و لأمره تعالى و رسوله
بحبهم
" و حب في الدنيا"
(1) كحب الناس لبذل مال و تحصيله أو لنيل جاه و
غرض من الأغراض الدنيوية
" فليس بشيء"
(2) أي فأقل مراتبه أنه لا ينفع في الآخرة بل
ربما أضر إذا كان لتحصيل الأموال المحرمة و المناصب الباطلة أو لفسقهم أو للعشق
الباطل و أمثال ذلك.
(الحديث الرابع عشر)
(3): موثق.
" فأفضلهما"
(4) أي عند الله و أكثرهما ثوابا
" أشدهما حبا لصاحبه"
(5) في الله كما مر.
(الحديث الخامس عشر)
(6): صحيح.
(الحديث السادس عشر)
(7): مجهول.
" كل من لم يحب على الدين"
(8) إن كان المراد أنه لم يكن شيء من حبه و
بغضه للدين،
فقوله: فلا دين له
(9)، على الحقيقة لأنه لم يحب النبي صلى الله
عليه و آله و الأئمة عليهم السلام أيضا لله و لا أبغض أعداءهم لله، و إن كان
المراد غالب حبه و بغضه أو حب أهل زمانه، أو لم يكن جميع حبه و بغضه للدين فالمعنى
لا دين له كاملا.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
267
باب ذم الدنيا و الزهد فيها
(1)
(الحديث الأول)
(2): مجهول.
و قال في المغرب:
زهد
(3) في الشيء و عن الشيء زهدا و زهادة إذا رغب
عنه و لم يرده، و من فرق بين زهد فيه و عنه فقد أخطأ، و قال في عدة الداعي: روي أن
النبي صلى الله عليه و آله و سلم سئل جبرئيل عن تفسير الزهد فقال جبرئيل عليه
السلام: الزاهد يحب من يحب خالقه و يبغض من يبغض خالقه و يتحرج من حلال الدنيا و
لا يلتفت إلى حرامها، فإن حلالها حساب و حرامها عقاب و يرحم جميع المسلمين كما
يرحم نفسه و يتحرج من الكلام فيما لا يعنيه كما يتحرج من الحرام و يتحرج من كثرة
الأكل كما يتحرج من الميتة التي قد اشتد نتنها و يتحرج من حطام الدنيا و زينتها
كما يتجنب النار أن يغشاها و أن يقصر أمله و كان بين عينيه أجله.
و الحكمة
(4): العلوم الحقة المقرونة بالعمل أو العلوم
الربانية الفائضة من الله تعالى بعد العمل بطاعته، و قد مر تحقيقها في كتاب العقل
و غيره.
قال الراغب: الحكمة إصابة الحق
بالعلم و الفعل فالحكمة من الله تعالى معرفة الأشياء و إيجادها علي غاية الأحكام،
و من الإنسان معرفة الموجودات و فعل الخيرات و هذا هو الذي وصف به لقمان في قوله
تعالى:" وَ لَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ" و نبه علي جملتها بما
وصفه بها، انتهى.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
268
قوله عليه السلام: داءها و دواءها،
(1) كأنه بدل اشتمال للعيوب أي المراد بتبصير
العيوب أن يعرفه أدواء الدنيا من ارتكاب المحرمات و الصفات الذميمة المتفرعة على
حب الدنيا و يعرفه ما يعالج به تلك الأدواء من التفكرات الصحيحة و المواعظ الحسنة
و فعل الطاعات و الرياضات و مجاهدة النفس في ترك الشهوات كان يقال: الطب معرفة
الأمراض بأن يعرف ما تحصل منه، و أصل المرض و كيفية علاجه، أو يقال: الدنيا
دنياءان دنيا بلاغ يصير سببا لتحصيل الآخرة، و دنيا ملعونة، فلما ذكر عيوب الدنيا
فصلها و بين أن منها ما هو داء و منها ما هو دواء.
و يحتمل حينئذ ارتكاب استخدام بأن
يكون المراد بالدنيا أولا الدنيا المذمومة و بالضمير الأعم، و يحتمل أن يكون داؤها
تأكيدا لعيوب الدنيا و دوائها عطفا على العيوب، و قيل: داؤها و دواؤها مجروران
بدلا بعض للدنيا فالمراد بعيوب دواء الدنيا شدتها على النفس و صعوبتها، و ربما
يقرأ دواها بالقصر بمعنى الأحمق أي المبتلي بحب الدنيا، و لا يخفى بعده.
" و أخرجه من الدنيا
سالما"
(2) من العيوب و المعاصي
" إلى دار السلام"
(3) أي الجنة التي من دخلها سلم من جميع المكاره
و الآلام.
(الحديث الثاني)
(4): ضعيف.
" جعل الخير". اه
(5) لما كان الزهد في الدنيا سببا لحصول جميع
السعادات العلمية و العملية شبه تلك الكمالات بالأمتعة المخزونة في بيت و الزهد
بمفتاح
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
269
ذلك البيت
" لا يجد الرجل". اه
(1) شبه صلى الله عليه و آله و سلم الإيمان
بشيء حلو في ميل الطبع السليم إليه و أثبت له الحلاوة علي الاستعارة المكنية و
التخييلية، أو استعار لفظ الحلاوة لآثار الإيمان التي تلتذ الروح بها.
" حتى لا يبالي من أكل
الدنيا"
(2) يحتمل أن يكون من اسم موصول و أكل فعلا
ماضيا و أن يكون" من" حرف جر و أكل مصدرا، فعلى الأول المعنى أنه لا
يعتني بشأن الدنيا بحيث لا يحسد أحدا عليها، و لو كانت كلها لقمة في فم كلب لم
يغتم لذلك، و لم ير ذلك له كثيرا، و علي الثاني أيضا يرجع إلى ذلك، أو المعنى لا
يعتني بأكل الدنيا و التصرف فيها.
(الحديث الثالث)
(3): صحيح.
" إن من أعون الأخلاق".
اه
(4) و ذلك لأن الاشتغال بالدنيا و صرف الفكر في
طرق تحصيلها و وجه ضبطها و رفع موانعها مانع عظيم من تفرغ القلب للأمور الدينية و
تفكره فيها بل حبها لا يجتمع مع حب الله تعالى و طاعته و طلب الآخرة كما روي: أن
الدنيا و الآخرة ضرتان، إذ الميل بأحدهما يضر بالآخر.
(الحديث الرابع)
(5): ضعيف.
و قد مر صدر هذا الخبر في باب الرضا
بالقضاء إلى قوله: ألا إن
الزهد
(6)، و
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
270
كان فيه الزهد عشرة أجزاء، و منهم من
جعل الأجزاء العشرة باعتبار ترك عشرة أشياء: المال و الأولاد و اللباس و الطعام و
الزوجة و الدار و المركوب و الانتقام من العدو و الحكومة و حب الشهرة بالخير، و هو
تكلف مستغنى عنه، و سيأتي بعض الأقسام في الحديث الثاني عشر.
و الآيات في الحديد هكذا:"
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ زِينَةٌ وَ تَفاخُرٌ
بَيْنَكُمْ وَ تَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَ الْأَوْلادِ" إلى قوله
سبحانه" وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ" ثم قال
تعالى بعد آية:" ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي
أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى
اللَّهِ يَسِيرٌ، لِكَيْلا تَأْسَوْا".
قال المفسرون: أي كتبنا ذلك في كتاب
لكيلا تأسوا
(1) أي تحزنوا على ما فاتكم من نعم الدنيا
" وَ لا تَفْرَحُوا بِما
آتاكُمْ"
(2) أي بما أعطاكم منها، و قال الطبرسي (ره):
و الذي يوجب نفي الأسي و الفرح من
هذا أن الإنسان إذا علم أن ما فات منها ضمن الله تعالى العوض عليه في الآخرة فلا
ينبغي أن يحزن لذلك، و إذا علم أن ما ناله منها كلف الشكر عليه و الحقوق الواجبة
فيه فلا ينبغي أن يفرح به و أيضا فإذا علم أن شيئا منها لا يبقى فلا ينبغي أن يهتم
له بل يجب أن يهتم لأمر الآخرة التي تدوم و لا تبيد، انتهى.
و لا يخفى أن هذين الوجهين لا
ينطبقان على التعليل المذكور في الآية إلا أن يقال: أن هذه الأمور أيضا من الأمور
المكتوبة، و لذا قال غيره: أن العلة في ذلك أن من علم أن الكل مقدر هان عليه
الأمر.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
271
و قال بعض الأفاضل: هو تعليل لقوله
قبل ذلك بثلاث آيات:" اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَ
لَهْوٌ" و هذا وجه حسن بحسب المعنى و لا تكلف في التعليل حينئذ لكنه بحسب
اللفظ بعيد و إن كانت الآيات متصلة بحسب المعنى مسوقة لأمر واحد و قد مر وجه آخر
في تأويل الآية في كتاب الحجة و أنها نازلة في أهل البيت عليهم السلام و قد بيناه
هناك.
و قال البيضاوي: المراد منه نفي
الأسي المانع عن التسليم لأمر الله و الفرح الموجب للبطر و الاختيال" وَ
اللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ" إذ قل من يثبت نفسه حالي السراء
و الضراء، انتهى.
و روي في نهج البلاغة عن أمير
المؤمنين عليه السلام أنه قال: الزهد كلمة بين كلمتين في القرآن، قال الله
سبحانه:" لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَ لا تَفْرَحُوا بِما
آتاكُمْ" فمن لم يأس على الماضي و لم يفرح بالآتي فقد أخذ الزهد بطرفيه.
(الحديث الخامس)
(1): كالسابق.
و روي في نهج البلاغة عن أمير
المؤمنين عليه السلام أنه قال: الزهد كلمة بين كلمتين في القرآن، قال الله
سبحانه:" لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَ لا تَفْرَحُوا بِما
آتاكُمْ" فمن لم يأس على الماضي و لم يفرح بالآتي فقد أخذ الزهد بطرفيه.
(الحديث الخامس)
(2): كالسابق.
و قد مر الحديث في باب الإخلاص مع
زيادة في صدره و هو قوله: قال سألته عن قول الله عز و جل" إِلَّا مَنْ أَتَى
اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ" قال: القلب السليم الذي يلقى ربه و ليس فيه أحد
سواه، و قال: و كل قلب. اه، و فيه دلالة على أن حب الدنيا متفرع على الشك أي عدم
اليقين الكامل بالآخرة، و الشرك أي عدم التوكل التام على الله تعالى في الرزق و
غيره، و الاعتماد على السعي و العمل و الاشتغال بتحصيل الدنيا و التوسل بغيره
تعالى، و هو إحدى مراتب الشرك الخفي
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 272
" فهو ساقط"
(1) أي عن درجة الاعتبار و القبول، و الترديد
على سبيل منع الخلو
" و إنما أرادوا"
(2) أي الأنبياء و الأوصياء و خلص أصحابهم
" بالزهد"
(3) الباء زائدة زيادتها في قوله تعالى:"
وَ مَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ".
(الحديث السادس)
(4): حسن كالصحيح.
" إن علامة الراغب"
(5) إشارة إلى ما عرفت من أن الدنيا و الآخرة
ضرتان لا يجتمع حبهما في قلب، فالراغب في أحدهما زاهد في الآخر لا محالة و إنما
أدخل العاجل لأنه السبب لاختيار الناس الدنيا غالبا على ثواب الآخرة آجلا، أو
لدلالته على عدم الثبات، و قيل: لأن زهرة الدنيا المتعلقة بالآجلة و الآخرة كقدر
ما يحتاج به الإنسان لتحصيل ما ينفع في الآخرة لا ينافي الرغبة في ثوابها بل معين
لحصوله، و المراد
بزهرة الدنيا
(6) بهجتها و نضارتها أو متاعها تشبيها له بزهرة
النبات لكونها أقل الرياحين ثباتا، و هو إشارة إلى قوله تعالى:" وَ لا
تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ
الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَ رِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَ
أَبْقى".
قال في القاموس: الزهرة و يحرك
النبات و نوره أو الأصفر منه، و من الدنيا بهجتها و نضارتها و حسنها، انتهى.
قوله عليه السلام: في هذه الدنيا
(7) الإشارة للتحقير
" و إن زهد"
(8) أي بالغ في الزهد، و كذا
قوله: و إن حرص
(9)، أو المراد بقوله: و إن زهد، و إن سعى في
صرفها عن نفسه،
مرآة
العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 273
و بقوله: إن حرص أي بالغ في تحصيلها
فالمراد بالزهد و الحرص الأولين القلبيان و بالآخرين الجسمانيان.
و الحاصل أن الرزق لكل أحد مقدر و إن
كان وصولها إليه مشروطا بقدر من السعي على ما أمره الشارع من غير إفراط يمنعه عن
الطاعات و لا تقصير كثير بترك السعي مطلقا و لا مدخل لكثرة السعي في كثرة الرزق،
فمن ترك الطاعات و ارتكب المحرمات في ذلك حرم ثواب الآخرة و لا يزيد رزقه في
الدنيا فهو مغبون، و هذا على القول بأن مقدار الرزق معين مقدر لا يزيد بالسعي و لا
ينقص بتركه، و على القول بأن الرزق المقدر الواجب على الله تعالى هو القدر الضروري
و يزيد بالكسب و السعي، فيحتاج الخبر إلى تأويل بعيد، و سيأتي الكلام عليه في محله
إنشاء الله تعالى.
(الحديث السابع)
(1): ضعيف كالموثق.
" إلا أن يكون فيها"
(2) كان الاستثناء منقطع و يحتمل الاتصال
" جائعا"
(3) أي بسبب الصوم أو الإيثار على الغير أو لأن
الجوع موجب للقرب من الله تعالى بخلاف الشبع فإنه موجب للبعد مع أن في الجوع
الاضطراري و الصبر عليه و الرضا بقضائه سبحانه لذة للمقربين
" خائفا"
(4) أي من عذاب الآخرة أو من العدو في الجهاد
أيضا أو لأن الضراء في الدنيا مطلقا موجب للسراء في الآخرة، و قد أشبعنا الكلام في
جوعه و قناعته و تواضعه صلى الله عليه و آله و سلم في المأكل و الملبس و المجلس و
سائر أحواله في كتابنا الكبير، و ذكرها هنا يوجب الإطناب.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
274
(الحديث الثامن)
(1): ضعيف.
" خرج النبي صلى الله عليه و
آله و سلم"
(2) أي من البيت أو إلى بعض الغزوات
" و هو محزون"
(3) لعل حزنه صلى الله عليه و آله و سلم كان
لضعف المسلمين و عدم رواج الدين و قوة المشركين و قلة أسباب الجهاد
" من غير أن تنقص"
(4) على بناء المجهول، قال الجوهري: نقص الشيء
و نقصته أنا يتعدى و لا يتعدى، انتهى.
و يمكن أن يقرأ على بناء المعلوم
فالمستتر راجع إلى المفاتيح، و في بعض النسخ على الغيبة أي ينقص أخذك شيئا من
المنزلة و الدرجة التي لك عندي
" من لا دار له"
(5) أي في الآخرة فالمعنى أن الذي يهتم لتحصيل
الدنيا و تعميرها ليست له دار في الآخرة، أو يختار الدنيا من لا يؤمن بأن له دارا
في الآخرة أو من لا دار له أصلا، فإن دار الآخرة قد فوتها و دار الدنيا لا تبقى
له
" و لها"
(6) أي للدنيا و العيش فيها.
" يجمع
(7) الأموال و الأسباب
" من لا عقل له"
(8) لأن العاقل لا يختار الفاني على الباقي، و
ربما يقرأ يجمع على بناء الأفعال من العزم و الاهتمام.
في القاموس: الإجماع الاتفاق، و صر
أخلاف الناقة جمع، و جعل الأمر جمعا بعد تفرقه و الأعداد و الإيناس و سوق الإبل
جميعا و العزم على الأمر أجمعت الأمر و عليه و الأمر مجمع، انتهى.
و يناسب هنا أكثر المعاني لكن الأول
أظهر.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
275
(الحديث التاسع)
(1): حسن كالصحيح.
و قال في النهاية: فيه أنه مر
بجدي
(2) أسك، أي مصطلم الأذنين مقطوعهما، و في
القاموس: السكك محركة الصمم و صغر الأذن و لزوقها بالرأس و قلة أشرافها أو صغر قوف
الأذن و ضيق الصماخ يكون في الناس و غيرهم و سككت و هو أسك و هي سكاء.
و أقول: روى مسلم في صحيحه هذا
الحديث بإسناده عن جابر بن عبد الله الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه و آله و
سلم مر بالسوق فمر بجدي أسك ميت فتناوله فأخذ بإذنه ثم قال:
أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟ فقالوا:
ما نحب أنه لنا بشيء و ما نصنع به؟ قال:
تحبون أنه لكم؟ قالوا: و الله لو كان
حيا كان عيبا فيه لأنه أسك فكيف و هو ميت؟
فقال: فو الله للدنيا أهون على الله
من هذا عليكم، و
المزبلة
(3) بفتح الباء و الضم لغة:
موضع يلقى فيه الزبل بالكسر و هو
السرقين.
(الحديث العاشر)
(4): ضعيف.
" و بصره عيوبها"
(5) أي الدنيا
" و من أوتيهن"
(6) أي تلك الخصال الثلاث و فيه إشعار بأنه لا
يتيسر إلا بتوفيق الله تعالى
" فَقَدْ أُوتِيَ"
(7) كأنه إشارة إلى قوله تعالى:" وَ مَنْ
يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً" فالحكمة العلم بالدين
أصوله و فروعه و بعيوب
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
276
الدنيا و الزهد فيها
" لم يطلب أحد الحق"
(1) أي الدين الحق
" بباب"
(2) أي بسبب و وسيلة أفضل من ترك الدنيا، فإنه
ليس الباعث لاختيار الباطل مع وضوح الحق و ظهوره إلا حب الدنيا فإنها غالبا مع أهل
الباطل، و يمكن تعميم الحق في كل حكم و مسألة فإن الأغراض الدنيوية تعمى القلب عن
الحق، أو المراد بالحق الرب تعالى أي قربه و وصاله
" و هو"
(3) أي الزهد
" ضد لما طلب أعداء الحق"
(4) و
قوله: مما ذا،
(5) طلب لبيان ما طلبه أعداء الحق فبين عليه
السلام
بقوله: من الرغبة فيها
(6)، و الرغبة و إن كانت عين الطلب لكن جعلها
مطلوبهم مبالغة.
و يحتمل أن يكون ما في قوله لما طلب
مصدرية فلا يكون هنا للبيان بل للتعليل كما سيأتي، و يحتمل أن يكون ضمير هو راجعا
إلى الحق أي الحق ضد لمطلوب أعداء الحق فمن في قوله: مما للتعليل" و ما
ذا" للاستفهام أي لأي علة صار ضد الحق مطلوبهم، قال: لرغبتهم في الدنيا، و
قيل: أي مما ذا طلب أعداء الحق مطلوبهم، و الهمزة في
ألا
(7) للاستفهام و لا للنفي، و
من
(8) زائدة لعموم النفي، و المعنى أ لا يوجد
صبار كريم
(9) النفس يصبر عن الدنيا و على فقرها و شدتها و
يزهد فيها؟ و قد يقرأ صبار بكسر الصاد و تخفيف الباء مصدر باب المفاعلة مضافا إلى
كريم، و قرأ بعضهم إلا بالتشديد استثناء من الرغبة فيها، أي إلا أن تكون الرغبة
فيها من صبار كريم يطلبها من طرق الحلال و يصبر عن الحرام و على إخراج الحقوق
المالية و إعانة الفقراء فإن الرغبة في هذه الدنيا إنما هي للآخرة و أول الوجوه
أظهرها.
ثم رغب عليه السلام في الزهد و سهل
تحصيله
بقوله: فإنما هي،
(10) أي الدنيا
" أيام قلائل"
(11) و هي أيام العمر فالصبر على ترك الشهوات و
تحمل الملاذ فيها سهل يسير
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
277
سيما إذا كان مستلزما للراحة الطويلة
الدائمة
" ألا إنه"
(1) ألا حرف تنبيه و شبه حصول الإيمان الكامل في
القلب بحيث يظهر أثره في الجوارح بإدراك طعم شيء لذيذ مع أن اللذات الروحانية
أعظم من اللذات الجسمانية.
قوله: إذا تخلى المؤمن من الدنيا،
(2) أي جعل نفسه خالية من حب الدنيا و قطع تعلقه
بها أو تفرغ للعبادة مجتنبا من الدنيا و معرضا عنها، قال في النهاية:
أن تقول أسلمت وجهي إلى الله و
تخليت، التخلي التفرغ، يقال: تخلى للعبادة و هو تفعل من الخلو و المراد التبرؤ من
الشرك و عقد القلب على الإيمان، و قال: السمو العلو يقال:
سما
(3) يسمو سموا فهو سام، و يقال: فلان يسمو إلى
المعالي إذا تطاول إليها، انتهى.
أي ارتفع من حضيض النقص إلى أوج
الكمال، أو مال و ارتفع إلى عالم الملكوت و ارتفعت همته عن التدنس بما في عالم
الناسوت" كأنه قد خولط" قال في القاموس:
خالطه
(4) مخالطة و خلاطا: مازجه و الخلاط بالكسر أن
يخالط الرجل في عقله و قد خولط، و في النهاية فيه: ظن الناس أن قد خولطوا و ما
خولطوا و لكن خالط قلبهم هم عظيم يقال: خولط فلان في عقله إذا اختل عقله، فقوله:
خولط بهذا المعنى و خالط بمعنى
الممازجة، و هذا أعلى درجات المحبين حيث استقر حب الله تعالى في قلوبهم و أخرج حب كل
شيء غيره منها فلا يلتفتون إلى غيره تعالى و يتركون معاشرة عامة الخلق لمباينة
طوره أطوارهم فهم يعدونه سفيها مخالطا كما نسبوا الأنبياء عليهم السلام إلى الجنون
لذلك.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول،
ج8، ص: 278
" إن القلب إذا صفا"
(1) أي إن القلب أي الروح الإنساني لما كان من
عالم الملكوت و إنما أهبط إلى هذا العالم الأدنى و ابتلي بالتعلق بالبدن لتحصيل
الكمالات و حيازة السعادات كما أن الثوب قد يلوث ببعض الكثافات ليصير بعد الغسل
أشد بياضا و أصفى مما كان، فإذا اختار الشقاوة و تشبث بهذه العلائق الجسمانية و
الشهوات الظلمانية لحق بالأنعام بل هو أضل سبيلا و إن تمسك بعروة الشريعة الحقة و
عمل بالنواميس الإلهية و الرياضات البدنية، حتى انفتح له عين اليقين فنظر إلى
الدنيا و لذاتها بتلك العين الصحيحة رآها ضيقة مظلمة فانية موحشة غدارة غرارة
ملوثة بأنواع النجاسات المعنوية و الصفات الدنية، استوحش منها و تذكر عالمه الأصلي
فرغب إليها و تعلق بها فجانب المتعلقين بهذا العالم و أنس بالمتعلقين بالملأ
الأعلى فلحق بهم، و ضاقت به الأرض و صارت همته رفيعة عالية فلم يرض إلا بالصعود
إلى سدرة المنتهى و جنة المأوى، فهم مع كونهم بين الخلق أرواحهم معلقة بالملأ
الأعلى، و يستصعدون بقرب المولى.
أو يقال: لما كانت الأرض أعظم أجزاء
الإنسان و كانت قواه الظاهرة و الباطنة مائلة إليها بالطبع لكمال النسبة بينهما
كانت الدواعي إلى زهراتها حاضرة و البواعث إلى لذاتها ظاهرة فربما اشتغل بها و
اكتسب الأخلاق و الأعمال الفاسدة لتحصيل المقاصد حتى تصير النفس تابعة لها راضية
بأثرها مشعوفة بعملها متكدرة بالشهوات منغمسة في اللذات فتحب الاستقرار في الأرض و
تركن إليها، و أما إذا منعت تلك القوي عن مقتضاها و صرفتها عن هواها و روضتها
بمقامع الشريعة و أدبتها بآداب الطريقة حتى غلبت عليها و صفت عن كدوراتها و طهرت
عن خبائث لذاتها و تحلت بالأخلاق الفاضلة و الأعمال الصالحة و الآداب السنية و
الأطوار الرضية ضاقت
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 279
بها الأرض حتى تسمو إلى عالم النور
فتشاهد العالم الأعلى بالعيان و تنظر إلى الحق بعين العرفان و يزداد لها نور
الإيمان و الإيقان، فتعاف جملة الدنيا و الاستقرار في الأرض فبدنها في هذه الدنيا
و هي في العالم الأعلى فيصير كما قال صلى الله عليه و آله و سلم: لو لا الآجال
التي كتبت عليهم لم تستقر أرواحهم في أبدانهم طرفة عين.
و لذا قال مولى المؤمنين عند
الشهادة: فزت و رب الكعبة.
(الحديث الحادي عشر)
(1): ضعيف.
" و أن لذلك"
(2) أي لبغض الدنيا
" لشعبا"
(3) أي من الصفات الحسنة و الأعمال الصالحة، و
هي ضد شعب المعاصي كالتواضع مع الكبر و القنوع مع الحرص و الرضا بما آتاه الله مع
الحسد، و قد مر ذكر الأضداد كلها في باب جنود العقل و الجهل، و إنما ذكر هنا
معظمها.
" و هي معصية آدم"
(4) هي عند الإمامية مجاز و النهي عندهم نهي
تنزيه
" فدخل ذلك"
(5) أي الحرص، أو أخذ ما لا حاجة به إليه
" و ذلك أن أكثر ما يطلب"
(6) إنما
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
280
قال: أكثر لأن قدر الكفاف لا بد منه
" فتشعب من ذلك"
(1) أي من ذلك المذكور و هو الكبر و الحرص و
الحسد، و التخصيص بالحسد بعيد معنى
" حب النساء"
(2) أي لمحض الشهوة لا لاتباع السنة، أو إذا
انتهى إلى الحرام و الشبهة
" و حب الدنيا"
(3) أي حياة الدنيا و كراهة الموت لئلا ينافي
اجتماعهن في حب الدنيا و إن احتمل أن يكون المراد اجتماع الخمسة، أو الظرفية
المجازية
" و حب الرئاسة"
(4) أي بغير استحقاق أو الباطلة أو لمحض
الاستيلاء و الغلبة.
" و حب الراحة"
(5) كان النوم أيضا داخل فيها
" و حب الكلام"
(6) أي بغير فائدة أو للفخر و المراء
" و حب العلو"
(7) أي في المجالس أو الأعم
" و حب الثروة"
(8) أي الكثرة في الأموال أو الأعم منها و من
الأولاد و العشائر و الأتباع.
و روي في المحاسن عن أبي عبد الله
عليه السلام قال: أول ما عصى الله به ست: حب الدنيا، و حب الرئاسة، و حب الطعام، و
حب النساء، و حب النوم، و حب الراحة.
قوله عليه السلام: و العلماء،
(9) أي الأوصياء أو الأعم و قولهم أما بالوحي أو
بعلومهم الكاملة، ثم لما كان هنا مظنة أن ارتكاب كل ما في الدنيا مذموم قسم عليه
السلام الدنيا إلى
" دنيا بلاغ"
(10) أي تبلغ به إلى الآخرة و يحصل بها مرضات
الرب تعالى أو دنيا تكون بقدر الضرورة و الكفاف فالزائد عليها
" ملعونة"
(11) أي ملعون صاحبها فالإسناد على المجاز أو هي
ملعونة أي بعيدة من الله و من الخير و السعادة قال في النهاية: البلاغ ما يتبلغ و
يتوصل به إلى الشيء المطلوب، و في المصباح: البلغة ما يتبلغ به من العيش و لا
يفضل يقال: تبلغ به إذا اكتفى به، و في هذا بلاغ و بلغة و تبلغ أي كفاية.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
281
(الحديث الثاني عشر)
(1): حسن موثق كالصحيح.
و يومي إلى أن المذموم من الدنيا ما
يضر بأمر الآخرة فأما ما لا يضر به كقدر الحاجة في البقاء و التعيش فليس بمذموم، و
لنذكر هنا معنى الدنيا و ما هو مذموم منها فإن ذلك قد اشتبه على أكثر الخلق فكثير
منهم يسمون أمرا حقا بالدنيا و يذمونه، و يختارون شيئا هو عين الدنيا المذمومة و
يسمونه زهدا و يشبهون ذلك على الجاهلين.
اعلم أن الدنيا تطلق على معان:"
الأول" حياة الدنيا و هي ليست بمذمومة على الإطلاق و ليست مما يجب بغضه و
تركه بل المذموم منها أن يحب البقاء في الدنيا للمعاصي و الأمور الباطلة، أو يطول
الأمل فيها و يعتمد عليها فبذلك يسوف التوبة و الطاعات و ينسى الموت و يبادر
بالمعاصي و الملاهي اعتمادا على أنه يتوب في آخر عمره عند مشيبه و لذلك يجمع
الأموال الكثيرة و يبني الأبنية الرفيعة و يكره الموت لتعلقه بالأموال و حبه
للأزواج و الأولاد، و يكره الجهاد و القتل في سبيل الله لحبه للبقاء أو يترك الصوم
و قيام الليل و أمثال ذلك لئلا يصير سببا لنقص عمره.
و الحاصل أن من يحب العيش و البقاء و
العمر للأغراض الباطلة فهو مذموم و من يحبه للطاعات و كسب الكمالات و تحصيل
السعادات فهو ممدوح و هو عين الآخرة فلذا طلب الأنبياء و الأوصياء عليهم السلام
طول العمر و البقاء في الدنيا و قد قال سيد الساجدين عليه السلام: عمرني ما كان
عمري بذلة في طاعتك فإذا كان عمري مرتعا للشيطان فاقبضني إليك، و لو لم يكن الكون
في الدنيا صلاحا للعباد لتحصيل الذخائر
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
282
للمعاد لما أسكن الله الأرواح
المقدسة في تلك الأبدان الكثيفة كما أومأنا إليه سابقا.
و قد روى السيد في النهج أن أمير
المؤمنين صلوات الله عليه سمع رجلا يذم الدنيا: فقال أيها الذام للدنيا المغتر
بغرورها المنخدع بأباطيلها أ تغتر بالدنيا ثم تذمها أ أنت المتجرم عليها أم هي
المتجرمة عليك، متى استهوتك أم متى غرتك أ بمصارع آبائك من البلى أم بمضاجع أمهاتك
تحت الثرى؟ كم عللت بكفيك و كم مرضت بيديك تبغي لهم الشفاء و تستوصف لهم الأطباء
لم ينفع أحدهم إشفاقك و لم تسعف فيه بطلبتك و لم تدفع عنهم بقوتك قد مثلت لك به
الدنيا نفسك و بمصرعه مصرعك، إن الدنيا دار صدق لمن صدقها و دار عافية لمن فهم
عنها و دار غنى لمن تزود منها، و دار موعظة لمن اتعظ بها، مسجد أحباء الله و مصلى
ملائكة الله و مهبط وحي الله و متجر أولياء الله، اكتسبوا فيها الرحمة و ربحوا
فيها الجنة فمن ذا يذمها و قد آذنت ببينها و نادت بفراقها و نعت نفسها و أهلها،
فمثلت لهم ببلائها البلاء و شوقتهم بسرورها السرور، راحت بعافية و ابتكرت بفجيعة
ترغيبا و ترهيبا و تخويفا و تخديرا، فذمها رجال غداة الندامة، و حمدها آخرون يوم
القيامة، ذكرتهم الدنيا فذكروا و حدثتهم فصدقوا، و وعظتهم فاتعظوا.
و قد أوردت هذه الخطبة أبسط من ذلك
في الكتاب الكبير و كفى بها مصدقا لما ذكرنا، و روى العياشي عن الباقر عليه السلام
في قوله تعالى:" وَ لَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ" قال: الدنيا الثاني:
الدينار و الدرهم و أموال الدنيا و أمتعتها، و هذه أيضا ليست مذمومة بأسرها بل
المذموم منها ما كان من حرام أو شبهة أو وسيلة إليها، و ما يلهى عن ذكر الله و
يمنع عبادة الله أو يحبها حبا لا يبذلها في الحقوق الواجبة و المستحبة، و
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
283
في سبل طاعة الله كما مدح الله تعالى
جماعة حيث قال:" رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ
اللَّهِ وَ إِقامِ الصَّلاةِ وَ إِيتاءِ الزَّكاةِ".
و بالجملة المذموم من ذلك الحرص
عليها و حبها و شغل القلب بها و البخل بها في طاعة الله و جعلها وسيلة لما يبعد عن
الله، و أما تحصيلها لصرفها في مرضات الله و تحصيل الآخرة بها فهي من أفضل
العبادات و موجبة لتحصيل السعادات.
و قد روي في الصحيح عن ابن أبي يعفور
قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إنا لنحب الدنيا فقال لي: تصنع بها ما ذا؟
قلت: أتزوج منها و أحج و أنفق على عيالي و أنيل إخواني و أتصدق، قال لي: ليس هذا
من الدنيا، هذا من الدنيا، هذا من الآخرة، و قد روي: نعم المال الصالح للعبد
الصالح و نعم العون الدنيا علي الآخرة، و سيأتي بعض الأخبار في ذلك في أبواب
المكاسب إنشاء الله تعالى.
الثالث: التمتع بملاذ الدنيا من
المأكولات و المشروبات و المنكوحات و الملبوسات و المركوبات و المساكن الواسعة و
أشباه ذلك و قد وردت أخبار كثيرة في استحباب التلذذ بكثير من ذلك ما لم يكن مشتملا
على حرام أو شبهة أو إسراف و تبذير، و في ذم تركها و الرهبانية و قد قال
تعالى:" قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ
الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ".
فإذا عرفت ذلك فاعلم أن الذي يظهر من
مجموع الآيات و الأخبار على ما نفهمه أن الدنيا المذمومة مركبة من مجموع أمور يمنع
الإنسان من طاعة الله سبحانه و قربه فهو من الآخرة و إن كان بحسب الظاهر من أعمال
الدنيا كالتجارات و الصناعات و الزراعات التي يكون المقصود منها تحصيل المعيشة
للعيال لأمره تعالى به
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
284
و صرفها في وجوه البر و إعانة
المحتاجين و الصدقات و صون الوجه عن السؤال و أمثال ذلك، فإن هذه كلها من أعمال
الآخرة و إن كان عامة الخلق يعدونها من الدنيا، و الرياضات المبتدعة و الأعمال
الريائية و إن كان مع الترهب و أنواع المشقة فإنها من الدنيا لأنها مما يبعد عن
الله و لا يوجب القرب إليه كأعمال الكفار و المخالفين، فرب مترهب متقشف يعتزل
الناس و يعبد الله ليلا و نهارا و هو أحب الناس للدنيا، و إنما يفعل ذلك ليخدع
الناس و يشتهر بالزهد و الورع، و ليس في قلبه إلا جلب قلوب الناس و يحب المال و
الجاه و العزة و جميع الأمور الباطلة أكثر من سائر الخلق، و جعل ترك الدنيا ظاهرا
مصيدة لتحصيلها و رب تاجر طالب الأجر لا يعده الناس شيئا و هو من الطالبين للآخرة
لصحة نيته و عدم حبه للدنيا.
و جملة القول في ذلك: أن المعيار في
العلم بحسن الأشياء و قبحها و ما يحب فعلها و تركها الشريعة المقدسة و ما صدر في
ذلك عن أهل بيت العصمة صلوات الله عليهم، فما علم من الآيات و الأخبار أن الله
تعالى أمر به و طلبه من عباده سواء كان صلاة أو صوما أو حجا أو تجارة أو زراعة أو
صناعة أو معاشرة للخلق أو عزلة أو غيرها و عملها بشرائطها و آدابها بنية خالصة فهي
من الآخرة.
و ما لم يكن كذلك فهو الدنيا
المذمومة المبعدة عن الله و عن الآخرة، و هي على أنواع: فمنها ما هو حرام و هو ما
يستحق به العقاب سواء كان عبادة مبتدعة أو رياء و سمعة أو معاشرة الظلمة أو ارتكاب
المناصب المحرمة أو تحصيل الأموال من الحرام أو للحرام، و غير ذلك مما يستحق به
العقاب، و منها ما هو مكروه كارتكاب الأفعال و الأعمال و المكاسب المكروهة و
كتحصيل الزوائد من الأموال و المساكن و المراكب و غيرها مما لم تكن وسيلة لتحصيل
الآخرة و تمنع من تحصيل السعادات الأخروية و منها ما هو مباح كارتكاب الأعمال التي
لم يأمر الشارع بها و لم ينه عنها إذا لم
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
285
تصر مانعة عن تحصيل الآخرة و إن كانت
نادرة، و يمكن إيقاع كثير من المباهاة على وجه تصير عبادة كالأكل و النوم للقوة
على العبادة و أمثال ذلك، و ربما كان ترك المباحات بظن أنها عبادة بدعة موجبة
لدخول النار كما يصنعه كثير من أرباب البدع.
و قد روى الصدوق (ره) في معاني
الأخبار بإسناده عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال:
ليس الزهد في الدنيا بإضاعة المال و
لا بتحريم الحلال، بل الزهد في الدنيا أن لا تكون بما في يدك أوثق منك بما في يد
الله عز و جل و عنه عليه السلام قال: قيل: لأمير المؤمنين عليه السلام: ما الزهد
في الدنيا؟ قال: تنكب حرامها و عن أمير المؤمنين عليه السلام قال:
الزهد في الدنيا قصر الأمل و شكر كل
نعمة و الورع عما حرم الله عليك، و عن الصادق عليه السلام قال: الزهد في الدنيا
الذي يترك حلالها مخافة حسابه و يترك حرامها مخافة عذابه.
و أقول: قد أشبعت القول في ذلك في
كتاب عين الحياة و لا يناسب هذا الكتاب أزيد من ذلك.
(الحديث الثالث عشر)
(1): صحيح.
و كان المراد
بذكر الموت
(2) تذكر ما بعده من الأهوال و الشدائد و
الحسرات أيضا، و إن كان تذكر الموت و فناء الدنيا كافيا لزهد العاقل.
(الحديث الرابع عشر)
(3): مجهول.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
286
" لد للموات"
(1) اللام لام العاقبة كما في قوله تعالى:"
فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً" و الأمر
ليس على حقيقته بل الغرض: اعلموا أن ولادتكم عاقبتها الموت، و في نهج البلاغة قال
أمير المؤمنين: إن لله ملكا ينادي في كل يوم: لدوا للموت و اجمعوا للفناء و ابنوا
للخراب.
(الحديث الخامس عشر)
(2): كالسابق.
" إن الدنيا قد ارتحلت"
(3) يقال: رحل و ارتحل أي شخص و سار
" مدبرة"
(4) المراد بإدبار الدنيا تقضيها و انصرافها، و
بإقبال الآخرة قرب الموت، و ما يكون بعدها من نعيم أو عذاب، فشبه الدنيا و حياتها
براكب حمل على مراكبها أثقالها و هي لذات الدنيا و شهواتها و أموالها و سائر ما
يتعلق الإنسان بها، و الموت براكب آخر حمل على مراكبه نعيمه و عذابه و سائر ما
يكون بعده، فالراكب الأول يوما فيوما و ساعة فساعة في التقضي و الفناء فهو يبعد عن
الإنسان، و الراكب الثاني يسير إلى الإنسان و يقرب منه، فعن قريب يصل إليه فلا بد
من الاستعداد لوصوله و تلقيه بالعقائد الحقة و الأعمال الصالحة.
" و لكل واحدة منهما بنون"
(5) استعار عليه السلام لفظ البنين للعباد
بالنسبة إلى الدنيا و الآخرة فشبههم لميل كل منهم إلى إحداهما ميل الولد إلى
والده، و ركون الفصيل إلى أمه و توقع كل منهم توقع النفع من إحداهما و مشابهته
بها، و كونه مخلوقة
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
287
لأجلها، و شبه كلا منهما بالأب أو
بالأم لتأنيثهما أو الآخرة بالأب و الدنيا بالأم لنقصها و لمناسبة الآباء العلوية
بالأولى و الأمهات السفلية بالثانية، فكان أبناء الدنيا بمنزلة أولاد الزنا لا أب
لهم.
" فكونوا من أبناء الآخرة"
(1) لبقائها و خلوص لذاتها، و لكونها صادقة في
وعدها
" و لا تكونوا من أبناء
الدنيا"
(2) لفنائها و كذبها و غرورها و كون لذاتها
مشوبة بأنواع الآلام، ثم أشار عليه السلام إلى أن المقصود ليس مجرد رفض الدنيا و
ترك العمل لها بل مع إزالة حبها من القلب
بقوله:" و كونوا من
الزاهدين" إلخ.
(3)
و البساط
(4) فعال بمعنى المفعول، أي اكتفوا بالأرض عوضا
عن الفرش المبسوطة في البيوت مع عدم تيسر البساط إلا من الحرام أو الشبهة أو
مطلقا، و الأول أنسب بالجمع بين الأخبار، و كذا في البواقي و في الصحاح: البساط ما
يبسط و بالفتح الأرض الواسعة
" و التراب فراشا"
(5) بمعنى المفروش أي عوضا عن الثياب الناعمة
المحشوة بالقطن و غيره للنوم عليها، فإن التراب ألين من سائر أجزاء الأرض
" و الماء طيبا"
(6) فإن الطيب عمدة منفعته رفع الروائح الكريهة
و هو يتحقق بالغسل بالماء، و ما قيل: من أن المراد التلذذ بشرب الماء بدلا من
الأشربة اللذيذة لأن أصل الطيب اللذة كما في القاموس فهو بعيد.
" و قرضوا من الدنيا
تقريضا"
(7) على بناء المفعول من القرض بمعنى القطع، و
بناء التفعيل للمبالغة و قيل: بمعنى التجاوز من قرضت الوادي إذا جزته، أو بمعنى
العدول من قرضت المكان إذا عدلت منه، و في النهج، ثم قرضوا الدنيا قرضا.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
288
قوله عليه السلام: سلا عن الشهوات،
(1) أي نسيها و تركها، في القاموس: سلاه و عنه
كدعاه و رضيه سلوا و سلوا و سلوانا و سليا: نسيه، و أسلاه عنه فتسلى عن المحرمات و
في بعض النسخ عن الحرمات جمع الحرمة كالغرفات جمع الغرفة
" هانت عليه المصائب"
(2) لأنها راجعة إلى فوات الأمور الدنيوية، و من
زهد فيها سهل عنده فواتها.
قوله عليه السلام: كمن رأى،
(3) أي صاروا من اليقين بمنزلة المعاينة كما مر
في باب اليقين
" مخلدين"
(4) أي كأنه يرى خلودهم أو يراهم مع علمه
بخلودهم، و من الأفاضل من قرأ مخلدين على بناء الفاعل من الأفعال من قولهم أخلد
إليه أي مال، و لا يخفى بعده
" و قلوبهم محزونة"
(5) لهم الآخرة و خوف التقصير و عدم العلم
بالعاقبة.
" أنفسهم عفيفة"
(6) عن المحرمات و الشبهات
" و حوائجهم خفيفة"
(7) لاقتصارهم في الدنيا على القدر الضروري منها
" صبروا أياما قليلة"
(8) أي أيام عمرهم فإنها قليلة في جنب الآخرة
صبروا فيها على الفقر و الضر و مشقة فعل الطاعات و ترك المحرمات و إيذاء الظلمة و
المخالفين
" فصاروا بعقبى راحة
طويلة"
(9) في القاموس: العقبى جزاء الأمر، و قال
الراغب: العقب و العقبى يختصان بالثواب نحو" خَيْرٌ ثَواباً وَ خَيْرٌ
عُقْباً" و قال:" أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ" فَنِعْمَ
عُقْبَى الدَّارِ"، و العاقبة إطلاقها يختص
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
289
بالثواب نحو" وَ الْعاقِبَةُ
لِلْمُتَّقِينَ" و بالإضافة قد تستعمل في العقوبة نحو" ثُمَّ كانَ
عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى انتهى.
و أقول: العقبى غالبة أنه يستعمل في
الثواب و قد يستعمل في العقاب أيضا كقوله تعالى:" تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ
اتَّقَوْا وَ عُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ" و قوله سبحانه:
" وَ لا يَخافُ عُقْباها"
و قال البيضاوي في قوله تعالى:" أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ" أي
عاقبة الدنيا و ما ينبغي أن يكون مال أهلها و هي الجنة، و في قوله سبحانه:
" تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ
اتَّقَوْا" أي الجنة الموصوفة ما لهم و منتهى أمرهم و في قوله:
" وَ سَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ
لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ" اللام يدل على أن المراد بالعقبى العاقبة المحمودة،
انتهى.
و الباء في قوله: بعقبى، إما بمعنى
إلى أو بمعنى مع، و إضافة العقبى إلى الراحة للبيان و يحتمل غيره أيضا، و في فقه
الرضا عليه السلام: فصارت لهم العقبى راحة طويلة، و أما الليل ظاهره النصب على
الظرفية، و قيل: يحتمل الرفع على الابتداء و التخصيص به، لأن العبادة فيه أشق و
أقرب إلى القربة، و حضور القلب فيه أكثر كما قال تعالى:" إِنَّ ناشِئَةَ
اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَ أَقْوَمُ قِيلًا".
" فصافون أقدامهم"
(1) أي للصلاة، و يدل علي استحباب صف القدمين في
الصلاة بحيث لا يكون إحداهما أقرب من القبلة من الأخرى أو تكون الفاصلة بينهما من
الأصابع إلى العقبين مساوية و الأول أظهر، و على استحباب التضرع و البكاء في
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
290
صلاة الليل و في القاموس:
جار
(1) كمنع جارا و جؤارا: رفع صوته بالدعاء و تضرع
و استغاث،
قوله عليه السلام: في فكاك رقابهم،
(2) أي من النار
" كأنهم القداح"
(3) و في القاموس:
القدح بالكسر السهم قبل أن يراش و
ينصل و الجمع قداح و أقداح و أقاديح، انتهى.
و أشار عليه السلام إلى وجه التشبيه
بالقداح
بقوله: قد براهم الخوف،
(4) أي نحلهم و ذبلهم كما يبري السهم، في
القاموس: بري السهم يبرئه بريا و ابتراه نحته و برأه السفر يبرئه بريا هزله، و
قوله: من العبادة
(5)، إما متعلق بقوله براهم أي نحتهم الخوف بآلة
العبادة أي بحمله إياهم عليها و على كثرتها، أو بقوله: كأنهم القداح فيرجع إلى الأول
و على التقديرين من للسببية و العلية أو متعلق بالخوف أي من قلة العبادة و الأول
أظهر.
" فيقول مرضى"
(6) أي يظن أنهم مرضى لصفرة وجوههم و نحافة
بدنهم فخطأ عليه السلام ظنه و قال: و
ما بالقوم من مرض
(7)" بل هم الأصحاء من الأدواء النفسانية و
الأمراض القلبية
" أم خولطوا"
(8) أي أو يقول خولطوا، و يحتمل أن يكون قوله:
مرضى، على الاستفهام و قوله: أم
خولطوا معادلا له من كلام الناظر فاعترض جوابه عليه السلام بين أجزاء كلامه.
و الحاصل أنهم لما كانوا لشدة
اشتغالهم بحب الله و عبادته و اعتزالهم عن عامة الخلق و مباينة أطوارهم لأطوارهم و
أقوالهم لأقوالهم و يسمعون منهم ما هو فوق إدراكهم و عقولهم فتارة ينسبونهم إلى
المرض الجسماني و تارة إلى المرض الروحاني و هو الجنون و اختلاط العقل بما يفسده،
فأجاب عليه السلام عن الأول بالنفي المطلق، و عن الثاني بأن المخالطة متحققة لكن لا
بما يفسد العقل، بل بما يكمله من خوف النار و حب الملك الغفار.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
291
(الحديث السادس عشر)
(1): ضعيف.
قوله عليه السلام: صافي خالص دين
الله،
(2) كان إضافة الصافي إلى الخالص للبيان تأكيدا
و يحتمل اللامية أي المحبة الصافية لله الحاصلة من خالص دينه، و في تحف العقول: من
دخل قلبه خالص حقيقة الإيمان و
" أكلته"
(3) و أختاها على صيغة الخطاب، و يحتمل التكلم،
و الغرض أن هذه لذات قليلة فانية و لا يختارها العاقل على النعم الجليلة الباقية
" لم يطمئنوا"
(4) أي لم يلههم الأمل الطويل عن العمل
" و لم يأمنوا"
(5) أي في كل حين
" قدومهم الآخرة"
(6) بالموت أو عذاب الآخرة.
" أهل فكرة"
(7) خبر مبتدإ محذوف استئنافا بيانيا و كذا
قوله: لم يصمهم،
(8) استئناف بياني للاستئناف
" ما سمعوا بأذانهم"
(9) من وصف ملاذ الدنيا و زهراتها و حكومة أهلها
و بسطة أيديهم فيها و القصص الملهية الباطلة
" و لم يعمهم عن ذكر الله"
(10) الحاصل بالعبرة من أحوال الدنيا و فنائها
" ففازوا"
(11) لترك الدنيا
" بثواب الآخرة كما فازوا بذلك
العلم"
(12) و هو العلم اليقيني بدناءة الدنيا و فنائها
و رفعة الآخرة و بقائها
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
292
و تميز الخير من الشر و الهدى من
الضلالة، و أهل الدنيا من أهل الآخرة و المحقين من المبطلين و من يجب اتباعه من
أهل الآخرة و أئمة الحق و من يجب التبري عنه من أهل الدنيا و أصحابها و أئمة
الضلالة، فهذه هي الحكمة الحاصلة من الزهد في الدنيا فلما فازوا بهذا العلم فازوا
بنعيم الآخرة
" أيسر أهل الدنيا مؤنة"
(1) المؤنة بالفتح القوت و الثقل، و ذلك لأنهم
يكتفون بقدر الكفاية بل الضرورة، و المعونة بالفتح القوت و الثقل، و ذلك لأنهم
يكتفون بقدر الكفاية بل الضرورة، و المعونة مصدر بمعنى الإعانة
" تذكر"
(2) أي حاجتك لهم
" فيعينونك فيها"
(3) أو إذا كنت متذكرا لما يوجب صلاح أمر دنياك
و آخرتك أعانوك على فعله، و إن كنت ناسيا له ذكروك و أرشدوك إليه ثم يعينونك مع
الحاجة إلى الإعانة
" قوالون بأمر الله"
(4) أي بما أمر الله به أو بكل أمر يرضى الله به
موعظة و إرشادا و تذكيرا و أمرا بالمعروف و نهيا عن المنكر
" قوامون على أمر الله"
(5) بحفظ دين الله و شرائعه و أصول الدين و
فروعه، و بمنع أهل الباطل و أرباب البدع من التغيير و التحريف في دين الله.
" قطعوا محبتهم"
(6) أي عن كل شيء أو عما لا يرضى الله
" بمحبة ربهم"
(7) أي بسببها أو جعلوا محبتهم تابعين لمحبة
الله و لا يحبون شيئا إلا لحب الله له كقوله تعالى:
" وَ ما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ
يَشاءَ اللَّهُ".
" و حشوا الدنيا"
(8) الوحشة ضد الأنس أي لم يستأنسوا بالدنيا
" لطاعة مليكهم"
(9) أي مالكهم و سيدهم أو ذي الملك و السلطنة
عليهم إما لأمره بالزهد في الدنيا أو لأن طاعة الله مطلقا و الإخلاص فيها لا تجتمع
مع حب الدنيا
" نظروا إلى الله و إلى محبته
بقلوبهم"
(10) الظرف في قوله بقلوبهم متعلق بنظروا، أي لم
ينظروا بعين قلوبهم
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
293
إلا إلى الله أي رضاه أو معرفته و
مراقبته و ذكره و عدم الالتفات إلى غيره و إلى محبته أي تحصيل حبهم لله أو حب الله
لهم أو الأعم كما قال تعالى:" يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ" أو ما يحبه
الله من الأخلاق و الأعمال و الأقوال.
" و علموا أن ذلك"
(1) أي المذكور و هو الله و محبته و الإشارة
للتعظيم
" هو المنظور إليه"
(2) أي هو الذي ينبغي أن ينظر إليه لا غيره
لعظمة شأنه و حقارة ما سواه بالنسبة إليه.
" فأنزل الدنيا"
(3) أي اجعلها عند نفسك كمنزل نزلته
" ثم ارتحلت عنه"
(4) بل هذه الدنيا بالنسبة إلى الآخرة أقصر
بالمراتب الغير المتناهية عن نسبة مدة نزول المنزل بالنسبة إلى مدة عمر الدنيا لأن
الأولى نسبة المتناهي إلى غير المتناهي، و الثانية نسبة المتناهي إلى المتناهي.
و الغرض العمدة من التشبيه أنها لم
تخلق للتوطن بل للعبور كما أن منازل المسافر إنما بنيت لذلك و قد قال بعض الشعراء
في هذا المعنى:
نزلنا ههنا ثم ارتحلنا كذا الدنيا نزول و ارتحال
أردنا أن نقيم فيها و لكن مقيم المرء في الدنيا محال
و هذا مثل للمبتدين ثم ذكر مثلا كاملا للكاملين
و هو
" أو كما وجدته في منامك"
إلخ،
(5) فإن أكثر الناس في الدنيا كالنائمين لغفلتهم
عن الآخرة و عما يراد بهم، فإذا ماتوا لم يجدوا معهم شيئا مما اكتسبوه في الدنيا
للدنيا، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: الناس نيام إذا ماتوا انتبهوا.
ثم ذكر عليه السلام تمثيلا ثالثا و
هو أنها
كفيء الظلال
(6) في سرعة الزوال، و الظلال
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
294
بالكسر جمع الظل و هو و الفيء بمعنى
واحد عن كثير من الناس، و قال ابن قتيبة:
الظل يكون غدوة و عشية و الفيء لا
يكون إلا بعد الزوال لأنه ظل فاء عن جانب المغرب إلى جانب المشرق و الفيء الرجوع،
و قال ابن السكيت: الظل من الطلوع إلى الزوال و الفيء من الزوال إلى الغروب، و
قال تغلب: الظل للشجرة و غيرها للغداة، و الفيء للعشاء، و قال رؤبة: كلما كانت
عليه الشمس فزالت عنه فهو ظل و فيء، و ما لم تكن عليه الشمس فهو ظل و من هنا قيل:
الشمس تنسخ الظل و الفيء ينسخ الشمس.
و المراد هنا بالفيء إما المصدر أي
كرجوع الظلال أي كما تظل في ظل شجرة مثلا فتنتفع به ساعة فترجع عنك فتكون في الشمس
أو المراد بالفيء الظل و شجرة مثلا فتنتفع به ساعة فترجع عنك فتكون في الشمس أو
المراد بالفيء الظل و بالظلال ما أظلك من شجر و جدار و نحوهما، أو المراد بالظلال
قطعات السحاب التي توارى الشمس قليلا ثم تذهب و هذا أنسب.
قال في القاموس: الظل من كل شيء
شخصه، و من السحاب ما وارى الشمس منه و الظلالة بالكسر السحابة تراها وحدها و ترى
ظلها علي الأرض، و كسحاب ما أظلك، و قال: راعيته لاحظته محسنا إليه، و الأمر نظرت
إلى م يصير و أمره حفظه كرعاه، و استرعاه إياهم استحفظه، انتهى.
و في تحف العقول: فاحفظ يا جابر ما
أستودعك من دين الله و حكمته.
و
قوله عليه السلام: و لا تسألن
(1)، أقول: يحتمل وجوها: الأول: أن يكون المعنى
لا تبالغ في الدعاء و السؤال من الله عما لك عنده من الرزق و غيره مما ضمن لك، و
لكن سله التوفيق عما له عندك من الطاعات، و الاستثناء ظاهره الانقطاع، و يحتمل
الاتصال أيضا لأن التوفيق و الإعانة أيضا عما للعبد عند الله.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
295
الثاني: أن يكون المراد لا تسأل أحدا
عما لك عند الله من الأجر و الرزق و أمثالهما فإنها بيد الله و علمها عنده و لا
ينفعك السؤال عنها بل سل العلماء عما لله عندك من الطاعات لتعلم شرائطها و
كيفياتها.
الثالث: أن يكون المعنى أنك لا تحتاج
إلى السؤال عما لك عند الله من الثواب فإنه بقدر ما لله عندك من عملك فيمكنك
معرفته بالرجوع إلى نفسك و عملك فعلى هذا يحتمل أن يكون التقدير لا تسأل عما لك عند
الله من أحد إلا مما له عندك فيكون ما له عنده مسئولا و الاستثناء متصلا لكن في
السؤال تجوز.
و يؤيد الأخير على الوجهين ما روي في
المحاسن عن أبي عبد الله عليه السلام قال:
قال رسول الله صلى الله عليه و آله و
سلم: من أحب أن يعلم ما له عند الله فليعلم ما لله عنده، و في تحف العقول في هذا
الخبر مكان هذه الفقرة هكذا: و انظر ما لله عندك في حياتك فكذلك يكون لك العهد
عنده في مرجعك.
قوله عليه السلام: فإن تكن الدنيا،
(1) أقول: هذه الفقرة أيضا تحتمل وجوها:
الأول: ما ذكره بعض المحققين أن
المعنى إن تكن الدنيا عندك على غير ما وصفت لك فتكون تطمئن إليها فعليك أن تتحول
فيها إلى دار ترضى فيها ربك يعني أن تكون في الدنيا ببدنك و في الآخرة بروحك تسعى
في فكاك رقبتك و تحصيل رضا ربك عنك حتى يأتيك الموت.
الثاني: ما ذكره بعض الأفاضل أن
المعنى إن تكن الدنيا عندك على غير ذلك فانتقل إلى مقام التوبة و الاستعتاب و
الاسترضاء فإن هذه عقيدة سيئة.
الثالث: ما خطر بالبال أن المعنى إن
لم تكن الدنيا عندك على ما وصفت لك فتوجه إلى الدنيا و انظر بعين البصيرة فيها و
تفكر في أحوالها من فنائها و تقلبها بأهلها ليتحقق لك حقيقة ما ذكرت، و إنما عبر
عليه السلام عن ذلك بالتحول إشعارا بأن من أنكر ذلك فكأنه لغفلته و غروره ليس في
الدنيا فليتحول إليها ليعرف ذلك.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
296
الرابع: أنه أراد أنه لا بد لكل مكلف
من دار استرضاء حتى يرضى فيها ربه بالأعمال الصالحة فإذا لم تكن الدنيا عندك كما
وصفتها لك بل تكون منهمكا في لذاتها حريصا عليها فلتطلب دار استرضاء أخرى غير التي
أنت فيها فإنه مما لا بد منه.
الخامس: أن يقرأ تحول بصيغة المضارع
المخاطب بحذف إحدى التائين فالمعنى أنه لا يخفى علي ذي عقل قبح الدنيا و فنائها
فإن زعمت أنه ليس كذلك فلعلك تقول ذلك لأجل أنها دار يمكن فيها تحصيل رضا الله، و
هذا لا ينافي ما ذكرت لك من ذم الركون إلى لذاتها و شهواتها كما عرفت سابقا.
السادس: أن يكون المراد بدار
المستعتب دار الآخرة لأن الكفار يطلبون فيها الرجوع إلى الدنيا عند مشاهدة عذابها
كما قال الله تعالى:" وَ إِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ
الْمُعْتَبِينَ" فالمراد به إن لم تصدق بهذه الأوصاف لهذه الدار فاصبر حتى
ترد دار القرار فإنه حينئذ يظهر لك حقية هذا الكلام، و على هذا الوجه يمكن أن يقرأ
على اسم الفاعل أيضا.
السابع: ما ذكره بعض المدعين للفضل
أن المستعتب لعله اسم رجل ذي جاه و مال أصابه الذل و ذهب جميع ما كان له، فقال
عليه السلام: تحول إلى داره لتعتبر به، و إنما ذكرناه لغرابته.
و أقول: في تحف العقول ليس لفظ"
غير" بل هو هكذا فإن تكن الدنيا عندك على ما وصفت لك فتحول عنها إلى دار
المستعتب اليوم، فيؤيد المعنى الأول أي إذا عرفت أن الدنيا كذلك و صدقت بما قلت
فتحول عنها أي انتقل إلى الآخرة بقلبك و اقطع تعلقك عن الدنيا اليوم اختيارا قبل
أن تقلع عنها عند الموت اضطرارا أو إلى
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
297
مقام الاسترضاء كما مر.
و الظاهر أن
المستعتب
(1) على أكثر الاحتمالات مصدر ميمي، قال في
القاموس:
العتبي بالضم الرضا و استعتبه أعطاه
العتبي كأعتبه و طلب إليه العتبي ضد" وَ إِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ
الْمُعْتَبِينَ" أي إن يستقيلوا ربهم لم يقلهم أي لم يردهم إلى الدنيا، و في
النهاية: العتبة الغضب، و أعتبني فلان إذا عاد إلى مسرتي، و استعتب طلب أن يرضي
عنه كما يقول: استرضيته فأرضاني، و المعتب المرضي، و منه الحديث: لا يتمنين أحدكم
الموت إما محسنا فلعله يزداد و إما مسيئا فلعله يستعتب، أي يرجع عن الإساءة و يطلب
الرضا، و منه الحديث: و لا بعد الموت من مستعتب، أي ليس بعد الموت من استرضاء، لأن
الأعمال بطلت و انقضى زمانها، و ما بعد الموت دار جزاء لا دار عمل، انتهى.
و
قوله عليه السلام: فلعمري
(2) أي اقسم بحياتي، و في القسم مفتوح غالبا.
" لرب حريص على أمر"
(3) من أمور الدنيا
" قد شقي به حين أتاه"
(4) أي تعب به في الدنيا أو صار سببا لشقاوته في
الآخرة و يطلق غالبا على سوء العاقبة، و السعادة ضد الشقاوة و تطلق غالبا على حسن
العاقبة و راحة الآخرة.
في القاموس: الشقاء الشدة و العسر و
يمد شقي كرضي شقاوة و يكسر و شقا و شقاء و شقوة و يكسر و قال: السعادة خلاف
الشقاوة و قد سعد كعلم و عني فهو سعيد و مسعود، و قال الراغب: السعد و السعادة
معاونة الأمور الإلهية للإنسان على نيل الخير و يضاد الشقاوة، و قال: الشقاوة خلاف
السعادة و كما أن السعادة في الأصل ضربان سعادة أخروية و سعادة دنيوية ثم السعادة
الدنيوية ثلاثة أضرب سعادة نفسية و بدنية و خارجة، كذلك الشقاوة على هذه الأضرب.
و قال بعضهم: قد يوضع الشقاء موضع
التعب نحو شقيت في كذا و كل شقاوة
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
298
تعب و ليس كل تعب شقاوة، فالتعب أعم
من الشقاوة، و في التحف فلرب حريص على أمر من أمور الدنيا قد ناله فلما ناله كان
عليه وبالا و شقي به، و لرب كاره لأمر من أمور الآخرة قد ناله فسعد به، و إلى هنا
انتهى الخبر فيه.
قوله: و ليمحص الله،
(1) الآية في آل عمران عند ذكر غزوة أحد حيث قال
تعالى:
" وَ تِلْكَ الْأَيَّامُ
نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَ لِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ يَتَّخِذَ
مِنْكُمْ شُهَداءَ وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ، وَ لِيُمَحِّصَ اللَّهُ
الَّذِينَ آمَنُوا".
قال الطبرسي (ره) بين وجه المصلحة في
مداولة الأيام بين الناس، أي و ليبتلي الله الذين آمنوا و يمحق الكافرين بنقصهم،
أو ليخلص الله ذنوب المؤمنين أو ينجي الله الذين آمنوا من الذنوب بالابتلاء و يهلك
الكافرين بالذنوب عند الابتلاء.
أقول: هذا الوجه الأخير أنسب بالخبر
ليكون استشهادا للجزءين معا فإن الكافرين كانوا حرصاء في الغلبة على المؤمنين
فنالوها فصارت سببا لشقاوتهم و مزيد عذابهم، و المؤمنين كانوا كارهين للمغلوبية
فصارت سببا لمزيد سعادتهم و تمحيص ذنوبهم.
قال الراغب: أصل المحص تخليص الشيء
مما فيه من عيب يقال محصت الذهب و محصته إذا أزلت عنه ما يشوبه من خبث، قال
تعالى:" وَ لِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا" فالتمحيص هنا
كالتزكية و التطهير.
(الحديث السابع عشر)
(2): ضعيف كالموثق.
" جزى الله الدنيا عني
مذمة"
(3) قوله: مذمة مفعول ثان لجزى أي يوفقني
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
299
لأن أجزيه، و قيل: أحال الذم إلى
الله نيابة عنه للدلالة على كمال ذمه فإن كل فعل من الفاعل القوي قوي و في النهاية
الشملة
(1) كساء يتغطى به و يتلفف فيه، انتهى.
و يدل على جواز لبس الصوف بل
استحبابه و ما ورد بالنهي و الذم فمحمول على المداومة عليه أو على ما إذا لم يكن
للقناعة بل لإظهار الزهد و الفضل كما ورد في وصية النبي صلى الله عليه و آله و سلم
لأبي ذر رضي الله عنه: يلبسون الصوف في صيفهم و شتائهم، يرون أن لهم بذلك الفضل
على غيرهم، و سيأتي الكلام فيه في أبواب التجمل إنشاء الله تعالى.
(الحديث الثامن عشر)
(2): حسن.
" يا مبتغي العلم"
(3) أي يا طالبه
" كان شيئا من الدنيا"
(4) هذا يحتمل وجوها:
" الأول" أن يكون إلا في
قوله: إلا ما ينفع
(5)، كلمة استثناء و ما موصولة، فالمعنى أن ما
يتصور في هذه الدنيا أما شيء ينفع خيره أو شيء يضر شره كل أحد إلا من رحم الله
فيغفر له إما بالتوبة أو بدونها.
الثاني: أن يكون مثل السابق إلا أنه
يكون المعنى أن كل شيء في الدنيا له جهة نفع و جهة ضر لكل الناس إلا من رحم الله
فيوفقه للاحتراز عن جهة شره.
الثالث: أن يكون كلمة ما مصدرية و
الاستثناء من مفعول يضر أي ليس شيء من الدنيا شيئا إلا نفع خيره و إضرار شره كل
أحد إلا من رحم الله.
الرابع: ما قيل: أن إلا بالتخفيف حرف
تنبيه و ما نافية و الضميران للشيء و معنى الاستثناء أن المرحوم ينتفع بخيره و لا
يتضرر من شره، و قيل في بيان هذا
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
300
الوجه: يعني أن شيئا من الدنيا ليس
شيئا يعتد به و يركن إليه العاقل لأنه إما خير أو شر، و خيره لا ينفع لأنه في معرض
الفناء و الزوال، و شره يضر إلا مع رحمة الله و هو الذي عصمه من الشر.
الخامس: أن كلمة ما مصدرية و ضمير
خيره راجعا إلى شيئا من الدنيا و الإضافة من قبيل إضافة الجزء إلى الكل و
الاستثناء من مفعول يضر أي كان شيئا من الدنيا لم يكن شيئا إلا نفع الطاعة فيه أو
إضرار المعصية فيه كل أحد إلا من رحم الله بتوفيق التوبة، و هذا يرجع إلى المعنى
الثالث، و علي جميع التقادير الاستثناء الثاني مفرغ
" عن نفسك"
(1) أي عن تحصيل ما ينفعها في يوم لا ينفع مال و
لا بنون و قد قال تعالى:" يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ
أَمْوالُكُمْ وَ لا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ
فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ" و المراد بالأهل هنا أعم من الزوجة و الأولاد
و سائر من في بيته، بل يشمل الأقارب أيضا.
قال الراغب: أهل الرجل من جمعه و
إياهم نسب أو دين أو ما يجري مجراهما من صناعة و بيت و بلد و ضيعة، فأهل الرجل في
الأصل من جمعه و إياهم مسكن واحد ثم تجوز به فقيل أهل بيت الرجل لمن يجمعه و إياهم
نسب، و عبر بأهل الرجل عن امرأته و أهل الإسلام الذين يجمعهم.
قوله: كمنزل،
(2) أي كمنزلين تحولت من أحدهما إلى الآخر، و
التصريح بتشبيه الدنيا للإشارة إلى أن الاهتمام هنا ببيان حاله أشد و أكثر، و
الضمير في نمتها راجع إلى النومة و هو بمنزلة مفعول مطلق، و هذا بالنسبة إلى
المستضعفين، و كان التخصيص بذكرهم لأن المتقين بعد الموت في النعيم و الجنة، و
الكفار في العذاب و النار،
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
301
فليس بين الدنيا و الآخرة لهما
فاصلة، فيتحولون من الدنيا إلى الآخرة كما روي:
من مات فقد قامت قيامته، و أما
المستضعفون فلما كانوا ملهي عنهم استدرك ذلك بأن حالهم في البرزخ كنوم و ليلة، فلا
فاصلة بين دنيا هم و آخرتهم حقيقة، و يحتمل أن يكون الغرض بيان قلة نعيم البرزخ و
جحيمها بالنسبة إلى نعيم الآخرة و جحيمها، فكأنهم نائمون أو لأن جل عذابهم بعد
السؤال و الضغطة و أمثالهما لما كان روحانيا شبه تلك الحالة بالنومة.
و لم يتعرض أحد لتحقيق هذه الفقرة مع
إشكالها و مخالفتها ظاهرا للآيات و الأخبار الكثيرة.
قوله (ره): قدم،
(1) أي العمل الصالح
" لمقامك بين يدي الله عز و
جل"
(2) أي للحساب
" كما تدين تدان"
(3) أي كما تفعل تجازى، فهو على المشاكلة و لا
يضر تقدمه أو كما تجازي الرب تجازى، و لا يخلو من بعد، أو كما تجازي العباد تجازى
فيكون تأسيسا قال الجوهري: دانه دينا أي جازاه كما يقال: كما تدين تدان، أي كما
تجازي تجازى بفعلك و بحسب ما عملت، و قوله تعالى:" إِنَّا لَمَدِينُونَ"
أي مجزيون.
" يا مبتغي العلم"
(4) قيل: هذا افتتاح كلام آخر تركه المصنف، و
إنما ذكر ليعلم أن ما ذكره ليس جميع الخطبة كما مر بعضه في باب الصمت، حيث قال رضي
الله عنه: يا مبتغي العلم إن هذا اللسان مفتاح خير" إلخ".
(الحديث التاسع عشر)
(5): ضعيف.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
302
" ما لي و للدنيا"
(1) أي أي شغل لي مع الدنيا، و قيل:"
ما" نافية أي ما لي محبة مع الدنيا أو للاستفهام أي أي محبة لي معها حتى أرغب
فيها ذكره الطيبي في شرح بعض رواياتهم" و ما أنا و الدنيا" أي أي مناسبة
بيني و بين الدنيا، و من طريق العامة روي عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه
و آله و سلم نام على حصير فقام و قد أثر في جسده فقالوا:
لو أمرتنا أن نبسط لك و نعمل؟ فقال:
ما لي و للدنيا و ما أنا و الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح و تركها.
أقول: وجه الشبه سرعة الرحيل و قلة
المكث و عدم الرضا به وطنا، و قال الكرماني في شرح البخاري: فيه فرفعت لنا صخرة أي
ظهرت لأبصارنا، و فيه أيضا فرفع لي البيت المعمور، أي قرب و كشف و عرض و قال
الجوهري:
يوم صائف
(2) أي حار و ليلة صائفة و ربما قالوا: يوم صاف
بمعنى صائف، كما قالوا: يوم راح
" فقال"
(3) القائلة الظهيرة، يقال: أتانا عند القائلة،
و قد يكون بمعنى القيلولة أيضا، و هي النوم في الظهيرة تقول: قال يقيل قيلولة و
قيلا و مقيلا و هو شاذ فهو قائل، و في المصباح:
راح
(4) يروح رواحا و تروح مثله، يكون بمعنى الغدو و
بمعنى الرجوع، و قد يتوهم بعض الناس أن الرواح لا يكون إلا في آخر النهار، و ليس
كذلك بل الرواح و الغدو عند العرب يستعملان في المسير أي وقت كان من ليل أو نهار،
و قال ابن فارس: الرواح رواح العشي و هو من الزوال إلى الليل.
(الحديث العشرون)
(5): مجهول.
قال في المصباح:
القز
(6) معرب، قال الليث: هو ما يعمل منه الإبريسم،
و لهذا
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
303
قال بعضهم: القز الإبريسم، مثل
الحنطة و الدقيق، انتهى.
" و لفا"
(1) تميز عن نسبة ازدادت، و
غما
(2) مفعول له أو حال
" فلم يبق ما جمعوا"
(3) في بعض النسخ ما جمعوا له، و كأنه زيد"
له" من النساخ، و على تقديره كان المعنى لم تبق الأغراض و المطالب الباطلة
التي جمعوا لها الدنيا كالجاه و العزة و الغلبة و الفخر و أمثالها" فكان
حتفها" أي هلاكها المعنوي فإن التمتع بالمستلذات الجسمانية موجب لقوة القوى
الشهوانية و طغيانها، و هذا استعارة تمثيلية شبه توسع الإنسان في لذات الدنيا و
شهواتها و عدم مبالاته بحرامها و شبهاتها و ابتلائه بعد الموت بعقوباتها بشاة وقعت
في زرع أخضر فأكلت منها حيث شاءت و كيف شائت بلا مانع حتى إذا سمنت قتلها صاحبها
لسمنها.
" آخر الدهر"
(4) أي إلى آخر الزمان أي أبدا
" أخربها"
(5) أي دعها خرابا بترك ما لا تحتاج إليه من
المطاعم و المشارب و الملابس و المناكح و المساكن، و الاقتصار على القدر الضروري
في كل منها
" ستسأل"
(6) قيل: السين لمحض التأكيد
" فيما أبليته"
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
304
(1) كلمة" ما" في المواضع الأربعة
استفهامية و إثبات الألف مع حرف الجر فيها شاذ، و الثوب البالي هو الذي استعمل حتى
أشرف على الاندراس.
ثم إن العمر لا يستلزم القوة و الشباب،
فكل منهما نعمة يسأل عنها، و مع الاستلزام أيضا تكفي المغايرة للسؤال عن كل منهما
و أما السؤال عن المال إما لغير المؤمنين أو لغير الكاملين منهم، لما روي عن أمير
المؤمنين عليه السلام فيما كتب إلى أهل مصر: من عمل لله أعطاه الله أجره في الدنيا
و الآخرة و كفاه المهم فيهما، و قد قال الله تعالى:" يا عِبادِ الَّذِينَ
آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ
وَ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ
حِسابٍ" فما أعطاهم الله في الدنيا لم يحاسبهم به في الآخرة، قال الله
تعالى:" لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَ زِيادَةٌ" و الحسنى هي
الجنة، و الزيادة هي الدنيا.
و روى البرقي في الصحيح عن أبي عبد
الله عليه السلام قال: ثلاثة أشياء لا يحاسب العبد المؤمن عليهن: طعام يأكله، و
ثوب يلبسه، و زوجة صالحة تعاونه و يحصن بها فرجه و قد وردت أخبار كثيرة في تفسير
قوله تعالى:" لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ" أن النعيم
ولاية أهل البيت عليهم السلام، و قد روى العياشي و غيره أنه سأل أبو حنيفة أبا عبد
الله عليه السلام عن هذه الآية فقال له: ما النعيم عندك يا نعمان؟ قال: القوت من
الطعام و الماء البارد، فقال: لئن أوقفك الله بين يديه يوم القيامة حتى يسألك عن
كل أكلة أكلتها أو شربة شربتها ليطولن وقوفك بين يديه؟ قال: فما النعيم جعلت فداك؟
قال: نحن أهل بيت النعيم الذي أنعم الله بنا على العباد، الخبر.
و يمكن أن يقال: السؤال عن المال
اكتسبه من حلال أو حرام أو أنفقه في حلال
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
305
أو حرام، لا ينافي عدم محاسبتهم على
ما أنفقوه في الحلال من مأكلهم و مسكنهم و ملبسهم و نحو ذلك، أو المراد بتلك
الأخبار أنهم لا يعاتبون بذلك و لا يقاص من حسناتهم بها، فلا ينافي أصل المحاسبة
كما روى الشيخ في مجالسه بإسناده عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: يوقف العبد
بين يدي الله فيقول: قيسوا بين نعمتي عليه و بين عمله، فتستغرق النعم العمل،
فيقولون: قد استغرق النعم العمل، فيقول: هبوا له نعمتي و قيسوا بين الخير و الشر
منه فإن استوى العملان أذهب الله الشر بالخير، و أدخله الجنة و إن كان له فضل
أعطاه الله بفضله، و إن كان عليه فضل و هو من أهل التقوى و لم يشرك بالله تعالى، و
اتقى الشرك به فهو من أهل المغفرة يغفر الله له برحمته إن شاء و يتفضل عليه بعفوه.
و قال الجوهري: تأهب استعد و أهبه
الحرب عدتها و قال: الأسي مفتوح مقصور: الحزن، و أسى على مصيبته بالكسر يأسى أسى
أي حزن
" لا يدوم بقاؤه"
(1) و العاقل لا يتأسف بفوات قليل لا بقاء له.
" لا يؤمن بلاؤه"
(2) أي في الدنيا و الآخرة، و العاقل لا يتأسف
بفوت ما يتوقع منه الضرر و البلية، مع أن الرب الذي فوتها عليه أعلم بمصلحته، أو
المعنى لا تحزن على ما لم يصل إليك من الدنيا فإن الصبر على قليل الدنيا و قلته
سهل فإنه لا يدوم و ينقضي قريبا بالموت، و الكثرة محل الآفات
" فخذ حذرك"
(3) بالكسر أي ما تحذر به من مكائد النفس و
الشيطان في الدنيا و العذاب في الآخرة قال الراغب في قوله تعالى:" خُذُوا
حِذْرَكُمْ" أي ما فيه الحذر من السلاح و غيره
" و جد في أمرك"
(4) أي في تهيئة سفر الآخرة و الاستعداد للقاء
الله من العقائد الحسنة و الأعمال الصالحة
مرآة العقول
في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 306
و الأخلاق المرضية فإن من أراد سفرا
يأخذ الأسلحة لدفع ضرر الطريق و يجهز و يهيئ ما يحتاج إليه في ذلك السفر
" و اكشف الغطاء عن وجهك"
(1) أي ارفع غطاء الغفلة عن وجه قلبك لتميز بين
الحق و الباطل و الفاني و الباقي أو عن الجهة التي تتوجه إليه، و الطريق الذي
تسلكه لئلا يشتبه عليك فتسلك طريقا يؤديك إلى النار و أنت لا تعلم
" و تعرض لمعروف ربك"
(2) بما به تستحق إحسانه و تفضله عليك من صالح
النيات و الأعمال.
" و جدد التوبة في قلبك"
(3) أي كلما ذكرت معاصيك، و في النسبة إلى القلب
إشعار بأن التوبة أمر قلبي و هي الندامة عما مضى و العزم على عدم الإتيان بمثله
فيما سيأتي، و فيه دلالة على حسن تكرار التوبة و إن كانت عن معصية واحدة
" و اكمش"
(4) أي أسرع و عجل، في الصحاح: الكمش الرجل
السريع الماضي، و قد كمش بالضم كماشة فهو كمش و كميش و كمشته تكميشا أعجلته، و
انكمش أسرع، انتهى.
" في فراغك"
(5) أي في أن تفرغ من الأمور التي تحتاج إليه في
الآخرة أو في فراغك من الدنيا و جعلك نفسك فارغة منها للآخرة أو في قصدك إلى
الآخرة أو أسرع في العمل في أيام فراغك قبل أن تشتغل أو تبتلي بشيء يمنعك عنه،
فإن الفراغ خلاف الشغل، قال في المصباح: فرغ من الشغل فروغا من باب قعد، و من باب
تعب لغة لبني تميم و الاسم الفراغ، و فرغت للشيء و إليه قصدت.
أقول: و يؤيد المعنى الأخير ما روي
في مجالس الشيخ عن ابن عمر: خذ من حياتك لموتك، و خذ من صحتك لسقمك، و خذ من فراغك
لشغلك، فإنك يا عبد الله لا تدري ما اسمك غدا، و ما رواه الصدوق في مجالسه عن
الكاظم عن آبائه عليهم السلام
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
307
عن علي عليه السلام في قول الله عز و
جل:" وَ لا تَنْسَ نَصِيبَكَ" قال: لا تنس صحتك و قوتك و فراغك و شبابك
و نشاطك تطلب بها الآخرة
" قبل أن يقصد"
(1) على بناء المجهول
" قصدك"
(2) أي نحوك كناية عن توجه ملك الموت إليه لقبض
روحه أو توجه الأمراض و البلايا من الله إليه
" و يقضي قضاءك"
(3) أي يقدر و يحتم موتك، و يحال بالموت أو الأعم
بينك و بين ما تريد من التوبة و الأعمال الصالحة و لا ينفعه تمنى الحياة و الرجعة
حيث يقول:" رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ"
فيقال:
" كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ
قائِلُها وَ مِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ" أعاذنا الله
و سائر المؤمنين من ندامة تلك الساعة و أهوال هذا اليوم.
(الحديث الحادي و العشرون)
(4): مرسل.
و سيأتي تمام تلك المناجاة في الروضة
بسند آخر، و بعض تلك الفقرات مذكور فيها علي خلاف الترتيب، و يقال:
ركن إليه
(5) كنصر و علم و منع: مال، و يطلق غالبا على
الميل القلبي
" لو وكلتك"
(6) يدل على أن الزهد في الدنيا لا يحصل بدون
توفيقه تعالى، و في القاموس: نظر لهم رثى لهم و أعانهم و قال: النظر محركة الفكر
في الشيء تقدره و تقيسه، و الحكم بين القوم و الإعانة و الفعل كنصر، و في النهاية
المنافسة الرغبة في الشيء و الانفراد به، و هو من الشيء النفيس الجيد في نوعه و
نافست في الشيء منافسة و نفاسا إذا رغبت فيه.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
308
قوله تعالى:
فإن الخير كاسمه
(1)، لعل المعنى أن الخير لما دل بحسب أصل معناه
في اللغة على الأفضلية و ما يطلق عليه في العرف و الشرع من الأعمال الحسنة أو
إيصال النفع إلى الغير هي حير الأعمال، فالخير كاسمه أي إطلاق هذا الاسم على تلك
الأمور بالاستحقاق، و المعنى المصطلح مطابق للمدلول اللغوي، أو المراد به أن الخير
لما كان كل من سمعه يستحسنه فهو حسن واقعا و حسنه حسن واقعي.
و الحاصل أن ما يحكم به عقول عامة
الخلق في ذلك مطابق للواقع، أو المراد باسمه ذكره بين الناس، يعني إن الخير ينفع
في الآخرة كما يصير سببا لرفعة الذكر في الدنيا
" ما بك الغناء عنه"
(2) أي ما لم تحتج إليه بل لم تضطر إليه
" و لا تنظر"
(3) على بناء المجرد
" عينك"
(4) بالرفع أو بالنصب بنزع الخافض، أي بعينك، و
ربما يقرأ تنظر على بناء الأفعال أي لا تجعلها ناظرة إلى كل مفتون بها أي مبتلى
مخدوع بها، و المراد النظر إلى كل من لقيه منهم، فإنه لا يمكن النظر إلى كلهم أو
كناية عن أن النظر إلى واحد منهم بالإعجاب به و بما معه من زينتها بمنزلة النظر
إلى جميعهم، لاشتراك العلة
" و موكل إلى نفسه"
(5) المتبادر أنه على بناء المفعول لكن كان
الظاهر حينئذ و موكول، إذ لم يأت أو كله فيما عندنا من كتب اللغة لكن كثير من
الأبنية المتداولة كذلك، و يمكن أن يقرأ على بناء الفاعل من الإيكال بمعنى
الاعتماد، في القاموس: وكل بالله و توكل عليه و أو كل و اتكل استسلم إليه، و وكل
إليه الأمر وكلا و وكولا سلمه و تركه.
" أن كل فتنة"
(6) أي ضلاله أو بلية أو امتحان أو إثم، في
القاموس: الفتنة بالكسر الخبرة و إعجابك بالشيء و الضلال و الإثم و الكفر و
الفضيحة و العذاب، و إذابة الذهب و الفضة و الإضلال و الجنون و المحنة و المال و
الأولاد، و اختلاف الناس
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
309
في الآراء.
و أقول: يناسب هنا أكثر المعاني
" و لا تغبط أحدا"
(1) بأن تتمنى حاله
" تكثر الذنوب"
(2) بصيغة المضارع من باب حسن أو مصدر باب
التفعل
" لواجب الحقوق"
(3) أي للتقصير في أداء الحقوق الواجبة غالبا
" بطاعة الناس له"
(4) أي في الباطل.
(الحديث الثاني و العشرون)
(5): حسن موثق.
و في النهاية:
السم الناقع
(6) أي القاتل، و قد نقعت فلانا إذا قتلته، و
قيل:
الناقع الثابت المجتمع، من نقع
الماء، انتهى.
و ما أحسن هذا التشبيه و أتمه و
أكمله، و في النهج عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: مثل الدنيا مثل الحية لين
مسها و السم الناقع في جوفها، يهوي إليها الغر الجاهل، و يحذرها ذو اللب العاقل.
و في خبر المتن ظاهره أن الجملتين
الأخيرتين لبيان المشبه به، و في النهج لبيان المشبه، و يحتمل العكس في كل منهما،
و كون المشبه به أقوى لا ينافي كون ضرر الدنيا على طالبها واقعا أشد من ضرر الحية
على لامسها لأن الأشدية و الأظهرية إنما تعتبران بالنسبة إلى المخاطب، و المخاطبون
هنا هم أهل الدنيا
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
310
المغرورون بها، الغافلون عن مضارها و
ضرر الحية عندهم أشد و أبين.
(الحديث الثالث و العشرون)
(1): ضعيف.
و قال الراغب:
الوعظ
(2): خبر مقترن بتخويف و قال الخليل: هو التذكير
بالخير فيما يرق له القلب و العظة و الموعظة الاسم، و قال:
الوصية
(3) التقدم إلى الغير بما يعمل به مقترنا بوعظ
من قولهم أرض واصية متصلة النبات يقال: أوصاه و وصاه
" فإن من اتقى الله"
(4) علة للوصية
" عز"
(5) أي بعزة واقعية ربانية لا تزول بإزلال
الناس، كما قال تعالى وَ لِلَّهِ الْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ
" و قوي
(6) بقوة معنوية إلهية، و لا تشبه القوي البدنية
كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: ما قلعت باب خيبر بقوة جسمانية بل بقوة ربانية
" و شبع و روي"
(7) من غير اكتساب لقوله تعالى:
" وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ
يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ" أو شبع
بالعلوم اللدنية، و ارتوى بزلال الحكمة الإلهية
" و رفع عقله"
(8) على بناء المجهول
" عن أهل الدنيا"
(9) أي صار عقله أرفع من عقولهم أو أرفع من أن
ينظر إلى الدنيا و أهلها و يلتفت إليهم و يعتني بشأنهم إلا لهدايتهم و إرشادهم
" فبدنة مع أهل الدنيا"
(10) لكونه من جنس أبدانهم في الصورة الجسدانية
" و قلبه و عقله"
(11) لشدة يقينه
" معائن الآخرة"
(12) لتخليه عن العلائق الجسمانية
" من حب الدنيا"
(13) من للبيان أو للتبعيض، و إسناد الإبصار
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
311
إلى الحب علي المجاز، أو المصدر
بمعنى المفعول أو هو بالكسر، قال في القاموس:
الحب بالكسر المحبوب شبه عليه السلام
ما أبصره أو أحبه بالنار في الإهلاك استعارة مكنية و نسبة الإطفاء إليه تخييلية
" فقذر حرامها"
(1) أي عده قذرا نجسا يجب اجتنابه أو كرهه، في
الصحاح: القذر ضد النظافة و شيء قدر بين القذارة و قذرت الشيء بالكسر و تقذرته و
استقذرته إذا كرهته.
" و جانب شبهاتها"
(2) و هي المشبهات بالحرام مع عدم العلم بكونها
حراما كأموال الظلمة فيكون مكروها على المشهور، أو الذي اشتبه عليه الحكم فيه
فاجتنابه مستحب على المشهور و كأنه عليه السلام لذلك غير التعبير فعبر هنا
بالاجتناب، و في الحرام بالحكم بالقذارة
" و أضر"
(3) على بناء المعلوم كناية عن تركه و عدم
الاعتناء به، و ترك الالتفات إليه، أو على بناء المجهول أي يعد نفسه متضررة به أو
يتضرر به لعلو حاله
" بالحلال الصافي"
(4) من الشبهة فكيف بالحرام و الشبهة.
و في المصباح: الكسرة القطعة من
الشيء المكسور و منه الكسرة من الخبز، و في القاموس:
الكسرة
(5) القطعة من الشيء المكسور، و الجمع كسر،
انتهى.
" يشد بها صلبه"
(6) أي يقوي بها على العبادة
" من أغلظ ما يجد"
(7) ظاهره استحباب الاكتفاء بالثياب الخشنة و إن
كان قادرا على الناعمة و هو مخالف لأخبار كثيرة إلا أن يحمل على أن المراد به من
الأغلظ الذي يجده أي إذا لم يجد غيره أو على ما إذا لم يجد غيره إلا بارتكاب
الحرام و الشبهة أو بصرف جل أوقاته في تحصيله، بحيث يمنعه عن النوافل و فواضل
الطاعات، أو على ما إذا علم أنه يصير سببا لطغيانه و إن علاج كبره و صفاته الذميمة
منحصر في ذلك
" ثقة و لا رجاء"
(8) أي بغيره سبحانه كما
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
312
بينه في الفقرة الآتية.
و في المصباح:
الجد
(1) بالكسر الاجتهاد و هو مصدر يقال منه: جد يجد
من بابي ضرب و قتل و الاسم الجد بالكسر
" و أتعب بدنه"
(2) أي بالعبادات الشرعية لا الأعمال المبتدعة
" فأبدل الله له"
(3) لأنه تعالى قال:" لَئِنْ شَكَرْتُمْ
لَأَزِيدَنَّكُمْ".
فمن بذل ما أعطاه الله من الأموال
الفانية عوضه الله من الأموال الباقية أضعافها، و من بذل قوته البدنية في طاعة
الله أبد له الله قوة روحانية لا يفنى في الدنيا و الآخرة فتبدو منه المعجزات و
خوارق العادات و الكرامات و ما لا يقدر عليه بالقوى الجسمانية، و من بذل علمه في
الله و عمل به ورثه الله علما لدنيا يزيد في كل ساعة، و من بذل عزه الفاني الدنيوي
في رضا الله تعالى أعطاه الله عزا حقيقيا لا يتبدل بالذل أبدا، كما أن الأنبياء و
الأوصياء عليهم السلام لما بذلوا عزهم الدنيوي في سبيل الله أعطاهم الله عزة في
الدارين، لا يشبه عز غيرهم فيلوذ الناس بقبورهم و ضرائحهم المقدسة، و الملوك
يعفرون وجوههم على أعتابهم و يتبركون بذكرهم، و من بذل حياته البدنية في الجهاد في
سبيله عوضه حياة أبدية يتصرفون بعد موتهم في عوالم الملك و الملكوت، و قد قال
تعالى:" وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً
بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ" و من بذل نور بصره و سمعه في الطاعة أعطاه
الله نورا منه ينظر في ملكوت السماوات و الأرض، و به يسمع كلام الملائكة المقربين
و وحي رب العالمين، كما ورد: المؤمن ينظر بنور الله، و ورد: بي يسمع و بي يبصر، و
إذا تخلى من إرادته و جعلها تابعة لإرادة الله جعله الله بحيث لا يشاء إلا أن يشاء
الله، و كان الله هو الذي يدبر في بدنه و قلبه و عقله و روحه، و الكلام هنا دقيق
لا تفي به العبارة و البيان، و في هذا المقام تزل الأقدام.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
313
و الرفض
(1) الترك
" يعمى"
(2) أي بصر القلب من رؤية الحق كما قال
تعالى:" فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَ لكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ
الَّتِي فِي الصُّدُورِ
" و يصم
(3) القلب أيضا عن سماع الحق و قبوله، و يمكن أن
يراد بها عمى البصر الظاهر لعدم انتفاعه بما يرى فكأنه أعمى، و صمم السمع الظاهر
لأنه لا ينتفع بما يسمع فكأنه أصم كما قال سبحانه:
" خَتَمَ اللَّهُ عَلى
قُلُوبِهِمْ وَ عَلى سَمْعِهِمْ وَ عَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ".
و البكم
(4) نسبته إلى الظاهر أظهر فإنه لما لم يتكلم
بالحق و بما ينفعه فكأنه أبكم، و إن أمكن حمله أيضا على لسان القلب، فإن لسان
الرأس معبر عنه حقيقة
" و يذل الرقاب"
(5) لأنه موجب للتذلل عند أهل الدنيا لتحصيله أو
يذلها لقبول الباطل من أهله من الذل بالكسر، و هو ضد الصعوبة.
" فتدارك ما بقي"
(6) التدارك ليس هنا بمعنى التلافي، و لا بمعنى
التلاحق بل بمعنى الإدراك أي أدركه و لا تفوته كقوله تعالى:" لَوْ لا أَنْ
تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ" أي أدركته بإجابة دعائه كما قاله الطبرسي
(ره)، و يحتمل أن يكون" ما بقي" ظرفا و المفعول مقدرا أي تلاف ما فات
منك فيما بقي من عمرك، لكنه بعيد.
" و لا تقل غدا"
(7) أي أتوب أو اعمل غدا
" حتى أتاهم أمر الله"
(8) أي بالموت أو بالعذاب
" بغتة"
(9) بالفتح، و قد يحرك أي فجاءة
" و هم غافلون"
(10) عن إتيانه
" على أعوادهم"
(11) أي كائنين على السرر و التوابيت المعمولة
من الأعواد
" إلى قبورهم المظلمة
الضيقة"
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
314
(1) فإنها على الأشقياء كذلك و إن كانت للأصفياء
روضة من رياض الجنة
" فانقطع"
(2) أي عن الدنيا و أهلها
" بِقَلْبٍ"
(3) أي مع قلب
" مُنِيبٍ"
(4) أي تائب راجع عن الذنوب، إشارة إلى قوله
تعالى:" مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَ جاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ"
قال الطبرسي أي وافى الآخرة بقلب مقبل على طاعة الله، راجع إلى الله بضمائره
" من رفض الدنيا"
(5) من تعليل للإنابة، أو للانقطاع، و عزم عطف
على قلب
" ليس فيه انكسار"
(6) أي وهن
" و لا انخزال"
(7) أي تثاقل أو انقطاع، في القاموس: الانخزال
مشية في تثاقل و الاختزال الانفراد و الحذف و الاقتطاع، و انخزل عن جوابي لم يعبأ
به، و في كلامه: انقطع
" لمرضاته"
(8) أي لما يوجب رضاه عنا.
(الحديث الرابع و العشرون)
(9): ضعيف كالموثق أو كالحسن.
" كمثل ماء البحر"
(10) أي المالح، و هذا من أحسن التمثيلات للدنيا
و هو مجرب فإن الحريص على جمع الدنيا كلما ازداد منها ازداد حرصه عليها، و أيضا
كلما حصل منها لا بد له لحفظه و نموه و سائر ما يليق به و يناسبه من أشياء أخرى و
لا ينتهي إلى حد فيصرف جميع عمره في تحصيلها حتى يموت و لا يبقى له إلا حسراتها و
عقوباتها أعاذنا الله منها.
(الحديث الخامس و العشرون)
(11): ضعيف على المشهور معتبر.
و قال في النهاية: فيه حواريي من
أمتي أي خاصتي من أصحابي و ناصري،
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
315
و منه
الحواريون
(1) أصحاب عيسى عليه السلام أي خلصائه و أنصاره،
و أصله من التحوير التبييض قيل: إنهم كانوا قصارين يحورون الثياب أي يبيضونها، و
منه: الخبز الحوارى الذي نخل مرة بعد مرة قال الأزهري: الحواريون خلصان الأنبياء و
تأويله الذين أخلصوا و نقوا من كل عيب، و قال الراغب: الحواريون أنصار عيسى عليه
السلام قيل: كانوا قصارين، و قيل: كانوا صيادين، و قال بعض العلماء: إنما سموا
حواريين لأنهم كانوا يطهرون نفوس الناس بإفادتهم الدين و العلم، المشار إليه
بقوله:" إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ
الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً" قال: و إنما قيل: كانوا قصارين على
التمثيل و التشبيه، و تصور منه من لم يتخصص بمعرفة الحقائق المهنة المتداولة بين
العامة، قال: و إنما قال: كانوا صيادين لاصطيادهم نفوس الناس من الحيرة وقودهم إلى
الحق، انتهى.
و الأسي
(2) الحزن على فوت الفائت، و الغرض لا يكن أهل
الدنيا علي باطلهم أشد حرصا منكم على الحق.
مرآة
العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 316
باب
(1) إنما لم يعنون هذا الباب لأنه قريب من الباب
الأول فكأنه داخل في عنوانه لأنه فيه المنع عن إيثار هوى الأنفس و شهواتها على رضا
الله تعالى، و ليس هذا الإيثار إلا لحب الدنيا و شهواتها، لكن لما لم تذكر في
الخبرين ذكر الدنيا صريحا أفرد لهما بابا و ألحقه بالباب السابق.
(الحديث الأول)
(2): ضعيف على المشهور، و لا يضر عندي ضعف
المعلى.
قوله تعالى:
و عزتي
(3)، العزة القوة و الشدة و الغلبة، و قيل: عزته
عبارة عن كونه منزها عن سمات الإمكان و ذل النقصان، و رجوع كل شيء إليه و خضوعه
بين يديه، و العظمة في صفة الأجسام كبر الطول و العرض و العمق، و في وصفه تعالى
عبارة عن تجاوز قدره عن حدود العقول و الأوهام حتى لا تتصور الإحاطة بكنه حقيقته
عند ذوي الأفهام و علوه علو عقلي على الإطلاق بمعنى أنه لا رتبة فوق رتبته، و ذلك
لأن أعلى مراتب الكمال العقلي هو مرتبته العلية و لما كانت ذاته المقدسة مبدأ كل
موجود حسي و عقلي، لا جرم كانت مرتبته أعلى مراتب العقلية مطلقا و له العلو المطلق
في الوجود العاري عن الإضافة إلى شيء، و عن إمكان أن يكون فوقه ما هو أعلى منه، و
هذا معنى قول أمير المؤمنين عليه السلام: سبق في العلو فلا أعلى منه، و ارتفاع
مكانه كناية عن عدم إمكان الإشارة إليه بالعقول و الحواس
" لا يؤثر عبد هواي على هوى
نفسه"
(4) المراد بهوى النفس ميلها إلى ما هو مقتضى
طباعها من اللذات الحاضرة الدنيوية و الخروج عن الحدود الشرعية، و بإيثار هواه
سبحانه
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
317
إعراضها عن هذا الميل و رجوعها إلى
ما يوجب قرب الحق تعالى و رضاه، و قد قال تعالى مخاطبا لداود عليه السلام:"
إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ
وَ لا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، إِنَّ الَّذِينَ
يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ
الْحِسابِ" فبين سبحانه أن متابعة الهوى أي ما تهوي الأنفس مخالفة لاتباع سبيل
الله و سلوك طريق الحق.
ثم بين أن متابعة الهوى متفرع على
نسيان يوم الحساب فإن من تذكر الآخرة و نعيمها و عذابها لا يتبع الأهواء النفسانية
و الدواعي الشهوانية و قال سبحانه:" فَأَمَّا مَنْ طَغى وَ آثَرَ الْحَياةَ
الدُّنْيا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى، وَ أَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ
رَبِّهِ وَ نَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ
الْمَأْوى" فأشار إلى أن إيثار الحياة الدنيا مقابل لنهي النفس عن الهوى و
اتباع الهوى إيثار الحياة الدنيا و لذاتها على الآخرة. و قال سبحانه:" أَ
رَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَ فَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ
وَكِيلًا" و قال عز من قائل:" فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ
أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ
بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ" و مثله في الكتاب العزيز كثير.
قوله عليه السلام: أ لا كففت عليه
ضيعته،
(1) قال في النهاية: فيه أمرت أن لا أكف شعرا و
لا ثوبا يعني في الصلاة يحتمل أن يكون بمعنى المنع أي لا أمنعها من الاسترسال حال
السجود، ليقعا على الأرض، و يحتمل أن يكون بمعنى الجمع أي لا يجمعهما و يضمهما، و
منه الحديث: المؤمن أخو المؤمن يكف عليه ضيعته، أي يجمع عليه
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
318
معيشته و يضمها إليه، و قال في حديث
سعد: إني أخاف على الأعناب الضيعة أي أنها تضيع و تتلف، و الضيعة في الأصل المرة
من الضياع، و ضيعة الرجل في غير هذا ما يكون منه معاشه كالصنعة و التجارة و
الزراعة و غير ذلك، و منه الحديث: أفشى الله عليه ضيعته أي أكثر عليه معاشه،
انتهى.
و أقول: هذه الفقرة تحتمل وجوها:
الأول: ما ذكره في النهاية أي جمعت عليه ضيعته و معيشته، و التعدية بعلى لتضمين
معنى البركة أو الشفقة و نحوهما، أو على بمعنى إلى كما أومأ إليه في النهاية
فيحتاج أيضا إلى تضمين.
الثاني: أن يكون الكف بمعنى المنع و
على بمعنى عن و الضيعة بمعنى الضياع، أي أمنع عنه ضياع نفسه و ما له و ولده و سائر
ما يتعلق به، و يؤيده أن الصدوق (ره) رواه في الخصال عن ابن الوليد عن الصفار عن
الحسن بن علي بن فضال عن عاصم عن أبي عبيدة، و فيه: و كففت عنه ضيعته.
الثالث: ما ذكره بعض المحققين و تبعه
غيره أنه من الكفاف و هو ما يفي بمعيشته و يغنيه عن غيره، أي جعلت معيشته مباركا
عليه كفافا له، و لا يخفى بعده لفظا إذ لا تساعده اللغة.
قوله تعالى:
و ضمنت
(1)، على صيغة المتكلم من باب التفعيل أي جعلت
السماوات و الأرض ضامنتين لرزقه كناية عن تسبيب الأسباب السماوية و الأرضية له و
ربما يقرأ بصيغة الغائب على بناء المجرد، و رفع السماوات و الأرض، و هو بعيد
" و كنت له من وراء تجارة كل
تاجر"
(2) الوراء فعال و لامه همزة عند سيبويه و أبي
علي الفارسي، و ياء عند العامة، و هو من ظروف المكان بمعنى قدام و خلف، و التجارة
مصدر بمعنى البيع و الشراء للنفع و قدير أدبها ما يتجر به من الأمتعة و نحوها على
تسمية المفعول باسم المصدر، و هذه الفقرة أيضا تحتمل وجوها
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
319
الأول: أن يكون المعنى كنت له عقب
تجارة كل تاجر أسوقها إليه أي ألقى محبته في قلوب التجار ليتجروا له و يكفوا
مهماته.
الثاني: أن يكون المعنى كنت له عوضا
من تجارة كل تاجر فإن كل تاجر يتجر لمنفعة دنيوية أو أخروية، و لما أعرض عن جميع
ذلك كنت أنا ربح تجارته، و هذا معنى رفيع دقيق خطر بالبال، لكن لا يناسب إلا من
بلغ في درجات المحبة أقصى مراتب الكمال.
الثالث: الجمع بي المعنيين أي كنت له
بعد حصول تجارة كل تاجر له.
الرابع: ما قيل: أن كل تاجر في
الدنيا للآخرة يجد نفع تجارته فيها من الجنة و نعيمها، و الله سبحانه بذاته
المقدسة و التجليات اللائقة وراء هذا لهذا العبد، ففيه دلالة على أن للزاهدين في
الجنة نعمة روحانية أيضا و هو قريب من الثالث.
الخامس: أن يكون الوراء بمعنى القدام
أي كنت له أنيسا و معينا و محبا و محبوبا قبل وصوله إلى نعيم الآخرة الذي هو غاية
مقصود التاجرين لها.
السادس: ما قيل: أي أنا أتجر له
فأربح له مثل ربح جميع التجار لو اتجروا له، و لا يخفى بعده.
(الحديث الثاني)
(1): صحيح.
و البهاء
(2) الحسن و المراد الحسن المعنوي، و هو الاتصاف
بجميع الصفات الكمالية
" إلا جعلت غناه في نفسه"
(3) أي أ جعل نفسه غنية قانعة بما رزقته، لا
بالمال فإن الغني بالمال الحريص في الدنيا أحوج الناس، و إنما الغني غنى النفس
فكلمة في للتعليل، و
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
320
يحتمل الظرفية أيضا بتكلف
" و همته"
(1) أي عزمه و قصده في آخرته ففي للتعليل أيضا،
أو المعنى أنها مقصورة في آخرته و لا يوجه همته إلى الدنيا أصلا.
باب القناعة
(2)
(الحديث الأول)
(3): ضعيف على المشهور.
" أن تطمح بصرك"
(4) الظاهر أنه على بناء الأفعال و نصب البصر، و
يحتمل أن يكون على بناء المجرد و رفع البصر أي لا ترفع بصرك بأن تنظر إلى من هو
فوقك في الدنيا، فتتمنى حاله و لا ترضى بما أعطاك الله، و إذا نظرت إلى من هو دونك
في الدنيا ترضى بما أوتيت و تشكر الله عليه و تقنع به، قال في القاموس: طمح بصره
إليه كمنع فهي طامح، و أطمح بصره رفعه، انتهى.
" فكفى بما قال الله"
(5) الباء زائدة أي كفاك للاتعاظ و لقبول ما
ذكرت ما قال الله لنبيه و إن كان المقصود بالخطاب غيره
" وَ لا تُعْجِبْكَ"
(6) كذا في النسخ التي عندنا و الظاهر"
فلا" إذ الآية في سورة التوبة في موضعين أحدهما" فَلا تُعْجِبْكَ
أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها
فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ تَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَ هُمْ كافِرُونَ" و
الأخرى:" وَ لا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَ أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ
اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَ تَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَ هُمْ
كافِرُونَ" و ما ذكر هنا لا يوافق شيئا منهما، و إن احتمل أن يكون نقلا
بالمعنى إشارة إلى الآيتين معا.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
321
و قال البيضاوي في الأولى فَلا تُعْجِبْكَ"
إلخ" فإن ذلك استدراج و وبال لهم كما قال إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ
لِيُعَذِّبَهُمْ بِها، بسبب ما يكابدون لجمعها و حفظها من المتاعب و ما يرون فيها
من الشدائد و المصائب" وَ تَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ" أي فيموتوا كافرين
مشتغلين بالتمتع عن النظر في العاقبة فيكون ذلك استدراجا له، و قال في الأخرى:
تكرير للتأكيد و الأمر حقيق به فإن الأبصار طامحة إلى الأموال و الأولاد، و النفوس
مغتبطة عليها، و يجوز أن يكون هذه في فريق غير الأول.
" وَ لا تَمُدَّنَّ
عَيْنَيْكَ"
(1) قال في الكشاف: أي نظر عينيك و مد النظر
تطويله و إن لا يكاد يرده استحسانا للمنظور إليه و تمنيا أن يكون له مثله، و فيه
أن النظر غير الممدود معفو عنه، و ذلك مثل نظر من باده الشيء بالنظر ثم غض الطرف
و قد شدد العلماء من أهل التقوى في وجوب غض البصر عن أبنية الظلمة و عدد الفسقة في
اللباس و المراكب و غير ذلك، لأنهم اتخذوا هذه الأشياء لعيون النظارة فالناظر
إليها محصل لغرضهم و كالمغرى لهم على اتخاذها.
" أَزْواجاً مِنْهُمْ"
(2) قال البيضاوي: أصنافا من الكفرة و يجوز أن
يكون حالا من الضمير و المفعول منهم أي إلى الذي متعنا به، و هو أصناف بعضهم و
ناسا منهم
" زَهْرَةَ الْحَياةِ
الدُّنْيا"
(3) منصوب بمحذوف دل عليه متعنا أو به على
تضمينه معنى أعطينا أو بالبدل من محل به أو من أزواجا بتقدير مضاف و ذويه، أو
بالذم و هي الزينة و البهجة" لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ" لنبلونهم و نختبرهم
فيه أو لنعذبهم في الآخرة بسببه" وَ رِزْقُ رَبِّكَ" و ما ادخره لك في
الآخرة أو ما رزقك من الهدى و النبوة" خَيْرٌ" مما منحهم في
الدنيا" وَ أَبْقى" فإنه لا ينقطع و إنما ذكرنا تتمة الآيتين لأنهما
مرادتان
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
322
و تركنا اختصارا
" فإن دخلك من ذلك"
(1) أي من إطماح البصر أي من جملته
" شيء"
(2) أو بسببه شيء من الرغبة في الدنيا فاذكر
لعلاج ذلك و إخراجه عن نفسك
" عيش رسول الله صلى الله عليه
و آله و سلم"
(3) أي طريق تعيشه في الدنيا لتسهل عليك مشاق
الدنيا و القناعة فيها فإنه إذا كان أشرف المكونات هكذا تعيشه فكيف لا يرضى من
دونه به، و إن كان شريفا رفيعا عند الناس، مع أن التأسي به صلى الله عليه و آله و
سلم لازم.
" فإنما قوته الشعير"
(4) أي خبزه غالبا
" و حلواه التمر"
(5) قال في المصباح الحلواء التي تؤكل، تمد و
تقصر و جمع الممدود حلاوي مثل صحراء و صحاري بالتشديد و جمع المقصور حلاوي بفتح
الواو، و قال الأزهري: الحلواء اسم لما يؤكل من الطعام إذا كان معالجا بحلاوة
" و وقوده السعف"
(6) الوقود بالفتح الحطب و ما يوقد به و السعف
أغصان النخل ما دامت بالخوص، فإن زال الخوص عنها قيل جريدة، الواحدة سعفة ذكره في
المصباح، و في القاموس: السعف محركة جريد النخل أو ورقه و أكثر ما يقال إذا يبست و
الضمير في" إن وجده" راجع إلى كل من الأمور المذكورة أو إلى السعف وحده،
و فسر بعضهم السعف بالورق، و قال: الضمير راجع إليه، و المعنى أنه كان يكتفي في
خبز الخبز و نحوه بورق النخل، فإذا انتهى ذلك و لم يجده كان يطبخ بالجريد، بخلاف
المسرفين فإنهم يطرحون الورق و يستعملون الجريد ابتداء.
و أقول: كأنه (ره) تكلف ذلك لأنه لا
فرق بين جريد النخل و غيره في الإيقاد فأي قناعة فيه، و ليس كذلك لأن الجريد أرذل
الأحطاب للإيقاد لنتنه و كثرة دخانه، و عدم اتقاد جمرة، و هذا بين لمن جربه.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
323
(الحديث الثاني)
(1): ضعيف.
" و من استغنى"
(2) أي عن الناس و ترك الطلب أغناه الله عنه
بإعطاء ما يحتاج إليه.
(الحديث الثالث)
(3): مجهول.
" رضي الله منه"
(4) قيل: لأن كثرة النعمة توجب مزيد الشكر فكلما
كانت النعمة أقل كان الشكر أسهل، و بعبارة أخرى يسقط عنه كثير من العبادات المالية
كالزكاة و الحج و بر الوالدين و صلة الأرحام و إعانة الفقراء و أشباه ذلك و الظاهر
أن المراد به أكثر من ذلك من المسامحة و العفو، كما روى الصدوق (ره) في كتاب معاني
الأخبار بإسناده عن النصر بن قابوس قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن معنى
الحديث من رضي من الله باليسير من الرزق رضي الله منه باليسير من العمل؟
قال: يطيعه في بعض و يعصيه في بعض، و
قد ورد في طريق العامة عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم: أخلص قلبك يكفك القليل
من العمل، و قال بعضهم: لأن من زهد في الدنيا و طهر ظاهره و باطنه من الأعمال و
الأخلاق القبيحة التي يقتضيها الدنيا و فرغ من المجاهدات التي يحتاج إليها السالك
المبتدي، و جعلها وراء ظهره فلم يبق عليه إلا فعل ما ينبغي فعله، و هذا يسير
بالنسبة إلى تلك المجاهدات، انتهى.
و أقول: يحتمل إجراء مثله في هذا
الخبر لأن من رضي بالقليل فقد زهد في الدنيا و أخلص قلبه من حبها.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
324
(الحديث الرابع)
(1): ضعيف
" كن كيف شئت"
(2) الظاهر أنه أمر علي التهديد نحو قوله
تعالى:" اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ" و قيل: كن كما شئت أن يعمل معك و
تتوقعه
لقوله: كما تدين تدان،
(3) و قد مر معناه
" خفت مؤنته"
(4) أي مشقته في طلب المال و حفظه
" و زكت"
(5) أي طهرت من الحرام
" مكسبه"
(6) لأن ترك الحرام و الشبهة في القليل أسهل أو
نمت و حصلت فيه بركة مع قلته
" و خرج من حد الفجور"
(7) أي من قرب الفجور و الإشراف على الوقوع في
الحرام، فإن بين المال القليل و الوقوع في الفجور فاصلة كثيرة لقلة الدواعي، فصاحب
المال الكثير لكثرة دواعي الشرور و الفجور فيه كأنه على حد هو منتهى الحلال و
بأدنى شيء يخرج منه إلى الفجور، إما بالتقصير في الحقوق الواجبة فيه أو بالطغيان
اللازم له أو القدرة علي المحرمات التي تدعو النفس إليه، أو بالحرص الحاصل منه فلا
يكتفي بالحلال، و يتجاوز إلى الحرام و أشباه ذلك، و يحتمل أن يكون المعنى خرج من
حد الفجور الذي تستلزمه كثرة المال إلى الخير و الصلاح اللازم لقلة المال و الأول
أبلغ و أتم.
(الحديث الخامس)
(8): مجهول، و المضمون مما مر معلوم.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
325
(الحديث السادس)
(1): حسن كالصحيح.
" ما يكفيك"
(2) أي ما تكتفي و تقنع به، أي بقدر الكفاف و
الضرورة، و
قوله:
فإن أيسر
(3)، من قبيل وضع الدليل موضع المدلول أي فيحصل
مرادك لأن أيسر ما في الدنيا يمكن أن يكتفي به
" و إن كنت تريد مالا
يكفيك"
(4) أي مالا تكتفي به و تريد أزيد منه، فلا تصل
إلى مقصودك و لا تنتهي إلى حد فإنه إن حصل لك جميع الدنيا تريد أزيد منها لما مر و
جرب أن كثرة المال يصير سببا لكثرة الحرص، و سيأتي أوضح من ذلك في العاشر و بعده.
(الحديث السابع)
(5): ضعيف على المشهور.
" لو أتيت"
(6) لو للتمني
" إن رسول الله بشر"
(7) أي لا يعلم الغيب إلا الله و هو بشر لا يعلم
الغيب، أي لم يكن هذا الكلام معك لأنه لا يعلم ما في ضميرك أو لا يعلم كنه شدة
حالنا و إنما عرف حاجتك في الجملة، و في الصحاح:
المعول
(8) الفأس العظيمة
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
326
التي ينقر بها الصخر
" من الغد"
(1) من بمعنى في، و
البكر
(2) بالفتح: الفتى من الإبل، و يقال: أثرى الرجل
إذا كثرت أمواله، و أيسر الرجل أي استغنى، كل ذلك ذكره الجوهري.
(الحديث الثامن)
(3): ضعيف.
" فليكن بما في يد الله"
(4) أي في قدرة الله و قضائه و قدره
" أوثق منه بما في يد
غيره"
(5) و لو نفسه فإنه لا يصل إليه الأول و لا
ينتفع بالثاني إلا بقضاء الله و قدره، و الحاصل أن الغناء عن الخلق لا يحصل إلا
بالوثوق بالله سبحانه و التوكل عليه و عدم الاعتماد على غيره، و العلم بأن الضار
النافع هو الله، و يفعل بالعباد ما علم صلاحهم فيه و يمنعهم ما علم أنه لا يصلح
لهم.
(الحديث التاسع)
(6): موثق كالصحيح.
" فهو من أغنى الناس"
(7) لأن الغناء عدم الحاجة إلى الغير، و القانع
بما رزقه الله لا يحتاج إلى السؤال عن غيره تعالى.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
327
(الحديث العاشر)
(1): مجهول و قد مر مضمونه.
(الحديث الحادي عشر)
(2): مرفوع
" و أجزأ"
(3) مهموز و قد يخفف أي أغنى و كفى، قال في
المصباح: قال الأزهري و الفقهاء يقولون فيه أجزي من غير همز و لم أجده لأحد من
أئمة اللغة و لكن إن همز أجزأ فهو بمعنى كفى، و فيه نظر لأنه أراد امتناع التسهيل
فقد توقف في غير موضع التوقف، فإن تسهيل همزة الطرف في الفعل المزيد، و تسهيل
الهمزة الساكنة قياسي فيقال أرجأت الأمر و أرجيته و أنسأت و أنسيت و أخطأت و
أخطيت.
باب الكفاف
(4)
(الحديث الأول)
(5): مرسل كالحسن.
و الأغبط
(6) مأخوذ من الغبطة بالكسر و هي حسن الحال و
المسرة
" خفيف الحال"
(7) في بعض النسخ بالحاء المهملة و في بعضها
بالمعجمة فعلى الثاني أي قليل المال و الحظ
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 328
من الدنيا و الأول أيضا قريب منه،
قال في النهاية: فيه أنه صلى الله عليه و آله و سلم لم يشبع من طعام إلا على حفف،
الحفف الضيق و قلة المعيشة، يقال: أصابه حفف و حفوف، و حفت الأرض إذا يبس نباتها،
أي لم يشبع إلا و الحال عنده خلاف الرخاء و الخصب، و منه حديث قال له وفد العراق
إن أمير المؤمنين بلغ منا و هو حاف المطعم أي يابسه و قحله و منه رأيت أبا عبيدة
حفوفا أي ضيق عيش، و منه أن عبد الله بن جعفر حفف و جهد أي قل ماله، انتهى.
" ذا حظ من صلاة"
(1) أي صاحب نصيب حسن وافر من الصلاة فرضا و
نفلا كما و كيفا، و يحتمل أن يكون من للتعليل أي ذا حظ عظيم من القرب أو الثواب أو
العفة و ترك المحرمات أو الأعم بسبب الصلاة لأنها تنهى عن الفحشاء و المنكر، و هي
قربان كل تقي.
" أحسن عبادة ربه بالغيب"
(2) أي غائبا عن الناس و التخصيص لأنه أخلص و
أبعد من الرياء أو بسبب إيمانه بموعود غائب عن حواسه كما قال تعالى:"
يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ" أو الباء للآلة أي إحسان عبادتهم بالقلب لا
بالجوارح الظاهرة فقط و الأول أظهر.
" و كان غامضا في الناس"
(3) في النهاية أي مغمورا غير مشهور.
و أقول: إما للتقية أو المعنى أنه
ليس طالبا للشهرة و رفعة الذكر بين الناس
" جعل"
(4) على بناء المفعول
" رزقه كفافا"
(5) أي بقدر الحاجة و بقدر ما يكفه عن السؤال
قال في النهاية: الكفاف هو الذي لا يفضل عن الشيء و يكون بقدر الحاجة إليه، و منه
لا تلام على كفاف، أي إذا لم يكن عندك كفاف لم تلم على أن لا تعطى أحدا، و في المصباح:
قوته كفاف، بالفتح أي مقدار حاجته من غير زيادة و لا نقص، سمي بذلك لأنه يكف عن
سؤال الناس و يغني عنهم.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
329
" عجلت منيته"
(1) كان ذكر تعجيل المنية لأنه من المصائب التي
ترد عليه، و علم الله صلاحه في ذلك لخلاصه من أيدي الظلمة أو بذله نفسه لله
بالشهادة، و قيل: كان المراد بعجلة منيته زهده في مشتهيات الدنيا و عدم افتقاره
إلى شيء منها كأنه ميت، و قد ورد في الحديث المشهور: موتوا قبل أن تموتوا، أو
المراد أنه مهما قرب موته قل تراثه و قلت بواكيه لانسلاله متدرجا عن أمواله و
أولاده.
و أقول: في مشكاة الأنوار: مات فقل
تراثه، و قال في الصحاح:
التراث
(2) أصل التاء فيه واو، و
قلة البواكي
(3) لقلة عياله و أولاده و غموضه و عدم اشتهاره،
و لأنه ليس له مال ينفق في تعزيته فيجتمع عليه الناس.
(الحديث الثاني)
(4): ضعيف على المشهور.
و قال في النهاية: فيه فطوبى
للغرباء،
طوبى
(5) اسم الجنة و قيل: هي شجرة فيها و أصلها فعلى
من الطيب، فلما ضمت الطاء انقلبت الياء واوا، و في القاموس:
العيش
(6) الحياة عاش يعيش عيشا و معيشة و عيشة
بالكسر، و الطعام و ما يعاش به و الخبز.
(الحديث الثالث)
(7): كالسابق.
و
العفاف
(8) بالفتح عفة البطن و الفرج، أو التعفف عن
السؤال من الخلق أو الأعم.
ثم إن هذه الأخبار تدل على ذم كثرة
الأموال و الأولاد، و الأخبار في ذلك
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
330
مختلفة و ورد في كثير من الأدعية طلب
الغناء و كثرة الأموال و الأولاد، و ورد في كثير منها ذم الفقر و الاستعاذة منه، و
الجمع بينها لا يخلو من إشكال، و يمكن الجمع بينها بأن الغناء الممدوح ما يكون
وسيلة إلى تحصيل الآخرة، و لا يكون مانعا من الاشتغال بالطاعات كما ورد: نعم المال
الصالح للعبد الصالح و هو نادر، و الفقر المذموم هو ما لا يصبر عليه، و يكون سببا
للمذلة و الافتقار إلى الناس و ربما يحمل الفقر و الغناء الممدوحان على الكفاف
فإنه غنى بحسب الواقع، و يعده أكثر الناس فقرا و لا ريب في أن كثرة الأموال و الأولاد
و الخدم ملهية غالبا عن ذكر الله و الآخرة كما قال سبحانه:" أَنَّما
أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ" و قال" إِنَّ الْإِنْسانَ
لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى" و أما إذا لم تكن حصول هذه الأشياء مانعة
عن تحصيل الآخرة و كان الغرض فيها طاعة الله و كثرة العابدين لله فهي من نعم الله
على من علم الله صلاحه فيه، و كان هذه الأخبار محمولة على الغالب.
و مضمون هذا الحديث مروي في طريق
العامة أيضا، ففي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنه قال: اللهم
اجعل رزق محمد قوتا، و عنه أيضا: اللهم اجعل رزق محمد كفافا، و في رواية أخرى
اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا.
قال عياض: لا خلاف في فضيلة ذلك لقلة
الحساب عليه و إنما اختلف أيهما أفضل الفقر أو الغناء و احتج من فضل الفقر بدخول
الفقراء الجنة قبل الأغنياء قال القرطبي: القوت ما يقوت الأبدان و يكف عن الحاجة،
و هذا الحديث حجة لمن قال أن الكفاف أفضل لأنه صلى الله عليه و آله و سلم إنما
يدعو بالأرجح، و أيضا فإن الكفاف حالة متوسطة بين الفقر و الغناء، و خير الأمور
أوسطها، و أيضا فإنه حالة يسلم معها من آفات الفقر و آفات الغناء، و قال الآبي في
إكمال الإكمال: في المسألة خلاف و المتحصل
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
331
فيها أربعة أقوال: قيل الغناء أفضل و
قيل: الفقر أفضل و قيل: الكفاف أفضل، و قيل:
بالوقف، و قال: المراد بالرزق
المذكور ما ينتفع به صلى الله عليه و آله و سلم في نفسه و في أهل بيته، و ليس
المراد به الكسب لأنه كسب من خيبر و غيرها فوق القوت، انتهى.
(الحديث الرابع)
(1): مرفوع.
و
الصبوح
(2) بالفتح شرب الغداة و ما حلب أول النهار، و
الغبوق
(3) بالفتح أيضا الشرب بالعشي أو ما حلب آخر
النهار، و في القاموس:
كفاه
(4) كمنعه صرفه و كبه و قلبه كاكفاه، و قال
الجوهري: كفأت الإناء كببته و قلبته فهو مكفوء و زعم ابن الأعرابي أن أكفأته لغة و
قال الكسائي: كفأت الإناء و أكفأته أملته، و قال:
أسعفت
(5) الرجل بحاجته إذا قضيتها له.
(الحديث الخامس)
(6): ضعيف.
و
الحزن
(7) بالضم الهم و حزن كفرح لازم و حزن كنصر
متعد، يقال حزنه
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
332
الأمر حزنا و أحزنه، و هنا يحتمل
الوجهين بأن يكون يحزن بفتح الزاي، و عبدي فاعله و إن بالكسر حرف شرط، أو يحزن
بالضم و عبدي مفعوله و أن بالفتح مصدرية في محل الفاعل، و التقتير التضييق، و كذا
قوله: يفرح يحتمل بناء المجرد و رفع عبدي، و كسر إن، أو بناء التفعيل و نصب عبدي و
فتح أن و اللام في له في الموضعين للتعدية.
(الحديث السادس)
(1): صحيح.
و السر و
السريرة
(2) ما يكتم، أي عبد الله خفية فهو يؤيد الغيب
بالمعنى الأول، أو في القلب عند حضور المخالفين، فيؤيد الأخير، و الأول أظهر
" فلم يشر"
(3) علي بناء المجهول كناية عن عدم الشهرة
تأكيدا و تفريعا على الفقرة السابقة و قد مر مضمونه في الحديث الأول، و لله در من
نظم الحديثين فقال:
أخص الناس بالإيمان عبد خفيف الحال مسكنه القفار
له في الليل حظ من صلاة و من صوم إذا طلع النهار
و قوت النفس يأتي من كفاف و كان له على ذاك اصطبار
و فيه عفة و به خمول إليه بالأصابع لا يشار
و قل الباكيات عليه لما قضى و ليس له يسار
فذاك قد نجا من كل شر و لم تمسسه يوم البعث نار.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
333
باب تعجيل فعل الخير
(1)
(الحديث الأول)
(2): مجهول.
قوله عليه السلام: فإن العبد
(3)، يعني أن العبادة التي توجب المغفرة التامة
و القرب الكامل من جناب الحق تعالى مستورة على العبد لا يدري أيها هي فكلما هم
بعبادة فعليه إمضاؤها قبل أن تفوته فلعلها تكون هي تلك العبادة كما روي عن النبي
صلى الله عليه و آله و سلم أن لربكم في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها، و
الصلاة و الصوم منصوبان بالمصدرية للنوع أي نوعا من الصلاة و نوعا من الصوم، و في
بعض النسخ مكان الصوم اليوم، فهو منصوب على الظرفية.
" فيقال له"
(4) القائل هو الله كما سيأتي أو الملائكة
" بعدها"
(5) الضمير راجع إلى الصلاة على المثال أو إلى
كل منهما بتأويل العبادة و في
قوله:" اعمل ما شئت"
(6) إشكال فإنه ظاهرا أمر بالقبيح؟ و الجواب أنه
معلوم أنه ليس الأمر هنا على حقيقته بل الغرض بيان أن الأعمال السيئة لا تضرك بحيث
تحرمك عن دخول الجنة بأن وفقت لعدم الإصرار على الكبيرة، أو صرت قابلا للعفو و
المغفرة فيغفر الله لك، فإن قيل: هذا إغراء بالقبيح؟ قلت: الإغراء بالقبيح إنما
يكون إذا علم العبد صدور مثل ذلك العمل عنه، و أنه أي عمل هو و هو مستور عنه، و قد
يقال: إن
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
334
المعنى أنك لا تحاسب على ما مضى فقد
غفر لك فبعد ذلك استأنف العمل إما للجنة فتستوجبها، و إما للنار فتستحقها كقوله:
اعمل ما شئت فإنك ملاقيه.
و هذا الخبر منقول في طرق العامة و
قال القرطبي: الأمر في قوله: اعمل ما شئت أمر إكرام كما في قوله تعالى:"
ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ" و إخبار عن الرجل بأنه قد غفر له ما تقدم من
ذنبه و محفوظ في الآتي، و قال الآبي: يريد بأمر الإكرام أنه ليس إباحة لأن يفعل ما
يشاء.
(الحديث الثاني)
(1): ضعيف.
و يدل على الحث على فعل الطاعات في
أول النهار و افتتاح النهار بالأدعية و الأذكار و التلاوة و سائر الأقوال الحسنة
فإن ملائكة النهار يكتبونها في أول صحيفة أعمالهم فكأنهم يملي عليهم، و كذا في آخر
النهار فإن الإملاء هو أن تلقى شيئا على غيرك ليكتب و أصله الإملال و على أن فعل
ذلك يوجب غفران ما بينهما من الذنوب، و لذا وردت عن أئمتنا عليهم السلام أذكار و
أدعية كثيرة للصباح و المساء، و التقييد بالمشية للتبرك أو لعدم الاغترار.
(الحديث الثالث)
(2): صحيح.
" فإنك لا تدري ما يحدث"
(3) أي كموت أو هرم أو مرض أو سهو أو نسيان أو
وسوسة شيطان أو مانع من الموانع التي لا تعد و لا تحصى.
مرآة العقول
في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 335
(الحديث الرابع)
(1): حسن كالصحيح.
و يدل على استحباب تعجيل الخيرات كما
قال تعالى:" وَ سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ" و قال
سبحانه:" أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ" و يدل على استحباب المبادرة
إلى الصلوات في أوائل أوقاتها و كذا سائر العبادات.
(الحديث الخامس)
(2): مجهول.
" و لو بشق تمرة"
(3) أي نصفها فإنه قد يحفظ به النفس عن الجوع
المهلك، و قد يعلل به اليتيم و لأنه إذا اجتمع منه كثير يصير قوتا لشخص، قال في
النهاية:
فيه: اتقوا النار و لو بشق تمرة
فإنها تقع من الجائع موقعها من الشبعان، قيل:
أراد أن شق التمرة أي نصفها لا يتبين
له كبير موقع من الجائع إذا تناوله كما لا يتبين على شبع الشبعان إذا أكله فلا
تعجزوا أن تتصدقوا به، و قيل: لأنه يسأل هذا شق تمرة و ذا شق تمرة و ثالثا و رابعا
فيجتمع له ما يسد به جوعته.
(الحديث السادس)
(4): مرسل.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
336
قوله تعالى:
قد غفرت لك
(1)، الظاهر أن هذا من باب التفضل و ذلك العمل
يصير سببا لاستحقاق هذا الفضل، و يحتمل أن يكون مبنيا على التكفير فإن الحسنات
يذهبن السيئات، و يكون هذا العمل مكفرا لما بعده أيضا و يحفظه الله فيما يأتي عن
الكبائر كما مر، و أما
قوله: لا أغفر لك بعدها أبدا
(2)، فهو إما لخروجه بذلك عن استحقاق الغفران
فيعاقب على جميع معاصيه بعد ذلك، أو لاستحقاقه للخذلان فيتسلط عليه الشيطان فيخرجه
من الإيمان، أو هو مبني على الحبط فيحبط هذا العمل ما يأتي به من الطاعات بعده،
أعاذنا الله و سائر المؤمنين من ذلك و الله المستعان.
(الحديث السابع)
(3): حسن كالصحيح.
و في المصباح
اطلعت
(4) زيدا على كذا مثال أعلمته وزنا و معنى فاطلع
على افتعل أي أشرف عليه و علم به.
(الحديث الثامن)
(5): ضعيف.
" بخير"
(6) أي إيصال نفع إلى الغير أو الأعم منه و من
سائر الأعمال الصالحة
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
337
التي ينتفع بها في الآخرة
" أو صلة"
(1) أي صلة رحم من الوالدين و الأقارب أو الأعم
منهم و من المؤمنين فيكون تخصيصا بعد التعميم أو المراد بالخير ما يصل نفعه إلى
نفسه، و بالصلة ما يصل إلى الغير
" فإن عن يمينه و شماله"
(2) قد يقال صاحب اليمين يضله من جهة الطاعة و
صاحب الشمال من جهة المعصية.
و اعلم أن النفوس البشرية نافرة على
العبادات لما فيها من المشقة الثقيلة عليها، و عن صلة الأرحام و المبرات لما فيها
من صرف المال المحبوب لها، فإذا هم أحدهم بشيء من ذلك مما يوجب وصوله إلى مقام
الزلفى و تشرفه بالسعادة العظمى فليبادر إلى إمضائه و ليعجل إلى اقتنائه فإن
الشيطان أبدا في مكمن ينتهض الفرصة لنفثه في نفسه الأمارة بالسوء و يتحرى الحيلة
مرة بعد أخرى في منعها عن الإرادات الصحيحة الموجبة لسعادتها و أمرها بالقبائح
المورثة لشقاوتها، و يجلب عليها خيله و رجله من جميع الجهات ليسد عليها طرق الوصول
إلى الخيرات، و هي مع ذلك قابلة لتلك الوساوس و مائلة بالطبع إلى هذه الخسائس
فربما يتمكن منها الشيطان غاية التمكن حتى يصرفها عن تلك الإرادة و يكفها عن هذه
السعادة و هي مجربة مشاهدة في أكثر الناس إلا من عصمه الله
" لا يكفاه"
(3) أي لا يمنعاه.
(الحديث التاسع)
(4): ضعيف.
" فإن للشيطان فيه نظرة"
(5) بسكون الظاء أي فكرة لإحداث حيلة يكف بها
العبد عن الإتيان بالخير، أو بكسرها يعني مهلة يتفكر فيها لذلك، أو بالتحريك بمعنى
الحكم أو بمعنى الفكر أو بمعنى الانتظار و الكل مناسب، قال في القاموس: نظره
كنصره
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول،
ج8، ص: 338
و سمعه و إليه نظرا و منظرا تأمله
بعينه، و بينهم حكم و النظر محركة الفكر في الشيء تقدره و تقيسه، و الانتظار و
الحكم بين القوم و الإعانة و الفعل كنصر و النظرة كفرحة: التأخير في الأمر و
النظرة: الهيبة.
(الحديث العاشر)
(1): موثق كالصحيح.
" ثقل الخير على أهل
الدنيا"
(2) أي على جميع المكلفين في الدنيا بأن جعل ما
كلفهم به مخالفا لمشتهيات طباعهم و إن كان المقربون لقوة عقولهم و كثرة علومهم و
رياضاتهم غلبوا على أهوائهم و صار عليهم خفيفا بل يلتذون به أو المراد بأهل الدنيا
الراغبون فيها و الطالبون مع ذلك للآخرة فهم يزجرون أنفسهم على ترك الشهوات
فالحسنات عليهم ثقيلة و الشرور عليهم خفيفة، و الثقل و الخفة في الموازين إشارة
إلى قوله تعالى:" فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ
راضِيَةٍ، وَ أَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ".
و اعلم أنه لا خلاف في حقية الميزان
و قد نطق به صريح القرآن في مواضع لكن اختلف المتكلمون من الخاصة و العامة في
معناه، فمنهم من حمله على المجاز و أن المراد من الموازين هي التعديل بين الأعمال
و الجزاء عليها و وضع كل جزاء في موضعه و إيصال كل ذي حق إلى حقه، ذهب إليه الشيخ
المفيد قدس الله روحه و جماعة من العامة، و الأكثرون منا و منهم حملوه على
الحقيقة، و قالوا: إن الله ينصب ميزانا له لسان و كفتان يوم القيامة فتوزن به
أعمال العباد و الحسنات و السيئات، و اختلفوا في كيفية الوزن لأن الأعمال إعراض لا
تجوز عليها الإعادة و لا يكون لها وزن و لا تقوم بأنفسها، فقيل: توزن صحائف
الأعمال
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
339
و قيل: تظهر علامات للحسنات و علامات
للسيئات في الكفتين فتراها الناس و قيل: تظهر للحسنات صور حسنة و للسيئات صور سيئة
و هو مروي عن ابن عباس، و قيل: بتجسم الأعمال في تلك النشأة و قالوا بجواز تبدل
الحقائق في النشأتين كما في النوم و اليقظة، و قيل: توزن نفس المؤمن و الكافر فعن
عبيد بن عمير قال: يؤتى بالرجل العظيم الجثة فلا يزن جناح بعوضة و قيل: الميزان
واحد و الجمع باعتبار أنواع الأعمال و الأشخاص، و قيل: الموازين متعددة بحسب ذلك،
و قد ورد في الأخبار أن الأئمة عليهم السلام هم الموازين القسط، فيمكن حملها على
أنهم الحاضرون عندها و الحاكمون عليها و عدم صرف ألفاظ القرآن عن حقائقها بدون حجة
قاطعة أولى.
فعلى القول بظاهر الميزان نسبة الخفة
و الثقل إلى الموازين باعتبار كفة الحسنات فالمراد بمن خفت موازينه من خفت كفة
حسناته بسبب ثقل كفة سيئاته، قال الطبرسي (ره) في قوله تعالى:" فَأَمَّا مَنْ
ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ" إلخ، قد ذكر سبحانه الحسنات في الموضعين و لم يذكر وزن
السيئات لأن الوزن عبارة عن القدر و الخطر و السيئة لا خطر لها و لا قدر و إنما
الخطر و القدر للحسنات فكان المعنى فأما من عظم قدره عند الله لكثرة حسناته، و من
خف قدره عند الله لخفة حسناته، انتهى.
و أما ما ورد في الخبر من نسبة الخفة
إلى الشر فيمكن أن يكون الإسناد على المجاز، فإن الشر لما كان علة لخفة كفة
الحسنات نسبة الخفة إليها أو لأنه يصير سببا لخفة قدر صاحبه و مذلته، و لا يبعد
القول بوحدة كفة الميزان في القيامة فتوضع فيها الحسنات و السيئات معا فتخف بسبب
السيئات و تثقل بسبب الحسنات، فتكون لوقوفها منازل من الاعتدال و الثقل و الخفة،
كما ذهب إليه بعض المحدثين فالآيات و الأخبار تعتدل على ظواهرها، و الله يعلم
حقائق كلامه و كلام حججه و هم عليهم السلام.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
340
باب الإنصاف و العدل
(1)
(الحديث الأول)
(2): مجهول.
" طوبى"
(3) أي الجنة أو شجرتها المعروفة أو أطيب
الأحوال في الدنيا و الآخرة
" لمن طاب خلقه"
(4) بضم الخاء أي تخلق بالأخلاق الحسنة، و يحتمل
الفتح أيضا أي يكون مخلوقا من طينة حسنة
" و طهرت سجيته"
(5) أي طبيعته من الأخلاق الرذيلة فعلى الأول
يكون تأكيدا لما سبق، و في المصباح: السجية الغريزة و الجمع سجايا
" و صلحت سريرته"
(6) أي قلبه بالمعارف الإلهية و العقائد
الإيمانية و بالخلو عن الحقد و النفاق و قصد إضرار المسلمين، أو بواطن أحواله بأن
لا تكون مخالفة لظواهرها كالمرائين، و في القاموس: السر ما يكتم كالسريرة.
" و حسنت علانيته"
(7) بكونها موافقة للآداب الشرعية
" و أنفق الفضل من ماله"
(8) بإخراج الحقوق الواجبة و المندوبة أو الأعم
منهما و مما فضل من الكفاف
" و أمسك الفضل من قوله"
(9) بحفظ لسانه عما لا يعنيه
" و أنصف الناس من نفسه"
(10) أي كان حكما و حاكما على نفسه فيما كان
بينه و بين الناس، و رضي لهم ما رضي لنفسه، و كره لهم ما كره لنفسه، و كان كلمة من
للتعليل، أي كان إنصافه الناس بسبب نفسه لا بانتصاف حاكم غيره.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
341
قال في المصباح: نصفت المال بين
الرجلين أنصفه من باب قتل قسمته نصفين و أنصفت الرجل إنصافا عاملته بالعدل و
بالقسط، و الاسم النصفة بفتحتين لأنك أعطيته من الحق ما تستحقه لنفسك.
(الحديث الثاني)
(1): ضعيف على المشهور.
" من يضمن لي أربعة"
(2) من للاستفهام، و يقال: ضمنت المال و به
ضمانا فأنا ضامن و ضمين التزمته
" بأربعة أبيات"
(3) الباء للمقابلة و الأبيات جمع بيت كالبيوت،
و الحاصل من يلتزم لي أربعة من الأعمال في مقابلة أربعة أبيات ألتزمها له في
الجنة، و في المحاسن: من يضمن لي أربعة أضمن له بأربعة أبيات ثم بين عليه السلام
الأعمال على سبيل الاستئناف، كان السائل قال: ما هي حتى أفعلها؟ قال:
" أنفق"
(4) أي فضل مالك في سبيل الله، و ما يوجب رضاه
" و لا تخف فقرا"
(5) فإن الإنفاق موجب للخلف
" و أفش السلام في العالم"
(6) أي أنشر التسليم و أكثره أي سلم على كل من
لقيته إلا ما استثني مما سيأتي في بابه. في القاموس: فشا خبره و عرفه و فضله فشوا
و فشوا و فشيا: انتشر و أفشاه.
" و اترك المراء"
(7) أي الجدال و المنازعة و إن كان في مسائل
العلمية إذا لم يكن الغرض إظهار الحق و إلا فهو مطلوب كما قال تعالى:" وَ
جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" و قد مر الكلام فيه.
(الحديث الثالث)
(8): موثق.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
342
" سيد الأعمال"
(1) أي أشرفها و أفضلها
" حتى لا ترضى بشيء"
(2) أي لنفسك أي لا يطلب منهم من المنافع إلا
مثل ما يعطيهم، و لا ينيلهم من المضار إلا ما يرضى أن يناله منهم و يحكم لهم على
نفسه
" و مواساتك الأخ في
المال"
(3) أي جعله شريكك في مالك و سيأتي الأخ في الله
فيشمل نصرته بالنفس و المال و كلما يحتاج إلى النصرة فيه.
قال في النهاية: قد تكرر ذكر الأسوة
و المواساة و هي بكسر الهمزة و ضمها القدرة و المواساة المشاركة و المساهمة في
المعاش و الرزق و أصلها الهمزة فقلبت واوا تخفيفا و في القاموس: الأسوة بالكسر و
الضم القدوة واساه بماله مواساة أناله منه و جعله فيه أسوة و لا يكون ذلك إلا من
كفاف، فإن كان من فضلة فليس بمواساة و قال: واساه آساه لغة رديئة، انتهى.
" و ذكر الله على كل حال"
(4) سواء كانت الأحوال شريفة أو خسيسة كحال
الجنابة و حال الخلاء و غيرهما
" ليس"
(5) أي ذكر الله
" سبحان الله" إلخ،
(6) أي منحصرا فيها كما تفهمه العوام و إن كان
ذلك من حيث المجموع و كل واحد من أجزائه ذكرا أيضا و لكن العمدة في الذكر ما
سيذكر.
و اعلم أن الذكر ثلاثة أنواع: ذكر
باللسان، و ذكر بالقلب، و الأول يحصل بتلاوة القرآن و الأدعية، و ذكر أسماء الله و
صفاته سبحانه و دلائل التوحيد و النبوة و الإمامة و العدل و المعاد و المواعظ و
النصائح، و ذكر صفات الأئمة عليهم السلام و فضائلهم و مناقبهم، فإنه روي عنهم
عليهم السلام إذا ذكرنا ذكر الله و إذا ذكر أعداؤنا ذكر الشيطان و بالجملة كلما
يصير سببا لذكره تعالى حتى المسائل الفقهية و الأخبار المأثورة عنهم عليهم السلام.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
343
و الثاني نوعان: أحدهما التفكر في
دلائل جميع ما ذكر و تذكرها و تذكر نعم الله و آلائه و التفكر في فناء الدنيا و
ترجيح الآخرة عليها و أمثال ذلك مما مر في باب التفكر، و الثاني تذكر عقوبات
الآخرة و مثوباتها عند عروض شيء أمر الله به أو نهى عنه، فيصير سببا لارتكاب
الأوامر و الارتداع عن النواهي، و قالوا: الثالث من أقسام الثلاثة أفضل من
الأولين، و من العامة من فضل الأول على الثالث مستندا بأن في الأول زيادة عمل
الجوارح، و زيادة العمل تقتضي زيادة الأجر، و الحق أن الأول إذا انضم إلى أحد
الأخيرين كان المجموع أفضل من كل منهما بانفراده، إلا إذا كان الذكر القلبي بدون
الذكر اللساني أكمل في الإخلاص و سائر الجهات فيمكن أن يكون بهذه الجهة أفضل من
المجموع، و أما الذكر اللساني بدون الذكر القلبي كما هو الشائع عند أكثر الخلق
أنهم يذكرون الله باللسان على سبيل العادة، مع غفلتهم عنه، و شغل قلبهم بما يلهى
عن الله، فهذا الذكر لو كان له ثواب لكانت له درجة نازلة من الثواب، و لا ريب أن
الذكر القلبي فقط أفضل منه، و كذا المواعظ و النصائح التي يذكرها الوعاظ رياء من
غير تأثر قلبهم به، فهذا أيضا لو لم يكن صاحبه معاقبا فليس بمثاب، و أما الترجيح
بين الثاني و الثالث فمشكل مع أن لكل منهما أفراد كثيرة لا يمكن تفضيلها و
ترجيحها.
ثم إن العامة اختلفوا في أن الذكر
القلبي هل تعرفه الملائكة و تكتبه أم لا؟
فقيل بالأول، لأن الله تعالى يجعل له
علامة تعرفه الملائكة بها، و قيل بالثاني لأنهم لا يطلعون عليها.
(الحديث الرابع)
(1): مجهول، و كلمة من شرطية.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
344
(الحديث الخامس)
(1): موثق.
" هم أقرب الخلق"
(2) أي بالقرب المعنوي كناية عن شمول لطفه و
رحمته تعالى لهم، أو المراد به القرب من عرشه تعالى، أو من الأنبياء و الأوصياء
عليهم السلام الذي إليهم حساب الخلق و على الأول ليس المراد بالغاية انقطاع القرب
بعده، بل المراد أن في جميع الموقف الذي الناس فيه خائفون و فارغون و مشغولون
بالحساب، هم في محل الأمن و القرب و تحت ظل العرش و بعده أيضا كذلك بالطريق
الأولى.
و قوله: حتى يفرغ
(3)، إما على بناء المعلوم و المستتر راجع إلى
الله أو على بناء المجهول، و الظرف نائب الفاعل
" لم تدعه"
(4) أي لم تحمله من دعا يدعو
" قدرة"
(5) بالتنوين و الإضافة إلى الضمير بعيد أي قدرة
على الحيف و هو الجور و الظلم، و يمكن حمله هنا على ما يشمل الانتقام بالمثل
المجوز أيضا، فإن العفو أفضل، و في الخصال قدرته
" و رجل مشى بين اثنين"
(6) بالمشي الحقيقي أو كناية عن الحكم بينهما أو
الأعم منه و من أداء رسالة أو مصالحة
" بشعيرة"
(7) مبالغة مشهورة في القلة، و المراد ترك الميل
بالكلية
" فيما له و عليه"
(8) أي فيما ينفعه في الدنيا أو يضره فيها.
(الحديث السادس)
(9): مجهول و سيأتي تمام الخبر، و رواه المفيد
(ره) في مجالسه بإسناده عن هشام بن سالم عن أبي عبيدة الحذاء عن أبي عبد الله عليه
السلام قال
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
345
أ لا أخبرك بأشد ما افترض الله على
خلقه: إنصاف الناس من أنفسهم، و مواساة الإخوان في الله عز و جل، و ذكر الله على
كل حال، فإن عرضت له طاعة لله عمل بها، و إن عرضت له معصية تركها، و كان المراد
بالفرض أعم من الواجب و السنة المؤكدة.
(الحديث السابع)
(1): ضعيف على المشهور، و قد مر في الثالث، و
هنا مكان في المال
" في الله"
(2) أي الأخ الذي إخوته لله لا للأغراض الدنيوية
أو هو متعلق بالمواساة، أي تكون المواساة لله لا للشهرة و الفخر، و على التقديرين
ما فيه المواساة يشمل غير المال أيضا.
(الحديث الثامن)
(3): مجهول.
" بأشد ما فرض الله على خلقه
ثلاث"
(4) ليس ثلاث في بعض النسخ و هو أظهر، و على
تقديره بدل أو عطف بيان للأشد أو خبر مبتدإ محذوف
" إذا هجمت"
(5) على بناء المعلوم أو المجهول، في القاموس:
هجم عليه هجوما انتهى إليه بغتة أو دخل
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
346
بغير إذن أو دخل و فلانا أدخله
كأهجمه، انتهى.
و في بعض النسخ إذا همت و الأول أكثر
و أظهر.
(الحديث التاسع)
(1): حسن كالصحيح.
" أشد عليه"
(2) أي في الآخرة
" يحرمها"
(3) على بناء المجهول و هو بدل اشتمال للخصال،
أي من حرمان خصال ثلاث يقال: حرمة الشيء كضربه و علمه حريما و حرمانا بالكسر
منعه، فهو محروم، و من قرأ على بناء المعلوم من قولهم حرمته إذا امتنعت فعله فقد
أخطأ، و اشتبه عليه ما في كتب اللغة
" في ذات يده"
(4) أي الأموال المصاحبة ليده أي المملوكة له،
فإن الملك ينسب غالبا إلى اليد كما يقال:
ملك اليمين، قال الطيبي: ذات الشيء
نفسه و حقيقته، و يراد به ما أضيف إليه و منه إصلاح ذات البين أي إصلاح أحوال
بينكم حتى تكون أحوال ألفه و محبة و اتفاق، كعليم بذات الصدور أي بمضمراتها، و في
شرح جامع الأصول في ذات يده أي فيما يملكه من ملك و أثاث.
(الحديث العاشر)
(5): مرفوع.
" فأخذ بغرز راحلته"
(6) قال الجوهري: الغرز ركاب الرحل من جلد عن
أبي الغوث قال: فإذا كان من خشب أو حديد فهو ركاب، و قال: رحل البعير أصغر من
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
347
القتب، و الراحلة: الناقة التي تصلح
لأن ترحل، و يقال: الراحلة المركب من الإبل ذكرا كان أو أنثى، انتهى.
" أن يأتيه الناس إليك"
(1) كأنه على الحذف و الإيصال، أي يأتي به الناس
إليك، أو هو من قولهم أتى الأمر أي فعله، أي يفعله الناس منتهيا إليك، و يمكن أن
يقرأ على بناء التفعيل من قولهم: أتيت الماء تأتيه أي سهلت سبيله، و قال في
المصباح: أتى الرجل يأتي إيتاء: جاء، و أتيته يستعمل لازما و متعديا.
(الحديث الحادي عشر)
(2): موثق.
و العدل
(3) ضد الجور، و يطلق على ملكة للنفس تقتضي
الاعتدال في جميع الأمور، و اختيار الوسط بين الإفراط و التفريط، و يطلق على إجراء
القوانين الشرعية في الأحكام الجارية بين الخلق.
قال الراغب: العدل ضربان: مطلق يقتضي
العقل حسنه، و لا يكون في شيء من الأزمنة منسوخا و لا يوصف بالاعتداء بوجه نحو
الإحسان إلى من أحسن إليك و كف الأذية عمن يكف أذاه عنك، و عدل يعرف كونه عدلا
بالشرع، و يمكن أن يكون منسوخا في بعض الأزمنة كالقصاص و أرش الجنايات، و لذلك
قال:
" فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ
فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ" و قال:" وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ
مِثْلُها" فسمي ذلك اعتداء و سيئة، و هذا النحو هو المعنى بقوله:" إِنَّ
اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ" فإن العدل هو المساواة في
المكافاة إن خيرا فخيرا و إن شرا فشرا،
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
348
و الإحسان أن يقابل الخير بأكثر منه،
و الشر بأقل منه، انتهى.
و
قوله عليه السلام: إذا عدل فيه
(1)، يحتمل وجوها: الأول أن يكون الضمير راجعا
إلى الأمر أي ما أوسع العدل إذا عدل في أمر و إن قل ذلك الأمر.
الثاني: أن يكون الضمير راجعا إلى
العدل، و المراد بالعدل الأمر الذي عدل فيه فيرجع إلى المعنى الأول و يكون
تأكيدا." الثالث": إرجاع الضمير إلى العدل أيضا، و المعنى ما أوسع العدل
الذي عدل فيه أي يكون العدل واقعيا حقيقيا لا ما يسميه الناس عدلا، أو يكون عدلا
خالصا غير مخلوط بجور أو يكون عدلا ساريا في جميع الجوارح لا مخصوصا ببعضها، و في
جميع الناس لا يختص بعضهم.
" الرابع": ما قيل: أن عدل
على المجهول من بناء التفعيل، و المراد جريانه في جميع الوقائع لا أن يعدل إذا لم
يتعلق به غرض فالتعديل رعاية التعادل و التساوي و على التقادير يحتمل أن يكون
المراد
بقوله: و إن قل
(2)، بيان قلة العدل بين الناس.
(الحديث الثاني عشر)
(3): مرسل.
" رضي به"
(4) على بناء المجهول
" حكما"
(5) بالتحريك تميز أو حال عن ضمير به، و المعنى
أنه يجب أن يكون الحاكم بين الناس من أنصف الناس من نفسه، و يمكن أن يقرأ على بناء
المعلوم أي من أنصف الناس من نفسه لم يحتج إلى حاكم، بل رضي أن تكون نفسه حكما
بينه و بين غيره، و الأول أظهر.
(الحديث الثالث عشر)
(6): ضعيف على المشهور.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
349
" سأجمع لك الكلام"
(1) أي الكلمات الحقة الجامعة النافعة
" فتعبدني"
(2) هذه الكلمة جامعة لجميع العبادات الحقة و
الإخلاص الذي هو من أعظم شروطها، و معرفة الله تعالى بالوحدانية و التنزيه عن جميع
النقائص و التوكل عليه في جميع الأمور.
قوله تعالى:
أحوج ما تكون إليه
(3)، أحوج منصوب بالظرفية الزمانية فإن كلمة ما
مصدرية، و أحوج مضاف إلى المصدر، و كما أن المصدر يكون نائبا لظرف الزمان نحو
رأيته قدوم الحاج فكذا المضاف إليه يكون نائبا له، و نسبة الاحتياج إلى الكون على
المجاز، و
" تكون"
(4) تامة و
" إليه"
(5) متعلق بالأحوج، و ضميره راجع إلى الجزاء
الذي هو في ضمن أجزيك.
قوله: فعليك الدعاء،
(6) كان الدعاء مبتدأ و عليك خبره، و كذا:
على الإجابة
(7)، و يحتمل أن يكون بتقدير عليك بالدعاء.
(الحديث الرابع عشر)
(8): موثق.
" و اعدلوا"
(9) أي في أهاليكم و معامليكم، و كل من لكم
عليهم الولاية، روي عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم كلكم راع و كلكم مسئول عن
رعيته
" فإنكم تعيبون على
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
350
قوم لا يعدلون"
(1) بين الناس من أمراء الجور فلا ينبغي لكم أن
تفعلوا ما تلومون غيركم عليه.
(الحديث الخامس عشر)
(2): موثق.
و الظاهر رجوع ضمير
" عنه"
(3) إلى أحمد بن محمد بن عيسى في الخبر السابق،
و غفل عن توسط خبر آخر كما لا يخفى على المتتبع، و يحتمل عوده إلى إبراهيم ابن
هاشم لروايته سابقا عن ابن محبوب، و يمكن عوده إلى محمد بن عبد الجبار و الأول
أظهر كما لا يخفى على المتتبع.
" أحلى من الشهد"
(4) من قبيل تشبيه المعقول بالمحسوس لألف أكثر
الخلق بتلك المشتهيات البدنية الدنية.
(الحديث السادس عشر)
(5): مجهول.
" يوم لا ظل إلا ظله"
(6) الضمير راجع إلى الله أو إلى العرش، فعلى
الأول يحتمل أن يكون لله تعالى يوم القيامة ظلال غير ظل العرش و هو أعظمها و
أشرفها يخص الله سبحانه من يشاء من عباده و من جملتهم صاحب هذه الخصال، و قيل على
الأخير: ينافي ظاهرا ما روي عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أن أرض القيامة
نار ما خلا ظل المؤمن فإن صدقته تظله، و من ثم قيل: إن في القيامة ظلالا بحسب
الأعمال تفيء أصحابها من حر الشمس و النار، و أنفاس الخلائق، و لكن ظل العرش
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
351
أحسنها و أعظمها، و قد يجاب بأنه
يمكن أن لا يكون هناك إلا ظل العرش يظل بها من يشاء من عباده المؤمنين و لكن ظل
العرش لما كان لا ينال إلا بالأعمال، و كانت الأعمال تختلف فيحصل لكل عامل ظل يخصه
من ظل العرش بحسب عمله و إضافة الظل إلى الأعمال باعتبار أن الأعمال سبب لاستقرار
العامل فيه.
و قال الطيبي: في ظل عرش الله، أي في
ظل الله من الحر و الوهج في الموقف، أو أوقفه الله في ظل عرشه حقيقة و قال النووي:
قيل: الظل عبارة عن الراحة و النعيم، نحو هو في عيش ظليل، و المراد ظل الكرامة لا
ظل الشمس لأن سائر العالم تحت العرش، و قيل: يحتمل جعل جزء من العرش حائلا تحت فلك
الشمس، و قيل: أي كنه من المكاره و وهج الموقف و يوم لا ظل إلا ظله أي دنت منهم
الشمس و اشتد الحر و أخذهم العرق، و قيل: أي لا يكون من له ظل كما في الدنيا.
قوله عليه السلام: لم يقدم رجلا،
(1) بكسر الراء في الموضعين و هي عبارة شايعة
عند العرب و العجم في التعميم في الأعمال أو الأفعال، أو التقديم كناية عن الفعل،
و التأخير عن الترك، كما يقال في التردد في الفعل و الترك يقدم رجلا و يؤخر أخرى،
و أما قراءة رجلا بفتح الراء و ضم الجيم فهو تصحيف.
قوله عليه السلام: حتى ينفي
(2) قيل:" حتى" هنا مثله في قوله
تعالى حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ" في التعليق على المحال لتتمة الخبر" و
كفى بالمرء شغلا" الباء زائدة و شغلا تميز، و المعنى من شغل بعيوب نفسه و
إصلاحها لا يحصل له فراغ ليشتغل بعيوب الناس و تفتيشها و لومهم عليها.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
352
(الحديث السابع عشر)
(1): مجهول و قد يعد ضعيفا.
و بنو غفار
(2) ككتاب رهط أبي ذر رضي الله عنه
" فذلك المؤمن حقا"
(3) أي المؤمن الذي يحق و يستأهل أن يسمى مؤمنا
لكماله في الإيمان و صفاته.
(الحديث الثامن عشر)
(4): ضعيف على المشهور.
و في القاموس
تدارءوا
(5) تدافعوا في الخصومة،
و أديل منه
(6) أي جعلت الغلبة و النصرة له عليه، يقال:
أدالنا الله على عدونا أي نصرنا عليه و جعل الغلبة لنا، و في الصحيفة أدل لنا و لا
تدل منا، و في الفائق: أدال الله زيدا من عمر و نزع الله الدولة من عمرو و أتاها
زيدا.
(الحديث التاسع عشر)
(7): صحيح على الظاهر.
(الحديث العشرون)
(8): حسن كالصحيح و قد مضي عن الحلبي بسند آخر.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
353
باب الاستغناء عن الناس
(1)
(الحديث الأول)
(2): صحيح.
و
الشرف
(3) علو القدر و المنزلة، و
العزة
(4) الغلبة و دفع المذلة و الحمل فيهما على
المبالغة و المجاز، و المراد بالاستغناء قطع الطمع عنهم و القناعة بالكفاف و
التوكل على الله و عدم التوسل بهم و السؤال عنهم من غير ضرورة و إلا فالدنيا دار
الحاجة و الإنسان مدني بالطبع، و بعضهم محتاجون في تعيشهم إلى بعض، لكن كلما سعى
في قلة الاحتياج و السؤال يكون أعز عند الناس، و كلما خلى قلبه عن الطمع من الناس
كان عون الله له في تيسير حوائجه أكثر.
(الحديث الثاني)
(5): ضعيف.
قوله عليه السلام: فلييأس،
(6) و في بعض النسخ فليأيس بتوسط الهمزة بين
اليائين، و كلاهما جائز و هو من المقلوب، قال الجوهري نقلا عن ابن السكيت: أيست
منه ييأس يأسا لغة في يئست منه إياس يأسا و مصدرهما واحد، و آيسني منه فلان أيئسني
و كذلك التأييس. و قال: اليأس القنوط و قد يئس من الشيء ييأس و فيه لغة أخرى يئس
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
354
يئيس بالكسر فيهما و هو شاذ، انتهى.
و
قوله:" و لا يكون"
(1) جملة حالية أو هو من عطف الخبر على الإنشاء
و يدل على أن اليأس من الخلق و ترك الرجاء منهم يوجب إجابة الدعاء لأن الانقطاع عن
الخلق كلما ازداد زاد القرب منه تعالى، بل عمدة الفائدة في الدعاء ذلك كما سيأتي
تحقيقه إنشاء الله في كتاب الدعاء.
(الحديث الثالث)
(2): كالسابق سندا و مضمونا.
و اجتماع الخيرات في قطع الطمع
(3) ظاهر إذ كل خير غيره إما موقوف عليه أو شرط
له أو لازم له لأنه لا يحصل ذلك إلا بمعرفة كاملة لجناب الحق تعالى، و اليقين بأنه
الضار النافع و بقضائه و قدره و أن أسباب الأمور بيد الله و بلطفه و رحمته، و فناء
الدنيا و عجز أهلها و اليقين بالآخرة و مثوباتها و عقوباتها و ما من خير إلا و هو
داخل في ذلك الأمور.
(الحديث الرابع)
(4): مجهول.
و الاستلاب
(5) الاختلاس أي يصير سببا لسلب العز سريعا
" مذهبة للحياء"
(6) المذهبة إما بالفتح مصدرا ميميا و الحمل على
المبالغة، أو هو بمعنى اسم الفاعل أو اسم المكان
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
355
أي مظنة لذهاب الحياء، أو بالكسر أي
آلة لذهابه.
" عز للمؤمن في دينه"
(1) لأنه مع اليأس عن الناس لا يترك حقا و لا
عبادة و لا أمرا بمعروف و لا نهيا عن منكر خوفا من عدم وصول منفعة منهم إليه، فهو
عزيز غالب في دينه أو يكمل دينه بذلك لأنه من أعظم مكملات الإيمان
" و الطمع هو الفقر
الحاضر"
(2) لأنه يطمع لئلا يصير فقيرا و مفسدة الفقر
الحاجة إلى الناس فهو يتعجل مفسدة الفقر لئلا يصير فقيرا فيترتب عليه مفسدته، و
قيل: يصير سببا لفقر معجل حاضر، و الأول أظهر.
(الحديث الخامس)
(3): صحيح.
" لعلي أصيب منه"
(4) أي نفعا و خيرا
" أنا أضن بك"
(5) في المصباح ضن بالشيء يضن من باب تعب ضنا و
ضنة بالكسر بخل فهو ضنين و من باب ضرب لغة، انتهى.
أي أنا أبخل بك أن تضيع، و تطلب هذه
المطالب الخسيسة و أشباهها من الأمور الدنيوية بل أريد أن تكون همتك أرفع من ذلك و
تطلب مني المطالب العظيمة الأخروية، أو أن تطلب حاجة من مثل هذا المخالف الموافق
له في جميع الصفات أو أكثرها
" و شبهه"
(6) الموافق له في كونه مخالفا فإن التذلل عند المخالفين
موجب لضياع الدين و أنت عزيز علي لا أرضى بهلاكك و أضن بك
" و لكن"
(7) إذا كانت لك حاجة
" عول"
(8) و اعتمد
" على مالي"
(9) و خذ منه ما شئت.
و يدل على رفعة شأن البزنطي و كونه
من خواصه عليه السلام كما يظهر من سائر الأخبار مثل ما رواه الكشي بإسناده عن
البزنطي قال: كنت عند الرضا عليه السلام فأمسيت
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
356
عنده قال: فقلت: أنصرف؟ قال: لا
تنصرف فقد أمسيت، قال: فأقمت عنده فقال لجاريته:
هاتي مضربتي و وسادتي فافرشي لأحمد
في ذلك البيت، قال: فلما صرت في البيت دخلني شيء فجعل يخطر ببالي: من مثلي في بيت
ولي الله و على مهاده! فناداني: يا أحمد إن أمير المؤمنين عليه السلام عاد صعصعة
بن صوحان فقال: يا صعصعة لا تجعل عيادتي إياك فخرا على قومك و تواضع لله يرفعك.
(الحديث السادس)
(1): مجهول.
و ذكر شعر حاتم ليس للاستشهاد بل
للشهرة و الدلالة على أن هذا مما يحكم به عقل جميع الناس حتى الكفار
" إذا ما عزمت اليأس"
(2) كلمة ما زائدة أي إذا عزمت على اليأس عن
الناس
" ألفيته"
(3) أي وجدته
" الغناء، إذا عرفته"
(4) بصيغة الخطاب من باب التفعيل و نصب النفس أو
بصيغة الغيبة و رفع النفس و الطمع مرفوع بالابتدائية و الفقر بالخبرية.
(الحديث السابع)
(5): ضعيف بسنديه على المشهور.
" ليجتمع في قلبك الافتقار إلى
الناس و الاستغناء عنهم"
(6) أي العزم عليهما بأن تعاملهم ظاهرا معاملة
من يفتقر إليهم في لين الكلام و حسن البشر و أن تعاملهم من
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
357
جهة أخرى معاملة من يستغني عنهم بأن
تنزه عرضك من التدنس بالسؤال عنهم، و تبقى عزك بعدم التذلل عندهم للأطماع الباطلة
أو يجتمع في قلبك اعتقادان اعتقادك بأنك مفتقر إليهم للمعاشرة لأن الإنسان مدني
بالطبع يحتاج بعضهم إلى بعض في التعيش و البقاء، و اعتقادك بأنك مستغن عنهم غير
محتاج إلى سؤالهم لأن الله تعالى ضمن أرزاق العباد و هو مسبب الأسباب، و فائدة
الأول حسن المعاشرة و المخالطة معهم بلين الكلام و حسن الوجه و البشاشة، و فائدة الثاني
حفظ العرض و صوته عن النقص و حفظ العز بترك السؤال و الطمع.
و الحاصل أن ترك المعاشرة و المعاملة
بالكلية مذموم و الاعتماد عليهم و السؤال منهم و التذلل عندهم أيضا مذموم، و
الممدوح من ذلك التوسط بين الإفراط و التفريط كما عرفت مرارا.
و في القاموس:
التنزه
(1) التباعد و الاسم النزهة، و نزه الرجل تباعد
عن كل مكروه فهو نزيه و نزه نفسه عن القبيح تنزيها نحاها.
و قال:
العرض
(2) بالكسر النفس و جانب الرجل يصونه من نفسه و
حسبه أن ينتقص و يثلب، أو سواء كان في نفسه أو سلفه أو من يلزمه أمره أو موضع
المدح و الذم منه، أو ما يفتخر به من حسب و شرف، و قد يراد به الآباء و الأجداد، و
الخليفة المحمودة.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
358
باب صلة الرحم
(1)
(الحديث الأول)
(2): حسن كالصحيح.
" وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي
تَسائَلُونَ بِهِ"
(3) قال البيضاوي: أي يسأل بعضكم بعضا فيقول:
أسألك بالله، و أصله تتساءلون فأدغمت
الثانية في السين، و قرأ عاصم و حمزة و الكسائي بطرحها، انتهى.
و الظاهر أن ضمير" به"
راجع إلى الله و عوده إلى التقوى بعيد، و الأرحام بالجر على قراءة حمزة عطف على
الضمير المجرور، و استدل به الكوفيون على جواز العطف على الضمير المجرور بدون
إعادة الجار و منعه البصريون لأنه من قبيل العطف على بعض الكلمة، و أجابوا عن
الآية بأن الأرحام مرفوعة كما في بعض القراءات الشاذة على أنه مبتدأ محذوف الخبر،
تقديره و الأرحام كذلك أي مما يتقى أو يتساءل به، أو منصوبة كما قرأ به غير حمزة
من القراء السبعة بالعطف على محل الجار و المجرور كما في قولك مررت بزيد و عمروا،
أو على الله أي اتقوا الأرحام فصلوها و لا تقطعوها، على أن الواو يحتمل أن يكون
للقسم أو بمعنى مع.
و أجيب بأن الكل خلاف الظاهر أما
الأول فلان الأصل عدم الحذف، و أما الثاني فلان العطف على المحل نادر في كلام
الفصحاء و مع ندرته لا يجوز إلا مع تعذر العطف على اللفظ، و دليل التعذر غير تام
لأن امتناع العطف على بعض الكلمة إذا كان ذلك البعض أيضا كلمة ممنوع، و أما الثالث
فلبعد المسافة و لعدم فهم المساءلة في
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
359
الأرحام حينئذ و أما الأخيران فلأن
الأصل في الواو هو العطف و لا يعدل عنه إلا بدليل
" إِنَّ اللَّهَ كانَ
عَلَيْكُمْ رَقِيباً"
(1) أي حافظا مطلعا.
قوله عليه السلام: هي أرحام الناس،
(2) أي ليس المراد هنا رحم آل محمد صلى الله
عليه و آله و سلم كما في أكثر الآيات
" أمر بصلتها"
(3) أي في سائر الآيات أو في هذه الآية على
قراءة النصب بالعطف على الله و الأمر باتقاء الأرحام أمر بصلتها
" و عظمها"
(4) حيث قرنها بنفسه،
" أ لا ترى أنه جعلها منه"
(5) أي قرنها بنفسه، و على قراءة الجر حيث قررهم
على ذلك حيث كانوا يجمعون بينه تعالى و بين الرحم في السؤال فيقولون أنشدك الله و
الرحم و ربما يقرأ منة بضم الميم و تشديد النون أي جعلها قوة و سببا لحصول المطالب
أو بالكسر و التشديد أي أنعم بهما على الخلائق و لا يخفى ما فيهما من التعسف.
و في تفسير العياشي في روايتين أ لا
ترى أنه جعلها معه و يؤيد العطف على الجلالة ما رواه الصدوق في العيون و الخصال
بإسناده عن الرضا عليه السلام قال: إن الله عز و جل أمر ثلاثة مقرون بها ثلاثة
أخرى، أمر بالصلاة و الزكاة فمن صلى و لم يزك لم تقبل منه صلاته، و أمر بالشكر له
و للوالدين، فمن لم يشكر و الدية لم يشكر الله، و أمر باتقاء الله و صلة الأرحام
فمن لم يصل رحمه لم يتق الله عز و جل.
(الحديث الثاني)
(6): موثق.
و في القاموس:
الوثب
(7) الظفر و واثبه ساوره و توثب في ضيعتي استولى
عليها ظلما،
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
360
و قال: شتمه
(1) يشتمه شتما سبه و الاسم الشتيمة، و قال:
رفضه
(2) يرفضه و يرفضه رفضا و رفضا تركه، انتهى.
و رفض الله
(3) كناية عن سلب الرحمة و النصرة و إنزال
العقوبة و
" تصل"
(4) و ما عطف عليه خبر بمعنى الأمر و قد مر
تفسيرها و الظهير الناصر و المعين، و المراد هنا نصرة الله و الملائكة و صالح
المؤمنين كما قال تعالى في شأن زوجتي النبي صلى الله عليه و آله و سلم
الخائنتين:" وَ إِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَ
جِبْرِيلُ وَ صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ".
(الحديث الثالث)
(5): مجهول.
و يدل على أن العمر يزيد و ينقص و أن
صلة الرحم توجب زيادته، و
قوله:
يفعل الله ما يشاء
(6)، إشارة إلى المحو و الإثبات و أنه قادر على
ذلك أو قد يزيد أكثر مما ذكر و أقل منه و قال الراغب: الرحم رحم المرأة و منه
أستعير الرحم للقرابة لكونهم خارجين من رحم واحدة، يقال رحم و رحم قال عز و
جل:" وَ أَقْرَبَ رُحْماً"، انتهى.
و اعلم أن العلماء اختلفوا في الرحم
التي يلزم صلتها، فقيل: الرحم و القرابة نسبة و اتصال بين المنتسبين يجمعها رحم
واحدة، و قيل: الرحم عبارة عن قرابة الرجل من جهة طرفيه، آبائه و إن علوا، و
أولاده و إن سفلوا، و ما يتصل بالطرفين من الأخوة و الأخوات و أولادهم و الأعمام و
العمات، و قيل: الرحم التي تجب صلتها كل رحم بين اثنين لو كان ذكرا لم يتناكحا فلا
يدخل فيهم أولاد الأعمام و الأخوال، و قيل:
هي عام في كل ذي رحم من ذوي الأرحام
المعروفين بالنسب محرمات أو غير محرمات
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
361
و إن بعدوا، و هذا أقرب إلى الصواب
بشرط أن يكونوا في العرف من الأقارب، و إلا فجميع الناس يجمعهم آدم و حواء.
و أما القبائل العظيمة كبني هاشم في
هذا الزمان هل يعدون أرحاما؟ فيه إشكال.
و يدل على دخولهم فيها ما رواه علي
بن إبراهيم في تفسير قوله تعالى:" فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ
تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَ تُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ" أنها نزلت في بني
أمية و ما صدر منهم بالنسبة إلى أهل البيت عليهم السلام.
قال ابن الأثير في النهاية: فيه من
أراد أن يطول عمره فليصل رحمه و قد تكرر في الحديث ذكر صلة الرحم و هي كناية عن
الإحسان إلى الأقربين من ذوي النسب و الأصهار، و التعطف عليهم و الرفق بهم و
الرعاية لأحوالهم، و كذلك إن بعدوا و أساءوا، و قطع الرحم ضد ذلك كله يقال: وصل
رحمه يصلها وصلا و صلة و الهاء فيها عوض من الواو المحذوفة فكأنه بالإحسان إليهم
قد وصل ما بينه و بينهم من علاقة القرابة و الصهر، انتهى.
و قال الشهيد الثاني (ره): اختلف
الأصحاب في أن القرابة من هم؟ لعدم النص الوارد في تحقيقه، فالأكثر أحالوه على
العرف و هم المعروفون بنسبة عادة سواء في ذلك الوارث و غيره، و للشيخ قول بانصرافه
إلى من يتقرب إليه إلى آخر أب و أم في الإسلام، و لا يرتقي إلى آباء الشرك و إن
عرفوا بقرابته عرفا لقوله صلى الله عليه و آله و سلم: قطع الإسلام أرحام الجاهلية،
و قوله تعالى لنوح:" إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ" و قال ابن الجنيد:
من جعل وصيته لقرابته و ذوي رحمه غير مسمين كانت لمن تقرب إليه من جهة ولده أو
والديه و لا اختار أن يتجاوز بالتفرقة ولد الأب الرابع، لأن رسول الله صلى الله
عليه و آله و سلم لم يتجاوز ذلك في تفرقة سهم ذوي القربى من الخمس، ثم على أي معنى
حمل،
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
362
يدخل فيه الذكر و الأنثى و القريب و
البعيد و الوارث و غيره، و لا فرق بين ذوي القرابة و ذوي الرحم، انتهى.
فإذا عرفت هذا فاعلم أنه لا ريب في
حسن صلة الأرحام و لزومها في الجملة، و لها درجات متفاوتة بعضها فوق بعض، و أدناها
الكلام و السلام و ترك المهاجرة و يختلف ذلك أيضا باختلاف القدرة عليها و الحاجة
إليها فمن الصلة ما يجب و منها ما يستحب، و الفرق بينهما مشكل و الاحتياط ظاهر، و
من وصل بعض الصلة و لم يبلغ أقصاها و من قصر عما ينبغي أو عما يقدر عليه هل هو
واصل أو قاطع؟ فيه نظر.
و بالجملة التميز بين المراتب
الواجبة و المستحبة في غاية الإشكال و الله أعلم بحقيقة الحال و الاحتياط طريق
النجاة.
قال الشيخ الشهيد روح الله روحه في
قواعده: كل رحم يوصل للكتاب و السنة و الإجماع على الترغيب في صلة الأرحام و
الكلام فيها في مواضع:
الأول: ما الرحم؟ الظاهر أنه المعروف
بنسبة و إن بعد و إن كان بعضه آكد من بعض، ذكرا كان أو أنثى، و قصره بعض العامة
على المحارم الذي يحرم التناكح بينهم إن كانوا ذكورا و إناثا و إن كانوا من قبيل
يقدر أحدهما ذكرا و الآخر أنثى، فإن حرم التناكح فهم الرحم، و احتج بأن تحريم
الأختين إنما كان لما يتضمن من قطيعة الرحم و كذا تحريم أصالة الجمع بين العمة و
الخالة و ابنه الأخ و الأخت مع عدم الرضا عندنا و مطلقا عندهم.
و هذا بالإعراض عنه حقيق، فإن الوضع
اللغوي يقتضي ما قلناه و العرف أيضا و الأخبار دلت عليه، و قوله تعالى:"
فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَ
تُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ" عن علي عليه السلام أنها نزلت في بني أمية أورده
علي بن إبراهيم
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
363
في تفسيره، و هو يدل على تسمية
القرابة المتباعدة رحما.
الثاني: ما الصلة التي يخرج بها عن
القطيعة؟ و الجواب: المرجع في ذلك إلى العرف لأنه ليس له حقيقة شرعية و لا لغوية و
هو يختلف باختلاف العادات و بعد المنازل و قربها.
الثالث: بم الصلة؟ و الجواب قوله صلى
الله عليه و آله و سلم: صلوا أرحامكم و لو بالسلام، و فيه تنبيه على أن السلام صلة
و لا ريب أن مع فقر بعض الأرحام و هم العمودان تجب الصلة بالمال، و يستحب لباقي
الأقارب و تتأكد في الوارث و هو قدر النفقة، و مع الغناء فبالهدية في الأحيان
بنفسه و أعظم الصلة ما كان بالنفس و فيه أخبار كثيرة، ثم بدفع الضرر عنها، ثم بجلب
النفع إليها، ثم بصلة من تجب نفقته و إن لم يكن رحما للواصل، كزوجة الأب و الأخ و
مولاه و أدناها السلام بنفسه ثم برسوله و الدعاء بظهر الغيب و الثناء في المحضر.
الرابع: هل الصلة واجبة أو مستحبة؟ و
الجواب: أنها تنقسم إلى الواجب و هو ما يخرج به عن القطيعة فإن قطيعة الرحم معصية
بل هي من الكبائر، و المستحب ما زاد على ذلك.
(الحديث الرابع)
(1): كالسابق.
" تزكي الأعمال"
(2) أي تنميها في الثواب أو تطهرها من النقائص
أو تصيرها مقبولة كأنها تمدحها و تصفها بالكمال.
" و تنمي الأموال"
(3) قال أمير المؤمنين عليه السلام: صلة الرحم
مثراة في المال، و ذكر بعض شراح النهج لذلك وجهين: أحدهما أن العناية الإلهية قسمت
لكل حي قسطا من الرزق يناله مدة الحياة، و إذا أعدت شخصا من الناس للقيام بأمر
جماعة
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
364
و كفلته بإمدادهم و معونتهم وجب في
العناية إفاضة أرزاقهم على يده، و ما يقوم بإمدادهم على حسب استعداده لذلك، سواء
كانوا ذوي أرحام أو مرحومين في نظره، حتى لو نوى قطع أحد منهم فربما نقص ما له
بحسب رزق ذلك المقطوع، و هذا معنى قوله: مثراة في المال.
الثاني: أنها من الأخلاق الحميدة
التي يستمال بها طباع الخلق، فواصل رحمه مرحوم في نظر الكل، فيكون ذلك سببا
لإمداده و معونته من ذوي الأمداد و المعونات.
" و تدفع البلوى"
(1) البلاء و البلية و البلوى بمعنى و هو ما
يمتحن به الإنسان من المحن و النوائب و المصائب
" و تيسر الحساب"
(2) أي حساب الأموال و الأعمال أيضا
" و تنسئ في الأجل"
(3) أي تؤخر فيه كما مر، قال في النهاية: فيه من
أحب أن ينسأ في أجله فليصل رحمه، النسأ التأخير يقال: أنسأت الشيء نسأ و نسأته
إنساء إذا أخرته و النسأ الاسم، و يكون في العمر و الدين، و منه الحديث: صلة الرحم
مثراة في المال منسأة في الأثر، هي مفعلة منه أي مظنة له و موضع، و قال النووي و
ذا بأن يبارك فيه بالتوفيق للطاعات و عمارة أوقاته بالخيرات، و كذا بسط الرزق
عبارة عن البركة، و قيل: عن توسيعه، و قيل: إنه بالنسبة إلى ما يظهر للملائكة و في
اللوح المحفوظ أن عمره ستون و إن وصل فمائة، و قد علم الله ما سيقع، و قيل: هو
ذكره الجميل بعده فكأنه لم يمت.
و قال عياض: الأثر الأجل سمي بذلك
لأنه تابع للحياة، و المراد بنساء الأجل يعني تأخيره هو بقاء الذكر الجميل بعده،
فكأنه لم يمت و إلا فالأجل لا يزيد و لا ينقص، و قال بعضهم: يمكن حمله على ظاهره
لأن الأجل يزيد و ينقص إذ قد يكون في أم الكتاب أنه إن وصل رحمه فأجله كذا، و إن
لم يصل
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
365
فأجله كذا.
و قال المازري: و قيل: معنى الزيادة
في عمره أنه بالبركة فيه بتوفيقه لإعمال الطاعة و عمارة أوقاته بما ينفعه في
الآخرة، فالتوجيه ببقاء ذكره بعد الموت ضعيف.
و قال الطيبي: بل التوجيه به أظهر
فإن أثر الشيء هو حصول ما يدل على وجوده، فمعنى يؤخر في أثره يؤخر ذكره الجميل
بعد موته، قال الله تعالى:
" نَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَ
آثارَهُمْ" و منه قول الخليل عليه السلام:" وَ اجْعَلْ لِي لِسانَ
صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ".
و قال بعض شراح النهج: النسأ التأخير
و ذلك من وجهين: أحدهما: أنها يوجب تعاطف ذوي الأرحام و توازرهم و تعاضدهم
لواصلهم، فيكون من أذى الأعداء أبعد، و في ذلك مظنة تأخيره و طول عمرة، الثاني: أن
مواصلة ذوي الأرحام توجب همتهم ببقاء و أصلهم و إمداده بالدعاء، و قد يكون دعاؤهم
له و تعلق همهم ببقائه و إنساء أجله، انتهى.
و أقول: لا حاجة إلى التكلفات و لا
استبعاد في تأثير بعض الأعمال في طول الأعمار و قد بسطنا الكلام في ذلك في شرح
أخبار البداء.
(الحديث الخامس)
(1): ضعيف.
" و إن كانت منه"
(2) و في بعض النسخ كان، و كلاهما جائز لأن
الرحم يذكر، و يؤنث
" فإن ذلك"
(3) أي الارتحال إليهم لزيارتهم أو الأعم منه و
من إرسال الكتب
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
366
و الهدايا إليهم
" من الدين"
(1) أي من الأمور التي أمر الله به في الدين
المتين و القرآن المبين.
(الحديث السادس)
(2): مجهول.
" تحسن الخلق"
(3) فإن بصلة الرحم تصير حسن المعاشرة ملكة،
فيسري إلى الأجانب أيضا، و كذا سماحة الكف تصير عادة، و السماحة الجود و نسبتها
إلى الكف على المجاز لصدورها منها غالبا
" و تطيب النفس"
(4) أي تجعلها سمحة بالبذل و العفو و الإحسان،
يقال: طابت نفسه بالشيء إذا سمحت به من غير كراهة و لا غضب، أو تطهرها من الحقد و
الحسد و سائر الصفات الذميمة، فإنه كثيرا ما يستعمل الطيب بمعنى الطاهر، أو يجعل
باله فارغا عن الهموم و الغموم و التفكر في دفع الأعادي، فإنها ترفع العداوة بينه
و بين أقاربه، و ذلك يوجب أمنه من شر سائر الخلق بل يوجب حبهم أيضا لما عرفت.
(الحديث السابع)
(5): ضعيف على المشهور.
" إن الرحم معلقة بالعرش"
(6) قيل: تمثيل للمعقول بالمحسوس و إثبات لحق
الرحم على أبلغ وجه و تعلقها بالعرش كناية عن مطالبة حقها بمشهد من الله، و معنى
ما تدعو به كن له كما كان لي، و افعل به ما فعل بي من الإحسان و الإساءة، و قيل:
محمول على الظاهر إذ لا يبعد من قدرة الله تعالى أن يجعلها ناطقة كما ورد
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
367
أمثال ذلك في بعض الأعمال أنه يقول
أنا عملك، و قيل: المشهور من تفاسير الرحم أنها قرابة الرجل من جهة طرفيه، و هي
أمر معنوي و المعاني لا تتكلم و لا تقوم، فكلام الرحم و قيامها و قطعها و وصلها
استعارة لتعظيم حقها و صلة واصلها، و إثم قاطعها، و لذا سمي قطعها عقوقا و أصل
العق الشق فكأنه قطع ذلك السبب الذي يصلهم، و قيل: يحتمل أن الذي تعلق بالعرش ملك
من الملائكة تكلم بذلك عوضا منها بأمر الله سبحانه فأقام الله ذلك الملك يناضل
عنها و يكتب ثواب و أصلها و إثم قاطعها كما وكل الحفظة بكتب الأعمال.
قوله عليه السلام: و هي رحم آل محمد،
(1) أي التي تتعلق بالعرش هي رحم آل محمد،
فالمراد أن الرحم المعلقة بالعرش رحم النبي صلى الله عليه و آله و سلم و ذوو قرباه
و أهل بيته و هم الأئمة بعده فإن الله أمر بصلتهم و جعل مودتهم أجر الرسالة
لقرابتهم بالرسول صلى الله عليه و آله و سلم لا بالناس، و لذلك يجب علي الناس
صلتهم، أو المراد به قرابة المؤمنين بالقرابة المعنوية الإيمانية فإن حق والدي
النسب على الناس لأنهما صارا سببين للحياة الظاهرية الدنيوية، و حق ذوي الأرحام
لاشتراكهما في الانتساب بذلك، و الرسول و أمير المؤمنين عليهما السلام أبوا هذه
الأمة لصيرورتهما سببا لوجود كل شيء و علة غائية لجميع الموجودات كما ورد في
الحديث القدسي: لو لا كما لما خلقت الأفلاك. و أيضا صارا سببين للحياة المعنوية
الأبدية بالعلم و الإيمان لجميع المؤمنين و لا نسبة لهذه الحياة بالحياة الفانية
الدنيوية و بهذا السبب صار المؤمنون إخوة فبهذه الجهة صارت قرابة النبي صلى الله
عليه و آله و سلم قرابتهم و ذوي أرحامهم، و أيضا قال الله تعالى:" النَّبِيُّ
أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ أَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ" و
في قراءة أهل البيت عليهم السلام: و هو أب لهم، فصار النبي صلى الله عليه و آله و
سلم و خديجة أبوا هذه الأمة و ذريتهما الطيبة ذوي أرحامهم فبهذه الجهات
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
368
صاروا بالصلة أولى و أحق من جميع
القرابات.
و
قوله عليه السلام: و رحم كل ذي رحم
(1)، يحتمل وجوها: الأول أن يكون عطفا على ضمير
هو، أي قوله: الذين يصلون نزل فيهم و في رحم كل ذي رحم، الثاني: أن يكون مبتدأ
محذوف الخبر، أي و رحم كل ذي رحم داخلة فيها أيضا، الثالث: أن يكون معطوفا على رحم
آل محمد أي المعلقة بالعرش رحم آل محمد و كل رحم فالآية يحتمل اختصاصها برحم آل
محمد بل هو حينئذ أظهر، لكن سيأتي ما يدل على التعميم، و قوله تعالى:" أَنْ
يُوصَلَ" بدل من ضمير به.
(الحديث الثامن)
(2): مجهول.
" أول ناطق"
(3) لأنه حصل الجميع منها و كأنه تعالى يخلق
خلفا مكانها يطلب حقها
" من وصلني"
(4) أي رعي النسبة الحاصلة بسببي
" فصل اليوم"
(5) أي بالرحمة.
(الحديث التاسع)
(6): صحيح.
" محبته"
(7) في بعض النسخ على صيغة اسم الفاعل من باب
التفعيل، و في بعضها بفتح الميم على بناء المجرد إما علي المصدر على المبالغة أي
سبب لمحبة الأهل أو اسم المكان أي مظنة كثرة المحبة لأن الإنسان عبيد الإحسان.
مرآة العقول في
شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 369
(الحديث العاشر)
(1): حسن كالصحيح.
(الحديث الحادي عشر)
(2): حسن موثق.
قوله: حافتا الصراط
(3)، الظاهر أنه بتخفيف الفاء من الأجوف، لا
بتشديده من المضاعف كما توهمه بعض الشارحين، قال في القاموس في الخوف: حافتا
الوادي و غيره جانباه، و قال في حف الحفاف ككتاب الجانب، و كان هذا منشأ توهم هذا
الفاضل و تشبيه الخصلتين بالحافتين لأنهما يمنعان من السقوط من الصراط في الجحيم،
كما أن من سلك طريق ضيقا مشرفا على هوي يمنعه الحافتان عن السقوط، و في النهاية و
في حديث الصراط آخر من يمر رجل يتكفأ به الصراط، أي يتميل و ينقلب، انتهى.
و أقول: الباء للملابسة أو للتعدية و
لا يبعد أن يشمل الرحم رحم آل محمد و الأمانة الإقرار بإمامتهم كما مرت الأخبار
فيهما.
(الحديث الثاني عشر)
(4): مجهول و قد مضى مضمونه.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
370
(الحديث الثالث عشر)
(1): كالسابق.
و قال الشهيد قدس سره في القواعد:
تظافرت الأخبار بأن صلة الأرحام تزيد في العمر، و قد أشكل هذا على كثير من الناس
باعتبار أن المقدرات في الأزل و المكتوبات في اللوح المحفوظ لا تتغير بالزيادة و
النقصان لاستحالة خلاف معلومه تعالى، و قد سبق العلم بوجود كل ممكن أراد وجوده و
بعدم كل ممكن أراد بقائه على حالة العدم الأصلي أو إعدامه بعد إيجاده فكيف الحكم
بزيادة العمر أو نقصانه بسبب من الأسباب، و اضطربوا في الجواب فتارة يقولون: هذا
علي سبيل الترغيب و تارة المراد به الثناء الجميل بعد الموت، و قد قال الشاعر:
ذكر الفتى عمرة الثاني و لذته ما فاته و فضول العيش أشغال
و قال:" ماتوا فعاشوا بحسن الذكر
بعدهم".
و قيل: بل المراد زيادة البركة في
الأجل، فأما في نفس الأجل فلا، و هذا الإشكال ليس بشيء، أما أولا: فلوروده في كل
ترغيب مذكور في القرآن و السنة حتى الوعد بالجنة و النعيم على الإيمان و بجواز
الصراط و الحور و الولدان، و كذلك التوعدات بالنيران و كيفية العذاب، لأنا نقول:
أن الله تعالى علم ارتباط الأسباب بالمسببات في الأزل و كتبه في اللوح المحفوظ،
فمن علمه مؤمنا فهو مؤمن أقر بالإيمان أو لا، بعث إليه نبي أو لا، و من علمه كافرا
فهو كافر على التقديرات، و هذا لازم يبطل الحكمة في بعثة الأنبياء و الأوامر
الشرعية و المناهي و متعلقاتها، و في
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
371
ذلك هدم الأديان.
و الجواب عن الجميع واحد، و هو أن
الله تعالى كما علم كمية العمر علم ارتباطه بسببه المخصوص، و كما علم من زيد دخول
الجنة جعله مرتبطا بأسبابه المخصوصة من إيجاده و خلق العقل له، و نصب الألطاف، و
حسن الاختيار، و العمل بموجب الشرع، فالواجب على كل مكلف الإتيان بما أمر فيه و لا
يتكل على العلم فإنه مهما صدر منه فهو المعلوم بعينه، فإذا قال الصادق أن زيدا إذا
وصل رحمه زاد الله في عمره ثلاثين ففعل، كان ذلك أخبارا بأن الله تعالى علم أن
زيدا يفعل ما يصير به عمره زائدا ثلاثين سنة كما أنه إذا أخبر أن زيدا إذا قال لا
إله إلا الله دخل الجنة ففعل تبينا أن الله تعالى علم أنه يقول و يدخل الجنة
بقوله.
و بالجملة جميع ما يحدث في العالم
معلوم لله تعالى على ما هو عليه واقع من شرط أو سبب و ليس نصب صلة الرحم زيادة في
العمر، إلا كنصب الإيمان سببا في دخول الجنة و العمل بالصالحات في رفع الدرجة، و
الدعوات في تحقق المدعو به، و قد جاء في الحديث لا تملوا من الدعاء فإنكم لا تدرون
متى يستجاب لكم، و في هذا سر لطيف و هو أن المكلف عليه الاجتهاد، ففي كل ذرة من
الاجتهاد إمكان سببية لخير علمه الله، كما قال:" وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا
لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا".
و العجب كيف ذكر الإشكال في صلة
الرحم و لم يذكر في جميع التصرفات الحيوانية مع أنه وارد فيها عند من لا يتفطن
للخروج منه.
فإن قلت: هذا كلمة مسلم و لكن قال
الله تعالى:" وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا
يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَ لا يَسْتَقْدِمُونَ" و قال تعالى:" وَ لَنْ
يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
372
جاءَ أَجَلُها".
قلت: الأجل صادق على كل ما يسمي أجلا
موهبيا أو أجلا مسببا فيحمل ذلك على الموهبي، و يكون وقته وفاء لحق اللفظ كما تقدم
في قاعدة الجزئي و الجزء و يجاب أيضا بأن الأجل عبارة عما يحصل عنده الموت لا
محالة، سواء كان بعد العمر الموهبي و المسببي، و نحن نقول كذلك لأنه عند حضور أجل
الموت لا يقع التأخر و ليس به العمر إذا لأجل مجرد الوقت.
و ينبه على قبول العمر للزيادة و
النقصان بعد ما دلت عليه الأخبار الكثيرة قوله تعالى:" وَ ما يُعَمَّرُ مِنْ
مُعَمَّرٍ وَ لا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ".
(الحديث الرابع عشر)
(1): كالسابق.
و حسن الجوار
(2) رعاية المجاور في الدار و الإحسان إليه و كف
الأذى عنه أو الأعم منه و من المجاور في المجلس و الطريق و من أجرته و جعلته في
أمانك، في القاموس: الجار المجاور و الذي أجرته من أن يظلم، و المجير و المستجير و
الشريك في التجارة، و ما قرب من المنازل، و الجواز بالكسر أن تعطى الرجل ذمة فيكون
بها جارك فتجيره، و جاوره مجاورة و جوارا و قد يكسر: صار جاره.
(الحديث الخامس عشر)
(3): ضعيف على المشهور.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
373
" إن أعجل الخير ثوابا"
(1) لأن كثيرا من ثوابها يصل إلى الواصل في
الدنيا مثل زيادة العمر و الرزق و محبة الأهل و نحوها.
(الحديث السادس عشر)
(2): كالسابق، و
النساء
(3) بالفتح أو كسحاب كما مر.
(الحديث السابع عشر)
(4): حسن أو موثق و سنده الآتي ضعيف على
المشهور.
و
قوله عليه السلام: ما نعلم شيئا
(5) يدل على أن غيرها لا تصير سببا لزيادة العمر
و إلا كان هو عليه السلام عالما به، و لعله محمول على المبالغة أو هي أكثر تأثيرا
من غيرها و زيادة العمر بسببها أكثر من غيرها، أو هي مستقلة في التأثير و غيرها
مشروط بشرائط أو يؤثر منضما إلى غيره، لأنه قد وردت الأخبار في أشياء غيرها من
الصدقة و البر و حسن الجوار و غيرها أنها تصير سببا لزيادة العمر.
(الحديث الثامن عشر)
(6): ضعيف.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
374
و في النهاية:
الربذة
(1) بالتحريك قرية معروفة قرب المدينة، بها قبر
أبي ذر الغفاري و في القاموس
محارب
(2) قبيلة، و في النهاية فيه: لا تحل المسألة
إلا لثلاثة، رجل تحمل بحمالة،
الحمالة
(3) بالفتح ما يتحمله الإنسان من غيره من دية أو
غرامة مثل أن يقع حرب بين فريقين تسفك فيها الدماء فيدخل بينهم رجل يتحمل ديات
القتلى ليصلح ذات البين، و التحمل أن يحملها عنهم على نفسه، انتهى.
" و إني سألت في طوائف"
(4) أي منهم أو داخلا فيهم، و في القاموس:
نكد
(5) عيشهم كفرح اشتد و عسر و البئر قل ماؤها، و
زيد حاجة عمر و منعه إياها و فلانا منعه ما سأله أو لم يعطه إلا أقله، و رجل نكد و
نكد و نكد و أنكد شؤم عسر. و النكد بالضم قلة العطاء و يفتح و قال: نص ناقته
استخرج أقصى ما عندها من السير و الشيء حركة، و قال:
دلف
(6) الشيخ يدلف دلفا و يحرك و دليفا و دلفانا
محركة مشى مشي المقيد، و فوق الدبيب، و الكتيبة في الحرب تقدمت يقال: دلفناهم و
الدالف الماشي بالحمل الثقيل مقاربا للخطو و ككتب الناقة التي تدلف بحملها أي تنهض
به، و اندلف على انصب و تدلف إليه تمشي و دنا، انتهى.
و قيل: أدلفت من باب الأفعال أو
التفعل و الأخير أشهر من الدليف و هو المشي مع تقارب الخطو و الإسراع، و كأنه
الوخدان، قال الثعالبي في سر الأدب: الوخدان نوع من سير الإبل و هو أن يرمي
بقوائمها كمشي النعام، و
الظليم
(7): الذكر من النعام
" في طلبها"
(8) أي في طلب الراحلة، و قيل: أي طلب الجماعة
المشهورين أو طلب بقية القوم و إلحاقهم بالمشهورين، و لا يخفى بعدهما.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
375
قوله عليه السلام: فلأيا بلا أي ما
لحقت،
(1) قال الجوهري: يقال فعل كذا بعد لأي أي بعد
شدة و إبطاء و في النهاية: في حديث أم أيمن فبلأي ما استغفر لهم رسول الله صلى
الله عليه و آله و سلم، أي بعد مشقة و جهد و إبطاء و منه حديث عائشة و هجرتها ابن
الزبير فبلأي ما كلمته، انتهى.
و أقول: هذا الكلام يحتمل وجوها:
الأول: أن يكون المعنى فلحقت مراكب القوم مركبة عليه السلام بعد إبطاء مع إبطاء و
شدة مع شدة" و ما" مزيدة للتفخيم فقوله لأيا منصوب بنزع الخافض أي لحقت
متلبسة بلأي مقرون بلأي ما، أو على الحال أو على المصدرية بغير لفظ الفعل، و لحقت
على بناء المعلوم، و المستتر راجع إلى البعض بتأويل الجماعة، أو على بناء المجهول
و الضمير لراحلته عليه السلام.
الثاني: أن يكون لأي مصدرا لفعل
محذوف، و ما مصدرية في موضع الفاعل أي فلأي لأيا بعد لأي لحوقها.
الثالث: أن يكون نصب لأي على العلة و
لحقت على بناء المجهول كقولهم:
قعدت من الحرب جبنا، أي أنه عليه
السلام جذب زمام راحلته، و أبطأ في السير حتى لحقوا لما رأى توجه أصحابه.
الرابع: ما قيل: إن كلمة ما نافية أي
فجهد جهدا بعد جهد و مشقة بعد مشقة ما لحقت.
الخامس: قال بعضهم فلأي بلأي ما لحقت،
ما مصدرية يعني فأبطأ عليه السلام و احتبس بسبب إبطاء لحوق القوم، و في بعض النسخ:
فلأيا على التثنية بضم الرجل معه عليه السلام أو بالنصب على المصدر.
قوله عليه السلام: و سألهم ما
يمنعهم،
(2) ما استفهامية و ضمير الغائب في يمنعهم و
صاحبهم لتغليب زمان الحكاية على زمان المحكي
" وصل امرؤ"
(3) أمر في صورة الخبر و كذا
قوله
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
376
و وصلت العشيرة،
(1) و النكرة هنا للعموم نحوها في قولهم: أنجز
حرما و عد
" إن عثر به"
(2) الباء للتعدية يقال: عثر كضرب و نصر و علم و
كرم أي كبا و سقط
" و قال حل"
(3) في أكثر النسخ بالحاء المهملة، و في
القاموس: حلحلهم أزالهم عن مواضعهم و حركهم فتحلحلوا، و الإبل قال لها حل حل
منونين أو حل مسكنة. و قال في النهاية: حل، زجر للناقة إذا حثثتها على السير،
انتهى.
و قيل: هو بالتشديد أي حل العذاب على
أهل البصرة لأنه كان متوجها إليهم، و لا يخفى ما فيه.
و في بعض النسخ بالخاء المعجمة: أي
خل سبيل الراحلة كان السائل كان آخذا بغرز راحلته، و هو المسموع عن المشايخ رضي
الله عنهم.
(الحديث التاسع عشر)
(4): ضعيف.
" لن يرغب المرء"
(5) نهي مؤكد مؤبد في صورة النفي
" و إن كان ذا مال و ولد"
(6) فلا يتكل عليهما فإنهما لا يغنيانه عن
العشيرة، و عشيرة الرجل قبيلته، و قيل: بنو أبيه الأدنون
" و عن مودتهم و كرامتهم"
(7) الإضافة فيهما إلى الفاعل أو إلى المفعول و
الأول أنسب
بقوله: و دفاعهم بأيديهم و ألسنتهم،
(8) فإن الإضافة فيه إلى الفاعل، و كون الجمع
باعتبار عموم المرء بعيد جدا.
و في نهج البلاغة: أيها الناس أنه لا
يستغني الرجل و إن كان ذا مال عن عشيرته
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
377
و دفاعهم عنه بأيديهم و ألسنتهم و هم
أعظم الناس حيطة من ورائه و المهم لشعثه و أعطفهم عليه عند نازلة إذا نزلت به، و
لسان الصدق يجعله الله للمرء في الناس خير له من المال يورثه غيره، انتهى.
و هو يعين الإضافة إلى الفاعل، و
يحتمل أن يكون المراد بكرامتهم رفعة شأنهم بين الناس لا إكرامهم له.
" هم أشد الناس حيطة"
(1) أي حفظا في القاموس: حاطه حوطا و حيطة و
حياطة حفظه و صانه و تعهده، و الاسم الحوطة و الحيطة و يكسر، انتهى.
و هذا إذا كان حيطة بالكسر كما في
بعض نسخ النهج و في أكثرها حيطة كبينة بفتح الباء و كسر الياء المشددة و هي
التحنن
" من ورائه"
(2) أي في غيبته، و قيل: أي في الحرب و الأظهر
عندي أنه إنما نسب إلى الوراء لأنها الجهة التي لا يمكن التحرز منها، و لذا يشتق
الاستظهار من الظهر
" و عطف عليه"
(3) أي أشفق، و في النهاية:
الشعث
(4) انتشار الأمر، و منه قولهم: لم الله شعثه، و
منه حديث الدعاء:
أسألك رحمة تلم بها شعثي، أي تجمع
بها ما تفرق من أمري.
" و من يقبض يده"
(5) قد مر في باب المداراة أنه يحتمل أن يكون
المراد باليد هنا النعمة و المدد و الإعانة، أو الضرر و العداوة، و كان الأول هنا
أنسب، و في النهج:
فإنما تقبض منه عنهم يد واحدة و تقبض
منهم عنه أيد كثيرة
" و من يلن حاشيته"
(6) قال في النهاية في حديث الزكاة خذ من حواشي
أموالهم، هي صغار الإبل كابن مخاض و ابن لبون واحدها حاشية، و حاشية كل شيء جانبه
و طرفه، و منه أنه كان يصلي في حاشية المقام أي جانبه و طرفه تشبيها بحاشية الثوب،
و في القاموس: الحاشية جانب
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
378
الثوب و غيره، و أهل الرجل و خاصته و
ناحيته و ظله، انتهى.
و قيل: المراد خفض الجناح و عدم تأذي
من يجاوره و قيل: يعني لين الجانب و حسن الصحبة مع العشيرة و غيرهم موجب لمعرفتهم
المودة منه و من البين أن ذلك موجب لمودتهم له، فلئن الجانب مظهر للمودة من
الجانبين، و قيل:" يلن" إما بصيغة المعلوم من باب ضرب أو باب الأفعال، و
الحاشية الأقارب و الخدمة أي من جعلهم في أمن و راحة تعتمد الأجانب على مودته.
و أقول: الظاهر أنه من باب الأفعال و
المعنى من أدب أولاده و أهاليه و عبيده و خدمه باللين و حسن المعاشرة و الملاطفة
بالعشائر و سائر الناس يعرف أصدقاؤه أنه يودهم و إن أكرمهم بنفسه و آذاه خدمه و
أهاليه لا يعتمد على مودته كما هو المجرب.
و في النهج: و من تلن حاشيته يستدم
من قومه المودة، فيحتمل الوجهين أيضا بأن يكون المراد لين جانبه و خفض جناحه أو
لين خدمه و أتباعه.
" يخلف الله"
(1) على بناء الأفعال
" في دنياه"
(2) متعلق بيخلف إشارة إلى قوله تعالى:
" وَ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ
شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ
" و لسان الصدق للمرء
(3) أي الذكر الجميل له بعده، أطلق اللسان و
أريد به ما يوجد به أو من يذكر المرء بالخير، و إضافته إلى الصدق لبيان أنه حسن و
صاحبه مستحق لذلك الثناء، و يجعله صفة للسان لأنه في قوة لسان صدق، أو حال و خير
خبره، و في بعض النسخ خيرا بالنصب فيحتمل نصب لسان من قبيل ما أضمر عامله على شريطة
التفسير، و رفعه بالابتداء و يجعله خبره و خيرا مفعول ثان ليجعله، و على التقادير
فيه ترغيب على الإنفاق على العشيرة فإنه
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
379
سبب للصيت الحسن و أن يذكره الناس
بالإحسان و كذلك يذكره من أحسن إليه بإحسانه و سائر صفاته الجميلة، و قال
تعالى:" وَ جَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا" و قال حاكيا عن
إبراهيم عليه السلام:" وَ اجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ".
" كبرا"
(1) تميز و كذا
" عظما"
(2) و
نأيا
(3) أي بعدا إن كان بفتح الهمزة أي من أن أو
بكسرها حرف شرط، و على هذا التقييد ليس لأن في غير تلك الحالة حسن، بل لأن الغالب
حصول تلك الأخلاق الذميمة في تلك الحالة.
و
قوله عليه السلام: في أخيه
(4)، متعلق بزهد أو منه متعلق بقوله بعدا و
قوله: إذا لم ير
(5)، مؤيد لشرطية إن و التقييد على نحو ما مر، و
المروءة
(6) بالهمز و قد يخفف بالتشديد:
الإنسانية و هي الصفات التي يحق
للمرء أن يكون عليها، و بها يمتاز عن البهائم و المراد هنا الإحسان و اللطف و
العطاء.
و
المعوز
(7) على بناء اسم الفاعل و يحتمل المفعول:
القليل المال، في القاموس: عوز الرجل كفرح افتقر كأعوز و أعوزه الشيء احتاج إليه،
و الدهر أحوجه، و
الخصاصة:
(8) الفقر، و الخلل و جملة" بها
الخصاصة" صفة للقرابة أو حال عنها، و في النهج: يرى بها الخصاصة.
" أن يسدها"
(9) بدل اشتمال للقرابة أي عن أن يسدها، و ضمير
يسدها للخصاصة و العائد محذوف أي عنها أو للقرابة و إسناد السد إليها مجاز أي يسد
خلتها، و سد الخلل إصلاحه و سد الخلة إذهاب الفقر
" بما لا ينفعه إن أمسكه"
(10) أي بالزائد عن قدر الكفاف فإن إمساكه لا
ينفعه بل يبقى لغيره و استهلاكه و إنفاقه لا يضره أو
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
380
بمال الدنيا مطلقا فإن شأنه ذلك، و
الرزق على الله أو المراد بقليل من المال كدرهم فإنه لا يتبين إنفاق ذلك في ماله و
المستحق ينتفع به و الأول أظهر.
و في النهج: بالذي لا يزيده إن أمسكه
و لا ينقصه إن أهلكه، و قيل: الضمير في لا يزيده عائد إلى الموصول و لا يخفى بعده
بل هو عائد إلى الرجل.
(الحديث العشرون)
(1): مجهول.
" تنمي أموالهم"
(2) على بناء الفاعل أو المفعول، و كذا
" ينمون"
(3) يحتملهما و نموهم كثرة أولادهم و زيادتهم
عددا و شرفا، في القاموس: نما ينمو نموا زاد كنمى ينمي نميا و نميا و نمية و أنمى
و نمى. و في المصباح: نمى الشيء ينمي من باب رمى نماء بالفتح و المد كثر، و في
لغة ينمو نموا من باب قعد و يتعدى بالهمزة و التضعيف، انتهى.
و المشار إليه بذلك أو لا النمو و
ثانيا التقاطع
" انقشع"
(4) أي انكشف و زال نمو الأموال و الأنفس عنهم،
قال في القاموس: قشع القوم كمنع فرقهم فأقشعوا نادر، و الريح السحاب كشفته
كأقشعته، فأقشع و انقشع و تقشع.
(الحديث الحادي و العشرون)
(5): مرسل كالموثق.
" فكيف إذا كانوا أبرارا"
(6) أي صلحاء
" بررة"
(7) أي واصلين للأرحام.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
381
(الحديث الثاني و العشرون)
(1): ضعيف.
و يدل على أن أقل مراتب الصلة
الابتداء بالتسليم و، بإطلاقه يشمل ما إذا علم أو ظن أنه لا يجيب و قيل: التسليم
حينئذ ليس براجح لأنه يوقعهم في الحرام، و فيه كلام.
(الحديث الثالث و العشرون)
(2): صحيح.
و قال الجوهري: الضوة الصوت و الجلبة
و
الضوضاة
(3) أصوات الناس و جلبتهم، يقال: ضوضو بلا همز،
انتهى.
و في تفسير العياشي و غيره مكانه:
حتى ارتفعت أصواتهما و اجتمع الناس عليهما.
قوله:" بذلك"
(4) أي بهذا النزاع من غير صلح و إصلاح
" قولي لأبي محمد"
(5) في الكلام اختصار أي إني أتيته أو أنا
بالباب، و في العياشي لأبي محمد هذا أبو عبد الله بالباب
" ما بكربك"
(6) قال في المصباح: بكر إلى الشيء بكورا من
باب قعد أسرع أي
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
382
وقت كان و بكر تبكيرا مثله، و
القلق
(1) الاضطراب
" الَّذِينَ يَصِلُونَ"
(2) قال الطبرسي قدس سره: قيل: المراد به
الإيمان بجميع الرسل و الكتب كما في قوله:" لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ
رُسُلِهِ" و قيل: هو صلة محمد صلى الله عليه و آله و سلم و موازرته و الجهاد
معه، و قيل:
هو صلة الرحم عن ابن عباس و هو
المروي عن أبي عبد الله عليه السلام و قيل: هو ما يلزم من صلة المؤمنين أن يتولوهم
و ينصروهم و يذبوا عنهم. و تدخل فيه صلة الرحم و غير ذلك.
و روى جابر عن أبي جعفر عليه السلام
قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: بر الوالدين و صلة الرحم يهونان
الحساب، ثم تلا هذه الآية.
و روى محمد بن الفضيل عن الكاظم عليه
السلام في هذه الآية قال: هي رحم آل محمد معلقة بالعرش تقول: اللهم صل من وصلني و
اقطع من قطعني، و هي تجري في كل رحم.
و روى الوليد عن الرضا عليه السلام
قال: قلت له: هل على الرجل في ما له شيء سوى الزكاة؟ قال: نعم أين ما قال الله وَ
الَّذِينَ يَصِلُونَ" الآية".
" وَ يَخْشَوْنَ
رَبَّهُمْ"
(3) أي يخافون عقاب ربهم في قطعها
" وَ يَخافُونَ سُوءَ
الْحِسابِ"
(4) قيل فيه أقوال: أحدها: أن سوء الحساب أخذهم
بذنوبهم كلها من دون أن يغفر لهم شيء منها.
و الثاني: هو أن يحاسبوا للتقريع و
التوبيخ فإن الكافر يحاسب على هذا الوجه و المؤمن يحاسب ليسر بما أعد الله له.
و الثالث: هو أن لا تقبل لهم حسنة و
لا يغفر لهم سيئة، روي ذلك عن أبي عبد الله عليه السلام.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
383
و الرابع: أن سوء الحساب هو سوء
الجزاء فسمي الجزاء حسابا لأن فيه إعطاء المستحق حقه، و روى هشام بن سالم عن أبي
عبد الله قال: سوء الحساب أن تحسب عليهم السيئات و لا تحسب لهم الحسنات و هو
الاستقصاء و روى حماد عنه عليه السلام أنه قال لرجل: يا فلان ما لك و لأخيك؟ قال:
جعلت فداك لي عليه شيء فاستقصيت منه حقي، قال أبو عبد الله عليه السلام: أخبرني
عن قول الله:" يَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ" أ تراهم خافوا أن يجور عليهم
أو يظلمهم؟ لا و الله و لكن خافوا الاستقصاء و المداقة، انتهى.
و أقول: قال تعالى بعد ذلك
بآيات:" وَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَ
يَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ
أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ الدَّارِ" فعلى هذا التفسير تلك
الآيات من أشد ما ورد في قطع الرحم.
ثم الظاهر أن هذا كان لتنبيه عبد
الله و تذكيره بالآية ليرجع و يتوب و إلا فلم يكن ما فعله عليه السلام بالنسبة
إليه قطعا للرحم، بل كان عين الشفقة عليه لينزجر عما أراده من الفسق بل الكفر لأنه
كان يطلب البيعة منه عليه السلام لولده الميشوم كما مر، أو شيء آخر مثل ذلك، و أي
أمر كان إذا تضمن مخالفته و منازعته عليه السلام كان على حد الشرك بالله، و أيضا
مثله صلوات الله عليه لا يغفل عن هذه الأمور حتى يتذكر بتلاوة القرآن، فظهر أن ذكر
ذلك على وجه المصلحة ليتذكر عبد الله عقوبة الله و يترك مخالفة إمامه شفقة عليه، و
لعل التورية في قوله: أقلقتني، القلق لعبد الله لا لنفسه لكن فيه دلالة على حسن
رعاية الرحم و إن كان بهذه المثابة و كان فاسقا ضالا فتدبر.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
384
(الحديث الرابع و العشرون)
(1): صحيح.
قوله عليه السلام: وصلكما الله،
(2) لعل ذلك لأنه تصير صلته سببا لترك قطيعته
فيشملهما الله برحمته لا إذا أصر مع ذلك على القطع، فإنه يصير سببا لقطع رحمة الله
عنه، و تعجيل فنائه في الدنيا و عقوبته في الآخرة كما دلت عليه سائر الأخبار، و في
قول أمير المؤمنين عليه السلام: خذ على عدوك بالفضل فإنه أحد الظفرين إشارة إلى
ذلك فإنه إما أن يرجع أن يستحق العقوبة و الخذلان.
(الحديث الخامس و العشرون)
(3): صحيح.
" إني أحب أن يعلم الله"
(4) هو كناية من قبيل ذكر اللازم و إرادة
الملزوم أي أحب فعلي ذلك، فذكر لازمه و هو العلم لأنه أبلغ أو مجاز من إطلاق السبب
على المسبب فأطلق العلم و أريد معلولة و هو الجزاء.
قوله عليه السلام: قبل أن يستغنوا
عني
(5)، فيه إشارة إلى أن الرزق لا بد من أن يصل
إليهم فأبادر إلى إيصاله إليهم قبل أن يصل إليهم بسبب آخر و من جهة أخرى.
(الحديث السادس و العشرون)
(6): مجهول.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
385
و الأئمة
(1) بدل أو عطف بيان لآل محمد
" ثم هي"
(2) أي الرحم أو صلتها أو الكلمة و هي: اللهم
صل" إلخ".
(الحديث السابع و العشرون)
(3): موثق كالصحيح.
قوله: قرابتك،
(4) أي هي شاملة لقرابة المؤمنين أيضا.
(الحديث الثامن و العشرون)
(5): حسن كالصحيح.
" و قد تكون"
(6) كلمة قد للتحقيق أو للتقليل مجازا كناية عن
أن الأصل فيها هو الأول
" فلا تكونن"
(7) أي إذا نزلت آية في شيء خاص فلا تخصص حكمها
بذلك الأمر، بل عممه في نظائره، أو المعنى إذا ذكرنا لآية معنى ثم ذكرنا لها معنى
آخر فلا تنكر شيئا منهما فإن للآيات ظهرا و بطونا، و نذكر في كل مقام ما يناسبه و
الكل حق، و بهذا يجمع بين كثير من الأخبار المتخالفة ظاهرا الواردة في تفسير
الآيات و تأويلها.
مرآة العقول
في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 386
(الحديث التاسع و العشرون)
(1): ضعيف.
و في القاموس
ذلق
(2) اللسان كنصر و فرح و كرم فهو ذليق و ذلق
بالفتح، و كصرد و عنق أي حديد بليغ، و قال: طلق اللسان بالفتح و الكسر و كأمير و
لسان طلق ذلق و طليق ذليق و طلق ذلق بضمتين و كصرد و كتف ذو حدة و في النهاية في
حديث الرحم جاءت الرحم فتكلمت بلسان ذلق طلق أي فصيح بليغ، هكذا جاء في الحديث على
فعل بوزن صرد يقال: طلق ذلق و طليق ذليق يراد بالجميع المضاء و النفاذ، انتهى.
" فالرجل"
(3) قيل: الفاء للتفريع على" و اقطع من
قطعني" و اللام في الرجل للعهد الذهني
" ليرى"
(4) على بناء المجهول أي ليظن لكثرة أعماله
الصالحة في الدنيا
" أنه بسبيل"
(5) أي في سبيل
" خير"
(6) ينتهي به إلى الجنة
" فتهوي به"
(7) الباء للتعدية أي تسقطه في أسفل قعور النار
التي يستحقها مثله، و ربما يحمل على المستحل و يمكن حمله على من قطع رحم آل محمد
عليهم السلام.
(الحديث الثلاثون)
(8): ضعيف.
و يدل على أن الكفر لا يسقط حق الرحم
و لا ينافي ذلك قوله تعالى:" لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ
الْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ لَوْ كانُوا
آباءَهُمْ
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
387
أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ
أَوْ عَشِيرَتَهُمْ" فإنها محمولة على المحبة القلبية فلا ينافي حسن المعاشرة
ظاهرا، أو المراد به الموالاة في الدين كما ذكره الطبرسي (ره) أو محمول على ما إذا
كانوا معارضين للحق و يصير حسن عشرتهم سبب غلبة الباطل على الحق و لا يبعد أن يكون
نفقة الأرحام أيضا من حق الرحم فيجب الإنفاق عليهم فيما يجب على غيرهم.
(الحديث الحادي و الثلاثون)
(1): موثق.
و المراد
بالبر
(2) البر بالإخوان كما سيأتي و بر الوالدين داخل
في صلة الرحم،
و رد الجواب
(3) كأنه عطف على السلام.
(الحديث الثاني و الثلاثون)
(4): صحيح.
و في النهاية
منسأة
(5) هي مفعلة" منه" أي مظنة له و موضع
و الصرع الطرح على الأرض، و المصرع يكون مصدرا أو اسم مكان و مصارع
السوء
(6) كناية عن الوقوع في البلايا العظيمة الفاضحة
الفادحة، و صلة الليل أفضل لأنه أقرب إلى الإخلاص.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
388
(الحديث الثالث و الثلاثون)
(1): مرسل.
باب البر بالوالدين
(2) إنما قدم المصنف قدس سره باب صلة الرحم مع
أن حق الوالدين أعظم لما أشرنا إليه من أن صلة الرحم يشمل برهما أيضا.
(الحديث الأول)
(3): صحيح.
" وَ بِالْوالِدَيْنِ
إِحْساناً"
(4) أي و أحسنوا بهما إحسانا
" أن تحسن صحبتهما"
(5) أي بالملاطفة و حسن البشر و طلاقة الوجه و
التواضع و الترحم و غيرهما مما يوجب سرورهما، و في إلحاق الأجداد و الجدات بهما
نظر
" و إن كانا مستغنيين"
(6) أي يمكنهما تحصيل ما احتاجا إليه بما لهما
" لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ"
(7) ظاهر الخبر أن المراد بالبر في الآية بر
الوالدين، و يمكن أن يكون المراد أعم منه و يكون إيرادها
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
389
لشمولها بعمومها له. و على التقديرين
الاستشهاد إما لأصل البر أو لأن إطلاق الآية شامل للإنفاق قبل السؤال و حال الغناء
لعدم التقييد فيها بالفقر و السؤال، فلا حاجة إلى ما تكلفه بعض الأفاضل حيث قال:
كان الاستشهاد بالآية الكريمة أنه على تقدير استغنائهما عنه لا ضرورة داعية إلى
قضاء حاجتهما كما أنه لا ضرورة داعية إلى الإنفاق من المحبوب، إذ بالإنفاق من غير
المحبوب أيضا يحصل المطلوب إلا أن ذلك لما كان شاقا على النفس فلا ينال البر إلا به
فكذلك لا ينال بر الوالدين إلا بالمبادرة إلى قضاء حاجتهما قبل أن يسألاه و إن
استغنيا عنه، فإنه أشق على النفس لاستلزامه التفقد الدائم، و وجه آخر و هو أن سرور
الوالدين بالمبادرة إلى قضاء حاجتهما أكثر منه بقضائها بعد الطلب كما أن سرور
المنفق عليه بإنفاق المحبوب أكثر منه بإنفاق غيره، انتهى.
و أقول: سيأتي في الكتاب و روى
العياشي أيضا أن في قراءة أهل البيت عليهم السلام" ما تنفقون" بدون من
فالإطلاق بل العموم أظهر، و يمكن أن يقال: على تقدير تعميم البر كما هو المشهور
أنه لما استفيد من الآية أن الرجل لا يبلغ درجة الأبرار إلا إذا أنفق جميع ما يحب
و لم يذكر الله المنفق عليهم، و قد ثبت أن الوالدين ممن تجب نفقته فلا بد من إنفاق
كل محبوب عليهم سألوا أم لم يسألوا.
قال الطبرسي (ره): البر أصله من
السعة و منه البر خلاف البحر، و الفرق بين البر و الخير أن البر هو النفع الواصل
إلى الغير ابتداء مع القصد إلى ذلك، و الخير يكون خيرا و إن وقع عن سهو، و ضد البر
العقوق و ضد الخير الشر أي لن تدركوا بر الله لأهل الطاعة.
و اختلف في البر هنا فقيل: هو الجنة
عن ابن عباس و غيره، و قيل: هو
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
390
الثواب في الجنة، و قيل هو الطاعة و
التقوى، و قيل: معناه لن تكونوا أبرارا أي صالحين أتقياء
" حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا
تُحِبُّونَ"
(1) أي حتى تنفقوا المال، و إنما كني بهذا اللفظ
عن المال لأن جميع الناس يحبون المال، و قيل: معناه ما تحبون من نفائس أموالكم دون
رذالها كقوله تعالى:" وَ لا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ"
و قيل:
هو الزكاة الواجبة و ما فرضه الله في
الأموال عن ابن عباس و قيل: هو جميع ما ينفقه المرء في سبيل الخيرات، و قال بعضهم:
دلهم سبحانه بهذه الآية على الفتوة فقال: لن تنالوا بري بكم إلا ببركم إخوانكم، و
الإنفاق عليهم من مالكم و جاهكم و ما تحبون، فإذا فعلتم ذلك نالكم بري و عطفي.
" وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ
شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ" فيه وجهان: أحدهما أن تقديره و ما
تنفقوا من شيء فإن الله يجازيكم به قل أو كثر لأنه عليم لا يخفى عليه شيء منه، و
الآخر: أن تقديره فإنه يعلمه الله موجودا على الحد الذي تفعلونه من حسن النية أو
قبحها، فإن قيل: كيف قال سبحانه ذلك و الفقير ينال الجنة و إن لم ينفق؟ قيل:
الكلام خرج مخرج الحث على الإنفاق و هو مقيد بالإمكان و إن أطلق على سبيل المبالغة
في الترغيب، و الأولى أن يكون المراد لن تنالوا البر الكامل الواقع على أشرف
الوجوه حتى تنفقوا مما تحبون، انتهى.
" قال إن أضجراك"
(2)" قال" كلام الراوي و فاعله الإمام
عليه السلام أو كلام الإمام و فاعله هو الله تعالى، و كذا قال و قل و قال إن ضرباك
و ما بعدهما يحتملهما، و قيل: قال في" قال إن أضجراك" كلام الراوي و
جواب أما إن أضجراك بتقدير فقال فيه إن أضجراك، إذ لا يجوز حذف الفاء في جواب أما،
و قيل:
الأف
(3) في الأصل
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
391
وسخ الأظفار، ثم استعمل فيما يستقذر
ثم في الضجر، و قيل: معناه الاحتقار.
و قال الطبرسي (ره) روي عن الرضا عن
أبيه عن أبي عبد الله عليهم السلام قال:
لو علم الله لفظة أوجز في ترك عقوق
الوالدين من أف لأتى به، و في رواية أخرى عنه عليه السلام قال: أدنى العقوق أف، و
لو علم الله شيئا أيسر منه و أهون منه لنهى عنه، فالمعنى لا تؤذهما بقليل و لا
كثير
" وَ لا تَنْهَرْهُما"
(1) أي لا تزجرهما بإغلاظ و صياح، و قيل: معناه
لا تمتنع من شيء أراداه منك كما قال:" وَ أَمَّا السَّائِلَ فَلا
تَنْهَرْ"
" وَ قُلْ لَهُما قَوْلًا
كَرِيماً"
(2) و خاطبهما بقول رفيق لطيف حسن جميل بعيد عن
اللغو و القبيح، يكون فيه كرامة لهما
" وَ اخْفِضْ لَهُما جَناحَ
الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ"
(3) أي و بالغ في التواضع و الخضوع لهما قولا و
فعلا برا بهما و شفقة لهما، و المراد بالذل هيهنا اللين و التواضع دون الهوان، من
خفض الطائر جناحه إذا ضم فرخه إليه فكأنه سبحانه قال: ضم أبويك إلى نفسك كما كانا
يفعلان بك و أنت صغير، و إذا وصفت العرب إنسانا بالسهولة و ترك الإباء قالوا: هو
خافض الجناح، انتهى.
و قال البيضاوي: و اخفض لهما، أي
تذلل لهما و تواضع فيهما، جعل للذل جناحا و أمر بخفضها مبالغة و أراد جناحه كقوله:
و اخفض جناحك للمؤمنين، و إضافته إلى الذل البيان و المبالغة، كما أضيف حاتم إلى
الجود، و المعنى و اخفض لهما جناحك الذليل، و قرئ الذل بالكسر و هو الانقياد،
انتهى.
و الضجر و التضجر التبرم قوله: لا
تمل، الظاهر
لا تملأ
(4) بالهمزة كما في مجمع البيان و تفسير
العياشي، و أما على ما في نسخ الكتاب فلعله أبدلت الهمزة حرف علة ثم حذفت بالجازم
فهو بفتح اللام المخففة و لعل الاستثناء في
قوله: إلا برحمة
(5)، منقطع و المراد بملإ العينين حدة النظر، و
الرقة رقة القلب، و عدم رفع الصوت نوع من الأدب كما قال تعالى:" لا
تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ".
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
392
" و لا يدك فوق أيديهما"
(1) الظاهر أن المراد أن عند التكلم معهما لا
ترفع يدك فوق أيديهما كما هو الشائع عند العرب أنه عند التكلم يبسطون أيديهم و
يحركونها، و قال الوالد قدس الله روحه: المراد أنه إذا نلتهما شيئا فلا تجعل يدك
فوق أيديهما و تضع شيئا في يدهما بل أبسط يدك حتى يأخذا منها، فإنه أقرب إلى
الأدب، و قيل: المعنى لا تأخذ أيديهما إذا أرادا ضربك
" و لا تقدم قدامهما"
(2) أي في المشي أو في المجالس أيضا.
ثم اعلم أنه لا ريب في رعاية تلك
الأمور من الآداب الراجحة لكن الكلام في أنها هل هي واجبة أو مستحبة، و على الأول
هل تركها موجب للعقوق أم لا بحيث إذا قال لهما أف خرج من العدالة و استحق العقاب؟
فالظاهر أنه بمحض إيقاع هذه الأمور نادرا لا يسمى عاقا ما لم يستمر زمان ترك
برهما، و لم يكونا راضيين عنه لسوء أفعاله و قلة احترامه لهما، بل لا يبعد القول
بأن هذه الأمور إذا لم يصر سببا لحزنهما و لم يكن الباعث عليها قلة اعتنائه
بشأنهما و استخفافهما لم تكن حراما بل هي من الآداب المستحبة و إذا صارت سبب
غيظهما و استمر على ذلك يكون عاقا و إذا رجع قريبا و تداركهما بالإحسان و أرضاهما
لم تكن في حد العقوق و لا تعد من الكبائر.
و يؤيده ما رواه الصدوق في الصحيح
قال: سأل عمر بن يزيد أبا عبد الله عليه السلام عن إمام لا بأس به في جميع أموره
عارف غير أنه يسمع أبويه الكلام الغليظ الذي يغيظهما أقرأ خلفه؟ قال: لا تقرأ خلفه
ما لم يكن عاقا قاطعا، و الأحوط ترك الجميع.
و قد روى الصدوق بأسانيد عن الرضا
عليه السلام أنه قال: أدنى العقوق أف، و لو لو علم الله عز و جل شيئا أهون من أف
لنهى عنه.
مرآة العقول في
شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 393
و روي في الخصال بسند معتبر عن
الصادق عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام:
من أحزن و الدية فقد عقهما.
و رأيت في بعض كتب الحسين بن سعيد عن
إبراهيم بن أبي البلاد عن أبيه عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لو علم الله شيئا
أدنى من أف لنهى عنه و هو من العقوق، و هو أدنى العقوق، و من العقوق أن ينظر الرجل
إلى أبويه يحد إليهما النظر.
(الحديث الثاني)
(1): مجهول.
" لا تشرك بالله شيئا"
(2) أي لا بالقلب و لا باللسان، أو المراد به
الاعتقاد بالشريك، فعلى الأول الاستثناء متصل أي إلا إذا خفت التحريق أو التعذيب
فتتكلم بالشرك تقية
" و قلبك مطمئن بالإيمان"
(3) كما قال سبحانه في قصة عمار حيث أكره على
الشرك و تكلم به:" إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ
بِالْإِيمانِ".
" و والديك فأطعهما"
(4) الظاهر أن والديك منصوب بفعل مقدر يفسره
الفعل المذكور، و الكلام يفيد الحصر و التأكيد إن قدر المحذوف بعده، و التأكيد فقط
إن قدر قبله، كذا قيل.
و أقول: يمكن أن يقدر فعل آخر أي و
ارع والديك فأطعهما
" و برهما"
(5) بصيغة الأمر من باب علم و نصر
" حيين"
(6) كما مر
" و ميتين"
(7) كما سيأتي في السابع، أي بطلب المغفرة لهما
و قضاء الديون و العبادات عنهما و فعل الخيرات و الصدقات و كل ما يوجب حصول الثواب
عنهما
" و إن أمراك أن تخرج من
أهلك"
(8) أي من زوجتك بطلاقها
" و مالك"
(9) بهبته
" فإن ذلك من الإيمان"
(10) أي من شرائطه أو من
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
394
مكملاته و ظاهره وجوب طاعتهما فيما
لم يكن معصية و إن كان في نفسه مرجوحا لا سيما إذا صار تركه سببا لغيظهما و
حزنهما، و ليس ببعيد لكنه تكليف شاق بل ربما انتهى إلى الحرج العظيم.
قال المحقق الأردبيلي قدس الله روحه:
العقل و النقل يدلان على تحريم العقوق، و يفهم وجوب متابعة الوالدين و طاعتهما من
الآيات و الأخبار، و صرح به بعض العلماء أيضا.
قال في مجمع البيان:" وَ
بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً" أي قضى بالوالدين إحسانا أو أوصى بهما إحسانا و
خص حال الكبر و إن كان الواجب طاعة الوالدين على كل حال، لأن الحاجة أكثر في تلك
الحال، و قال الفقهاء في كتبهم: للأبوين منع الولد عن الغزو و الجهاد ما لم يتعين
عليه بتعيين الإمام أو بهجوم الكفار على المسلمين مع ضعفهم، و بعضهم ألحقوا الجدين
بهما.
قال في شرح الشرائع: و كما يعتبر
إذنهما في الجهاد يعتبر في سائر الأسفار المباحة و المندوبة، و في الواجبة
الكفائية مع قيام من فيه الكفاية فالسفر لطلب العلم إن كان لمعرفة العلم العيني
كإثبات الواجب تعالى و ما يجب له و يمتنع و النبوة و الإمامة و المعاد لم يفتقر
إلى إذنهما، و إن كان لتحصيل الزائد منه على الفرض العيني كدفع الشبهات و إقامة
البراهين المروجة للدين زيادة على الواجب كان فرضه كفاية فحكمه و حكم السفر إلى
أمثاله من العلوم الكفائية كطلب التفقه إن كان هناك قائم بفرض الكفاية اشترط
إذنهما، و هذا في زماننا فرض بعيد فإن فرض الكفاية في التفقه لا يكاد يسقط مع وجود
مائة مجتهد في العالم، و إن كان السفر إلى غيره من العلوم المادية مع عدم وجوبها
توقف على إذنهما.
هذا كله إذا لم يجد في بلده من يعلمه
ما يحتاج إليه بحيث لا تجد في السفر
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
395
الثاني: أن يكون المراد لا تسأل أحدا
عما لك عند الله من الأجر و الرزق و أمثالهما فإنها بيد الله و علمها عنده و لا
ينفعك السؤال عنها بل سل العلماء عما لله عندك من الطاعات لتعلم شرائطها و
كيفياتها.
الثالث: أن يكون المعنى أنك لا تحتاج
إلى السؤال عما لك عند الله من الثواب فإنه بقدر ما لله عندك من عملك فيمكنك
معرفته بالرجوع إلى نفسك و عملك فعلى هذا يحتمل أن يكون التقدير لا تسأل عما لك
عند الله من أحد إلا مما له عندك فيكون ما له عنده مسئولا و الاستثناء متصلا لكن
في السؤال تجوز.
و يؤيد الأخير على الوجهين ما روي في
المحاسن عن أبي عبد الله عليه السلام قال:
قال رسول الله صلى الله عليه و آله و
سلم: من أحب أن يعلم ما له عند الله فليعلم ما لله عنده، و في تحف العقول في هذا
الخبر مكان هذه الفقرة هكذا: و انظر ما لله عندك في حياتك فكذلك يكون لك العهد
عنده في مرجعك.
قوله عليه السلام: فإن تكن الدنيا،
(1) أقول: هذه الفقرة أيضا تحتمل وجوها:
الأول: ما ذكره بعض المحققين أن
المعنى إن تكن الدنيا عندك على غير ما وصفت لك فتكون تطمئن إليها فعليك أن تتحول
فيها إلى دار ترضى فيها ربك يعني أن تكون في الدنيا ببدنك و في الآخرة بروحك تسعى
في فكاك رقبتك و تحصيل رضا ربك عنك حتى يأتيك الموت.
الثاني: ما ذكره بعض الأفاضل أن
المعنى إن تكن الدنيا عندك على غير ذلك فانتقل إلى مقام التوبة و الاستعتاب و
الاسترضاء فإن هذه عقيدة سيئة.
الثالث: ما خطر بالبال أن المعنى إن
لم تكن الدنيا عندك على ما وصفت لك فتوجه إلى الدنيا و انظر بعين البصيرة فيها و
تفكر في أحوالها من فنائها و تقلبها بأهلها ليتحقق لك حقية ما ذكرت، و إنما عبر
عليه السلام عن ذلك بالتحول إشعارا بأن من أنكر ذلك فكأنه لغفلته و غروره ليس في
الدنيا فليتحول إليها ليعرف ذلك.
مرآة
العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 396
الثالث: لو دعواه إلى فعل و قد حضرت
الصلاة فليؤخر الصلاة و ليطعهما لما قلناه.
الرابع: هل لهما منعه من الصلاة
جماعة؟ الأقرب أنه ليس لهما منعه مطلقا بل في بعض الأحيان لما يشق عليهما مخالفته
كالسعي في ظلمة الليل إلى العشاء و الصبح.
الخامس: لهما منعه من الجهاد مع عدم
التعيين لما صح أن رجلا قال يا رسول الله أبايعك على الهجرة و الجهاد، فقال: هل من
والديك أحد؟ قال: نعم كلاهما، قال: أ تبغي الأمر من الله؟ قال: نعم قال: فارجع إلى
والديك فأحسن صحبتهما.
السادس: الأقرب أن لهما منعه من فروض
الكفاية إذا علم قيام الغير أو ظن لأنه حينئذ يكون كالجهاد الممنوع منه.
السابع: قال بعض العلماء: لو دعواه
في صلاة النافلة قطعها، لما صح عن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم أن امرأة
نادت ابنها و هو في صلاته قالت: يا جريح قال: اللهم أمي و صلاتي قالت: يا جريح
فقال: اللهم أمي و صلاتي، فقال: لا يموت حتى ينظر في وجوه المومسات، الحديث و في
بعض الروايات أنه صلى الله عليه و آله و سلم قال: لو كان جريح فقيها لعلم أن أجابه
أمه أفضل من صلاته، و هذا الحديث يدل على قطع النافلة
مرآة
العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 397
لأجلها، و يدل بطريق الأولى على
تحريم السفر لأن غيبة الوجه فيه أكثر و أعظم، و هي كانت تريد منه النظر إليها و
الإقبال عليها.
الثامن: كف الأذى عنهما و إن كان
قليلا بحيث لا يوصله الولد إليهما و يمنع غيره من إيصاله بحسب طاقته.
التاسع: ترك الصوم ندبا إلا بإذن
الأب و لم أقف على نص في الأم.
العاشر: ترك اليمين و العهد إلا
بإذنه أيضا ما لم يكن فعل واجب أو ترك محرم و لم أقف في النذر على نص خاص إلا أن
يقال هو يمين يدخل في النهي عن اليمين إلا بإذنه.
تنبيه
(1) بر الوالدين لا يتوقف على الإسلام لقوله
تعالى:" وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً. وَ إِنْ جاهَداكَ
عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَ
صاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً" و هو نص و فيه دلالة على مخالفتهما في
الأمر بالمعصية و هو كقوله عليه السلام: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
فإن قلت: فما تصنع بقوله
تعالى:" فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ" و هو يشمل
الأب، و هذا منع من النكاح فلا يكون طاعته واجبة فيه أو منع من المستحب فلا يجب في
ترك المستحب.
قلت: الآية في الأزواج و لو سلم
الشمول أو التمسك في ذلك بتحريم العضل فالوجه فيه أن للمرأة حقا في الإعفاف و
التصون و دفع ضرر مدافعة الشهوة و الخوف من الوقوع في الحرام و قطع وسيلة الشيطان
عنهم بالنكاح و أداء الحقوق واجب
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
398
على الآباء للأبناء كما وجب العكس، و
في الجملة النكاح مستحب و في تركه تعرض لضرر ديني أو دنيوي و مثل هذا لا يجب طاعة
الأبوين فيه، انتهى كلام الشهيد (ره).
ثم قال المحقق: و يمكن اختصاص الدعاء
بالرحمة بغير الكافرين إلا أن يراد من الدعاء بالرحمة في حياتهما بأن يوفق لهما
الله لما يوجب ذلك من الإيمان فتأمل، و الظاهر أن ليس الأذى الحاصل لهما بحق شرعي
من الحقوق مثل الشهادة عليهما لقوله تعالى:" أَوِ الْوالِدَيْنِ" فتقبل
شهادته عليهما و في القول بوجوبها عليهما مع عدم القبول لأن في القبول تكذيب لهما
بعد واضح و إن قال به بعض، و أما السفر المباح بل المستحب فلا يجوز بدون إذنهما
لصدق العقوق، و لهذا قاله الفقهاء و أما فعل المندوب فالظاهر عدم الاشتراط إلا في
الصوم و النذر على ما ذكروه و تحقيقه في الفقه، انتهى.
(الحديث الثالث)
(1): حسن كالصحيح.
" مثل الكبة"
(2) أي الدفعة و الصدمة أو مثل كبة الغزل في
الصغر أو مثل البعير في الكبر، قال الفيروزآبادي: الكبة الدفعة في القتال و الجري،
و الحملة في الحرب و الزحام، و الصدمة بين الخيلين، و من الشتاء شدته و دفعته، و
الرمي في الهوة، و بالضم الجماعة و الجروهق من الغزل و الإبل العظيمة و الثقل، و
قال الجزري: الكبة بالضم الجماعة من الناس و غيرهم، فيه: و إياكم و كبة السوق أي
جماعة السوق، و الكبة بالفتح شدة الشيء و معظمه، و كبة النار صدمتها، و كان فيه
تصحيفا و لم أجده في غير الكتاب، و
البر
(3) يحتمل الأعم من بر الوالدين.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
399
(الحديث الرابع)
(1): ضعيف على المشهور.
لوقتها
(2) أي لوقت فضلها.
(الحديث الخامس)
(3): ضعيف.
" أن لا يسميه باسمه"
(4) لما فيه من التحقير و ترك التعظيم و التوقير
عرفا بل يسميه بالكنية لما فيها من التعظيم عند العرب أو الألقاب المشتملة على
التعظيم أو اللطف و الإكرام، كقوله: يا أبه، و قال أبي أو والدي و نحو ذلك
" و لا يجلس قبله"
(5) أي زمانا أو رتبة و الأول أظهر، و يحتمل
التعميم و إن كان بعيدا
" و لا يستسب له"
(6) أي لا يفعل ما يصير سببا لسب الناس له كان
يسبهم أو أباهم و قد يسب الناس والد من يفعل فعلا شنيعا قبيحا، و سيأتي في الروضة
في حديث عرض الخيل أن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم لعن جماعة إلى أن قال:
و من لعن أبويه، فقال رجل: يا رسول الله أ يوجد رجل يلعن أبويه؟ فقال: نعم، يلعن
آباء الرجال و أمهاتهم فيلعنون أبويه.
و هذان الحديثان مرويان في طرق
العامة قال في النهاية في حديث أبي هريرة: لا تمشين أمام أبيك و لا تجلس قبله، و
لا تدعه باسمه، و لا تستسب له، أي لا تعرضه للسب و تجره إليه بأن تسب أبا غيرك
فيسب أباك مجازاة لك، و قد جاء مفسرا في الحديث الآخر: أن من أكبر الكبائر أن يسب
الرجل والديه، قيل: و
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
400
كيف يسب والديه؟ قال: يسب الرجل فيسب
أباه و أمه، انتهى.
و أقول: مع قطع النظر عن هذا الخبر
العامي هل يمكن الحكم بأن من فعل ذلك فعل كبيرة باعتبار أن سب الأب كبيرة؟ الظاهر
العدم لأن سب الغير إذا لم ينته إلى الفحش لا يعلم كونه كبيرة، و ليس هذا سب الأب
حقيقة بل الظاهر أن الإسناد على المبالغة و المجاز، و فعل السبب ليس حكمه حكم
المسبب إلا إذا كان السبب بحيث لا يتخلف عنه المسبب كضرب العنق بالنسبة إلى القتل،
مع أن الرواية ضعيفة يشكل الاستدلال بها علي مثل هذا الحكم، و كذا خبر الروضة ضعيف
على المشهور، مع أن الاستدلال باللعن على كونه كبيرة مشكل، نعم ظاهره التحريم و إن
ورد في المكروهات أيضا.
(الحديث السادس)
(1): ضعيف.
و هو من الأخبار العويصة الغامضة
التي سلك كل فريق من الأماثل فيها واديا فلم يأتوا بعد الرجوع بما يسمن أو يغني من
جوع، و فيه إشكالات لفظية و معنوية.
أما الأولى: فهي أن الآيات الدالة
على فضل بر الوالدين كثيرة و ما يناسب المقام منها ثلاث: الأولى: الآية التي في
بني إسرائيل:" وَ قَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ
وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً
(2)" الثانية: الآية التي في سورة العنكبوت
و هي:" وَ وَصَّيْنَا
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
401
الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَ
إِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما"
الثالثة: الآية التي في لقمان و هي:" وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ
حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَ فِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ
لِي وَ لِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ، وَ إِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ
بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَ صاحِبْهُما فِي الدُّنْيا
مَعْرُوفاً" فأما الآية الأولى فهي موافقة لما في المصاحف، و الآية المنسوبة
إلى لقمان لا يوافق شيئا من الآيتين المذكورتين في لقمان و العنكبوت، و أيضا تصريح
الراوي أو لا بأن الكلام كان في قوله تعالى بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً، و جوابه
عليه السلام بما لا يوافقه مما لا يكاد يستقيم ظاهرا، و أما الإشكالات المعنوية و
سائر الإشكالات اللفظية فسيظهر لك عند ذكر التوجيهات.
و قد ذكر فيها وجوه نكتفي بإيراد
بعضها:
الأول: ما خطر في عنفوان شبابي ببالي
و عرضتها على مشايخي العظام رضوان الله عليهم فاستحسنوها و هو أن قول الراوي: و
بالوالدين إحسانا بناء على زعمه أن الآية التي أشار عليه السلام إليها هي التي في
بني إسرائيل كما ذكره بعد ذلك، و لم يذكر الإمام عليه السلام ذلك بل قال: أكد الله
في موضع من القرآن تأكيدا عظيما في بر الوالدين، فظننا أن مراده عليه السلام الآية
التي في بني إسرائيل، أو المراد في معنى هذه العبارة و مضمونها و إن لم يذكر بهذا
اللفظ، و يحتمل أن يكون عليه السلام قرأ هذه الآية صريحا و أشار إجمالا إلى تأكيد
عظيم في برهما فظن الراوي أن المبالغة العظيمة في هذه العبارة فقال عليه السلام:
لا بل أردت ما في لقمان و إنما نسب الراوي هذه العبارة إلى بني إسرائيل مع أنها قد
تكررت في مواضع من القرآن المجيد، منها في البقرة، و منها في الأنعام، و منها في
النساء لأنه تعالى عقب هذه العبارة في بني إسرائيل بتفسير
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
402
الإحسان، و تفصيل رعاية حقهما، حيث
قال:" إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ" إلى آخر ما مر دون ما في
سائر السور، مع أنه يحتمل أن يكون الراوي سمع منه عليه السلام أن ما في سائر السور
إنما هو في شأن الوالدين بحسب الإيمان و العلم أعني النبي و الوصي صلى الله
عليهما، و ما في الأسرى في شأن والدي النسب كما قال علي بن إبراهيم في تفسير آية
الأنعام أن الوالدين رسول الله و أمير المؤمنين صلوات الله عليهما و قد مضت
الأخبار الكثيرة في ذلك، لكن الظاهر أنه من بطون الآيات، و لا ينافي ظواهرها.
و أما الإشكال الثاني فيمكن أن
يكون" حسنا" مثبتا في قراءتهم عليهم السلام، و نظيره في الأخبار كثير و
قد مر بعضها، و سائر الأجزاء موافق لما في المصاحف، لكن قد أسقط من البين
قوله:" حَمَلَتْهُ أُمُّهُ" إلى قوله:" إِلَيَّ الْمَصِيرُ"
اختصارا لعدم الحاجة إليه في هذا المقام أو إحالة على ما في المصاحف، كما أنه لم
يذكر" وَ صاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً" مع شدة الحاجة إليه في
هذا المقام، أو يكون نقلا بالمعنى إشارة إلى الآيتين معا فذكر" حسنا"
للإشارة إلى آية العنكبوت و" على أن تشرك" للإشارة إلى لقمان و كأنه
لذلك أسقط عليه السلام الفاصلة و التتمة لعدمهما في العنكبوت، فقوله:
في لقمان للاختصار أي في لقمان و
غيرها، أو المراد به لقمان و ما يقرب منها بالظرفية المجازية كما يقال سجدة لقمان
للمجاورة، و كأنه عليه السلام ذكر السورتين و الآيتين معا فاختصر الرواة عمدا أو
سهوا و مثله كثير.
" فقال"
(1) أي الإمام عليه السلام
" هي التي"
(2) أي الآية التي أشرت إليها و ذكرت أن فيها
المبالغة العظيمة في برهما، أو الآية التي فسرتها لعبد الواحد التي في لقمان،
" فقال إن ذلك"
(3) هذا كلام ابن مسكان يقول قال الراوي المجهول
الذي كان حاضرا عند سؤال عبد الواحد، و هذا شائع في الأخبار يقول راوي الراوي:
قال، مكان قول الراوي: قلت، و لا يلزم إرجاع المستتر إلى عبد الواحد و تقدير أنه
كان حاضرا عند هذا السؤال أيضا ليحكم ببعده و لا يستبعد ذلك من له أدنى أنس
بالأخبار.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
403
و الحاصل أنه قال الراوي له عليه
السلام
إن ذلك،
(1) أي الأمر الذي في بني إسرائيل
أعظم أن يأمر،
(2) أي بأن يأمر أو هو بدل لقوله ذلك، و غرضه أن
الآية التي في بني إسرائيل و الأمر بالإحسان فيها بإطلاقها شامل لجميع الأحوال حتى
حال الشرك و الآية التي في لقمان استثني فيها حال الشرك فتكون الأولى أبلغ و أتم
في الأمر بالإحسان، فإن في
قوله:" وَ إِنْ جاهَداكَ"
(3) وصلية و إن كانت في الآية شرطية، فقال أي
الإمام عليه السلام في جوابه: لا، أي ليس الأمر في الآيتين كما ذكرت فإن آية بني
إسرائيل ليس فيها تصريح بعموم الأحوال بل فيها دلالة ضعيفة باعتبار الإطلاق، و ليس
في آية لقمان استثناء حال الشرك بل فيها تنصيص علي الإحسان في تلك الحال أيضا، و
إنما نهى عن الإطاعة في الشرك فقط، و قال بعده: و صاحبهما في الدنيا معروفا، فأمر
بالمصاحبة بالمعروف التي هي أكمل مراتب الإحسان في تلك الحال أيضا فعلى تقدير شمول
الإطلاق في الأولى لتلك الحالة التنصيص أقوى في ذلك، مع أن الدعاء بالرحمة في آخر
آيات الأسرى مشعر بكونهما مسلمين
فقوله: بل يأمر،
(4) أي بل يأمر الله في آية لقمان بصلتهما، و إن
جاهداه على الشرك، و
قوله: ما زاد حقهما
(5) جملة أخرى مؤكدة، أي ما زاد حقهما بذلك إلا
عظما برفع حقهما أو بنصبه، فيكون زاد متعديا، أي لم يزد ذلك حقهما إلا عظما، و
يحتمل أن يكون يأمر مبتدأ بتقدير إن و ما زاد خبره.
الثاني: ما قال صاحب الوافي قدس سره
حيث قال: إنما ظنوا أنها في بني إسرائيل لأن ذكر هذا المعنى بهذه العبارة إنما هو
في بني إسرائيل دون لقمان و لعله عليه السلام إنما أراد ذكر المعنى أي الإحسان
بالوالدين دون لفظ القرآن، و قوله عليه السلام: أن يأمر بصلتهما بدل من قوله: ذلك،
يعني أن يأمر الله بصلتهما و حقهما على كل حال الذي من جملته حال مجاهدتهما على
الإشراك بالله أعظم، و المراد أنه ورد الأمر بصلتهما و إحقاق حقهما في تلك الحال
أيضا و إن لم تجب طاعتهما في الشرك، و لما
مرآة
العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 404
استبان له عليه السلام من حال
المخاطب أنه لا تجب صلتهما في حال مجاهدتهما على الشرك رد عليه ذلك بقوله: لا، و
أضرب عنه بإثبات الأمر بصلتهما حينئذ أيضا، و قوله:
ما زاد حقهما إلا عظما تأكيد لما
سبق.
الثالث: ما ذكره بعض أفاضل المعاصرين
أيضا و إن كان ماله إلى الثاني حيث قال: فلما كان بعد، أي بعد انقضاء ذلك الزمان
في وقت آخر سألته عن هذا، يعني قلت: هل كان الكلام في هذه الآية التي في بني
إسرائيل، فقال هي، يعني الآية التي كان كلامنا فيها هي التي في لقمان و بينها
بقوله:" وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً.
وَ إِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ
تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ" من الآلهة التي يعبدها الكفرة يعني
باستحقاقها الإشراك، و قيل: المراد بنفي العلم به نفيه" فَلا
تُطِعْهُما" و قوله:
حسنا، ليس مذكورا في الآية لكن ذكره
عليه السلام بيانا للمقصود، و لعل هذا منشأ للظن الذي ظنه السائل و غيره، و
قوله:" وَ إِنْ جاهَداكَ" مفصول عن قوله:" وَ وَصَّيْنَا
الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ" لكن ذكره عليه السلام هيهنا لتعلق الغرض به،"
فقال" يعني الصادق عليه السلام: إن ذلك، يعني الوارد في سورة لقمان أعظم
دلالة على الأمر بإحسان الوالدين و أبلغ فيه من الوارد في سورة بني إسرائيل، قوله
عليه السلام: أن يأمر بصلتهما و حقهما أي رعاية حقهما على كل حال، و إن جاهداك على
أن تشرك بي ما ليس لك به علم، بدل من اسم الإشارة بدل الاشتمال، يعني الأمر
بصلتهما على جميع الأحوال و إن كانت حال المجاهدة على الكفر كما هو المستفاد من
آية لقمان أعظم في بيان حق الوالدين مما يستفاد من آية بني إسرائيل لعدم دلالتها
على عموم الأحوال.
بيان ذلك أن المستفاد من آية بني
إسرائيل الأمر بالإحسان بالوالدين و الأمر لا يدل على التكرار كما تحقق في محله،
فضلا عن عموم الأحوال، إذ فرق بين المطلق و العام، و ما في الآية من النهي عن
التأفيف و الزجر الدال على العموم إنما يدل على عموم النهي عن الأذى و وجوب الكف
عنه في جميع الأحوال، و لا يدل على
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
405
وجوب تعميم الإحسان، على أن في قوله
تعالى:" وَ قُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً" إشعار
باختصاص الأمر بالإحسان، و ما ذكر في سياقه بالمسلمين منهما للنهي عن الدعاء
للكافر، و إن كان أحد الأبوين" وَ ما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ
إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ".
و أما دلالة آية لقمان على وجوب
الإحسان بهما و إن كان في حال الكفر فلقوله تعالى:" وَ إِنْ جاهَداكَ عَلى
أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما" حيث قال عز.
شأنه فَلا تُطِعْهُما، و لم يقل لا تحسن إليهما بعد الأمر بالإحسان، ثم قوله: و
صاحبهما في الدنيا معروفا، كما لا يخفى على الفطن" فقال" يعني الصادق
عليه السلام، و إنما أعاد لفظ فقال هيهنا و في السابق للتأكيد، و الفصل بين كلامه
و الآية، لا نفيا لما عسى يتوهم في هذا المقام من أن غاية ما ثبت وجوب الإحسان
بهما في حال الكفر و إن كان ناقصا بالنسبة إلى ما يجب في حال الإسلام أو مساويا
بالنسبة إليه، فإن المقام مظنة لهذا التوهم بناء علي أن شرف الإسلام يقتضي زيادة
الإحسان أو توهمه السائل و فهم الإمام عليه السلام ذلك، فنفاه يعني ليس الأمر كما
يتوهم بل الله سبحانه يأمر بصلتهما و إن جاهداه على الشرك ما زاد حقهما إلا عظما
فإن المبتلي الممتحن بالبلاء أحق بالترحم و لأن الإحسان بهما في حال الكفر يوجب
ميلهما و رغبتهما إلى الإسلام كما في واقعة النصراني و أمه المذكورة في الحديث الذي
يلي هذا الحديث.
و يمكن أن يقال: يستفاد من الآية عظم
حقهما في حال الشرك بناء على أن الراجح أن يكون قوله عز شأنه وَ صاحِبْهُما فِي
الدُّنْيا مَعْرُوفاً، معطوفا على جزاء الشرط لا الجملة الشرطية لمرجح القرب، و
قوله: في الدنيا كما لا يخفى على
مرآة
العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 406
المتدبر، و كذا قوله: و اتبع سبيل من
أناب إلى.
و يحتمل أن يكون المعنى قوله عليه
السلام: لا، ليست الآية التي فسرتها ما في بني إسرائيل فيكون تأكيدا للنفي المفهوم
في الكلام السابق، و على هذا يجري في قوله: بل يأمر بصلتهما الاحتمالان الآتيان في
التفسير الثاني على هذا التفسير أيضا فتدبر.
و في بعض نسخ الكافي فقال إن ذلك
أعظم من أن يأمر بصلتهما، بزيادة لفظة" من" و يمكن تفسير الحديث بناء
على هذه النسخة بأن يقال: قوله عليه السلام: ذلك إشارة إلى ما في بني إسرائيل، و
يكون الكلام مسوقا على سبيل الاستفهام الإنكاري، فيكون المراد ما في سورة بني
إسرائيل أعظم في إفادة المراد من أن يأمر بصلتهما علي كل حال و إن كان حال الكفر
كما في آية لقمان حتى يكون مقصودي ذلك، ثم قال: لا، تأكيدا للنفي المستفاد من
الكلام السابق فقال: بل يأمر بصلتهما و إن جاهداه على الشرك ما زاد حقهما إلا عظما
كما هو المستفاد من آية لقمان أعظم فالخبر محذوف للقرينة، و على هذا"
حقهما" مرفوع على أنه فاعل زاد فيكون حاصل الكلام أن يأمر بصلتهما و إن
جاهداه على الشرك كما هو المستفاد من آية لقمان ما زاد حقهما إلا عظما، فيكون هذا
الكلام أي المذكور في سورة لقمان أعظم دلالة من ذلك ففي الكلام تقديران، و على هذا
الاحتمال الأخير لا يدل الحديث على زيادة حق الوالدين في حال الكفر، و يمكن إجراء
هذين المعنيين على النسخة الأولى.
الرابع: ما ذكره بعض المشايخ الكبار
مد ظله قال: الذي يخطر بالبال أن فيه تقديما و تأخيرا في بعض كلماته و تحريفا في
بعضها من النساخ أولا و أن قوله:" وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً" بعد
قوله:" أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ" و الأصل و الله أعلم:
قال و أنا عنده لعبد الواحد الأنصاري
في بر الوالدين في قول الله عز و جل، فظننا أنها الآية التي في بني إسرائيل:"
وَ قَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَ بِالْوالِدَيْنِ
إِحْساناً"
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
407
و مثل هذا يشتبه إذا كان في آخر سطر
أنه من السطر الأول أو الثاني و نحو ذلك، و البعد بينهما هنا نحو سطر، و حاصل
المعنى أنه عليه السلام ذكر لعبد الواحد بر الوالدين في قول الله عز و جل، و لم
يبين في أي موضع، فظن أن مراده عليه السلام أنه في بني إسرائيل.
و يحتمل أن يكون: فقال إن ذلك"
فقلت أن ذلك" بقرينة قوله بعد فقال:
لا، و المعنى على هذا أني قلت له
عليه السلام إن هذا عظيم و هو أنه كيف يأمر بصلتهما و حقهما علي كل حال و إن حصلت
المجاهدة منهما على الشرك و الخطاب حينئذ حكاية للفظ الآية فقال عليه السلام: لا،
أي ليس بعظيم كما ظننت أن مجاهدتهما على الشرك تمنع من صلتهما و حقهما، بل هو
تعالى يأمر بصلتهما و إن حصلت منهما المجاهدة، و حصول المجاهدة لا يسقط حقهما و
صلتهما بل يزيده عظما فإن حق الوالدين إذا لم يسقط مع المجاهدة على الشرك كان أعظم
منه مع عدم المجاهدة.
و الظاهر من السياق على هذا كون إن
في" وَ إِنْ جاهَداكَ" وصلية في كلام الراوي و إن كانت في الآية شرطية،
و في كلام الإمام عليه السلام يحتمل أن يكون وصلية و قوله: فلا تطعهما كلام مستقل
متفرع على ما قبله، و أن تكون شرطية و جواب الشرط فلا تطعهما، و مع ملاحظة المحذوف
من الآية لا يبعد الوصل باعتبار كون ما بينهما معترضا و إن كان الأظهر خلافه مع
الذكر و لفظ" حسنا" إن لم يكن زائدا من النساخ أو الراوي سهوا فقد وقع
مثله كثيرا في الأحاديث بما ليس في القرآن الموجود و هم عليهم السلام أعلم بحقيقة
القرآن، نعم هو في آية العنكبوت و لا يمكن إرادتهما بعد قوله عليه السلام في سورة
لقمان باعتبار الظرفية بخلاف سجدة لقمان فإن الإضافة تصدق بأدنى ملابسة فأضيفت
سجدة سورة السجدة إلى لقمان للقرب و عدم الفصل بسورة أو باعتبار إضافة السجدة
بمعنى سورة السجدة إلى لقمان ثم توسعوا بإضافة السجدة التي في السورة إلى لقمان.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
408
و يمكن أن يكون على هذا، الآية في
الواقع كما ذكره عليه السلام من غير الزيادة التي في لقمان و هي" حَمَلَتْهُ
أُمُّهُ وَهْناً" إلخ إن ثبت هذا و تكون في محل آخر إلا أن يكون المقصود ذكر
ما يتعلق بالمقام فقط مع حذف غيره، و التنبيه على كون" وَ إِنْ
جاهَداكَ" وصليا للكلام الأول، و لفظ يأمر الثاني يحتمل أن يكون أصله يؤمر
فهو من قبيل ما تقدم من التحريف.
هذا ما يتعلق بالحديث على تقدير
المذكور و على ما في الحديث من قوله" فقال" يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون ضميره راجعا إلى عبد
الواحد، و فيه أن عبد الواحد لم يذكر إلا في الكلام الأول، و قوله: فلما كان بعد
سألته، كلام آخر فرجوعه إلى عبد الواحد يحتاج إلى تكلف تقدير حضور عبد الواحد وقت
سؤال غيره في وقت آخر فإرجاع الضمير إليه مع عدم قرينة تدل على ذلك فهو كما ترى.
الثاني: أن يكون معطوفا على" فقال"
السابق، و القائل حينئذ الإمام عليه السلام و المعنى فقال بعد ذكر الآية إن هذه
الآية أمر الوالدين فيها أعظم من أمرهما في آية بني إسرائيل لفهمه عليه السلام ما
ظنه السائل فإن في هذه الوصية و إن حصلت المجاهدة على الشرك، فالمجاهدة لا تسقط
حقهما بل يترتب عليهما عدم الإطاعة في ذلك، و هو أن يأمر تعالى بصلتهما و حقهما
على كل حال حتى مع المجاهدة.
و على هذا فقوله: فقال لا، ضميره
يحتمل أن يرجع إليه تعالى بمعنى أنه تعالى قال بعد ما ذكر مفسرا من الإمام عليه
السلام لا، أي لا تطعهما بل هو تعالى يأمره بصلتهما و إن جاهداه على الشرك، و ليس
هذا تكرارا لما تقدمه فإنه يفيد أن عدم الإطاعة لهما ليس في كل شيء فيه برهما بل
في الشرك فقط، و كلما فيه صلة لا يترك بسبب المجاهدة على الشرك، و يحتمل بعيدا أن
تكون إن في قوله: و إن جاهداه على الشرك شرطية، و جواب الشرط ما زاد حقهما إلا عظما،
و المعنى حينئذ أن
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
409
المجاهدة على الشرك لا تسقط حقهما بل
تزيده عظما و الله تعالى أعلم بمقاصد أوليائه انتهى كلامه زيد فضله.
الخامس: ما ذكره بعض الشارحين فاقتفى
أثر الفضلاء المتقدم ذكرهم في جعل ضمير قال في الموضعين راجعا إلى الإمام عليه
السلام إلا أنه حمل الوالدين على والدي العلم و الحكمة، و قال:" ذلك" في
قوله:" إن ذلك أعظم" إشارة إلى قوله تعالى:" وَ إِنْ
جاهَداكَ" و" أعظم" فعل ماض تقول أعظمته و عظمته بالتشديد إذا
جعلته عظيما، و" إن يأمر" مفعوله بتأويل المصدر و المراد بالأمر بالصلة
الأمر السابق على هذا القول و اللاحق له أعني قوله: اشكر لي و لوالديك، و قوله: و
صاحبهما و اتبع، فأفاد عليه السلام بعد قراءة قوله تعالى:" وَ إِنْ
جاهَداكَ" أن هذا القول أعظم الأمر بصلة الوالدين و حقهما علي كل حال، حيث
يفيد أنه تجب صلتهما و طاعتهما مع الزجر و المنع منهما فكيف بدونه" وَ إِنْ
جاهَداكَ" إلخ ثم قرأ هذا القول و هو قوله تعالى:" وَ إِنْ
جاهَداكَ" و أفاد بقوله: لا، أنه ليس المراد منه ظاهره و هو مجاهدة الوالدين
على الشرك و نهى الولد عن إطاعتهما عليه بل يأمر الولد بصلة الوالدين و إن منعه
المانعان أي أبو بكر و عمر عنهما و ما زاد هذا القول حقهما إلا عظما و فخامة.
و استشهد لذلك برواية أصبغ المتقدمة
في باب نكت التنزيل في تأويل تلك الآيات ذاهلا عن أنه تأويل لبطن الآية و لا ينافي
تفسير ظهرها بوجه آخر.
لكن يؤيده ما رواه مؤلف كتاب تأويل
الآيات الظاهرة في فضائل العترة الطاهرة نقلا من تفسير محمد بن العباس بن ماهيار
بسنده الصحيح عن عبد الله بن سليمان قال: شهدت جابر الجعفي عند أبي جعفر عليه
السلام و هو يحدث أن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم و عليا عليه السلام
الوالدان، قال عبد الله بن سليمان: و سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول:
منا الذي أحل له الخمس، و منا الذي
جاء بالصدق، و منا الذي صدق به، و لنا
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
410
المودة في كتاب الله عز و جل، و على
و رسول الله صلوات الله عليهما الوالدان و أمر الله ذريتهما بالشكر لهما.
و روي أيضا بسند صحيح آخر عن ابن
مسكان عن زرارة عن عبد الواحد بن مختار، قال: دخلت على أبي جعفر عليه السلام فقال:
أ ما علمت أن عليا أحد الوالدين قال الله تعالى:" أَنِ اشْكُرْ لِي وَ
لِوالِدَيْكَ" قال زرارة: فكنت لا أدري أي آية هي التي في بني إسرائيل أو
التي في لقمان قال: فقضي لي أن حججت فدخلت على أبي جعفر عليه السلام فخلوت به
فقلت: جعلت فداك حديث جاء به عبد الواحد؟ قال: نعم، قلت: أي آية هي؟ التي في لقمان
أو التي في بني إسرائيل؟ فقال: التي في لقمان.
و روي أيضا بسند آخر عن جابر عن أبي
جعفر عليه السلام قال: سمعته يقول:" وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ
بِوالِدَيْهِ" رسول الله و علي صلوات الله عليهما.
ثم إنه يظهر من هذه الأخبار أن في
رواية الكافي تصحيفا و تحريفا و أن قوله عمن رواه تصحيف عن زرارة، و به يرتفع بعض
الإشكالات، لكن تطبيقه على الآية في غاية و قد مرت الوجوه في ذلك في الباب
المذكور.
و إنما أطنبت الكلام في هذا الخبر
لتعرف ما ذهب إليه أوهام أقوام و تختار ما هو الحق بحسب فهمك منها و الله الموفق.
ثم لنذكر تفسير آية لقمان مشيرا إلى
بعض الدقائق المستنبطة منها:
فمن ذلك قوله تعالى:" وَ
وَصَّيْنَا" فإن فيه تأكيدا و مبالغة من جهة أن التعبير بالتوصية إنما يكون
في الأمور العظيمة المهتم لها كما هو الظاهر في المقامات المستعملة فيها من الآيات
و الأخبار و عرف سائر الناس، و من جهة أن فيها إشعارا بأن الموصى به مما فيه صلاح
و قربة، فإن أصل التوصية التقدم إلى الغير بما فيه صلاح، ففيه دلالة على أن هذا
الأمر مما فيه صلاح الحال أو إصلاح المال فيجب
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
411
الإقدام عليه، فيكون أدل على المقصود
و كان بمنزلة نصب الدليل على الدعوى، مع ما في هذه الصيغة من الدلالة على المبالغة
و التكثير.
و لعل قوله تعالى وَصَّيْنَا دون
وصيت باعتبار التعظيم أو باعتبار شركة الأنبياء و الرسل و الملائكة و حملة الوحي و
الأوصياء المبلغين للأحكام في هذه التوصية مع مشاركة العقول المستقيمة فيها، فإن
الحكم بذلك ليس بشرعي صرف، فيكون فيه مبالغة من هذه الجهة، على أنه على تقدير
التعظيم أيضا لا يخلو عن نوع مبالغة كما لا يخفى.
و منها قوله جل و عز:"
الإنسان" حيث لم يخاطب بصيغة الجمع كما في الآية الأخرى فإنه يدل على عموم
المأمورين بهذا الحكم صريحا، و أما الخطابات القرآنية علي سبيل المشافهة، فالتحقيق
فيها أنها متوجهة إلى الموجودين في وقت الخطاب، و مشاركة حكم باقي الأمة لحكمهم
إنما استفيدت بدليل من خارج، لا من نفس الآية و إلى هذا ذهب المحققون من الأصوليين
و من حيث لم يقل" الناس" فإنه يستفاد من هذا أن الحكم كأنه متوجه إلى كل
واحد واحد من أفراد الإنسان يستفاد من هذا أن الحكم كأنه متوجه إلى كل واحد واحد
من أفراد الإنسان بانفراده بخلاف ذلك، و لا يخفى ما في ذلك من المبالغة.
و منها عدم ذكر قوله:"
إحسانا" كما في الآية الأخرى لما فيه من الإشعار بكون ذلك متعينا لا يتوهم
غيره أو للتعميم و ذهاب الذهن كل مذهب، و فيهما من المبالغة ما لا يخفى.
و منها إيراد الضمير المجرور في قوله
تعالى شأنه:" بِوالِدَيْهِ" و لم يقل بالوالدين كما في الأخرى لأن في
الاختصاص المستفاد من الإضافة استعطافا و استرحاما و إشارة إلى الانتساب الخاص و
الرحم الماس و تهييجا للعلاقة الطبيعية من جهة تذكير النسبة الخاصة، و فيه إشارة
إلى التعليل و إلى أن تكون اهتمامهم بذلك حيث كان مصلحة
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
412
لهم و للمختصين بهم اختصاصا فوق كل
اختصاص بحيث لا يحتاج إلى التوصية و الموعظة من غيرهم إلى أن هذا من مهمات أمورهم،
و لا يرجع إلى مصلحة للموصي.
و منها قوله:" حَمَلَتْهُ
أُمُّهُ" لأن فيه دلالة على علة الحكم و تذكير ما احتملته من الأعباء الثقيلة
و المشاق الشديدة التي قاستها في حال الحمل، من الحمل الثقيل في جميع الحالات من
غير استراحة و تغير المزاج عن الحالة الطبيعية و تطرق الفتور إلى أكثر القوي و
الأمراض و الأعراض التي حلت بها حال الحمل بسبب إحساس الطمث و ارتفاع الأبخرة
الرديئة إلى الدماغ من الكرب و الكسل، و ثقل البدن و خبث النفس و الغشيان و
القشعريرة و الصداع و الدوار و ظلمة العين و الخفقان و غور العين و استرخاء جفنها،
و الشهوات الرديئة و تغير اللون و حدوث آثار خارجة عن الطبيعة و العوارض النفسانية
التي تعرض لها، مثل الخوف من شدائد الطلق و تبعاته، و عروض الآلام و الأوجاع التي
تتحملها في حال الوضع، إلى غير ذلك و في ضمير قوله: أمه، من المبالغة ما ذكر في
قوله: والديه.
و منها قوله عز شأنه:"
وَهْناً" أي ذات وهن، أو تهن وهنا أي تضعف ضعفا فوق ضعف بالحمل الثقيل الذي
يتزايد في الثقل يوما فيوما بسبب أنه يعظم الولد و يكبر و يزداد أعضاءها و قواها
ضعفا و و هنا على طول الأيام بسبب دوام الثقل و الآفات و العوارض الحادثة بسبب
العلوق، و كل حامل لشيء ثقيل إذا تعب و أعيى يضع حمله ليستريح و يستقوي، ثم يرجع
إلى الحمل بعد رجوع القوة و زوال الإعياء إن تعلق به الغرض، بخلاف المرأة الحاملة
فإنها ليست لها استراحة في الأثناء مع أن المحمول دائما في ازدياد الثقل و النمو،
و العامل في انحطاط القوة و غلبة الضعف و إن أمكن لها دفع ثقل و وضعه بالإسقاط لا
تفعل.
ففي ذكر هذا مبالغة في وجوب الإحسان
بناء على تحمل مثل هذه المشاق
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
413
التي لا يتحملها غيرها، فكيف يمكن
الإهمال و التساهل في رعاية حقها، و فيه تمهيد لكون الإحسان لهما هو الشكر للنعمة
الذي تطابق العقل و النقل على وجوب رعايته، و في قوله: على، دون في زيادة المبالغة
و إشعار بأن الوهن اللاحق أشد من السابق لما في معناها من تضمن معنى العلو و
الاستيلاء.
و قيل: قوله وهنا على وهن، حال من
الضمير المنصوب فيكون المراد وهن الولد، و يكون إشارة إلى ضعف الولد و عجزه و عدم
فوته و انتهاضه بتحصيل مصالحه و سقوطه عن مرتبة مكافأة الإحسان و مجازاة الامتنان
في مراتب تنقلاته في الأطوار المختلفة و تحولاته في الصور و الأحوال المتعاقبة من
كونه نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم ظهور نقوش الأعضاء و صورها إلى غير ذلك من أحواله
فإن الجنين بل الرضيع قبل استوائه و بلوغ أشده في وهن على وهن، و لعل الوهن التالي
أشد من السالف لانضمام ازدياد الحاجة مع العجز عن الكفاية إلى ضعف القوة ففي مثل
تلك الأحوال حملته الأم حملا ثقيلا و أتعب نفسها في حفظه و وقته بذاتها و أعضاء
جسدها و أسكنته في صميم بدنها فكيف يسوغ للعاقل التكاسل في أداء حقها.
ففيه مبالغة و تذكير لمن كان له قلب
أو ألقى السمع و هو شهيد.
و منها قوله تعالى:" وَ
فِصالُهُ فِي عامَيْنِ" أي فصاله في انقضاء عامين، و فيه بيان لقسط أخرى من
حقوق الأم فإنه بعد انقضاء أيام الحمل و تحملها آلامها لم تفرغ للراحة بل كانت
ممنوة بتعب الإرضاع في تلك المدة الطويلة فاختارته و آثرته على نفسها في مطعمه و
مشربه و ملبسه و نومه و راحته مقترة علي نفسها في توسعته، فهجرت النوم و الراحة و
قاست التعب الشديد في حفظه و رعايته و ضبطه و كفايته حيث عجز من تفقد حاله و جذب
المنافع و دفع الآلام عن نفسه، فكانت
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
414
بمنزلة حواسه و جوارحه و أعضائه في
طلب مصالحه و دفع مضاره نائبة مناب تلك الآلات الجليلة في الآثار التي يترتب عليها
و كثيرا ما يبتلي بشدة الاحتماء و ترك الملاذ و شرب الأدوية الكريهة البشعة و
الفصد و الحجامة من غير مرض و علة لمداواة المرض الذي حل به.
و الأب لا يخلو عن كثير من ذلك في
تلك المدة لاهتمامه و اشتغاله بحال الولد و شدة عنايته بتربيته فهو مشغول بحاله
بالجنان و الأركان، ففيه إشارة و تذكير إلى عظم منتهما و قدم نعمتهما تحريصا علي
الإحسان و حثا على الثبات في هذا الشأن.
و منها قوله عز شأنه:" أَنِ
اشْكُرْ لِي وَ لِوالِدَيْكَ" حيث جعلهما تلوا له جل إحسانه في وجوب الشكر و
حيث عبر عن الإحسان بهما بالشكر الذي تطابقت العقول و توافقت الشرائع على وجوب
أدائه و لزوم رعايته تذكيرا لأنعمهما ثانيا و تحريصا على مراعاة الإحسان و مبالغة
في الغرض المسوق له بالكلام، و أبلغ من ذلك أنه جعل الإحسان إليهما شكرا له تعالى
فإن قوله تعالى:" أَنِ اشْكُرْ لِي وَ لِوالِدَيْكَ" تفسير لوصينا أو
علة له، أو بدل من والديه بدل الاشتمال.
و مما يزيد في ذلك استعظامه تعالى
أمر الشكر فيما قبل هذا المقام من غير فصل يعتد به حيث قال تعالى: حيث قال وَ
لَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ" أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ" أي لأن
أشكر أو أي اشكر، حيث جعل الشكر تفسيرا و غاية للحكمة التي من بها على لقمان، و آل
إبراهيم حيث قال جل شأنه:" فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَ
الْحِكْمَةَ" و هي النعمة التي من يؤتها فقد أوتي خيرا كثيرا، و قد جعل تعليم
الحكمة في غير واحد من الآيات غاية لبعث الأنبياء و إرسالهم إلى الخلق و وصف بها
ذاته سبحانه
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
415
في غير موضع، ثم قال:" وَ مَنْ
شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ" لأن نفعه عائد إليها و هو دوام النعمة
و استحقاق مزيدها، تحريصا على الإتيان بالشكر لأن الإنسان حريص علي تحصيل مصالحه،
ثم قال:" وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ" أي حقيق
بالحمد و إن لم يحمد، أو محمود في السماوات و الأرضين يحمده كل مخلوق بلسان الحال
و إن عجز أو أبي عن المقال، ففيه تعبير عن ترك الشكر بالكفر، و إشارة إلى أن أمره
بالشكر ليس لحاجة له إليه و أنه يحمده الصامت و الناطق، فكيف يسوغ لأحد أن يترك
شكر ربه.
ففي ذلك من المبالغة الشديدة ما لا
يخفى على اللبيب، و التلون و الالتفات الذي في قوله تعالى:" أَنِ اشْكُرْ لِي
وَ لِوالِدَيْكَ" لا يخلو عن مبالغة، إذ فيه تنشيط للسامع و تطرية لنشاطه و
إيقاظ للإصغاء إليه و إشعار بزيادة الاهتمام.
و منها قوله سبحانه بعد ما
سبق:" إِلَيَّ الْمَصِيرُ" ففيه دلالة على أن المصير و المرجع إلى الله
الذي بيده ملكوت السماوات و الأرض، و هو على كل شيء عليم، و على كل شيء قدير،
فيجازي و يثيب أحسن الجزاء أن أحسنتم بهما و شكرتم، و يعاقب أشد العقوبة و العذاب
إن خالفتم و أسأتم، و إنما قال تعالى:" إلى" لا إلينا، مثل وصينا لئلا
يتوهم الشركة هيهنا.
و منها قوله تعالى بعد ذلك:" وَ
إِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا
تُطِعْهُما" فإن فيه دلالة على لزوم الإحسان في حال الكفر أيضا كما مر، و في
التعبير بقوله: جاهداك الدال على زيادة الجهد و المبالغة فيه الدالة على التوغل في
الكفر زيادة مبالغة في الغرض المطلوب.
و منها قوله بعد ذلك:" وَ
صاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً" أي صحابا معروفا يقتضيه الشرع و يقتضيه
الكرم.
و منها قوله بعد ذلك:" وَ
اتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ" إشارة إلى أن هذا طريق
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
416
الموحدين المخلصين.
و منها قوله تعالى بعد ذلك تأكيدا و
تكريرا:" ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ" فأوفي الظالم و المظلوم و المحسن
و المسيء ما يستحقون.
و منها قوله سبحانه بعد ذلك:"
فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ" تصريحا بمجازاة الأعمال و مكافأة
الأفعال، و إشارة إلى أن الكل حيث يجازون بأعمالهم لا يضره كفرهما.
و منها قوله تعالى بعد ذلك:" يا
بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ" الآية على إحاطة علمه سبحانه بكل شيء و أنه يأتي
بكل شيء جليل و حقير فيحاسب عليها و هو مناسب للغرض السابق.
و منها تخلل الآيتين في أثناء مواعظ
لقمان و اعتراضهما في تضاعيف وصاياه فإنه ورد ذلك تأكيدا لما فيها من النهي عن
الشرك كأنه قال و قد وصينا بمثل ما وصى به، و ذكر الوالدين للمبالغة في ذلك فإنهما
مع أنهما تلوا الباري تعالى في استحقاق الطاعة و التعظيم لا يجوز أن يستحقا الطاعة
في الشرك فما ظنك بغيرهما، فكأنه تعالى بعد ما ذكر أن الشرك لظلم عظيم، و بالغ في
استعظام الشرك بأنه لا يجوز متابعة الوالدين فيه فبلغ عظم أمره إلى حيث لا يطاع
الوالدان فيه، و إن جاهدا عليه، و فيه من المبالغة في استعظام أمر الوالدين ما لا
يخفى على المتدبر الفطن.
و إنما أطنبنا الكلام في ذلك ليظهر
لك أنه عليه الصلاة و السلام لم خص آية لقمان بالذكر من بين سائر الآيات لما فيه
من التأكيدات و المبالغات.
(الحديث السابع)
(1): ضعيف.
" يصلي عنهما"
(2) بيان للبر بعد الوفاة فكأنه قيل: كيف يبرهما
بعد موتهما؟ قال
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
417
يصلي عنهما قضاء و نافلة، و كذا الحج
و الصوم، و يمكن شموله لاستيجارها من مال الميت أو من ماله، و تجب قضاء الصلاة و
الصوم على أكبر الأولاد و ستأتي تفاصيل ذلك إنشاء الله في محله.
و يدل على أن ثواب هذه الأعمال و
غيرها يصل إلى الميت و هو مذهب علمائنا، و أما العامة فقد اتفقوا على أن ثواب
الصدقة يصل إليه، و اختلفوا في عمل الأبدان فقيل: يصل قياسا على الصدقة، و قيل: لا
يصل لقوله تعالى:" وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى" إلا
الحج لأن فيه شائبة عمل البدن و إنفاق المال، فغلب المال.
قوله: فيزيده الله،
(1) أي يعطي ثوابان، ثواب لأصل العمل، و ثواب
آخر كثير للبر في الدنيا و الآخرة.
(الحديث الثامن)
(2): صحيح.
و يدل على جواز الدعاء و التصدق
للوالدين المخالفين للحق بعد موتهما و المداراة معهما في حياتهما، و الثاني قد مر
الكلام فيه، و أما الأول فيمكن انتفاعهما بتخفيف عذابهما، و قد ورد الحج عن الوالد
إن كان ناصبا و عمل به أكثر الأصحاب بحمل الناصب على المخالف، و أنكر ابن إدريس
النيابة عن الأب أيضا.
و يمكن حمل الخبر على المستضعف، لأن
الناصب المعلن لعداوة أهل البيت عليهم السلام كافر بلا ريب، و المخالف غير المستضعف
أيضا مخلد في النار أطلق عليه الكافر و المشرك في الأخبار المستفيضة، و اسم النفاق
في كثير منها، و قد قال سبحانه في شأن المنافقين:" لا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ
مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَ لا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ
وَ
مرآة
العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص: 418
رَسُولِهِ وَ ماتُوا وَ هُمْ
فاسِقُونَ" و قال المفسرون وَ لا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ، أي لا تقف على قبره
للدعاء و قال في شأن المشركين:" ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا
أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَ لَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ
ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ، وَ ما كانَ اسْتِغْفارُ
إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا
تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ" فإن التعليل
بقوله: من بعد ما تبين، يدل على عدم جواز الاستغفار لمن علم أنه من أهل النار و إن
لم يطلق عليهم المشرك، و كون المخالفين من أهل النار معلوم بتواتر الأخبار، و كذا
قوله: فلما تبين له أنه عدو لله، يدل على عدم جواز الاستغفار لهم، لأنه لا شك أنهم
أعداء الله.
فإن قيل: استغفار إبراهيم لأبيه يدل
على استثناء الأب؟ قلت: المشهور بين المفسرين أن استغفار إبراهيم عليه السلام كان
بشرط الإيمان لأنه كان وعده أن يسلم، فلما مات على الكفر و تبين عداوته لله تبرأ
منه، و قيل: الموعدة كان من إبراهيم لأبيه قال له: إني سأستغفر لك ما دمت حيا، و
كان يستغفر له مقيدا بشرط الإيمان فلما آيس من إيمانه تبرأ منه.
و أما قوله عليه السلام في سورة
مريم:" سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي" فقال الطبرسي (ره)
سلام توديع و هجر على ألطف الوجوه، و هو سلام متاركة و مباعدة منه، و قيل سلام
إكرام و بر تأدية لحق الأبوة.
و قال في" سَأَسْتَغْفِرُ
لَكَ" فيه أقوال: أحدها: أنه إنما وعده الاستغفار على مقتضى العقل و لم يكن
قد استقر بعد قبح الاستغفار للمشركين" و ثانيها" أنه قال سأستغفر لك علي
ما يصح و يجوز من تركك عبادة الأوثان و إخلاص العبادة لله
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
419
" و ثالثها" أن معناه
سأدعو الله أن لا يعذبك في الدنيا، انتهى.
و أقول: لو تمت دلالة الآية لدلت على
جواز الاستغفار و الدعاء لغير الأب أيضا من الأقارب لأنه على المشهور بين الإمامية
لم يكن آزر أباه عليه السلام بل كان عمه، و الأخبار تدل على ذلك.
ثم إن من جوز الصلاة على المخالف من
أصحابنا صرح بأنه يلعنه في الرابعة أو يترك و لم يذكروا الدعاء للوالدين، و قال
الصدوق رضي الله عنه: إن كان المستضعف منك بسبيل فاستغفر له على وجه الشفاعة لا
على وجه الولاية، لرواية الحلبي عن الصادق عليه السلام، و في مرسل ابن فضال عنه
الترحم على جهة الولاية و الشفاعة كذا قال في الذكرى.
و أقول: هذا يؤيد الحمل على المستضعف
و أما الاستدلال بالآية المتقدمة على جواز السلام على الأب إذا كان مشركا فلا يخفى
ما فيه، أما أولا فلما عرفت أنه لم يكن أبا إلا أن يستدل بالطريق الأولى، فيدل على
الأعم من الوالدين، و أما ثانيا فلما عرفت من أن بعضهم بل أكثرهم حملوه على سلام
المتاركة و المهاجرة، نعم يمكن إدخاله في المصاحبة بالمعروف، مع ورود تجويز السلام
على الكافر مطلقا كما سيأتي في بابه إنشاء الله تعالى.
(الحديث التاسع)
(1): حسن كالصحيح.
و استدل به علي أن للأم ثلاثة أرباع
البر، و قيل: لا يفهم منه إلا المبالغة في بر الأم و لا يظهر منه مقدار الفضل، و
وجه الفضل ظاهر لكثرة مشقتها و زيادة تعبها و آية لقمان أيضا تشعر بذلك كما عرفت،
و اختلفت العامة في ذلك فالمشهور
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
420
عن مالك أن الأم و الأب سواء في ذلك،
و قال بعضهم: تفضيل الأم مجمع عليه، و قال بعضهم: للأم ثلاثا البر لما رواه مسلم
أنه قال رجل: يا رسول الله من أحق الناس بحسن الصحبة؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال:
أمك، قال: ثم من؟ قال:
أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك.
و قال الشهيد طيب الله رمسه بعد
إيراد مضمون الروايتين فقال بعض العلماء:
هذا يدل على أن للأم إما ثلثي الأب
على الرواية الأولى أو ثلاثة أرباعه على الثانية و للأب أما الثلث أو الربع،
فاعترض بعض المستطيعين بأن هنا سؤالات:
الأول: أن السؤال بأحق عن أعلى رتب
البر فعرف الرتبة العالية، ثم سأل عن الرتبة التي تليها بصيغة" ثم" التي
هي للتراخي الدالة على نقص رتبة الفريق الثاني عن الفريق الأول في البر، فلا بد أن
تكون الرتبة الثانية أخفض من الأولى، و كذا الثالثة أخفض من الثانية فلا تكون رتبة
الأب مشتملة على ثلث البر، و إلا لكانت الرتب مستوية، و قد ثبت أنها مختلفة فتصيب
الأب أقل من الثلث قطعا أو أقل من الربع قطعا، فلا يكون ذلك الحكم صوابا.
الثاني: أن حرف العطف تقتضي المغايرة
لامتناع عطف الشيء على نفسه، و قد عطف الأم علي الأم.
الثالث: أن السائل إنما سأل ثانيا عن
غير الأم فكيف يجاب بالأم و الجواب يشترط فيه المطابقة؟
و أجاب عن هذين بأن العطف هنا محمول
على المعنى كأنه لما أجيب أولا بالأم قال: فلمن أتوجه ببري بعد فراغي منها؟ فقيل
له: للأم و هي مرتبة ثانية دون الأولى كما ذكرنا أولا، فالأم المذكورة ثانيا هي
المذكورة أولا بحسب الذات و إن كانت غيرها بحسب الغرض و هو كونها في الرتبة
الثانية من البر، فإذا
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
421
تغايرت الاعتبارات جاز العطف، مثل
زيد أخوك و صاحبك و معلمك، و أعرض عن الأول كأنه يرى أن لا يجاب عنه ثم يتحجج به.
قلت: قوله: السؤال بأحق، ليس عن أكثر
الناس استحقاقا بحسن الصحابة، بل عن أعلى رتب الصحابة فالعلو منسوب إلى المبرور
على تفسيره حسن الصحابة بالبر لا إلى نفس البر، مع أن قوله بنقص الفريق الثاني عن
الفريق الأول مناف لكلامه الأول إن أراد بالفريق المبرورين، و إن أراد بالفريق
البر ورد عليه الاعتراض الأول.
و قوله: الرتبة الثانية أخفض من
الأولى مبني على أمرين فيهما منع: أحدهما:
أن أحق هنا للزيادة على من فضل عليه
لا للزيادة مطلقا كما تقرر في العربية من احتمال المعنيين، و الثاني: أن ثم لما
أتى بها السائل للتراخي كانت في كلام النبي صلى الله عليه و آله و سلم للتراخي و
من الجائز أن تكون للزيادة المطلقة بل هذا أرجح بحسب المقام لأنه لا يجب بر الناس
بأجمعهم بل لا يستحب لأن منهم البر و الفاجر فكأنه سأل عمن له حق في البر فأجيب
بالأم، ثم سأل عمن له حق بعدها فأجيب بها منبها على أنه لم يفرغ من برها بعد، لأن
قوله: ثم من؟ صريح في أنه إذا فرغ من حقها في البر لمن يبر فنبه على أنك لم تفرغ
من برها بعد، فإنها الحقيقة بالبر فأفاده الكلام الثاني الأمر ببرها كما أفاده
الكلام الأول و أنها حقيقة بالبر مرتين و لا يلزم من إتيان السائل بثم الدالة على
التراخي كون البر الثاني أقل من البر الأول لأنه بناه على معتقده من الفراغ من
البر ثم ظن الفراغ من البر فأجيب بأنك لم تفرغ من البر بعد، عليك ببرها فإنها
حقيقة به فكأنه أمره ببرها مرتين و ببر الأب مرة في الرواية الأولى و أمره ببرها
ثلاثا و ببر الأب مرة في الرواية الثانية، و ذلك
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
422
يقتضي أن يكون للأب مرة من ثلاث أو
مرة من أربع، و ظاهر أن تلك الثلث أو الربع و بهذا يندفع السؤالان الآخران لأنه لا
عطف هنا إلا في كلام السائل.
سلمنا أن أحق للأفضلية على من أضيفت
إليه، و أن من جملة من أضيفت إليه الأب لكن نمنع أن الأحقية الثانية ناقصة عن
الأولى، لأنه إنما استفدنا نقصها من إتيان السائل بثم معتقدا أن هناك رتبة دون هذه
فسأل عنها، فأجاب النبي صلى الله عليه و آله و سلم بقوله: أمك، و كلامه صلى الله
عليه و آله و سلم في قوة أحق الناس بحسن صحابتك أمك، أحق الناس بحسن صحابتك أمك،
فظاهر أن هذه العبارة لا تفيد إلا مجرد التأكيد لا أن الثاني أخفض من الأولى.
فالحاصل علي التقديرين الأمر ببر
الأم مرتين أو ثلاثا و الأمر ببر الأب مرة واحدة، سواء قلنا أن أحق بالمعنى الأول
أو بالمعنى الثاني، انتهى كلامه رفع مقامه.
و أقول: هذا المضمون ورد في الرواية
أيضا كما روى الصدوق في مجالسه بإسناده عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال
موسى بن عمران عليه السلام: يا رب أوصني قال:
أوصيك بأمك، قال: يا رب أوصني، قال:
أوصيك بأمك، قال: أوصني قال:
أوصيك بأبيك قال: فكان يقال لأجل ذلك
أن للأم ثلاثا البر، و للأب الثلث، و إن احتمل أن يكون المراد أن التأكيد في بر
الأم مضاعف بالنسبة إلى الأب و لم يرد بذلك مقدار البر لكنه بعيد.
(الحديث العاشر)
(1): ضعيف.
و في المصباح:
نشط
(2) في عمله من باب تعب خف و أسرع فهو نشيط.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
423
" تكن حيا"
(1) إشارة إلى قوله تعالى في آل عمران:" وَ
لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ
عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ".
قوله: فقد وقع أجرك
(2)، إشارة إلى قوله سبحانه في سورة
النساء:" وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَ
رَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ"
قال البيضاوي: الوقوع و الوجوب متقاربان، و المعنى ثبت أجره عند الله بثبوت الأمر
الواجب، انتهى.
و أقول: يشعر الخبر بأن المراد
بالمهاجرة ما يشمل الجهاد أيضا
" فقر"
(3) بتثليث القاف من القرار و يدل على أن أجر
القيام على الوالدين طلبا لرضاهما يزيد علي أجر الجهاد، و إطلاقه يشمل الوالدين
الكافرين و قيد الأصحاب توقف الجهاد على إذن الوالدين بعدم تعينه عليه، إذ لا
يعتبر إذنهما في الواجبات العينية و لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
(الحديث الحادي عشر)
(4): مجهول.
و الآية هكذا:" وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا
إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا" قد مر أن المراد به الروح الذي يكون مع
الأنبياء و الأئمة عليه السلام، و قيل: يعني ما أوحي إليه و
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
424
سماه روحا لأن القلوب تحيي به، و
قيل: جبرئيل عليه السلام، و المعنى أرسلناه إليك بالوحي
" ما كُنْتَ تَدْرِي مَا
الْكِتابُ وَ لَا الْإِيمانُ"
(1) أي قبل الوحي
" وَ لكِنْ جَعَلْناهُ
نُوراً"
(2) أي الروح أو الكتاب أو الإيمان
" نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ
(3) مِنْ عِبادِنا" بالتوفيق للقبول و
النظر فيه، و بعده:" وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ".
و كان السائل أرجع الضمير في جعلناه
إلى الإيمان، و حمل الآية على أن الإيمان موهبي و هو بهداية الله تعالى و إن كان
بتوسط الأنبياء و الحجج عليهم السلام.
و الحاصل أنه عليه السلام لما سأله
عن سبب إسلامه، و قال: أي شيء رأيت في الإسلام من الحجة و البرهان صار سببا
لإسلامك؟ فأجاب بأن الله تعالى ألقى الهداية في قلبي، و هداني للإسلام كما هو
مضمون الآية الكريمة، فصدقه عليه السلام
و قال:
لقد هداك الله، ثم قال: اللهم اهده
ثلاثا
(4) أي زد في هدايته أو يثبته عليها
" و أهل بيتي"
(5) أي هم أيضا على النصرانية.
و
قوله عليه السلام: لا بأس،
(6) يدل على طهارة النصارى بالذات و أن نجاستهم
باعتبار مزاولة النجاسات، و يمكن حمله على أن يأكل معهم الأشياء الجامدة و
اليابسة، و ربما يؤيده ذلك بعدم ذكر الخمر لأنها بعد اليبس لا يبقى أثرها في
أوانيهم بخلاف لحم الخنزير لبقاء دسومته:
" فإذا ماتت"
(7) ظاهره أن هذا لعلمه بأنها تسلم عند الموت
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
425
فهو مشتمل على الإعجاز، و إن احتمل
استثناء الوالدين عدم جواز غسلهم و الصلاة عليهم.
" و لا تخبرن أحدا"
(1) قيل: لعله إنما نهاه عن إخباره بإتيانه إليه
كيلا يصرفه بعض رؤساء الضلالة عنه عليه السلام، و يدخله في ضلالته قبل أن يهتدي
للحق.
و أقول: يحتمل أن يكون للتقية لا
سيما و قد اشتمل الخبر على الإعجاز أيضا و كأنه لذلك طوى حديث اهتدائه في إتيانه
الثاني أو الأولى، و يحتمل أن يكون ترك ذلك لظهوره من سياق القصة.
قوله: كأنه معلم صبيان،
(2) كان التشبيه في كثرة اجتماعهم و سؤالهم و
لطفه عليه السلام في جوابهم، و كونهم عنده بمنزلة الصبيان في احتياجهم إلى المعلم
و إن كانوا من الفضلاء و قبولهم ما سمعوا منه من غير اعتراض، و في القاموس:
فلي
(3) رأسه يفليه كيفلوه: بحثه عن العمل كفلاه، و
الحنيفية
(4) ملة الإسلام لميله عن الإفراط و التفريط
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
426
إلى الوسط، أو الملة الإبراهيمية لأن
النبي صلى الله عليه و آله و سلم كان ينتسب إليها
" يا أمة"
(1) أصله يا أماه.
(الحديث الثاني عشر)
(2): مجهول.
و المذكور في رجال الشيخ من أصحاب
الصادق عليه السلام عمار بن جناب بالجيم و النون و الباء الموحدة، و أخته و أخوه
صلى الله عليه و آله و سلم من الرضاعة هما ولدا حليمة السعدية، و في إعلام الورى
كان له صلى الله عليه و آله و سلم أخوان من الرضاعة عبد الله و أنيسة ابنا الحارث
بن عبد العزى و يدل على استحباب زيادة إكرام الأبر.
(الحديث الثالث عشر)
(3): كالسابق.
" أن تلي ذلك"
(4) أي بنفسك
" فإنه جنة"
(5) أي من النار.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
427
(الحديث الرابع عشر)
(1): صحيح.
" كما تبر المسلمين"
(2) بصيغة الجمع أي للأجنبي المؤمن حق الإيمان،
و للوالدين المخالفين حق الولادة فهما متساويان في الحق، و يمكن أن يقرأ بصيغة
التثنية أي كما تبرهما لو كانا مسلمين، فيكون التشبيه في أصل البر لا في مقداره،
لكنه بعيد.
(الحديث الخامس عشر)
(3): ضعيف.
و يدل على وجوب رد ما جعله صاحبه
أمينا عليه برا أو كان فاجرا، و الفاجر يشمل الكافر و يشعر بعدم التقاص منه، و
اختلف الأصحاب في الوديعة و يمكن أن يقال: التقاص نوع من الرد لأنه يبرئ ذمة
صاحبه، و سيأتي الكلام فيه في موضعه إنشاء الله، و على وجوب الوفاء بالعهد و منه
الوعد للمؤمن و الكافر، لكن لا صراحة في تلك الفقرات بالوجوب و المشهور الاستحباب
ما لم يكن مشروطا في عقد لازم، و قد مر الكلام في الوالدين.
(الحديث السادس عشر)
(4): ضعيف على المشهور.
" أن يكني الرجل"
(5) أقول: يحتمل وجوها:" الأول" أن
يكون المعنى من
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
428
السنة النبوية أو الطريقة الحسنة و
البر بالوالدين أن يكني الرجل ولده باسم أبيه كما إذا كان اسم أبيه محمد يكني ولده
أبا محمد، أو يكون المراد بالتكنية أعم من التسمية.
الثاني: أن يقرأ على بناء المفعول أي
من السنة و البر بالناس أن يكني المتكلم الرجل باسم أبيه بأن يقول له: ابن فلان، و
ذلك لأنه تعظيم و تكريم للوالد بنسبة ولده إليه، و إشارة لذكره بين الناس و تذكيره
له في قلوب المؤمنين، و ربما يدعو له من سمع اسمه، و في بعض النسخ ابنه بالنون أي
يقال له أبو فلان آتيا باسم ابنه دون نفسه، لأن ذكر الاسم خلاف التعظيم و لا سيما
حال حضور المسمى، و على النسختين على هذا الوجه لا يكون الحديث مناسبا للباب، لأنه
ليس في بر الوالدين بل في بر المؤمن مطلقا، إلا أن يقال: إنما ذكر هنا لشموله
للوالد أيضا إذا خاطبه الوالد.
الثالث: أن يقرأ يكنى بصيغة المعلوم،
أي يكنى عن نفسه باسم أبيه، فهو من بره بأبيه على الوجوه المتقدمة كما كان أمير
المؤمنين عليه السلام يعبر عن نفسه بذلك كثيرا كقوله عليه السلام: و الله لابن أبي
طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمه.
(الحديث السابع عشر)
(1): ضعيف.
" أبرر أمك"
(2) من باب علم و ضرب
" و بدأ بالأم"
(3) أي أشار بالابتداء بالأم إلى أفضلية برها.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
429
(الحديث الثامن عشر)
(1): كالسابق.
و في القاموس:
القليب
(2) البئر أو العادية القديمة منها، و
قوله: و هي تقول،
(3) جملة حالية و مفعول تقول محذوف أي و هي تقول
ما قالت، أو ضمير راجع إلى" ما"
و قوله: يا أبتاه
(4) خبر كان، و يدل على فضل الأم و أقاربها في
البر على الأب و أقاربه، و على فضل البر بالخالة من بين أقارب الأم، و فيه تفسير
الوأد الذي كان في الجاهلية كما قال تعالى:" وَ إِذَا الْمَوْؤُدَةُ
سُئِلَتْ، بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ".
(الحديث التاسع عشر)
(5): حسن موثق.
" و يكون"
(6) في الموضعين إما مرفوعان بالاستيناف أو
منصوبان بتقدير أن.
(الحديث العشرون)
(7): ضعيف.
و قد مر مضمونه عن جابر.
مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص:
430
(الحديث الحادي و العشرون)
(1): كالسابق.
و يدل على أن البر و العقوق يكونان
في الحياة، و بعد الموت و أن قضاء الدين و الاستغفار أفضل البر بعد الوفاة.
إلى هنأتم الجزء الثامن- حسب تجزئتنا
من هذه الطبعة- و يليه الجزء التاسع إنشاء الله تعالى و أوله" باب الاهتمام
بأمور المسلمين و النصيحة لهم و نفعهم" و قد وقع الفراغ من تصحيحه و التعليق
عليه في ليلة الجمعة الثالث عشر من شهر ربيع الأول سنة 1379 و الحمد لله أولا و
آخرا.
و أنا العبد الفاني السيد هاشم
الرسولي المحلاتي