مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 1

الجزء العاشر

 [تتمة كتاب الإيمان و الكفر]

باب الكبائر

 (1)

 (الحديث الأول)

 (2): ضعيف.

" إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ"

 (3) قال البيضاوي: كبائر الذنوب التي نهاكم الله و رسوله عنها

" نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ"

 (4) نغفر لكم صغائركم و نمحها عنكم‏

" وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً"

 (5) الجنة و ما وعد من الثواب أو إدخالا مع كرامة، انتهى.

و لنحقق هنا معنى الكبائر و عددها قال الشيخ البهائي قدس سره: اختلف آراء الأكابر في تحقيق الكبائر فقال قوم: هي كل ذنب توعد الله عليه بالعقاب في الكتاب العزيز، و قال بعضهم: هي كل ذنب رتب عليه الشارع حدا أو صرح فيه بالوعيد، و قال طائفة: هي كل معصية تؤذن بقلة اكتراث فاعلها بالدين، و قال آخرون: كل ذنب علم حرمته بدليل قاطع، و قيل: كل ما توعد عليه تواعدا شديدا في الكتاب أو السنة، و عن ابن مسعود أنه قال: اقرؤوا من أول سورة النساء إلى قوله:" إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ" فكل ما نهى‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 2

عنه في هذه السورة إلى هذه الآية فهو كبيرة، و قال جماعة: الذنوب كلها كبائر لاشتراكها في مخالفة الأمر و النهي لكن قد تطلق الصغيرة و الكبيرة على الذنب بالإضافة إلى ما فوقه و ما تحته، فالقبلة صغيرة بالنسبة إلى الزنا، و كبيرة بالنسبة إلى النظر بشهوة.

قال الشيخ الجليل أمين الإسلام أبو علي الطبرسي طاب ثراه في كتاب مجمع البيان بعد نقل هذا القول: و إلى هذا ذهب أصحابنا رضي الله عنهم فإنهم قالوا المعاصي كلها كبيرة لكن بعضها أكبر من بعض، و ليس في الذنوب صغيرة و إنما يكون صغيرا بالإضافة إلى ما هو أكبر، و يستحق العقاب عليه أكثر، انتهى كلامه.

و قال قوم: إنها سبع: الشرك بالله، و قتل النفس التي حرم الله، و قذف المحصنة، و أكل مال اليتيم، و الزنا، و الفرار من الزحف، و عقوق الوالدين، و رووا في ذلك حديثا عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم و زاد بعضهم على ذلك ثلاثة عشر أخرى: اللواط، و السحر، و الربا، و الغيبة، و اليمين الغموس، و شهادة الزور، و شرب الخمر، و استحلال الكعبة، و السرقة، و نكث الصفقة، و التعرب بعد الهجرة، و اليأس من روح الله، و الأمن من مكر الله.

و قد يزاد أربعة عشر أخرى: أكل الميتة و الدم و لحم الخنزير، و ما أهل لغير الله من غير ضرورة، و السحت، و القمار، و البخس في الكيل و الوزن، و معونة الظالمين، و حبس الحقوق من غير عسر، و الإسراف و التبذير و الخيانة و الاشتغال بالملاهي، و الإصرار على الذنوب، و هذه الأربعة عشر منقولة في عيون أخبار الرضا عليه السلام.

فهذه عشرة أقوال في ماهية الكبيرة، و ليس على شي‏ء منها دليل تطمئن به النفس، و لعل في إخفائها مصلحة لا تهتدي إليه عقولنا كما في إخفاء ليلة القدر و

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 3

الصلاة الوسطى و غير ذلك.

و قد نقل أصحاب الحديث عن ابن عباس أنه سئل عن الكبائر أ سبع هي؟

فقال: هي إلى السبعمائة أقرب منها إلى السبعة، و ربما يقال: ما ذهب إليه الإمامية من أن الذنوب كلها كبائر كما نقله الشيخ الطبرسي عنهم كيف يستقيم مع ما تقرر من أن الصغائر مغفورة لمن اجتنب الكبائر كقوله تعالى:" إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً" فإنه يقتضي أن يكون الكبائر ذنوبا مخصوصة لتجتنب فيحصل باجتنابها تكفير الصغائر، و الحاصل أن تكفير الصغائر باجتناب الكبائر على القول بأن كلا منها أمور مخصوصة معقول فما معناه على القول بأن الوصف بالكبر و الصغر إضافي؟ و جوابه أن معناه أن من عن له أمران منها، و دعت نفسه إليهما بحيث لا يتمالك فكفها عن أكبرهما مرتكبا أصغرهما فإنه يكفر عنه ما ارتكبه لما استحقه من الثواب باجتناب الأكبر، كمن عن له التقبيل و النظر بشهوة فكف عن التقبيل، و ارتكب النظر. كذا ذكره البيضاوي و صاحب كنز العرفان، و فيه تأمل فإنه يلزم منه أن من كف نفسه عن قتل شخص، و قطع يده مثلا يكون مرتكبا للصغيرة و تكون مكفرة عنه، اللهم إلا أن يراد بقوله مرتكبا أصغرهما ما لا أصغر منه من نوعه، و هو في المثال أقل ما يصدق عليه الضرر لا قطع اليد و فيه ما فيه.

ثم قال (ره): و مما ذكرنا يظهر أن قولهم العدل من يجتنب الكبائر و لا يصر على الصغائر ينبغي أن يراد به إذا عن له أمران و كف عن الأكبر و لم يصر على الأصغر، و هذا المعنى و إن كان غير مشهور فيما بينهم لكنه هو الذي يقتضيه النظر، بناء علي ذلك المذهب، فما في كلام بعض الأعلام من أنه يلزمهم أن تكون كل معصية مخرجة عن العدالة محل نظر، إذ العدالة على ما يظهر من كلامهم‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 4

ملكة تبعث على كف النفس عن الأكبر، مع عدم الإصرار على الأصغر، و الذنوب و إن كانت كلها كبائر عندهم لكن ليس كل كبيرة عندهم مخرجة عن العدالة، بل الكبيرة التي لم يكف عنها إلى الأصغر منها، و التي يصر عليها.

نعم يلزم من ظاهر كلامه أن العدالة لا تجامع من الذنوب إلا واحدا هو أصغر من الجميع، و لعلهم يريدون من الأصغر من كل نوع من أنواع الذنوب و إن كان بعد لا يخلو من إشكال.

ثم لا يخفى أن كلام الشيخ الطبرسي مشعر بأن الذنوب كلها كبائر متفق عليه بين علماء الإمامية، و كفى بالشيخ ناقلا.

         إذا قالت حذام فصدقوها             فإن القول ما قالت حذام‏

 و لكن صرح بعض أفاضل المتأخرين منهم بأنهم مختلفون و أن بعضهم قائل ببعض الأقوال السالفة، و نسب هذا القول إلى رئيس الطائفة و الشيخ المفيد و ابن البراج و أبي الصلاح و المحقق محمد بن إدريس و الشيخ أبي علي الطبرسي رضوان الله عليهم، انتهى كلامه رفع الله مقامه.

و أقول: القول بأن الذنوب كلها كبيرة مخالف لكثير من الآيات و الأخبار، و لعل من قال بهذا القول غرضه المنع عن تحقير الذنب و الاستهانة بها كما مر في الأخبار، فإن معصية الكبير كبيرة، و مخالفة الرب الجليل جليلة، و لا ينافي ذلك كون بعضها قادحة في العدالة بنفسها، و بعضها لا تكون قادحة إلا مع الإصرار عليها، و اجتناب بعضها موجبا للعفو عن بعضها، كما هو صريح هذه الآية الكريمة، و أما نسبة هذا القول إلى جميع الأصحاب ففي غاية الوهن، فإن الشيخ و إن كان ظاهر

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 5

كلامه في العدة ذلك لكن في المبسوط صرح بخلافه، و قسم الذنوب إلى الصغيرة و الكبيرة و تبعه على ذلك ابن حمزة و الفاضلان، و جمهور المتأخرين، و القول الأول من الأقوال التي نقلها الشيخ هو المشهور بين أصحابنا، و لم أجد في كلامهم اختيار قول آخر و عرف العلامة (ره) الكبيرة في كتبه كالقواعد و التحرير بأنها ما توعد الله عليه النار، و هو الظاهر من أكثر الأخبار كهذا الخبر، لكن يظهر من بعضها أن الكبائر هي الذنوب التي أوعد الله عليها النار في القرآن، و من بعضها أنها التي أوعد عليها النار أو وقع فيها تهديد و تأكيد أو لعن و تخويف، و من بعضها أنها التي ورد فيها وعيد بالنار أو عقاب شديد في القرآن أو في السنة المتواترة أو الأعم، و سنبين ذلك في شرح الأخبار الآتية إنشاء الله تعالى.

و قال بعض العامة: هي ما توعد الله عليه بعذاب أو قرن بلعنة أو غضب، و رووا ذلك عن ابن عباس، و عنه أيضا أن الكبيرة ما نهى الله سبحانه عنه، و قال الغزالي: هي ما فعل من دون استشعار خوف و لا اعتقاب ندم، لأن الذي يفعل الذنب بدون أحدهما مجترئ متهاون، و ما وقع منهم مع أحدهما صغيرة، و قيل: يعرف الفرق بأن تعرف مفسدة الذنب، فإن نقصت عن مفسدة أقل الكبائر المنصوص عليها فهي صغيرة، و إن ساوتها أو كانت أعظم فهي كبيرة، فالشرك كبيرة بالنص، و تلطخ الكعبة بالقذر و إلقاء المصحف فيه مساو له، و الزنا و القتل كبيرتان بالنص، و حبس امرأة ليزني بها أو ليقبلها لم ينص عليه لكنه أعظم مفسدة من أكل مال اليتيم المنصوص عليه، و الفرار من الزحف كبيرة، و الدلالة على عورة المسلمين مع العلم بأنهم يسبون أموالهم و ذراريهم لم ينص عليه و لكنه أعظم من الفرار من الزحف، و كذلك لو كذب على مسلم كذبة يعلم أنه يقتل بها، و لا يخفى ما في تلك الوجوه من الوهن و الضعف، و ما في هذا الخبر الظاهر أن الكبائر مبتدأ و التي خبر، و

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 6

يحتمل أن يكون الكبائر خبر مبتدإ محذوف و التي صفته، أي الكبائر المذكورة في الآية هي هذه فالصفة إما موضحة أو احترازية، و على الأخير لا ينافي كون جميع الذنوب كبائر لكنه بعيد.

 (الحديث الثاني)

 (1): صحيح.

" كتب معي"

 (2) أي كنت حامل الكتاب‏

" كم هي؟

 (3)" سؤال عن عددها

" و ما هي؟"

 (4) سؤال عن حقيقتها، و كان الأنسب تقديم الثاني على الأول و لذا عكس عليه السلام الترتيب في الجواب‏

" فكتب: الكبائر"

 (5) أي سألت عن الكبائر أو هو خبر مبتدإ محذوف، بتقدير مضافين، أي هذا بيان حقيقة الكبائر، و الحاصل أنه كتب لفظ الكبائر في صدر الكتاب ليعلم أن ما بعدها متعلق ببيانها كما هو المتعارف في ذكر العنوانات، ثم بين عليه السلام حقيقة الكبائر فقال‏

" من اجتنب"

 (6) فهو مبتدأ و كفر على بناء المعلوم أو المجهول خبره، و يظهر منه بتوسط الآية المتقدمة حقيقة الكبائر فإنه عليه السلام ذكر مضمون الآية، و ذكر مكان الكبائر المذكورة في الآية

ما وعد الله عليه النار،

 (7) و الوعد هنا بمعنى الوعيد، ثم بين عليه السلام عدد الكبائر بقوله: و السبع الموجبات، بالكسر، و يحتمل الفتح أي السبع الغير المكفرة الموجبات للنار بمقتضى وعيده، فهو مبتدأ و قتل النفس خبره، و هذا أظهر الوجوه في تأويل الخبر و أولها.

و ثانيها: أن يكون الكبائر مبتدأ و جملة من اجتنب خبرا، فيكون من باب إقامة المظهر موضع المضمر، لأن حاصله: الكبائر من اجتنبها كفر عنه سائر سيئاته، و إنما عبر كذلك لبيان معنى الكبيرة كما مر.

و ثانيها: أن يكون الكبائر مبتدأ و جملة من اجتنب خبرا، فيكون من باب إقامة المظهر موضع المضمر، لأن حاصله: الكبائر من اجتنبها كفر عنه سائر سيئاته، و إنما عبر كذلك لبيان معنى الكبيرة كما مر.

و ثالثها: أن يكون الكبائر مبتدأ و من اجتنب خبره بتقدير مضاف، أي ذنوب من اجتنب،

فقوله: كفر عنه سيئاته‏

 (8) جملة معترضة

و السبع الموجبات‏

 (9) معطوف على‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 7

الخبر عطفا تفسيريا و لا يخفى بعده.

و أقول: على هذا الوجه يمكن التقدير في المبتدأ أي مجتنب الكبائر، و على الوجهين تكون من موصولة لا شرطية.

و رابعها: ما أفاده الوالد قدس الله روحه و هو أنه عليه السلام أراد بيان معنيين للكبائر جمعا بين الأخبار النبوية المختلفة الواردة في ذلك، و حاصله أنه قد تطلق الكبيرة على ما يصير اجتنابها سببا لتكفير غيرها و قد تطلق على الذنوب المغلظة التي تخرج فاعلها من الإيمان و يستوجب بها دخول النار، فالحاصل أنه قال عليه السلام سألت عن الكبائر فأما في هذه الآية فالمراد بها ما أوعد الله عليه النار، و هي أكثر من السبع كما يظهر من خبر عمرو بن عبيد، و أما الكبائر الموجبة للنار فسبع، و هذا وجه وجيه.

و خامسها: ما قيل أن السبع الموجبات عطف على ما وعد الله، أي من اجتنب السبع الموجبات كفر عنه سيئاته، من باب عطف الخاص على العام، لأن الكبائر أكثر منها أو من عطف المفصل على المجمل.

" قتل النفس الحرام"

 (1) يمكن شموله لقتل النفس أيضا، و قتل المعاهد

" و عقوق الوالدين"

 (2) أصل العق الشق، يقال: عق الولد أباه إذا قطع عنه و عصاه و آذاه، و ترك الإحسان إليه، و أما الإيذاء القليل و ترك بعض الحقوق فلا يسمى عقوقا، و إن كان حراما، كما روى الشيخ في الصحيح عن عمر بن يزيد قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن إمام لا بأس به في جميع أمره عارف، غير أنه يسمع أبويه الكلام الغليظ الذي يغيظهما، أقرأ خلفه؟ قال: لا تقرأ خلفه ما لم يكن عاقا قاطعا، و قد مر بعض الكلام فيه و سيأتي إنشاء الله.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 8

" و أكل الربا"

 (1) الربا لغة الزيادة، و شرعا بيع أحد المتماثلين المقدرين بالكيل أو الوزن في عهد صاحب الشرع عليه السلام أو في العادة، بالآخر مع زيادة في أحدهما حقيقة أو حكما، أو اقتراض أحدهما مع الزيادة و إن لم يكونا مقدرين بهما إذا لم يكن باذل الزيادة حربيا، و لم يكن المتعاقدان والدا مع ولده و لا زوجا مع زوجته، و تحريمه ثابت بالنص و الإجماع، و هو من أعظم الكبائر الموبقات، حتى أن الدرهم منه أعظم من سبعين زنية كلها بذات محرم، رواه هشام بن سالم عن الصادق عليه السلام و التخصيص بالأكل لأنه أعظم ما يكتسب له حقيقة أو عادة، على أنه شاع في عرف العرب و العجم إطلاق الأكل على جميع وجوه التصرفات.

" و التعرب بعد الهجرة"

 (2) قال في النهاية فيه: ثلاث من الكبائر منها التعرب بعد الهجرة، هو أن يعود إلى البادية و يقيم مع الأعراب بعد أن كان مهاجرا، و كان من رجع بعد الهجرة إلى موضعه من غير عذر يعدونه كالمرتد، انتهى.

و اعلم أنه اختلف العلماء في أن الهجرة هل تكون بعد فتح مكة أو نسخ وجوبه بعد ذلك كما روي أنه لا هجرة بعد الفتح، و على القول بكونها بعد الفتح ففي أعصار الأئمة الذين جاهدوا كان يجب الهجرة إليهم لنصرتهم، و في أعصار سائر الأئمة عليهم السلام كان يجب الهجرة إليهم لعرض الولاية و النصرة عليهم، و تعلم الأحكام منهم، و أما في أعصار الغيبة فالهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام، و من بلاد لا يمكن فيها تعلم الأحكام إلى بلاد يتيسر فيها ذلك، فالتعرب ترك الهجرة بعد الإتيان بها، و لا ينافي ذلك قوله تعالى:" فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ" لأنه ذكر في الآية

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 9

وجهان: أحدهما: أن يكون المراد عدم اتفاقهم على النفور إلى الجهاد، بل يجب أن يبقى جماعة عند النبي صلى الله عليه و آله و سلم للتفقه و هو الجهاد الأكبر، فإذا رجع النافرون من الجهاد أنذرهم المتخلفون، و ثانيهما: هو المعنى الظاهر و هو أن ينفر من كل فرقة طائفة فيأتوا النبي أو الإمام عليهما السلام للتفقه ثم يرجعوا بعد التفقه إلى قومهم لإنذارهم و تعليمهم، فعلى أول الوجهين عدم التنافي ظاهر، و على الثاني فيمكن أن يقال: التعرب إنما يكون مذموما إذا كان بغير إذن النبي أو الإمام، فإذا كان بإذن يقال: التعرب إنما يكون مذموما إذا كان بغير إذن النبي أو الإمام، فإذا كان بإذن أحدهما للإنذار فلا تعرب، أو يقال التعرب إنما نهي عنه لاستلزامه ترك الدين و البعد عن العلم و الآداب، كما قال تعالى:" الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَ نِفاقاً وَ أَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ" فإذا كان بعد الكمال في الفقه و العلم لا يكون تعربا، و لذا ورد أن التعرب هو ترك التعلم أو ترك الدين فإن النهي عن التعرب إنما هو لأحدهما و قد مر في كتاب العقل عن أبي عبد الله عليه السلام: تفقهوا في الدين فإنه من لم يتفقه منكم في الدين فهو أعرابي، إن الله تعالى يقول في كتابه" لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ".

و قد روي في معاني الأخبار عن حذيفة بن منصور قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: المتعرب بعد الهجرة التارك لهذا الأمر بعد معرفته.

و قال بعض أصحابنا: التعرب بعد الهجرة في زماننا هذا أن يشتغل الإنسان بتحصيل العلم ثم يتركه و يصير منه غريبا. و قال العلامة قدس سره في المنتهى: لما نزل قوله تعالى:" أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها" أوجب النبي صلى الله عليه و آله و سلم المهاجرة على من يضعف عن إظهار شعائر الإسلام، و اعلم أن الناس في الهجرة على أقسام ثلاثة: أحدها: من يجب عليه‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 10

و هو من أسلم في بلاد الشرك، و كان مستضعفا فيهم لا يمكنه إظهار دينه و لا عذر له من مرض و غيره، لقوله تعالى:" إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ ساءَتْ مَصِيراً".

الثاني: من لا يجب عليه لكن يستحب له المهاجرة و هو من أسلم من المشركين و له عشيرة تحميه عن المشركين، يمكنه إظهار دينه و يكون آمنا على نفسه مع مقامه بين أظهرهم كالعباس، و لهذا بعث النبي صلى الله عليه و آله و سلم يوم الحديبية إلى أهل مكة عثمان لأن عشيرته كانت أقوى بمكة، و إنما لم يجب عليه المهاجرة لتمكنه من إظهار دينه و عدم مبالاته بهم، و إنما استحبت له لأن فيه تكثيرا لعددهم، و اختلاطا بهم.

الثالث: من لا تجب عليه و لا تستحب له، و هو من كان له عذر يمنعه من المهاجرة من مرض أو ضعف أو عدم نفقة أو غير ذلك، فلا جناح عليه لقوله تعالى:" إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ وَ الْوِلْدانِ" و لأنهم غير متمكنين و كانوا بمنزلة المكرهين، فلا إثم عليهم، و لو تجددت له القدرة وجبت عليه المهاجرة.

إذا ثبت هذا فإن الهجرة باقية ما دام الشرك باقيا لوجود المقتضي و هو الكفر الذي يعجز معه من إظهار شعائر الإسلام، و لما روي عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنه قال: لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، و لا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مشرقها، و أما ما روي عنه صلى الله عليه و آله و سلم أنه قال: لا هجرة بعد الفتح، فله تأويلان: أحدهما: أنه أراد لا هجرة بعد الفتح فضلها كفضل الهجرة قبل الفتح، لأن الهجرة قبل الفتح‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 11

كانت أفضل منها بعد الفتح، و كذا الإنفاق لقوله تعالى:" لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَ قاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَ قاتَلُوا" الثاني: أنه أراد لا هجرة من مكة لأنها صارت دار الإسلام أبدا، انتهى.

و أقول: يخطر بالبال أنه يحتمل أن يكون المراد بالتعرب بعد الهجرة اختيار الأعرابية و ترك الهجرة بعد وجوب الهجرة و نزول حكمها كالربا بعد البينة، و على التقادير ترك الهجرة ابتداء أو بعد ارتكابها مما أوعد الله عليه النار، حيث قال:" فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ" الآية.

" و قذف المحصنة"

 (1) أي رميها بالزنا، و كان رمي المحصن به أو باللواط مثله، و التخصيص لكونه أشنع، و يحتمل الاختصاص لورود اللعن و وعيد العذاب، و الحكم بالفسق فيه، و المحصنة العفيفة غير المشهورة بالزنا و ظاهر الخبر شموله لما إذا كان القاذف رجلا أو امرأة، و إن كان ظاهر الآيات التخصيص بالرجال، لكن أجمعوا على أن حكم النساء أيضا في الحد كذلك.

قال الطبرسي (ره) في قوله تعالى:" وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ" أي يقذفون العفائف من النساء بالفجور و الزنا" ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَ لا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ" ثم قال: و الآية وردت في النساء و حكم الرجال حكمهن في ذلك بالإجماع. و قال المحقق الأردبيلي قدس الله روحه: و الظاهر أن المذكر في الذين غلب كالتأنيث في المحصنات، فلو قذفت امرأة و قذف رجل محصن به يكون الحكم كذلك بالإجماع المنقول في" ن" و غيره.

و أقول: كذا الكلام في قوله سبحانه:" الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 12

الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ".

" و أكل مال اليتيم"

 (1) الأكل يعم وجوه التصرفات كما مر، و اليتيم في الناس من فقد أباه، و في البهائم من فقد أمه بشرط الصغر فيهما، و قال الزمخشري: لا يشترط لوجود الانفراد في الكبير أيضا إلا أنه غلب استعماله في الصغير، و قال: حديث لا يتم بعد البلوغ، تعليم شريعة لا تعليم لغة، و المراد هنا الصغير و هو مقيد بأكله ظلما كما قيد به في الآية فلا ينافي ما جوزه أكثر الأصحاب للولي الأكل بالمعروف لقوله تعالى:" فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ" و كذا إذا خلط ماله بمال نفسه مع رعاية الغبطة كما هو ظاهر الآية و الأخبار، و سيأتي تفاصيل تلك الأمور في محالها إنشاء الله.

" و الفرار من الزحف"

 (2) الزحف المشي يقال: زحف إليه زحفا و زحوفا من باب منع أي مشى، و يطلق على الجيش الكبير تسمية بالمصدر، و الفرار من العدو بعد الالتقاء بشرط أن لا يزيدوا على الضعف كبيرة، إلا في التحرف لقتال أو التحيز إلى فئة، و المراد بالتحرف لقتال الاستعداد له بأن يصلح آلات الحرب أو يطلب الطعام و الماء لجوعه أو عطشه، أو يجتنب عن مواجهة الشمس و الريح، أو يطلب مكانا أحسن أو نحو ذلك، و قيل: هو الكر بعد الفر يخيل عدوه أنه ينهزم، ثم ينعطف عليه و هو نوع من مكائد الحرب، و المراد بالتحيز إلى فئة الرجوع إليهم للاستعانة بهم مع صلاحيتهم لها، و عدم البعد المفرط بحيث يعد الرجوع إليهم فرارا، و هذه السبعة كلها مما أوعد الله عليه النار صريحا أو ورد فيه ذم بليغ يستلزم العقاب كما سيأتي بيانها إنشاء الله تعالى.

 (الحديث الثالث)

 (3): صحيح.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 13

" قتل المؤمن متعمدا"

 (1) الظاهر أن التعمد في مقابلة الخطإ، و قد وقع في بعض الروايات أن المتعمد هو أن يقتله لإيمانه ليكون الخلود بمعناه.

" و أكل الربا بعد البينة"

 (2) أي بعد الموعظة البينة أو الآية البينة. و المراد بعد العلم فيكون قبله من الصغائر، و المعنى أن الربا الذي يأكلها و يتصرف فيها بعد العلم، فهو من الكبائر و أما ما أخذه قبل العلم فهو له، و لا يجب عليه رده و لا يحرم عليه لقوله تعالى:

" فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى‏ فَلَهُ ما سَلَفَ" لكن اختلف الأصحاب في أن هذا الحكم هل كان مختصا بصدر الإسلام قبل نزول آية تحريم الربا أو جار بعده في كل من لم يعلم حرمة الربا مطلقا أو حرمة بعض شقوقه.

قال الطبرسي (ره):" فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ" معناه فمن جاءه زجر أو نهي و تذكير من ربه فانزجر و تذكر و اعتبر" فَلَهُ ما سَلَفَ" معناه: فله ما أخذ و أكل من الربا قبل النهي لا يلزمه رده، قال الباقر عليه السلام: من أدرك الإسلام و تاب مما كان عليه في الجاهلية وضع الله عنه ما سلف، و قال السدي: معناه له ما أكل و ليس عليه رد ما سلف، فأما ما لم يقبض بعد فلا يجوز له أخذه و له رأس المال.

" وَ أَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ" معناه: و أمره بعد مجي‏ء الموعظة و التحريم و الانتهاء إلى الله إن شاء عصمه عن أكله و ثبته في انتهائه، و إن شاء خذله، و قيل: معناه: و أمره إلى الله في حكم الآخرة إن لم يتب و هو غير مستحل له إن شاء عذبه بعدله و إن شاء عفا عنه بفضله و قيل: معناه و أمره إلى الله فلا يؤاخذه بما سلف من الربا" وَ مَنْ عادَ" إلى أكل الربا بعد التحريم و قال ما كان يقوله قبل مجي‏ء الموعظة من أن البيع مثل الربا" فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ" لأن ذلك القول لا يصدر إلا من كافر مستحل للرباء، انتهى.

                                                مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 14

و قال العلامة روح الله روحه في التذكرة: يجب على آخذ الربا المحرم رده على مالكه إن عرفه و إن لم يعرفه تصدق به عنه، ثم قال: هذا إذا فعل الربا متعمدا و أما إذا فعله جاهلا بتحريمه فالأقوى أنه كذلك، و قيل: لا يجب عليه رده لقوله تعالى:" فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ" الآية، و هو يتناول المال الذي أخذه على وجه الربا، و سئل الصادق عليه السلام عن الرجل يأكل الربا و هو يرى أنه له خلال قال:

لا يضره حتى يصيبه متعمدا فهي بمنزلة الربا التي قال الله تعالى.

" و كل ما أوجب الله عليه النار"

 (1) أي بسببه أو على فاعله، و لما كان ما سوى هذه الست من الكبائر ليست في مرتبتها لم يعد معها مفصلا كأنها بمجموعها كواحد منها.

 (الحديث الرابع)

 (2): صحيح.

" من روح الله"

 (3) أي من رحمته الواسعة المريحة من الشدائد

" و الأمن لمكر الله"

 (4) أي عذابه أو استدراجه و إمهاله عند المعاصي، قال الراغب: المكر صرف الغير عما يقصده بحيلة، و ذلك ضربان مكر محمود و هو أن يتحرى بذلك فعل جميل، و على ذلك قال الله عز و جل:" وَ اللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ" و مذموم و هو أن يتحرى به فعل قبيح قال تعالى:" وَ لا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ". و كان المراد بالشرك جميع أنواع الكفر كما قال تعالى:" إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ".

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 15

 (الحديث الخامس)

 (1): مجهول.

و الروايات الدالة على أن الكبائر مخرجة من الإيمان لا سيما حين ارتكابها كثيرة، و القول فيها متفرع على الاختلاف في حقيقة الإيمان و أن الأعمال داخلة في الإيمان أم لا، و قد تكلمنا فيه في شرح أبواب الإيمان، و للقوم في تأويلها مسالك شتى فمنهم من حملها على ظاهرها، و منهم من حملها علي نفي الكمال و زواله من باب نفي الشي‏ء بنفي صفته و غايته، نحو لا علم إلا ما نفع، و منهم من حملها على أنه ليس آمنا من عقوبة الله، و أورد عليهما بأنه لا وجه لتخصيص هذه المعاصي بل الجميع كذلك، و لا للتخصيص بوقت الفعل كما في بعض الروايات.

و قد يجاب عن الأول بأن الحكم غير مختص بهذه المعاصي، بل نبه بالزنا على جميع ما حرمه الله من الشهوات، و بالخمر على جميع ما يشغل عن الله، و بالسرقة على الرغبة في الدنيا و أخذ الشي‏ء من غير وجهه، و يؤيده ما سيأتي من رواية محمد بن حكيم، و منهم من حملها على نفي اسم المدح أي لا يقال له مؤمن، بل يقال له زان أو شارب أو سارق، و قالت المعتزلة: الفاسق لا يسمى مؤمنا.

و منهم من حملها على زوال النور الناشئ من الإيمان، و هو منقول عن ابن عباس و أيده بقول رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: من زنى نزع الله. نور الإيمان من قلبه فإن شاء رده إليه.

و منهم من حملها على زوال استحضار الإيمان أي لا يزني الزاني و هو مستحضر للإيمان، و يقرب منه قول الفخر الرازي: لا يزني الزاني و هو عاقل، لأن المعصية مع استحضار العقوبة مرجوحة و الحكم بالمرجوح خلاف المعقول، و منهم من حملها على نفي الحياء أي لا يزني الزاني و هو مستحيي من الله، و الحياء خصلة من الإيمان.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 16

 (الحديث السادس)

 (1): مجهول.

" لا يزني الزاني"

 (2) سيأتي في الثالث عشر" يزني" و السائل واحد، و هو أظهر، و إن كان مفادهما واحدا إذ كلمة" لا" هنا في كلامه ليس لنفي، بل لتصديق النفي‏

" سلب الإيمان"

 (3) الإيمان إما مرفوع بنيابة الفاعل أو منصوب بكونه ثاني مفعولي سلب، و المفعول الأول النائب للفاعل الضمير الراجع إلى الزاني‏

" فقال ما أكثر من يريد"

 (4) الحاصل أنه ليس لإرادة العود حكم العود كما أن إرادة أصل المعصية ليست كنفس المعصية فإنها صغيرة مكفرة كما سيأتي، و لو لم تكن مكفرة بعد الفعل باعتبار ترك التوبة و الإصرار على الذنب فلا ريب أن أصل الفعل أشد.

 (الحديث السابع)

 (5): موثق.

قال الله تعالى في سورة النجم:" لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَ يَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى" قال الطبرسي (ره): ثم وصف الذين أحسنوا فقال:

" الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ"

 (6) أي عظائم الذنوب‏

" وَ الْفَواحِشَ"

 (7) جمع فاحشة و هي أقبح الذنوب و أفحشها، و قد قيل: إن الكبيرة كل ذنب ختم بالنار، و الفاحشة كل ذنب فيه الحد

" إِلَّا اللَّمَمَ"

 (8) اختلف في معناه فقيل: هو صغار الذنوب كالنظر و القبلة و ما كان دون الزنا عن ابن عباس، و قيل: هي ما ألموا به في الجاهلية من الإثم فإنه معفو عنه في الإسلام، فعلى هذا يكون الاستثناء منقطعا، و قيل: هو أن يلم بالذنب‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 17

مرة ثم يتوب منه و لا يعود عن الحسن و السدي و هو اختيار الزجاج لأنه قال:

اللمم هو أن يكون الإنسان قد ألم بالمعصية، و لم يقم على ذلك، و يدل على ذلك قوله:" إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ" قال ابن عباس: لمن فعل ذلك و تاب، و معناه أن رحمته واسعة تسع جميع الذنوب و لا تضيق عنها.

و قال البيضاوي:" الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ" ما يكبر عقابه من الذنوب، و هو ما رتب الوعيد عليه بخصوصه، و قيل: ما أوجب الحد" وَ الْفَواحِشَ" و ما فحش من الكبائر خصوصا" إِلَّا اللَّمَمَ" أي ما قل و صغر فإنه مغفور من مجتنبي الكبائر و الاستثناء منقطع، و محل الذين النصب علي الصفة أو المدح، أو الرفع على أنه خبر محذوف" إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ" حيث يغفر الصغائر باجتناب الكبائر، أوله أن يغفر ما شاء من الذنوب صغيرها و كبيرها، و لعله عقب به وعيد المسيئين، و وعد المحسنين، لئلا ييأس صاحب الكبيرة من رحمته و لا يتوهم وجوب العقاب على الله تعالى.

و قال الراغب: اللمم مقاربة المعصية و عبر به عن الصغيرة و يقال: فلان يفعل كذا لمما أي حينا بعد حين، و ذلك قوله:" الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَ الْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ" و هو من قولك ألممت بكذا إذا نزلت به و قاربته من غير مواقعة، و في القاموس: ألم باشر اللمم، و هو محركة صغار الذنوب.

قوله عليه السلام: الفواحش الزنا و السرقة،

 (1) الزنا بالكسر و القصر، و السرقة مثل كلمة و الفعل من باب ضرب، و كان ذكرهما على المثال، و المراد كل ما رتب الله عليه حدا و ذكرها بعد الكبائر تخصيص بعد التعميم.

" و اللمم الرجل"

 (2) أي فعل الرجل أو حاله كقوله تعالى:" وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى‏"

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 18

" يلم"

 (1) على بناء الأفعال، و المراد

بالذنب‏

 (2) الصغائر و ذكر الاستغفار لعدم تحقق الإصرار فتلحق بالكبائر لأنه لا صغيرة مع الإصرار فالاستثناء منقطع، و ربما يحمل الاستغفار على التلفظ به من غير تحقق شرائط التوبة، ليتحقق الفرق بينها و بين الكبائر، أو الكبائر فإنها مع الاستغفار مغفورة كما ورد: و لا كبيرة مع الاستغفار، و حينئذ لا ينافي القول بأن الذنوب كلها كبيرة، و قيل: اللمم بالتحريك مقاربة الذنب، و قيل: هو الصغائر، و قيل: هو أن يفعل الصغيرة ثم لا يعاوده كالقبلة و التفخيذ و غيرهما مما تكفره الصلاة و قيل: هو أن يلم بالشي‏ء و لا يفعله.

قوله: بين الضلال و الكفر منزلة،

 (3) هذا السؤال و جوابه يحتملان وجوها:

" الأول" أن يكون المعنى هل بين حصول أول مراتب الضلال و حصول الكفر منزلة و واسطة؟ فأجاب عليه السلام بأن المنازل كثيرة فإن فعل الفرائض بل مطلق العبادات و ترك المعاصي من عرى الإيمان، فإذا انتفى واحد منها دخل في الضلال، فالمراد بالضلال الخروج عن الكفر و عدم الدخول في الإيمان الكامل.

الثاني: أن يكون المراد بالضلال التكلم بالكلمتين و ترك الولاية و القول بالإمامة إما مطلقا أو مع عدم التعصب في الباطل، و عدم التمكن من الحجة و البرهان كما هو مصطلح الأخبار، و سيأتي بعضها، فحاصل السؤال أنه هل يكون بعد الإيمان منزلة سوى الكفر و الضلال؟ فأجاب عليه السلام بأن عرى الإيمان و شرائطه التي يجب التمسك بها كثيرة فمن تمسك بجميعها فهو مؤمن، و من لم يتمسك بجميعها فإما أن يكون ترك جميعها بأن لم يقر بالشهادتين أيضا فهو كافر، و إما أن يكون أقر

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 19

بالشهادتين و ترك عمدة ما بقي و هي الولاية فهو ضال، و إن تمسك بالولاية أيضا و ترك بعض الفرائض أو أتى ببعض الكبائر فهو فاسق، فهذه منزلة بين الكفر و الضلال، أي ليس بكفر و لا ضلال.

الثالث: ما ذكره بعض المحققين و هو أنه أراد السائل هل يوجد ضال ليس بكافر أو كل من كان ضالا فهو كافر؟ فأشار عليه السلام في جوابه باختيار الشق الأول، و بين ذلك بأن عرى الإيمان كثيرة، منها ما هو بحيث من يتركها يصير كافرا، و منها ما هو بحيث من يتركها لا يصير كافرا بل يصير ضالا فقد تحقق المنزلة بينهما بتحقق بعض عرى الإيمان دون بعض.

الرابع: ما قيل أن المراد إثبات المنزلة بينهما بأن الضال من دخل في الإسلام و لم يدخل في الإيمان، و الكافر من لم يدخل في الإسلام، فبينهما منزلة عريضة هي من الإيمان، و له مراتب كما أشار إليه بقوله: ما أكثر عرى الإيمان، و هي أركان الإيمان و آثاره التي بها يكمل الإيمان و يستقر على سبيل تشبيهها بعروة الكوز في احتياج حملها إلى التمسك بها، فالإيمان بجميع مراتبه منزلة بينهما.

الخامس: ما قيل أيضا أن المراد بالكفر أعم من الخروج من الإيمان و ترك رعاية شي‏ء من آثاره، و إطلاقه على هذا المعنى الأعم شائع، و حينئذ الإيمان الحقيقي و هو المقرون بجميع آثاره منزلة بينهما.

و أقول: كان الوجهين اللذين خطرا بالبال ذكرناهما أولا أظهر الوجوه، و إن كان أكثرها متقاربة.

 (الحديث الثامن)

 (1): حسن كالصحيح.

الكفر بالله‏

 (2) شامل لإنكار جميع العقائد الإيمانية و المخالفون أيضا داخلون‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 20

فيه، و آخر الخبر يدل على أن ترك الفرائض كلها أو بعضها متعمدا كفر، و هذا أحد معاني الكفر الذي ورد في الآيات و الأخبار، كما ورد من ترك الصلاة متعمدا فقد كفر، و كذا ورد في تارك الزكاة أنه كافر، و كذا ترك الحج كما قال تعالى:

" وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ" فهذا هو السر في عدم عد ترك الفرائض بخصوصها في الكبائر، و لعل النكتة فيه أن في ارتكاب المحرمات غالبا شهوة غالبة تغلب على الإنسان حتى يرتكب المعصية كالزنا و اللواط و أمثالهما، أو غضب يغلب عليه يدعوه إلى ارتكاب بعض المحرمات كالقتل و القذف و الشتم و الضرب و الظلم و أمثالها، بخلاف ترك الفرائض فإنه ليس فيه إلا الاستخفاف و التهاون في الدين، و لما كان هذا في الصلاة أظهر و أبين فلذا خص من بينها، إذ في ترك الزكاة و الحج قد يدعو الحرص على المال إلى ذلك، و ترك الصوم قد يدعو الشره و الحرص على الأكل و الشرب إلى ذلك، بخلاف ترك الصلاة فإنه ليس فيه شي‏ء من ذلك، فالتهاون فيه أشد و أظهر.

و يدل على ذلك ما رواه الصدوق رضي الله عنه في كتاب علل الشرائع عن أبيه عن الحميري عن هارون بن مسلم عن مسعدة بن صدقة قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام و سئل ما بال الزاني لا تسميه كافرا و تارك الصلاة قد تسميه كافرا؟ و ما الحجة في ذلك؟ قال: لأن الزاني و ما أشبهه إنما يعمل ذلك لمكان الشهوة لأنها

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 21

تغلبه، و تارك الصلاة لا يتركها إلا استخفافا بها، و ذلك لأنك لا تجد الزاني يأتي المرأة إلا و هو مستلذ لإتيانه إياها، قاصدا إليها، و كل من ترك الصلاة قاصدا إليها فليس يكون قصده لتركها إلى اللذة فإذا امتنعت اللذة وقع الاستخفاف، و إذا وقع الاستخفاف وقع الكفر.

قيل: ما الفرق بين من أتى امرأة فزنا بها أو خمرا فشربها، و بين من ترك الصلاة حتى لا يكون الزاني و شارب الخمر مستخفا كما استخف تارك الصلاة و ما الحجة في ذلك؟ و ما العلة التي تفرق بينهما؟ قال: الحجة أن كلما أدخلت أنت نفسك فيه و لم يدعك إليه داع و لم يغلبك عليه غالب شهوة مثل الزنا و شرب الخمر، و أنت دعوت نفسك إلى ترك الصلاة و ليس ثم شهوة فهو الاستخفاف بعينه، فهذا فرق بينهما، فالمراد بالكفر هنا ما يشمل إنكار أصول الدين و ترك الفرائض التي يؤذن تركها بالاستخفاف بالدين، و فيه إيماء إلى أن ما أطلق عليه لفظ الكفر في الأخبار داخل في الكبائر،

و قوله: يعني،

 (1) كلام المصنف أو بعض الرواة، و كونه من كلامه عليه السلام على سبيل الالتفات كما زعم بعيد جدا.

 (الحديث التاسع)

 (2): ضعيف و سنده الثاني موثق كالصحيح إذ الظاهر أنه معلق على السند السابق، فالراوي عنه محمد بن خالد، و يحتمل على بعد أن يكون الراوي عنه ابن حبيب، فيكون مجهولا، و إن لم يكن معلقا على السابق فهو مرسل، و هو أيضا بعيد.

" أربعون جنة"

 (3) الجنة بالضم السترة، و الجمع جنن بضم الجيم و فتح النون،

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 22

يقال استجن بجنة أي استتر بسترة، ذكره الجوهري و غيره، و كان المراد بالجنن ألطافه سبحانه التي تصير سببا لترك المعاصي و امتناعه فبكل كبيرة سواء كانت من نوع واحد أو أنواع مختلفة يستحق منع لطف من ألطافه، أو رحماته تعالى و عفوه و غفرانه، فلا يفضحه الله بها، فإذا استحق غضب الله سلبت عنه لكن يرحمه سبحانه و يأمر الملائكة بستره، و لكن ليس سترهم كستر الله تعالى.

أو المراد بالجنن ترك الكبائر فإن تركها موجب لغفران الصغائر عند الله، و سترها عن الناس، فإذا عمل بكبيرة لم يتحتم على الله مغفرة صغائره و شرع الناس في تجسس عيوبه، و هكذا إلى أن يعمل جميع الكبائر و هي أربعون تقريبا، فيفتضح عند الله و عند الناس بكبائره و صغائره.

أو أراد بالجنن الطاعات التي يوفقه الله تعالى لفعلها بسبب ترك الكبائر، فكلما أتى بكبيرة سلب التوفيق لبعض الطاعات التي هي مكفرة لذنوبه عند الله، و ساترة لعيوبه عند الناس، و يؤيده ما ورد عن الصادق عليه السلام و ذلك أن الصلاة ستر و كفارة لما بينها من الذنوب، فهذه ثلاثة وجوه خطر بالبال على سبيل الإمكان و الاحتمال.

و الرابع: ما قيل كان الجنن كناية عن نتائج أخلاقه الحسنة، و ثمرات أعماله الصالحة التي تخلق منها الملائكة و أجنحة الملائكة كناية عن معارفه الحقة التي بها يرتقي في الدرجات، و ذلك لأن العمل أسرع زوالا من المعرفة، و إنما يأخذ في بغض أهل البيت لأنهم الحائلون بينه و بين الذنوب التي صارت محبوبة له، و معشوقة لنفسه الخبيثة بمواعظهم و وصاياهم عليهم السلام.

الخامس: ما قيل أن تلك الجنن أجنحة الملائكة و لا يخفى إباء ما بعده عنه إلا بتكلف تام.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 23

السادس: أن المراد بالجنن الملائكة أنفسهم لأنهم جنن له من دفع شر الشيطان و وساوسه، فإذا عمل كبيرة فارق عنه ملك إلى أن يفارق الجميع، فإذا فارقوه جميعا أوحى الله إليهم أن استروه بأجنحتكم من بعيد ليكون محفوظا في الجملة من شر الشياطين، فضمير إليهم في‏

قوله: فيوحي الله إليهم‏

 (1)، راجع إلى الجنن.

و أقول: على الوجوه الأخر ضمير إليهم راجع إلى الملائكة بقرينة ما بعده، و في القاموس‏

اقترف‏

 (2) الذنب أتاه و فعله، و قارفه قاربه و المرأة جامعها، و قال:

تمدح‏

 (3) تكلف أن يمدح و افتخر و تشيع بما ليس عنده، و قال: مدحه كمنعه أحسن الثناء عليه كمدحه و امتدحه و تمدحه فالامتداح استعمل هنا بمعنى التمدح، و في بعض النسخ يتمدح و هو أظهر.

" هذا عبدك"

 (4) قيل: عبدك عطف بيان لهذا

" فإذا فعل"

 (5) على بناء المجهول‏

" ذلك"

 (6) أي رفع الأجنحة أو علي بناء المعلوم فذلك إشارة إلى ما هو سبب رفع الأجنحة.

" قد بقي مهتوك الستر"

 (7) لا يقال: قول الملائكة هذا بناء على أنهم يريدون ستره و هذا ينافي قولهم المذكور قبله لإشعاره بأنهم يريدون هتك ستره؟ لأنا نقول:

دلالة قولهم الأول على ذلك ممنوع، لاحتمال أن يكون طلبا لإصلاحه و توفيقه كما يومئ إليه قوله تعالى:

" لو كان لله فيه حاجة"

 (8) أي كان مستحقا للطف و التوفيق كما مر تحقيقه في الأبواب السابقة، و لو سلم فيحتمل أن يكون طلبهم هتك الستر أولا

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 24

نظرا إلى عظمة معصية الرب عندهم، و ثقل ذلك عليهم، ثم بدا لهم طلب الستر له نظرا إلى رأفتهم و شفقتهم ببني آدم، و يمكن أن يراد بالملائكة ثانيا غير من رفعوا أجنحتهم كما يومئ إليه‏

قوله: فينهتك ستره في السماء

 (1)، فلا منافاة لاختلاف القائلين، و لا ينافيه‏

قوله: ما آمركم‏

 (2)، إذ يمكن أن يكون المراد بالخطاب جنس الملائكة.

 (الحديث العاشر)

 (3): ضعيف على المشهور.

و قد مر شرح أجزاء الخبر إلا

ذكر اليأس من روح الله بعد القنوط من رحمة الله،

 (4) فإنه مما يوهم التكرار لعدم التغاير بينهما، إذ لا فرق بين اليأس و القنوط، و لا بين الروح و الرحمة.

و يحتمل وجوها من التأويل: الأول: أن يكون الثانية مؤكدة للأولى بقرينة وحدة الفقرة المقابلة لهما.

الثاني: أن يكون القنوط من الرحمات الدنيوية كقوله تعالى:" هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا" و الإياس من الرحمات الأخروية كقوله تعالى:

" يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ" و من تتبع موارد استعمالاتهما يظهر له ما ذكرنا.

الثالث: ما قيل أن الرجاء ما يكون في القلب سواء ظهر منه أثر أم لا، و الطمع إظهار الرجاء فهو مستلزم لشدة الرجاء و القنوط إظهار اليأس و هو مستلزم‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 25

لشدة اليأس كما يظهر من الترقي في قوله تعالى:" وَ إِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ" بناء على كون المراد يؤس من روح الله قنوط من رحمة الله، قال في الكشاف: القنوط أن يظهر عليه أثر اليأس فيتضاءل و ينكسر، و في النهاية قد تكرر ذكر القنوط في الحديث و هو أشد اليأس من الشي‏ء، انتهى.

و قال: الرحمة إعطاء المحبوب و الروح دفع الشر و المكروه.

" أ تخرجه"

 (1) أي الكبيرة كعذاب المشركين أي في الخلود و عدم الانقطاع‏

" إذا زعم أنها حلال"

 (2) فيه إيماء إلى أن الكبيرة ما علم تحريمه من الدين ضرورة كالزنا و شرب الخمر و ترك الصلاة، فإن إنكار غير الضروري لا يصير سببا للكفر على المشهور، فهو مؤيد لقول من قال: أن الكبيرة ما علم تحريمه بدليل قطعي و لا يبعد عن قول من قال بأنه ما أوعد الله عليه النار إن فسر بالوعيد في القرآن فإن الظاهر أن جميع ذلك قد صار تحريمها ضروريا

" بأنها كبيرة"

 (3) أي خطيئة عظيمة لا أنها كبيرة بالمعنى المصطلح، فإن ذلك مما تحير فيه العلماء كما فسره‏

بقوله و هي عليه حرام،

 (4) و فسر الحرام بأنه يعذب عليها أي يمكن أن يعذب عليها إن لم يدركه العفو و الرحمة

" و أنها غير حلال"

 (5) تأكيد و توضيح، و يمكن أن يكون الواو بمعنى أو في الجميع باعتبار اختلاف الناس في المعرفة فإن العلماء يعلمون أنها كبيرة، و بعض الناس يعلمون أنه حرام نهى الله عنه، و بعضهم يذعنون بأنه يعذب عليه قطعا كالوعيدية، و احتمالا كغيرهم، لكن الفرق بين قوله و أنها غير حلال‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 26

و بين قوله و هي عليه حرام مشكل، إذ حمله على ما يشمل المكروه مخالف للمشهور، إلا أن يقال المراد أنه لا يعرف معنى الحرام لكن يذعن بهذا الوجه و إن آل إليه، أو المعنى أنه لا يحل بوجه من الوجوه في غير حال الضرورة أو مطلقا، فإن الحل في حال الضرورة كأنه ليس من ضروريات الدين‏

" فإنه معذب عليها"

 (1) أي مع عدم العفو أو على الإمكان‏

" و هو أهون عذابا"

 (2) أي من جهة الانقطاع أو في نفسه مع قطع النظر عنه، و قد مر الكلام في معاني الإسلام و الإيمان في الأبواب الأولة.

 (الحديث الحادي عشر)

 (3): موثق كالصحيح.

و قد مر معنى‏

روح الإيمان‏

 (4)، و حاصله أنه يفارقه كمال الإيمان و نوره و ما يترتب به عليه آثاره إذ الإيمان التصديق بدون تأثيره في فعل الطاعات و ترك المناهي كبدن بلا روح، و قد عرفت أنه قد يطلق على ملك موكل بقلب المؤمن يهديه في مقابلة شيطان يغويه، و على نصرة ذلك الملك، و لا ريب في أن المؤمن إذا زنى فارقه روح الإيمان بتلك المعاني، فإذا فرغ من العمل فإن تاب يعود إليه الروح كاملا و إلا يعود إليه في الجملة، و الضمير المجرور في‏

قوله بروح منه‏

 (5) راجع إلى الله، أو إلى الإيمان و الأول أظهر.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 27

 (الحديث الثاني عشر)

 (1): حسن كالصحيح.

" عاد الإيمان"

 (2) أي إليه فالمراد به الإيمان الكامل، أو الإيمان الذي معه الروح فاللام للعهد، و فيه إشارة إلى أن الإيمان الذي فارقه الروح ليس بإيمان كما أن الجسد الذي فارقه الروح ليس بإنسان، مع أنه يحتمل أن تكون إضافة الروح إلى الإيمان بيانية، و يحتمل أن يكون المراد عاد الإيمان إلى كماله أو إلى حاله التي كان عليها قبل الزنا، أي كما أنه قبل الزنا كان إيمانه قابلا للشدة و الضعف، فكذا بعد الزنا قابل لهما بالتوبة و عدمها، فلا ينافي ما سيأتي من عدم العود إليه إلا بعد التوبة.

و قيل: لعل المراد أنه يسلب منه شعبة من شعب الإيمان و هي إيمان أيضا فإن المؤمن يعلم أن الزنا مهلك و يزهر نور هذا العلم في قلبه، و يبعثه على كف الآلة عن الفعل المخصوص، و كل واحد منهما أعني العلم و الكف إيمان و شعبة من الإيمان أيضا فإذا غلبت الشهوة على العقل و أحاطت ظلمتها بالقلب زال عنه نور ذلك العلم، و اشتغلت الآلة بذلك فانتقضت عن الإيمان شعبتان، فإذا انقضت الشهوة و عاد العقل إلى مالكه و علم وقوع الفساد فيها، و شرع في إصلاحها بالندامة عن الغفلة صار ذلك الفعل كالعدم، و زالت تلك الظلمة عن القلب، و يعود نور ذلك العلم فيعود إيمانه و يصير كاملا بعد ما صار ناقصا، انتهى.

قوله: أ رأيت إن هم،

 (3) أي قصد الزنا هل يفارقه روح الإيمان أو إن كان بعد الزنا قاصدا للعود هل يمنع ذلك عود الإيمان؟

قال: لا

 (4)، و الأول أظهر، و فيما مر في الحديث السابق و يأتي في الثالث عشر الثاني متعين‏

" أ رأيت إن هم"

 (5) أقول‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 28

المعنى أنه كما أن قصد السرقة ليس كنفسها في المفاسد و العقوبات فكذا قصد الزنا ليس كنفسها في المفاسد، أو يقال: لما كان ذكر الزنا على سبيل المثال و الحكم شامل للسرقة و غيرها، فالغرض التنبيه بالأحكام الظاهرة على الأحكام الباطنة، فإن قيل: على الوجهين هذا قياس فقهي و هو ليس بحجة عند الإمامية؟ قلت: ليس الغرض الاستدلال بالقياس، فإنه عليه السلام لا يحتاج إلى ذلك، و قوله: في نفسه حجة لاستنباط العلة و عدم العلم بها، أما مع العلم بها فيرجع إلى القياس المنطقي، لكن يرد عليه أنه لما كان العلم بالعلة من جهة قوله عليه السلام فقوله يكفي لثبوت أصل الحكم فيرجع إلى الوجه الأول.

 (الحديث الثالث عشر)

 (1): مجهول و قد مر مضمونه.

 (الحديث الرابع عشر)

 (2): ضعيف على المشهور، و لا يضر عندي ضعف المعلى لأنه من مشايخ إجازة كتاب الوشاء أو أبان، و هما كانا مشهورين.

" سبعة"

 (3) كان التاء بتأويل الكبيرة بالذنب إن لم يكن من تصحيف النساخ و قيل: الكبائر مبتدأ و سبعة مبتدأ ثان،

و منها

 (4)" صفة للسبعة، و

" قتل"

 (5) خبر المبتدأ الثاني، و الجملة خبر المبتدأ الأول و لا يخلو من وجه، و

قوله عليه السلام: التعرب‏

 (6) و الشرك‏

واحد،

 (7) اعتذار عما يتراءى من المخالفة بين الإجمال و التفصيل في العدد، فالمعنى‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 29

أن المراد بالشرك ما يشمل التعرب أيضا، فإنه بمنزلة الشرك لا سيما على بعض التأويلات المتقدمة، فذكره بعده من قبيل ذكر الخاص بعد العام لبيان الفرد الخفي.

 (الحديث الخامس عشر)

 (1): كالسابق و هو معلق عليه و الاختلاف في آخر السند لكن زياد مجهول، و الظاهر أن الكناسي روى الخبر السابق مع هذه الزيادة

فقوله: و الذي‏

 (2)، عطف على أكل مال اليتيم بتقدير مضاف، أي عمل الذي‏

إذا دعاه أبوه‏

 (3) لحاجة

لعن أباه‏

 (4) أي شتمه و لم يجبه إلى ما دعاه إليه، و قيل: إذا دعاه لحاجة، كنفقة و غيرها أبعده و لم يقض حاجته،

و قوله: يضربه‏

 (5) من الضرب أو الإضرار، ثم أنه يحتمل أن لا تكون في هذه الرواية ذكر العدد، و على تقديره يمكن إدخالهما في العقوق، أما الأول فظاهر و ذكره لكونه أشد العقوق أو أخفه على الاحتمالين، و أما الثاني فلأنه يصير سببا للعقوق، و قيل: فيه تنبيه على أن العقوق يكون من جانب الوالد أيضا و من جعل سبعة في الخبر السابق مبتدأ قدر هنا خبرا و قال:

تقديره و منها الذي، لئلا يكون من عطف المفرد على الجملة.

 (الحديث السادس عشر)

 (6): مرفوع.

و رواه الصفار في البصائر عن أحمد بن محمد عن الحسين بن سعيد عن محمد بن داود عن ابن هارون العبدي عن محمد عن ابن نباتة مثله، و روى أيضا بإسناده عن جابر قال سألت أبا جعفر عليه السلام عن الروح قال: يا جابر إن الله خلق الخلق على ثلاث طبقات‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 30

و أنزلهم ثلاث منازل، و بين ذلك في كتابه حيث قال:" فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ، وَ أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ، وَ السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ" فأما ما ذكر من السابقين و ساق نحو هذا الخبر إلى آخره و قد مر مجمل من هذا الخبر في كتاب الحجة في باب فيه ذكر الأرواح التي في الأئمة عليهم السلام، و قد تكلمنا هناك في تحقيق معنى الروح.

قوله: و حرج منه،

 (1) أي ضاق‏

" حين أزعم"

 (2) أي اعتقد و ادعى موافقا لدعواهم‏

" أن هذا العبد يصلي صلاتي"

 (3) كان قوله صلاتي مفعول مطلق للنوع، و كذا دعائي و المراد

الدعوة

 (4) إلى دين الحق أو الدعاء إلى الرب و طلب الحاجة منه من الصلاة و غيرها و الأول أنسب‏

" و يناكحني"

 (5) أي يعطيني زوجة كبنته و أخته‏

" و أناكحه"

 (6) أي أعطيه زوجة كالبنت و الأخت، و قيل: المفاعلة في تلك الأفعال بمعنى الأفعال، في القاموس:

النكاح الوطء و العقد له نكح كمنع و ضرب، و أنكحها زوجها، و قال:

ورث‏

 (7) أباه و منه بكسر الراء يرثه كيعده ورثا و وراثة و إرثا ورثة بكسر الكل، و أورثه أبوه و ورثه جعله من ورثته، و في المصباح: ورث مال أبيه، ثم قيل: ورث أباه مالا و المال موروث و الأب موروث أيضا و أورثه أبوه مالا جعله له ميراثا، و ورثته توريثا أشركته في الميراث، انتهى.

و أقول: كان الإسناد هنا مجازي، أي جعل الله له في ميراثي و لي في ميراثه نصيبا، و قيل: الإيراث جعل غيره وارثا بإبقاء المال و عدم إتلافه، و لا يخفى ما فيه.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 31

" من أجل ذنب يسير"

 (1) كأنه عده يسيرا لأن الخلل في العقائد الإيمانية أعظم منه، و قيل: اليسير في مقابل الكثير فلا ينافي عظمة الذنوب المذكورة و قيل:

اليسير هنا ما قل زمانه و انقضت لذته سريعا

" صدقت"

 (2) على بناء المعلوم المخاطب أي صدقت فيما أخبرت عنهم، و إن لم يقبله عقلك، أو صدقت في أنهم لا يخرجون عن الإيمان رأسا بحيث تنتفي المناكحة و الموارثة و أمثالهما، أو في أنهم لا يخرجون بمحض ارتكاب الذنب بل بالإصرار عليه أو المعلوم الغائب، و الضمير راجع إلى الناس أو بناء المجهول المخاطب أي صدقوك فيما أخبروك به.

" يقول"

 (3) المفعول محذوف أي يقول ذلك، و الاستدلال بالكتاب إما بالآيات الدالة على حصر المؤمن في جماعة موصوفين بصفات معلومة، و على الأول كما هو الظاهر الاستدلال بأن الظاهر من التقسيم و ما يأتي بعده أن يكون التقسيم إلى الأنبياء و الأوصياء و إلى المؤمنين و إلى الكافرين، و وصف أصحاب اليمين و جزاءهم بأوصاف لا تليق إلا بمن يستحق عقوبة و لم يرتكب كبيرة موجبة للنار، فلا بد من دخول المصرين على الكبائر في أصحاب الشمال، أو بأنه تعالى ذكر في وصف أصحاب الشمال الذين يصرون على الحنث العظيم، فالإصرار على الذنب العظيم يخرج من الإيمان.

قوله عليه السلام: خلق الله الناس على ثلاث طبقات،

 (4) قيل: الخلق بمعنى الإيجاد أو التقدير، و وجه الحصر أن الناس على ثلاث طبقات، قيل: الخلق بمعنى الإيجاد أو التقدير، و وجه الحصر أن الناس إما كافر أو مؤمن، و المؤمن إما أن تكون له قوة قدسية مقتضية للعصمة أو لم تكن، و الأول أصحاب المشيمة، و الأخير أصحاب الميمنة، و الثاني السابقون‏

" و ذلك قول الله"

 (5) إشارة إلى قوله سبحانه في سورة الواقعة

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 32

" وَ كُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً،

فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ

 (1) ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ،

وَ أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ

 (2) ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ،

وَ السَّابِقُونَ‏

 (3) السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ، ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَ قَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ" إلى آخر الآيات و قد مر تفسير الآيات في كتاب الحجة.

و الثلة الجماعة الكثيرة أي هم جماعة كثيرة العدد من الأمم الماضية" وَ قَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ" أي أمة محمد صلى الله عليه و آله و سلم و ذلك لأن السابقين من الأمم الماضية أعني الأنبياء و الأوصياء مائة ألف و أربعة و عشرون ألفا من الأنبياء و مثلهم من الأوصياء، و في هذه الأمة أربعة عشر، فالسابقون من هذه الأمة قليلون بالنسبة إلى الأولين" فإنهم" بكسر الهمزة و قد يقرأ بفتحها أي فلأنهم أنبياء كأنه عليه السلام غلب الأنبياء على الأوصياء، لأن الأوصياء في الأمم السابقة كان أكثرهم أو كلهم أنبياء فهذا يشمل الأئمة عليهم السلام، و قد مر في حديث جابر عن الصادق عليه السلام فالسابقون هم رسل الله و خاصة الله من خلقه، و في رواية أخرى: الأنبياء و الأوصياء، و يمكن عطف غير مرسلين على أنبياء لكنه أبعد، و كان فيه نوع تقية، و في البصائر مرسلين و غير مرسلين، و في القاموس:

عالجه‏

 (4) علاجا و معالجة زواله و داواه، و قال:

الشباب‏

 (5) الفتاء كالشبيبة و جمع الشاب كالشبان، و قال:

دب‏

 (6) يدب دبا و دبيبا مشى على هنيئة، و قال:

درج‏

 (7) دروجا مشى، و في الصحاح دب الشيخ مشى مشيا رويدا.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 33

" فهؤلاء مغفور لهم و مصفوح عن ذنوبهم"

 (1) و هاتان الفقرتان ليستا في البصائر في شي‏ء من الروايتين في الموضعين، و على ما في الكتاب كان الذنب هنا مأول بترك الأولى كما مر مرارا، أو كنايتان عن عدم صدورها عنهم.

" تِلْكَ الرُّسُلُ"

 (2) قال البيضاوي: إشارة إلى الجماعة المذكورة قصصها في السورة أو المعلومة للرسول أو جماعة الرسل، و اللام للاستغراق‏

" فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ"

 (3) بأن خصصناه بمنقبة ليست لغيره‏

" مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ"

 (4) و هو موسى و قيل: موسى و محمد عليهما السلام، كلم موسى ليلة الحيرة و في الطور، و محمدا ليلة المعراج حين كان قاب قوسين أو أدنى، و بينهما بون بعيد

" وَ رَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ"

 (5) بأن فضله على غيره من وجوه متعددة و بمراتب متباعدة، و هو محمد صلى الله عليه و آله و سلم فإنه خص بالدعوة العامة و الحجج المتكاثرة و المعجزات المستمرة و الآيات المتراقية المتعاقبة بتعاقب الدهر، و الفضائل العلمية و العملية الفائتة للحصر و الإبهام، لتفخيم شأنه كأنه العلم المتعين لهذا الوصف المستغني عن التعيين، و قيل: إبراهيم خصصه بالخلة التي هي أعلى المراتب، و قيل: إدريس لقوله تعالى:" وَ رَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا" و قيل: أولو العزم من الرسل.

" وَ آتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ"

 (6) المعجزات الواضحات كإحياء الموتى و إبراء الأكمه و الأبرص، و الإخبار بالمغيبات أو الإنجيل‏

" وَ أَيَّدْناهُ"

 (7) و قويناه‏

" بِرُوحِ الْقُدُسِ"

 (8) بالروح المقدسة كقولك حاتم الجود و رجل صدق، أراد به جبرئيل أو روح عيسى و وصفها به لطهارته عن مس الشيطان أو لكرامته على الله، و لذلك أضافها إلى نفسه، أو لأنه لم تضمها الأصلاب و الأرحام الطوامث أو الإنجيل أو اسم الله الأعظم الذي كان يحيى به الموتى، و خص عيسى عليه السلام بالتعيين لإفراط اليهود و النصارى في‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 34

تحقيره و تعظيمه، و جعل معجزاته سبب تفضيله لأنها آيات واضحة و معجزات عظيمة لم يستجمعها غيره.

" ثم قال في جماعتهم"

 (1) ظاهره أن المراد أنه قال ذلك في عموم الأنبياء و الرسل، و هو مخالف لظاهر سياق الآيات، و المشهور بين المفسرين.

و الآيات هكذا:" كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ، لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ لَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ‏

وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ"

 (2) و قال البيضاوي: أولئك، أي الذين لم يوادوهم.

و أقول: يمكن توجيهه بوجوه: الأول: أن يكون أولئك إشارة إلى الرسل في قوله: و رسلي، و هو و إن كان بعيدا لفظا فليس ببعيد معنى، و لا ينافي ما مر في بعض الأخبار أنه الروح الذي في المؤمنين جميعا و يفارقهم في وقت المعصية، لأنهم أكمل المؤمنين، و فيهم هذا الروح أيضا على وجه الكمال و إن كان في سائر المؤمنين صنف منه، و هذا غير روح القدس كما مر في الخمسة.

الثاني: أن يكون إشارة إلى المؤمنين و ذكره عليه السلام هذه الآية لبيان أنهم أيضا مؤيدون بهذا الروح لأنهم أكمل المؤمنين كما عرفت.

الثالث: أن يكون المراد بجماعتهم الجماعة المخصوصين بالرسل من خواص أممهم و أتباعهم، و كونه في خواص أتباعهم يستلزم كونه فيهم أيضا، و في البصائر في حديث جابر بعد قوله و روح البدن: و بين ذلك في كتابه حيث قال:" تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا" الآية، و بعدها ثم قال: في جميعهم:" وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ" و هذا

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 35

يأبى عن هذا الحمل، بل عن الثاني أيضا إلا بتكلف.

" و هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا"

 (1) أي يكون إيمانهم واقعيا و لا يكون باطنهم مخالفا لظاهرهم فيكونون منافقين على بعض الاحتمالات السابقة أو المراد بهم المؤمنون الذين لا يتركون الفرائض و لا يرتكبون الكبائر إلا اللمم، فالذين يفعلون ذلك و لا يتوبون داخلون في أصحاب الشمال، لكنه يأبى عنه ما سيأتي من التخصيص بأهل الكتاب، و سيأتي القول فيه.

و قوله: بأعيانهم‏

 (2)، ليس في رواية جابر، و كان المعنى بخصوصهم أو بأنفسهم من غير أن يلحق بهم أتباعهم‏

يستكمل هذه الأرواح،

 (3) أي يطلب كمالها و تمامها، أو يتصف بها كاملة، و في البصائر بهذه الأرواح، و أي يطلب كمالها و تمامها، أو يتصف بها كاملة، و في البصائر بهذه الأرواح، و في رواية جابر مستكملا بهذه الأرواح، و هما أظهر، و هما على بناء المفعول، في القاموس استكمله و كمله أتمه و جمله‏

" إِلى‏ أَرْذَلِ الْعُمُرِ"

 (4) في مجمع البيان: أي أدون العمر و أوضعه، أي يبقيه حتى يصير إلى حال الهرم و الخرف، فيظهر النقصان في جوارحه و حواسه و عقله، و روي عن علي عليه السلام أن أرذل العمر خمس و سبعون سنة، و روي مثل ذلك عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم و عن قتادة تسعون سنة

" لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً"

 (5) أي ليرجع إلى حال الطفولية لنسيان ما كان علمه لأجل الكبر، فكأنه لا يعلم شيئا مما كان عليه، و قيل: ليقل علمه بخلاف ما كان عليه في حال شبابه، انتهى.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 36

و قال البيضاوي: و قيل هو خمس و تسعون سنة، و أقول: سيأتي في الروضة إنه مائة سنة، و قيل: الكاف في‏

قوله كما قال الله‏

 (1)، لبيان أن القريب من أرذل العمر أيضا داخل في المراد و ليس بالذي يخرج من دين الله، قال بعض المحققين: إن قيل: قد ثبت أن الإنسان إنما يبعث على ما مات عليه فإذا مات الكبير على غير معرفة فكيف يبعث عارفا؟ قلنا: لما كان مانعة عن الالتفات إلى معارفه أمرا عارضا و هو اشتغاله بتدبير البدن فلما زال ذلك بالموت برزت له معارفه التي كانت كامنة في ذاته، بخلاف من لم يحصل المعرفة أصلا فإنه ليس في ذاته شي‏ء ليبرز له.

" لأن الفاعل به رده"

 (2) أي أن الله الفاعل به المدبر لأمره رده، أو الرب الفاعل به القوي الأربع و خالقها فيه رده، أو فاعل آخر غير نفسه رده، و لا تقصير له فيه، و الأول أظهر و في البصائر: لأن الله الفاعل ذلك به، و هو أصوب‏

" و لا يستطيع التهجد بالليل و لا بالنهار"

 (3) كأنه استعمل التهجد هنا في مطلق العبادة أو يقدر فعل آخر كقولهم:" علفته تبنا و ماءا باردا" و قيل: المراد بالتهجد هنا التيقظ من نوم الغفلة، و أصل التهجد مجانبة الهجود في الليل للصلاة، و في القاموس:

الهجود النوم كالتهجد، و بالفتح المصلي بالليل، و الجمع بالضم، و هجد و تهجد استيقظ كهجد ضد، و في البصائر: و لا الصيام بالنهار و هو أصوب‏

" و لا القيام في الصف"

 (4) أي لصلاة الجماعة، و يحتمل الجهاد.

" و ليس يضره شيئا"

 (5) لأن ترك الأفعال مع القدرة عليها يوجب نقص الإيمان، لا مع العذر و لا يوجب نقص ثوابه أيضا لما ورد في الأخبار أنه يكتب له مثل ما كان‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 37

يعمله في حال شبابه و قوته و صحته" و فيهم" أي في أصحاب الميمنة أو في أصحاب تلك الحالات من ينتقص منه روح القوة أي هي فقط، أو بسبب غير الكبر في السن و

" منهم"

 (1) يحتمل الوجهين المتقدمين، و ثالثا و هو إرجاع الضمير إلى الذين ينتقص منهم روح القوة، و على الوجهين الأخيرين كان المراد مع نقص الروح السابقة لقوله: و يبقى روح البدن.

" لم يحن إليها"

 (2) أي لا يشتاق إليها

" و لم يقم"

 (3) أي إليها لطلبها و مراودتها، و قيل: أي لم تقم آلته لها، و لا يخفى بعده، و في رواية جابر: و قد يأتي على العبد تارات ينقص منه بعض هذه الأربعة، و ذلك قول الله تعالى:" وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى‏ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً" فينتقص روح القوة و لا يستطيع مجاهدة العدو و لا معالجة المعيشة و ينتقص منه روح الشهوة فلو مرت به أحسن بنات بني آدم لم يحن إليها

و تبقى فيه روح الإيمان و روح البدن،

 (4) و فبروح الإيمان يعبد الله، و بروح البدن‏

يدب و يدرج حتى يأتيه مالك الموت،

 (5) إلى آخر الخبر، و كأنه أظهر.

" فهذا مجال خير"

 (6) أي لا يضره هذا النقص في الأرواح، و قيل: المعنى أنه يسقط عنه بعض التكاليف الشرعية كالجماع في كل أربعة أشهر و القسمة بين النساء و لا يخفى ما فيه.

" في قوته"

 (7) كلمة في للسببية أو للظرفية أي في وقت قوته‏

" نقص"

 (8) النقص يكون لازما و متعديا و هنا يحتملهما فعلى الأول المعنى نقص بعض الإيمان، فمن‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 38

بمعنى البعض، أو نقص شي‏ء منه فيكون فاعلا، و على الثاني يكون مفعولا

" و تفصى منه"

 (1) بالفاء أي خرج من الإيمان أو خرج الإيمان منه، في القاموس: أفصى تخلص من خير أو شر كتفصى، و في النهاية: يقال تفصيت من الأمر تفصيا إذا خرجت منه و تخلصت، و ربما يقرأ بالقاف أي بعد منه و هو تصحيف.

" و إن عاد"

 (2) أي من غير توبة على وجه الإصرار، و قيل: هو من العادة

" أدخله الله نار جهنم"

 (3) أي يستحق ذلك و يدخله إن لم يعف عنه، لكن يخرجه بعد ذلك إلا أن يصير مستحلا أو تاركا لولاية أهل البيت عليهم السلام، و يؤيده أن في البصائر هكذا فإذا مسها انتقص من الإيمان، و نقصانه من الإيمان ليس بعائد فيه أبدا أو يتوب فإن تاب و عرف الولاية تاب الله عليه، و إن عاد و هو تارك الولاية أدخله الله نار جهنم.

و أقول: كأنه لم يذكر العود مع الولاية و أبهم ذلك إما لعدم اجتراء الشيعة على المعصية أو لأن الإصرار يصير سببا لترك الولاية غالبا أو أحيانا كما مر.

" فهم اليهود و النصارى"

 (4) كان ذكرهما على المثال، و المراد جميع الكفار و المنكرين للعقائد الإيمانية الذين تمت عليهم الحجة و يؤيده ما في رواية جابر حيث قال: و أما ما ذكرت من أصحاب المشيمة فمنهم أهل الكتاب.

" الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ"

 (5) قال البيضاوي: يعني علماءهم‏

" يَعْرِفُونَهُ"

 (6) الضمير لرسول الله صلى الله عليه و آله و سلم و إن لم يسبق ذكره لدلالة الكلام عليه، و قيل: للعلم أو القرآن أو التحويل يعني تحويل القبلة

" كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ"

 (7) يشهد للأول أي يعرفونه بأوصافه كمعرفتهم أبنائهم و لا يلتبسون عليهم بغيرهم‏

" وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 39

الْحَقَّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ"

 (1) تخصيص لمن عاند و استثناء لمن آمن‏

" الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ"

 (2) كلام مستأنف و الحق إما مبتدأ خبره من ربك، و اللام للعهد و الإشارة إلى ما عليه الرسول أو الحق الذي يكتمونه، أو للجنس و المعنى أن الحق ما ثبت أنه من الله كالذي أنت عليه لا ما لم يثبت كالذي عليه أهل الكتاب، و إما خبر مبتدإ محذوف أي هو الحق و من ربك حال أو خبر بعد خبر، و قرأ بالنصب على أنه بدل من الأول أو مفعول يعلمون.

" فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ"

 (3) الشاكين في أنه من ربك أو في كتمانهم الحق عالمين به، و ليس المراد به نهي رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم عن الشك فيه لأنه غير متوقع منه، و ليس بقصد و اختيار، بل إما تحقيق الأمر و أنه بحيث لا يشك فيه ناظر أو أمر الأمة باكتساب المعارف المزيحة للشك، على الوجه الأبلغ.

قوله: و الولاية،

 (4) أي يعرفون محمدا بالنبوة و أوصياءهم بالإمامة و الولاية، و إنما اكتفى بذكر محمد لأن معرفته على وجه الكمال يستلزم معرفة أوصيائه، أو لأنه الأصل و العمدة

" إنك الرسول إليهم"

 (5) بيان للحق، و في البصائر الحق من ربك الرسول من الله إليهم بالحق، و الظاهر أن قراءتهم عليهم السلام كان على النصب‏

" ابتلاهم الله بذلك"

 (6) أي بسبب ذلك الجحود،

فقوله: فسلبهم‏

 (7) بيان للابتلاء.

و أقول: يحتمل أن يكون الغرض من ذكر الآية بيان سلب‏

روح الإيمان‏

 (8) من هؤلاء بقوله تعالى:" فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ" فإن الظاهر أن هذا تعريض لهم‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 40

بأنهم من الشاكين على أحد وجهين أحدهما: أنه لما جحدوا ما عرفوا سلب الله منهم التوفيق و اللطف، فصاروا شاكين، و مع الشك لا يبقى الإيمان فسلب منهم روحه، لأنه لا يكون مع عدم الإيمان، أو سلب منهم أولا الروح المقوي للإيمان فصاروا شاكين، و ثانيهما: أنهم لما أنكروا ظاهرا ما عرفوا يقينا نسبهم إلى الامتراء و ألحقهم بالشاكين لأن اليقين إنما يكون إيمانا إذا لم يقارن الإنكار الظاهري فلذا سلبهم الروح الذي هو لازم الإيمان، و يؤيده أن في البصائر ابتلاهم الله بذلك الذم، و هذان الوجهان مما خطر بالبال في غاية المتانة.

" و أسكن أبدانهم"

 (1) تخصيص تلك الأرواح بالأبدان لأن الروحين الآخرين ليسا مما يسكن البدن، و إن كانا متعلقين به.

و اعلم أن الروح يذكر و يؤنث و إنما بسطنا الكلام في شرح هذا الخبر لأنه لم يتعرض أحد لإيضاح الدقائق المستنبطة منه.

 (الحديث السابع عشر)

 (2): صحيح على الظاهر و إن كان داود مشتركا لأنه مشترك بين ثقات، و ابن كثير أيضا عندي ثقة.

و من‏

" قوله عز و جل"

 (3) ليس في بعض النسخ، و هو أظهر، و على تقديره فصدر الآية" يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ" أي من حلاله أو من جياده" وَ مِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ" أي و من طيبات ما أخرجنا من الحبوب و الثمر

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 41

و المعادن فحذف المضاف لتقدم ذكره‏

" وَ لا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ"

 (1) أي و لا تقصدوا الردى‏

" مِنْهُ"

 (2) أي من المال أو مما أخرجنا، و تخصيصه بذلك لأن التفاوت فيه أكثر

" تُنْفِقُونَ"

 (3) حال مقدرة من فاعل تيمموا و يجوز أن يتعلق به" منه" و يكون الضمير للخبيث، و الجملة حالا منه، و روي عن ابن عباس أنهم كانوا يتصدقون بحشف التمر و شراره فنهوا عنه.

و أما التشبيه فيحتمل وجوها:

الأول: ما خطر بالبال أن الأعمال الصالحة إنفاق من النفس، و إذا فارقها روح الإيمان بسبب الأعمال السيئة صارت خبيثة، فالمعنى طهروا أنفسكم بترك المعاصي حتى يرد إليها روح الإيمان ثم استعملوها في الأعمال الصالحة حتى تقبل منكم كما قال تعالى:" إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ" فيكون من بطون الآية، و لا ينافي ظاهرها.

الثاني: ما قيل: أن الإيمان يصير خبيثا كالمال الردي‏ء.

الثالث: ما قيل: إن وجه المماثلة إن أيمان الزاني ناقص لا أنه معدوم بكله كما أن النفاق من المال الخبيث ناقص لا أنه ليس بإنفاق أصلا، و الكل لا يخلو من تكلف.

 (الحديث الثامن عشر)

 (4): موثق كالصحيح.

" إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ"

 (5) كان المراد بالشرك الإخلال بكل من العقائد

                                                مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 42

الإيمانية، و بالمغفرة المغفرة بغير توبة، و قال في مجمع البيان: معناه أن الله لا يغفر أن يشرك به أحد و لا يغفر ذنب الشرك لأحد، و يغفر ما دون الشرك من الذنوب لمن يريد، قال المحققون: هذه الآية أرجى آية في القرآن لأن فيه إدخال ما دون الشرك من جميع المعاصي في مشية الغفران، وقف الله سبحانه المؤمنين الموحدين بهذه الآية بين الرجاء و الخوف، و بين العدل و الفضل، و ذلك صفة المؤمن، انتهى.

و روى الصدوق في التوحيد عن علي عليه السلام قال: ما في القرآن آية أحب إلى من قوله:" إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ" الآية، و بإسناده عن أبي ذر رضي الله عنه في حديث طويل قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم إلى قاع حوله حجارة، فقال لي:

اجلس حتى أرجع إليك، فانطلق في الحرة حتى لم أره و توارى عني فأطال، ثم إني سمعته و هو مقبل و هو يقول: و إن زنى و إن سرق، قال: فلم أصبر حتى قلت يا نبي الله جعلني الله فداك من تكلم في جانب الحرة فإني ما سمعت أحدا يرد عليك شيئا قال: ذاك جبرئيل عرض لي في جانب الحرة فقال: بشر أمتك أن من مات لا يشرك بالله عز و جل شيئا دخل الجنة، قال: فقلت: يا جبرئيل و إن زنى و إن سرق؟ قال: نعم، قلت: و إن زنى و إن سرق؟ قال: نعم و إن شرب الخمر، و الذي يدل على أن الشرك شامل للإخلال بجميع العقائد و أن المغفرة مختصة بالمؤمنين الذين صحت عقائدهم ما رواه علي بن إبراهيم في التفسير عن أبي جعفر عليه السلام قال:

أما قوله: إن الله لا يغفر أن يشرك به، يعني أنه لا يغفر لمن يكفر بولاية علي عليه السلام و أما قوله: و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء، يعني لمن والى عليا عليه السلام، و روى الصدوق رحمه الله في الفقيه قال: لقد سمعت حبيبي رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم يقول: لو أن المؤمن خرج من الدنيا و عليه مثل ذنوب أهل الأرض لكان الموت كفارة لتلك الذنوب، ثم قال عليه السلام‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 43

من قال لا إله إلا الله بإخلاص فهو بري‏ء من الشرك، و من خرج من الدنيا لا يشرك بالله دخل الجنة، ثم تلا هذه الآية إلى قوله: لمن يشاء، من شيعتك و محبيك يا علي قال أمير المؤمنين عليه السلام: فقلت: يا رسول الله هذا لشيعتي؟ قال: إي و ربي أنه لشيعتك" الخبر".

" في الاستثناء"

 (1) أي في التعليق بالمشية و قد شاع تسمية التعليق بمشية الله استثناء فإن قولك أفعل ذلك إن شاء الله في قوة قولك إلا أن لا يشاء الله فعلي، و هنا أيضا قوله تعالى:" وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ" في قوة قوله: يغفر ما دون ذلك لكل أحد إلا لمن لا يشاء، أو لا يغفر ما دون ذلك إلا لمن يشاء، و بالجملة يدل الحديث على أن الله سبحانه يغفر لأصحاب الكبائر إن شاء، ردا على من زعم أن المصرين على الكبائر مخلدون في النار.

 (الحديث التاسع عشر)

 (2): كالسابق و معلق عليه.

و قوله: استثناء

 (3)، يمكن أن يقرأ منونا و غير منون.

 (الحديث العشرون)

 (4): صحيح.

و قال الطبرسي (ره) في قوله تعالى:" يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ" ذكر في معنى الحكمة وجوه: قيل: إنه علم القرآن ناسخه و منسوخه و محكمه و متشابهه و مقدمه و مؤخره و حلاله و حرامه و أمثاله عن ابن عباس و ابن مسعود، و قيل: هو الإصابة في القول و الفعل، و قيل: إنه علم الدين، و قيل: هو النبوة، و قيل: هو المعرفة بالله‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 44

و قيل: هو الفهم، و قيل: هو خشية الله و قيل هو القرآن و الفقه عن أبي عبد الله عليه السلام، و قيل: هو العلم الذي تعظم منفعته، و تجل فائدته، و هذا جامع للأقوال، و قيل:

هو ما آتاه الله أنبياءه و أممهم في كتبه و آياته و دلالاته التي يدلهم بها على معرفتهم به و تدينهم، و ذلك تفضل منه يؤتيه من يشاء

" وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ"

 (1) أي و من يعط ما ذكرناه‏

" فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً"

 (2) أي أعطي، انتهى.

و قيل: الحكمة معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم، و أقول: ظاهر كثير من الأخبار أنه العلم الحق المقرون بالعمل، أو العلم اللدني الذي أفاضه الله على قلب العبد بعد العمل، و قد قالوا: الحكيم" راست گفتار درست كردار" و الحديث يدل على أنه صحة أصول العقائد مع اجتناب الكبائر فإن معرفة الإمام يستلزم صحة سائر العقائد، و يمكن إدخال ترك الفرائض أيضا في الكبائر كما ورد في رواية أخرى أنها طاعة الله و معرفة الإمام بل يمكن إدخال سائر العلوم الحقة في معرفة الإمام، لأن معرفتهم حق المعرفة يستلزم أخذ العلوم عنهم بقدر القابلية.

 (الحديث الحادي و العشرون)

 (3): حسن على الظاهر و قد يعد مجهولا لاشتراك محمد بن حكيم بين ممدوح و مجهولين، و عندي أن أحد المجهولين و هو الخثعمي متحد مع الممدوح و الساباطي لم يلق الكاظم عليه السلام.

" و ما دون الكبائر"

 (4) أي الصغائر أيضا و لعله محمول على الإصرار فتصير كبيرة، أو مع عدم اجتناب الكبائر فإن الصغائر غير مكفرة حينئذ و لا استحالة في اجتماع الأسباب الشرعية على معلول واحد، و نقل قول الرسول صلى الله عليه و آله و سلم للاستدلال لإخراج الكبائر فتدبر.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 45

 (الحديث الثاني و العشرون)

 (1): مجهول.

" أهل دعوتنا"

 (2) أي الذين يدعون إلى الدين الذي ندعو إليه، و يدل على أن الذنوب أو الكبائر يخرج من الإيمان ببعض معانيه كما مر مرارا.

 (الحديث الثالث و العشرون)

 (3): صحيح.

" و كان عذابه أهون"

 (4) أي كما و كيفا و قد مر شرحه في عاشر الباب.

 (الحديث الرابع و العشرون)

 (5): صحيح لأن مدح عبد العظيم يربو على التوثيق بمنازل شتى.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 46

" ثم أمسك"

 (1) يعني عن الكلام‏

" فقال نعم"

 (2) لعله قبول لالتماس عمرو أو تصديق‏

لقوله أكبر الكبائر الإشراك بالله‏

 (3) قال الوالد (ره): إطلاق الكبيرة عليه خلاف مصطلح الأصحاب ثم الظاهر أن المراد بالإشراك ما يستحق به الخلود في النار، فيشمل إنكار كل ما هو من أصول الدين.

أقول: و يؤيده أنه فسر في كثير من الأخبار الشرك بترك الولاية، و روي أنه يسلب لا إله إلا الله يوم القيامة من كل أحد إلا من الشيعة، و روي في تفسير قوله تعالى:" وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَ هُمْ مُشْرِكُونَ" أن المعاصي أيضا داخلة في الشرك، و روي أدنى الشرك أن تقول للحصاة إنها نواة، و للنواة إنها حصاة، ثم تحب عليه و تبغض عليه، و بالجملة الشرك له معان مختلفة و إطلاقات كثيرة، و المراد هنا ما يشمل الإخلال بجميع العقائد الإيمانية.

" فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ"

 (4) قال في المجمع: التحريم هنا تحريم منع لا تحريم عبادة، و معناه فإن الله يمنعه الجنة و بعده" وَ مَأْواهُ النَّارُ وَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ" و قال سبحانه حاكيا عن يعقوب عليه السلام:" يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَ أَخِيهِ وَ لا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ" أي من رحمته و فرجه‏

" إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ"

 (5) بالله و بصفاته، فإن العارف لا يقنط من رحمته في شي‏ء من الأحوال.

و قال الطبرسي (ره): لا تيأسوا من روح الله أي لا تقنطوا من رحمته، و قيل:

من الفرج من قبل الله" إِنَّهُ لا يَيْأَسُ" (إلخ) و قال ابن عباس: يريد أن المؤمن من الله‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 47

على خير يرجوه في الشدائد و البلاء، و يشكره و يحمده في الرخاء، و الكافر ليس كذلك، و في هذا دلالة على أن الفاسق الملي لا يأس عليه من رحمة الله بخلاف ما يقوله أهل الوعيد، انتهى.

و أقول: فيه الوعيد بالنار ضمنا فإن الكافر مستحق للنار، و قال الوالد قدس سره: الظاهر من الخبر أن المراد بالآية أن اليأس من رحمته تعالى كفر، و يمكن أن يكون المراد أن غير الكفار نهوا عن اليأس أو اليأس من فعلهم، فالمؤمن الآيس بمنزلتهم و الأول أظهر، انتهى.

و أقول: كان الظاهر من الخبر أن الكبيرة ما أوعد الله عليه النار أو هدده تهديدا عظيما، أو ذمة ذما بليغا، فعلى أي المعاني حملت الآية تدل على كون اليأس كبيرة، و قال (ره) في‏

قوله: ثم الأمن لمكر الله،

 (1) أي عذاب الآخرة أو مع عذاب الدنيا أو الاستدراج بالنعم.

و قال البيضاوي في قوله تعالى:" أَ فَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ" مكر الله استعارة لاستدراج العبد و أخذه من حيث لا يحتسب‏

" فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ"

 (2) أي الذين خسروا بالكفر و ترك النظر و الاعتبار.

و قال الطبرسي (ره): سمي العذاب لنزوله بهم من حيث لا يعلمون كما أن المكر ينزل بالممكور به من جهة الماكر من حيث لا يعلمه، و قيل: إن مكر الله استدراجه إياهم بالصحة و السلامة و طول العمر، و تظاهر النعمة" فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ" الآية، يسأل عن هذا فيقال: إن الأنبياء و المعصومين آمنوا مكر الله و ليسوا بخاسرين و جوابه من وجوه:" أحدها" أن معناه لا يأمن مكر الله من المذنبين إلا القوم الخاسرون بدلالة قوله سبحانه:" إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ"" و ثانيها": أن معناه لا يأمن‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 48

عذاب الله للعصاة إلا الخاسرون، و المعصومون لا يأمنون عذاب الله للعصاة و لهذا سلموا من مواقعة الذنوب" و ثالثها" لا يأمن عقاب الله جهلا بحكمته إلا الخاسرون و معنى الآية الإبانة عما يجب أن يكون عليه المكلف من الخوف لعقاب الله، ليسارع إلى طاعته و اجتناب معاصيه، و لا يستشعر الأمن من ذلك، فيكون قد خسر من دنياه و آخرته، انتهى.

و أقول: الوصف بالخسران يستلزم الوعيد بالعذاب إذ من استحق الثواب و دخل الجنة لا يقال أنه خاسر، بل هو رابح، و إن كان غيره أكثر ربحا، و أيضا لم يصف الله تعالى في القرآن بالخسران إلا الكافرين و المعذبين و حصر الخسران فيهم كقوله تعالى:" وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ"" الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَ يَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ"" وَ مَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ"" الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ"" مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَ مَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ"" أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ"" أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَ هُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ"" وَ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَ كَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ"" قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَ أَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ"" وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ"" لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ"" وَ قالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَ أَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ. أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ".

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 49

و أمثال ذلك في الآيات كثيرة لا تخفى على من تتبعها.

" جعل العاق جَبَّاراً شَقِيًّا"

 (1) إشارة إلى قوله تعالى حاكيا عن عيسى عليه السلام:" وَ بَرًّا بِوالِدَتِي وَ لَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا" قال الطبرسي (ره): و برا بوالدتي أي و جعلني بارا بها أؤدي شكرها فيما قاسته بسببي" وَ لَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً" أي متجبرا" شَقِيًّا" و المعنى أني بلطفه و توفيقه كنت محسنا إلى والدتي متواضعا في نفسي، حتى لم أكن من الجبابرة الأشقياء، انتهى.

و أقول: الآية و إن وردت في بر الوالدة لما لم يكن لعيسى عليه السلام والد لكن الظاهر شمول الحكم للوالد بطريق أولى، مع أنه تعالى قال في قصة يحيى عليه السلام" وَ بَرًّا بِوالِدَيْهِ وَ لَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا" فعلى سياق ما تقدم يدل على أن العاق جبار عاص، و لا يبعد أن يكون أشار عليه السلام إلى الآيتين معا لاشتراك الجبار بينهما، و الاكتفاء بالشقي لأنه أبلغ من العصي في الذم و كون الآيتين غاية في الذم ظاهر، و أما استلزام الوعيد بالنار فلان الجبار في الآيات تطلق على الكفار و المعاندين للحق و البالغين في الظلم، قال الراغب: الجبار في صفة الإنسان يقال لمن يجبر نقيصته بادعاء منزلة من التعالي لا يستحقها، و هذا لا يقال إلا على طريق الذم كقوله تعالى" وَ خابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ" و قوله:" وَ لَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا" و قوله:" إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ" و قوله:" كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى‏ كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ" أي متعال عن قبول الحق و الإذعان له، و يقال للقاهر غيره جبارا، انتهى.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 50

و أما الشقاوة فهي سوء العاقبة و المراد هنا في الآخرة، و لا يكون إلا بالعذاب و دخول النار: و قد قال تعالى:" فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَ شَهِيقٌ خالِدِينَ فِيها" الآية.

و أما العصي فالعصيان مما أوعد عليه النار كما قال تعالى:" وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها" و قال سبحانه:" وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً" و مثله كثير.

" و قتل النفس الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ"

 (1) أي قتلها

" إِلَّا بِالْحَقِّ"

 (2) استثناء عن القتل أو حرم و قالوا: الحق الذي يستباح به قتل النفس المحرم قتلها هي ثلاثة أشياء:

القود، و الزنا بعد إحصانه، و الكفر بعد إيمان، و الآية التي استشهد عليه السلام بها في سورة النساء هكذا:" وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَ لَعَنَهُ وَ أَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً" و ظاهر الآية أن التعمد في مقابلة الخطإ الذي ذكره الله في الآية التي قبلها، حيث قال:" وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً وَ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ" الآية، و هو الظاهر من هذا الخبر أيضا حيث استشهد عليه السلام بها لمطلق القتل، و يشكل حينئذ الحكم بالخلود، و لذا أول بعضهم التعمد بما يرجع إلى الكفر إما بكونه مستحلا للقتل أو قتله لإيمانه، كما ورد في بعض أخبارنا، و قيل: معناه هذا جزاؤه إن جازاه لكنه لا يجازيه، و روي ذلك أيضا عن أبي عبد الله عليه السلام و قيل: هذه الآية منسوخة بقوله تعالى:" إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ" و قالوا الآية اللينة نزلت بعد الشديدة، و قيل: المراد بالخلود المكث الطويل و هذا الوجه أنسب بهذا الخبر، و كذا ما روي أن هذا جزاؤه إن جازاه لا يأبى عنه هذا الخبر، و أما ما روي أن المراد به‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 51

قتله لإيمانه فيمكن أن يكون من بطون الآية فلا ينافي الاستدلال بظاهرها في هذا الخبر، و سيأتي تمام الكلام في الآية في محله إن شاء الله.

" و قذف المحصنة"

 (1) أي رمي العفيفة غير المشهورة بالزنا بها، و صدر الآية:

" إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ" في المجمع: أي يقذفون العفائف من النساء" الْغافِلاتِ" عن الفواحش" الْمُؤْمِناتِ" بالله و رسوله" و اليوم الآخر

لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ"

 (2) أي أبعدوا من رحمة الله في الدارين، و قيل: استحقوا اللعنة فيهما و قيل: عذبوا في الدنيا بالجلد و رد الشهادة و في الآخرة بعذاب النار

" وَ لَهُمْ"

 (3) مع ذلك‏

" عَذابٌ عَظِيمٌ"

 (4) و هذا الوعيد عام لجميع المكلفين.

و آية

أكل مال اليتيم‏

 (5) هكذا" الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى‏ ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ" فقوله: ظلما حال أو تميز أي ظالمين أو من جهة الظلم و التقييد للبيان و الكشف، فإن أكل أموالهم لا يكون إلا ظلما كما في" يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ" و للتقييد لأنه يجوز أكل ما لهم بالحق كالأكل أجرة بالمعروف، أو عوضا عما أقرضه إياهم أو مستقرضا من مالهم، و المراد بالأكل جميع التصرفات كما مر

" إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ"

 (6) أي ملأ بطونهم، يقال: أكل فلان في بطنه و في بعض بطنه كذا في الكشاف، و قيل: ذكر البطون للتأكيد مثل" يطير بجناحيه" و نظرت بعيني‏

نارا

 (7) أي ما يجر إلى النار و يؤول إليها و قيل: أكلها كناية عن دخولها، و قيل: المراد به أكلها يوم القيامة لما روي عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم يبعث الله قوما من قبورهم تتأجج أفواههم نارا فقيل: من هم؟ فقال: أ لم تر أن الله يقول:" إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 52

أَمْوالَ الْيَتامى‏" إلى‏

قوله:" سَعِيراً"

 (1) سيدخلون نارا و أي نار.

و أقول: روي عن الباقر عليه السلام مثل ذلك، و روي عنه عليه السلام أيضا في تفسير هذه الآية أنه قال: و ذلك أن آكل مال اليتيم يجي‏ء يوم القيامة و النار تلتهب في بطنه حتى تخرج لهب النار من فيه، يعرفه أهل الجمع أنه آكل مال اليتيم، و يظهر من حديث المعراج أن هذا عذابه في البرزخ حيث قال صلى الله عليه و آله و سلم: أنه رأى قوما يقذف في أفواههم النار و يخرج من أدبارهم، فقيل: هؤلاء الذين أكلوا مال اليتيم في الدنيا و السعير في الآخرة، و قال البيضاوي: يقال صلى النار قاسى حرها، و صليته شويته و أصليته و صليته ألقيته فيها، و السعير فعيل بمعنى مفعول من سعرت.

النار إذا لهبتها.

" وَ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ"

 (2) في المجمع: أي من يجعل ظهره إليهم يوم القتال، و وجهه إلى جهة الانهزام، و أراد بقوله:" يَوْمَئِذٍ" ذلك الوقت و لم يرد به بياض النهار خاصة دون الليل‏

" إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ"

 (3) أي إلا تاركا موقفا إلى موقف آخر أصلح للقتال من الأول، و قيل: معناه إلا متعلقا مستطردا كأنه يطلب عورة يمكنه إصابتها فيتحرف عن وجهه، و يرى أنه يفر ثم يكر و الحرب كر و فر

" أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى‏ فِئَةٍ"

 (4) أي منحازا منضما إلى جماعة من المسلمين يريدون العود إلى القتال ليستعين بهم‏

" فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ"

 (5) أي احتمل غضب الله و استحقه و قيل: رجع بغضب من الله‏

" وَ مَأْواهُ جَهَنَّمُ"

 (6) أي مرجعه إلى جهنم، انتهى.

و الخبر يدل على أن حكم الآية عام لكنه مقيد بما إذا لم يزد العدو عن الضعف ردا على من قال أنه مخصوص بأهل بدر.

و قال تعالى:

" الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا"

 (7) قال البيضاوي: أي الآخذون له و إنما

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 53

ذكر الأكل لأنه أعظم منافع المال، و لأن الربا شائع في المطعومات‏

" لا يَقُومُونَ"

 (1) إذا بعثوا من قبورهم‏

" إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ"

 (2) إلا قياما كقيام المصروع، و هو وارد على ما يزعمون أن الشيطان يخبط الإنسان فيصرع، و الخبط ضرب على غير اتساق كخبط العشواء

" مِنَ الْمَسِّ"

 (3) أي الجنون، و هذا أيضا من زعماتهم أن الجني يمسه فيختلط عقله، و لذا قيل: جن الرجل، و هو متعلق بلا يقومون أي لا يقومون من المس الذي بهم بسبب أكل الربا، أو يقوم أو يتخبط فيكون نهوضهم و سقوطهم كالمصروعين، لا لاختلال عقلهم، و لكن لأن الله أربى في بطونهم ما أكلوا من الربا فأثقلهم، انتهى.

و حاصله كما صرح به بعض الأصحاب أنهم لا يقومون من قبورهم بسبب الربا و وزره و ثقله عليهم قياما مثل قيام صحيح العقل، بل مثل قيام المجانين فيسقطون تارة، و يمشون على غير الاستقامة أخرى، و لا يقدرون على القيام أخرى فكان ما أكلوا من الربا أربى في بطونهم فصار شيئا ثقيلا على ظهورهم، فلا يقدرون على القيام و المشي على الاستقامة.

و قال في المجمع: لا يقومون يوم القيامة إلا مثل ما يقوم الذي يصرعه الشيطان من الجنون، و يكون ذلك أمارة لأهل الموقف على أكله الربا عن ابن عباس و جماعة، و قيل: إن هذا على وجه التشبيه لأن الشيطان لا يصرع الإنسان على الحقيقة، و لكن من غلب عليه المرة السوداء و ضعف، ربما يخيل إليه الشيطان أمورا هائلة و يوسوس إليه فيقع الصرع عند ذلك من فعل الله تعالى، و نسب ذلك إلى الشيطان مجازا لما كان ذلك عند وسوسته عن الجبائي، و قيل: يجوز أن يكون الصرع من فعل الشيطان في بعض الناس دون بعض عن ابن الهزيل و ابن الإخشيد

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 54

قالا: لأن الظاهر من القرآن يشهد به و ليس في العقل ما يمنع منه، و لا يمنع الله سبحانه الشيطان عنه امتحانا لبعض الناس و عقوبة لبعض على ذنب ألم به و لم يتب منه، كما يتسلط بعض الناس على بعض فيظلمه و يأخذ ماله و لا يمنعه الله منه، و يكون هذا علامة لآكلي الربا يعرفون بها يوم القيامة، كما أن على كل عاص من معصية علامة تليق به فيعرف بها صاحبها، و على كل مطيع من طاعته أمارة يليق به فيعرف بها صاحبها.

ثم قال: و روى أصحابنا عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم:

لما أسري بي إلى السماء رأيت أقواما يريد أحدهم أن يقوم و لا يقدر عليه من عظم بطنه، فقلت: من هؤلاء يا جبرئيل؟ فقال: هؤلاء الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس و إذا هم بسبيل آل فرعون يعرضون على النار غدوا و عشيا يقولون ربنا متى تقوم الساعة، انتهى.

و أقول: ظاهر هذا الخبر أن هذا عذابهم في البرزخ في أجسادهم المثالية و إن احتمل أن يكون هذا صورة حالهم في القيامة مثلت له صلى الله عليه و آله و سلم لكنه بعيد.

" و السحر"

 (1) أي عمله أو الأعم منه و من تعلمه و تعليمه، و اختلف في حقيقته و تعريفه، قال الشهيد الثاني (ره): هو كلام أو كتابة أو رقية أو أقسام و عزائم و نحوها، يحدث بسببها ضرر على الغير، و منه عقد الرجل عن زوجته بحيث لا يقدر على وطيها، و إلقاء البغضاء بينهما، و منه استخدام الملائكة و الجن و استنزال الشياطين في كشف الغائبات و علاج المصاب و استحضارهم و تلبسهم ببدن صبي أو امرأة و كشف الغائب على لسانه فتعلم ذلك و أشباهه و عمله و تعليمه كله حرام، و التكسب به سحت، و يقتل مستحله، و لو تعلمه ليتوقى به أو ليدفع به المتنبي بالسحر فالظاهر جوازه، و ربما وجب على الكفاية كما اختاره الشهيد في دروسه،

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 55

و يجوز حله بالقرآن و الأقسام كما ورد في رواية العلاء، و هل له حقيقة أو هو تخيل؟ الأكثر على الثاني، و يشكل بوجدان أثره في كثير من الناس على الحقيقة، و التأثر بالوهم إنما يتم لو سبق للقابل علم بوقوعه، و نحن نجد أثره فيمن لا يشعر به أصلا حتى يضربه، و لو حمل تخييله على ما يظهر من تأثيره في حركات الحيات و الطيران و نحوهما، أمكن لا في مطلق التأثير به و إحضار الجان و شبه ذلك، فإنه أمر معلوم لا يتوجه دفعه، انتهى.

و في التخصيص بالضرر و غير ذلك مما أغمضنا عنه نظر.

و قال الطبرسي (ره): السحر و الكهانة و الحيلة نظائر و قال صاحب العين:

السحر عمل يقرب إلى الشياطين و من السحر الآخذة التي تأخذ العين متى تظن أن الأمر كما ترى، و ليس الأمر كما ترى، فالسحر عمل خفي لخفاء سببه، يصور الشي‏ء بخلاف صورته، و يقلبه من جنسه في الظاهر، و لا يقلبه عن جنسه في الحقيقة، أ لا ترى إلى قول الله تعالى:" يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى‏" انتهى.

و أقول: قد بسطنا القول في ذلك في كتاب السماء و العالم من الكتاب الكبير.

" و اليمين الغموس"

 (1) قال في النهاية: فيه اليمين الغموس تذر الديار بلاقع، هي اليمين الكاذبة الفاجرة كالتي يقتطع بها الحالف مال غيره، سميت غموسا لأنها تغمس صاحبها في الإثم ثم في النار، و فعول للمبالغة، انتهى.

و أقول إسناد الفجور إلى اليمين على المجاز، في المصباح فجر الحالف فجورا كذب.

" وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ"

 (2) صدر الآية هكذا:" وَ الَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَ لا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَ لا يَزْنُونَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ" و الظاهر

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 56

أنه إشارة إلى الزنا كما هو ظاهر الخبر و قول الأكثر، و قيل: إشارة إلى الجميع‏

" يَلْقَ أَثاماً"

 (1) قيل أي جزاء إثم، و في المجمع: أي عقوبة و جزاء لما فعل، قال الفراء: إثمه الله يأثمه إثما و أثاما أي جازاه جزاء الإثم، و قيل: إن أثاما اسم واد في جهنم ثم فسر سبحانه لقي الآثام‏

بقوله:" يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ"

 (2) يريد سبحانه مضاعفة أجزاء العذاب، لا مضاعفة الاستحقاق، لأنه تعالى لا يجوز أن يعاقب أكثر من الاستحقاق لأن ذلك ظلم و هو منفي عنه، و قيل: معناه أنه يستحق على كل معصية منها عقوبة فيضاعف عليه العذاب، و قيل: المضاعفة عذاب الدنيا و عذاب الآخرة

" وَ يَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً"

 (3) أي و يدوم في العذاب مستخفا به، انتهى.

و أقول: على تقدير كون ذلك إشارة إلى الزنا و إلى كل واحد مما ذكر لا بد من تأويل في الخلود، أو حمل الفعل على ما إذا كان على وجه الاستحلال كما مر.

" إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ"

 (4) في المجمع: أي يستبدلون بعهد الله أي بأمر الله سبحانه ما يلزمهم الوفاء به‏

" وَ أَيْمانِهِمْ"

 (5) أي و بالأيمان الكاذبة

" ثَمَناً قَلِيلًا"

 (6) أي عوضا نذرا و سماه قليلا لأنه قليل في جنب ما يفوتهم من الثواب، و يحصل لهم من العقاب‏

" أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ"

 (7) أي لا نصيب وافر لهم في نعيم الآخرة.

و أقول: إنما اكتفى عليه السلام بهذا الجزء من الآية لأن من لا نصيب له من ثواب الآخرة يكون إما مخلدا أو معذبا عذابا طويلا عظيما مبالغة، أو المراد إلى آخر الآية فإن بعده" وَ لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَ لا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ لا يُزَكِّيهِمْ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ" و في المجمع: نزلت في جماعة من أحبار اليهود كتموا ما في التوراة من أمر محمد صلى الله عليه و آله و سلم و كتبوا بأيديهم غيره و حلفوا أنه من عند الله، لئلا تفوتهم الرئاسة و ما كان لهم على أتباعهم، و قيل: نزلت في الأشعث بن قيس و خصم له في أرض‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 57

قام ليحلف عند رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم فلما نزلت الآية نكل الأشعث و اعترف بالحق و رد الأرض، و قيل: نزلت في رجل حلف يمينا فاجرة في تنفيق سلعته، قال:

و في تفسير الكلبي عن ابن مسعود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم يقول: من حلف بيمين كاذبة يقتطع بها مال امرء مسلم هو فيها فاجر لقي الله و هو عليه غضبان، و تلا هذه الآية أورده مسلم أيضا في الصحيح.

" و الغلول"

 (1) قال في النهاية: قد تكرر ذكر العلول في الحديث هو الخيانة في المغنم و السرقة من الغنيمة قبل القسمة يقال: غل في المغنم يغل غلولا فهو غال، و كل من خان في شي‏ء خفية فقد غل، و سميت غلولا لأن الأيدي فيها مغلولة أي ممنوعة مجعول فيها غل و هو الحديدة التي تجمع يد الأسير إلى عنقه، و يقال لها جامعة أيضا و أحاديث الغلول في الغنيمة كثيرة، و قال الجوهري: غل من المغنم غلولا أي خان و أغل مثله، قال ابن السكيت و لم نسمع في المغنم إلا غل غلولا و قرئ: و ما كان لنبي أن يغل و يغل، قال: فمعنى يغل يخون و معنى يغل يحتمل معنيين: أحدهما يخان بمعنى أن يؤخذ من غنيمته و الآخر يخون أي ينسب إلى الغلول، و في الحديث لا أغلال و لا إسلال، أي لا خيانة و لا سرقة، و يقال: لا رشوة، انتهى.

و الآية هكذا:" وَ ما كانَ لِنَبِيٍّ" في المجمع: أي ما كان لنبي الغلول أي لا تجتمع النبوة و الخيانة

" وَ مَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ"

 (2) معناه أنه يأتي به حاملا على ظهره، كما روي في حديث طويل: ألا لا يغلن أحد بعيرا فيأتي به على ظهره يوم القيامة له رغاء، ألا لا يغلن أحد فرسا فيأتي يوم القيامة به على ظهره له حمحمة فيقول: يا محمد يا محمد فأقول قد بلغت قد بلغت فلا أملك لك من الله شيئا عن ابن عباس و غيره، و قال الجبائي: و ذلك ليفتضح به على رؤوس الأشهاد، و قال البلخي‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 58

يجوز أن يكون ما تضمنه الخبر على وجه المثل، كان الله إذا فضحه يوم القيامة جرى ذلك مجرى أن يكون حاملا له و له صوت.

و قد روي في خبر آخر أن النبي صلى الله عليه و آله و سلم كان يأمر مناديا فينادي في الناس:

ردوا الخيط و المخيط لأن الغلول عار و شنار يوم القيامة، فجاء رجل بكبة من شعر فقال: إني أخذتها لأخيط برذعة بعير لي فقال النبي صلى الله عليه و آله و سلم: أما نصيبي منها فهو لك، فقال الرجل: أما إذا بلغ الأمر هذا المبلغ فلا حاجة لي فيها، و الأولى أن يكون معناه و من يغلل يوافي بما غل يوم القيامة فيكون حمل غلوله على عنقه أمارة يعرف بها، و ذلك حكم الله في كل من وافى القيامة بمعصية لم يتب منها، أو أراد الله سبحانه أن يعامله بالعدل أظهر عليه من معصيته علامة تليق بمعصيته ليعلمه أهل القيامة بها، و يعلموا سبب استحقاقه العقوبة، كما قال سبحانه:" فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَ لا جَانٌّ" و هكذا حكمه سبحانه في كل من وافى القيامة بطاعة فإنه سبحانه يظهر من طاعته علامة يعرف بها، انتهى.

و أقول: يحتمل أن يكون المراد بالغلول في الآية و هذا الخبر مطلق الخيانة و السرقة.

و آية الزكاة هكذا:" يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَ الرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ وَ لا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ" قال البيضاوي: يجوز أن يراد به الكثير من الأحبار و الرهبان ليكون مبالغة في وصفهم بالحرص على المال و الضن بها و أن يراد المسلمون الذين يجمعون المال و يقتنونه و لا يؤدون حقه و يكون اقترانه بالمرتشين من أهل الكتاب للتغليظ.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 59

و في المجمع: أي يجمعون المال و لا يؤدون زكاته فقد روي عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنه قال: كل مال لم تؤد زكاته فهو كنز و إن كان ظاهرا و كل مال أديت زكاته فليس بكنز، و إن كان مدفونا في الأرض، و به قال ابن عباس و الحسن و الشعبي و السدي قال الجبائي: و هو إجماع، و روي عن علي عليه السلام ما زاد على أربعة آلاف فهو كنز أدى زكاته أم لم تؤد و ما دونها فهو نفقة، و تقدير الآية: و الذين يكنزون الذهب و لا ينفقونه في سبيل الله و يكنزون الفضة و لا ينفقونها في سبيل الله، فحذف المفعول من الأول لدلالة الثاني عليه كما حذف المفعول في الثاني لدلالة الأول عليه في قوله" وَ الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَ الذَّاكِراتِ" و التقدير و الذاكرات الله و أكثر المفسرين على أن قوله وَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ، على الاستئناف، و المراد بذلك مانعوا الزكاة من هذه الأمة، و قيل: إنه معطوف على ما قبله، و الأولى أن يكون محمولا على العموم في الفريقين.

" فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ" أي أخبرهم بعذاب موجع" يَوْمَ يُحْمى‏ عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ" أي توقد على الكنوز أو على الذهب و الفضة في نار جهنم حتى تصير نارا.

و قال البيضاوي: أي يوم توقد النار ذات حمي شديدة عليها، و أصله يحمى بالنار فجعل الأحماء للنار مبالغة ثم حذفت النار و أسند الفعل إلى الجار و المجرور تنبيها على المقصود، فانتقل من صيغة التأنيث إلى صيغة التذكير، و إنما قال عليها و المذكور شيئان لأن المراد بهما دنانير و دراهم كثيرة، و كذا قوله: و لا ينفقونها.

و قيل: الضمير فيهما للكنوز أو الأموال فإن الحكم عام و تخصيصهما بالذكر لأنهما قانون التمول أو للفضة و تخصيصها لقربها و دلالة حكمها على أن الذهب أولى بهذا الحكم‏

" فَتُكْوى‏ بِها جِباهُهُمْ وَ جُنُوبُهُمْ وَ ظُهُورُهُمْ"

 (1) لأن جمعهم و إمساكهم‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 60

كان لطلب الوجاهة بالغنى و التنعم بالمطاعم الشهية و الملابس البهية، أو لأنهم ازوروا عن السائل و أعرضوا عنه، و ولوه ظهورهم أو لأنها أشرف الأعضاء الظاهرة فإنها المشتملة على الأعضاء الرئيسة التي هي الدماغ و القلب و الكبد، أو لأنها أصول الجهات الأربع التي هي مقاديم البدن و مآخيره و جنبتاه. و في المجمع: إنما خص هذه الأعضاء لأنها معظم البدن، و كان أبو ذر الغفاري يقول: بشر الكانزين بكي في الجباة، و كي في الجنوب، و كي في الظهور، حتى يلتقي الحر في أجوافهم، و لهذا المعنى الذي أشار أبو ذر خصت هذه المواضع بالكي لأن داخلها جوف بخلاف اليد و الرجل، و قيل: إنما خصت هذه المواضع بالعذاب لأن الجبهة محل الوسم لظهورها و الجنب محل الألم، و الظهر محل الحدود، و قيل: لأن الجبهة محل السجود لظهورها و الجنب محل الألم، و الظهور محل الحدود، و قيل: لأن الجبهة محل السجود فلم يقم فيه بحقه، و الجنب مقابل القلب الذي لم يخلص في معتقده، و الظهر محل الأوزار قال:" يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى‏ ظُهُورِهِمْ" و قيل: لأن صاحب المال إذا رأى الفقير قبض جبهته و زوى ما بين عينيه و طوى عنه كشحه و ولاه ظهره.

" هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ" أي يقال لهم في حال الكي أو بعده: هذا جزاء ما كنزتم، و جمعتم المال و لم تؤدوا حق الله عنها و جعلتموها ذخيرة لأنفسكم" فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ" أي فذوقوا العذاب بسبب ما كنتم تكنزون أي تجمعون و تمنعون حق الله منه، فحذف لدلالة الكلام عليه و قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: ما من عبد له مال و لا يؤدي زكاته إلا جمع يوم القيامة صفائح يحمى عليها في نار جهنم فتكوى جبهته و جنباه و ظهره حتى يقضي الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون ثم يرى سبيله إما إلى الجنة و إما إلى النار.

" لأن الله عز و جل يقول"

 (1) الآية هكذا:" وَ لا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ" قال البيضاوي‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 61

أيها الشهود أو المديونون، و شهادتهم إقرارهم على أنفسهم‏

" وَ مَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ"

 (1) أي يأثم قلبه أو قلبه يأثم، و الجملة خبر إن و إسناد الإثم إلى القلب لأن الكتمان تقترفه، و نظيره: العين زانية و الأذن زانية، أو للمبالغة لأنه رئيس الأعضاء و أفعاله أعظم الأفعال، و كأنه قيل: تمكن الإثم في نفسه و أخذ أشرف أجزائه وفاق سائر ذنوبه.

و قال الطبرسي (ره): أضاف الإثم إلى القلب و إن كان الإثم للجملة لأن اكتساب الإثم بكتمان الشهادة يقع بالقلب لأن العزم على الكتمان إنما يقع به، و لأن إضافة الإثم إلى القلب أبلغ في الذم كما أن إضافة الإيمان إلى القلب أبلغ في المدح، قال سبحانه:" أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ" انتهى.

و أقول: ثاني الوجهين اللذين ذكراه أوفق بالخبر، فإن تلك المبالغة مما يستلزم وعيد العذاب و العقاب، فإنها تشعر بأنها أفحش من أكثر الذنوب، و يؤثر في القلب الذي هو محل العقائد و يفسده.

ثم اعلم أنه عليه السلام ذكر

شهادة الزور

 (2) و لم يستدل على كونها كبيرة بشي‏ء، و يحتمل وجهين" أحدهما" أنها تدل عليها أيضا لأن شهادة الزور إنما تكون غالبا مع العلم بخلافه، فمن شهد بالزور فقد كتم الشهادة التي عنده" و ثانيهما" أنها تدل عليها بالطريق الأولى، إذ لو كان كتمان الحق و السكون عنه كبيرة كان إظهار خلاف الحق و التكلم به أولى بذلك، و لذا لم يستدل بقوله تعالى:

" وَ الَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ" لأنه لا يدل على التحريم فضلا عن كونه من الذنوب العظيمة، مع أنه يحتمل أن يكون المراد به لا يحضرون مجالس الباطل بل هو الأظهر، و قال به الأكثر، و عن الصادقين عليهما السلام أنه الغناء و لا بقوله تعالى:

" فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ" لأنه لا يدل على أكثر من‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 62

التحريم، مع أن الأكثر فسروه بمطلق الكذب و إن كان يشمله كما نهى عن عبادة الأوثان، أي ذكرهما في آية واحدة و سياق واحد، فيدل على مقاربتهما في وجوب تركهما و ترتب العقاب على فعلهما، و لذا ورد: شارب الخمر كعابد الوثن، و أيضا قال سبحانه:" فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" فيدل على أن فاعل كل منهما لا يفلح، و عدم الفلاح إنما يكون بترتب العذاب و العقاب.

" أو شيئا مما فرض الله"

 (1) أي في الصلاة من الواجبات و الشروط و قيل: أي مطلقا فيكون إجمالا بعد تفصيل بعض الكبائر لبعض المصالح.

قال الوالد قدس سره: يمكن التعميم للاختصار ليدخل فيه ترك الحج و الصوم و الجهاد مع الوجوب و غيرها من الواجبات و إن ذكر عقوبة ترك الصلاة فقط ليحال عليها غيرها، و ليتدبر في البواقي كما ذكر تعالى في الحج:" وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ‏

" لأن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم قال‏

 (2) هذا مما يشعر بأن وعيد النار أو ما يستلزمه أعم من أن يكون في الكتاب أو في السنة، و يمكن أن يكون الخبر ورد تفسيرا لبعض الآيات الواردة في ذلك كقوله تعالى:" وَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ" فإن الصلاة من أعظم عهود الله التي أخذها على العباد.

و أقول: يؤيده ما سيأتي في كتاب الصلاة بأسانيد عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: الصلوات الخمس المفروضات من أقام حدودهن و حافظ على مواقيتهن لقي الله يوم القيامة و له عنده عهد يدخله به الجنة و من لم يقم حدودهن و لم يحافظ على مواقيتهن لقي الله و لا عهد له إن شاء عذبه و إن شاء غفر له، و يحتمل أن يكون عليه السلام ذكر الحديث استطرادا و لم يتعرض للآيات لكثرتها و ظهورها، كقوله تعالى:" ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ" و قوله:" فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ" و أمثال ذلك كثيرة.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 63

و كان هذا أحسن من الأول لأن الظاهر أن الوعيد الذي ورد في أخبار الكبائر ما يفهم من ظاهر القرآن و إلا فعلم كل شي‏ء في القرآن كما ورد في الأخبار الكثيرة.

" فقد بري‏ء من ذمة الله و ذمة رسوله"

 (1) أي من عهدهما كما مر في الخبر أو من أمانهما أي ليس ممن عهد الله إليه أن لا يعذبه و لا ممن آمنه الله من عذابه‏

" و نقض العهد"

 (2) أي مع الله في العهد و النذر و اليمين، أو مع الإمام في البيعة، و قيل:

في جميع الواجبات و ترك المنهيات و حمله على مخالفة الوعد مع المؤمنين و شروطهم مطلقا بعيد.

و أما الآية فقد قال سبحانه قبل ذلك:" الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَ لا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ، وَ الَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَ يَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ" و قال الطبرسي رحمه الله في قوله:" الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ" أي يؤدون ما عهد الله إليهم و ألزمهم إياه عقلا و سمعا فالعهد العقلي ما جعله في عقولهم من اقتضاء صحة أمور و فساد أمور أخر كاقتضاء الفعل للفاعل و أن الصانع لا بد أن يرجع إلى صانع غير مصنوع، و إلا أدى إلى ما لا يتناهى، و أن للعالم مدبرا لا يشبهه و العهد الشرعي ما أخذه النبي صلى الله عليه و آله و سلم على المؤمنين من الميثاق المؤكد باليمين أن يطيعوه و لا يعصوه و لا يرجعوا عما ألزموه من أوامر شرعه و نواهيه، و إنما كرر ذكر الميثاق و إن دخل جميع الأوامر و النواهي في لفظة العهد لئلا يظن ظان أن ذلك خاص فيما بين العبد و ربه، فأخبر أن ما بينه و بين العباد من المواثيق كذلك في الوجوب و اللزوم، و قيل: أنه كرره تأكيدا.

" وَ الَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ" قيل: المراد به الإيمان بجميع الرسل و الكتب، كما في قوله:" لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ" و قيل: هو صلة محمد و موازرته و معاونته و الجهاد معه، و قيل: هو صلة الرحم عن ابن عباس، ثم ذكر

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 64

أخبارا كثيرة تدل على المعنى الأخير ثم قال تعالى:" وَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَ يَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ الدَّارِ".

و في القاموس:

الصرخة

 (1) الصيحة الشديدة و كغراب الصوت أو شديدة و الصارخ المغيث و المستغيث ضد و الصارخة الإغاثة.

و أقول: قد أحصى والدي قدس سره في بعض مؤلفاته ما يستنبط من الأخبار المختلفة أنها من الكبائر فمنها الشرك، و اليأس من روح الله، و الأمن من مكر الله و قتل النفس، و عقوق الوالدين، و القذف، و أكل مال اليتيم بغير حق، و الفرار من الزحف، و الربا، و السحر، و الكهانة، و الزنا، و اللواط، و السرقة لا سيما من الغنيمة، و الحلف كاذبا، و ترك الفرائض: الصلاة و الزكاة و صوم شهر رمضان و تأخير الحج عن سنة الاستطاعة بغير عذر، و شهادة الزور، و كتمان الشهادة، و شرب الخمر بل كل مسكر و نكث الصفقة و نقض العهد مع الله و مع الخلق، و قطع الرحم، و التعرب بعد الهجرة، و الكذب على الله و على رسوله و على الأئمة عليهم السلام، و الغيبة، و البهتان و قيل: ترك جميع السنن و منع الزيادة من الماء السابلة مع حاجتهم و عدم حاجته، و عدم الاحتراز عن البول، و التسبب إلى سب الوالدين، و الإضرار في الوصية، و سخط قضاء الله و الاعتراض على قدره على قول فيهما، و التكبر و الحسد و عداوة المؤمنين و الإلحاد في الحرم و في المدينة و النم و قطع عضو مؤمن بغير حق و أكل الميتة و سائر النجاسات، و القيادة، و الإصرار على الصغيرة، و الأمر بالمنكر و النهي عن المعروف، على احتمال و كذا الكذب، و خلف الوعد و الخيانة، و لعن المؤمنين و سبهم و إيذاؤهم بغير سبب، و ضرب الخادم زائدا على ما يستحقه و مانع الماء المباح عن‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 65

مستحقه، و ساد الطريق المسلوك، و تضييع العيال و التعصب، و الظلم و الغدر، و كونه ذا لسانين، و تحقير المؤمنين و تجسس عيوبهم و تعييرهم و الافتراء عليهم و سبهم و سوء الظن بهم و تخويفهم، و بخس المكيال و الميزان، و ترك الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و الجلوس في مجالس الفساق لا سيما شرب الخمر بغير ضرورة، و البدعة في الدين، و الجلوس مع أهلها، و تحقير السيئة و القمار و أكل الحرام، فمن الأمر بالمنكر إلى هنا احتمال كونها كبيرة و الله يعلم.

فائدة

قال بعض المحققين: قد ذكر بعض العلماء ضابطة يعلم بها كبائر المعاصي عن صغائرها بل مراتب التكاليف الشرعية كلها أو جلها، و ملخصها أنا نعلم بشواهد الشرع و أنوار البصائر جميعا أن مقصود الشرائع كلها سياقة الخلق إلى جوار الله و سعادة لقائه و أنه لا وصول لهم إلى ذلك إلا بمعرفة الله تعالى، و معرفة صفاته و رسله و كتبه، و إليه الإشارة بقوله عز و جل:" وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" أي ليكونوا عبيدا و لا يكون العبد عبدا ما لم بعرف ربه بالربوبية و نفسه بالعبودية فلا بد و أن يعرف نفسه و ربه، فهذا هو المقصود الأصلي ببعثة الأنبياء، و لكن لا يتم هذا إلا في الحياة الدنيا، و هو المعنى لقوله عليه السلام: الدنيا مزرعة الآخرة، فصار حفظ الدنيا أيضا مقصودا تابعا للدين، لأنه وسيلة إليه و المتعلق من الدنيا بالآخرة شيئان النفوس و الأموال، فكلما يسد باب معرفة الله فهو أكبر الكبائر و يليه ما يسد باب حياة النفوس، و يلي ذلك ما يسد يأب المعايش التي بها حياة النفوس، فهذه ثلاث مراتب، فحفظ المعرفة على القلوب، و الحياة على الأبدان، و الأموال على الأشخاص ضروري في مقصود الشرائع كلها، و هذه ثلاثة أمور لا يتصور أن تختلف فيها الملل، فلا يجوز أن يبعث الله نبيا يريد ببعثه إصلاح الخلق في دينهم‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 66

و دنياهم ثم يأمرهم بما يمنعهم عن معرفته و معرفة رسله و يأمرهم بإهلاك النفوس و إهلاك الأموال.

فحصل من هذا أن الكبائر على ثلاث مراتب:" الأولى" ما يمنع عن معرفة الله و معرفة رسله و هو الكفر فلا كبيرة في المعاصي فوق الكفر، كما لا فضيلة فوق الإيمان على مراتبه في قوة المعرفة و ضعفها لأن الحجاب بين العبد و بين الله هو الجهل، و يتلو الجهل بحقائق الإيمان أعني الكفر الأمن من مكر الله، و القنوط من رحمته، فإن هذا باب من الجهل بالله بل عينه، فمن عرف الله لم يتصور أن يكون آمنا من مكره و لا أن يكون آيسا من رحمته و يتلو هذه الرتبة البدع كلها المتعلقة بذات الله و صفاته و أفعاله، و بعضها أشد من بعض.

المرتبة الثانية: قتل النفوس إذ ببقائها تدوم الحياة و بدوامها تحصل المعرفة و الإيمان بالله و آياته فهو لا محالة من الكبائر و إن كان دون الكفر لأنه يصدم عن المقصود، و هذا يصدم عن وسيلته، و يتلو هذه الكبيرة قطع الأطراف و كل ما يفضي إلى الهلاك حتى الضرب و بعضها أكبر من بعض، و يقع في هذه المرتبة تحريم الزنا و اللواط لأنه لو اجتمع الناس على الاكتفاء بالذكور لا نقطع النسل، و دفع الوجود قريب من رفعه و أما الزنا فإنه و إن لم يفوت أصل الوجود و لكن يشوش الأنساب و يبطل التوارث و التناصر و ما يتعلق بهما من عدم انتظام العيش و تحريك أسباب يكاد يفضي إلى التقاتل.

المرتبة الثالثة: تلف الأموال لأنها معائش الخلق فلا بد من حفظها إلا أنه إذا أخذت أمكن استردادها و إن أكلت أمكن تغريمها، فليس يعظم الأمر فيها، نعم إذا أخذ بطريق يعسر التدارك له فينبغي أن يكون ذلك من الكبائر، و ذلك بطرق خفية كالسرقة و أكل الولي مال اليتيم و تفويته بشهادة الزور و باليمين الغموس فإن في هذه الطرق لا يمكن الاسترداد و التدارك، و لا يجوز أن تختلف الشرائع في‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 67

تحريمها أصلا، و بعضها أشد من بعض، و كلها دون المرتبة الثانية المتعلقة بالنفوس و أما أكل الربا فلا بد أن تختلف فيه الشرائع إذ ليس فيه إلا أكل مال الغير بالتراضي مع الإخلال بشرط وضعه، إلا أن الشارع عظم الزجر عنه، وعده من الكبائر لمصلحة يراها و إن لم يجعل الغصب الذي هو أكل مال الغير بغير رضاه و بغير رضا الشرع منها و الله أعلم.

و قال الشهيد قدس سره: كل ما توعد الشرع عليه بخصوصه فإنه كبيرة و قد ضبط ذلك بعضهم، فقال: هي الشرك بالله تعالى، و القتل بغير حق، و اللواط، و الزنا، و الفرار من الزحف، و السحر، و الربا، و قذف المحصنات، و أكل مال اليتيم و الغيبة بغير حق، و اليمين الغموس، و شهادة الزور، و شرب الخمر، و استحلال الكعبة و السرقة، و نكث الصفقة، و التعرب بعد الهجرة، و اليأس من روح الله تعالى، و الأمن من مكر الله تعالى، و عقوق الوالدين، و كل هذا ورد في الحديث منصوصا عليه بأنه كبيرة، و ورد أيضا التهمة، و ترك السنة و منع ابن السبيل فضل الماء، و عدم التنزه من البول و التسبب إلى شتم الوالدين، و الإضرار في الوصية.

و هناك عبارات أخر في حد الكبيرة، منها كل معصية توجب الحد، و منها التي يلحق بها صاحبها الوعيد الشديد بكتاب أو سنة، و منها كل معصية يوجب في جنسها حد، و هذه الكبائر المعدودة عند الناس يرجع إلى ما يتعلق بالضروريات الخمس التي هي مصلحة الأديان و النفوس و العقول و الأنساب و الأموال لمصلحة الدين، منها ما يتعلق بالاعتقاد، و هو إما كفر و هو الشرك بالله تعالى، أو ليس بكفر و هو ترك السنة إذا لم ينته إلى الكفر، و تدخل فيه مقالات المبتدعة من الأمة كالمرجئة و الخوارج و المجسمة و قد يكون الاعتقاد في نفسه خطاء و إن لم يسم كفرا و لا بدعة كالأمن من مكر الله تعالى، و اليأس من روح الله سبحانه، و يدخل فيه كل ما أشبهه كالسخط بقضاء الله تعالى، و الاعتراض بقدره و قد يكون من أفعال القلوب المتعدية

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 68

كالكبر و الحسد و الغل للمؤمنين، و من مصالح الدين ما يتعلق بالبدن إما قاصرا كالإلحاد في الحرم، فيدخل فيه شبهه كإخافة المدينة الشريفة و الإلحاد فيها، و الكذب على النبي و الأئمة عليهم السلام، و إما متعديا و قد نص على النميمة و السحر و التولي من الزحف و نكث الصفقة لأن ضرره متعد و أما مصلحة النفس فكالقتل بغير حق و يدخل فيه جناية الطرف، و أما العقل فشرب الخمر و يدخل فيه كل مسكر، و أكل الميتة و سائر النجاسات في معناه، لاشتمال الخمر على النجاسة، و أما الأنساب فالزنا و اللواط و يدخل فيها القيادة، و من النسب عقوق الوالدين و الإضرار في الوصية.

باب استصغار الذنب‏

 (1)

 (الحديث الأول)

 (2): حسن كالصحيح موثق.

" اتقوا المحقرات"

 (3) لأن التحقير يوجب الإصرار و ترك الندامة الموجبين للبعد عن المغفرة

" غير ذلك"

 (4) أي غير ذلك الذنب.

و أقول: مثل هذا الكلام يمكن أن يذكر في مقامين: أحدهما: بيان كثرة معاصيه و عظمتها، و أن له معاصي أعظم من ذلك، و ثانيهما: بيان حقارة هذا الذنب و عدم الاعتناء به، و كأنه محمول على الوجه الأخير.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 69

 (الحديث الثاني)

 (1): موثق.

" في السر"

 (2) أي في الخلوة أو في القلب، و على الأول التخصيص لأن الإخلاص فيه أكثر و لاستلزامه الخوف في العلانية أيضا

" حتى تعطوا"

 (3) أي حتى يبلغ خوفكم درجة يصير سببا لإعطاء الإنصاف و العدل من أنفسكم للناس، و لا ترضون لهم ما لا ترضون لأنفسكم، أو حتى تعطوا

الإنصاف من أنفسكم‏

 (4) أنكم تخافون الله و ليس عملكم لرئاء الناس، و كان الأول أظهر.

 (الحديث الثالث)

 (5): مجهول.

" بأرض قرعاء"

 (6) أي لا نبات و لا شجر فيها تشبيها بالرأس الأقرع، و في القاموس قرع كفرح ذهب شعر رأسه و هو أقرع و هي قرعاء و الجمع قرع و قرعان بضمهما، و رياض قرع بالضم بلا كلاء، و في النهاية: القرع بالتحريك هو أن يكون في الأرض ذات الكلاء موضع لا نبات فيها كالقرع في الرأس‏

حتى رموا بين يديه‏

 (7) أي كثر و ارتفع و الطالب للذنوب هو الله سبحانه و ملائكته‏

" ما قَدَّمُوا"

 (8) أي أسلفوا في حياتهم‏

" وَ آثارَهُمْ"

 (9) ما بقي عنهم بعد مماتهم يصل إليهم ثمرته أما حسنة كعلم علموه أو حبيس وقفوه،

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 70

أو سيئة كإشاعة باطل أو تأسيس ظلم أو نحو ذلك‏

" و الإمام المبين"

 (1) اللوح المحفوظ و قيل: القرآن، و قيل: كتاب الأعمال، و في كثير من الأخبار أنه أمير المؤمنين عليه السلام و كأنه من بطون الآية، و أما

قوله:" أَحْصَيْناهُ"

 (2) فيحتمل أن يكون في الأصل أحصاه فصحف النساخ موافقا للآية، أو هو على سبيل الحكاية، و قرأ بعض الأفاضل نكتب بالنون موافقا للآية، فيكون لفظ الآية خبرا لأن أي طالبها هذه الآية على الإسناد المجازي، و له وجه لكنه مخالف للمضبوط في النسخ، و قد مر بعض القول في الآية في العاشر من باب الذنوب.

باب الإصرار على الذنب‏

 (3)

 (الحديث الأول)

 (4): مجهول.

و أما أنه‏

لا كبيرة مع الاستغفار

 (5)، فالمراد بالاستغفار التوبة و الندم عليها و العزم على عدم العود إليها، و مع التوبة لا يبقى أثر الكبيرة و لا يعاقب عليها، و أما أنه‏

لا صغيرة مع الإصرار

 (6) فيدل على أن الإصرار على الصغيرة كبيرة كما ذكره جماعة من الأصحاب، و ربما يجعل هذا مؤيدا لما مر من أن المعاصي كلها كبيرة، بناء على أن المراد بالإصرار الإقامة على الذنب بعدم التوبة و الاستغفار كما يدل عليه الخبر الآتي، و روي من طريق العامة عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم ما أصر من استغفر، و يرد عليه أنه يجوز أن يكون المراد بالإصرار المداومة عليه و العزم على المعاودة، فإن ذلك أنسب‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 71

باللغة قال الجوهري: أصررت على الشي‏ء أي أقمت و دمت، و في النهاية: أصر على الشي‏ء يصر إصرارا إذا لزمه و دامه و ثبت عليه، و في القاموس: أصر على الأمر لزم و قريب منه كلام مجمل اللغة.

و قال الشيخ البهائي قدس سره: قد يفهم من نفي الصغيرة مع الإصرار أنها تصير كبيرة معه فلو لبس الحرير مثلا مصرا عليه يصير ذلك اللبس كبيرة و المشهور فيما بين القوم أن الكبيرة هي نفس الإصرار على الصغيرة المصر عليها تصير بالإصرار كبيرة، فكأنهم يحملون الحديث على معنى أنه لا أثر للصغيرة في ترتب العقاب مع الإصرار بل العقاب معه يترتب على نفس الإصرار الذي هو من الكبائر، فكأن الصغيرة مضمحلة في جنبه و الإصرار في الأصل من الصر و هو الشد و الربط، و منه سميت الصرة، ثم أطلق على الإقامة على الذنب من دون استغفار، كان المذنب ارتبط بالإقامة عليه، كذا ذكره المفسرون في تفسير قوله تعالى:" وَ لَمْ يُصِرُّوا عَلى‏ ما فَعَلُوا وَ هُمْ يَعْلَمُونَ".

و قال الشهيد رفع الله درجته: الإصرار إما فعلي و هو المداومة على نوع واحد من الصغائر بلا توبة، أو الإكثار من جنس الصغائر بلا توبة، و إما حكمي و هو العزم على فعل تلك الصغيرة بعد الفراغ منها، أما من فعل الصغيرة و لم يخطر بباله توبة و لا عزم على فعلها، فالظاهر أنه غير مصر و لعله مما تكفره الأعمال الصالحة من الوضوء و الصلاة و الصيام كما جاء في الأخبار، انتهى.

و قال الشيخ البهائي روح الله روحه بعد نقل هذا الكلام: و لا يخفى أن تخصيصه الإصرار الحكمي بالعزم على تلك الصغيرة بعد الفراغ منها يعطي أنه لو كان عازما على صغيرة أخرى بعد الفراغ مما هو فيه لا يكون مصرا، و الظاهر أنه مصر أيضا و تقييده ببعد الفراغ منها يقتضي بظاهره أن من كان عازما مدة سنة على لبس الحرير مثلا لكنه لم يلبسه أصلا لعدم تمكنه لا يكون في تلك المدة مصرا و هو

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 72

محل نظر، انتهى.

و أقول: كان نظره في غير محله لأن الظاهر من الأخبار الكثيرة و أقوال الجم الغفير من الأصحاب عدم المؤاخذة على العزم على المعاصي، مع عدم الإتيان بها، و أما قول الشهيد (ره) بتكفير الأعمال الصالحة للصغائر فلعله مع عدم اجتناب الكبائر و معه يكفرها اجتنابها كما مر، و قال بعض العامة: الإصرار هو إدامة الفعل و العزم على إدامته إدامة يصح معها إطلاق وصف العزم عليه، و قال بعضهم:

هو تكرار الصغيرة تكرارا يشعر بقلة المبالاة إشعار الكبيرة بذلك، أو فعل صغائر من أنواع مختلفة بحيث يشعر بذلك، ثم إن العلامة قدس سره لم يعد من الكبائر الإصرار على الصغائر في بعض كتبه، و كان ذلك لدخوله في الكبائر.

 (الحديث الثاني)

 (1): ضعيف.

و قد مر القول فيه، و يدل على أحد معاني الإصرار كما أومأنا إليه، و قال به بعض الأصحاب فقال: المراد

بالإصرار

 (2) عدم التوبة لكن رده بعضهم لضعفه و مخالفته لظاهر اللغة فقيل: المراد بالإصرار على الصغيرة الإكثار منها، سواء كان من نوع واحد أو أنواع مختلفة، و قيل: هو الإصرار على نوع واحد منها، و قيل:

يحصل بكل منهما، و ظاهر الأصحاب أن الإكثار من الذنوب و إن لم يكن من نوع واحد بحيث يكون ارتكابه للذنب أغلب من اجتنابه عنه إذا عن له من غير توبة فهو قادح في العدالة بل لا خلاف في ذلك بينهم، نقل الجماع عليه العلامة في التحرير فلا فائدة في تحقيق كونه داخلا في مفهوم الإصرار أم لا، و ظاهر المحقق أنه غير داخل في مفهوم الإصرار، و كذا من كلام العلامة في الإرشاد و القواعد.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 73

و قال في التحرير: و عن الإصرار على الصغائر أو الإكثار منها، ثم قال: و أما الصغائر فإن داوم عليها أو وقعت منه في أكثر الأحوال ردت شهادته إجماعا و على كل تقدير فالمداومة و الإكثار من الذنب و المعصية قادح في العدالة و أما العزم عليها بعد الفراغ ففي كونه قادحا تأمل إن لم يكن ذلك اتفاقيا، و في صحيحة عمر ابن يزيد أن إسماع الكلام الغليظ للأبوين لا يوجب ترك الصلاة خلفه ما لم يكن عاقا قاطعا، و هي تدل على أن مثل ذلك العزم غير قادح إذ الظاهر أن إسماع الكلام المغضب للأبوين معصية.

 (الحديث الثالث)

 (1): حسن موثق.

و فيه إشعار بأن الإصرار على الصغيرة كبيرة إذ يبعد أن تكون الصغيرة المكفرة مانعة عن قبول الطاعة، و في الخبر إيماء إلى قوله تعالى:" إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ".

باب في أصول الكفر و أركانه‏

 (2)

 (الحديث الأول)

 (3): صحيح.

و كان المراد

بأصول الكفر

 (4) ما يصير سببا للكفر أحيانا لا دائما و للكفر

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 74

أيضا معان كثيرة، منها ما يتحقق بإنكار الرب سبحانه، و الإلحاد في صفاته، و منها ما يتضمن إنكار أنبيائه و حججه أو ما أتوا به من أمور المعاد و أمثالها، و منها ما يتحقق بمعصية الله و رسوله، و منها ما يكون بكفران نعم الله تعالى إلى أن ينتهي إلى ترك الأولى فالحرص يمكن أن يصير داعيا إلى ترك الأولى أو ارتكاب صغيرة أو كبيرة حتى ينتهي إلى جحود يوجب الشرك و الخلود، فما في آدم عليه السلام كان من الأول ثم تكامل في أولاده حتى انتهى إلى الأخير، فصح أنه أصل الكفر، و كذا سائر الصفات، و قيل: قد كان إباء إبليس لعنه الله من السجود عن حسد و استكبار، و إنما خص الاستكبار بالذكر لأنه تمسك به حيث قال:" أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ" أو لأن الاستكبار أقبح من الحسد، انتهى.

و قوله: فأما الحرص‏

 (1) فهو مبتدأ، و

قوله: فإن‏

 (2)، إلى قوله: أكل منها خبر، و العائد تكرار المبتدأ وضعا للظاهر موضع المضمر، مثل الحاقة ما الحاقة،

و قوله:

فإبليس‏

 (3) بتقدير فمعصية إبليس و كذا

قوله: فأبناء آدم‏

 (4) بتقدير فمعصية ابني آدم، أي معصية أحدهما كما قيل.

 (الحديث الثاني)

 (5): ضعيف على المشهور.

و أركان الكفر

 (6) قريب من أصوله و لعل المراد

بالرغبة

 (7) الرغبة في الدنيا و الحرص عليها، أو اتباع الشهوات النفسانية، و

بالرهبة

 (8) الخوف من فوات الدنيا و اعتباراتها بمتابعة الحق أو الخوف من القتل عند الجهاد، و من الفقر عند أداء

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 75

الزكاة، و من لؤم اللائمين عن ارتكاب الطاعات و إجراء الأحكام، و قيل: الخوف من فوات الدنيا و الهم من زوالها و هو يوجب صرف العمر في حفظها و المنع من أداء حقوقها، و

بالسخط

 (1) عدم الرضا بقضاء الله، و انقباض النفس في أحكامه و عدم الرضا بقسمة، و

بالغضب‏

 (2) ثوران النفس نحو الانتقام عند مشاهدة ما لا يلائمها من المكاره و الآلام.

 (الحديث الثالث)

 (3): ضعيف.

" حب الدنيا"

 (4) أي مال الدنيا أو البقاء فيها للذاتها و مألوفاتها لا للطاعة،

و حب الرئاسة

 (5) بالجور و الظلم و الباطل، أو في نفسها لا لإجراء أو أمر الله تعالى و هداية عباده و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر،

و حب الطعام‏

 (6) لمحض اللذة لا لقوة الطاعة و الإفراط في حبه بحيث لا يبالي من حلال حصل أو من حرام، و كذا

حب النوم‏

 (7) أي الإفراط فيه بحيث يصير مانعا عن الطاعات الواجبة أو المندوبة، أو في نفسه لا للتقوى على الطاعة، و كذا

حب الاستراحة

 (8) على الوجهين، و كذا

حب النساء

 (9) أي الإفراط فيه بحيث ينتهي إلى ارتكاب الحرام أو ترك السنن و الاشتغال عن ذكر الله بسبب كثرة معاشرتهن، أو ما يوجب إطاعتهن في الباطل و إلا فقد قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: اخترت من دنياكم الطيب و النساء.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 76

 (الحديث الرابع)

 (1): كالسابق.

و خثعم‏

 (2) أبو قبيلة من معد، و قد مر معنى الشرك، و

قطيعة الرحم‏

 (3) يمكن شمولها لقطع رحم آل محمد كما مر، و يمكن إدخاله كلا أو بعضا في الشرك، و

المنكر

 (4) ما حرمه الله أو ما علم بالشرع أو العقل قبحه و يحتمل شموله للمكروه أيضا، و قال الشهيد الثاني قدس سره: المنكر المعصية قولا أو فعلا و قال أيضا: هو الفعل القبيح الذي عرف فاعله قبحه أو دل عليه، و

المعروف‏

 (5) ما عرف حسنه عقلا أو شرعا، و قال الشهيد الثاني (ره): هو الطاعة قولا أو فعلا، و قال: يمكن بتكلف دخول المندوب في المعروف.

 (الحديث الخامس)

 (6): كالسابق أيضا.

و قوله: على هذا الأمر

 (7)، صفة رجل، و جملة

إن حدث‏

 (8)، خبر"

أدنى المنازل"

 (9) أي أقربها

من الكفر

 (10) أي الذي يوجب الخلود في النار

و ليس بكافر

 (11) بهذا المعنى، و إن كان كافرا ببعض المعاني، و يشعر بكون خلف الوعد معصية بل كبيرة، و المشهور استحباب الوفاء به و كأنه مر القول فيه و سيأتي إن شاء الله.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 77

 (الحديث السادس)

 (1): ضعيف على المشهور.

و الشقاء

 (2) و الشقاوة و الشقوة سوء العاقبة بالعقاب في الآخرة ضد السعادة، و هي حسن العاقبة باستحقاق دخول الجنة، و

جمود العين‏

 (3) كناية عن بخلها بالدموع و هو من توابع‏

قسوة القلب‏

 (4) و هي غلظته و شدته و عدم تأثره من الوعيد بالعقاب و المواعظ قال تعالى:" فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ" و كون تلك الأمور من علامات الشقاء ظاهر، و فيه تحريص على ترك تلك الخصال، و طلب أضدادها بكثرة ذكر الله و ذكر عقوباته على المعاصي و التفكر في فناء الدنيا و عدم بقاء لذاتها، و في عظمة الأمور الأخروية و مثوباتها و عقوباتها و أمثال ذلك.

 (الحديث السابع)

 (5): حسن موثق كالصحيح.

" الذي يمنع رفده"

 (6) الرفد بالكسر العطاء و الصلة و هو اسم من رفده رفدا من باب ضرب أعطاه و أعانه، و الظاهر أنه أعم من منع الحقوق الواجبة و المستحبة

" و يضرب عبده"

 (7) أي دائما و في أكثر الأوقات أو من غير ذنب، أو زائدا على القدر المقرر أو مطلقا، فإن العفو من أحسن الخصال‏

" و يتزود وحده"

 (8) أي يأكل زاده وحده من غير رفيق مع الإمكان، أو أنه لا يعطي من زاده غيره شيئا من عياله و غيرهم،

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 78

و قيل: أي لا يأخذ نصيب غيره عند أخذ العطاء، و هو بعيد.

ثم اعلم أنه لا يلزم حمل هذه الخصال على الأمور المحرمة فإنه يمكن أن يكون الغرض عد مساوئ الأخلاق لا المعاصي، و

التفحش‏

 (1) المبالغة في الفحش و سوء القول كما سيأتي، و

اللعان‏

 (2) المبالغة في اللعن، و هو من الله الطرد و الإبعاد من الرحمة، و من الخلق السب و الدعاء على الغير، و قريب منه في النهاية.

 (الحديث الثامن)

 (3): ضعيف على المشهور.

و اعلم أنه كما يطلق المؤمن و المسلم على معان كما عرفت فكذلك يطلق‏

المنافق‏

 (4) على معان، منها أن يظهر الإسلام و يبطن الكفر، و هو المعنى المشهور، و منها الرياء، و منها أن يظهر الحب و يكون في الباطن عدوا، أو يظهر الصلاح و يكون في الباطن فاسقا، و قد يطلق على من يدعي الإيمان و لم يعمل بمقتضاه، و لم يتصف بالصفات التي ينبغي أن يكون المؤمن عليها، فكان باطنه مخالفا لظاهرة، فكأنه المراد هنا، و سيأتي معاني النفاق في بابه إنشاء الله، و المراد

بالمسلم‏

 (5) هنا المؤمن الكامل المسلم لأوامر الله و نواهيه، و لذا عبر بلفظ الزعم المشعر بأنه غير صادق في‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 79

دعوى الإسلام.

" من إذا ائتمن"

 (1) أي على مال أو عرض أو سر

خان‏

 (2) صاحبه و قيل: المراد به من أصر علي الخيانة كما يدل عليه قوله تعالى:" إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ" حيث لم يقل إن الله لا يحب الخيانة، و يدل على أنه كبيرة لا يقبل منه معها عمل، و إلا كان محبوبا في الجملة، و أما الاستدلال بآية اللعان فلأنه علق اللعنة بمطلق الكذب و إن كان مورده الكذب في القذف، و لو لم يكن مستحقا للعن لم يأمره الله بهذا القول.

و أما

قوله عليه السلام: و في قوله عز و جل‏

 (3)، فلعله عليه السلام إنما غير الأسلوب لعدم صراحة الآية في ذمه بل إنما يدل على مدح ضده و بتوسطه يشعر بقبحه، و إنما لم يذكر عليه السلام الآية التي هي أدل على ذلك حيث قال:" يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ" و سيأتي الاستدلال به في خبر آخر إما لظهوره و اشتهاره، أو لاحتمال معنى آخر كما سيأتي، و قيل:

كلمة" في" في قوله:" في قوله" بمعنى مع أي قال في سورة الصف ما هو مشهور في ذلك، مع قوله في سورة مريم‏

" و اذكر"

 (4) لدلالته علي مدح ضده.

 (الحديث التاسع)

 (5): مرسل كالصحيح.

و الفحش‏

 (6) القول السي‏ء و الكلام الردي‏ء و كل شي‏ء جاوز الحد فهو فاحش و منه غبن فاحش، و

التفحش‏

 (7) كذلك مع زيادة تكلف و تصنع و قيل: أراد بالمتفحش‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 80

الذي يقبل الفحش من غيره، فالفاحش المتفحش الذي لا يبالي ما قال و لا ما قيل له، و الأول أظهر، و بعد من كان كذلك عن مشابهة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم ظاهر لأنه صلى الله عليه و آله و سلم كان في غاية الحياء و كان يحترز عن الفحش في القول حتى أنه كان يعبر عن الوقاع و البول و التغوط بالكنايات، بل بأبعدها تأسيا بالرب سبحانه في القرآن.

قال في النهاية: فيه أن الله يبغض الفاحش المتفحش، الفاحش ذو الفحش في كلامه و فعاله، و المتفحش الذي يتكلف ذلك و يتعمده و قد تكرر ذكر الفحش و الفاحشة و الفواحش في الحديث، و هو كل ما يشتد قبحه من الذنوب و المعاصي، و كثيرا ما ترد الفاحشة بمعنى الزنا، و كل خصلة قبيحة فهي فاحشة من الأقوال و الأفعال، و قال:

البذاء

 (1) بالمد الفحش في القول، و فلان بذي اللسان، و في المصباح بذا علي القوم يبذو بذاء بالفتح و المد سفه و أفحش في منطقه، و إن كان كلامه صدقا فهو بذي علي فعيل.

و في النهاية فيه: من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه،

الخيلاء

 (2) بالضم و الكسر:

الكبر و العجب يقال: اختال فهو مختال، و فيه خيلاء و مخيلة أي كبر و تقييد الخير و الشر بكونه مرجوا أو يتقي منه إما للتوضيح أو للاحتراز و الأول كأنه أظهر.

 (الحديث العاشر)

 (3): ضعيف موقوف لكنه ينتهي إلى سلمان و هو في درجة قريبة من العصمة بل فيها.

" إذا أراد الله هلاك عبد"

 (4) لعله كناية عن علمه سبحانه بسوء سريرته و عدم‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 81

استحقاقه للطف‏

" نزع منه الحياء"

 (1) أي سلب التوفيق منه حتى يخلع لباس الحياء، و هو خلق يمنع من القبائح و التقصير في حقوق الخلق و الخالق‏

" فإذا نزع منه الحياء"

 (2) المانع من ارتكاب القبائح‏

" لم تلقه إلا خائنا مخونا"

 (3) و قد مر معنى الخائن و ذمه، و أما المخون فيحتمل أن يكون بفتح الميم و ضم الخاء أي يخونه الناس فذمه باعتبار أنه السبب فيه، أو المراد أنه يخون نفسه أيضا و يجعله مستحقا للعقاب فهو خائن لغيره و لنفسه، و بهذا الاعتبار مخون ففي كل خيانة خيانتان أو يكون بضم الميم و فتح الخاء و فتح الواو المشددة أي منسوبا إلى الخيانة مشهورا به، أو بكسر الواو المشددة أي ينسب الناس إلى الخيانة مع كونه خائنا.

في القاموس: الخون أن يؤتمن الإنسان فلا ينصح، خانه خونا و خيانة و اختانه فهو خائن، و قد خانه العهد و الأمانة و خونه تخوينا نسبه إلى الخيانة و نقصه.

" نزعت منه الأمانة"

 (4) لأنها ضد الخيانة، فإن قيل: كان هذا معلوما لا- يحتاج إلى البيان؟ قلت: يحتمل أن يكون المراد أنه إذا لم يبال من الخيانة يصير بالأخرة إلى أنه يسلب منه الأمانة بالكلية، أو المعنى أنه يصير بحيث لا يأتمنه الناس على شي‏ء.

" لم تلقه إلا فظا غليظا"

 (5) في القاموس: الفظ الغليظ السي‏ء الخلق القاسي الخشن الكلام، انتهى.

و الغلظة: ضد الرقة و المراد هنا قساوة القلب و غلظته، كما قال تعالى:

" وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ" و تفرع هذا على نزع الأمانة ظاهر لأن الخائن‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 82

لا سيما من يعلمه الناس كذلك لا بد من أن يعارض الناس و يجادلهم فيصير سيئ الخلق الخشن الكلام و لا يرحم الناس لذهابه بحقهم فيقسو قلبه، و أيضا إصراره على ذلك دليل على عدم تأثير المواعظ في قلبه، فإذا كان كذلك نزعت منه ربقة الإيمان لسلب أكثر لوازمه و صفاته عنه كما مر في صفات المؤمن، و المراد كمال الإيمان أو أحدا المعاني التي مضت منه و لا أقل أنه ينزع منه الحياء و هو رأس الإيمان‏

" لم تلقه إلا شيطانا"

 (1) أي شبيها به في الصفات أو بعيدا من الله و من هدايته و توفيقه‏

" ملعونا"

 (2) يلعنه الله و الملائكة و الناس أو بعيدا من رحمة الله تعالى.

 (الحديث الحادي عشر)

 (3): مجهول.

و

" ثلاث"

 (4) مبتدأ، و قد يجوز كون المبتدأ نكرة محضة لا سيما في العدد، و

" ملعون من فعلهن"

 (5) استئناف بياني، و المعنى أن اللعن لا يتعلق بالعمل حقيقة بل بفاعله، و قرأ بعض الأفاضل بإضافة ثلاث إلى ملعونات، فالجملة خبر و

قوله المتغوط

 (6) خبر مبتدإ محذوف بتقدير مضاف أيضا بتقديرهن صفة المتغوط و الضمير لثلاث، و يمكن عدم تقدير المضاف فالتقدير هو المتغوط و الضمير لمن فعلهن و في المصباح الغائط المطمئن الواسع من الأرض، ثم أطلق الغائط على الخارج المستقذر من الإنسان كراهة تسميته باسمه الخاص لأنهم كانوا يقضون حوائجهم في المواضع المطمئنة فهو من مجاز المجاورة، ثم توسعوا فيه حتى اشتقوا منه و قالوا تغوط الإنسان، انتهى.

و كان نسبة اللعن إلى الفعل مجاز في الإسناد، أو كناية عن قبحه. و نهي‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 83

الشارع عنه، و المراد

بظل النزال‏

 (1) تحت سقف أو شجرة ينزلها المسافرون، و قد يعم بحيث يشمل المواضع المعدة لنزولهم و إن لم يكن فيه ظل لاشتراك العلة أو بحمله على الأعم و التعبير بالظل لكونه غالبا كذلك، و الظاهر اختصاص الحكم بالغائط لكونه أشد ضررا، و ربما يعم ليشمل البول، و المشهور اختصاص الحكم بالغائط لكونه أشد ضررا، و ربما يعم ليشمل البول، و المشهور بين الأصحاب كراهة ذلك، و ظاهر الخبر التحريم إذ فاعل المكروه لا يستحق اللعن، و قد يقال: اللعن البعد من رحمة الله و هو يحصل بفعل المكروه أيضا في الجملة، و لا يبعد القول بالحرمة إن لم يكن إجماع على الخلاف للضرر العظيم فيه على المسلمين، لا سيما إذا كان وقفا فإنه تصرف مناف لغرض الواقف و مصلحة الوقف، و لا يبعد القول بهذا التفصيل أيضا.

و يمكن حمل الخبر على أن الناس يلعنونه و يشتمونه لكن يقل فائدة الخبر إلا أن يقال: الغرض بيان علة النهي عن الفعل، قال في النهاية: فيه: اتقوا الملاعن الثلاث، هي جمع ملعنة و هي الفعلة التي يلعن بها فاعلها كأنها مظنة للعن و محل له و هو أن يتغوط الإنسان على قارعة الطريق أو ظل الشجرة أو جانب النهر، فإذا مر بها الناس لعنوا فاعله، و منه الحديث اتقوا اللاعنين أي الآمرين الجالبين للعن الباعثين للناس عليه، فإنه سبب للعن من فعله في هذه المواضع، و ليس كل ظل و إنما هو الظل الذي يستظل به الناس يتخذونه مقيلا و مناخا، و أصل اللعن الطرد و الإبعاد من الله تعالى، و من الخلق السب و الدعاء، انتهى.

" و المانع الماء المنتاب"

 (2) الماء مفعول أول للمانع إما مجرور بالإضافة من باب الضارب الرجل، أو منصوب على المفعولية، و المنتاب اسم فاعل بمعنى صاحب النوبة فهو مفعول ثان و هو من الانتياب افتعال من النوبة، و يحتمل أن يكون اسم مفعول‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 84

صفة من انتاب فلان القوم أي أتاهم مرة بعد أخرى، و الماء المنتاب هو الماء الذي يرد عليه الناس متناوبة و متبادلة لعدم اختصاصه بأحدهم، كالماء المملوك المشترك بين جماعة، فلعن المانع لأحدهم في نوبته، و الماء المباح الذي ليس ملكا لأحدهم كالغدران و الآبار في البوادي، فإذا ورد عليه الواردون كانوا فيه سواء فيحرم لأحدهم منع الغير من التصرف فيه على قدر الحاجة، لأن في المنع تعريض مسلم للتلف فلو منع حل قتاله.

قال الجوهري: انتابه انتيابا أتاه مرة بعد أخرى، و في النهاية: نابه ينوبه نوبا و انتابه إذا قصده مرة بعد أخرى، و منه حديث الدعاء: يا أرحم من انتابه المسترحمون، و حديث صلاة الجمعة كان الناس ينتابون الجمعة من منازلهم.

" و الساد الطريق المعربة"

 (1) بالعين المهملة على بناء المفعول أي واضحة التي ظهر فيها أثر الاستطراق، في النهاية: الإعراب الإبانة و الإفصاح، و في أكثر النسخ المقربة بالقاف فيمكن أن يكون بكسر الراء المشددة أي الطريق المقربة إلى المطلوب بأن يكون هناك طريق آخر أبعد منه، فإن لم يكن طريق آخر فبطريق أولى، و هذه النسخة موافقة لروايات العامة لكنهم فسروه على وجه آخر، قال في النهاية فيه: من غير المطربة و المقربة فعليه لعنة الله، المطربة واحدة المطارب و هي طرق صغار تنفذ إلى الطرق الكبار، و قيل: هي الطرق الضيقة المتفرقة يقال: طربت عن الطريق أي عدلت عنه، و المقربة طريق صغير ينفذ إلى طريق كبير، و جمعها المقارب، و قيل هو من القرب و هو السير بالليل، و قيل: السير إلى الماء، و منه الحديث ثلاث لعينات رجل عور طريق المقربة، و قال في القاموس: المقرب و المقربة الطريق المختصر، و قال: القرب بالتحريك سير الليل لورد الغد، و البئر القريبة الماء، و طلب الماء ليلا، و في الفائق: القربة المنزل و أصلها من القرب و هو السير إلى الماء.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 85

 (الحديث الثاني عشر)

 (1): مجهول.

و تذكير ضمير الطريق هنا و تأنيثه فيما تقدم باعتبار أن الطريق يذكر و يؤنث.

 (الحديث الثالث عشر)

 (2): حسن كالصحيح.

و البهات‏

 (3) مبالغة من البهتان، و هو أن يقول في الناس ما ليس فيهم، قال الجوهري: بهته بهتا أخذه بغتة، قال الله تعالى:" بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ" و تقول أيضا: بهته بهتا و بهتا و بهتانا فهو بهات، أي قال عليه ما لم يفعله فهو مبهوت، انتهى.

و الجري‏

 (4) بالياء المشددة و بالهمز أيضا على فعيل و هو المقدام على القبيح من غير توقف و الاسم الجرأة، و

الفحاش‏

 (5) ذو الفحش و هو كلما يشتد قبحه من الأقوال و الأفعال و كثيرا ما يراد به الزنا و قد مر الكلام فيه.

" الآكل وحده"

 (6) أقول: لعل النكتة في إيراد العاطف في الأخيرات و تركها في الأول الإشعار بأن البهت و الجرأة و الفحش صارت لازمة له كالذاتيات فصرن كالذات التي أجريت عليها الصفات، فناسب إيراد العاطف بين الصفات لتغايرها، و يحتمل أن تكون العلة الفصل بالمعمول أي" وحده" و" رفده" و" عبده" بين الفقرات الأخيرة و عدمها في الأول فتأمل.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 86

" و المانع رفده"

 (1) قد مر الكلام فيه، و عدم حرمة هذه الخصلة لا ينافي كون المتصف بجميع تلك الصفات من شرار الناس، فإنه الظاهر من الخبر لا كون المتصف بكل منها من شرار الناس، و قيل: يفهم منه و مما سبقه أن ترك المندوب و ما هو خلاف المروة شر فالمراد بشرار الرجال فاقد الكمال، سواء كان فقده موجبا للعقوبة أم لا انتهى.

" و الملجئ عياله إلى غيره"

 (2) أي لا ينفق عليهم و لا يقوم بحوائجهم.

 (الحديث الرابع عشر)

 (3): مجهول.

" و كل نبي مجاب"

 (4) أقول: يحتمل أن يكون عطفا على فاعل لعنتهم، و ترك التأكيد بالمنفصل للفصل بالضمير المنصوب مع أنه قد جوزه الكوفيون مطلقا، و قيل: كل منصوب على أنه مفعول معه، فقوله: مجاب صفة للنبي أي لعنهم كل نبي أجابه قومه، أو لا بد من أن يجيبه قومه أو أجاب الله دعوته، فالصفة موضحة، و يحتمل أن يكون" كل" مبتدأ" و مجاب" خبرا و الجملة حالية أي و الحال أن كل نبي مستجاب الدعوة، فلعني يؤثر فيهم لا محالة، و يحتمل العطف أيضا، و يؤيد الأول ما في مجالس الصدوق و غيره من الكتب، و لعنهم كل نبي.

" و التارك لسنتي"

 (5) أي مغير طريقته، و المبتدع في دينه، و

المكذب بقدر الله‏

 (6) أي المفوضة الذين يقولون ليس لله في أعمال العباد مدخل أصلا كالمعتزلة، و قد مر تحقيقه‏

" و المستحل من عترتي ما حرم الله"

 (7) و المراد بعترته أهل بيته و الأئمة من‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 87

ذريته باستحلال قتلهم أو ضربهم أو شتمهم أو إهانتهم أو ترك مودتهم أو غصب حقهم أو عدم القول بإمامتهم أو ترك تعظيمهم‏

" و المستأثر بالفي‏ء المستحل له"

 (1) في النهاية الاستئثار الانفراد بالشي‏ء، و قال: الفي‏ء ما حصل للمسلمين من أموال الكفار من غير حرب و لا جهاد، انتهى.

و أقول: الفي‏ء يطلق على الغنيمة و الخمس و الأنفال و كل ذلك يتعلق بالإمام كلا أو بعضا كما حقق في محله.

باب الرياء

 (2)

 (الحديث الأول)

 (3): ضعيف.

" وكله الله إلى من عمل له"

 (4) أي في الآخرة كما سيأتي أو الأعم منها و من الدنيا و قيل: و كل ذلك العمل إلى الغير و لا يقبله أصلا، و قد روي عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال: إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر؟ قالوا: و ما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: الرياء يقول الله عز و جل يوم القيامة إذا جازى العباد بأعمالهم:

اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا هل تجدون عندهم ثواب أعمالكم. و قال بعض المحققين: اعلم أن الرياء مشتق من الرؤية، و السمعة مشتقة من السماع، و إنما الرياء أصله طلب المنزلة في قلوب الناس بإراءتهم خصال الخير، إلا أن الجاه و المنزلة يطلب في القلب بأعمال سوى العبادات و يطلب بالعبادات، و اسم الرياء مخصوص‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 88

بحكم العادة بطلب المنزلة في القلوب بالعبادات و إظهارها فحد الرياء هو إرادة المنزلة بطاعة الله تعالى، فالمرائي هو العابد، و المرائي هو الناس المطلوب رؤيتهم لطلب المنزلة في قلوبهم، و المرائي به هي الخصال التي قصد المرائي إظهارها، و الرياء هو هو قصده إظهار ذلك.

و المرائي به كثيرة و يجمعها خمسة أقسام، و هي مجامع ما يتزين العبد به للناس فهو البدن و الزي و القول و العمل و الأتباع و الأشياء الخارجة، و لذلك أهل الدنيا يراءون بهذه الأسباب الخمسة، إلا أن طلب الجاه و قصد الرياء بأعمال ليست من جملة الطاعات أهون من الرياء بالطاعات، و الرياء في الدين من جهة البدن، و ذلك بإظهار النحول و الصفار ليوهم بذلك شدة الاجتهاد و عظم الحزن على أمر الدين، و غلبة خوف الآخرة، و ليدل بالنحول على قلة الأكل، و بالصفار على سهر الليل، و كثرة الأرق في الدين، و كذلك يرائي بتشعث الشعر ليدل به على استغراق الهم بالدين و عدم التفرغ لتسريح الشعر، و يقرب من هذا خفض الصوت و إغارة العينين و ذبول الشفتين، فهذه مراءاة أهل الدين في البدن، و أما أهل الدنيا فيراءون بإظهار السمن و صفاء اللون و اعتدال القامة و حسن الوجه و نظافة البدن و قوة الأعضاء.

و ثانيها: الرياء بالزي و الهيئة أما الهيئة فتشعث شعر الرأس و حلق الشارب و إطراق الرأس في المشي و الهدء في الحركة و إبقاء أثر السجود على الوجه، و غلظ الثياب، و ليس الصوف و تشميرها إلى قريب من نصف الساق، و تقصير الأكمام و ترك تنظف الثوب و تركه مخرقا، كل ذلك يرائي به ليظهر من نفسه أنه يتبع السنة فيه و مقتد فيه بعباد الله الصالحين، و أما أهل الدنيا فمراءاتهم بالثياب النفيسة و المراكب الرفيعة و أنواع التوسع و التجمل.

الثالث: الرياء بالقول، و رياء أهل الدين بالوعظ و التذكير و النطق بالحكمة

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 89

و حفظ الأخبار و الآثار لأجل الاستعمال في المحاورة إظهارا لغزارة العلم و لدلالته على شدة العناية بأقوال السلف الصالحين، و تحريك الشفتين بالذكر في محضر الناس و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر بمشهد الخلق و إظهار الغضب للمنكرات و إظهار الأسف على مقارفة الناس بالمعاصي، و تضعيف الصوت في الكلام، و أما أهل الدنيا فمراءاتهم بالقول بحفظ الأشعار و الأمثال و التفاصح في العبارات و حفظ النحو الغريب للأعراب على أهل الفضل و إظهار التودد إلى الناس لاستمالة القلوب.

الرابع: الرياء بالعمل، كمراءاة المصلي بطول القيام و مده و تطويل الركوع و السجود، و إطراق الرأس و ترك الالتفات و إظهار الهدء و السكون، و تسوية القدمين و اليدين، و كذلك بالصوم و بالحج و بالصدقة و بإطعام الطعام و بالإخبات بالشي‏ء عند اللقاء، كإرخاء الجفون و تنكيس الرأس و الوقار في الكلام حتى أن المرائي قد يسرع في المشي إلى حاجته فإذا اطلع عليه واحد من أهل الدين رجع إلى الوقار و إطراق الرأس خوفا من أن ينسبه إلى العجلة و قلة الوقار، فإن غاب الرجل عاد إلى عجلته فإذا رآه عاد إلى خشوعه، و منهم من يستحيي أن يخالف مشيته في الخلوة لمشيته بمرأى من الناس، فيكلف نفسه المشية الحسنة في الخلوة حتى إذا رآه الناس لم يفتقر إلى التغيير و يظن أنه تخلص به من الرياء، و قد تضاعف به رياؤه فإنه صار في خلواته أيضا مرائيا، و أما أهل الدنيا فمراءاتهم بالتبختر و الاختيال و تحريك اليدين و تقريب الخطا و الأخذ بأطراف الذيل و إدارة العطفين ليدلوا بذلك على الجاه و الحشمة. الخامس: المراءاة بالأصحاب و الزائرين و المخالطين كالذي يتكلف أن يزور عالما من العلماء ليقال أن فلانا قد زار فلانا أو عابدا من العباد لذلك، أو ملكا من الملوك و أشباهه ليقال إنهم يتبركون به، و كالذي يكثر ذكر الشيوخ ليرى أنه‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 90

لقي شيوخا كثيرة و استفاد منهم فيباهي بشيوخه، و منهم من يريد انتشار الصيت في البلاد لتكثر الرحلة إليه، و منهم من يريد الاشتهار عند الملوك لتقبل شفاعته، و منهم من يقصد التوصل بذلك إلى جمع حطام و كسب مال، و لو من الأوقاف و أموال اليتامى و غير ذلك.

و أما حكم الرياء فهل هو حرام أو مكروه أو مباح أو فيه تفصيل؟ فأقول:

فيه تفصيل، فإن الرياء هو طلب الجاه، و هو إما أن يكون بالعبادات أو بغير العبادات فإن كان بغير العبادات فهو كطلب المال فلا يحرم من حيث أنه طلب منزله في قلوب العباد، و لكن كما يمكن كسب المال بتلبيسات و أسباب مخطورة فكذلك الجاه، و كما أن كسب قليل من المال و هو ما يحتاج إليه الإنسان محمود فكسب قليل من الجاه و هو ما يسلم به عن الآفات محمود، و هو الذي طلبه يوسف عليه السلام حيث قال:" إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ" و كما أن المال فيه سم ناقع و ترياق نافع فكذلك الجاه، و أما انصراف الهم إلى سعة الجاه فهو مبدء الشرور كانصراف الهم إلى كثرة المال، و لا يقدر محب الجاه و المال على ترك معاصي القلب و اللسان و غيرها و أما سعة الجاه من غير حرص منك على طلبه و من غير اهتمام بزواله إن زال فلا ضرر فيه، فلا جاه أوسع من جاه رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم و من بعده من علماء الدين، و لكن انصراف الهم إلى طلب الجاه نقصان في الدين و لا يوصف بالتحريم، و بالجملة المراءاة بما ليس من العبادات قد يكون مباحا و قد يكون طاعة و قد يكون مذموما، و ذلك بحسب الغرض المطلوب به.

و أما العبادات كالصدقة و الصلاة و الغزو و الحج، فللمرائي فيه حالتان:

إحداهما أن لا يكون له قصد إلا الرياء المحض دون الأجر، و هذا يبطل عبادته‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 91

لأن الأعمال بالنيات، و هذا ليس بقصد العبادة، ثم لا يقتصر على إحباط عبادته حتى يقول صار كما كان قبل العبادة، بل يعصي بذلك و يأثم لما دلت عليه الأخبار و الآيات و المعنى فيه أمران، أحدهما يتعلق بالعبادة، و هو التلبيس و المكر لأنه خيل إليهم أنه مخلص مطيع لله و أنه من أهل الدين، و ليس كذلك و التلبيس في أمر الدنيا أيضا حرام حتى لو قضى دين جماعة و خيل إلى الناس أنه متبرع عليهم ليعتقدوا سخاوته أثم بذلك لما فيه من التلبيس و تملك القلوب بالخداع و المكر، و الثاني يتعلق بالله و هو أنه مهما قصد بعبادة الله خلق الله فهو مستهزئ بالله، فهذا من كبائر المهلكات، و لهذا سماه رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم الشرك الأصغر فلو لم يكن في الرياء إلا أنه يسجد و يركع لغير الله لكان فيه كفاية، فإنه إذا لم يقصد التقرب إلى الله فقد قصد غير الله، لعمري لو قصد غير الله بالسجود لكفر كفرا جليا إلا أن الرياء هو الكفر الخفي.

و اعلم أن بعض أبواب الرياء أشد و أغلظ من بعض، و اختلافه باختلاف أركانه و تفاوت الدرجات فيه، و أركانه ثلاثة المرايا به و المرايا و نفس قصد الرياء، الركن الأول نفس قصد الرياء و ذلك لا يخلو إما أن يكون مجردا دون إرادة الله و الثواب، فإن كان كذلك فلا يخلو إما أن يكون إرادة الثواب أقوى و أغلب أو أضعف أو مساويا لإرادة العبادة، فيكون الدرجات أربعا.

الأولى: و هو أغلظها أن لا يكون مراده الثواب أصلا كالذي يصلي بين أظهر الناس، و لو انفرد لكان لا يصلي فهذه الدرجة العليا من الرياء.

الثانية: أن يكون له قصد الثواب أيضا و لكن قصدا ضعيفا بحيث لو كان في في الخلوة لكان لا يفعله، و لا يحمله ذلك القصد على العمل، و لو لم يكن الثواب لكان قصد الرياء يحمله على العمل فهذا قريب مما قبله.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 92

الثالثة: أن يكون قصد الثواب و قصد الرياء متساويين بحيث لو كان كل واحد خاليا عن الآخر لم يبعثه على العمل، فلما اجتمعا انبعثت الرغبة فكان كل واحد لو انفرد لا يستقل بحمله على العمل، فهذا قد أفسد مثل ما أصلح فنرجو أن يسلم رأسا برأس لا له و لا عليه، أو يكون له من الثواب مثل ما كان عليه من العقاب، و ظواهر الأخبار تدل على أنه لا يسلم.

الرابعة: أن يكون اطلاع الناس مرجحا و مقويا لنشاطه، و لو لم يكن لكان لا يترك العبادة و لو كان قصد الرياء وحده لما أقدم، و الذي نظنه و العلم عند الله أنه لا يحبط أصل الثواب، و لكنه ينقص منه، أو يعاقب على مقدار قصد الرياء و يثاب على مقدار قصد الثواب، و أما قوله تعالى: أنا أغنى الأغنياء عن الشرك، فهو محمول على ما إذا تساوى القصدان أو كان الرياء أرجح.

الركن الثاني: المرايا به و هو الطاعات، و ذلك ينقسم إلى الرياء بأصول العبادات و إلى الرياء بأوصافها، القسم الأول و هو الأغلظ الرياء بالأصول و هو على ثلاث درجات.

الأولى: الرياء بأصل الإيمان و هو أغلظ أبواب الرياء، و صاحبه مخلد في النار و هو الذي يظهر كلمتي الشهادة و باطنه مشحون بالتكذيب، و لكنه يرائي بظاهر الإسلام، و هم المنافقون الذين ذمهم الله سبحانه في مواضع كثيرة، و قد قال:" يُراؤُنَ النَّاسَ وَ لا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا".

و كان النفاق في ابتداء الإسلام ممن يدخل في ظاهر الإسلام ابتداء لغرض و ذلك مما يقل في زماننا، و لكن يكثر نفاق من ينسل من الدين باطنا فيجحد الجنة و النار و الدار الآخرة ميلا إلى قول الملحدة، أو يعتقد طي بساط الشرع‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 93

و الأحكام ميلا إلى أهل الإباحة، و يعتقد كفرا أو بدعة و هو يظهر خلافه فهؤلاء من المرائين المنافقين المخلدين في النار، و حال هؤلاء أشد من حال الكفار المجاهرين لأنهم جمعوا بين كفر الباطن و نفاق الظاهر.

الثانية: الرياء بأصول العبادات مع التصديق بأصل الدين، و هذا أيضا عظيم عند الله، و لكنه دون الأول بكثير، و مثاله أن يكون مال الرجل في يد غيره فيأمره بإخراج الزكاة خوفا من ذمه و الله يعلم منه أنه لو كان في يده لما أخرجها، أو يدخل وقت الصلاة و هو في جمع فيصلي معهم، و عادته ترك الصلاة في الخلوة، و كذا سائر العبادات، فهو مراء معه أصل الإيمان بالله، يعتقد أنه لا معبود سواه، و لو كلف أن يعبد غير الله أو يسجد لغير الله لم يفعل، و لكنه يترك العبادات للكسل و ينشط عند اطلاع الناس، فتكون منزلته عند الخلق أحب إليه من منزلته عند الخالق، و خوفه من مذمة الناس أعظم من خوفه من عقاب الله، و رغبته في محمدتهم أشد من رغبته في ثواب الله، و هذا غاية الجهل، و ما أجدر صاحبه بالمقت و إن كان غير منسل عن أصل الإيمان من حيث الاعتقاد.

الثالثة: أن لا يرائي بالإيمان و لا بالفرائض و لكن يرائي بالنوافل و السنن التي لو تركها لا يعصي، و لكن يكسل عنها في الخلوة لفتور رغبته في ثوابها، و لا يثأر لذة الكسل على ما يرجى من الثواب، ثم يبعثه الرياء على فعله، و ذلك كحضور الجماعة في الصلاة و عيادة المريض و اتباع الجنائز و كالتهجد بالليل و صيام السنة و التطوع و نحو ذلك، فقد يفعل المرائي جملة ذلك خوفا من المذمة أو طلبا للمحمدة و يعلم الله تعالى منه لو خلي بنفسه لما زاد على أداء الفرائض فهذا أيضا عظيم، و لكن دون ما قبله، و كأنه على الشطر من الأول و عقابه نصف عقابه.

القسم الثاني: الرياء بأوصاف العبادات لا بأصولها، و هي أيضا على ثلاث درجات‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 94

الأولى: أن يرائي بفعل ما في تركه نقصان العبادة كالذي غرضه أن يخفف الركوع و السجود و لا يطول القراءة فإذا رآه الناس أحسن الركوع و ترك الالتفات و تمم القعود بين السجدتين و قد قال ابن مسعود من فعل ذلك فهو استهانة يستهين بها ربه، فهذا أيضا من الرياء المخطور لكنه دون الرياء بأصول التطوعات، فإن قال المرائي: إنما فعلت ذلك صيانة لألسنتهم عن الغيبة فإنهم إذا رأوا تخفيف الركوع و السجود و كثرة الالتفات أطلقوا اللسان بالذم و الغيبة فإنما قصدت صيانتهم عن هذه المعصية فيقال له: هذه مكيدة للشيطان و تلبيس، و ليس الأمر كذلك، فإن ضررك من نقصان صلاتك و هي خدمة منك لمولاك أعظم من ضررك من غيبة غيرك، فلو كان باعثك الدين لكان شفقتك على نفسك أكثر، نعم للمرائي فيه حالتان:

إحداهما: أن يطلب بذلك المنزلة و المحمدة عند الناس، و ذلك حرام قطعا، و الثانية أن يقول: ليس يحضرني الإخلاص في تحسين الركوع و السجود، و لو خففت كان صلاتي عند الله ناقصة، و آذاني الناس بذمهم و غيبتهم و استفيد بتحسين الهيئة دفع مذمتهم و لا أرجو عليه ثوابا فهو خير من أن أترك تحسين الصلاة فيفوت الثواب و تحصل المذمة فهذا فيه أدنى نظر، فالصحيح أن الواجب عليه أن يحسن و يخلص، فإن لم تحضره النية فينبغي أن يستمر على عبادته في الخلوة و ليس له أن يدفع الذم بالمراءاة بطاعة الله، فإن ذلك استهزاء.

الثانية أن يرائي بفعل ما لا نقصان في تركه، و لكن فعله في حكم التكملة و التتمة لعبادته، كالتطويل في الركوع و السجود و مد القيام و تحسين الهيئة في رفع اليدين، و الزيادة في القراءة على السورة المعتادة و أمثال ذلك، و كل ذلك مما لو خلي و نفسه لكان لا يقدم عليه.

الثالثة: أن يرائي بزيادات خارجة عن نفس النوافل، كحضوره الجماعة قبل‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 95

القوم، و قصده الصف الأول و توجهه إلى يمين الإمام و ما يجري مجراه، و كل ذلك مما يعلم الله منه أنه لو خلي بنفسه لكان لا يبالي من أين وقف و متى يحرم بالصلاة فهذه درجات الرياء بالإضافة إلى ما يرائي به، و بعضه أشد من بعض و الكل مذموم.

الركن الثالث: المرايا لأجله، فإن للمرائي مقصودا لا محالة فإنما يرائي لإدراك مال أو جاه أو غرض من الأغراض لا محالة، و له أيضا ثلاث درجات:

الأولى: و هي أشدها و أعظمها أن يكون مقصده التمكن من معصية كالذي يرائي بعباداته ليعرف بالأمانة فيولي القضاء أو الأوقاف أو أموال الأيتام، فيحكم بغير الحق، و يتصرف في الأموال بالباطل و أمثال ذلك كثيرة.

الثانية: أن يكون غرضه نيل حظ مباح من مال أو نكاح امرأة جميلة أو شريفة فهذا رياء مخطور، لأنه طلب بطاعة الله متاع الدنيا، و لكنه دون الأول.

الثالثة: أن لا يقصد نيل حظ و إدراك مال أو شبهه و لكن يظهر عبادته خيفة من أن ينظر إليه بعين النقص و لا يعد من الخاصة و الزهاد كان يسبق إلى الضحك أو يبدر منه المزاح فيخاف أن ينظر إليه بعين الاحتقار فيتبع ذلك بالاستغفار و تنفس الصعداء و إظهار الحزن و يقول: ما أعظم غفلة الإنسان عن نفسه، و الله يعلم منه أنه لو كان في الخلوة لما كان يثقل عليه ذلك، فهذه درجات الرياء. و مراتب أصناف المرائين، و جميعهم تحت مقت الله و غضبه، و هي من أشد المهلكات.

و أما ما يحبط العمل من الرياء الخفي و الجلي و ما لا يحبط فنقول: إذا عقد العبد العبادة على الإخلاص ثم ورد وارد الرياء فلا يخلو إما أن ورد عليه بعد فراغه من العمل أو قبل الفراغ، فإن ورد بعد الفراغ سرور من غير إظهار فلا يحبط العمل إذ العمل قد تم على نعت الإخلاص سالما من الرياء فما يطرء بعده فنرجو

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 96

أن لا ينعطف عليه أثره لا سيما إذا لم يتكلف هو إظهاره و التحدث به و لم يتمن ذكره و إظهاره، و لكن اتفق ظهوره بإظهار الله إياه و لم يكن منه إلا ما دخل من السرور و الارتياح على قلبه، و يدل على هذا ما سيأتي في آخر الباب و قد روي أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: يا رسول الله أسر العمل لا أحب أن يطلع عليه أحد فيطلع عليه فيسرني؟ قال: لك أجران أجر السر و أجر العلانية، و قال الغزالي: نعم لو تم العمل على الإخلاص من غير عقد رياء، و لكن ظهرت له بعده رغبة في الإظهار فتحدث به و أظهره فهذا مخوف، و في الأخبار و الآثار ما يدل على أنه محبط، و يمكن حملها على أن هذا دليل علي أن قلبه عند العبادة لم يخل عن عقد الرياء و قصده لما أن ظهر منه التحدث به، إذ يبعد أن يكون ما يطرء بعد العمل مبطلا للثواب، بل الأقيس أن يقال أنه مثاب على عمله الذي مضى و معاقب على مراءاته بطاعة الله بعد الفراغ منها، بخلاف ما لو تغير عقده إلى الرياء قبل الفراغ فإنه مبطل.

ثم قال المحقق المذكور: و أما إذا ورد وارد الرياء قبل الفراغ من الصلاة مثلا، و كان قد عقد على الإخلاص، و لكن ورد في أثنائها وارد الرياء فلا يخلو إما أن يكون مجرد سرور لا يؤثر في العمل فهو لا يبطله، و أما أن يكون رياء باعثا على العمل، و ختم به العمل، فإذا كان كذلك حبط أجره، و مثاله أن يكون في تطوع فتجددت له نظارة أو حضر ملك من الملوك و هو يشتهي أن ينظر إليه أو يذكر شيئا نسيه من ماله، و هو يريد أن يطلبه، و لو لا الناس لقطع الصلاة فاستتمها خوفا من مذمة الناس فقد حبط أجره و عليه الإعادة إن كان في فريضة و قد قال صلى الله عليه و آله و سلم:

العمل كالوعاء إذا طاب آخره طاب أوله، أي النظر إلى خاتمته، و روي من راءى بعمله ساعة حبط عمله الذي كان قبله، و هو منزل على الصلاة في هذه الصورة، لا على‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 97

الصدقة و لا على القراءة فإن كل جزء منها منفرد، فما يطرء يفسد الباقي دون الماضي و الصوم و الحج من قبيل الصلاة.

فأما إذا كان وارد الرياء بحيث لا يمنعه من قصد الاستتمام لأجل الثواب كما لو حضر جماعة في أثناء صلاة ففرح بحضورهم، و اعتقد الرياء و قصد تحسين الصلاة لأجل نظرهم، و كان لو لا حضورهم لكان يتمها أيضا فهذا رياء قد أثر في العمل، و انتهض باعثا على الحركات فإن غلب حتى انمحق معه الإحساس بقصد العبادة و الثواب، و صار قصد العبادة مغمورا فهذا أيضا ينبغي أن يفسد العبادة مهما مضى ركن من أركانها على هذا الوجه، لأنا نكتفي بالنية السابقة عند الإحرام بشرط أن لا يطرء ما يغلبها و يغمرها، و يحتمل أن يقال لا تفسد العبادة نظرا إلى حالة العقد و إلى بقاء أصل قصد الثواب و إن ضعف بهجوم قصد هو أغلب منه، و الأقيس أن هذا القدر إذا لم يظهر أثره في العمل بل بقي العمل صادرا عن باعث الدين، و إنما انضاف إليه سرور بالاطلاع فلا يفسد العمل، لأنه لم ينعدم به أصل نيته، و بقيت تلك النية باعثة على العمل، و حاملة على الإتمام، و روي في الكافي عن أبي جعفر عليه السلام ما يدل عليه.

و أما الأخبار التي وردت في الرياء فهي محمولة على ما إذا لم يرد به إلا الخلق، و أما ما ورد في الشركة فهو محمول على ما إذا كان قصد الرياء مساويا لقصد الثواب أو أغلب منه، أما إذا كان ضعيفا بالإضافة إليه فلا يحبط بالكلية ثواب الصدقة و سائر الأعمال، و لا ينبغي أن تفسد الصلاة، و لا يبعد أيضا أن يقال: إن الذي أوجب عليه صلاة خالصة لوجه الله، و الخالصة ما لا يشوبه شي‏ء، فلا يكون مؤديا للواجب مع هذا الشوب و العلم عند الله فيه، فهذا حكم الرياء الطاري بعد عقد العبادة، إما قبل الفراغ أو بعده. القسم الثالث: الذي يقارن حال العقد بأن يبتدئ الصلاة على قصد الرياء، فإن‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 98

تم عليه حتى يسلم فلا خلاف في أنه يعصي و لا يعتد بصلاته، و إن ندم عليه في أثناء ذلك و استغفر و رجع قبل التمام ففيما يلزمه ثلاثة أوجه، قالت فرقة لم تنعقد صلاته مع قصد الرياء فليستأنف، و قالت فرقة تلزمه إعادة الأفعال كالركوع و السجود و يفسد أعماله دون تحريمة الصلاة لأن التحريم عقد و الرياء خاطر في قلبه لا يخرج التحريم عن كونه عقدا، و قالت فرقة: لا تلزمه إعادة شي‏ء بل يستغفر الله بقلبه و يتم العبادة على الإخلاص، و النظر إلى خاتمة العبادة، كما لو ابتدأها بالإخلاص و ختم بالرياء لكان يفسد عمله، و شبهوا ذلك بثوب أبيض لطخ بنجاسة عارضة، فإذا أزيل العارض عاد إلى الأصل، فقالوا: إن الصلاة و الركوع و السجود لا يكون إلا لله، و لو سجد لغير الله لكان كافرا، و لكن قد اقترن به عارض الرياء.

ثم إن زال بالندم و التوبة و صار إلى حالة لا يبالي بحمد الناس و ذمهم فتصح صلاته، و مذهب الفريقين الآخرين خارج عن قياس الفقه جدا، خصوصا من قال يلزمه إعادة الركوع و السجود دون الافتتاح، لأن الركوع و السجود إن لم يصح صارت أفعالا زائدة في الصلاة فتبطل الصلاة، و كذلك قول من يقول لو ختم بالإخلاص صح نظرا إلى الآخر فهو أيضا ضعيف، لأن الرياء يقدح في النية و أولى الأوقات بمراعاة أحكام النية حالة الافتتاح، فالذي يستقيم على قياس الفقه هو أن يقال:

إن كان باعثه مجرد الرياء في ابتداء العقد دون طلب الثواب و امتثال الأمر لم ينعقد افتتاحه، و لم يصح ما بعده، و ذلك من إذا خلا بنفسه لم يصل و لما رآه الناس يحرم بالصلاة، و كان بحيث لو كان ثوبه أيضا نجسا كان يصلي لأجل الناس، فهذه صلاة لا نية فيها إذ النية عبارة عن إجابة باعث الدين، و هيهنا لا باعث و لا إجابة.

فأما إذا كان بحيث لو لا الناس أيضا لكان يصلي إلا أنه ظهرت له الرغبة في المحمدة أيضا فاجتمع الباعثان فهذا إما أن يكون في صدقة أو قراءة و ما ليس فيه تحليل و تحريم، أو في عقد صلاة و حج فإن كان في صدقة فقد عصى بإجابة باعث‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 99

الرياء و أطاع بإجابة باعث الثواب، فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره و من يعمل مثقال ذرة شرا يره، و له ثواب بقدر قصده الصحيح، و عقاب بقدر قصده الفاسد، و لا يحبط أحدهما الآخر، و إن كان في صلاة يقبل الفساد بتطرق خلل إلى النية فلا يخلو إما أن يكون نفلا أو فرضا، فإن كانت نفلا فحكمها أيضا حكم الصدقة فقد عصى من وجه و أطاع من وجه، إذا اجتمع في قلبه الباعثان، و أما إذا كان في فرض و اجتمع الباعثان و كان كل واحد منهما لا يستقل، و إنما يحصل الانبعاث بمجموعهما فهذا لا يسقط الواجب عنه، لأن الإيجاب لم ينتهض باعثا في حقه بمجرده و استقلاله و إن كان كل باعث مستقلا حتى لو لم يكن باعث الرياء لأدى الفرض، و لو لم يكن باعث الفرض لأنشأ صلاة تطوعا لأجل الرياء فهذا في محل النظر و هو محتمل جدا فيحتمل أن يقال: أن الواجب صلاة خالصة لوجه الله، و لم يؤد الواجب الخالص، و يحتمل أن يقال: أن الواجب امتثال الأمر بواجب مستقل بنفسه و قد وجد، فاقتران غيره به لا يمنع سقوط الفرض عنه، كما لو صلى في دار مغصوبة فإنه و إن كان عاصيا بإيقاع الصلاة في الدار المغصوبة فإنه مطيع بأصل الصلاة و مسقط للفرض عن نفسه، و تعارض الاحتمال في تعارض البواعث في أصل الصلاة.

أما إذا كان الرياء في المبادرة مثلا دون أصل الصلاة، مثل من بادر في الصلاة في أول الوقت لحضور الجماعة، و لو خلا لأخرها إلى وسط الوقت، و لو لا الفرض لكان لا يبتدأ صلاة لأجل الرياء، فهذا مما يقطع بصحة صلاته، و سقوط الفرض به لأن باعث أصل الصلاة من حيث إنها صلاة لم يعارضها غيره، بل من حيث تعيين الوقت، فهذا أبعد من القدح في النية.

هذا في رياء يكون باعثا على العمل و حاملا عليه، فأما مجرد السرور باطلاع الناس إذا لم يبلغ أثره حيث يؤثر في العمل فبعيد أن يفسد الصلاة فهذا ما نراه‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 100

لائقا بقانون الفقه و المسألة غامضة من حيث أن الفقهاء لم يتعرضوا لها في فن الفقه، و الذين خاضوا فيه و تصرفوا لم يلاحظوا قوانين الفقه، و مقتضى فتاوى العلماء في صحة الصلاة و فسادها، بل حملهم الحرص على تصفية القلوب و طلب الإخلاص على إفساد العبادات بأدنى الخواطر، و ما ذكرناه هو الأقصد فيما نراه و العلم عند الله تعالى، انتهى كلامه.

و قال الشهيد قدس الله روحه في قواعده: النية يعتبر فيها القربة، و دل عليه الكتاب و السنة، قال تعالى:" وَ ما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ" و الإخلاص فعل الطاعة خالصة لله وحده، و هنا غايات ثمان:

فالأول الرياء، و لا ريب في أنه مخل بالإخلاص فيتحقق الرياء بقصد مدح الرائي أو الانتفاع به، أو دفع ضرره، فإن قلت: فما تقول في العبادة المشوبة بالتقية؟

قلت: أصل العبادة واقع على وجه الإخلاص و ما فعل منها تقية فإن له اعتبارين بالنظر إلى أصله، و هو قربة، و بالنظر إلى ما طرأ من استدفاع الضرر، و هو لازم لذلك فلا يقدح في اعتباره، أما لو فرض إحداثه صلاة مثلا تقية فإنها من باب الرياء.

الثاني قصد الثواب أو الخلاص من العقاب أو قصدهما معا.

الثالث فعلها شكرا لنعم الله تعالى و استجلابا لمزيده.

الرابع فعلها حياء من الله تعالى.

الخامس فعلها حبا لله تعالى.

السادس فعلها تعظيما لله تعالى و مهابة و انقيادا و إجابة.

السابع فعلها موافقة لإرادته و طاعة لأمره.

الثامن فعلها لكونه أهلا للعبادة، و هذه الغاية مجمع على كون العبادة تقع‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 101

بها معتبرة و هي أكمل مراتب الإخلاص و إليه أشار الإمام الحق أمير المؤمنين عليه السلام:

ما عبدتك طمعا في جنتك و لا خوفا من نارك، و لكن وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك.

و أما غاية الثواب و العقاب فقد قطع الأصحاب بكون العبادة لا يفسد بقصدها و كذا ينبغي أن يكون غاية الحياء و الشكر، و باقي الغايات الظاهر أن قصدها مجز لأن الغرض بها الله في الجملة، و لا يقدح كون تلك الغايات باعثة على العبادة أعني الطمع و الرجاء و الشكر و الحياء، لأن الكتاب و السنة مشتملة على المرهبات من الحدود و التعزيرات و الذم و الإيعاد بالعقوبات، و على المرغبات من المدح و الثناء في العاجل و نعيمها في الآجل، و أما الحياء فغرض مقصود و قد جاء في الخبر عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم: استحيوا من الله حق الحياء، أعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، فإنه إذا تخيل الرؤية انبعث على الحياء و التعظيم و المهابة، و عن أمير المؤمنين عليه السلام و قد قال له ذعلب اليماني- بالذال المعجمة المكسورة و العين المهملة الساكنة، و اللام المكسورة- هل رأيت ربك يا أمير المؤمنين؟ فقال عليه السلام أ فأعبد ما لا أرى؟ فقال: و كيف تراه؟ فقال: لا يدركه العيون بمشاهدة العيان، و لكن يدركه القلوب بحقائق الإيمان، قريب من الأشياء غير ملامس، بعيد منها غير مباين، متكلم بلا رؤية، مريد بلا هم، صانع لا بجارحة، لطيف لا يوصف بالخفاء، بصير لا يوصف بالحاسة، رحيم لا يوصف بالرقة، تعنو الوجوه لعظمته، و تجل القلوب من مخافته.

و قد اشتمل هذا الكلام الشريف على أصول صفات الجلال و الإكرام التي عليها مدار علم الكلام، و أفاد أن العبادة تابعة للرؤية، و يفسر معنى الرؤية و أفاد الإشارة إلى أن قصد التعظيم بالعبادة حسن، و إن لم يكن تمام الغاية،

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 102

و كذلك الخوف منه تعالى.

ثم لما كان الركن الأعظم في النية هو الإخلاص، و كان انضمام تلك الأربعة غير قادح فيه فخليق أن يذكر ضمائم آخر و هي أقسام: الأول ما يكون منافية له كضم الرياء و يوصف بسببه العبادة بالبطلان بمعنى عدم استحقاق الثواب، و هل يقع مجزيا بمعنى سقوط التعبد به و الخلاص من العقاب؟ الأصح أنه لا يقع مجزيا و لم أعلم فيه خلافا إلا من السيد الإمام المرتضى قدس الله لطيفه، فإن ظاهره الحكم بالإجزاء في العبادة المنوي بها الرياء.

الثاني: ما يكون من الضمائم لازما للفعل كضم التبرد و التسخن أو التنظيف إلى نية القربة، و فيه وجهان ينظران إلى عدم تحقق معنى الإخلاص، فلا يكون الفعل مجزيا و إلى أنه حاصل لا محالة فنيته كتحصيل الحاصل الذي لا فائدة فيه و هذا الوجه ظاهر أكثر الأصحاب، و الأول أشبه، و لا يلزم من حصوله نية حصوله.

و يحتمل أن يقال: إن كان الباعث الأصلي هو القربة ثم طرأ التبرد عند الابتداء في الفعل لم يضر، و إن كان الباعث الأصلي هو التبرد فلما أراد ضم القربة لم يجز، و كذا إذا كان الباعث مجموع الأمرين لأنه لا أولوية فتدافعا فتساقطا فكأنه غير ناو، و من هذا الباب ضم نية الحمية إلى القربة في الصوم، و ضم ملازمة الغريم إلى القربة في الطواف و السعي و الوقوف بالمشعرين.

الثالث: ضم ما ليس بمناف و لا لازم كما لو ضم إرادة دخول السوق مع نية التقرب في الطهارة أو إرادة الأكل، و لم يرد بذلك الكون على طهارة في هذه الأشياء، فإنه لو أراد الكون على طهارة كان مؤكدا غير مناف، و هذه الأشياء و إن لم يستحب لها الطهارة بخصوصياتها إلا أنهما داخلة فيما يستحب لعمومه، و في هذه الضميمة وجهان مرتبان على القسم الثاني و أولى بالبطلان، لأن ذلك‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 103

تشاغل عما يحتاج إليه بما لا يحتاج إليه.

ثم قال (ره): يجب التحرز من الرياء فإنه يلحق العمل بالمعاصي، و هو قسمان جلي و خفي فالجلي ظاهر، و الخفي إنما يطلع عليه أولو المكاشفة و المعاملة لله، كما يروى عن بعضهم أنه طلب الغزو و تاقت نفسه إليه فتفقدها فإذا هو يحب المدح بقولهم: فلان غاز، فتركه فتئقت نفسه إليه، فأقبل يعرض على ذلك الرياء حتى أزاله، و لم يزل يتفقدها شيئا بعد شي‏ء حتى وجد الإخلاص مع بقاء الانبعاث فاتهم نفسه و تفقد أحوالها فإذا هو يحب أن يقال مات فلان شهيدا لتحسن سمعته في الناس بعد موته، و قد يكون ابتداء النية إخلاصا و في الأثناء يحصل الرياء، فيحب التحرز منه، فإنه مفسد للعمل، نعم لا يكلف بضبط هواجس النفس و خواطرها بعد إيقاع النية في الابتداء خالصة، فإن ذلك معفو عنه، كما جاء في الحديث: إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها.

و أقول: قد مر بعض القول في ذلك في باب الإخلاص.

 (الحديث الثاني)

 (1): حسن موثق و قد مر مثله في الرابع من باب ترك دعاء الناس.

" اجعلوا أمركم هذا"

 (2) أي التشيع‏

" لله"

 (3) أي خالصا له‏

" و لا تجعلوه للناس"

 (4) لا بالانفراد و لا بالاشتراك‏

" فإنه ما كان لله"

 (5) أي خالصا له"

فهو لله"

 (6) أي يصعد إليه و يقبله و عليه أجره‏

" و ما كان للناس"

 (7) و لو بالشركة

" فلا يصعد إلى الله"

 (8) أي لا يدفعه الملائكة و لا يثبتونه في ديوان الأبرار كما قال تعالى:" إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ" و الصعود إليه كناية عن القبول.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 104

 (الحديث الثالث)

 (1): ضعيف.

" كل رياء شرك"

 (2) هذا هو الشرك الخفي فإنه لما أشرك في قصد العبادة غيره تعالى فهو بمنزلة من أثبت معبودا غيره سبحانه كالصنم‏

" كان ثوابه على الناس"

 (3) أي لو كان ثوابه لازما على أحد كان لازما عليهم، فإنه تعالى قد شرط في الثواب الإخلاص، فهو لا يستحق منه تعالى شيئا أو أنه تعالى يحيله يوم القيامة على الناس.

 (الحديث الرابع)

 (4): مجهول.

" فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ"

 (5) قال الطبرسي (ره): أي فمن كان يطمع في لقاء ثواب ربه و يأمله و يقر بالبعث إليه و الوقوف بين يديه، و قيل: معناه فمن كان يخشى لقاء عقاب ربه، و قيل: إن الرجاء يشتمل على كلا المعنيين الخوف و الأمل‏

" وَ لا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً"

 (6) من ملك أو بشر أو حجر أو شجر، و قيل:

معناه لا يرائي عبادته أحدا عن ابن جبير، و قال مجاهد: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم فقال إني أتصدق و أصل الرحم و لا أصنع ذلك إلا لله فيذكر ذلك مني و أحمد عليه فيسرني ذلك و أعجب به؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم و لم يقل شيئا فنزلت الآية، قال عطاء عن ابن عباس: إن الله تعالى قال: و لا يشرك به، لأنه أراد العمل الذي يعمل لله، و يحب أن يحمد عليه، قال: و لذلك يستحب للرجل أن يدفع صدقته إلى غيره ليقسمها كيلا يعظمه من يصل بها، و روي عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنه قال: قال الله عز و جل: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملا أشرك فيه‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 105

غيري فأنا منه بري‏ء، فهو الذي أشرك، أورده مسلم في الصحيح، و روى عن عبادة الصامت و شداد بن الأوس قالا: سمعنا رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم يقول: من صلى صلاة يرائي بها فقد أشرك، و من صام صوما يرائي بها فقد أشرك، ثم قرأ هذه الآية و روي أن أبا الحسن الرضا عليه السلام دخل يوما على المأمون فرآه يتوضأ للصلاة و الغلام يصب على يده الماء فقال: لا تشرك بعبادة ربك أحدا، فصرف المأمون الغلام و تولى إتمام وضوئه بنفسه، انتهى.

و أقول: الرواية الأخيرة تدل على أن المراد بالشرك هنا الاستعانة في العبادة، و هو مخالف لسائر الأخبار، و يمكن الجمع بحملها على الأعم منها فإن الإخلاص التام هو أن لا يشرك في القصد و لا في العمل غيره سبحانه‏

" تزكية الناس"

 (1) أي مدحهم‏

" أن يسمع"

 (2) على بناء الأفعال.

" ما من عبد أسر خيرا"

 (3) أي عمل صالحا بأن أخفاه عن الناس لئلا يشوب بالرياء، أو أخفى في قلبه نية حسنة خالصة

" فذهبت الأيام أبدا"

 (4) قوله: أبدا متعلق بالنفي في قوله: ما من عبد.

" حتى يظهر الله له خيرا"

 (5) حتى للاستثناء، أي يظهر الله ذلك العمل الخفي للناس أو تلك النية الحسنة، و صرف قلوبهم إليه ليمدحوه و يوقروه فيحصل له مع ثناء الله ثناء الناس، و على الاحتمال الأول يدل على أن إسرار الخير أحسن من إظهاره، و لكل فائدة، أما فائدة الأسرار فالتحرز من الرياء، و أما فائدة الإظهار من إظهاره، و لكل فائدة، أما فائدة الأسرار فالتحرز من الرياء، و أما فائدة الإظهار فترغيب الناس في الاقتداء به، و تحريكهم إلى فعل الخير، و قد مدح الله كليهما،

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 106

و فضل الإسرار في قوله سبحانه:" إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَ إِنْ تُخْفُوها وَ تُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ" و يظهر من بعض الأخبار أن الإخفاء في النافلة أفضل و الإبداء في الفريضة أحسن، و يمكن القول باختلاف ذلك بحسب اختلاف أحوال الناس، فمن كان آمنا من الرياء فالإظهار منه أفضل و من لم يكن آمنا فالإخفاء أفضل، و الأول أظهر لتأييده بالخبر.

قال المحقق الأردبيلي (ره): المشهور بين الأصحاب أن الإظهار في الفريضة أولى سيما في المال الظاهر، و لمن هو محل التهمة لرفع تهمة عدم الدفع و بعده عن الرياء، و لأن يتبعه الناس في ذلك، و الإخفاء في غيرها ليسلم من الرياء، و المروي عن ابن عباس أن صدقة التطوع إخفاؤها أفضل، و أما المفروضة فلا يدخلها الرياء و يلحقها تهمة المنع بإخفائها فإظهارها أفضل.

و ما رواه في مجمع البيان عن علي بن إبراهيم بإسناده إلى الصادق عليه السلام قال: الزكاة المفروضة تخرج علانية و تدفع علانية و غير الزكاة إن دفعها سرا فهو أفضل، فإن ثبت صحته أو صحة مثله فتخصص الآية، و تفصل به، و إلا فهي على عمومها، و معلوم دخول الرياء في الزكاة المفروضة كما في سائر العبادات المفروضة، و لهذا اشترط في النية عدمه و لو تمت التهمة لكانت مختصة بمن يتهم، (انتهى).

" و ما من عبد يسر شرا"

 (1) أي عملا قبيحا أو رياء في الأعمال الصالحة فإن الله يفضحه بهذا العمل القبيح إن داوم عليه و لم يتب عند الناس، و كذا الرياء الذي أصر عليه فيترتب على إخفائه نقيض مقصوده على الوجهين.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 107

 (الحديث الخامس)

 (1): كالسابق.

و في النهاية:

ويح‏

 (2) كلمة ترحم و توجع يقال: لمن وقع في هلكة لا يستحقها، و قد يقال بمعنى المدح و التعجب و هي منصوبة على المصدر، و قد ترفع و تضاف و لا تضاف، انتهى.

و السمعة

 (3) بالضم و قد يفتح يكون على وجهين أحدهما أن يعمل عملا و يكون غرضه عند العمل سماع الناس له كما أن الرياء هو أن يعمل ليراه الناس فهو قريب من الرياء بل نوع منه، و ثانيهما أن يسمع عمله الناس بعد الفعل، و المشهور أنه لا يبطل عمله بل ينقص ثوابه أو يزيله كما سيأتي و كان المراد هنا الأول، في القاموس: و ما فعله رياء و لا سمعة و تضم و تحرك، و هي ما نوه ليرى و يسمع، انتهى.

" إلى من عمل"

 (4) أي إلى من عمل له، و في بعض النسخ إلى ما عمل أي إلى عمله أي لا ثواب له إلا أصل عمله و ما قصده به أو ليس له إلا التعب‏

" إلا رداه الله به"

 (5) رداه تردية ألبسه الرداء أي يلبسه الله رداء بسبب ذلك العمل، فشبه عليه السلام الأثر الظاهر على الإنسان بسبب العمل بالرداء، فإنه يلبس فوق الثياب و لا يكون مستورا بثوب آخر

" إن خيرا فخيرا"

 (6) أي إن كان العمل خيرا كان الرداء خيرا و إن كان العمل شرا كان الرداء شرا.

و الحاصل أن من عمل شرا إما بكونه في نفسه شرا أو بكونه مشوبا بالرياء يظهر الله أثر ذلك عليه، و يفضحه بين الناس و كذا إذا عمل عملا خيرا و جعله لله خالصا ألبسه الله أثر ذلك العمل و أظهر حسنه للناس كما مر في الخبر السابق، و قيل: شبه‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 108

العمل بالرداء في الإحاطة و الشمول إن خيرا فخيرا أي إن كان عمله خيرا فكان جزاؤه خيرا، و كذا الشر و ربما يقرأ ردأه بالتخفيف و الهمز، يقال: رداه به أي جعله له ردءا و قوة و عمادا، و لا يخفى ما فيهما من الخبط و التصحيف و سيأتي ما يأبى عنهما.

 (الحديث السادس)

 (1): صحيح.

و التعشي‏

 (2) أكل الطعام آخر النهار أو أول الليل، في القاموس العشي و العشية آخر النهار، و العشاء كسماء طعام العشي و تعشى أكله‏

" بَلِ الْإِنْسانُ عَلى‏ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ"

 (3) قال البيضاوي: أي حجة بينة على أعمالها لأنه شاهد بها، وصفها بالبصارة على سبيل المجاز أو عين بصيرة بها، فلا يحتاج إلى الإنباء

" وَ لَوْ أَلْقى‏ مَعاذِيرَهُ"

 (4) أي و لو جاء بكل ما يمكن أن يعتذر به، جمع معذار و هو العذر أو جمع معذرة على غير قياس كالمناكير في المنكر، فإن قياسه معاذر، انتهى.

و التوجيه الأول لبصيرة لأكثر المفسرين، و الثاني نقله النيسابوري عن الأخفش، فإنه جعل الإنسان بصيرة كما يقال: فلان كرم لأنه يعلم بالضرورة متى رجع إلى عقله أن طاعة خالقه واجبة، و عصيانه منكر، فهو حجة على نفسه بعقله السليم و نقل عن أبي عبيدة أن التاء للمبالغة كعلامة، و قال في قوله تعالى:" وَ لَوْ أَلْقى‏ مَعاذِيرَهُ" هذا تأكيد أي و لو جاء بكل معذرة يحاج بها عن نفسه فإنها لا تنفعا لأنها لا تخفى شيئا من أفعاله فإن نفسه و أعضائه تشهد عليه.

قال: قال الواحدي و الزمخشري: المعاذير اسم جمع للمعذرة كالمناكير للمنكر و لو كان جمعا لكان معاذر بغير ياء، و نقل عن الضحاك و السدي أن المعاذير جمع المعذار و هو الستر، و المعنى أنه و إن أسبل الستور أن يخفى شي‏ء من عمله، قال الزمخشري‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 109

إن صح هذا النقل فالسبب في التسمية أن الستر يمنع رؤية المحتجب كما يمنع المعذرة عقوبة المذنب، انتهى.

" يا أبا حفص"

 (1) أي قال ذلك‏

" ما يصنع الإنسان"

 (2) استفهام على الإنكار و الغرض التنبيه على أنه لا ينفعه في آخرته و لا في دنياه أيضا لما سيأتي‏

" أن يتقرب إلى الله"

 (3) أي يفعل ما يفعله المتقرب و يأتي بما يتقرب به و إن كان ينوي به أمرا آخر،

" بخلاف ما يعلم الله"

 (4) أي من باطنه فإنه يظهر ظاهرا أنه يعمل العمل لله، و يعلم الله من باطنه أنه يفعله لغير الله، أو أنه ليس خالصا لله، و قيل: المعنى التقرب بهذا العمل المشترك إلى الله تعالى تقرب بخلاف ما يعلم الله أنه موجب للتقرب، و السريرة ما يكتم‏

" رداه الله رداءها"

 (5) كأنه جرد التردية عن معنى الرداء و استعمل بمعنى الإلباس و سيأتي" ألبسه الله" و قد مر أنه أستعير الرداء للحالة التي تظهر على الإنسان و تكون علامة لصلاحه و فساده.

 (الحديث السابع)

 (6): ضعيف على المشهور.

و الابتهاج‏

 (7) السرور، و الباء في‏

قوله: بعمل‏

 (8) و

بحسناته‏

 (9) للملابسة و يحتمل التعدية

و قوله: ليصعد

 (10) أي يشرع في الصعود،

و قوله: فإذا صعد

 (11) أي تم صعوده و وصل إلى موضع يعرض فيه الأعمال على الله تعالى، و قوله: بحسناته من قبيل وضع المظهر موضع المضمر تصريحا بأن العمل من جنس الحسنات أو هو منها بزعمه، أي أثبتوا تلك‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 110

الأعمال التي تزعمون أنها حسنات من ديوان الفجار الذي هو في سجين كما قال الله تعالى:" إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ" و في القاموس: سجين كسكين موضع فيه كتاب الفجار، و واد في جهنم أعاذنا الله منها أو حجر في الأرض السابعة و قال البيضاوي" إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ" ما يكتب من أعمالهم" لَفِي سِجِّينٍ كتاب جامع لإعمال الفجرة من الثقلين كما قال:" وَ ما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ، كِتابٌ مَرْقُومٌ" أي مسطور بين الكتابة، ثم قال: و قيل: هو اسم المكان و التقدير ما كتاب السجين أو محل كتاب مرقوم فحذف المضاف‏

" اجعلوها"

 (1) الخطاب إلى الملائكة الصاعدين، فالمراد بالملك أولا الجنس أو إلى ملائكة الرد و القبول، و الضمير المنصوب للحسنات‏

" ليس إياي أراد"

 (2) تقديم الضمير للحصر، أي لم يكن مراده أنا فقط بل أشرك معي غيري.

 (الحديث الثامن)

 (3): كالسابق.

و في القاموس:

نشط

 (4) كسمع نشاطا بالفتح طابت نفسه للعمل و غيره، و قال:

الكسل‏

 (5) محركة التثاقل عن الشي‏ء و الفتور فيه، كسل كفرح، انتهى.

و النشاط يكون قبل العمل و باعثا للشروع فيه، و يكون بعده و سببا لتطويله و تجويده‏

" في جميع أموره"

 (6) أي في جميع طاعاته و تركه للمنهيات أو الأعم منها و من أمور الدنيا.

 (الحديث التاسع)

 (7): ضعيف على المشهور.

" أنا خير شريك"

 (8) لأنه سبحانه غني لا يحتاج إلى الشركة و إنما يقبل‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 111

الشركة من لم يكن غنيا بالذات، فلا يقبل العمل المخلوط لرفعته و غناه، أو المراد أني محسن إلى الشركاء أدع إليهم ما كان مشتركا بيني و بينهم و لا أقبله، و قيل:

على هذا الكلام مبني على التشبيه، و الاستثناء في قوله: إلا ما كان، منقطع.

 (الحديث العاشر)

 (1): مختلف فيه.

" و بارز الله"

 (2) كان المراد به أبرز و أظهر لله بما كرهه الله من المعاصي، فإن ما يفعله في الخلوة يراه الله و يعلمه، و المستفاد من اللغة أنه من المبارزة في الحرب فإن من يعصي الله سبحانه بمرأى منه و مسمع، فكأنه يبارزه و يقاتله، في القاموس بارز القرن مبارزة و برازا برز إليه.

 (الحديث الحادي عشر)

 (3): صحيح بسنده الأول و الثاني ضعيف.

" و يسر سيئا"

 (4) أي نية سيئة و رياء أو أعمالا قبيحة و الأول أظهر، فيعلم أن ذلك ليس كذلك أي يعلم أن عمله ليس بمقبول لسوء سريرته و عدم صحة نيته‏

" إن السريرة إذا صحت"

 (5) أي إن النية إذا صحت،

قويت‏

 (6) الجوارح على العمل، كما ورد لا يضعف بدن عما قويت عليه النية، و روي أن في ابن آدم مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد ألا و هي القلب، لكن هذا المعنى لا يناسب هذا المقام كما لا يخفى، و يمكن أن يكون المراد بالقوة القوة المعنوية أي صحة العمل و كمالها،

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 112

و قيل: المراد

بالعلانية

 (1) الرداء المذكور سابقا، أي أثر العمل.

و أقول: يحتمل أن يكون المعنى قوة العلانية على العمل دائما، لا بمحضر الناس فقط.

 (الحديث الثاني عشر)

 (2): ضعيف على المشهور و قد مر.

 (الحديث الثالث عشر)

 (3): كالسابق.

" أظهر الله له"

 (4) في بعض النسخ أظهره الله له، فالضمير للقليل أو للعمل، و أكثر صفة للمفعول المطلق المحذوف‏

" مما أراد"

 (5) أي مما أراد الله به، و المراد إظهاره على الناس، و نسبة السهر إلى الليل على المجاز، و ضمير يقلله للكثير أو للعمل، و قد يقال: الضمير للموصول فالتقليل كناية عن التحقير كما روي أن رجلا من بني إسرائيل قال: لأعبدن الله عبادة أذكر بها فمكث مدة مبالغا في الطاعات و جعل لا يمر بملإ من الناس إلا قالوا متصنع مراء فأقبل على نفسه و قال: قد أتعبت نفسك‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 113

و ضيعت عمرك في لا شي‏ء فينبغي أن تعمل لله سبحانه، فغير نيته و أخلص عمله لله فجعل لا يمر بملإ من الناس إلا قالوا ورع تقي.

 (الحديث الرابع عشر)

 (1): كالسابق أيضا.

" سيأتي"

 (2) السين للتأكيد أو للاستقبال القريب‏

" يخبث"

 (3) كيحسن‏

" سرائرهم"

 (4) بالمعاصي أو بالنيات الخبيثة الريائية

" طمعا"

 (5) مفعول له ليحسن‏

" لا يريدون به"

 (6) الضمير لحسن العلانية أو للعمل المعلوم بقرينة المقام‏

" يكون دينهم"

 (7) أي عباداتهم الدينية أو أصل إظهار الدين‏

" رياء"

 (8) لطلب المنزلة في قلوب الناس، و الباء في‏

قوله:

" بعقاب"

 (9) للتعدية

" دعاء الغريق"

 (10) أي كدعاء من أشرف على الغرق، فإن الإخلاص و الخضوع فيه أخلص من سائر الأدعية لانقطاع الرجاء من غيره سبحانه، و ما قيل:

من أن المعنى من غرق في ماء دموعه فلا يخفى بعده، و عدم الإجابة لعدم عملهم بشرائطها و عدم وفائهم بعهوده تعالى، كما قال تعالى:" أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ" و سيأتي الكلام فيه في كتاب الدعاء إنشاء الله، و لا يبعد أن يكون العقاب إشارة إلى غيبة الإمام عليه السلام.

 (الحديث الخامس عشر)

 (11): صحيح.

و قد مر بعينه سندا و متنا و لا اختلاف إلا في قوله: أن يعتذر إلى الناس، و قوله: ألبسه الله، و كأنه أعاده لاختلاف النسخ في ذلك و هو بعيد، و لعله كان على السهو، و ما هنا كأنه أظهر في الموضعين، و الاعتذار إظهار العذر و طلب قبوله، و قيل‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 114

لعل المراد به هو الحث على التسوية بين السريرة و العلانية، بحيث لا يفعل سرا ما لو ظهر لاحتاج إلى العذر. و من البين أن الخير لا يحتاج إلى العذر و إنما المحتاج إليه هو الشر، ففيه ردع عن تعلق السر بالشر مخالفا للظاهر، و هذا كما قيل لبعضهم: عليك بعمل العلانية، قال: و ما عمل العلانية؟ قال: ما إذا اطلع الناس عليك لم تستحي منه، و هذا مأخوذ من كلام أمير المؤمنين عليه السلام على ما ذكره صاحب العدة (ره) حيث يقول عليه السلام: إياك و ما تعتذر منه فإنه لا تعتذر من خير، و إياك و كل عمل في السر تستحيي منه في العلانية، و إياك و كل عمل إذا ذكر لصاحبه أنكره.

 (الحديث السادس عشر)

 (1): ضعيف.

" الإبقاء على العمل"

 (2) أي حفظه و رعايته و الشفقة عليه من ضياعه، في النهاية:

يقال أبقيت عليه أبقى إبقاء إذا رحمته و أشفقت عليه و الاسم البقيا، و في الصحاح أبقيت على فلان إذا أرعيت عليه و رحمته.

قوله عليه السلام: يصل،

 (3) هو بيان لترك الإبقاء ليعرف الإبقاء فإن الأشياء تعرف بأضدادها

" فتكتب"

 (4) على بناء المجهول، و الضمير المستتر راجع إلى كل من الصلة و النفقة، و

سرا

 (5) و

علانية

 (6) و

رياء

 (7) كل منها منصوب و مفعول ثان لتكتب، و

قوله: فتمحى‏

 (8) على بناء المفعول من باب الأفعال، و يمكن أن يقرأ على بناء المعلوم من باب الافتعال‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 115

بقلب التاء ميما

" فتكتب له علانية"

 (1) أي يصير ثوابه أخف و أقل‏

" و تكتب له رياء"

 (2) أي يبطل ثوابه بل يعاقب عليه، و قيل: كما يتحقق الرياء في أول العبادة و وسطها كذلك يتحقق بعد الفراغ منها، فيجعل ما فعل لله خالصا في حكم ما فعل لغيره فيبطلها كالأولين عند علمائنا، بل يوجب الاستحقاق للعقوبة أيضا عند الجميع.

و قال الغزالي: لا يبطلها لأن ما وقع صحيحا فهو صحيح لا ينتقل من الصحة إلى الفساد، نعم الرياء بعده حرام يوجب استحقاق العقوبة، و قد مر بسط القول فيه‏

 (الحديث السابع عشر)

 (3): كالسابق.

" خشية ليست بتعذير"

 (4) أقول: هذه الفقرة تحتمل وجوها: الأول: ما ذكره المحدث الأسترآبادي (ره) حيث قال: إذا فعل أحد فعلا من باب الخوف و لم يرض به فخشيته خشية تعذير و خشية كراهية، و إن رضي به فخشيته خشية رضى أو خشية محبة.

الثاني: أن يكون التعذير بمعنى التقصير بحذف المضاف أي ذات تعذير، أي لم تكونوا مقصرين في الخشية، أو الباء للملابسة أي بمعنى مع، قال في النهاية:

التعذير التقصير، و منه حديث بني إسرائيل: كانوا إذا عمل فيهم بالمعاصي نهوهم تعذيرا أي نهيا قصروا فيه و لم يبالغوا، وضع المصدر موضع اسم الفاعل حالا كقولهم جاء مشيا، و منه حديث الدعاء: و تعاطي ما نهيت عنه تعذيرا.

الثالث: أن يكون التعذير بمعنى التقصير أيضا، و يكون المعنى لا تكون خشيتكم بسبب التقصيرات الكثيرة في الأعمال بل تكون مع بذل الجهد في الأعمال‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 116

كما ورد في صفات المؤمن يعمل و يخشى.

الرابع: أن يكون المعنى تكون خشيتكم خشية واقعية لا إظهار خشية في مقام الاعتذار إلى الناس و العمل بخلاف ما تقتضيه كما مر في قوله عليه السلام: ما يصنع الإنسان أن يعتذر إلى الناس" إلخ" قال الجوهري: المعذر بالتشديد هو المظهر للعذر من غير حقيقة له في العذر.

الخامس: ما ذكره بعض مشايخنا: أن المعنى اخشوا الله خشية لا تحتاجون معها في القيامة إلى إبداء العذر.

و كان الثالث أظهر الوجوه‏

" وكله الله إلى عمله"

 (1) أي يرد عمله عليه فكأنه و كله إليه، أو بحذف المضاف أي مقصود عمله أو شريك عمله أو ليس له إلا العناء و التعب كما مر.

 (الحديث الثامن عشر)

 (2): حسن كالصحيح.

" ما من أحد"

 (3) أي الإنسان مجبول على ذلك لا يمكنه رفع ذلك عن نفسه فلو كلف به لكان تكليفا بما لا يطاق‏

" إذا لم يكن صنع ذلك لذلك"

 (4) أي لم يكن باعثه على أصل الفعل أو على إيقاعه على الوجه الخاص ظهوره في الناس، و قد ورد نظير ذلك من طريق العامة عن أبي ذر أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: أ رأيت الرجل يعمل العمل من الخير و يحمده الناس عليه؟ قال: تلك عاجل بشرى المؤمن يعني البشرى المعجلة له في الدنيا، و البشرى الأخرى قوله سبحانه:" بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 117

تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ".

و قيل: و هذا ينافي ما روي من طريقنا: ما بلغ عبد حقيقة الإخلاص حتى لا يحب أن يحمد على شي‏ء من عمل لله، و ما روي من طريقهم عن ابن جبير في سبب نزول قوله تعالى:" فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ"" إلخ". و قد مر و قد جمع بينهما صاحب العدة (ره) بأنه إن كان سروره باعتبار أنه تعالى أظهر جميلة عليهم أو باعتبار أنه استدل بإظهار جميلة في الدنيا على إظهار جميلة في الآخرة على رؤوس الإشهاد، أو باعتبار أن الرائي قد يميل قلبه بذلك إلى طاعة الله تعالى، أو باعتبار أنه يسلب ذلك اعتقادهم بصفة ذميمة له فليس ذلك السرور رياء و سمعة، و إن كان سروره باعتبار رفع المنزلة أو توقع التعظيم و التوقير بأنه عابد زاهد و تزكيتهم له إلى غير ذلك من التدليسات النفسانية و التلبيسات الشيطانية فهو رياء ناقل للعمل من كفة الحسنات إلى كفة السيئات، انتهى.

و أقول: يمكن أن يكون ذلك باعتبار اختلاف درجات الناس و مراتبهم، فإن تكليف مثل ذلك بالنظر إلى أكثر الخلق تكليف بما لا يطاق، و لا ريب في اختلاف التكاليف بالنسبة إلى أصناف الخلق بحسب اختلاف استعداداتهم و قابلياتهم.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 118

باب طلب الرئاسة

 (1)

 (الحديث الأول)

 (2): صحيح.

" أنه ذكر رجلا"

 (3) ضمائر" أنه" و" ذكر" و" فقال" أولا راجعة إلى معمر و يحتمل رجوعها إلى الإمام عليه السلام، و

الرئاسة

 (4) الشرف و العلو على الناس، رأس الرجل يرأس مهموزا بفتحتين رئاسة شرف و على قدره، فهو رئيس، و الجمع رؤساء مثل شريف و شرفاء، و

الضاري‏

 (5) السبع الذي اعتاد بالصيد و إهلاكه، و

الرعاء

 (6) بالكسر و المد جمع راع اسم فاعل، و بالضم اسم جمع صرح بالأول صاحب المصباح، و بالثاني القاضي و تفرق الرعاء لبيان شدة الضرر، فإن الراعي إذا كان حاضرا يمنع الذئب عن الضرر، و يحمى القطيع، و الظاهر أن‏

قوله: في دين المسلم‏

 (7) صلة للضرر المقدر أي ليس ضرر الذئبين في الغنم بأشد من ضرر الرئاسة في دين المسلم، ففي الكلام تقديم و تأخير، و يؤيده ما سيأتي في باب حب الدنيا مثله هكذا: بأفسد فيها من حب المال و الشرف في دين المسلم، و قيل: في دين المسلم حال عن الرئاسة قدم عليه، و لا يخفى ما فيه.

و فيه تحذير عن طلب الرئاسة، و للرئاسة أنواع شتى منها ممدوحة و منها مذمومة، فالممدوحة منها الرئاسة التي أعطاها الله تعالى خواص خلقه من الأنبياء و الأوصياء عليهم السلام، لهداية الخلق و إرشادهم، و رفع الفساد عنهم، و لما كانوا معصومين مؤيدين بالعنايات الربانية فهم مأمونون من أن يكون غرضهم من ذلك تحصيل‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 119

الأغراض الدنية و الأغراض الدنيوية، فإذا طلبوا ذلك ليس غرضهم إلا الشفقة على خلق الله تعالى، و إنقاذهم من المهالك الدنيوية و الأخروية كما قال يوسف عليه السلام" اجْعَلْنِي عَلى‏ خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ" و أما سائر الخلق فلهم رئاسات حقة و رئاسات باطلة و هي مشتبهة بحسب نياتهم و اختلاف حالاتهم فمنها القضاء و الحكم بين الناس، و هذا أمر خطير و للشيطان فيه تسويلات، و لذا وقع التحذير عنه في كثير من الأخبار، و أما من يأمن ذلك من نفسه و يظن أنه لا ينخدع من الشيطان فإذا كان في زمان حضور الإمام و بسط يده عليه السلام و كلفه ذلك يجب عليه قبوله.

و أما في زمان الغيبة فالمشهور أنه يجب على الفقيه الجامع لشرائط الحكم و الفتوى ارتكاب ذلك إما عينا و إما كفاية، فإن كان غرضه من ارتكاب ذلك إطاعة إمامه و الشفقة على عباد الله و إحقاق حقوقهم و حفظ فروجهم و أموالهم و أعراضهم عن التلف و لم يكن غرضه الترفع على الناس و التسلط عليهم، و لا جلب قلوبهم و كسب المحمدة منهم، فليست رئاسته رئاسة باطلة، بل رئاسة حقة أطاع الله تعالى فيها و نصح إمامه، و لو كان غرضه كسب المال الحرام و جلب قلوب الخواص و العوام و أمثال ذلك فهي الرئاسة الباطلة التي حذر عنها، و أشد منها من ادعى ما ليس له بحق كالإمامة و الخلافة و معارضة أئمة الحق فإنه على حد الشرك بالله و قريب منه ما فعله الكذابون المتصنعون الذين كانوا في أعصار الأئمة عليه السلام و كانوا يصدون الناس عن الرجوع إليهم كالحسن البصري و سفيان الثوري و أبي حنيفة و أضرابهم.

و من الرئاسات المنقسمة إلى الحق و الباطل ارتكاب الفتوى و التدريس‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 120

و الوعظ، فمن كان أهلا لتلك الأمور عالما بما يقول متبعا للكتاب و السنة و كان غرضه هداية الخلق و تعليمهم مسائل دينهم فهو من الرئاسة الحقة، و يحتمل وجوبه إما عينا أو كفاية، و من لم يكن أهلا لذلك و يفسر الآيات برأيه و الأخبار مع عدم فهمها، و يفتي الناس بغير علم فهو ممن قال الله سبحانه فيهم:" قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً" و كذلك من هو أهل لتلك الأمور من جهة العلم لكنه مراء متصنع يحرف الكلم عن مواضعه، و يفتي الناس بخلاف ما يعلم، أو كان غرضه محض الشهرة و جلب القلوب أو تحصيل الأموال و المناصب فهو أيضا من الهالكين، و منها أيضا إمامة الجمعة و الجماعة فهذا أيضا إن كان أهله و صحت نيته فهو من الرئاسات الحقة و إلا فهو أيضا من أهل الفساد.

و الحاصل أن الرئاسة إن كانت بجهة شرعية و لغرض صحيح فهي ممدوحة و إن كانت على غير الجهات الشرعية أو مقرونة بالأغراض الفاسدة فهي مذمومة فهذه الأخبار محمولة على هذه الوجوه الباطلة، أو على ما إذا كان المقصود نفس الرئاسة و التسلط.

قال بعض المحققين: معنى الجاه ملك القلوب و القدرة عليها، فحكمها حكم ملك الأموال فإنه عرض من أعراض الحياة الدنيا و ينقطع بالموت كالمال، و الدنيا مزرعة الآخرة فكل ما خلق الله من الدنيا فيمكن أن يتزود منه إلى الآخرة، و كما أنه لا بد من أدنى مال لضرورة المطعم و الملبس، فلا بد من أدنى جاه لضرورة المعيشة مع الخلق، و الإنسان كما لا يستغني عن طعام يتناوله، فيجوز أن يحب‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 121

الطعام و المال الذي يباع به الطعام فكذلك لا يخلو عن الحاجة إلى خادم يخدمه و رفيق يعينه و أستاد يعلمه و سلطان يحرسه، و يدفع عنه ظلم الأشرار، فحبه أن يكون له في قلب خادمه من المحل ما يدعوه إلى الخدمة ليس بمذموم، و حبه لأن يكون له في قلب رفيقه من المحل ما يحسن به مرافقته و معاونته ليس بمذموم، و حبه لأن يكون في قلب أستاذه من المحل ما يحسن به إرشاده و تعليمه و العناية به ليس بمذموم، و حبه لأن يكون له من المحل في قلب سلطانه ما يحثه ذلك على دفع الشر عنه ليس بمذموم، فإن ألجأه وسيلة إلى الأغراض كالمال، فلا فرق بينهما إلا أن التحقيق في هذا يفضي إلى أن لا يكون المال و الجاه في أعيانهما محبوبين بل ينزل ذلك منزلة حب الإنسان أن يكون في داره بيت ماء لأنه يضطر إليه لقضاء حاجته و بوده لو استغنى عن قضاء الحاجة حتى يستغني عن بيت الماء، و هذا على التحقيق ليس بحب لبيت الماء، فكل ما يراد به التوصل إلى محبوب فالمحبوب هو المقصود المتوسل إليه، و تدرك التفرقة بمثال و هو أن الرجل قد يحب زوجته من حيث أنه يدفع بها فضلة الشهوة، كما يدفع بيت الماء فضلة الطعام، و لو كفى مؤنة الشهوة لكان يهجر زوجته كما لو كفى قضاء الحاجة لكان لا يدخل بيت الماء و لا يدور به، و قد يحب زوجته لذاتها حب العشاق و لو كفى الشهوة لبقي مستصحبا لنكاحها، فهذا هو الحب دون الأول، فكذلك الجاه و المال قد يحب كل واحد منهما من هذين الوجهين فحبهما لأجل التوسل إلى مهمات البدن غير مذموم، و حبهما لأعيانهما فيما يجاوز ضرورة البدن و حاجته مذموم و لكنه لا يوصف صاحبه بالفسق و العصيان ما لم يحمله الحب على مباشرة معصية، و ما لم يتوصل إلى اكتسابه بعبادة، فإن التوصل إلى المال و الجاه بالعبادة جناية على الدين و هو حرام، و إليه يرجع معنى الرياء المخطور كما مر.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 122

فإن قلت: طلب الجاه و المنزلة في قلب أستاذه و خادمه و رفيقه و سلطانه و من يرتبط به أمره مباح على الإطلاق كيف ما كان، أو مباح إلى حد مخصوص أو على وجه مخصوص؟.

فأقول: يطلب ذلك على ثلاثة أوجه، وجهان منها مباح و وجه منها مخطور أما المخطور فهو أن يطلب قيام المنزلة في قلوبهم باعتقادهم فيه صفة هو منفك عنها مثل العلم و الورع و النسب فيظهر لهم أنه علوي أو عالم أو ورع، و لا يكون كذلك فهذا حرام لأنه تلبيس و كذب إما بالقول و إما بالفعل، و أما المباح فهو أن يطلب المنزلة بصفة هو متصف بها كقول يوسف عليه السلام:" اجْعَلْنِي عَلى‏ خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ" فإنه طلب المنزلة في قلبه بكونه حفيظا عليما، و كان محتاجا إليه، و كان صادقا فيه، و الثاني أن يطلب إخفاء عيب من عيوبه و معصية من معاصيه، حتى لا يعلمه فلا تزول منزلته به، فهذا أيضا مباح، لأن حفظ الستر على القبائح جائز و لا يجوز هتك الستر و إظهار القبيح، فهذا ليس فيه تلبيس بل هو سد لطريق العلم بما لا فائدة في العلم به، كالذي يخفى عن السلطان أنه يشرب الخمر و لا يلقى إليه أنه ورع، فإن قوله: إني ورع تلبيس، و عدم إقراره بالشرب لا يوجب اعتقاده الورع بل يمنع العلم بالشرب.

و من جملة المخطورات تحسين الصلاة بين يديه لتحسن فيه اعتقاده، فإن ذلك رياء و هو ملبس إذ يخيل إليه أنه من المخلصين الخاشعين لله، و هو مرائي بما يفعله فكيف يكون مخلصا، فطلب الجاه بهذا الطريق حرام، و كذا بكل معصية، و ذلك يجري مجرى اكتساب المال من غير فرق، و كما لا يجوز له أن يتملك مال غيره بتلبيس في عوض أو في غيره، فلا يجوز له أن يتملك قلبه بتزوير و خداع، فإن ملك القلوب أعظم من ملك الأموال.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 123

 (الحديث الثاني)

 (1): مرسل.

 (الحديث الثالث)

 (2): صحيح.

و قال الجوهري:

رأس‏

 (3) فلان القوم يرأس بالفتح رئاسة و هو رئيسهم، و رأسته أنا ترئيسا فترأس هو و ارتأس عليهم، و قال:

خفق الأرض بنعله‏

 (4) و كل ضرب بشي‏ء عريض: خفق.

أقول: و هذا أيضا محمول على الجماعة الذين كانوا في أعصار الأئمة عليهم السلام و يدعون الرئاسة من غير استحقاق، أو تحذير عن تسويل النفس و تكبرها و استعلائها باتباع العوام و رجوعهم إليه، فيهلك بذلك و يهلكهم بإضلالهم و إفتائهم بغير علم، مع أن زلات علماء الجور مسرية إلى غيرهم، لأن كل ما يرون منهم يزعمون أنه حسن فيتبعونهم في ذلك، كما قال النبي صلى الله عليه و آله و سلم: أخاف على أمتي زلة عالم.

 (الحديث الرابع)

 (5): مرفوع.

" من ترأس"

 (6) أي ادعى الرئاسة بغير حق، فإن التفعل غالبا يكون للتكليف.

 (الحديث الخامس)

 (7): مجهول إذ في أكثر نسخ الكافي عن أبي عقيل و في بعضها عن‏

أبي عقيلة،

 (8) و الظاهر أنه كان أيوب بن أبي غفيلة لأن الشيخ ذكر في الفهرست‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 124

الحسن بن أيوب بن أبي غفيلة، و قال النجاشي: له كتاب أصل، و كون كتابه أصلا، عندي مدح عظيم فالخبر حسن موثق‏

" إلا مما وطأت أعقاب الرجال."

 (1) أي مشيت خلفهم لأخذ الرواية عنهم، فأجاب عليه السلام بأنه ليس الغرض النهي عن ذلك، بل الغرض النهي عن جعل غير الإمام المنصوب من قبل الله تعالى بحيث تصدقه في كل ما يقول، و قيل: وطؤ العقب كناية عن الاتباع في الفعال، و تصديق المقال و اكتفى في تفسيره بأحدهما لاستلزامه الآخر غالبا.

 (الحديث السادس)

 (2): مجهول.

" و لا تكن ذنبا"

 (3) أي تابعا للجهال و المترئسين و علماء السوء قال في النهاية:

الأذناب الأتباع جمع ذنب كأنهم في مقابل الرؤوس، و هم المقدمون و في بعض النسخ ذئبا بالهمز، فيكون تأكيدا للفقرة السابقة، فإن رؤساء الباطل ذئاب يفترسون الناس و يهلكونهم من حيث لا يعلمون‏

" و لا تأكل بنا الناس"

 (4) أي لا تجعل انتسابك إلينا بالتشيع أو العلم أو النسب مثلا وسيلة لأخذ أموال الناس أو إضرارهم، أو لا تجعل وضع الأخبار فينا وسيلة لأخذ أموال الشيعة

" فيفقرك الله"

 (5) على خلاف مقصودك‏

" ما لا نقول في أنفسنا"

 (6) كالربوبية و الحلول و الاتحاد و نسبة خلق العالم إليهم، أو كونهم أفضل من نبينا صلى الله عليه و آله و سلم، أو الأعم منها و من التقصير في حقهم‏

" فإنك موقوف"

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 125

 (1) أي يوم القيامة و

مسئول‏

 (2) عما قلت فينا لقوله تعالى:" وَ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ" و في القاموس:

لا محالة

 (3) منه بالفتح لا بد منه.

 (الحديث السابع)

 (4): ضعيف.

 (الحديث الثامن)

 (5): صحيح.

" أ ترى"

 (6) على المعلوم أو المجهول استفهام إنكار

" أنه لا بد"

 (7) قيل: الضمير اسم إن و راجع إلى أن يوطأ، و لا بد جملة معترضة و

" من كذاب"

 (8) خبر إن و من للابتداء أو الضمير للشأن و من كذاب ظرف لغو متعلق بلا بد بتقدير لا بد لنا من كذاب، و قيل: أي لا بد في الأرض من كذاب يطلب الرئاسة و من عاجز الرأي يتبعه.

أقول: و يحتمل أن يكون الضمير راجعا إلى الموصول، و التقدير لا بد من أن يكون كذابا أو

عاجز الرأي،

 (9) لأن الناس يرجعون إليه في المسائل و الأمور المشكلة، فإن أجابهم كان كذابا غالبا و إن لم يجبهم كان ضعيف العقل عندهم أو واقعا لأنه لا يتم ما أراد بذلك.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 126

باب اختتال الدنيا بالدين‏

 (1)

 (الحديث الأول)

 (2): ضعيف على المشهور، و عندي صحيح لأن ابن سنان وثقه المفيد و ابن طاوس (ره) و ابن ظبيان روى ابن إدريس في مستطرفات السرائر نقلا من جامع البزنطي بسند صحيح عن الصادق أنه قال فيه رحمه الله: و بنى له بيتا في الجنة كان و الله مأمونا على الحديث، و هو يدل ثقته و جلالته، و المشهور أنه ضعيف.

" ويل للذين يختلون الدنيا بالدين"

 (3) أي العذاب و الهلاك للذين يطلبون الدنيا بعمل الآخرة بالخديعة و المكر، قال في النهاية: الويل الحزن و الهلاك و المشقة من العذاب، و قال فيه: من أشراط الساعة أن تعطل السيوف من الجهاد، و المشقة من العذاب، و قال فيه: من أشراط الساعة أن تعطل السيوف من الجهاد، و أن تختل الدنيا بالدين، أي تطلب الدنيا بعمل الآخرة، يقال: ختله يختله إذا خدعه و راوغه و ختل الذئب الصيد إذا تخفى له، و الختل الخداع، و في القاموس: ختله يختله ختلا و ختلانا خدعه، و الذئب الصيد تخفى له، و خاتله خادعه، و تخاتلوا تخادعوا و اختتل تسمع لسر القوم، انتهى.

و بناء الافتعال المذكور في عنوان الباب لم أره بهذا المعنى في كتب اللغة، و في بعض النسخ اختيال بالياء و هو تصحيف‏

" الذين يأمرون بالقسط"

 (4) أي بالعدل و هم الأئمة عليهم السلام و خواص أصحابهم‏

" يسير المؤمن"

 (5) أن يعيش و يعمل مجازا

" أبي-

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 127

يغترون"

 (1) أي بسبب إمهالي و نعمتي يغفلون عن بطشي و عذابي، من الاغترار بمعنى الغفلة، و يحتمل أن يكون من الاغترار بمعنى الوقوع في الغرور و الهلاك، و قال تعالى:

" ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ" قال البيضاوي: أي شي‏ء خدعك و جرأك على عصيانه‏

" يجترئون"

 (2) بالهمز أو بدونه بقلب الهمزة ياء ثم إسقاط ضمها ثم حذفها لالتقاء الساكنين‏

" لأتيحن"

 (3) قال في النهاية فيه: فبي حلفت لأتيحنهم فتنة تدع الحليم منهم حيرانا يقال: أتاح الله لفلان كذا أي قدره له و أنزله به، و تاح له الشي‏ء، و الحليم ذو الحلم و الأناة و التثبت في الأمور أو ذو العقل، و تنوين حيرانا للتناسب و إنما خص بالذكر لأنه بكلي معنييه أبعد من الحيرة، و ذلك لأنه أصبر على الفتن و الزلازل، و الحاصل أنه لا يجد العقلاء و ذوا التثبت و التدبر في الأمور المخرج من تلك الفتنة.

باب من وصف عدلا و عمل بغيره‏

 (4)

 (الحديث الأول)

 (5): مختلف فيه.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 128

 (الحديث الثاني)

 (1): ضعيف.

" من وصف عدلا"

 (2) أي بين للناس أمرا حقا موافقا لقانون العدل أو أمرا وسطا غير مائل إلى إفراط أو تفريط، و لم يعمل به أو وصف دينا حقا و لم يعمل بمقتضاه كما إذا ادعى القول بإمامة الأئمة عليهم السلام و لم يتابعهم قولا و فعلا، و يؤيد الأول قوله تعالى:" أَ تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ" و قوله سبحانه:

" لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ و ما روي عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنه قال: مررت ليلة أسري بي بقوم تقرض شفاههم بمقارض من نار، فقلت: من أنتم؟ قالوا: كنا نأمر بالخير و لا نأتيه و ننهى عن الشر و نأتيه، و مثله كثير.

 (الحديث الثالث)

 (3): حسن كالصحيح.

و إنما كانت حسرته أشد

 (4) لوقوعه في الهلكة مع العلم و هو أشد من الوقوع فيها بدونه، و لمشاهدته نجاة الغير بقوله و عدم نجاته به، و كان أشدية العذاب و الحسرة بالنسبة إلى من لم يعلم و لم يعمل و لم يأمر، لا بالنسبة إلى من علم و لم يفعل و لم يأمر، لأن الهداية و بيان الأحكام و تعليم الجهال و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر كلها واجبة كما أن العمل واجب، فإذا تركهما ترك واجبين، و إذا ترك أحدهما ترك واجبا واحدا، لكن الظاهر من أكثر الأخبار بل الآيات اشتراط الوعظ و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر بالعمل، و يشكل التوفيق بينها و بين سائر الآيات و الأخبار الدالة على وجوب الهداية و التعليم، و النهي عن كتمان العلم، و على أي‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 129

حال الظاهر أنها لا تشمل ما إذا كان له مانع من الإتيان بالنوافل مثلا، و يبين للناس فضلها، و أمثال ذلك و سنعيد الكلام في ذلك في محل آخر إنشاء الله تعالى.

 (الحديث الرابع)

 (1): مجهول.

" فَكُبْكِبُوا" أقول: قبلها في الشعراء" وَ بُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ، وَ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ" و فسر المفسرون ما كنتم تعبدون بآلهتهم‏

" فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَ الْغاوُونَ"

 (2) قالوا: أي الآلهة و عبدتهم و الكبكبة تكرير الكب لتكرير معناه كان من ألقي في النار ينكب مرة بعد أخرى حتى يستقر في قعرها، و قد مر تفسير الآيات في الباب الذي بعد باب أن الإسلام قبل الإيمان.

قوله عليه السلام: هم قوم،

 (3) أي ضمير" هم" المذكور في الآية راجع إلى قوم، أو" هم" ضمير راجع إلى مدلول" هم" في الآية، و المعنى أن المراد بالمعبودين في بطن الآية المطاعون في الباطل كقوله تعالى:" أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ" و هم قوم‏

وصفوا

 (4) الإسلام و لم يعملوا بمقتضاه كالغاصبين للخلافة حيث ادعوا الإسلام و خالفوا الله و رسوله في نصب الوصي، و تبعهم جماعة و هم الغاوون أو وصفوا الإيمان و ادعوا اتصافهم به، و خالفوا الأئمة الذين ادعوا الإيمان بهم و غيروا دين الله و أظهروا البدع فيه، و تبعهم الغاوون، و يحتمل أن يكون هم راجعا إلى الغاوين، فهم في الآية راجع إلى عبدة

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 130

الأوثان أو معبودهم أيضا، لكنه بعيد عن سياق الآيات السابقة، و قال علي بن إبراهيم بعد نقل هذه الرواية مرسلا عن الصادق عليه السلام: و في خبر آخر قال: هم بنو أمية و الغاوون بنو فلان أي بنو العباس.

 (الحديث الخامس)

 (1): مجهول.

و

خيثمة

 (2) بفتح الخاء المعجمة و سكون الياء و فتح المثلثة

" ما عِنْدَ اللَّهِ"

 (3) أي من المثوبات و الدرجات و القربات.

باب المراء و الخصومة و معاداة الرجال‏

 (4)

 (الحديث الأول)

 (5): ضعيف.

و المراء

 (6) بالكسر مصدر باب المفاعلة و قيل: هو الجدال و الاعتراض على كلام الغير من غير غرض ديني، و في مفردات الراغب: الامتراء و المماراة المحاجة فيما فيه مرية، و هي التردد في الأمر، و في النهاية فيه: لا تماروا في القرآن فإن المراء فيه كفر، المراء الجدال و التماري و المماراة المجادلة على مذهب الشك و الريبة، و يقال للمناظرة مماراة، لأن كل واحد منهما يستخرج‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 131

ما عند صاحبه و يمتريه، كما يمتري الحالب اللبن من الضرع، قال أبو عبيد: ليس وجه الحديث عندنا على الاختلاف في التأويل، و لكنه على الاختلاف في اللفظ و هو أن يقول الرجل على حرف فيقول الآخر: ليس هو هكذا، و لكنه على خلافه و كلاهما منزل مقروء بهما، فإذا جحد كل واحد منهما قراءة صاحبه لم يؤمن أن يكون يخرجه ذلك إلى الكفر لأنه نفى حرفا أنزله الله على نبيه و قيل: إنما جاء هذا في الجدال و المراء في الآيات التي فيها ذكر القدر و نحوه من المعاني على مذهب أهل الكلام و أصحاب الأهواء و الآراء دون ما تضمنت من الأحكام و أبواب الحلال و الحرام لأن ذلك قد جرى بين الصحابة و من بعدهم من العلماء، و ذلك فيما يكون الغرض منه و الباعث عليه ظهور الحق ليتبع دون الغلبة و التعجيز و الله أعلم.

و قال: فيه: ما أوتي الجدل قوم إلا ضلوا، الجدل مقابلة الحجة بالحجة و المجادلة المناظرة و المخاصمة و المراد به في الحديث الجدل على الباطل، و طلب المغالبة به، فأما المجادلة لإظهار الحق فإن ذلك محمود، لقوله تعالى:" وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ".

و قال الراغب:

الخصم‏

 (1) مصدر خصمته أي نازعته خصما يقال: خصمته و خاصمته مخاصمة و خصاما، و أصل المخاصمة أن يتعلق كل واحد بخصم الآخر أي جانبه، و أن يجذب كل واحد خصم الجوالق من جانب.

و أقول: هذه الألفاظ الثلاثة متقاربة المعنى، و قد ورد النهي عن الجميع في الآيات و الأخبار و أكثر ما يستعمل المراء و الجدال في المسائل العلمية، و المخاصمة في الأمور الدنيوية، و قد يخص المراء بما إذا كان الغرض إظهار الفضل و الكمال،

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 132

و الجدال بما إذا كان الغرض تعجيز الخصم و ذلته، و قيل: الجدل في المسائل العلمية و المراء أعم، و قيل: لا يكون المراء إلا اعتراضا بخلاف الجدال فإنه يكون ابتداء و اعتراضا، و الجدل أخص من الخصومة يقال: جدل الرجل من باب علم فهو جدل إذا اشتدت خصومته، و جادل مجادلة و جدالا إذا خاصم بما يشغل عن ظهور الحق و وضوح الصواب، و الخصومة لا تعتبر فيها الشدة و لا الشغل و قال الغزالي: يندرج في المراء كل ما يخالف قول صاحبه مثل أن يقول هذا حلو فيقول هذا مر، أو يقول: من كذا إلى كذا فرسخ، فيقول ليس بفرسخ أو يقول شيئا فتقول أنت أحمق أو أنت كاذب، و يندرج في الخصومة كل ما يوجب تأذي خاطر الآخر و ترداد القول بينهما، و إذا اجتمعا يمكن تخصيص المراء بالأمور الدينية و الخصومة بغيرها أو بالعكس.

" فإنهما يمرضان القلوب على الإخوان"

 (1) أي يغيرانها بالعداوة و الغيظ، و إنما عبر عنها بالمرض لأنها توجب شغل القلب و توزع البال و كثرة التفكر و هي من أشد المحن و الأمراض، و أيضا توجب شغل القلب عن ذكر الله و عن حضور القلب في الصلاة، و عن التفكر في المعارف الإلهية و خلوها عن الصفات الحسنة و تلوثها بالصفات الذميمة و هي أشد الأمراض النفسانية و الأدواء الروحانية، كما قال تعالى:" فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ.

" و ينبت عليهما النفاق"

 (2) أي التفاوت بين ظاهر كل واحد منهما و باطنه بالنسبة إلى صاحبه، و هذا نفاق، أو النفاق مع الرب تعالى أيضا إذا كان في المسائل الدينية فإنهما يوجبان حدوث الشكوك و الشبهات في النفس و التصلب في الباطل للغلبة على الخصم بل في الأمور الدنيوية أيضا بالإصرار على مخالفة الله تعالى،

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 133

و كل ذلك من دواعي النفاق.

فإن قيل: هذا ينافي ما ورد في الآيات و الأخبار من الأمر بهداية الخلق و الذب عن الحق و دفع الشبهات عن الدين و قطع حجج المبطلين و قال تعالى:

" وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ و قال:" وَ لا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ".

قلت: هذه الأخبار محمولة على ما إذا كان الغرض محض إظهار الفضل أو الغلبة على الخصم أو التعصب و ترويج الباطل، أو على ما إذا كان مع عدم القدرة على الغلبة و إظهار الحق و كشفه، فيصير سببا لمزيد رسوخ الخصم في الباطل، أو على ما إذا أراد إبطال الباطل بباطل آخر، أو مع إمكان الهداية باللين و اللطف يتعدى إلى الغلظة و الخشونة المثيرتان للفتن أو بترك التقية في زمنها، و أما مع عدم التقية و القدرة على تبيين الحق فالسعي في إظهار الحق و إحيائه و إماتة الباطل بأوضح الدلائل و بالتي هي أحسن مع تصحيح النية في ذلك من غير رياء و لا مراء فهو من أعظم الطاعات، لكن للنفس و الشيطان في ذلك طرق خفية ينبغي التحرز عنها و السعي في الإخلاص فيه أهم من سائر العبادات.

و يدل على ما ذكرنا ما ذكره الإمام أبو محمد العسكري عليه السلام في تفسيره قال: ذكر عند الصادق عليه السلام الجدال في الدين و أن رسول الله و الأئمة المعصومين عليهم السلام قد نهوا عنه، فقال الصادق عليه السلام: لم ينه عنه مطلقا لكنه نهى عن الجدال بغير التي هي أحسن، أ ما تسمعون الله يقول:" وَ لا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" و قوله تعالى:" ادْعُ إِلى‏ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 134

وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" فالجدال بالتي هي أحسن قد قرنه العلماء بالدين و الجدال بغير التي هي أحسن محرم حرمه الله تعالى على شيعتنا و كيف يحرم الله الجدال جملة و هو يقول:" وَ قالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى‏" قال الله تعالى:" تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ" فجعل علم الصدق و الإيمان بالبرهان، و هل يؤتى بالبرهان إلا في الجدال بالتي هي أحسن، قيل: يا ابن رسول الله فما الجدال بالتي هي أحسن و التي ليست بأحسن؟ قال: أما الجدال بغير التي هي أحسن أن تجادل مبطلا فيورد عليك باطلا فلا ترده بحجة قد نصبها الله تعالى، و لكن تجحد قوله أو تجحد حقا يريد ذلك المبطل أن يعين به باطله فتجحد ذلك الحق مخافة أن يكون له عليك فيه حجة، لأنك لا تدري كيف المخلص منه، فذلك حرام على شيعتنا أن يصيروا فتنة على ضعفاء إخوانهم و على المبطلين، أما المبطلون فيجعلون ضعف الضعيف منكم إذا تعاطى مجادلته و ضعف ما في يده حجة له على باطله، و أما الضعفاء منكم فتغم قلوبهم لما يرون من ضعف المحق في يد المبطل.

و أما الجدال بالتي هي أحسن فهو ما أمر الله تعالى به نبيه أن يجادل به من جحد البعث بعد الموت و إحيائه له فقال الله حاكيا عنه:" وَ ضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَ نَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ" فقال الله في الرد عليهم:" قُلْ" يا محمد" يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ هُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ، الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ" فأراد الله من نبيه أن يجادل المبطل الذي قال كيف يجوز أن يبعث هذه العظام و هي رميم؟ فقال الله تعالى قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ، أ فيعجز من ابتدأ به لا من شي‏ء أن يعيده بعد أن يبلى، بل ابتداءه‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 135

أصعب عندكم من إعادته ثم قال:" الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً" أي إذا كمن النار الحارة في الشجر الأخضر الرطب يستخرجها فعرفكم أنه على إعادة ما بلى أقدر، ثم قال:" أَ وَ لَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى‏ أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى‏ وَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ" أي إذا كان خلق السماوات و الأرض أعظم و أبعد في أوهامكم و قدركم أن تقدروا عليه من إعادة البالي، فكيف جوزتم من الله خلق هذا الأعجب عندكم و الأصعب لديكم و لم تجوز أ ما هو أسهل عندكم من إعادة البالي.

قال الصادق عليه السلام: فهذا الجدال بالتي هي أحسن، لأن فيها قطع عذر الكافرين و إزالة شبههم و أما الجدال بغير التي هي أحسن بأن تجحد حقا لا يمكنك أن تفرق بينه و بين باطل من تجادله، و إنما تدفعه عن باطله بأن تجحد الحق فهذا هو المحرم لأنك مثله، جحد هو حقا و جحدت أنت حقا آخر، فقال: قام إليه رجل فقال: يا ابن رسول الله أ فجادل رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم؟ فقال الصادق عليه السلام: مهما ظننت برسول الله صلى الله عليه و آله و سلم من شي‏ء فلا تظن به مخالفة الله أو ليس الله تعالى قال:" وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" و قال:" قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ" لمن ضرب الله مثلا أ فتظن أن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم خالف ما أمره الله به فلم يجادل بما أمره الله و لم يخبر عن الله بما أمره أن يخبر به.

و روى أبو عمرو الكشي بإسناده عن عبد الأعلى قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام إن الناس يعيبون علي بالكلام و أنا أكلم الناس فقال: أما مثلك من يقع ثم يطير فنعم، و أما من يقع ثم لا يطير فلا.

و روي أيضا بإسناده عن الطيار قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام بلغني أنك كرهت مناظرة الناس؟ فقال: أما مثلك فلا يكره، من إذا طار يحسن أن يقع و إن وقع يحسن أن يطير، فمن كان هكذا لا نكرهه.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 136

و بإسناده أيضا عن هشام بن الحكم قال: قال لي أبو عبد الله عليه السلام: ما فعل ابن الطيار؟ قال: قلت: مات، قال: رحمه الله و لقاه نضرة و سرورا فقد كان شديد الخصومة عنا أهل البيت.

و بإسناده أيضا عن أبي جعفر الأحول عن أبي عبد الله عليه السلام: قال: ما فعل ابن الطيار؟ فقلت: توفي، فقال: رحمه الله أدخل الله عليه الرحمة و النضرة فإنه كان يخاصم عنا أهل البيت.

و بإسناده أيضا عن نضر بن الصباح قال: كان أبو عبد الله عليه السلام يقول لعبد الرحمن ابن الحجاج: يا عبد الرحمن كلم أهل المدينة فإني أحب أن يرى في رجال الشيعة مثلك.

و بإسناده أيضا عن محمد بن حكيم قال: ذكر لأبي الحسن عليه السلام أصحاب الكلام، فقال: أما ابن حكيم فدعوه.

فهذه الأخبار كلها مع كون أكثرها من الصحاح تدل على تجويز الجدال و الخصومة في الدين على بعض الوجوه و لبعض العلماء، و يؤيد بعض الوجوه التي ذكرناها في الجمع.

 (الحديث الثاني)

 (1): كالأول.

" من لقي الله بهن"

 (2) أي كن معه إلى الموت أو في المحشر

" من أي باب شاء"

 (3) كأنه مبالغة في إباحة الجنة له، و عدم منعه منها بوجه‏

" في المغيب و المحضر"

 (4) أي يظهر فيه آثار خشية الله بترك المعاصي في حال حضور الناس و غيبتهم، و قيل:

أي عدم ذكر الناس بالشر في الحضور و الغيبة و الأول أظهر

" و إن كان محقا"

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 137

 (1) قد مر أنه لا ينافي وجوب إظهار الحق في الدين و لا ينافي أيضا جواز المخاصمة لأخذ الحق الدنيوي لكن بدون التعصب و طلب الغلبة، و ترك المداراة بل يكتفي بأقل ما ينفع في المقامين بدون إضرار و إهانة و إلقاء باطل كما عرفت.

 (الحديث الثالث)

 (2): كالسابق أيضا.

" من نصب الله"

 (3) النصب الإقامة، و الغرض بالتحريك الهدف، قال في المصباح:

الغرض‏

 (4) الهدف الذي يرمي إليه، و الجمع أغراض، و قولهم: غرضه كذا على التشبيه بذلك، أي مرماه الذي يقصده، انتهى.

و هنا كناية عن كثرة المخاصمة في ذات الله سبحانه و صفاته فإن العقول قاصرة عن إدراكها، و لذا نهى عن التفكر فيها كما مر في كتاب التوحيد، و كثرة التفكر و

الخصومة

 (5) فيها يقرب الإنسان من كثرة الانتقال من رأي إلى رأي لحيرة العقول فيها و عجزها عن إدراكها، كما ترى من الحكماء و المتكلمين المتصدين لذلك، فإنهم سلكوا مسالك شتى، و الاكتفاء بما ورد في الكتاب و السنة و ترك الخوض فيها أحوط و أولى، و يحتمل أن يكون المراد الانتقال من الحق إلى الباطل، و من الإيمان إلى الكفر، فإن الجدال في الله و الخوض في ذاته و كنه صفاته يورثان الشكوك و الشبه، قال الله تعالى:" وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ لا هُدىً وَ لا كِتابٍ مُنِيرٍ" و قال جل شأنه" وَ إِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ. إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ" إلى غير ذلك من الآيات في ذلك.

و

أوشك‏

 (6) من أفعل المقاربة بمعنى القرب و الدنو، و منهم من ذهب هنا إلى ما يترتب على مطلق الخصومة مع الخلق و قال:

الانتقال‏

 (7) التحول من حال إلى‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 138

جال، كالتحول من الخير إلى الشر و من حسن الأفعال إلى قبح الأعمال المقتضية لفساد النظام، و زوال الألفة و الالتئام، و قيل: المراد كثرة الحلف بالله في الدعاوي و الخصومات فإنه أوشك أن ينتقل مما حلف عليه إلى ضده، خوفا من العقاب فيفتضح بذلك و لا يخفى ما فيهما.

 (الحديث الرابع)

 (1): مجهول.

و

الحليم‏

 (2) يحتمل المعنيين المتقدمين أي العاقل، و المتثبت المتأني في الأمور و

السفيه‏

 (3) يحتمل مقابليهما، و المعنيان متلازمان غالبا و كذا مقابلاهما، و الحاصل أن العاقل الحازم المتأني في الأمور لا يتصدى للمعارضة، و يصير ذلك سببا لأن يبطن في قلبه العداوة، و الأحمق المتهتك يعارض و يؤذي، في القاموس‏

قلاه‏

 (4) كرماه و رضيه قلى و قلاء و مقلية، أبغضه و كرهه غاية الكراهة فتركه، أو قلاه في الهجر و قليه في البغض.

 (الحديث الخامس)

 (5): حسن كالصحيح.

" ما كاد"

 (6) في القاموس كاد يفعل كذا: قارب و هم، و في بعض النسخ ما كان و في الأول المبالغة أكثر أي لم يقرب إتيانه إلا قال، و

الشحناء

 (7) بالفتح البغضاء و العداوة، و الإضافة إلى المفعول أي العداوة مع الرجال، و يحتمل الفاعل أيضا أي العداوة الشائعة بين الرجال و الأول أظهر، و

عداوتهم‏

 (8) تأكيد، أو المراد بالأول فعل ما يوجب العداوة أو إظهارها قال في المصباح: الشحناء العداوة و البغضاء، و شحنت عليه شحنا من‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 139

باب تعب حقدت و أظهرت العداوة و من باب نفع لغة.

 (الحديث السادس)

 (1): صحيح.

و قال في النهاية: فيه نهيت عن‏

ملاحاة الرجال‏

 (2) أي مقاولتهم و مخاصمتهم، يقال: لحيت الرجل ألحاه إذا لمته و عذلته، و لاحيته ملاحاة و لحاء إذا نازعته.

 (الحديث السابع)

 (3): مجهول.

و في النهاية: فيه:

لا تشار

 (4) أخاك هو تفاعل من الشر أي لا تفعل به شرا يحوجه إلى أن يفعل بك مثله، و يروى بالتخفيف و في الصحاح المشارة المخاصمة.

" فإنها تورث المعرة"

 (5) قال في القاموس: المعرة الإثم و الأذى و الغرم و الدية و الخيانة

" تظهر العورة"

 (6) أي العيوب المستورة، و قال الجوهري: العورة سوءة الإنسان و كل ما يستحيي منه، و في بعض النسخ المعورة اسم فاعل من أعور الشي‏ء إذا صار ذا عوار أو ذا عورة و هي العيب و القبيح و كل شي‏ء يستره الإنسان أنفه أو حياءا فهو عورة، و المراد بها هنا القبيح من الأخلاق و الأفعال، و على النسختين المراد ظهور قبائحه و عيوبه أما نفسه فإنه عند المشاجرة و الغضب لا يملكها فيبدو منه ما كان يخفيه أو من خصمه فإن الخصومة سبب لإظهار الخصم قبح خصمه لينتقص منه و يضع قدره بين الناس.

 (الحديث الثامن)

 (7): صحيح.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 140

" فإنها تشغل القلب"

 (1) عن ذكر الله و بالتفكر في الشبه و الشكوك و الحيل لدفع الخصم، و بالغم و الهم أيضا، و

الضغائن‏

 (2) جمع الضغينة و هي الحقد، و تضاغنوا انطووا على الأحقاد.

 (الحديث التاسع)

 (3): حسن كالصحيح و قد مر بعينه سندا و متنا و كأنه من النساخ.

 (الحديث العاشر)

 (4): مجهول.

و روى الشيخ في مجالسه عن الرضا عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم إياكم و مشارة الناس فإنها تظهر العرة و تدفن الغرة، الأولى بالعين المهملة و الثانية بالمعجمة و كلاهما مضمومتان، و روت العامة أيضا من طرقهم هكذا، قال في النهاية فيه إياكم و مشارة الناس فإنها تدفن الغرة و تظهر العرة،

الغرة

 (5) هيهنا الحسن و العمل الصالح شبهه بغرة الفرس و كل شي‏ء ترفع قيمته فهو غرة، و العرة هي القذر و عذرة الناس فاستعير للمساوئ و المثالب.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 141

 (الحديث الحادي عشر)

 (1): حسن أو موثق.

و كلمة

" ما"

 (2) في الأولى نافية و في الثانية مصدرية و المصدر مفعول مطلق للنوع، و المراد هنا المداراة مع المنافقين من أصحابه كما فعل صلى الله عليه و آله و سلم أو مع الكفار أيضا قبل الأمر بالجهاد، أو الغرض بيان ذلك للناس.

 (الحديث الثاني عشر)

 (3): مرفوع.

" حصد ما بذر"

 (4) في الصحاح بذرت البذر زرعته أي العداوة مع الناس كالبذر يحصد منه مثله و هو عداوة الناس له.

باب الغضب‏

 (5)

 (الحديث الأول)

 (6): ضعيف على المشهور.

" كما يفسد الخل العسل"

 (7) أي إذا أدخل الخل العسل ذهبت حلاوته و خاصيته و صار المجموع شيئا آخر، فكذا الإيمان إذا دخله الغضب فسد و لم يبق على صرافته‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 142

و تغيرت آثاره، فلا يسمى إيمانا حقيقة، أو المعنى أنه إذا كان طعم العسل في الذائقة فشرب الخل ذهبت تلك الحلاوة بالكلية فلا يجد طعم العسل، فكذا الغضب إذا ورد على صاحب الإيمان لم يجد حلاوته و ذهبت فوائده، قال بعض المحققين: الغضب شعلة نار اقتبست من نار الله الموقدة إلا أنها لا تطلع إلا على الأفئدة و أنها لمستكنة في طي الفؤاد استكنان الجمر تحت الرماد، و يستخرجها الكبر الدفين من قلب كل جبار عنيد، كما يستخرج الحجر النار من الحديد، و قد انكشف للناظرين بنور اليقين أن الإنسان ينزع منه عرق إلى الشيطان اللعين فمن أسعرته نار الغضب فقد قويت فيه قرابة الشيطان، حيث قال:" خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ" فمن شأن الطين السكون و الوقار، و من شأن النار التلظي و الاستعار، و الحركة و الاضطراب و الاصطهار، و منه قوله تعالى:" يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَ الْجُلُودُ" و من نتائج الغضب الحقد و الحسد، و بهما هلك من هلك و فسد من فسد.

ثم قال: اعلم أن الله تعالى لما خلق الإنسان معرضا للفساد و الموتان بأسباب خارجة منه أنعم عليه بما يحميه الفساد و يدفع عنه الهلاك إلى أجل معلوم سماه في كتابه، أما السبب الداخل فإنه ركبه من الرطوبة و الحرارة، و جعل بين الحرارة و الرطوبة عداوة و مضادة، فلا تزال الحرارة تحلل الرطوبة و تجففها و تبخرها حتى يتفشى أجزاؤها بخارا يتصاعد منها، فلو لم يتصل بالرطوبة مدد من الغذاء بجبر ما انحل و تبخر من أجزائها لفسد الحيوان، فخلق الله الغذاء الموافق لبدن الحيوان و خلق في الحيوان شهوة تبعثه على تناول الغذاء كالموكل به في جبر ما انكسر و سد ما انثلم ليكون حافظا له من الهلاك بهذا الأسباب، و أما الأسباب الخارجة التي يتعرض لها الإنسان فكالسيف و السنان و سائر المهلكات التي يقصد بها، فافتقر إلى‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 143

قوة و حمية تثور من باطنه، فيدفع المهلكات عنه فخلق الله الغضب من النار، و غرزه في الإنسان و عجنه بطينته، فمهما قصد في غرض من أغراضه و مقصود من مقاصده اشتعلت نار الغضب و ثارت ثورانا يغلي به دم القلب، و ينتشر في العروق، و يرتفع إلى أعالي البدن كما يرتفع النار، و كما يرتفع الماء الذي يغلي في القدر، و لذلك ينصب إلى الوجه فيحمر الوجه و العين، و البشرة بصفائها تحكي لون ما ورائها من حمرة الدم كما تحكي الزجاجة لون ما فيها، و إنما ينبسط الدم إذا غضب على من دونه و استشعر القدرة عليه، فإن صدر الغضب على من هو فوقه و كان معه يأس من الانتقام تولد منه انقباض الدم من ظاهر الجلد إلى جوف القلب، و صار حزنا، و لذلك يصفر اللون و إن كان الغضب على نظير يشك فيه تولد منه تردد بين انقباض و انبساط فيحمر و يصفر و يضطرب.

و بالجملة فقوة الغضب محلها القلب و معناها غليان دم القلب لطلب الانتقام، و إنما يتوجه هذه القوة عند ثورانها إلى دفع المؤذيات قبل وقوعها، و إلى التشفي و الانتقام بعد وقوعها، و الانتقام قوت هذه القوة و شهوتها، و فيه لذتها و لا تسكن إلا به.

ثم الناس في هذه القوة على درجات ثلاث في أول الفطرة و بحسب ما يطرء عليها من الأمور الخارجة من التفريط و الإفراط و الاعتدال، أما التفريط فبفقد هذه القوة أو ضعفها بأن لا يستعملها فيما هو محمود عقلا و شرعا، مثل دفع الضرر عن نفسه على وجه سائغ، و الجهاد مع الأعداء و البطش عليهم و إقامة الحدود على الوجه المعتبر و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، فتحصل فيه ملكة الجبن بل ينتهي إلى عدم الغيرة على حرمه و أشباه ذلك.

و هذا مذموم معدود من الرذائل النفسانية و قد وصف الله تعالى الصحابة

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 144

بالشدة و الحمية فقال:" أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ" و قال تعالى:" يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَ الْمُنافِقِينَ وَ اغْلُظْ عَلَيْهِمْ" و إنما الغلظة و الشدة من آثار قوة الحمية و هو الغضب و أما الإفراط فهو الإقدام على ما ليس بجميل و استعمالها فيما هو مذموم عقلا و شرعا مثل الضرب و البطش و الشتم و النهب و القتل و القذف و أمثال ذلك فيما لا يجوزه العقل و الشرع.

و أما الاعتدال فهو غضب ينتظر إشارة العقل و الدين فينبعث حيث تجب الحمية و ينطفئ حيث يحسن الحلم، و حفظه على حد الاعتدال هو الاستقامة التي كلف الله تعالى بها عباده، و هو الوسط الذي وصفه رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم حيث قال: خير الأمور أوساطها، فمن مال غضبه إلى الفتور حتى أحس نفسه ضعف الغيرة و خمسة النفس و احتمال الذل و الضيم في غير محله فينبغي أن يعالج نفسه حتى يقوى غضبه، و من مال غضبه إلى الإفراط حتى جره إلى التهور و اقتحام الفواحش فينبغي أن يعالج نفسه ليسكن من ثورة الغضب و يقف على الوسط الحق بين الطرفين، فهو الصراط المستقيم و هو أدق من الشعر و أحد من السيف، فينبغي أن يسعى في ذلك بحسب جهده و يتوسل إلى الله تعالى في أن يوفقه لذلك.

 (الحديث الثاني)

 (1): حسن.

" فيما يرضى أبدا"

 (2) فيه تنبيه على أنه ينبغي أن لا يغضب و إن غضب لا يستمر عليه بل يعالجه قريبا بالسعي في الرضا عنه إذ لو استمر عليه اشتد غضبه آنا فآنا و شيئا فشيئا إلى أن يصدر عنه ما يوجب دخوله النار كالقتل و الجرح و أمثالهما، أو

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 145

يصير الغضب له عادة و خلقا فلا يمكنه تركه حتى يدخل بسببه النار.

و اعلم أن علاج الغضب أمران: علمي و فعلي أما العلمي فبأن يتفكر في الآيات و الروايات التي وردت في ذم الغضب و مدح كظم الغيظ و العفو و الحلم و يتفكر في توقعه عفو الله عن ذنبه و كف غضبه عنه، و أما الفعلي فذكر عليه السلام هنا أمران: الأول‏

قوله" فأيما رجل"

 (1) ما زائدة

" من فوره"

 (2) كان من بمعنى في، و قال الراغب: الفور شدة الغليان، و يقال ذلك في النار نفسها إذا هاجت و في القدر و في الغضب و يقال فعلت كذا من فوري أي في غليان الحال و قبل سكون الأمر.

و قال البيضاوي في قوله تعالى:" وَ يَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا" أي من ساعتهم هذه، و هو في الأصل مصدر فارت القدر إذا غلت فاستعير للسرعة ثم أطلق للحال التي لا ريث فيها و لا تراخي، و المعنى أن يأتوكم في الحال، و قال في المصباح:

فار الماء يفور فورا نبع و جرى، و فارت القدر فورا و فورانا، و قولهم الشفعة على الفور من هذا، أي على الوقت الحاضر الذي لا تأخير فيه ثم استعمل في الحالة التي لا بطؤ فيها يقال: جاء فلان في حاجته ثم رجع من فوره أي حركته التي وصل فيها و لم يسكن بعدها، و حقيقته أن يصل ما بعد المجي‏ء بما قبله من غير لبث، انتهى.

و ضمير فوره للرجل، و قيل: للغضب و الأول أنسب بالآية، و

" ذلك"

 (3) صفة فوره‏

" فإنه سيذهب"

 (4) كيمنع و الرجز فاعله، أو على بناء الأفعال و الضمير المستتر فاعله و راجع إلى مصدر فليجلس و الرجز مفعوله، و في النهاية الرجز بكسر الراء العذاب و الإثم و الذنب، و

رجز الشيطان‏

 (5) وساوسه، انتهى.

و ذهاب ذلك بالجلوس مجرب كما أن من جلس عند حملة الكلب وجده ساكنا لا يحوم حوله، و فيه سر لا يعلمه إلا الله و الراسخون في العلم، و ربما

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 146

يقال: السر فيه هو الإشعار بأنه من التراب و عبد ذليل لا يليق به الغضب، أو التوسل بسكون الأرض و ثبوتها، و أقول: كأنه لقلة دواعيه إلى المشي للقتل و الضرب و أشباههما، أو للانتقال من حال إلى حال أخرى، و الاشتغال بأمر آخر فإنهما مما يذهل عن الغضب في الجملة، و لذا ألحق بعض العلماء الاضطجاع و القيام إذا كان جالسا و الوضوء بالماء البارد و شربه، الجلوس في ذهاب الرجز.

و أقول: يؤيده ما رواه الصدوق في مجالسه عن أبيه عن سعد بن عبد الله عن أحمد بن محمد بن عيسى عن ابن فضال عن علي بن عقبة عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام عن أبيه عليهما السلام أنه ذكر عنده الغضب فقال: إن الرجل ليغضب حتى ما يرضى أبدا و يدخل بذلك النار، و أيما رجل غضب و هو قائم فليجلس فإنه سيذهب عنه رجز الشيطان و إن كان جالسا فليقم و أيما رجل غضب على ذي رحمه فليقم إليه و ليدن منه و ليمسه فإن الرحم إذا مست الرحم سكنت، و ما رواه العامة عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم إذا غضب و هو قائم جلس و إذا غضب و هو جالس اضطجع فيذهب غيظه.

و قال بعضهم: علاج الغضب أن تقول بلسانك أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، هكذا أمر رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم أن يقال عند الغيظ، و كان صلى الله عليه و آله و سلم إذا غضبت عائشة أخذ بأنفها و قال: يا عويش قولي: اللهم رب النبي محمد اغفر لي ذنبي و أذهب غيظ قلبي و أجرني من مضلات الفتن، و يستحب أن تقول ذلك، و إن لم يزل بذلك فاجلس إن كنت قائما و اضطجع إن كنت جالسا، و أقرب من الأرض التي منها خلقت لتعرف بذلك ذل نفسك، و اطلب بالجلوس و الاضطجاع السكون فإن سبب الغضب الحرارة و سبب الحرارة الحركة، إذ قال صلى الله عليه و آله و سلم إن الغضب جمرة تتوقد أ لم تر إلى انتفاخ أوداجه و حمرة عينيه، فإن وجد أحدكم من ذلك شيئا فإن كان قائما فليجلس‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 147

و إن كان جالسا فلينم، فإن لم يزل ذلك فليتوضأ بالماء البارد و ليغتسل، فإن النار لا يطفئها إلا الماء، و قد قال صلى الله عليه و آله و سلم إذا غضب أحدكم فليتوضأ و ليغتسل فإن الغضب من النار، و في رواية أن الغضب من الشيطان و أن الشيطان خلق من النار، و إنما يطفئ النار الماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ، و قال ابن عباس قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: إذا غضبت فاسكت، و قال أبو سعيد الخدري: قال النبي صلى الله عليه و آله و سلم إن الغضب جمرة في قلب ابن آدم أ لا ترون إلى حمرة عينيه و انتفاخ أوداجه، فمن وجد من ذلك شيئا فليلصق خده بالأرض، و كان هذا إشارة إلى السجود و هو تمكين أعز الأعضاء من أذل المواضع و هو التراب ليستشعر به النفس الذل و تزايل به العزة و الزهو الذي هو سبب الغضب.

و أما العلاج الثاني فهو خاص بذي الرحم حيث قال: و أيما رجل غضب على ذي رحم‏

فليدن منه‏

 (1) أي الغاضب من ذي رحمه‏

" إذا مست"

 (2) على بناء المجهول أي بمثلها و يحتمل المعلوم أي مثلها، و ما في رواية المجالس المتقدم ذكره أظهر و يظهر منها أنه سقط من رواية الكتاب بعض الفقرات متنا و سندا فتفطن، إذ هي عين هذه الرواية و الظاهر أن‏

سكنت‏

 (3) على بناء المعلوم المجرد، و يحتمل المجهول من بناء التفعيل.

و قيل: ضمير فليدن راجع إلى ذي الرحم و ضمير منه إلى الرجل و هو بعيد هنا و إن كان له شواهد من بعض الأخبار، منها ما رواه الصدوق (ره) في كتاب عيون أخبار الرضا عليه السلام بإسناده عن موسى بن جعفر عليهما السلام قال: لما دخلت على الرشيد سلمت عليه فرد على السلام ثم قال: يا موسى بن جعفر خليفتين يجبي إليهما الخراج؟ فقلت: يا أمير المؤمنين أعيذك بالله أن تبوأ بإثمي و إثمك و تقبل الباطل من أعدائنا علينا فقد علمت أنه قد كذب علينا منذ قبض رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 148

بما علم ذلك عندك، فإن رأيت بقرابتك من رسول الله أن تأذن لي أحدثك بحديث أخبرني به أبي عن آبائه عن جدي رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم أنه قال: إن الرحم إذا مست الرحم تحركت و اضطربت، فناولني يدك جعلني الله فداك فقال: ادن فدنوت منه فأخذ بيدي ثم جذبني إلى نفسه و عانقني طويلا ثم تركني، و قال:

اجلس يا موسى فليس عليك بأس فنظرت إليه فإذا أنه قد دمعت عيناه فرجعت إلى نفسي فقال: صدقت و صدق جدك، لقد تحرك دمي و اضطربت عروقي حتى غلبت على الرقة و فاضت عيناي، إلى آخر الخبر.

و أقول: هذا لا يعين حمل خبر المتن على دنو الغاضب فإنه يدنو كل من يريد تسكين الغضب، فإنه إذا أراد الغاضب تسكين غضبه يدنو من المغضوب و إذا أراد المغضوب تسكين غضب الغاضب يدنو منه.

 (الحديث الثالث)

 (1): صحيح.

" مفتاح كل شر"

 (2) إذ يتولد منه الحقد و الحسد و الشماتة و التحقير، و الأقوال الفاحشة و هتك الأستار و السخرية و الطرد و الضرب و القتل و النهب، و منع الحقوق، إلى غير ذلك مما لا يحصى.

 (الحديث الرابع)

 (3): مجهول.

و قال في النهاية: فيه‏

" أوتيت جوامع الكلم"

 (4) يعني القرآن جمع الله بلطفه‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 149

في الألفاظ اليسيرة منه معاني كثيرة واحدها جامعة أي كلمة جامعة و منه الحديث في صفته: أنه كان يتكلم بجوامع الكلم أي أنه كان كثير المعاني قليل الألفاظ

" فأعاد عليه الأعرابي المسألة ثلاث مرات"

 (1) كان أصل السؤال كان ثلاث مرات فالإعادة مرتان أطلقت على الثلاث تغليبا، و المعنى أنه صلى الله عليه و آله و سلم في كل ذلك يجيبه بمثل الجواب الأول‏

" حتى رجع الرجل"

 (2) أي تفكر في أن تكرار السؤال بعد اكتفائه صلى الله عليه و آله و سلم بجواب واحد غير مستحسن، فأمسك و علم أنه صلى الله عليه و آله و سلم لم يجيبه بما أجابه إلا لعلمه بفوائد هذه النصيحة و أنها تكفيه أو تفكر في مفاسد الغضب فعلم أن تخصيصه صلى الله عليه و آله و سلم الغضب بالذكر لتلك الأمور

" فيقتل النفس"

 (3) أي إحدى ثمرات الغضب قتل النفس مثلا و هو يوجب القصاص في الدنيا و العذاب الشديد في الآخرة، و الأخرى قذف المحصنة و هي العفيفة و هو يوجب الحد في الدنيا و العقاب العظيم في الآخرة.

 (الحديث الخامس)

 (4): مجهول كالحسن.

و قال في المصباح: وعظه يعظه وعظا و

عظة

 (5) أمره بالطاعة و وصاه بها

" فاتعظ"

 (6) أي ائتمر و كف نفسه، و قال بعض المتقدمين: الوعظ تذكير مشتمل على زجر و تخويف و حمل على طاعة الله بلفظ يرق له القلب و الاسم الموعظة.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 150

 (الحديث السادس)

 (1): مرسل.

" ستر الله عورته"

 (2) أي عيوبه و ذنوبه في الدنيا فلا يفضحه بها، أو في الآخرة فيكون كفارة عنها أو الأعم منهما، و قيل: لأنه إذا لم يغضب لا يقول فيه الناس ما يفضحه، و اختلفوا في أن من كان شديد الغضب و كف غضبه و من لا يغضب أصلا لكونه حليما بحسب الخلقة، أيهما أفضل، فقيل: الأول لأن الأجر على قدر المشقة و فيه جهاد النفس و هو أفضل من جهاد العدو، و غضب النبي صلى الله عليه و آله و سلم مشهور إلا أن غضبه لم يكن من مس الشيطان و رجزه، و إنما كان من بواعث الدين، و قيل: الثاني لأن الأخلاق الحسنة من الفضائل النفسانية و صاحب الخلق الحسن بمنزلة الصائم القائم.

 (الحديث السابع)

 (3): مجهول أو حسن.

لأن الكشي روى في حبيب أنه كان شاربا ثم دخل في هذا المذهب، قال:

و كان من أصحاب الباقر و الصادق عليهما السلام منقطعا إليهما و كفى بهذا مدحا، و يقال:

ناجيته‏

 (4) أي ساررته‏

" عمن ملكتك عليه"

 (5) أي من العبيد و الإماء أو الرعية أو الأعم و هو أولى، و غضب الخلق ثوران النفس و حركتها بسبب تصور المؤذي و الضار إلى الانتقام و المدافعة، و غضب الخالق عقابه التابع لعلمه بمخالفة أوامره و نواهيه و غيرهما، و فيه إشارة إلى نوع من معالجة الغضب و هو أن يذكر الإنسان عند غضبه على الغير غضبه تعالى عليه، فإن ذلك يبعثه على الرضا و العفو طلبا لرضاه سبحانه و عفوه لنفسه.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 151

 (الحديث الثامن)

 (1): مجهول.

و المراد

بذكره له تعالى‏

 (2) ذكر قدرته سبحانه عليه و عقابه، و

بذكر الله له‏

 (3) ذكر عفوه عن أخيه فيعفو عن زلاته و معاصيه جزاء بما صنع، و

قوله: لا أمحقك،

 (4) بالجزم بدل من أذكرك، و المحق هنا إبطال عمله و تعذيبه و محو ذكره أو إحراقه، في القاموس: محقة كمنعه أبطله و محاه كمحقه فتمحق و امتحق و أمحق كافتعل، و الله الشي‏ء ذهب ببركته، و الحر الشي‏ء: أحرقه، و في النهاية: المحق النقص و المحو و الإبطال، و الانتصار الانتقام، و لما كان الغرض من إمضاء الغضب غالبا هو الانتقام من الظالم، رغب سبحانه في تركه بأني منتقم من الظالم لك و انتقامي خير من انتقامك، و الخيرية من وجوه شتى، الأول: أن انتقامه على قدر قدرته و انتقامه سبحانه أشد و أبقى، الثاني: أن انتقامه يفوت ثوابه و انتقامه تعالى لا يفوته، الثالث: أن انتقامه يمكن أن يتعدى إلى ما لا يستحقه فيعاقب عليه، الرابع:

أن انتقامه يؤدي غالبا إلى المفاسد الكلية و الجزئية بانتهاض الخصم للمعاداة بخلاف انتقامه تعالى.

 (الحديث التاسع)

 (5): موثق كالصحيح.

و في هذا الخبر وقع‏

قوله و إذا ظلمت بمظلمة فارض بانتصاري لك‏

 (6) مكان قوله في الخبر السابق و أرض بي منتصرا، و مفادهما واحد، و لما كان هذا في اللفظ أطول أطلق عليه لفظ الزيادة. و إنما ذكر ما بعدها مع كونه مشتركا بينهما للعلم بموضع الزيادة، و في المصباح الظلم اسم من ظلمه ظلما من باب ضرب،

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 152

و مظلمة بفتح الميم و كسر اللام و يجعل المظلمة اسما لما يطلبه عند الظالم كالظلامة بالضم.

 (الحديث العاشر)

 (1): موثق و قد مر.

 (الحديث الحادي عشر)

 (2): ضعيف على المشهور.

" ليس فيه أثر"

 (3) أي علامة جراحة لتصح مقابلته للجراحة، و الأثر بالتحريك بقية الشي‏ء و علامته، و بالضم و بضمتين أثر الجراحة يبقى بعد البرء

" فعلى في مالي"

 (4) أي لا أبسطه على القبيلة ليكون فيه مضايقة أو تأخير، و

" أنا"

 (5) إما تأكيد للضمير المجرور لأنهم جوزوا تأكيده بالمرفوع المنفصل،

أو

 (6) مبتدأ و خبره‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 153

" أوفيكموه"

 (1) على بناء الأفعال أو التفعيل، و الضمير راجع إلى الموصول أي على دية ما ذكر، و الإيفاء و التوفية إعطاء الحق تاما.

 (الحديث الثاني عشر)

 (2): حسن كالصحيح.

و الجمرة

 (3) القطعة الملتهبة من النار شبه بها الغضب في الإحراق و الإهلاك، و نسبها إلى‏

الشيطان‏

 (4) لأن بنفخ نزعاته و وساوسه تحدث و تشتد

و توقد في قلب ابن آدم‏

 (5) و تلتهب التهابا عظيما و يغلي بها دم القلب غليانا شديدا كغلي الحميم فيحدث منه دخان بتحليل الرطوبات و ينتشر في العروق و يرتفع إلى أعالي البدن، و الدماغ و الوجه كما يرتفع الماء و الدخان في القدر، فلذلك تحمر العين و الوجه و البشرة و تنتفخ الأوداج و العروق و حينئذ يتسلط عليه الشيطان كمال التسلط و يدخل فيه و يحمله على ما يريد، فيصدر منه أفعال شبيهة بأفعال المجانين و لزوم الأرض يشمل الجلوس و الاضطجاع و السجود كما عرفت.

 (الحديث الثالث عشر)

 (6): مرفوع.

و

المحقة

 (7) مفعلة من المحق و هو النقص و المحو و الإبطال، أي مظنة له و إنما خص‏

قلب الحكيم‏

 (8) بالذكر لأن المحق الذي هو إزالة النور إنما يتعلق بقلب له نور و قلب غير الحكيم يعلم بالأولوية و إذا عرفت أن الغضب يمحق قلب الحكيم‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 154

يعني عقله ظهر لك حقيقة

قوله: من لم يملك غضبه لم يملك عقله.

 (1) قال بعض المحققين: مهما اشتدت نار الغضب و قوي اضطرامها أعمى صاحبه و أصمه عن كل موعظة، فإذا وعظ لم يسمع بل تزيده الموعظة غيظا، و إن أراد أن يستضي‏ء بنور عقله و راجع نفسه لم يقدر على ذلك، إذ ينطفئ نور العقل و ينمحي في الحال بدخان الغضب، فإن معدن الفكر الدماغ و يتصاعد عند شدة الغضب من غليان دم القلب دخان إلى الدماغ مظلم مستولي على معادن الفكر، و ربما يتعدى إلى معادن الحس فيظلم عينه حتى لا يرى بعينه و يسود عليه الدنيا بأسرها و يكون دماغه على مثال كهف أضرمت فيه نار، فاسود جوه و حمى مستقره و امتلاء بالدخان جوانبه، و كان فيه سراج ضعيف فانطفأ و انمحى نوره فلا يثبت فيه قدم و لا يسمع فيه كلام، و لا ترى فيه صورة، و لا يقدر على إطفائه لا من داخل و لا من خارج، بل ينبغي أن يصبر إلى أن يحترق جميع ما يقبل الاحتراق، فكذلك يفعل الغضب بالقلب و الدماغ، و ربما يقوى نار الغضب فتفنى الرطوبة التي بها حياة القلب فيموت صاحبه غيظا كما يقوى النار في الكهف فيتشقق و تنهد أعاليه على أسافله، و ذلك لإبطال النار ما في جوانبه من القوة الممسكة الجامعة لأجزائه، فهكذا حال القلب مع الغضب.

و من آثار هذا الغضب في الظاهر تغير اللون و شدة الرعدة في الأطراف، و خروج الأفعال عن الترتيب و النظام، و اضطراب الحركة و الكلام، حتى يظهر الزبد على الأشداق و تحمر الأحداق و تنقلب المناخر و تستحيل الخلقة، و لو رأى الغضبان في حال غضبه قبح صورته لسكن غضبه حياء من قبح صورته، و استحالة خلقته، و قبح باطنه أعظم من قبح ظاهره فإن الظاهر عنوان الباطن، و إنما قبحت صورة الباطن أولا ثم انتشر قبحها إلى الظاهر ثانيا فهذا أثره في الجسد، و أما

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 155

أثره في اللسان فانطلاقه بالشتم و الفحش و قبيح الكلام الذي يستحيي منه ذوو العقول، و يستحيي منه قائله عند فتور الغضب و ذلك مع تخبط النظم و اضطراب اللفظ، و أما أثره على الأعضاء فالضرب و التهجم و التمزيق و القتل و الجرح عند التمكن من غير مبالاة، فإن هرب منه المغضوب عليه أو فاته بسبب و عجز عن التشفي رجع الغضب على صاحبه فيمزق ثوب نفسه و يلطم وجهه و قد يضرب يده على الأرض و يعدو عدو الواله السكران، و المدهوش المتحير، و ربما سقط صريعا لا يطيق العدو و النهوض لشدة الغضب، و يعتريه مثل الغشية، و ربما يضرب الجمادات و الحيوانات فيضرب القصعة على الأرض و قد تكسر و تراق المائدة إذا غضب عليها و قد يتعاطى أفعال المجانين فليشتم البهيمة و الجماد، و يخاطبه و يقول: إلى متى منك كذا و يا كيت و كيت كأنه يخاطب عاقلا حتى ربما رفسته دابة فيرفسها و يقابلها به، و أما أثره في القلب مع المغضوب عليه فالحقد و الحسد و إظهار السوء و الشماتة بالمساءة و الحزن بالسرور، و العزم على إفشاء السر و هتك الأستار و الاستهزاء و غير ذلك من القبائح، فهذه ثمرة الغضب المفرط و قد أشير إليها في تلك الأخبار.

 (الحديث الرابع عشر)

 (1): ضعيف على المشهور.

و الأعراض‏

 (2) جمع العرض بالكسر و في القاموس: العرض بالكسر الحسد و كل موضع يعرق منه و رائحته طيبة كانت أو خبيثة و النفس، و جانب الرجل يصونه من نفسه و حسبه أن يتنقص و يثلب، أو سواء كان في نفسه أو في سلفه أو من يلزمه أمره أو موضع المدح و الذم منه، أو ما يفتخر به من حسب و شرف، و قال: النفس الروح و الدم و الجسد و العظمة و العزة و الهمة و الأنفة و العيب و العقوبة.

و

قوله عليه السلام: من كف نفسه عن أعراض الناس،

 (3) أي عن هتك عرضهم بالغيبة

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 156

و البهتان و الشتم و كشف عيوبهم و أمثال ذلك‏

" أقال الله نفسه"

 (1) قيل: المراد بالنفس هنا العيب، و أقول: يمكن أن يكون المراد بالنفس هنا أيضا المعنى الشائع، لأن الإقالة و إن كان الغالب نسبتها إلى العثرات و الذنوب، لكن يمكن نسبتها إلى النفس أيضا، فإن الإقالة في الأصل هو أن يشتري الرجل متاعا فيندم فيأتي البائع فيقول له: أقلني أي اترك ما جرى بيني و بينك، و رد علي ثمني و خذ متاعك، و استعمل في غفران الذنوب لأنه بمنزلة معاوضة بينه و بين الرب تعالى، فكأنه أعطى الذنب و أخذ العقوبة، و النفس مرهونة في تلك المعاملة يقتص منها، فكما يمكن نسبة الإقالة إلى الذنب يمكن نسبتها إلى النفس أيضا، بل هو أنسب لأنه يريد أن يفك نفسه عن العقوبة كما قال تعالى:" كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ" و قال سبحانه" كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ" و قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: ألا إن أنفسكم مرهونة بأعمالكم ففكوها باستغفاركم، مع أنه يمكن تقدير مضاف أي عثرة نفسه.

 (الحديث الخامس عشر)

 (2): ضعيف على المشهور.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 157

باب الحسد

 (1)

 (الحديث الأول)

 (2): صحيح، و في القاموس:

البادرة

 (3) ما يبدر من حدتك في الغضب من قول أو فعل، و في النهاية: البادرة من الكلام الذي يسبق من الإنسان في الغضب و إذا عرفت هذا فهذه الفقرة تحتمل وجوها:

الأول: أن يكون المعنى أن عدم منع النفس عن البوادر و عدم إزالة مواد الغضب عن النفس و إرخاء عنان النفس فيها ينجر إلى الكفر أحيانا أو غالبا كما ترى من كثير من الناس يصدر منهم عند الغضب التلفظ بما يوجب الكفر من سب الله سبحانه، و سب الأنبياء و الأئمة عليهم السلام أو ارتكاب أعمال يوجب الارتداد، كوطي المصحف الكريم بالرجل، و رميه.

الثاني: أن يراد به الحث على ترك البوادر مطلقا، فإن كل بادرة تصير سببا لنوع من أنواع الكفر المقابل للإيمان الكامل.

الثالث: أن يقرأ فتكفر على بناء المجهول من باب التفعيل، أي البوادر عند الغضب مكفرة غالبا لعذر الإنسان فيه في الجملة، لا سيما إذا تعقبتها ندامة و قلما لم تتعقبها بخلاف الحسد، فإنها صفة راسخة في النفس تأكل الإيمان، و يمكن حملها حينئذ على ما إذا غلب عليه الغضب بحيث ارتفع عنه القصد، و يمكن أن يقرأ بالياء كما في النسخ على هذا البناء أيضا أي ينسب إلى الكفر و إن كان معذورا عند الله لرفع الاختيار فيكون ذكر البعض مفاسد البادرة، في النهاية: الحسد أن يرى الرجل‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 158

لأخيه نعمة فيتمنى زوالها عنه، و تكون له دونه، و الغبطة أن يتمنى أن يكون له مثلها و لا يتمنى زوالها عنه، انتهى.

و اعلم أنه لا حسد إلا على نعمة، فإذا أنعم الله على أخيك نعمة فلك فيها حالتان أحدهما أن تكره تلك النعمة و تحب زوالها، سواء أردت وصولها إليك أم لا، فهذه الحالة تسمى حسدا، و الثانية أن لا تحب زوالها و لا تكره وجودها و دوامها و لكنك تشتهي لنفسك مثلها، و هذه تسمى غبطة، و قد يخص باسم المنافسة، فأما الأول فهو حرام مطلقا كما هو المشهور، أو إظهارها كما يظهر من بعض الأخبار إلا نعمة أصابها فاجر أو كافر و هو يستعين بها على تهييج الفتنة و إفساد ذات البين و إيذاء الخلق فلا يضرك كراهتك لها و محبتك لزوالها، فإنك لا تحب زوالها من حيث إنها نغمة بل من حيث هي آلة الفساد، و لو آمنت فساده لم تغمك تنعمه.

و أما الحسد المذموم فمع قطع النظر عن الآيات الكثيرة و الأخبار المتواترة الواردة في ذمها و النهي عنها، و صريح العقل أيضا يحكم بقبحها فإنه سخط لقضاء الله في تفضيل بعض عباده على بعض، و أي معصية تزيد على كراهتك لراحة مسلم من غير أن يكون لك فيها مضرة و سيأتي ذكر بعض مفاسدها.

و أما المنافسة فليست بحرام بل هي إما واجبة أو مندوبة أو مباحة، كما قال تعالى:" وَ فِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ" و قال سبحانه:" سابِقُوا إِلى‏ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ" فأما الواجبة فهي ما إذا كانت في نعمه دينية واجبة كالإيمان و الصلاة و الزكاة، فإنه إن لم يحب أن يكون له مثل ذلك يكون راضيا بالمعصية و هو حرام، و المندوبة فيما إذا كانت النعمة من الفضائل كإنفاق الأموال في المكارم و الصدقات، و المباحة فيما إذا كانت لغيره نعمة مباحة يتنعم فيها على وجه مباح، فيتمنى أن‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 159

يكون له مثلها يتنعم بها من غير أن يريد زوالها عنه في الجميع.

و أقول: يمكن أن يفرض فيها فرد حرام كان يتمنى منصبا حراما أو مالا حراما أو مالا حلالا ليصرفها في الحرام، بل مكروه أيضا كان يتمنى مال شبهة أو مالا حلالا ليصرفها في المصارف المكروهة.

و قيل: للحسد أسباب كثيرة يحصر جملتها سبعة: العداوة و التعزز و الكبر، و التعجب، و الخوف من فوت المقاصد المحبوبة، و حب الرئاسة، و خبث النفس و بخلها، فإنه إنما يكره النعمة عليه إما لأنه عدوه فلا يريد له الخير، و إما أن يكون من حيث يعلم أنه يستكبر بالنعمة عليه، و هو لا يطيق احتمال كبره و تفاخره لعزة نفسه و هو المراد بالتعزز، و إما أن يكون في طبعه أن يتكبر على المحسود و يمتنع ذلك عليه بنعمته، و هو المراد بالتكبر، و إما أن تكون النعمة عظيمة و المنصب كبيرا فيتعجب من فوز مثله بمثل تلك النعمة كما أخبر الله تعالى عن الأمم الماضية إذ قالوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا، و قالوا أَ نُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا، و أمثال ذلك كثيرة، فتعجبوا من أن يفوز برتبة الرسالة و الوحي و القرب من الله بشر مثلهم فحسدوهم و هو المراد بالتعجب، و إما أن يخاف من فوات مقاصده بسبب نعمته بأن يتوصل بها إلى مزاحمته في أغراضه، و إما أن يكون بحب الرئاسة التي يبتني على الاختصاص بنعمة لا يساوي فيها، و إما أن لا يكون بسبب من هذه الأسباب بل لخبث النفس و شحها بالخير لعباد الله.

فهذه أسباب الحسد و قد يجتمع بعض هذه الأسباب أو أكثرها أو جميعها في شخص واحد، فيعظم الحسد لذلك و يقوى قوة لا يقدر معها على الإخفاء و المجاملة، بل يهتك حجاب المجاملة و يظهر العداوة بالمكاشفة، و أكثر المحاسدات يجتمع فيها جملة من هذه الأسباب.

و اعلم أن الحسد من الأمراض العظيمة للقلوب و لا تداوى أمراض القلوب إلا بالعلم و العمل، و العلم المنافع لمرض الحسد هو أن تعرف تحقيقا أن الحسد

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 160

ضرر عليك في الدنيا و الدين، و أنه لا ضرر به على المحسود في الدين و الدنيا، بل ينتفع بها في الدنيا و الدين، و مهما عرفت هذا عن بصيرة و لم تكن عدو نفسك و صديق عدوك فارقت الحسد لا محالة، أما كونه ضررا عليك في الدين فهو أنك بالحسد سخطت قضاء الله تعالى، و كرهت نعمته التي قسمها لعباده، و عدله الذي أقامه في ملكه تخفى حكمته، و استنكرت ذلك و استبشعته، و هذه جناية على حدقة التوحيد، و قذى في عين الإيمان، و ناهيك بها جناية على الدين، و قد انضاف إليه أنك غششت رجلا من المؤمنين و تركت نصيحته و فارقت أولياء الله و أنبيائه في حبهم الخير لعباد الله، و شاركت إبليس و سائر الكفار في حبهم للمؤمنين البلايا و زوال النعم، و هذه خبائث في القلب تأكل حسنات القلب و الإيمان فيه.

و الحاصل أن الحسد مع كونه في نفسه صفة منافية للإيمان يستلزم عقائد فاسدة كلها منافية لكمال الإيمان و اليقين، و أيضا لاشتغال النفس بالتفكر في أمر المحسود و التدبير لدفعه يمنعها عن تحصيل الكمالات و التوجه إلى العبادات، و حضور القلب فيها، و تولد في النفس صفاتا ذميمة كلها توجب نقص الإيمان، و أيضا يوجب عللا في البدن و ضعفا فيها يمنع الإتيان بالطاعات على وجهها، فينقص بل يفسد الإيمان على أي معنى كان، و لذا قال عليه السلام: يأكل الإيمان كما تأكل النار الحطب.

و أما كونه ضررا في الدنيا عليك، فهو أنه تتألم بحسدك و تتعذب به، و لا تزال في كد و غم إذ أعداؤك لا يخليهم الله عن نعم يفيضها عليهم، فلا تزال تتعذب بكل نعمة تراها عليهم و تتأذى و تتألم بكل بلية تنصرف عنهم، فتبقى مغموما محزونا متشعب القلب ضيق النفس كما تشتهيه لأعدائك، و كما يشتهي أعداؤك لك، فقد كنت تريد المحنة لعدوك فتنجزت في الحال محنتك و غمك نقدا، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: لله در الحسد حيث بدء بصاحبه فقتله، و لا تزول النعمة على‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 161

المحسود بحسدك.

و لو لم تكن تؤمن بالبعث و الحساب لكان مقتضى الفطنة إن كنت عاقلا أن تحذر من الحسد لما فيه من ألم القلب و مساءته مع عدم النفع، فكيف و أنت عالم بما في الحسد من العذاب الشديد في الآخرة، و أما إنه لا ضرر على المحسود في دينه و دنياه فواضح، لأن النعمة لا تزول عنه بحسدك، بل ما قدره الله من إقبال و نعمة فلا بد من أن يدوم إلى أجل قدره الله فلا حيلة في دفعه، بل كل شي‏ء عنده بمقدار، و لكل أجل كتاب.

و أما أن المحسود ينتفع به في الدين و الدنيا فواضح، أما منفعته في الدين فهو أنه مظلوم من جهتك لا سيما إذا أخرجك الحسد إلى القول و الفعل بالغيبة و القدح فيه، و هتك ستره و ذكر مساويه، فهذه هدايا تهديها إليه أعني أنك بذلك تهدي إليه حسناتك حتى تلقاه يوم القيامة مفلسا محروما عن النعمة كما حرمت في الدنيا عن النعمة، فأضفت له نعمة إلى نعمة، و لنفسك شقاوة إلى شقاوتك، و أما منفعته في الدنيا فهو أن أهم أغراض الخلق مساءة الأعداء و غمهم و شقاوتهم، و كونهم معذبين مغمومين، و لا عذاب أعظم مما أنت فيه من ألم الحسد، و غاية أماني أعدائك أن يكونوا في نعمة و أن تكون في غم و حسرة بسببهم و قد فعلت بنفسك ما هو مرادهم.

ثم اعلم أن المؤذي ممقوت بالطبع و من آذاك لا يمكنك أن لا تبغضه غالبا و إذا تيسرت له نعمة فلا يمكنك أن لا تكرهها له حتى يستوي عندك حسن حال عدوك و سوء حاله، بل لا تزال تدرك في النفس بينهما فرقا، و لا يزال الشيطان ينازعك في الحسد له و لكن إن قوي ذلك فيك حتى يبعثك على إظهار الحسد بقول أو فعل بحيث يعرف ذلك من ظاهرك بأفعالك الاختيارية فأنت إذا حسود عاص بحسدك، و إن كففت ظاهرك بالكلية إلا أنك بباطنك تحب زوال النعمة، و ليس‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 162

في نفسك كراهة لهذه الحالة فأنت أيضا حسود عاص لأن الحسد صفة القلب لا صفة الفعل، قال الله تعالى:" وَ لا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا" و قال:

" وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً" و قال:" إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ" أما بالفعل فهو غيبة و كذب و هو عمل صادر عن الحسد، و ليس هو عين الحسد بل محل الحسد القلب دون الجوارح، نعم هذا الحسد ليست مظلمة يحبب الاستحلال منها، بل هو معصية بينك و بين الله، و إنما يجب الاستحلال من الأسباب الظاهرة على الجوارح و أما إذا كففت ظاهرك و ألزمت مع ذلك قلبك كراهية ما يترشح منه بالطبع من حيث زوال النعمة حتى كأنك تمقت نفسك على ما في طبعها، فتكون تلك الكراهية من جهة العقل في مقابلة الميل من جهة الطبع، فقد أديت الواجب عليك و لا مدخل تحت اختيارك في أغلب الأحوال أكثر من هذا فأما تغيير الطبع ليستوي عنده المؤذي و المحسن و يكون فرحه أو غمه بما تيسر لهما من نعمة و تصب عليهما من بلية سواء، فهذا مما لا يطاوع الطبع عليه ما دام ملتفتا إلى حظوظ الدنيا إلا أن يصير مستغرقا بحب الله تعالى مثل السكران الواله، فقد ينتهي أمره إلى أن لا يلتفت قلبه إلى تفاصيل أحوال العباد بل ينظر إلى الكل بعين واحدة و هو عين الرحمة، و يرى الكل عباد الله، و ذلك إن كان فهو كالبرق الخاطف لا يدوم و يرجع القلب بعد ذلك إلى طبعه، و يعود العدو إلى منازعته أعني الشيطان فإنه ينازع بالوسوسة، فمهما قابل ذلك بكراهة ألزم قلبه فقد أدى ما كلفه، و ذهب ذاهبون إلى أنه لا يأثم إذا لم يظهر الحسد على جوارحه، و روي مرفوعا أنه ثلاثة في المؤمن له منهن مخرج و مخرجه من الحسد أن لا يبغي، و الأولى أن يحمل هذا على ما ذكرناه من أن يكون فيه‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 163

كراهة من جهة الدين و العقل في مقابلة حب الطبع لزوال النعمة عن العدو، و تلك الكراهة تمنعه من البغي و من الإيذاء، فإن جميع ما ورد في الأخبار في ذم الحسد يدل ظاهرها على أن كل حاسد آثم، و الحسد عبارة عن صفة القلب لا عن الأفعال فكل محب لمساءة المسلمين فهو حاسد، فإذا كونه آثما بمجرد حسد القلب من غير فعل فهو في محل النظر و الإشكال.

و قد عرفت من هذا أن لك في أعدائك ثلاثة أحوال: أحدها: أن تحب مساءتهم بطبعك و تكره حبك لذلك و ميل قلبك إليه بعقلك و تمقت نفسك عليه، و تود لو كانت لك حيلة في إزالة ذلك الميل منك و هذا معفو عنه قطعا لأنه لا يدخل تحت الاختيار أكثر منه، الثانية: أن تحب ذلك و تظهر الفرح بمساءته إما بلسانك أو بجوارحك، فهذا هو الحسد المخطور قطعا، الثالثة: و هي بين الطرفين أن تحسد بالقلب من غير مقتك لنفسك على حسدك، و من غير إنكار منك على قلبك، و لكن تحفظ جوارحك عن طاعة الحسد في مقتضاها، و هذا محل الخلاف و قيل: إنه لا يخلو من إثم بقدر قوة ذلك الحب و ضعفه.

 (الحديث الثاني)

 (1): مجهول.

 (الحديث الثالث)

 (2): مختلف فيه و صحته أقوى.

و في القاموس:

ساح‏

 (3) الماء يسيح سيحا و سيحانا جرى على وجه الأرض، و السياحة بالكسر و السيح الذهاب في الأرض للعبادة و منه المسيح، انتهى.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 164

و أقول: كان من شرائع عيسى عليه السلام السياحة في الأرض للاطلاع على عجائب قدرة الله و هداية عباد الله، و الفرار من أعدائه و ملاقاة أوليائه، فنسخ ذلك في شرعنا، و قد روي: لا سياحة في الإسلام، و سياحة هذه الأمة الصيام‏

" فدخله العجب"

 (1) فإن قيل: هذا إما عجب كما صرح به، أو غبطة حيث تمنى منزلة عيسى عليه السلام لكنه تجاوز عن حد نفسه حيث لم يكن له أن يتمنى تلك الدرجة الرفيعة التي لا يمكن حصولها له، فكيف فرعه عليه السلام على النهي عن الحسد؟ قلت: الظاهر أنه كان الحامل له على الجرأة على هذا التمني الحسد بمنزلة عيسى و اختصاصه بالنبوة حيث قال: فما فضله علي؟ أو أنه لما رأى مساواته لعيسى عليه السلام في فضيلة واحدة حسد عيسى على نبوته و أنكر فضله عليه كما قال بعض الكفار" أَ نُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا".

" فرمس في الماء"

 (2) أي غمس فيه على بناء المجهول فيهما، لا يقال: سيأتي عدم المؤاخذة بالخطورات القلبية و قصد المعصية و هنا أخذ بها، لأن الظاهر أن‏

قوله" فقال"

 (3) المراد به الكلام النفسي؟ لأنا نقول: الأفعال القلبية التي لا مؤاخذة بها هي التي تتعلق بإرادة المعاصي أو كان محض خطور من غير أن يصير سببا لشكه في العقائد الإيمانية أو حدوث خلل فيها، و هيهنا ليس كذلك مع أنه لا يدل ما سيأتي إلا على أنه لا يعاقب بها و هو لا ينافي حط منزلته عن صدور مثل هذه‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 165

الغرائب منه، و

قوله عليه السلام: يا قصير!

 (1) دل على جواز مخاطبة الإنسان ببعض أوصافه المشهورة، لا على وجه الاستهزاء، و الظاهر أن ذلك كان تأديبا له.

قوله عليه السلام و عاد،

 (2) أي في نفسه و اعتقاده‏

" إلى مرتبته"

 (3) أي الإقرار بحط نفسه عن الارتقاء إلى درجة النبوة و سلم لعيسى عليه السلام فضله و نبوته و ترك الحسد له.

 (الحديث الرابع)

 (4): ضعيف على المشهور.

" كاد الفقر أن يكون كفرا"

 (5) أقول: هذه الفقرة تحتمل وجوها:

الأول: ما خطر بالبال أن المراد به الفقر إلى الناس و هذا هو الفقر المذموم، فإن سؤال الخلق و عدم التوجه إلى خالقه و من ضمن رزقه في طلب الرزق و سائر الحوائج نوع من الكفر و الشرك، لعدم الاعتماد على الله سبحانه و ضمانه، و ظنه أن المخلوق العاجز قادر على إنجاح حوائجه و سوق الرزق إليه بدون تقديره، و تيسيره و تسبيبه، فبعضها يقرب من الكفر، و بعضها من الشرك.

الثاني: أن المراد به الفقر القاطع لعنان الاصطبار، و قد وقعت الاستعاذة منه، و أما الفقر الممدوح فهو المقرون بالصبر، قال الغزالي: سبب ذلك أن الفقير إذا نظر إلى شدة حاجته و حاجة عياله، و رأى نعمة جزيلة مع الظلمة و الفسقة و غيرهم، ربما يقول: ما هذا الإنصاف من الله؟ و ما هذه القسمة التي لم تقع على العدل فإن لم يعلم شدة حاجتي ففي علمه نقص، و إن علم و منع مع القدرة على الإعطاء ففي جوده نقص، و إن منع لثواب الآخرة فإن قدر على إعطاء الثواب بدون هذه المشقة الشديدة فلم منع، و إن لم يقدر ففي قدرته نقص، و مع هذا يضعف‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 166

اعتقاده بكونه عدلا جوادا كريما مالكا لخزائن السماوات و الأرض، و حينئذ يتسلط عليه الشيطان و يذكر له شبهات حتى يسب الفلك و الدهر و غيرهما، و كل ذلك كفر أو قريب منه، و إنما يتخلص من هذه الأمور من امتحن الله قلبه للإيمان، و رضي عن الله سبحانه في المنع و الإعطاء، و علم أن كل ما فعله بالنسبة إليه فهو خير له و قليل ما هم.

الثالث: ما ذكره الراوندي قدس سره حيث قال: معنى الحديث و الله أعلم أنه إشارة إلى أن الفقير يسف إلى المأكل الدنية و المطاعم الوبية، و إذا وجد أولاده يتضورون من الجوع و العري، و رأى نفسه لا يقدر على تقويم أودهم و إصلاح حالهم، و التنفيس عنهم كان بالحري أن يسرق و يخون و يغصب و ينهب، و يستحل أموال الناس و يقطع الطريق و يقتل المسلم أو يخدم بعض الظلمة، فيأكل ما يغصبه و يظلمه، و هذا كله من أفعال من لا يحاسب نفسه و لا يؤمن بيوم الحساب، فهو قريب إلى أن يكون كافرا بحتا، و في الأثر: عجبت لمن له عيال و ليس له مال كيف لا يخرج على الناس بالسيف؟ انتهى.

و أقول: المعاني متقاربة و المال واحد.

و أما

قوله عليه السلام: و كاد الحسد أن يغلب القدر،

 (1) ففيه أيضا وجوه:

الأول: ما ذكر الراوندي (ره) حيث قال: إن المعنى أن للحسد تأثيرا قويا في النظر في إزالة النعمة عن المحسود أو التمني لذلك، فإنه ربما يحمله حسده على قتل المحسود و إهلاك ماله و إبطال معاشه فكأنه سعى في غلبة المقدور، لأن الله تعالى قد قدر للمحسود الخير و النعمة، و هو يسعى في إزالة ذلك منه، و قيل:

الحسد منصف لأنه يبدأ بصاحبه و قيل: الحسود لا يسود، و قيل: الحسد يأكل الجسد، و كاد يعطي أنه قرب الفعل و لم يكن، و يفيد في الحديث شدة تأثير الفقر

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 167

و الحسد و إن لم يكونا يغلبان القدر، و يقال: إن كاد إذا أوجب به الفعل دل على النفي، و إذا نفى دل على الوقوع، انتهى.

و قريب منه ما قيل فيه مبالغة في تأثير الحسد في فساد النظام المقدر للعالم، فإنه كثيرا ما يبعث صاحبه على قتل النفوس و نهب الأموال و سبي الأولاد و إزالة النعم حتى كأنه غير راض بقضاء الله و قدره، و يطلب الغلبة عليهما، و هو في حد الشرك بالله.

الثاني: ما قيل: المعنى أن الحسد قد يغلب القدر بأن يزيد في المحسود ما قدر له من النعمة.

الثالث: أن يكون المراد غلبة القدر بتغيير نعمة الحاسد و زوال ما قدر له من الخير.

الرابع: أن يكون المراد كاد أن يغلب الحسد في الوزر و الإثم القول بالقدر مع شدة عذاب القدرية.

الخامس: أن يكون إشارة إلى تأثير العين فإن الباعث عليه الحسد كما فسر جماعة من المفسرين قوله تعالى:" وَ مِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ" بإصابة العين، و روى العامة عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم و الخاصة عن الصادق عليه السلام: لو كان شي‏ء يسبق القدر سبقه العين، و قال الطبرسي رحمه الله في قوله تعالى:" لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ" خاف العين عليهم لأنهم كانوا ذوي جمال و هيئة و كمال، و هم إخوة أولاد رجل واحد عن ابن عباس و الحسن و قتادة و الضحاك و السدي و أبو مسلم، و قيل: خاف عليهم حسد الناس إياهم و أن يبلغ الملك قوتهم و بطشتهم فيحبسهم أو يقتلهم خوفا على ملكه، عن الجبائي، و أنكر العين و ذكر أنه لم يثبت بحجة و جوزه كثير

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 168

من المحققين، و رووا فيه الخبر عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أن العين حق تستنزل الحالق، و الحالق المكان المرتفع من الجبل و غيره، فجعل عليه السلام كأنها تحط ذروة الجبل من قوة أخذها و شدة بطشها، و ورد في الخبر أنه صلى الله عليه و آله و سلم كان يعوذ الحسن و الحسين عليهما السلام بأن يقول: أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان هامة و من كل عين لامة، و روي أن إبراهيم عليه السلام عوذ ابنيه، و أن موسى عوذ ابني هارون بهذه العوذة، و روي أن بني جعفر بن أبي طالب كانوا غلمانا بيضا فقالت أسماء بنت عميس: يا رسول الله إن العين إليهم سريعة أ فأسترقي لهم من العين؟ فقال صلى الله عليه و آله و سلم:

نعم، و روي أن جبرئيل عليه السلام رقا رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم و علمه الرقية، و هي: بسم الله أرقيك من كل عين حاسد، الله يشفيك، و روي عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنه قال: لو كان شي‏ء يسبق القدر لسبقه العين.

ثم اختلفوا في وجه تأثير الإصابة بالعين فروي عن الجاحظ أنه قال: لا ينكر أن ينفصل من العين الصائبة إلى الشي‏ء المستحسن أجزاء لطيفة تتصل به و تؤثر فيه، و يكون هذا المعنى خاصة في بعض الأعين كالخواص في بعض الأشياء، و قد اعترض على ذلك بأنه لو كان كذلك لما اختص ذلك ببعض الأشياء دون بعض، و لأن الأجزاء تكون جواهر و الجواهر متماثلة، و لا يؤثر بعضها في بعض، و قال أبو هاشم: هو فعل الله بالعادة لضرب من المصلحة و هو قول القاضي.

و قال الفخر الرازي في تفسير الآية التي في سورة يوسف: لنا ههنا مقامان الأول إثبات أن العين حق، ثم استدل على ذلك بإطباق المتقدمين من المفسرين على أن المراد من هذه الآية ذلك، ثم استدل بالروايات المتقدمة و غيرها، ثم قال:

المقام الثاني في الكشف عن ماهيته فنقول: إن الجبائي أنكر هذا المعنى إنكارا بليغا و لم يذكر في إنكاره شبهة فضلا عن حجة، و أما الذين اعترفوا به فقد ذكروا فيه وجوها: الأول: قال الجاحظ تمتد من العين أجزاء فتتصل بالشخص المستحسن‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 169

فتؤثر و تسري فيه كتأثير اللسع و السم و النار و إن كان مخالفا في وجه التأثير لهذه الأشياء، قال القاضي: و هذا ضعيف لأنه لو كان الأمر كما قال لوجب أن يؤثر في الشخص الذي لا يستحسن كتأثيره في المستحسن، و اعلم أن هذا الاعتراض ضعيف و ذلك لأنه إذا استحسن شيئا فقد يحب بقائه كما إذا استحسن ولد نفسه و بستان نفسه و قد يكره بقائه كما إذا استحسن الحاسد بحصول شي‏ء حسن لعدوه فإن كان الأول فإنه يحصل عند ذلك الاستحسان خوف شديد من زواله، و الخوف الشديد يوجب انحصار الروح في داخل القلب، فحينئذ يسخن القلب و الروح جدا، و تحصل في الروح الباصر كيفية قوة مسخنة، و إن كان الثاني فإنه تحصل عند ذلك الاستحسان حسد شديد و حزن عظيم بسبب حصول تلك النعمة لعدوه، و الحزن أيضا يوجب انحصار الروح في داخل القلب، و تحصل فيه سخونة شديدة، فثبت أن عند الاستحسان القوي يسخن الروح جدا فيسخن شعاع العين، بخلاف ما إذا لم يستحسن فإنه لا تحصل هذه السخونة، فظهر الفرق بين الصورتين و لهذا السبب أمر الرسول صلى الله عليه و آله و سلم العائن بالوضوء، و من إصابته العين بالاغتسال.

أقول: على ما ذكره إذا عاين شيئا عند استحسان شي‏ء آخر و حصول تلك الحالة فيه أو عند حصول غضب شديد على رجل آخر أو حصول هم شديد من مصيبة أو خوف عظيم من عدو أن يؤثر نظره إليه و إلى كل شي‏ء يعاينه، و معلوم أنه ليس كذلك.

ثم قال الرازي: الثاني: قال أبو هاشم و أبو القاسم البلخي: لا يمتنع أن يكون العين حقا و يكون معناه أن صاحب العين إذا شاهد الشي‏ء و أعجب به استحسانا كانت المصلحة له في تكليفه أن يغير الله تعالى ذلك الشخص أو ذلك الشي‏ء حتى لا يبقى قلب ذلك المكلف متعلقا به، فهذا التغيير غير ممتنع ثم لا يبعد أيضا أنه‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 170

لو ذكر ربه عند ذلك الحالة و بعد عن الإعجاب و سأل ربه فعنده تتغير المصلحة و الله سبحانه يبقيه و لا يفنيه، و لما كانت هذه العادة مطردة لا جرم قيل: للعين حق.

الوجه الثالث: هو قول الحكماء قالوا: هذا الكلام مبني على مقدمة و هي أنه ليس من شرط المؤثر أن يكون تأثيره بحسب هذه الكيفيات المحسوسة أعني الحرارة و البرودة و الرطوبة و اليبوسة، بل قد يكون التأثير نفسانيا محضا، و لا تكون القوي الجسمانية لها تعلق به، و الذي يدل عليه أن اللوح الذي يكون قليل العرض إذا كان موضوعا على الأرض قدر الإنسان على المشي عليه، و لو كان موضوعا فيما بين جدارين عاليين لعجز الإنسان عن المشي عليه، و ما ذلك إلا لأن خوفه من السقوط منه يوجب سقوطه منه، فعلمنا أن التأثيرات النفسانية موجودة، و أيضا أن الإنسان إذا تصور كون فلان مؤذيا له حصل في قلبه غضب و سخن مزاجه، فمبدأ تلك السخونة ليس إلا ذاك التصور النفساني و لأن مبدء الحركات البدنية ليس إلا التصورات النفسانية و لما ثبت أن تصور النفس يوجب تغير بدنه الخاص لم يبعد أيضا أن يكون بعض النفوس تتعدى تأثيراتها إلى سائر الأبدان، فثبت أنه لا يمتنع في العقل كون النفس مؤثرة في سائر الأبدان، و أيضا جواهر النفوس مختلفة بالمهية، فلا يمتنع أن يكون بعض النفوس بحيث يؤثر في تغيير بدن حيوان آخر بشرط أن تراه و تتعجب منه، فثبت أن هذا المعنى أمر محتمل و التجارب من الزمن الأقدم ساعدت عليه، و النصوص النبوية نطقت به، فعند هذا لا يبقى في وقوعه شك، و إذا ثبت أن الذي أطبق عليه المتقدمون من المفسرين في تفسير هذه الآية بإصابة العين كلام حق لا يمكن رده.

أقول: و رأيت في شرح هذا للشريف الأجل الرضي الموسوي قدس الله روحه كلاما أحببت إيراده في هذا الموضع قال: إن الله يفعل المصالح بعباده على حسب ما يعلمه من الصلاح لهم في تلك الأفعال التي يفعلها، فغير ممتنع أن يكون‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 171

تغييره نعمة زيد مصلحة لعمرو، و إذا كان تعالى يعلم من حال عمرو أنه لو لم يسلب زيدا نعمته أقبل على الدنيا بوجهه و نأى عن الآخرة بعطفه، و إذا سلب نعمة زيد للعلة التي ذكرناها عوضه عنها و أعطاه بدلا منها عاجلا و آجلا، فيمكن أن يتأول قوله عليه السلام: العين حق على هذا الوجه، على أنه قد روي عنه عليه السلام ما يدل على أن الشي‏ء إذا عظم في صدور العباد وضع الله قدره، و صغر أمره، و إذا كان الأمر على هذا فلا ينكر تغيير حال بعض الأشياء عند نظر بعض الناظرين إليه و استحسانه له و عظمه في صدره، و فخامته في عينه، كما روي أنه قال لما سبقت ناقته العضباء و كانت إذا سوبق بها لم تسبق: ما رفع العباد من شي‏ء إلا وضع الله منه، و يجوز أن يكون ما أمر به المستحسن تغيير للشي‏ء عند رؤيته من تعويذه بالله و الصلاة على رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم قائما في المصلحة مقام تغيير حالة الشي‏ء المستحسن فلا تغيير عند ذلك، لأن الرائي لذلك قد أظهر الرجوع إلى الله تعالى و الإعاذة به، فكأنه غير راكن إلى الدنيا و لا مغتر بها، انتهى كلامه رضي الله عنه.

 (الحديث الخامس)

 (1): صحيح.

و الحسد و العجب‏

 (2) من معاصي القلب، و

الفخر

 (3) من معاصي اللسان، و هو التفاخر بالآباء و الأجداد و الأنساب الشريفة، و بالعلم و الزهد و العبادة و الأموال و المساكن و القبائل و أمثال ذلك، فبعض تلك كذب و بعضها رياء، و بعضها عجب، و بعضها تكبر و تعظم و تعزز، و كل ذلك من ذمائم الأخلاق، و من صفات الشيطان، حيث تعزز بأصله فاستكبر عن طاعة ربه، قال الراغب: الفخر المباهاة في الأشياء الخارجة عن الإنسان كالمال و الجاه، و يقال له الفخر، و رجل فاخر و فخور و فخير على التكثير، قال تعالى:" إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ"

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 172

و قال في النهاية: الفخر ادعاء العظم و الكبر و الشرف، و في المصباح فخرت به فخرا من باب نفع و افتخرت مثله و الاسم الفخار بالفتح و هو المباهاة بالمكارم و المناقب من حسب و نسب و غير ذلك إما في المتكلم أو في آبائه.

 (الحديث السادس)

 (1): مختلف فيه صحيح عندي و معلق على السند السابق، و كأنه أخذه من كتاب يونس.

" لا تحسدون الناس"

 (2) إشارة إلى قوله تعالى:" أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى‏ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ"

" وَ لا تَمُدَّنَّ"

 (3) إشارة إلى قوله سبحانه:" وَ لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى‏ ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَ رِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَ أَبْقى‏" قال البيضاوي: أي لا تمدن نظر عينيك إلى ما متعنا به استحسانا له و تمنيا أن يكون لك مثله، و قال الطبرسي رحمه الله: أي لا ترفعن عينيك من هؤلاء الكفار إلى ما متعناهم و أنعمنا عليهم به أمثالا في النعم من الأولاد و الأموال و غير ذلك، و قيل: لا تنظرن إلى ما في أيديهم من النعم، و قيل: و لا تنظرن و لا يعظمن في عينيك، و لا تمدها إلى ما متعنا به أصنافا من المشركين، نهى الله رسوله عن الرغبة في الدنيا فحظر عليه أن يمد عينيه إليهما، و كان صلى الله عليه و آله و سلم لا ينظر إلى ما يستحسن من الدنيا.

 (الحديث السابع)

 (4): ضعيف.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 173

و هو بحسب الظاهر إخبار بأن الحاسد منافق كما مر، و بحسب المعنى أمر بطلب الغبطة و ترك الحسد، و قد مر معناهما، لا يقال: المغتبط يتمنى فوق مرتبته و الأفضل من نعمته، فهو ساخط بالنعمة غير راض بالقسمة كالحاسد، و إلا فما الفرق؟ لأنا نقول: الفرق أن الحاسد غير راض بالقسمة حيث تمنى أن يكون قسمته و نصيبه للغير، و نصيب الغير له، فهو راد للقسمة قطعا، و أما المغتبط فقد رضي أن يكون مثل نصيب الغير له، و رضي أيضا بنصيبه إلا أنه لما جوز أن يكون له أيضا مثل نصيب ذلك الغير، و كان ذلك ممكنا في نفسه و لم يعلم امتناعه بحسب التقدير الأزلي و لم يدل عدم حصوله على امتناعه، لجواز أن يكون حصوله مشروطا بشرط كالتمني و الدعاء و نحوهما، و هذا مثل من وجد درجة من الكمال، يسأل الله تعالى و يطلب عنه التوفيق لما وفقها.

باب العصبية

 (1)

 (الحديث الأول)

 (2): صحيح.

و قال في النهاية فيه: العصبي من يعين قومه على الظلم، العصبي: هو الذي يغضب لعصبته و يحامي عنهم، و العصبة الأقارب من جهة الأب لأنهم يعصبونه و يعتصب بهم، أي يحيطون به و يشتد بهم، و منه الحديث: ليس منا من دعا إلى عصبية أو قاتل عصبية، و

التعصب‏

 (3) المحاماة و المدافعة، و قال في قوله صلى الله عليه و آله و سلم‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 174

فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه، الربقة في الأصل عروة في حبل تجعل في عنق البهيمة أو يدها تمسكها، فاستعارها للإسلام يعني ما يشد المسلم به نفسه من عرى الإسلام، أي حدوده و أحكامه و أوامره و نواهيه، و تجمع الربقة على ربق مثل كسرة و كسر، و يقال للحبل الذي يكون فيه الربقة ربق، و يجمع على رباق و أرباق، انتهى.

و التعصب المذموم في الأخبار هو أن يحمى قومه أو عشيرته أو أصحابه في الظلم و الباطل، أو يلج في مذهب باطل أو مسألة باطلة لكونه دينه أو دين آبائه أو عشيرته، و لا يكون طالبا للحق بل ينصر ما لم يعلم أنه حق أو باطل للغلبة على الخصوم أو لإظهار تدربه في العلوم، أو اختار مذهبا ثم ظهر له خطاؤه، فلا يرجع عنه لئلا ينسب إلى الجهل أو الضلال، فهذه كلها عصبية باطلة مهلكة توجب خلع ربقة الإيمان، و قريب منه الحمية، قال سبحانه:" إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ" قال الطبرسي (ره): الحمية الأنفة و الإنكار، يقال: فلان ذو حمية منكرة إذا كان ذا غضب و أنفه أي حميت قلوبهم بالغضب كعادة آبائهم في الجاهلية أن لا يذعنوا لأحد و لا ينقادوا له.

و قال الراغب: عبر عن القوة الغضبية إذا ثارت بالحمية، فقيل: حميت على فلان أي غضبت، انتهى.

و أما التعصب في دين الحق و الرسوخ فيه و الحماية عنه، و كذا في المسائل اليقينية و الأعمال الدينية أو حماية أهله و عشيرته بدفع الظلم عنهم، فليس من العصبية و الحمية المذمومة، بل بعضها واجب.

ثم إن هذا الذم و الوعيد في المتعصب ظاهر، و أما المتعصب له فلا بد من تقييده بما إذا كان هو الباعث له و الراضي به، و إلا فلا إثم عليه، و خلع ربقة الإيمان إما كناية عن خروجه من الإيمان رأسا للمبالغة أو عن إطاعة الإيمان للإخلال‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 175

بشريعة عظيمة من شرائعه، أو المعنى خلع ربقة من ربق الإيمان التي ألزمها الإيمان عليه من عنقه.

 (الحديث الثاني)

 (1): حسن كالصحيح، و قد مضى مضمونه.

 (الحديث الثالث)

 (2): ضعيف على المشهور و في النهاية:

الأعراب‏

 (3) ساكنوا البادية من العرب الذين لا يقيمون في الأمصار، و لا يدخلونها إلا لحاجة، و قال: الجاهلية الحال التي كانت عليها العرب قبل الإسلام من الجهل بالله و رسوله و شرائع الدين، و المفاخرة بالأنساب و الكبر و التجبر و غير ذلك، انتهى.

و كأنه محمول على التعصب في الدين الباطل.

 (الحديث الرابع)

 (4): مجهول.

و قال الجوهري:

العصب‏

 (5) الطي الشديد و تقول: عصب رأسه بالعصابة تعصيبا، و العصب العمامة و كل ما يعصب به الرأس، و قال الفيروزآبادي:

العصابة

 (6) بالكسر ما عصب به، و العمامة، و تعصب شد العمامة و أتى بالعصبية.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 176

 (الحديث الخامس)

 (1): مجهول.

" لم تدخل الجنة"

 (2) على بناء الأفعال، و

الحمية

 (3) الأنفة و الغيرة، و في القاموس:

الحمي من لا يحتمل الضيم و حمي من الشي‏ء كرضى حمية: أنف، و في النهاية: فيه أن المشركين جاءوا بسلى جزور فطرحوه على النبي صلى الله عليه و آله و سلم و هو يصلي،

السلى:

 (4) الجلد الرقيق الذي يخرج فيه الولد من بطن أمه ملفوفا فيه و قيل: هو في الماشية السلى، و في الناس المشيمة، و الأول أشبه لأن المشيمة تخرج بعد الولد و لا يكون الولد فيها حين تخرج.

أقول: قد مرت قصة السلى في باب مولد رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم و ما ذكره عليه السلام أن ذلك صار سببا لإسلام حمزة رضي الله عنه إشارة إلى ما رواه الطبرسي (ره) في إعلام الورى بإسناده عن علي بن إبراهيم بن هاشم بإسناده قال: كان أبو جهل تعرض لرسول الله صلى الله عليه و آله و سلم و آذاه بالكلام، و اجتمعت بنو هاشم فأقبل حمزة و كان في الصيد فنظر إلى اجتماع الناس فقالت له امرأة من بعض السطوح: يا أبا يعلى إن عمرو بن هشام تعرض لمحمد و آذاه، فغضب حمزة و مر نحو أبي جهل و أخذ قوسه فضرب بها رأسه ثم احتمله فجلد به الأرض و اجتمع الناس و كاد يقع فيهم شر، فقالوا: يا أبا يعلى صبوت إلى دين ابن أخيك؟ قال: نعم أشهد أن لا إله إلا الله و أشهد أن محمدا رسول الله على جهة الغضب و الحمية، فلما رجع إلى منزله ندم فغدا على رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم فقال: يا ابن أخ أ حقا ما تقول؟ فقرأ عليه رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم سورة من القرآن فاستبصر حمزة و ثبت على دين الإسلام، و فرح رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم و سر أبو طالب بإسلامه و قال في ذلك:

         صبرا أبا يعلى على دين أحمد             و كن مظهرا للدين وفقت صابرا

 

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 177

         و حط من أتى بالدين من عند ربه             بصدق و حق و لا تكن حمز كافرا

             فقد سرني إذ قلت أنك مؤمن             فكن لرسول الله في الله ناصرا

             و ناد قريشا بالذي قد أتيته             جهارا و قل ما كان أحمد ساحرا

 و أقول: قد اختلفوا في سبب إسلام حمزة قال علي بن برهان الدين الحلبي الشافعي: و مما وقع له صلى الله عليه و آله و سلم من الأذية ما كان سببا لإسلام عمه حمزة رضي الله عنه، و هو ما حدث به ابن إسحاق عن رجل ممن أسلم أن أبا جهل مر برسول الله صلى الله عليه و آله و سلم عند الصفا، و قيل: عند الحجون، فأذاه و شتمه و نال منه ما نكرهه، و قيل: أنه صب التراب على رأسه، و قيل: ألقى عليه فرثا و وطي برجله على عاتقه فلم يكلمه رسول الله و مولاة لعبد الله بن جذعان في مسكن لها تسمع ذلك و تبصره، ثم انصرف رسول الله إلى نادى قريش فجلس معهم، فلم يلبث حمزة أن أقبل متوشحا بسيفه، راجعا من قنصه أي من صيده، و كان من عادته إذا رجع من قنصه لا يدخل إلى أهله إلا بعد أن يطوف بالبيت، فمر على تلك المولاة فأخبرته الخبر، و قيل: أخبرته مولاة أخته صفية قالت له: إنه صب التراب على رأسه و ألقى عليه فرثا و وطي برجله على عاتقه، و على إلقاء الفرث عليه اقتصر أبو حيان، فقال لها حمزة: أنت رأيت هذا الذي تقولين؟ قالت: نعم، فاحتمل حمزة الغضب و دخل المسجد، فرأى أبا جهل جالسا في القوم فأقبل نحوه حتى قام على رأسه و رفع القوس و ضربه فشجه شجة منكرة ثم قال: أ تشتمه فأنا على دينه أقول ما يقول، فرد علي ذلك إن استطعت؟ و في لفظ إن حمزة لما قام على رأس أبي جهل بالقوس صار أبو جهل يتضرع إليه و يقول: سفه عقولنا و سب آلهتنا و خالف آباءنا؟ فقال: و من أسفه منكم تعبدون الحجارة من دون الله أشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله، فقامت رجال من بني مخزوم إلى حمزة لينصروا أبا جهل، فقالوا: ما نراك إلا قد صبأت! فقال حمزة: ما يمنعني و قد استبان لي منه أنا أشهد أنه رسول الله و أن الذي يقوله حق و الله لا أنزع فامنعوني‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 178

إن كنتم صادقين، فقال لهم أبو جهل: دعوا أبا يعلى فإني و الله قد أسمعت ابن أخيه شيئا قبيحا و تم حمزة على إسلامه، فقال لنفسه لما رجع إلى بيته: أنت سيد قريش اتبعت هذا الصابئ و تركت دين آبائك؟ الموت خير لك مما صنعت! ثم قال: اللهم إن كان رشدا فاجعل تصديقه في قلبي و إلا فاجعل لي مما وقعت فيه مخرجا فبات بليلة لم يبت بمثلها من وسوسة الشيطان حتى أصبح فغدا إلى رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم فقال:

يا بن أخي إني وقعت في أمر لا أعرف المخرج منه و إقامة مثلي على ما لا أدري أ رشد هو أم غي شديد! فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم فذكره و وعظه، و خوفه و بشره فألقى الله في قلبه الإيمان بما قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم فقال: أشهد أنك لصادق فأظهر يا بن أخي دينك.

و قد قال ابن عباس في ذلك نزل:" أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ" يعني حمزة" كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها" يعني أبا جهل، و سر رسول الله بإسلامه سرورا كثيرا لأنه كان أعز فتى في قريش و أشدهم شكيمة و من ثم لما عرفت قريش أن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم قد عز كفوا عن بعض ما كانوا ينالون منه، و أقبلوا على بعض أصحابه بالأذية سيما المستضعفين منهم، الذين لا جوار لهم، انتهى.

و أقول: ظاهر بعض تلك الآثار أن قصة السلى التي مر ذكرها غير ما كان سبب إسلام حمزة، و لم يذكر الأكثر قصة إمرار السلى على أسبالهم و ما وقع في الخبرين هو المعتمد، و لا تنافي بينهما لا مكان وقوع الأمرين معا في قصة السلى.

 (الحديث السادس)

 (1): صحيح.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 179

" كانوا يحسبون أن إبليس منهم"

 (1) أي في طاعة الله و عدم العصيان لمواظبته على عبادة الله تعالى أزمنة متطاولة و لم يكونوا يجوزون أنه يعصي الله و يخالفه في أمره لبعد عدم علم الملائكة بأنه ليس منهم بعد أن أسروه من بين الجن و رفعوه إلى السماء فهو من قبيل قولهم عليهم السلام: سلمان منا أهل البيت، و يمكن أن يكون المراد كونه من جنسهم و يكون ذلك الحسبان لمشاهدتهم تباين أخلاقه ظاهرا للجن و تكريم الله تعالى له و جعله بينهم بل رئيسا على بعضهم كما قيل، فظنوا أنه كان منهم وقع بين الجن، أو يقال: كان الظان جمع من الملائكة لم يطلعوا على بدو أمره، و على بعض هذه الوجوه أيضا يحمل ما روى العياشي عن جميل بن دراج قال: سألته عن إبليس أ كان من الملائكة أو هل كان يلي شيئا من أمر السماء؟ قال: لم يكن من الملائكة و لم يكن يلي شيئا من أمر السماء، و كان من الجن و كان مع الملائكة، و كانت الملائكة ترى أنه منها و كان الله يعلم أنه ليس منها فلما أمر بالسجود كان منه الذي كان.

" فاستخرج ما في نفسه"

 (2) أي أظهر إبليس ما في نفسه أي أخذته الحمية و الأنفة و العصبية و افتخر و تكبر على آدم بأن أصل آدم من طين و أصله من نار، و النار أشرف من الطين و أخطأ في ذلك بجهات شتى: منها أنه إنما نظر إلى جسد آدم و لم ينظر إلى روحه المقدسة التي أودع الله فيها غرائب الشؤون، و قد ورد ذلك في الأخبار، و منها أن ما ادعاه من شرافة النار و كونها أعلى من الطين في محل المنع، فإن الطين لتذلله منبع لجميع الخيرات، و منشأ لجميع الحبوب و الرياحين و الثمرات، و النار لرفعتها و اشتعالها يحصل منها جميع الشرور و الصفات الذميمة، و الأخلاق السيئة فثمرتها الفساد و آخرها الرماد، و قد أوردنا بعض الكلام فيه في كتابنا الكبير.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 180

ثم اعلم أن هذا الخبر مما يدل على أن إبليس لم يكن من الملائكة و قد اختلف أصحابنا و المخالفون في ذلك، فالذي ذهب إليه أكثر المتكلمين من أصحابنا و غيرهم أنه لم يكن من الملائكة، قال الشيخ المفيد برد الله مضجعه في كتاب المقالات: أن إبليس من الجن خاصة و أنه ليس من الملائكة و لا كان منها، قال الله تعالى:" إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ" و جاءت الأخبار متواترة عن أئمة الهدى من آل محمد عليهم السلام بذلك، و هو مذهب الإمامية كلها و كثير من المعتزلة و أصحاب الحديث، انتهى.

و ذهب طائفة من المتكلمين إلى أنه من الملائكة و اختاره من أصحابنا شيخ الطائفة روح الله روحه في التبيان و قال: و هو المروي عن أبي عبد الله عليه السلام و الظاهر في تفاسيرنا، ثم قال رحمه الله: ثم اختلف من قال كان منهم فمنهم من قال أنه كان خازنا للجنان و منهم من قال: كان له سلطان سماء الدنيا و سلطان الأرض و منهم من‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 181

قال أنه كان يسوس ما بين السماء و الأرض.

و أقول: قد استدلوا من الجانبين بالآيات و الأخبار كما أوردتها في الكتاب الكبير، و ذكرها هنا يوجب التطويل الكثير، و الظاهر من أكثر الأخبار و الآثار عدم كونه من الملائكة و أنه لما كان مخلوطا بهم و توجه الخطاب بالسجود إليهم شمله هذا الخطاب، و قوله تعالى:" وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ" مبني على التغليب الشائع في الكلام، و الله تعالى يعلم حقائق الأمور.

 (الحديث السابع)

 (1): ضعيف.

" أن يرى"

 (2) على بناء المجرد أو الأفعال‏

" أن يحب الرجل قومه"

 (3) إما محض المحبة فإنه من الجبلة الإنسانية أن يحب الرجل قومه و عشيرته و أقاربه أكثر من غيرهم، و قلما ينفك عنه أحد و الظاهر أنه ليس من الصفات الذميمة، أو بالإفعال أيضا بأن يسعى في حوائجهم أكثر من السعي في حوائج غيرهم، و يبذل لهم المال أكثر من غيرهم، و الظاهر أن هذا أيضا غير مذموم شرعا بل ممدوح، فإن أكثره من صلة الرحم و بعضه من رعاية الإخلاء و الإخوان و الأصحاب و قد مر عن أمير المؤمنين عليه السلام في باب صلة الرحم الحث على جميع ذلك و عن غيره عليه السلام فظهر أن العصبية المذمومة إما إعانة قومه على الظلم أو إثبات ما ليس فيهم لهم أو التفاخر بالأمور الباطلة التي توجب المنفعة أو تفضيلهم على غيرهم من غير فضل، و غير ذلك مما تقدم ذكره.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 182

باب الكبر

 (1)

 (الحديث الأول)

 (2): مجهول.

و قال الراغب:

ألحد

 (3) فلان مال عن الحق و الإلحاد ضربان إلحاد إلى الشرك بالله و إلحاد إلى الشرك بالأسباب فالأول ينافي الإيمان و يبطله، و الثاني يوهن عراه و لا يبطله و من هذا النحو، قوله عز و جل:" وَ مَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ" و قال:

الكبر

 (4) الحالة التي يخصص بها الإنسان من إعجابه بنفسه و ذلك أن يرى الإنسان نفسه أكبر من غيره، و أعظم التكبر التكبر على الله بالامتناع من قبول الحق و الإذعان له بالعبادة، و الاستكبار يقال على وجهين أحدهما: أن يتحرى الإنسان و يطلب أن يصير كبيرا و ذلك متى كان على ما يجب، و في المكان الذي يجب، و في الوقت الذي يجب فمحمود، و الثاني أن يتشبع فيظهر من نفسه ما ليس له، و هذا هو المذموم و على هذا ما ورد في القرآن و هو ما قال تعالى:" أَبى‏ وَ اسْتَكْبَرَ"" أَ فَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى‏ أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ"" وَ أَصَرُّوا وَ اسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً" و قال تعالى:" فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَ ما كانُوا سابِقِينَ" الذين يستكبرون في الأرض" إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ اسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ"" قالُوا ما أَغْنى‏ عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَ ما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ"" فَيَقُولُ‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 183

الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا" قابل المستكبرين بالضعفاء تنبيها على أن استكبارهم كان بما لهم من القوة في البدن و المال" قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا" فقابل بالمستكبرين المستضعفين" ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى‏ وَ هارُونَ إِلى‏ فِرْعَوْنَ وَ مَلَائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَ كانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ" نبه تعالى بقوله:

" فَاسْتَكْبَرُوا" على تكبرهم و إعجابهم بأنفسهم و تعظمهم عن الإصغاء إليه و نبه بقوله:" وَ كانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ" على أن الذي حملهم على ذلك هو ما تقدم من جرمهم و أن ذلك لم يكن شيئا حدث منهم، بل كان ذلك دأبهم قبل" فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَ هُمْ مُسْتَكْبِرُونَ" و قال بعده:" إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ" و التكبر يقال على وجهين أحدهما: أن تكون الأفعال الحسنة كثيرة في الحقيقة و زائدة على محاسن غيره و على هذا وصف الله تعالى بالمتكبر، قال تعالى:" الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ" الثاني: أن يكون متكلفا لذلك متشبعا و ذلك في وصف عامة الناس نحو قوله:" فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ" و قوله:" كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى‏ كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ" و من وصف بالتكبر على الوجه الأول فمحمود، و من وصف به على الوجه الثاني فمذموم، و يدل على أنه قد يصح أن يوصف الإنسان بذلك و لا يكون مذموما قوله تعالى:" سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ" فجعل المتكبرين بغير الحق مصروفا، و الكبرياء الترفع عن الانقياد، و ذلك لا يستحقه غير الله، قال تعالى:" وَ لَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ" و لما قلنا روي عنه صلى الله عليه و آله و سلم يقول عن الله تعالى: الكبرياء

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 184

ردائي و العظمة إزاري، فمن نازعني في شي‏ء منهما قصمته" قالُوا أَ جِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَ تَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَ ما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ" انتهى.

و أقول: الآيات و الأخبار في ذم الكبر و مدح التواضع أكثر من أن تحصى، و قال الشهيد قدس الله روحه: الكبر معصية و الأخبار كثيرة في ذلك، قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: لن يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من الكبر، فقالوا: يا رسول الله إن أحدنا يحب أن يكون ثوبه حسنا و فعله حسنا فقال: إن الله جميل يحب الجمال، و لكن الكبر بطر الحق و غمص الناس، بطر الحق رده على قائله و الغمص بالصاد المهملة الاحتقار، و الحديث مأول بما يؤدي إلى الكفر أو يراد أنه لا يدخل الجنة مع دخول غير المتكبر بل بعده و بعد العذاب في النار، و قد علم منه أن التجمل ليس من التكبر في شي‏ء، انتهى.

و قيل: الكبر ينقسم إلى باطن و ظاهر فالباطن هو خلق في النفس و الظاهر هو أعمال تصدر من الجوارح، و اسم الكبر بالخلق الباطن أحق، و أما الأعمال فإنها ثمرات لذلك الخلق، و لذلك إذا ظهر على الجوارح يقال له تكبر و إذا لم يظهر يقال له في نفسه كبر، فالأصل هو الخلق الذي في النفس، و هو الاسترواح إلى رؤية النفس فوق المتكبر عليه، فإن الكبر يستدعي متكبرا عليه و متكبرا به، و به ينفصل الكبر عن العجب، فإن العجب لا يستدعي غير المعجب، بل لو لم يخلق الإنسان إلا وحده تصور أن يكون معجبا، و لا يتصور أن يكون متكبرا إلا أن يكون مع غيره و هو يرى نفسه فوق ذلك الغير في صفات الكمال، بأن يرى لنفسه مرتبة و لغيره مرتبة ثم يرى مرتبة نفسه فوق مرتبة غيره، فعند هذه الاعتقادات‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 185

الثلاثة يحصل فيه خلق الكبر إلا أن هذه الرؤية هي الكبر، بل هذه الرؤية و هذه العقيدة تنفخ فيه فيحصل في قلبه اغترار و هزة و فرح و ركون إلى ما اعتقده و عز في نفسه بسبب ذلك، فتلك العزة و الهزة و الركون إلى المعتقد هو خلق الكبر، و لذلك قال النبي صلى الله عليه و آله و سلم: أعوذ بك من نفخة الكبرياء، فالكبر عبارة عن الحالة الحاصلة في النفس من هذه الاعتقادات و يسمى أيضا عزا و تعظما، و لذلك قال ابن عباس في قوله تعالى:" إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ" فقال: عظمة لم يبلغوها ثم هذه العزة تقتضي أعمالا في الظاهر و الباطن، و هي ثمراته و يسمى ذلك تكبرا فإنه مهما عظم عنده قدر نفسه بالإضافة إلى غيره حقر من دونه و ازدرأه و أقصاه من نفسه و أبعده و ترفع عن مجالسته و مؤاكلته، و رأى أن حقه أن يقوم ماثلا بين يديه إن اشتد كبره، فإن كان كبره أشد من ذلك استنكف عن استخدامه و لم يجعله أهلا للقيام بين يديه، فإن كان دون ذلك يأنف عن مساواته و يتقدم عليه في مضائق الطرق و ارتفع عليه في المحافل، و انتظر أن يبدأه بالسلام و إن حاج أو ناظر استنكف أن يرد عليه، و إن وعظ أنف من القبول و إن وعظ عنف في النصح، و إن رد عليه شي‏ء من قوله غضب، و إن علم لم يرفق بالمتعلمين و استذلهم و انتهرهم و أمتن عليهم و استخدمهم، و ينظر إلى العامة كما ينظر إلى الحمير استجهالا لهم و استحقارا، و الأعمال الصادرة من الكبر أكثر من أن تحصى.

فهذا هو الكبر و آفته عظيمة و فيه يهلك الخواص و العوام و كيف لا تعظم آفته و قد قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: لا يدخل الجنة من كان في قلبه ذرة من كبر، و إنما صار حجابا عن الجنة لأنه يحول بين العبد و بين أخلاق المؤمنين كلها، و تلك الأخلاق هي أبواب الجنة، و الكبر و عز النفس تغلق تلك الأبواب كلها، لأنه مع تلك الحالة لا يقدر على حبه للمؤمنين ما يحب لنفسه، و لا على التواضع‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 186

و هو رأس أخلاق المتقين، و لا على كظم الغيظ، و لا على ترك الحقد، و لا على الصدق و لا على ترك الحسد و الغضب، و لا على النصح اللطيف و لا على قبوله، و لا يسلم من الإزراء بالناس و اغتيابهم، فما من خلق ذميم إلا و صاحب الكبر و العز مضطر إليه ليحفظ به عزه، و ما من خلق محمود إلا و هو عاجز عنه خوفا من أن يفوته عزه، فعن هذا لم يدخل الجنة.

و شر أنواع الكبر ما يمنع من استفادة العلم و قبول الحق و الانقياد له، و فيه وردت الآيات التي فيها ذم المتكبرين كقوله سبحانه:" وَ كُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ" و أمثالها كثيرة، و لذلك ذكر رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم جحود الحق في حد الكبر و الكشف عن حقيقته، و قال: من سفه الحق و غمص الناس.

ثم اعلم أن المتكبر عليه هو الله أو رسله أو سائر الخلق، فهو بهذه الجملة ثلاثة أقسام:

الأول التكبر على الله و هو أفحش أنواعه، و لا مثار له إلا الجهل المحض و الطغيان مثل ما كان لنمرود و فرعون.

الثاني: التكبر على الرسل و الأوصياء عليهم السلام كقولهم:" أَ نُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا"" وَ لَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ"" وَ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى‏ رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَ عَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً" و هذا قريب من التكبر على الله و إن كان دونه، و لكنه تكبر عن قبول أمر الله.

الثالث: التكبر على العباد و ذلك بأن يستعظم نفسه و يستحقر غيره فتأبى نفسه عن الانقياد لهم و تدعوه إلى الترفع عليهم، فيزدريهم و يستصغرهم و يأنف عن مساواتهم، و هذا و إن كان دون الأول و الثاني، فهو أيضا عظيم من وجهين‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 187

أحدهما: أن الكبر و العزة و العظمة لا يليق إلا بالمالك القادر، فأما العبد الضعيف الذليل المملوك العاجز الذي لا يقدر على شي‏ء فمن أين يليق به الكبر، فمهما تكبر العبد فقد نازع الله تعالى في صفة لا يليق إلا بجلاله، و إلى هذا المعنى الإشارة بقوله تعالى: العظمة إزاري و الكبرياء ردائي فمن نازعني فيهما قصمته، أي أنه خاص صفتي و لا يليق إلا بي، و المنازع فيه منازع في صفة من صفاتي، فإذا كان التكبر على عباده لا يليق إلا به فمن تكبر على عباده فقد جنى عليه إذ الذي استرذل خواص غلمان الملك و يستخدمهم و يترفع عليهم و يستأثر بما حق الملك أن يستأثر به منهم، فهو منازع له في بعض أمره و إن لم يبلغ درجته درجة من أراد الجلوس على سريره و الاستبداد بملكه، كمدعي الربوبية.

و الوجه الثاني: أنه يدعو إلى مخالفة الله تعالى في أوامره لأن المتكبر إذا سمع الحق من عبد من عباد الله استنكف عن قبوله و يشمئز بجحده، و لذلك ترى المناظرين في مسائل الدين يزعمون أنهم يتباحثون عن أسرار الدين ثم إنهم يتجاحدون تجاحد المتكبرين، و مهما اتضح الحق على لسان أحدهم أنف الآخر من قبوله و يتشمر بجحده، و يحتال لدفعه بما يقدر عليه من التلبيس، و ذلك من أخلاق الكافرين و المنافقين إذ وصفهم الله تعالى فقال:" وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَ الْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ" و كذلك يحمل ذلك على الأنفة من قبول الوعظ كما قال تعالى:" وَ إِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ".

و تكبر إبليس من ذلك، فهذه آفة من آفات الكبر عظيمة، و لهذا شرح رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم الكبر بهاتين الآفتين إذ سأله ثابت بن قيس فقال: يا رسول الله إني امرؤ حبب إلى من الجمال ما ترى أ فمن الكبر هو؟ فقال صلى الله عليه و آله و سلم: لا و لكن الكبر

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 188

من بطر الحق و غمص الناس، و في حديث آخر من سفه الحق، و قوله: غمص الناس أي ازدرأهم و استحقرهم و هم عباد الله أمثاله و خير منه، و هذه الآفة الأولى و قوله: سفه الحق هو رده به، و هذه الآفة الثانية.

ثم اعلم أنه لا يتكبر إلا من استعظم نفسه، و لا يستعظمها إلا و هو يعتقد لها صفة من صفات الكمال، و مجامع ذلك يرجع إلى كمال ديني أو دنيوي، و الديني هو العلم و العمل، و الدنيوي هو النسب و الجمال و القوة و المال و كثرة الأنصار، فهذه سبعة.

الأول: العلم و ما أسرع الكبر إلى العلماء و لذلك قال صلى الله عليه و آله و سلم: آفة العلم الخيلاء، فهو يتعزز بعز العلم و يستعظم نفسه، و يستحقر الناس، و ينظر إليهم نظره إلى البهائم، و يتوقع منهم الإكرام و الابتداء بالسلام، و يستخدمهم و لا يعتني بشأنهم، هذا فيما يتعلق بالدنيا و أما في أمر الآخرة فبأن يرى نفسه عند الله أعلى و أفضل منهم، فيخاف عليهم أكثر مما يخافه على نفسه، و يرجو لنفسه أكثر مما يرجو لهم، و هذا بأن يسمى جاهلا أولى من أن يسمى عالما بل العلم الحقيقي هو الذي يعرف الإنسان به نفسه و ربه و خطر الخاتمة، و حجة الله على العلماء، و عظم خطر العلم فيه، و هذه العلوم تزيد خوفا و تواضعا و تخشعا و يقتضي أن يرى أن كل الناس خير منه لعظم حجة الله عليه بالعلم و تقصيره في القيام بشكر نعمة العلم.

فإن قلت: فما بال بعض الناس يزداد بالعلم كبرا و أمنا؟

فاعلم أن له سببين: أحدهما أن يكون اشتغاله بما يسمى علما و ليس بعلم حقيقي و إنما العلم الحقيقي ما يعرف العبد به نفسه و ربه، و خطر أمره في لقاء الله و الحجاب عنه، و هذا يورث الخشية و التواضع دون الكبر و الأمن، قال الله تعالى‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 189

" إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ" فأما وراء ذلك كعلم الطب و الحساب و اللغة و الشعر و النحو و فصل الخصومات و طرق المجادلات، فإذا تجرد الإنسان لها حتى امتلاء بها، امتلاء كبرا و نفاقا و هذه بأن تسمى صناعات أولى من أن تسمى علوما، بل العلم هو معرفة العبودية و الربوبية و طريق العبادة، و هذا يورث التواضع غالبا.

السبب الثاني: أن يخوض العبد في العلم، و هو خبيث الدخلة ردي‏ء النفس سني الأخلاق، فلم يشتغل أولا بتهذيب نفسه و تزكية قلبه بأنواع المجاهدات، و لم يرض نفسه في عبادة ربه فبقي خبيث الجوهر، فإذا خاض في العلم أي علم كان صادف العلم قلبه منزلا خبيثا، فلم يطب ثمره و لم يظهر في الخير أثره، و قد ضرب وهب لهذا مثلا فقال: العلم كالغيث ينزل من السماء حلوا صافيا فتشربه الأشجار بعروقها فتحوله على قدر طعومها، فيزداد المر مرارة و الحلو حلاوة، و كذلك العلم يحفظه الرجال فيحوله على قدر هممهم و أهوائهم فيزيد المتكبر تكبرا، و المتواضع تواضعا و هذا لأن من كانت همته الكبر و هو جاهل فإذا حفظ العلم وجد ما يتكبر به، فازداد كبرا و إذا كان خائفا مع جهله فإذا ازداد علما علم أن الحجة قد تأكدت عليه، فيزداد خوفا و إشفاقا و تواضعا فالعلم من أعظم ما به يتكبر.

الثاني: العمل و العبادة و ليس يخلو عن رذيلة العز و الكبر و استمالة قلوب الناس، الزهاد و العباد، و يترشح الكبر منهم في الدنيا و الدين، أما الدنيا فهو أنهم يرون غيرهم بزيارتهم أولى من أنفسهم بزيارة غيرهم، و يتوقعون قيام الناس بحوائجهم و توقيرهم و التوسيع لهم في المجالس، و ذكرهم بالورع و التقوى، و تقديمهم على سائر الناس في الحظوظ، إلى غير ذلك مما مر في حق العلماء، و كأنهم يرون عبادتهم‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 190

منة على الخلق، و أما في الدين فهو أن يرى الناس هالكين و يرى نفسه ناجيا و هو الهالك تحقيقا مهما رأى ذلك، قال النبي صلى الله عليه و آله و سلم: إذا سمعتم الرجل يقول: هلك الناس فهو أهلكهم، و روي أن رجلا في بني إسرائيل يقال له خليع بني إسرائيل لكثرة فساده، مر برجل آخر يقال له عابد بني إسرائيل، و كان على رأس العابد غمامة تظله لما مر الخليع به، فقال الخليع في نفسه: أنا خليع بني إسرائيل و هذا عابد بني إسرائيل فلو جلست إليه لعل الله يرحمني فجلس إليه، فقال العابد في نفسه:

أنا عابد بني إسرائيل كيف يجلس إلى؟ فأنف منه، و قال له: قم عني، فأوحى الله إلى نبي ذلك الزمان مر هما فليستأنفا العمل فقد غفرت للخليع و أحبطت عمل العابد و في حديث آخر: فتحولت الغمامة إلى رأس الخليع.

و هذه آفة لا ينفك عنها أحد من العباد إلا من عصمه الله، لكن العلماء و العباد في آفة الكبر على ثلاث درجات:

الدرجة الأولى: أن يكون الكبر مستقرا في قلبه يرى نفسه خيرا من غيره إلا أنه يجتهد و يتواضع و يفعل فعل من يرى غيره خيرا من نفسه، و هذا قد رسخت في قلبه شجرة الكبر و لكنه قطع أغصانها بالكلية.

الثانية: أن يظهر ذلك على أفعاله بالترفع في المجالس و التقدم على الأقران و إظهار الإنكار على من يقصر في حقه، و أدنى ذلك في العالم أن يصعر خده للناس كأنه معرض عنهم، و في العابد أن يعبس وجهه و يقطب جبينه كأنه متنزه عن الناس مستقذر لهم أو غضبان عليهم، و ليس يعلم المسكين أن الورع ليس في الجبهة حتى يقطبها، و لا في الوجه حتى يعبس، و لا في الخد حتى يصعر، و لا في الرقبة حتى يطأطئ، و لا في الذيل حتى يضم، إنما الورع في القلوب، قال صلى الله عليه و آله و سلم: التقوى هيهنا، و أشار إلى صدره.

و هؤلاء أخف حالا ممن هو في المرتبة الثالثة، و هو الذي يظهر الكبر على‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 191

لسانه حتى يدعوه إلى الدعوى و المفاخرة و المباهاة و تزكية النفس، أما العابد فإنه يقول في معرض التفاخر لغيره من العباد: من هو؟ و ما عمله؟ و من أين زهده؟ فيطيل اللسان فيهم بالتنقص، ثم يثني على نفسه و يقول إني لم أفطر منذ كذا و كذا، و لا أنام بالليل و فلان ليس كذلك، و قد يزكي نفسه ضمنا فيقول: قصدني فلان فهلك ولده و أخذ ماله أو مرض و ما يجري مجراه، هذا يدعي الكرامة لنفسه، و أما العالم فإنه يتفاخر و يقول: أنا متفنن في العلوم و مطلع على الحقائق، رأيت من الشيوخ فلانا و فلانا و من أنت و ما فضلك؟ و من لقيته؟ و ما الذي سمعت من الحديث؟ كل ذلك ليصغره و يعظم نفسه، فهذا كله أخلاق الكبر و آثاره التي يثمرها التغرز بالعلم و العمل، و أين من يخلو من جميع ذلك أو عن بعضه.

يا ليت شعري من عرف هذه الأخلاق من نفسه و سمع قول رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم:

لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر كيف يستعظم نفسه و يتكبر على غيره و هو بقول رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم من أهل النار، و إنما العظيم من خلا عن هذا، و من خلا عنه لم يكن فيه تعظيم و تكبر.

الثالث: التكبر بالنسب و الحسب، فالذي له نسب شريف يستحقر من ليس له ذلك النسب و إن كان أرفع منه عملا و علما، و ثمرته على اللسان التفاخر به، و ذلك عرق دقيق في النفس لا ينفك عنه نسب و إن كان صالحا أو عاقلا إلا أنه قد لا يترشح منه عند اعتدال الأحوال، فإن غلبه غضب أطفأ ذلك نور بصيرته و ترشح منه.

الرابع: التفاخر بالجمال، و ذلك يجري أكثره بين النساء و يدعو ذلك إلى التنقص و الثلب و الغيبة، و ذكر عيوب الناس.

الخامس: الكبر بالمال و ذلك يجري بين الملوك في الخزائن و بين التجار في بضائعهم و بين الدهاقين في أراضيهم، و بين المتجملين في لباسهم و خيولهم و مراكبهم، فيستحقر الغني الفقير و يتكبر عليه، و من ذلك تكبر قارون.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 192

السادس: الكبر بالقوة و شدة البطش و التكبر به على أهل الضعف.

السابع: التكبر بالأتباع و الأنصار و التلاميذ و الغلمان و العشيرة و الأقارب و البنين و يجري ذلك بين الملوك في المكاثرة في الجنود و بين العلماء بالمكاثرة بالمستفيدين. و بالجملة فكل ما هو نعمة و أمكن أن يعتقد كمالا و إن لم يكن في نفسه كمالا أمكن أن يتكبر به حتى أن المخنث ليتكبر على أقرانه بزيادة قدرته و معرفته في صفة المخنثين لأنه يرى ذلك كمالا فيفتخر به و إن لم يكن فعله إلا نكالا.

و أما بيان البواعث على التكبر فاعلم أن الكبر خلق باطن و أما ما يظهر من الأخلاق و الأعمال فهو ثمرتها و نتيجتها، و ينبغي أن تسمى تكبرا و يخص اسم الكبر بالمعنى الباطن الذي هو استعظام النفس و رؤية قدر لها فوق قدر الغير، و هذا الباطن له موجب واحد و هو العجب، فإنه إذا أعجب بنفسه و بعمله و عمله، أو بشي‏ء من أسبابه استعظم نفسه و تكبر.

و أما الكبر الظاهر فأسبابه ثلاثة: سبب في المتكبر، و سبب في المتكبر عليه و سبب يتعلق بغيرهما، أما السبب الذي في المتكبر فهو العجب، و الذي يتعلق بالمتكبر عليه هو الحقد و الحسد، و الذي يتعلق بغيرهما هو الرياء، فالأسباب بهذا الاعتبار أربعة: العجب و الحقد و الحسد و الرياء، أما العجب فقد ذكرنا أنه يورث الكبر، و الكبر الباطن يثمر التكبر الظاهر في الأعمال و الأقوال و الأفعال، و أما الحقد فإنه قد يحمل على التكبر من غير عجب و يحمله ذلك على رد الحق إذا جاء من جهته، و على الأنفة من قبول نصحه، و على أن يجتهد في التقدم عليه، و إن علم أنه لا يستحق ذلك، و أما الحسد فإنه يوجب البغض للمحسود و إن لم يكن من جهته إيذاء و سبب يقتضي الغضب و الحقد و يدعو الحسد أيضا إلى جحد الحق، حتى يمتنع‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 193

من قبول النصح و تعلم العلم، فكم من جاهل يشتاق إلى العلم و قد بقي في الجهل لاستنكافه أن يستفيد من واحد من أهل بلده و أقاربه حسدا و بغيا عليه.

و أما الرياء فهو أيضا يدعو إلى أخلاق المتكبرين حتى أن الرجل ليناظر من يعلم أنه أفضل منه و ليس بينه و بينه معرفة و لا محاسدة و لا حقد، و لكن يمتنع من قبول الحق منه خيفة من أن يقول الناس أنه أفضل منه، و أما معالجة الكبر و اكتساب التواضع فهو علمي و عملي أما العلمي فهو أن يعرف نفسه و ربه و يكفيه ذلك في إزالته فإنه مهما عرف نفسه حق المعرفة علم أنه أذل من كل ذليل و أقل من كل قليل بذاته، و أنه لا يليق به إلا التواضع و الذلة و المهانة، و إذا عرف ربه علم أنه لا يليق العظمة و الكبرياء إلا بالله، أما معرفة ربه و عظمته و مجده فالقول فيه يطول و هو منتهى علم الصديقين، و أما معرفته نفسه فكذلك أيضا يطول و يكفيه أن يعرف معنى آية واحدة من كتاب الله تعالى، فإن في القرآن علم الأولين و الآخرين لمن فتحت بصيرته و قد قال تعالى:" قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ، مِنْ أَيِّ شَيْ‏ءٍ خَلَقَهُ، مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ، ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ، ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ، ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ" فقد أشارت الآية إلى أول خلق الإنسان و إلى آخر أمره و إلى وسطه، فلينظر الإنسان ذلك ليفهم معنى هذه الآية أما أول الإنسان فهو أنه لم يكن شيئا مذكورا، و قد كان ذلك في كتم العدم دهورا، بل لم يكن لعدمه أول فأي شي‏ء أخس و أقل من المحو و العدم، و قد كان كذلك في القدم، ثم خلقه الله تعالى من أذل الأشياء ثم من أقذرها إذ خلقه من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ثم جعله عظاما ثم كسى العظام لحما فقد كان هذا بداية وجوده حيث صار شيئا مذكورا، فما صار مذكورا إلا و هو على أخس الأوصاف و النعوت إذ لم يخلق في ابتدائه كاملا بل خلقه جمادا ميتا لا يسمع و لا يبصر، و لا يحس و لا يتحرك و لا ينطق و لا يبطش و لا يدرك، و لا يعلم‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 194

فبدا بموته قبل حياته، و بضعفة قبل قوته، و بجهله قبل علمه، و بعماه قبل بصره، و بصممه قبل سمعه، و ببكمه قبل نطقه، و بضلالته قبل هداه، و بفقره قبل غناه، و بعجزه قبل قدرته.

فهذا معنى قوله تعالى:" هَلْ أَتى‏ عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً، إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ" كذلك خلقه أولا ثم أمتن عليه فقال:" ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ" و هذه إشارة إلى ما تيسر له في مدة حياته إلى الموت، و لذلك قال:" مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً، إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ" و معناه أنه أحياه بعد أن كان جمادا ميتا ترابا أولا، و نطفة ثانيا، و أسمعه بعد ما كان فاقد البصر، و قواه بعد الضعف و علمه بعد الجهل، و خلق له الأعضاء بما فيها من العجائب و الآيات بعد الفقد لها، و أغناه بعد الفقر و أشبعه بعد الجوع، و كساه بعد العري، و هداه بعد الضلال، فانظر كيف دبره و صوره و إلى السبيل كيف يسره و إلى طغيان الإنسان ما أكفره، و إلى جهل الإنسان كيف أظهره، فقال تعالى:" أَ وَ لَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ"" وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ".

فانظر إلى نعمة الله عليه كيف نقله من تلك القلة و الذلة و الخسة و القذارة إلى هذه الرفعة و الكرامة، فصار موجودا بعد العدم و حيا بعد الموت، و ناطقا بعد البكم، و بصيرا بعد العمى، و قويا بعد الضعف، و عالما بعد الجهل، و مهتديا بعد الضلالة، و قادرا بعد العجز، و غنيا بعد الفقر، فكان في ذاته لا شي‏ء، و أي شي‏ء

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 195

أخس من لا شي‏ء، و أي قلة أقل من العدم المحض، ثم صار بالله شيئا و إنما خلقه من التراب الذليل، و النطفة القذرة بعد العدم المحض، ليعرف خسة ذاته فيعرف به نفسه، و إنما أكمل النعمة عليه ليعرف بها ربه، و يعلم بها عظمته و جلاله، و أنه لا يليق الكبرياء إلا به، و لذلك امتن عليه فقال تعالى:" أَ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَ لِساناً وَ شَفَتَيْنِ وَ هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ" و عرف خسته أولا فقال:" أَ لَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى‏ ثُمَّ كانَ عَلَقَةً" ثم ذكر مننه فقال:" فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى‏" ليدوم وجوده بالتناسل كما حصل وجوده ابتداء بالاختراع، فمن كان هذا بدؤه و هذه أحواله فمن أين له البطر و الكبرياء و الفخر و الخيلاء، و هو على التحقيق أخس الأخساء و أضعف الضعفاء، نعم لو أكمله و فوض إليه أمره و أدام له الوجود باختياره لجاز أن يطفئ و ينسى المبدأ و المنتهى، و لكنه سلط عليه في دوام وجوده الأمراض الهائلة و الأسقام العظيمة، و الآفات المختلفة، و الطبائع المتضادة من المرة و البلغم، و الريح و الدم، ليهدم البعض من أجزائه البعض، شاء أم أبي، رضي أم سخط، فيجوع كرها و يعطش كرها و يمرض كرها و يموت كرها، لا يملك لنفسه نفعا و لا ضرا و لا خيرا و لا شرا يريد أن يعلم الشي‏ء فيجهله، و يريد أن يذكر الشي‏ء فينساه، و يريد أن ينسى الشي‏ء فيغفل عنه فلا يغفل، و يريد أن ينصرف قلبه إلى ما يهمه فيجول في أودية الوسواس و الأفكار بالاضطرار، فلا يملك قلبه قلبه و لا نفسه نفسه، يشتهي الشي‏ء و ربما يكون هلاكه فيه، و يكره الشي‏ء و تكون حياته فيه، يستلذ الأطعمة فتهلكه و ترديه، و يستبشع الأدوية و هي تنفعه و تحييه، لا يأمن في لحظة من ليله و نهاره أن يسلب سمعه و بصره و علمه و قدرته، و تفلج أعضاؤه، و يختلس عقله، و يختطف روحه، و يسلب‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 196

جميع ما يهواه في دنياه، و هو مضطر ذليل، إن ترك ما بقي و إن اختطف فنى، عبد مملوك لا يقدر على شي‏ء من نفسه، و لا من غيره.

فأي شي‏ء أذل منه لو عرف نفسه، و أنى يليق الكبر به لو لا جهله، فهذا أوسط أحواله فليتأمله.

و أما آخره و مورده فهو الموت المشار إليه بقوله تعالى:" ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ، ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ" و معناه أنه يسلب روحه و سمعه و بصره و علمه و قدرته و حسه و إدراكه و حركته، فيعود جمادا كما كان أول مرة، لا تبقى إلا شكل أعضائه و صورته، لا حس فيه و لا حركة، ثم يوضع في التراب فيصير جيفة منتنة قذرة كما كان في الأول نطفة قذرة ثم تبلى أعضاؤه و صورته و تفتت أجزائه و تنخر عظامه فتصير رميما و رفاتا، و تأكل الدود أجزاءه فيبتدئ بحدقتيه فيقلعهما، و بخديه فيقطعهما، و بسائر أجزائه فتصير روثا في أجواف الديدان، و تكون جيفة تهرب منه الحيوان، و يستقذره كل إنسان، و يهرب منه لشدة الإنتان، و أحسن أحواله أن يعود إلى ما كان فيصير ترابا يعمل منه الكيزان، أو يعمر به البنيان و يصير مفقودا بعد ما كان موجودا، و صار كان لم يغن بالأمس حصيدا كما كان أول مرة أمدا مديدا، و ليته بقي كذلك فما أحسنه لو تركه ترابا لا بل يحييه بعد طول البلى ليقاسى شدائد البلاء، فيخرج من قبره بعد جمع أجزائه المتفرقة، و يخرج إلى أحوال القيامة فينظر إلى قيامة قائمة و سماء ممزقة مشققة و أرض مبدلة و جبال مسيرة، و نجوم منكدرة و شمس منكسفة و أحوال مظلمة و ملائكة غلاظ شداد، و جحيم تزفر، و جنة ينظر إليه المجرم فيتحسر و يرى صحائف منشورة، فيقال له:

اقرأ كتابك، فيقول و ما هو؟ فيقال: كان قد و كل بك في حياتك التي كنت تفرح بها و تتكبر بنعيمها، و تفتخر بأسبابها ملكان رقيبان يكتبان عليك ما تنطق به أو

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 197

تعمله، من قليل و كثير و نقير و قطمير، و أكل و شرب و قيام و قعود، و قد نسيت ذلك و أحصاه الله فهلم إلى الحساب و استعد للجواب أو يساق إلى دار العذاب، فيتقطع قلبه هول هذا الخطاب من قبل أن ينشر الصحف و يشاهد ما فيها من مخازيه، فإذا شاهدها قال:" يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها".

فهذا آخر أمره، و هو معنى قوله عز و جل:" ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ" فما لمن هذه حاله و التكبر، بل ماله و للفرح في لحظة فضلا عن البطر و التجبر فقد ظهر له أول حاله و وسطه، و لو ظهر آخره و العياذ بالله ربما اختار أن يكون كلبا و خنزيرا ليصير مع البهائم ترابا، و لا يكون إنسانا يسمع خطابا، و يلقى عذابا و إن كان عند الله مستحقا للنار، فالخنزير أشرف منه و أطيب و أرفع إذ أوله التراب و آخره التراب، و هو بمعزل عن الحساب و العذاب، و الكلب و الخنزير لا يهرب منه الخلق و لو رأى أهل الدنيا العبد المذنب في النار لصعقوا من وحشة خلقته، و قبح صورته و لو وجدوا ريحه لماتوا من نتنه، و لو وقعت قطرة من شرابه الذي يسقاه في بحار الدنيا لصارت أنتن من الجيف.

فمن هذا حاله في العاقبة إلا أن يعفى عنه و هو على شك من العفو فكيف يتكبر، و كيف يرى نفسه شيئا حتى يعتقد لها فضلا، و أي عبد لم يذنب ذنبا استحق به العقوبة إلا أن يعفو الكريم بفضله، أ رأيت من جنى على بعض الملوك بما استحق به ألف سوط فحبس في السجن و هو منتظر أن يخرج إلى العرض و يقام عليه العقوبة على بلاء من الخلق، و ليس يدري أ يعفى عنه أم لا، كيف يكون ذلة في السجن أ فترى أنه يتكبر على من معه في السجن و ما من عبد مذنب إلا و الدنيا

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 198

سجنه، و قد استحق العقوبة من الله تعالى، و لا يدري كيف يكون أمره فيكفيه ذلك حزنا و خوفا و إشفاقا و مهانة و ذلا فهذا هو العلاج العلمي القاطع لأصل الكبر.

و أما العلاج العملي فهو التواضع بالفعل لله تعالى و لسائر الخلق بالمواظبة على أخلاق المتواضعين، و ما وصل إليه من أحوال الصالحين، و من أحوال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم حتى أنه كان يأكل على الأرض و يقول إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد، و قيل لسلمان: لم لا تلبس ثوبا جيدا؟ فقال: إنما أنا عبد فإذا أعتقت يوما لبست، أشار به إلى العتق في الآخرة و لا يتم التواضع بعد المعرفة إلا بالعمل، فمن عرف نفسه فلينظر كل ما يتقاضاه الكبر من الأفعال، فليواظب على نقيضها حتى يصير التواضع له خلقا، و قد ورد في الأخبار الكثيرة علاج الكبر بالأعمال و بيان أخلاق المتواضعين.

قيل: اعلم أن التكبر يظهر في شمائل الرجل كصعر في وجهه و نظره شزرا و إطراقه رأسه، و جلوسه متربعا و متكئا، و في أقواله حتى في صوته و نغمته و صفته في الإيراد و يظهر في مشيته و تبختره و قيامه و جلوسه و في حركاته و سكناته، و في تعاطيه و لأفعاله و سائر تقلباته في أحواله و أعماله، فمن المتكبرين من يجمع ذلك كله، و منهم من يتكبر في بعض.

فمنها: التكبر بأن يحب قيام الناس له أو بين يديه، و قد قال علي صلوات الله عليه: من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إلى رجل قاعد و بين يديه قوم قيام، و قال أنس: لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم و كانوا إذا رأوه لا يقومون له لما يعلمون من كراهته لذلك.

و منها: أن لا يمشي إلا و معه غيره يمشي خلفه، قال أبو الدرداء: لا يزال‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 199

العبد يزداد من الله بعدا ما مشى خلفه، و كان رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم في بعض الأوقات يمشي مع الأصحاب فيأمرهم بالتقدم و يمشي في غمارهم.

و منها: أن لا يزور غيره و إن كان يحصل من زيارته خير لغيره في الدين، و هو ضد التواضع.

و منها: أن يستنكف من جلوس غيره بالقرب منه إلا أن يجلس بين يديه، و التواضع خلافه، قال أنس: كانت الوليدة من ولائد المدينة تأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم و لا ينزع يده منها حتى تذهب به حيث شاءت.

و منها: أن يتوقى مجالسته المرضى و المعلولين و يتحاشى عنهم و هو كبر، دخل رجل على رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم و عليه جدري قد يقشر و عنده أصحابه يأكلون فما جلس عند أحد إلا قام من جنبه فأجلسه النبي صلى الله عليه و آله و سلم بجنبه.

و منها: أن لا يتعاطى بيده شغلا في بيته، و التواضع خلافه.

و منها: أن لا يأخذ متاعا و يحمله إلى بيته، و هذا خلاف عادة المتواضعين، كان رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم يفعل ذلك، و قال علي عليه السلام: لا ينقص الرجل من كماله ما حمل من شي‏ء إلى عياله، و قال بعضهم: رأيت عليا اشترى لحما بدراهم فحمله في ملحفته، فقال: أحمل عنك يا أمير المؤمنين! قال: لا أبو العيال أحق أن يحمل.

و منها: اللباس إذ يظهر به التكبر و التواضع، و قد قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم:

البذاذة من الإيمان، قيل: هي الدون من الثياب، و عوتب علي عليه السلام في إزار مرقوع فقال: يقتدي به المؤمن و يخشع له القلب، و قال عيسى عليه السلام: جودة الثياب خيلاء القلب، و قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: من ترك زينة لله و وضع ثيابا حسنة تواضعا لله و ابتغاء وجهه كان حقا على الله أن يدخر له عبقري الجنة.

فإن قلت: فقد قال عيسى عليه السلام: جودة الثياب خيلاء القلب، و قد سئل نبينا

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 200

صلى الله عليه و آله و سلم عن الجمال في الثياب هل هو من الكبر؟ فقال: لا و لكن الكبر من سفه الحق و غمص الناس، فكيف طريق الجمع بينهما؟

فاعلم أن الثوب الجيد ليس من ضرورته أن يكون من التكبر في حق كل أحد في كل حال، و هو الذي أشار إليه رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم، و هو الذي عرفه رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم من حال ثابت بن قيس إذ قال إني امرؤ حبب إلى الجمال ما ترى؟ فعرفه أن ميلة إلى النظافة و جودة الثياب لا ليتكبر على غيره، فإنه ليس من ضرورته أن يكون من الكبر، و قد يكون ذلك من الكبر كما أن الرضا بالثوب الدون قد يكون من التواضع، فإذا انقسمت الأحوال نزل قول عيسى عليه السلام على بعض الأحوال، على أن قوله: خيلاء القلب يعني قد يورث خيلاء في القلب، و قول نبينا صلى الله عليه و آله و سلم أنه ليس من الكبر يعني أن الكبر لا يوجبه و يجوز أن لا يوجبه الكبر، ثم يكون هو مورثا للكبر.

و بالجملة فالأحوال تختلف في مثل هذا، و المحمود الوسط من اللباس الذي لا يوجب شهرة بالجودة و لا بالرذالة، و قد قال صلى الله عليه و آله و سلم: كلوا و اشربوا و ألبسوا و تصدقوا في غير سرف و لا مخيلة، إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده، و قال بكر بن عبد الله المزني: ألبسوا ثياب الملوك و أميتوا قلوبكم بالخشية، و إنما خاطب بهذا قوما يطلبون التكبر بثياب أهل الصلاح، و قال عيسى عليه السلام: ما لكم تأتوني و عليكم ثياب الرهبان، و قلوبكم قلوب الذئاب الضواري، ألبسوا ثياب الملوك و ألينوا قلوبكم بالخشية.

و منها: أن يتواضع بالاحتمال إذا سب و أوذي و أخذ حقه فذلك هو الأفضل.

و بالجملة فمجامع حسن الأخلاق و التواضع سيرة رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم ينبغي أن يقتدى، و منه ينبغي أن يتعلم، و قد قال ابن أبي سلمة قلت لأبي سعيد الخدري‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 201

ما ترى فيما أحدث الناس من الملبس و المشرب و المركب و المطعم؟ فقال: يا ابن أخي كل لله و أشرب لله، و كل شي‏ء من ذلك دخله زهوا و مباهاة أو رياء و سمعة فهو معصية و سرف، و عالج في بيتك من الخدمة ما كان رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم يعالج في بيته، كان يعلف الناضح و يعقل البعير و يقم البيت و يحلب الشاة، و يخصف النعل و يرقع الثوب و يأكل مع خادمه و يطحن عنه إذا أعيى، و يشتري الشي‏ء من السوق و لا يمنعه الحياء أن يعلقه بيده أو يجعله في طرف ثوبه، فينقلب إلى أهله، يصافح الغني و الفقير و الصغير و الكبير، و يسلم مبتدئا على كل من استقبله من صغير أو كبير، أسود أو أحمر حر أو عبد من أهل الصلاة، ليست له حلة لمدخله و حلة لمخرجه، لا يستحيي من أن يجيب إذا دعي، و إن كان أشعث أغبر، و لا يحقر ما دعي إليه و إن لم يجد إلا حشف الدقل لا يرفع غداءا لعشاء، و لا عشاء لغداء، هين المؤنة، لين الخلق، كريم الطبيعة، جميل المعاشرة، طلق الوجه، بساما من غير ضحك، محزونا من غير عبوس، شديدا في غير عنف، متواضعا من غير مذلة، جوادا من غير سرف، رحيما بكل ذي قربى، قريبا من كل ذمي و مسلم، رقيق القلب، دائم الإطراق لم يبشم قط من شبع و لا يمد يده إلى طمع.

قال أبو سلمة: فدخلت على عائشة فحدثتها كل هذا عن أبي سعيد فقالت:

ما أخطأ فيه حرفا، و لقد قصر إذ ما أخبرك أن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم لم يمتلئ قط شبعا، و لم يبث إلى أحد شكوى، و أن كانت الفاقة أحب إليه من اليسار و الغني،

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 202

و أن كان ليظل جائعا ليتلوى ليلته حتى يصبح، فما يمنعه ذلك عن صيام يومه، و لو شاء أن يسأل ربه فيؤتى كنوز الأرض و ثمارها و رغد عيشها من مشارقها و مغاربها لفعل، و ربما بكيت رحمة له مما أوتي من الجوع فأمسح بطنه بيدي فأقول: نفسي لك الفداء لو تبلغت من الدنيا بقدر ما يقوتك، و يمنعك من الجوع؟ فيقول: يا عائشة إخواني من أولي العزم من الرسل قد صبروا على ما هو أشد من هذا فمضوا على حالهم فقدموا على ربهم فأكرم ما بهم و أجزل ثوابهم، فأجدني أستحيي أن ترفهت في معيشتي أن يقصرني دونهم، فاصبر أياما يسيرة أحب إلى من أن ينقص حظي غدا في الآخرة، و ما من شي‏ء أحب إلى من اللحوق بإخواني و أخلائي، فقالت عائشة: فو الله ما استكمل بعد ذلك جمعة حتى قبضه الله تعالى.

فما نقل من أخلاقه صلى الله عليه و آله و سلم يجمع جملة أخلاق المتواضعين، فمن طلب التواضع فليقتد به، و من رأى نفسه فوق محله صلى الله عليه و آله و سلم و لم يرض لنفسه بما رضي هو به فما أشد جهله، فلقد كان رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم أعظم خلق الله تعالى منصبا في الدنيا و الدين، فلا عزة و لا رفعة إلا في الاقتداء به، و لذلك لما عوتب بعض الصحابة في بذاذة هيئته قال: إنا قوم أعزنا الله تعالى بالإسلام فلا نطلب العز في غيره.

 (الحديث الثاني)

 (1): حسن كالصحيح.

قوله عليه السلام: قد يكون،

 (2) أقول: يحتمل أن يكون قد للتحقيق و إن كان في المضارع قليلا كما قيل في قوله تعالى:" قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ" قال الزمخشري:

دخل قد لتوكيد العلم، و يرجع ذلك إلى توكيد الوعيد، و قيل: هو للتقليل باعتبار قيد من كل جنس،

و قوله: من كل جنس،

 (3) أي من كل صنف من أصناف الناس و

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 203

إن كان دنيا أو من كل جنس من أجناس سبب التكبر من الأسباب التي أشرنا إليها سابقا و الأول أظهر كما يومئ إليه قصة السوداء

" و الكبر رداء الله"

 (1) قال في النهاية في الحديث قال الله تبارك و تعالى: العظمة إزاري و الكبرياء ردائي، ضرب الإزار و الرداء مثلا في انفراده بصفة العظمة و الكبرياء، أي ليستا كسائر الصفات التي قد يتصف بها الخلق مجازا كالرحمة و الكرم و غيرهما، و شبههما بالإزار و الرداء لأن المتصف بهما يشملانه كما يشمل الرداء الإنسان، و لأنه لا يشاركه في إزاره و ردائه أحد، فكذلك الله لا ينبغي أن يشركه فيهما أحد، و مثله الحديث الآخر تأزر بالعظمة و تردى بالكبرياء و تسربل بالعز، انتهى.

قال بعض شراح صحيح مسلم: الإزار الثوب الذي يشد على الوسط، و الرداء الذي يمد على الكتفين، و قال محيي الدين: و هما لباس، و اللباس من خواص الأجسام، و هو سبحانه ليس بجسم، فهما استعارة للصفة التي هي العزة و العظمة، و وجه الاستعارة أن هذين الثوبين لما كانا مختصين بالناس و لا يستغني عنهما و لا يقبلان الشركة و هما جمال عبر عن العز بالرداء، و عن الكبر بالإزار، على وجه الاستعارة المعروفة عند العرب، كما يقال: فلان شعاره الزهد، و دثاره التقوى لا يريدون الثوب الذي هو شعار و دثار، بل صفة الزهد، كما يقولون: فلان غمر الرداء واسع العطية، فاستعاروا لفظ الرداء للعطية، انتهى.

" لم يزده الله إلا سفالا"

 (2) أي في أعين الخلق مطلقا غالبا على خلاف مقصوده كما سيأتي، و في أعين العارفين و الصالحين أو في القيامة كما سيأتي أنهم يجعلون في صور الذر

" تلقط"

 (3) كننصر أو على بناء التفعل بحذف إحدى التائين، في القاموس:

لقطه أخذه من الأرض كالتقطه و تلقطه، التقطه من هيهنا و هيهنا و قال: السرجين‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 204

و السرقين‏

 (1) بكسرهما الزبل معربا سرگين بالفتح" فقيل لها:

تنحى‏

 (2)" بالتاء و النون و الحاء المشددة كلها مفتوحة و الياء الساكنة، أمر الحاضرة من باب التفعل، أي ابعدي‏

" لمعرض"

 (3) على بناء المفعول من الأفعال أو التفعيل، و قد يقرأ على بناء الفاعل من الأفعال فعلى الأولين من قولهم أعرضت الشي‏ء و عرضته أي جعلته عريضا، و على الثالث من قولهم عرضت الشي‏ء أي أظهرته، فأعرض أي ظهر، و هو من النوادر.

" فهم بها"

 (4) أي قصدها

" أن يتناولها"

 (5) أي يأخذها فينحيها قسرا عن طريقه صلى الله عليه و آله و سلم أو يشتمها من قولهم: نال من عرضه أي شتمه، و الأول أظهر

" فإنها جبارة"

 (6) أي متكبرة، و ذلك خلقها لا يمكنها تركه، أو إذا قهرتموها يظهر منها أكثر من ذلك من البذاء و الفحش، قال في النهاية فيه: أنه أمر امرأة فتأبت فقال: دعوها فإنها جبارة، أي متكبرة عاتية، و قال الراغب: أصل الجبر إصلاح الشي‏ء بضرب من القهر و تجبر، يقال إما لتصور معنى الاجتهاد، أو للمبالغة أو لمعنى التكلف، و الجبار في صفة الإنسان يقال: لمن يجبر نقيصته بادعاء منزلة من التعالي لا يستحقها، و هذا لا يقال إلا على طريق الذم كقوله تعالى:" وَ خابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ"" وَ لَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا"" إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ"" كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى‏ كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ" أي متعال عن قبول الحق و الإذعان له، و أما في وصفه تعالى" نحو الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ" فقد قيل: سمي بذلك من قولهم‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 205

جبرت الفقير لأنه هو الذي يجبر الناس بفائض نعمه، و قيل: لأنه يجبر الناس أي يقهرهم على ما يريده، و دفع بعض أهل اللغة ذلك من حيث اللفظ فقال: لا يقال من أفعلت فعال، فجبار لا يبني من أجبرت، فأجيب عنه بأن ذلك من لفظ الجبر المروي في قوله لا جبر و لا تفويض لا من الإجبار، و أنكر جماعة من المعتزلة ذلك من حيث المعنى، فقالوا: تعالى الله عن ذلك و ليس ذلك بمنكر، فإن الله تعالى قد أجبر الناس على أشياء لا انفكاك لهم منها حسب ما تقتضيه الحكمة الإلهية، لا على ما يتوهمه الغواة الجهلة، و ذلك لإكراههم على المرض و الموت و البعث و سخر كلا منهم بصناعة يتعاطاها، و طريقة من الأخلاق و الأعمال يتحراها، و جعله مجبرا في صورة مخير فإما راض بصنعته لا يريد عنها حولا، و إما كاره لها يكابدها مع كراهته لها، كأنه لا يجد عنها بدلا، و لذلك قال:" فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ" و قال تعالى:" نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا" و على هذا الحد وصف بالقاهر، و هو لا يقهر إلا على ما تقتضي الحكمة أن يقهر عليه.

 (الحديث الثالث)

 (1): موثق.

و قيل في علة تشبيه‏

العز بالرداء و الكبر بالإزار

 (2) أن العزة أمر إضافي كما قيل هي الامتناع من أن ينال، و قيل: هي الصفة التي تقتضي عدم وجود مثل الموصوف بها، و قيل: هي الغلبة على الغير و الأمر الإضافي أمر ظاهر، و الرداء من الأثواب‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 206

الظاهرة فبينهما مناسبة من جهة الظهور، و الكبر بمعنى العظمة و هي صفة حقيقية إذ العظيم قد يتعاظم في نفسه من غير ملاحظة الغير، فهي أخفى من العزة، و الإزار ثوب خفي لأنه يستر غالبا بغيره فبينهما مناسبة من هذه الجهة.

أقول: و يحتمل أن يراد بالعز إظهار العظمة و بالكبر نفسها، أو بالعز ما يصل إليه عقول الخلق من كبريائه و بالكبر ما عجز الخلق عن إدراكه، أو بالعز ما كان بسبب صفاته العلية و بالكبر ما كان بحسب ذاته المقدسة، و المناسبة على كل من الوجوه ظاهرة

" فمن تناول"

 (1) أي تصرف و أخذ

" شيئا منه"

 (2) الضمير راجع إلى كل من العز و الكبر، و الغالب في‏

أكب‏

 (3) مطاوع كب يقال كبه فأكب، و قد يستعمل الكب أيضا متعديا، في القاموس: كبه قلبه و صرعه كأكبه و كبكبه فأكب، و هو لازم متعد، و في المصباح: كببت زيدا كبا ألقيته على وجهه فأكب هو، و هو من النوادر التي تعدى ثلاثيها، و قصر رباعيها، و في التنزيل:

" فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ"" أَ فَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى‏ وَجْهِهِ".

 (الحديث الرابع)

 (4): مجهول و الظاهر أنه من معمر بن عمر عن عطاء كما يظهر من كتب الرجال.

و قال بعض المحققين: الإنسان مركب من جوهرين أحدهما أعظم من الآخر، و هو الروح التي من أمر الرب، و بينها و بين الرب قرب تام، لو لا عنان العبودية لقال كل أحد أنا ربكم الأعلى، فكل أحد يحب الربوبية و لكن يدفعها عن نفسه بالإقرار بالعبودية، و يطلب باعتبار الجوهر الآخر المركوز فيه القوة الشهوية و الغضبية آثار الربوبية و خواصها، و هي أن يكون فوق كل شي‏ء و أعلى رتبة منه و يغفل عن أن هذا في الحقيقة دعوى الربوبية، و كذلك كل صفة من الصفات‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 207

الرذيلة تتولد من ادعاء آثار الربوبية، كالغضب و الحسد و الحقد و الرياء و العجب فإن الغضب من جهة الاستيلاء اللازم للربوبية، و الحسد من جهة أنه يكره أن يكون أحد أفضل منه في الدين و الدنيا، و هو أيضا من لوازمها، و الحقد يتولد من احتقان الغضب في الباطن، و الرياء من جهة أنه يريد ثناء الخلق، و العجب من جهة أنه يرى ذاته كاملة، و كل ذلك من آثار الربوبية. و قس عليه سائر الرذائل، فإنك إن فتشتها وجدتها مبنية على ادعاء الربوبية و الترفع.

 (الحديث الخامس)

 (1): ضعيف.

" شيئا من ذلك"

 (2) أي في شي‏ء من الكبر.

 (الحديث السادس)

 (3): مجهول.

و في النهاية:

الذر

 (4): النمل الأحمر الصغير واحدتها ذرة، و سئل تغلب عنها فقال: إن مائة نملة وزن حبة، و الذرة واحدة منها، و قيل: الذرة ليس لها وزن و يراد بها ما يرى في شعاع الشمس الداخل في النافذة، و قال: فيه: لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر، يعني كبر الكفر و الشرك، كقوله تعالى:

" إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ" أ لا ترى أنه قابله في‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 208

نقيضه بالإيمان، فقال: و لا يدخل النار من في قلبه مثل ذلك من الإيمان، أراد دخول تأبيد، و قيل: أراد إذا دخل الجنة نزع ما في قلبه من الكبر، كقوله:" وَ نَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ" انتهى.

و أقول: التأويل الأول حسن و موافق لما في الخبر الآتي، و أما الثاني فلا يخفى بعده، لأن المقصود ذم التكبر و تحذيره لا تبشيره برفع الإثم عنه، و لذا حمله بعضهم على المستحل أو عدم الدخول ابتداء بل بعد المجازاة و ما في الخبر أصوب.

 (الحديث السابع)

 (1): صحيح.

" فاسترجعت"

 (2) يقال: أرجع و رجع و استرجع في المصيبة قال: إنا لله و إنا إليه راجعون، كما في القاموس، و إنما قال ذلك لأنه استشعر بالهلاك و استحقاق دخول النار بحمل الكلام على ظاهره، لأنه كان متصفا ببعض الكبر

" إنما هو الجحود"

 (3) أي المراد بالكبر إنكار الله سبحانه أو إنكار أنبيائه أو حججه عليهم السلام، و الاستكبار عن إطاعتهم و قبول أوامرهم و نواهيهم مثل تكبر إبليس لعنه الله فإنه لما كان مقرونا بالجحود و الإباء عن طاعة الله تعالى و الاستصغار لأمره، كما دل عليه قوله:" لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ" و قوله" أَ أَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً" كان سببا لكفره، و الكفر يوجب الحرمان من الجنة أبدا، و هذا أحد التأويلات للروايات الدالة على أن صاحب الكبر لا يدخل الجنة كما عرفت. و كان المقصود أن هذا الوعيد مختص بكبر الجحود لا أن غيره لا يتعلق به الوعيد مطلقا و التكرير للتأكيد.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 209

 (الحديث الثامن)

 (1): مجهول كالحسن.

" أن تغمص الناس"

 (2) أي تحقرهم، و المراد إما مطلق الناس أو الحجج أو الأئمة عليهم السلام كما ورد في الأخبار أنهم الناس، كما قال تعالى:" ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ" في القاموس: غمصه كضرب و سمع احتقره كاغتمصه و عابه، و تهاون بحقه و النعمة لم يشكرها، و قال:

سفه‏

 (3) نفسه و رأيه مثلثة حمله على السفه أو نسبه إليه أو أهلكه، و سفه كفرح و كرم علينا جهل، و سفهه تسفيها جعله سفيها كسفهه كعلمه أو نسبه إليه، و سفه صاحبه كنصر غلبه في المسافهة، و في النهاية: فيه إنما ذلك من سفه الحق و غمص الناس، أي احتقرهم و لم يرهم شيئا، تقول: منه غمص الناس يغمصهم غمصا، و قال فيه: إنما البغي من سفه الحق أي من جهله، و قيل: جهل نفسه و لم يفكر فيها، و رواه الزمخشري من سفه الحق على أنه اسم مضاف إلى الحق، و قال و فيه وجهان: أحدهما أن يكون على حذف الجار و إيصال الفعل كان الأصل سفه على الحق، و الثاني: أن يضمن معنى فعل متعد كجهل، و المعنى الاستخفاف بالحق و أن لا يراه على ما هو عليه من الرجحان و الرزانة، و قال أيضا فيه: و لكن الكبر من بطر الحق أي ذو الكبر، أو كبر من بطر كقوله تعالى:" وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى‏" و هو أن يجعل ما جعله حقا من توحيده و عبادته باطلا، و قيل: هو أن يتجبر عند الحق فلا يراه حقا، و قيل: هو أن يتكبر عن الحق فلا يقبله.

 (الحديث التاسع)

 (4): كالسابق سندا و مضمونا.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 210

" قال: يجهل الحق"

 (1) النشر على خلاف ترتيب اللف، و كان المراد بالخلق هنا أيضا أهل الحق و أئمة الدين كالناس في الخبر السابق، و الجملتان متلازمتان فإن جهل الحق أي عدم الإذعان به و إنكاره تكبرا يستلزم الطعن على أهله و تحقيرهم و هما لازمتان للجحود، فالتفاسير كلها ترجع إلى واحد.

" فمن فعل ذلك فقد نازع الله"

 (2) قيل: فإن قلت: الغمص و السفه بالتفسير المذكور ليسا من صفات الله تعالى و ردائه، فكيف نازعه في ذلك؟ قلت: الغمص و السفه أثر من آثار الكبر، ففاعل ذلك ينازع الله من حيث الملزوم، على أنه لا يبعد أن يراد بهما الملزوم مجازا و هو الكبر البالغ إلى هذه المرتبة.

و أقول: يحتمل أن يكون المنازعة من حيث أنه إذا لم يقبل إمامة أئمة الحق و نصب غيرهم لذلك، فقد نازع الله في نصب الإمام و بيان الحق و هما مختصان به، كما أطلق لفظ المشرك في كثير من الأخبار على من فعل ذلك.

 (الحديث العاشر)

 (3): حسن موثق كالصحيح.

و في القاموس‏

الوادي‏

 (4) مفرج بين جبال أو تلال أو آكام، و أقول: ذلك إشارة إلى قوله تعالى:" تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ" و قال بعد ذكر المشركين:" فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ" و قال سبحانه بعد ذكر الكفار و دخولهم النار:" فَبِئْسَ‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 211

مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ" في موضعين، و إلى قوله عز و جل:" ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ" إلى قوله" كُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ" و إلى قوله بعد ذكر المكذبين بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم و بالقرآن" سَأُصْلِيهِ سَقَرَ، وَ ما أَدْراكَ ما سَقَرُ، لا تُبْقِي وَ لا تَذَرُ، لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ" و قال في النهاية:

سقر

 (1) اسم أعجمي لنار الآخرة، و لا ينصرف للعجمة و التعريف، و قيل: هو من قولهم سقرته الشمس إذابته، فلا ينصرف للتأنيث و التعريف.

و أقول: يظهر من الآيات أن المراد بالمتكبرين في الخبر من تكبر على الله و لم يؤمن به و بأنبيائه و حججه عليهم السلام، و الشكاية و السؤال إما بلسان الحال أو المقال منه بإيجاد الله الروح فيه، أو من الملائكة الموكلين به، و الإسناد على المجاز و كان المراد بتنفسه خروج لهب منه، و بإحراق جهنم تسخينها أشد مما كان لها أو إعدامها أو جعلها رمادا فأعادها الله تعالى كما كانت.

 (الحديث الحادي عشر)

 (2): ضعيف على المشهور أو مجهول لجهالة إخوة زيد كلهم، و يدل على أنه يمكن أن يخلق الإنسان يوم القيامة أصغر مما كان مع بقاء الأجزاء الأصلية أو بعضها فيه، ثم يضاف إليه سائر الأجزاء فيكبر، إذ يبعد التكاثف إلى هذا الحد، و يمكن أن يكون المراد أنهم يخلقون كبارا بهذه الصورة فإنها أحقر الصور في الدنيا معاملة معهم بنقيض مقصودهم، أو يكون المراد بالصورة الصفة أي يطأهم الناس كما يطأون الذر في الدنيا، و في بعض أخبار العامة يحشر المتكبرون أمثال الذر في صورة الرجال، و قال بعض شراحهم: أي يحشرهم أذلاء يطأهم الناس‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 212

بأرجلهم بدليل أن الأجساد تعاد على ما كانت عليه من الأجزاء عن لا يعاد منهم ما انفصل عنهم من الغلفة و قرينة المجاز قوله: في صورة الرجال، و قال بعضهم: يعني أن صورهم صور الإنسان و جثتهم كجثة الذر في الصغر و هذا أنسب بالسياق لأنهم شبهوا بالذر، و وجه الشبه إما صغر الجثة أو الحقارة، و قوله: في صور الرجال بيان للوجه، و حديث: الأجساد تعاد على ما كانت عليه لا ينافيه، لأنه قادر على إعادة تلك الأجزاء الأصلية في مثل الذر.

 (الحديث الثاني عشر)

 (1): مرسل كالحسن.

" فقال: ما تسفه الحق"

 (2) أي ما معنى هذه الجملة؟ و يمكن أن يقرأ بصيغة المصدر من باب التفعل و كأنه سأل عن الجملتين معا و اكتفى بذكر إحداهما، أي إلى آخر الكلام بقرينة الجواب، أو كان غرضه السؤال عن الأولى فذكر عليه السلام الثانية أيضا لتلازمهما أو لعلمه بعدم فهم الثانية أيضا.

 (الحديث الثالث عشر)

 (3): مجهول.

و في النهاية

دابة فارهة

 (4) أي نشيطة حادة قوية، انتهى.

و كان السائل إنما سأل عن هذه الأشياء لأنها سيرة المتكبرين لتفرعها على الكبر، أو كون الكبر سبب ارتكابها غالبا فأجاب عليه السلام ببيان معنى التكبر

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 213

ليعلم أنها إن كانت مستلزمة للتكبر فلا بد من تركها و إلا فلا، كيف و سيأتي أن الله جميل يحب الجمال، و إطراقه و سكوته عليه السلام للإشعار بأنها في محل الخطر و مستلزمة للتكبر ببعض معانيه، و

التجبر

 (1) التكبر، و

الجبار

 (2) العاتي.

 (الحديث الرابع عشر)

 (3): مجهول‏

بمحمد بن جعفر

 (4)، و في بعض النسخ مكانه محمد بن يحيى فالخبر صحيح، و الأول أظهر لكثرة رواية محمد بن جعفر عن محمد بن عبد الحميد.

" لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ"

 (5) إشارة إلى قوله تعالى:" إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَ أَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَ لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَ لا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ لا يُزَكِّيهِمْ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ" و المعنى لا يكلمهم كلام رضي بل كلام سخط، مثل" اخْسَؤُا فِيها وَ لا تُكَلِّمُونِ" و قيل: لا يكلمهم بلا واسطة بل الملائكة يتعرضون لحسابهم و عتابهم و قيل: هو كناية عن الإعراض و الغضب، فإن من غضب على أحد قطع كلامه، و قيل: أي لا ينتفعون بكلمات الله و آياته، و معنى‏

لا ينظر إليهم‏

 (6) أنه لا ينظر إليهم نظر الكرامة و العطف و البر و الرحمة و الإحسان لضعتهم و حقارتهم عنده، أو كناية عن شدة الغضب لأن من اشتد غضبه على أحد استهان به و أعرض عنه و عن التكلم معه و الالتفات نحوه، كما أن من اعتد بغيره يقاوله و

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 214

يكثر النظر إليه، و قيل: في‏

قوله يوم القيامة

 (1)، إشعار بأن المعاصي المذكورة بل غيرها أيضا لا تمنع من إيصال الخير و النعمة إليهم في الدنيا، لأن إفضاله فيها يعم الأبرار و الفجار تأكيدا للحجة عليهم.

" وَ لا يُزَكِّيهِمْ"

 (2) أي لا يطهرهم من ذنوبهم، أو لا يقبل عملهم، أو لا يثني عليهم، و تخصيص الثلاثة بالذكر ليس لأجل أن غيرهم معذور بل لأن عقوبتهم أعظم و أشد، لأن المعصية مع وجود الصارف عنها و عدم الداعي القوي عليها أقبح و أشنع، و ذلك في‏

الشيخ‏

 (3) لانكسار قوته و انطفاء شهوته و طول إعذاره و مدته و قرب الانتقال إلى الله، فهو حري بأن يتدارك ما فات و يستعد لما هو آت، فإذا ارتكب الزنا أشعر ذلك بأنه غير مقر بالدين و مستخف بنهي رب العالمين، فلذا استحق العذاب المهين.

و فيه إشعار بأن الشيخ في أكثر المعاصي بل جميعها أشد عقوبة من الشاب، و على أن الشاب بالعفة أمدح من الشيخ، و الصارف‏

للملك عن كونه جبارا

 (4) مشاهدة كمال نعمه تعالى عليه حيث سلطه على عباده و بلاده، و جعلهم تحت يده و قدرته فاقتضى ذلك أن يشكر منعمه و يعدل بين خلق الله و يرتدع عن الظلم و الفساد، و يشاهد ضعفه بين يدي الملك المنان، فإذا قابل كل ذلك بالكفران استحق عذاب النيران، و الصارف‏

للمقل‏

 (5) الفقير عن الاختيال و الاستكبار، فقره لأن الاختيال إنما هو بالدنيا و ليست عنده، فاختياله عناد، و من عاند ربه العظيم صار محروما من رحمته و له عذاب أليم.

و أقول: يحتمل أن لا يكون تخصيص الملك لكون الصارف فيه أكثر، بل لكونه أقوى على الظلم و أقدر، و في الصحاح أقل افتقر، و قال الراغب: الخيلاء

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 215

التكبر عن تخيل فضيلة تراءت للإنسان من نفسه، و منها يتأول لفظ الخيل لما قيل أنه لا يركب أحد فرسا إلا وجد في نفسه نخوة، و في النهاية: فيه من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه، الخيلاء بالضم و الكسر الكبر و العجب، يقال: اختال فهو مختال، و فيه خيلاء و مخيلة أي كبر.

 (الحديث الخامس عشر)

 (1): مرسل.

و الملك‏

 (2) بضم الميم و سكون اللام السلطنة، و بفتح الميم و كسر اللام السلطان، و بكسر الميم و سكون اللام ما يملك، و إضافة العز إليه لامية، و

النزول‏

 (3) إما عن الدابة أو عن السرير و كلاهما مرويان، و ينبغي حمله على أن ما دخله لم يكن تكبرا و تحقيرا لوالده، لكون الأنبياء منزهين عن أمثال ذلك، بل راعى فيه المصلحة لحفظ عزته عند عامة الناس لتمكنه من سياسة الخلق و ترويج الدين، إذ كان نزول الملك عندهم لغيره موجبا لذلة، و كان رعاية الأدب للأب مع نبوته و مقاساة الشدائد لحبه أهم و أولى من رعاية تلك المصلحة، فكان هذا منه عليه السلام تركا للأولى، فلذا عوتب عليه و خرج نور النبوة من صلبه لأنهم لرفعة شأنهم و علو درجتهم يعاتبون بأدنى شي‏ء فهذا كان شبيها بالتكبر و لم يكن تكبرا

" فصار في جو السماء"

 (4) أي استقر هناك أو ارتفع إلى السماء.

 (الحديث السادس عشر)

 (5): حسن كالصحيح.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 216

و قال الجوهري:

حكمة

 (1) اللجام ما أحاط بالحنك و قال في النهاية: يقال:

أحكمت فلانا أي منعته و منه سمي الحاكم لأنه يمنع الظالم و قيل: هو من حكمت الفرس و أحكمته إذا قدعته و كففته، و منه الحديث: ما من آدمي إلا و في رأسه حكمة، و في رواية في رأس كل عبد حكمه إذا هم بسيئة فإن شاء الله أن يقدعه بها قدعه، الحكمة: حديدة في اللجام تكون على أنف الفرس، و حنكه تمنعه عن مخالفة راكبه، و لما كانت الحكمة تأخذهم الدابة، و كان الحنك متصلا بالرأس جعلها تمنع من هي في رأسه كما تمنع الحكمة الدابة، و منه الحديث: إن العبد إذا تواضع رفع الله حكمته أي قدره و منزلته، يقال: له عندنا حكمه أي قدر، و فلان عالي الحكمة، و قيل: الحكمة من الإنسان أسفل وجهه، مستعار من موضع حكمة اللجام، و رفعها كناية عن الإعزاز لأن في صفة الذليل تنكيس رأسه، انتهى.

و قيل: المراد بالحكمة هنا الحالة المقتضية لسلوك سبيل الهداية على سبيل الاستعارة، و

بإمساك الملك‏

 (2) إياها إرشاده إلى ذلك السبيل و نهيه عن العدول عنه‏

" اتضع"

 (3) أمر تكويني أو شرعي‏

" وضعك الله"

 (4) دعاء عليه و دعاء الملك مستجاب، أو إخبار بأن الله أمر بوضعك و قدر مذلتك‏

" رفعها الله"

 (5) أي الحكمة و إنما غير الأسلوب و لم ينسبها إلى الملك لأن نسبة الخير و اللطف إلى الله تعالى أنسب و إن كان الكل بأمره تعالى، و قيل: هو التنبيه على أن الرفع مترتب على التواضع من غير حاجة إلى دعاء الملك، بخلاف الوضع فإنه غير مترتب على التكبر ما لم‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 217

يدعو الملك عليه بالوضع، و ما ذكرنا أنسب.

" ثم قال له"

 (1) أي الرب تعالى أو الملك‏

" انتعش"

 (2) يحتمل الوجهين المتقدمين يقال: نعشه الله كمنعه و أنعشه أي إقامة و رفعه، و نعشه فانتعش أي رفعه فارتفع‏

" نعشك الله"

 (3) هذا أيضا إما إخبار بما وقع من الرفع، أو دعاء له على التأكيد أو دعاء له بالثبات و الاستمرار.

و أقول: هذا الخبر في طريق العامة هكذا، قال النبي صلى الله عليه و آله و سلم: ما من أحد إلا و معه ملكان و عليه حكمة يمسكانه بها، فإن هو رفع نفسه جبذاها ثم قالا:

اللهم ضعه، و إن وضع نفسه قالا: اللهم ارفعه.

 (الحديث السابع عشر و الثامن عشر)

 (4): مرسلان متقاربان في المضمون.

و في النهاية فيه: أنك امرؤ

تائه‏

 (5) أي متكبر أو ضال متحير، و قد تاه يتيه تيها إذا تحير و ضل و إذا تكبر، انتهى.

" أو تجبر"

 (6) يمكن أن يكون الترديد من الراوي و إن كان منه عليه السلام فيدل على فرق بينهما في المعنى كما يومئ إليه قوله تعالى:" الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ" و في الخبر إيماء إلى أن التكبر أقوى من التجبر، و يمكن أن يقال في الفرق بينهما أن التجبر يدل على جبر الغير و قهره على ما أراد، بخلاف التكبر فإنه جعل نفسه أكبر و أعظم من غيره و إن كانا متلازمين غالبا.

ثم اعلم أن الخبرين يحتملان وجوها: الأول أن يكون المراد أن التكبر ينشأ من دناءة النفس و خستها و رداءتها.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 218

الثاني: أن يكون المعنى أن التكبر إنما يكون غالبا فيمن كان ذليلا فعز، و أما من نشأ في العزة لا يتكبر غالبا بل شأنه التواضع.

الثالث: أن التكبر إنما يكون فيمن لم يكن له كمال واقعي فيتكبر لإظهار الكمال.

الرابع: أن يكون المراد المذلة عند الله أي من كان عزيزا ذا قدر و منزلة عند الله لا يتكبر.

الخامس: ما قيل أن اللام لام العاقبة أي يصير ذليلا بسبب التكبر و هو أبعد الوجوه.

باب العجب‏

 (1)

 (الحديث الأول)

 (2): مرسل.

و العجب‏

 (3) استعظام العمل الصالح و استكثاره، و الابتهاج له و الإدلال به، و أن يرى نفسه خارجا عن حد التقصير، و أما السرور به مع التواضع له تعالى و الشكر له على التوفيق لذلك و طلب الاستزادة منه فهو حسن ممدوح، قال الشيخ البهائي قدس الله روحه: لا ريب أن من عمل أعمالا صالحة من صيام الأيام و قيام الليالي و أمثال ذلك يحصل لنفسه ابتهاج، فإن كان من حيث كونها عطية من الله‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 219

له و نعمة منه تعالى عليه و كان مع ذلك خائفا من نقصها مشفقا من زوالها، طالبا من الله الازدياد منها، لم يكن ذلك الابتهاج عجبا، و إن كان من حيث كونها صفته و قائمة به و مضافة إليه فاستعظمها و ركن إليها و رأى نفسه خارجا عن حد التقصير، و صار كأنه يمن على الله سبحانه بسببها، فذلك هو العجب، انتهى.

و الخبر يدل على أن العجب أشد من الذنب أي من ذنوب الجوارح، فإن العجب ذنب القلب، و ذلك لأن الذنب يزول بالتوبة و يكفر بالطاعات، و العجب صفة نفسانية يشكل إزالتها، و يفسد الطاعات و يهبطها عن درجة القبول، و العجب آفات كثيره فإنه يدعو إلى الكبر كما عرفت، و مفاسد الكبر ما عرفت بعضها، و أيضا العجب يدعو إلى نسيان الذنوب و إهمالها، فبعض ذنوبه لا يذكرها و لا يتفقدها لظنه أنه مستغن عن تفقدها فينساها، و ما يتذكر منها فيستصغرها فلا يجتهد في تداركها، و أما العبادات و الأعمال فإنه يستعظمها و يبتهج بها و يمن على الله بفعلها و ينسى نعمة الله عليه بالتوفيق و التمكين منها، ثم إذا أعجب بها عمي عن آفاتها، و من لم يتفقد آفات الأعمال كان أكثر سعيه ضائعا فإن الأعمال الظاهرة إذا لم تكن خالصة نقية عن الشوائب قلما ينفع، و إنما يتفقد من يغلب عليه الإشفاق و الخوف دون العجب، و المعجب يغتر بنفسه و بربه و يأمن مكر الله و عذابه، و يظن أنه عند الله بمكان و أن له على الله منة و حقا بأعماله التي هي نعمة من نعمه و عطية من عطاياه، ثم إن إعجابه بنفسه و رأيه و علمه و عقله يمنعه من الاستفادة و الاستشارة و السؤال، فيستنكف من سؤال من هو أعلم منه، و ربما يعجب بالرأي الخطإ الذي خطر له فيصر عليه و آفات العجب أكثر من أن تحصى.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 220

 (الحديث الثاني)

 (1): كالسابق.

و المراد

بالهلاك‏

 (2) استحقاق العقاب و البعد من رحمة الله تعالى، و قيل: العجب يدخل الإنسان بالعبادة و تركه الذنوب و الصورة و النسب و الأفعال العادية مثل الإحسان إلى الغير و غيره، و هو من أعظم المهلكات و أشد الحجب بين القلب و الرب و يتضمن الشرك بالله و سلب الإحسان و الإفضال و التوفيق عنه تعالى، و ادعاء الاستقلال لنفسه و يبطل به الأعمال و الإحسان و أجرهما كما قال تعالى:" لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَ الْأَذى‏" و ليس المن بالعطاء، و أذى الفقير بإظهار الفضل و التعيير عليه إلا من عجبه بعطيته و عماه عن منة ربه و توفيقه.

 (الحديث الثالث)

 (3): حسن موثق.

و

أبو الحسن‏

 (4) يحتمل الأول و الثاني عليهما السلام لرواية ابن سويد عنهما، و إن كان روايته عن الأول أكثر

" العجب درجات منها أن يزين للعبد سوء عمله فَرَآهُ حَسَناً"

 (5) إشارة إلى قوله تعالى:" أَ فَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً".

" فيعجبه و يحسب أنه يحسن صنعا"

 (6) إشارة إلى قوله سبحانه:" قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً" و أكثر الجهلة على هذه الصفة، فإنهم يفعلون أعمالا قبيحة

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 221

عقلا و نقلا و يواظبون عليها حتى تصير تلك الأعمال بتسويل أنفسهم و تزيين قرينهم من صفات الكمال عندهم فيذكرونها و يتفاخرون بها و يقولون إنا فعلنا كذا و كذا إعجابا بشأنهم و إظهارا لكمالهم.

" و منها أن يؤمن العبد بربه فيمن على الله عز و جل و لله عليه فيه المن"

 (1) إشارة إلى قوله تعالى:" يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ".

 (الحديث الرابع)

 (2): حسن كالصحيح.

" فيندم عليه"

 (3) ندامته مقام عجز و اعتراف بالتقصير و هو مقام التائبين و هو محبوب لله تعالى في تلك الحالة لأنه قال سبحانه:" إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ".

" و يعمل العمل فيسره ذلك"

 (4) المراد بالسرور هنا الإدلال بالعمل و استعظامه و إخراج نفسه عن حد التقصير كما مر

" فيتراخى عن حاله تلك"

 (5) أي تصير حاله بسبب هذا السرور و العجب أدون و أخس من حالة وقت الندامة، مع كونها مقرونة بالمعصية، في القاموس: تراخى تقاعس أي تأخر، و راخاه باعده و تراخى السماء أبطأ المطر، و يدل على أن العجب يبطل فضل الأعمال السابقة

" فلان يكون على حاله تلك خير مما دخل فيه"

 (6) ضمير دخل راجع إلى الرجل، و ضمير فيه إلى‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 222

الموصول، و يحتمل العكس، و الفاء للتفريع، و خير خبر لأن يكون، أي كونه على حالة الندامة مع كونها مقرونة بالذنب خير مما دخل فيه من العجب، و إن كان مقرونا بالحسنة، أو ذلك الذنب لكونه مقرونا بالندامة أفضل من تلك الحسنة المقرونة بالعجب، أو هاتان الحالتان معا خير من تينك الحالتين.

 (الحديث الخامس)

 (1): ضعيف على المشهور أو مجهول.

و

القرواش‏

 (2) بالكسر الطفيلي أو عظيم الرأس، و

المدل‏

 (3) على بناء الفاعل من الأفعال المنبسط المسرور الذي لا خوف له من التقصير في العمل، و في النهاية: فيه:

يمشي على الصراط مدلا، أي منبسطا لا خوف عليه و هو من الإدلال و الدالة على من لك عنده منزلة، و في القاموس: دل المرأة و دلالها تدللها على زوجها تريه جرأة في تغنج و تشكل كأنها تخالفه و ما بها خلاف، و أدل عليه انبسط كتدلل و أوثق بمحبته فأفرط عليه، و الدالة ما تدل به على حميمك، انتهى.

و الضحك مع الخوف‏

 (4) هو الضحك الظاهري مع الخوف القلبي، كما مر في صفات المؤمن: بشره في وجهه و حزنه في قلبه، و الحاصل أن المدار على القلب و لا يصلح المرء إلا بإصلاح قلبه و إخراج العجب و الكبر و الرياء منه، و تذليله بالخوف و الخشية، و التفكر في أهوال الآخرة و شرائط الأعمال و كثرة نعم الله عليه و أمثال ذلك، و يدل الخبر على أن العالم أفضل من العابد، و أن العبادة بدون العلم الحقيقي لا تنفع.

قال بعض المحققين: اعلم أن العجب إنما يكون بوصف هو كمال لا محالة، و للعالم بكمال نفسه في علم و عمل و غيره حالتان: أحدهما أن يكون خائفا على‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 223

زواله، مشفقا على تكدره أو سلبه من أصله، فهذا ليس بمعجب، و الأخرى أن لا يكون خائفا من زواله لكن يكون فرحا به من حيث أنه نعمة من الله تعالى عليه لا من حيث إضافته إلى نفسه، و هذا أيضا ليس بمعجب، و له حالة ثالثة هي العجب و هو أن يكون غير خائف عليه، بل يكون فرحا به مطمئنا إليه، و يكون فرحه به من حيث أنه كمال و نعمة و رفعة و خير، لا من حيث أنه عطية من الله تعالى و نعمة منه، فيكون فرحه به من حيث أنه صفته و منسوب إليه بأنه له لا من حيث أنه منسوب إلى الله بأنه منه، فمهما غلب على قلبه أنه نعمة من الله مهما شاء سلبها، زال العجب بذلك عن نفسه، فإذا العجب هو إعظام النعمة و الركون إليها مع نسيان إضافتها إلى المنعم، فإن انضاف إلى ذلك أن غلب على نفسه أن له عند الله حقا و أنه منه بمكان حتى توقع بعلمه كرامة له في الدنيا، و استبعد أن يجري عليه مكروه استبعادا يزيد على استبعاده فيما يجري على الفساق سمي هذا إدلالا بالعمل، فكأنه يرى لنفسه على الله دالة، و كذلك قد يعطي غيره شيئا فيستعظمه و يمن عليه فيكون معجبا، فإن استخدمه أو اقترح عليه الاقتراحات، أو استبعد تخلفه عن قضاء حقوقه كان مدلا عليه.

قال قتادة في قوله تعالى:" وَ لا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ" أي لا تدل بعملك، و في الخبر: أن صلاة المدل لا ترتفع فوق رأسه، و لأن تضحك و أنت معترف بذنبك خير من أن تبكي و أنت تدل بعملك، و الإدلال وراء العجب فلا مدل إلا و هو معجب و رب معجب لا يدل إذ العجب يحصل بالاستعظام و نسيان النعمة، دون توقع جزاء عليه، و الإدلال لا يتم إلا مع توقع جزاء، فإن توقع إجابة دعوته و استنكر

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 224

ردها بباطنه و تعجب كان مدلا بعمله، فإنه لا يتعجب من رد دعاء الفساق و يتعجب من رد دعاء نفسه لذلك، فهذا هو العجب و الإدلال و هو من مقدمات الكبر و أسبابه.

 (الحديث السادس)

 (1): مرسل.

" و الفاسق صديق"

 (2) أي مؤمن صادق في إيمانه كثير الصدق و التصديق قولا و فعلا، قال الراغب: الصديق من كثر منه الصدق، و قيل: بل يقال ذلك لمن لم يكذب قط، و قيل: بل لمن لا يتأتى منه الكذب لتعوده الصدق، و قيل: بل لمن صدق بقوله و اعتقاده، و حقق صدقه بفعله.

 (الحديث السابع)

 (3): كالصحيح.

" يعمل العمل"

 (4) أي معصية أو مكروها أو لغوا، و حمله على الطاعة بأن يكون خوفه للتقصير في الشرائط كما قيل بعيد، لقلة فائدة الخبر حينئذ و إنما قال: شبه العجب، لبيان أنه يدخله قليل من العجب يخرج به عن الخوف السابق، فأشار عليه السلام في الجواب إلى أن هذا عجب أيضا.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 225

 (الحديث الثامن)

 (1): مرسل.

و البرنس‏

 (2) بالضم و في النهاية: هو كل ثوب رأسه منه ملتزق به من دراعة أو جبة أو ممطر أو غيره، قال الجوهري: هو قلنسوة طويلة كان النساك يلبسونها في صدر الإسلام، و هو من البرس بكسر الباء القطن، و النون زائدة، و قيل: إنه غير عربي‏

" قال أنت"

 (3) أي أنت إبليس؟ و قيل: خبر مبتدإ محذوف أي المسلم أنت؟

و على التقديرين استفهام تعجبي‏

" فلا قرب الله دارك"

 (4) أي لا قربك الله منا أو من أحد، و قيل: أي حيرك الله، و قيل: لا تكون دارك قريبة من المعمورة، كناية عن تخريب داره.

" إنما جئت لأسلم عليك"

 (5) أي لم أجي‏ء لإضلالك فتبعدني لأنه لا طمع لي فيك لقربك من الله، أو سلامي عليك للمنزلة التي لك عند الله.

" به اختطف"

 (6) يقال: خطفة من باب علم و ضرب و اختطفه إذا استلبه و أخذه بسرعة.

و كان الألوان في البرنس كانت صورة شهوات الدنيا و زينتها، أو الأديان المختلفة و الآراء المبتدعة أو الأعم كما روى الشيخ في مجالسه بإسناده عن الرضا عن آبائه عليهم السلام إن إبليس كان يأتي الأنبياء عليهم السلام من لدن آدم عليه السلام إلى أن بعث الله المسيح عليه السلام يتحدث عندهم و يسائلهم، و لم يكن بأحد منهم أشد أنسا منه بيحيى بن زكريا عليه السلام فقال له يحيى: يا با مرة إن لي إليك حاجة، فقال‏

                                                مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 226

له: أنت أعظم قدرا من أن أردك بمسألة فسلني ما شئت فإني غير مخالفك في أمر تريده، فقال يحيى: يا با مرة أحب أن تعرض على مصائدك و فخوخك التي تصطاد بها بني آدم؟ فقال له إبليس: حبا و كرامة و واعده لغد، فلما أصبح يحيى عليه السلام قعد في بيته ينتظر الموعد و أغلق عليه الباب إغلاقا فما شعر حتى ساواه من خوخة كانت في بيته، فإذا وجهه صورة وجه القرد و جسده على صورة الخنزير، و إذا عيناه مشقوقتان طولا و إذا أسنانه و فمه مشقوق طولا عظما واحدا بلا ذقن و لا لحية، و له أربعة أيد يدان في صدره و يدان في منكبه، و إذا عراقيبه قوادمه و أصابعه خلفه، و عليه قباء و قد شد وسطه بمنطقة فيها خيوط معلقة بين أحمر و أصفر و أخضر و جميع الألوان، و إذا بيده جرس عظيم و على رأسه بيضة، و إذا في البيضة حديدة معلقة شبيهة بالكلاب، فلما تأمله يحيى عليه السلام قال له: ما هذه المنطقة التي في وسطك؟ فقال: هذه المجوسية، أنا الذي سننتها و زينتها لهم، فقال له: فما هذه الخيوط الألوان؟ قال له: هذه جميع أصباغ النساء، لا تزال المرأة تصبغ الصبغ حتى تقع مع لونها فأفتن الناس بها، فقال له: فما هذا الجرس الذي بيدك؟ قال: هذا مجمع كل لذة من طنبور و بربط و معزفة و طبل و نأى و صرناي، و إن القوم ليجلسون على شرابهم فلا يستلذونه فأحرك الجرس فيما بينهم فإذا سمعوه استخفهم الطرب، فمن بين من يرقص و من بين من يفرقع أصابعه، و

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 227

بين من يشق ثيابه، فقال له: و أي الأشياء أقر لعينك؟ قال: النساء هن فخوخي و مصائدي فإني إذا اجتمعت على دعوات الصالحين و لعناتهم صرت إلى النساء فطابت نفسي بهن، فقال له يحيى عليه السلام: فما هذه البيضة التي على رأسك؟ قال:

بها أتوقى دعوة المؤمنين، قال: فما هذه الحديدة التي أرى فيها؟ قال: بهذه أقلب قلوب الصالحين، قال يحيى عليه السلام: فهل ظفرت بي ساعة قط؟ قال: لا و لكن فيك خصلة تعجبني! قال يحيى: فما هي؟ قال: أنت رجل أكول، فإذا فطرت أكلت و بشمت فيمنعك ذلك من بعض صلاتك و قيامك بالليل، قال يحيى عليه السلام: فإني أعطى الله عهدا أني لا أشبع من الطعام حتى ألقاه، قال له إبليس: و أنا أعطي الله عهدا أني لا أنصح مسلما حتى ألقاه، ثم خرج فما عاد إليه بعد ذلك.

و استحواذ الشيطان على العبد

 (1) غلبته عليه و استمالته إلى ما يريده منه‏

" أن لا يعجبوا"

 (2) قيل: أن ناصبة و لا نافية أو أن مفسرة و لا ناهية، و يعجبوا من باب الأفعال على بناء المجهول أو على بناء المعلوم، نحو أغد البعير.

و أقول: الأول أظهر

" أنصبه"

 (3) كأضربه أي أقيمه و كونه على بناء الأفعال بمعنى الإتعاب بعيد

" إلا هلك"

 (4) أي استحق العذاب إذ جميع الطاعات لا تفي بشكر نعمة واحدة من نعمه سبحانه مع قطع النظر عن المناقشة في شرائط العبادة، و في غالب الناس المقاصة بالمعاصي.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 228

باب حب الدنيا و الحرص عليها

 (1)

 (الحديث الأول)

 (2): ضعيف.

" رأس كل خطيئة حب الدنيا"

 (3) لأن خصال الشر مطوية في حب الدنيا و كل ذمائم القوة الشهوية و الغضبية مندرجة في الميل إليها، و لذا قال الله عز و جل:" مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَ مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ" و لا يمكن التخلص من حبها إلا بالعلم بمقابحها و منافع الآخرة و تصفية النفس و تعديل القوتين.

 (الحديث الثاني)

 (4): مجهول.

و قد تقدم مثله في أول باب الرئاسة، و قد مضى القول فيه و أفسد هنا بمعنى أشد فسادا و إن كان نادرا.

 (الحديث الثالث)

 (5): حسن موثق كالصحيح‏

" بأسرع"

 (6) أي في القتل و الإفناء.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 229

 (الحديث الرابع)

 (1): موثق.

و في القاموس‏

جثم‏

 (2) الإنسان و الطائر و النعام و الخشف و اليربوع يجثم جثما لزم مكانه فلم يبرح، أو وقع على صدره أو تلبد بالأرض، انتهى.

و الحاصل أن الشيطان يدير ابن آدم في كل شي‏ء أي يبعثه على ارتكاب كل ضلالة و معصية أو يكون معه و يلازمه عند عروض كل شبهة أو شهوة لعله يضله أو يزله‏

" فإذا أعياه"

 (3) المستتر راجع إلى ابن آدم، و البارز إلى الشيطان أي لم يقبل منه و لم يطعه حتى أعياه ترصد له و اختفى عند المال، فإذا أتى المال أخذ برقبته فأوقعه فيه بالحرام أو الشبهة.

و الحاصل أن المال أعظم مصائد الشيطان إذ قال من لم يفتتن به عند تيسره له، و كأنه محمول على الغالب إذ قد يكون لا يفتتن بالمال و يفتتن بحب الجاه و بعض الشهوات الغالبة، و قيل: فإذا أعياه، أي أعجزه عن كل شهوة و لذة، و ذلك بأن يشيب كما ورد في حديث آخر: يشيب ابن آدم و يشب فيه خصلتان الحرص و طول الأمل.

 (الحديث الخامس)

 (4): صحيح.

" من لم يتعز بعزاء الله"

 (5) قال في النهاية: فيه: من لم يتعز بعزاء الله فليس منا، أي من لم يدع بدعوة الإسلام فيقول: يا للإسلام و يا للمسلمين و يا لله، و قيل:

أراد بالتعزي التسلي و التصبر عند المصيبة و أن يقول: إنا لله و إنا إليه راجعون، كما أمر الله تعالى، و معنى قوله: بعزاء الله أي بتعزية الله تعالى إياه، فأقام الاسم‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 230

مقام المصدر، انتهى.

و قيل: العزاء مصدر بمعنى الصبر أو اسم للتعزية، و كلاهما مناسب، و على الأول إسناده إلى الله تعالى لأنه السبب له و الباء إما للآلية المجازية كما قيل في قوله تعالى:" فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ" أو للسببية، و الحاصل أنه من لم يصبر على ما فاته من الدنيا و على البلايا التي تصيبه فيها بما سلاه الله في قوله" وَ بَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ" و سائر الآيات الواردة في ذم الدنيا و فنائها، و مدح الرضا بقضائه تعالى‏

" تقطعت نفسه" للحسرات‏

 (1) على المصائب و على ما فاته من الدنيا، و ربما يحصل الحسرات على ما يحصل له عند الموت من مفارقتها أو الأعم منها و مما يحصل له في الدنيا و جمعية الحسرات مع كونه مصدرا لإرادة الأنواع.

" و من اتبع نظره ما في أيدي الناس"

 (2) أي نظر إلى من هو فوقه من أهل الدنيا. و ما في أيديهم من نعيمها و زبرجها نظر رغبة و تحسر و تمن‏

" كثر همه"

 (3) لعدم تيسرها له فيغتاظ لذلك و يحسدهم عليها و لا يمكنه شفاء غيظه إلا بأن يحصل له أكثر مما في أيديهم أو يسلب الله عنهم جميع ذلك، و لا يتيسر له شي‏ء من الأمرين فلا يشفي غيظه أبدا و لا يتهنأ له العيش ما رأى في نعمه أحدا و لا يتفكر في أنه إنما منعه الله ذلك لأنه علم أنه سبب هلاكه، فهو يتمنى حالهم و لا يعلم حقيقة مالهم كما حكى الله سبحانه عن قوم تمنوا حال قارون حيث قالوا" يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ. وَ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً وَ لا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ. فَخَسَفْنا بِهِ وَ بِدارِهِ الْأَرْضَ. أَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ يَقْدِرُ

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 231

لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ" و انتفاء الخسف الظاهري بأهل الأموال و التجبر من هذه الأمة لا يوجب انتفاء الخسف في دركات الشهوات النفسانية و مهاوي التعلقات الجسمانية و الحرمان عن درجات القرب و الكمال، و خسفهم في عظيم النكال و شديد الوبال، أعاذنا الله و سائر المؤمنين من جميع ذلك، و يسهل لنا الوصول في الدارين إلى أحسن الأحوال.

" و من لم ير أن لله عليه نعمة إلا في مطعم"

 (1) أي من توهم أن نعمة الله عليه منحصرة في هذه النعم الظاهرة كالمطعم و المشرب و المسكن و أمثالها فإذا فقدها أو شيئا منها ظن أنه ليس لله عليه نعمة فلا ينشط في طاعة الله، و إن عمل شيئا مع هذه العقيدة الفاسدة و عدم معرفة منعمه لا ينفعه و لا يتقبل منه، فيكون عمله قاصرا و عذابه دانيا لأن هذه النعم الظاهرة حقيرة في جنب نعم الله العظيمة عليه من الإيمان و الهداية و التوفيق و العقل و القوي الظاهرة و الباطنة، و الصحة و دفع شر الأعادي و غيرها مما لا يحصى، بل هذا الفقر أيضا من أعظم نعم الله عليه، و إن تعدوا نعمة الله لا تحصوها.

و قال بعض المحققين: معنى الحديث أن من لم يصبر و لم يسل أو لم يحسن الصبر و السلوة على ما رزقه الله من الدنيا بل أراد الزيادة في المال أو ألجأه مما لم يرزقه إياه تقطعت نفسه متحسرا حسرة بعد حسرة على ما يراه في يدي غيره ممن فاق عليه في العيش فهو لم يزل يتبع بصره ما في أيدي الناس، و من أتبع بصره ما في أيدي الناس كثر همه و لم يشف غيظه، فهو لم ير أن لله عليه نعمة إلا نعم الدنيا و إنما يكون كذلك من لا يوقن بالآخرة، و من لم يوقن بالآخرة قصر عمله، و إذ ليس له‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 232

من الدنيا إلا قليل بزعمه مع شدة طمعه في الدنيا و زينتها فقد دنا عذابه، نعوذ بالله من ذلك، و منشأ ذلك كله الجهل و ضعف الإيمان، و أيضا لما كان عمل أكثر الناس على قدر ما يرون من نعم الله عليهم عاجلا و آجلا لا جرم من لم ير من النعم عليه إلا القليل فلا يصدر عنه من العمل إلا قليل، و هذا يوجب قصور العمل و دنو العذاب.

 (الحديث السادس)

 (1): مجهول.

" إن الدينار و الدرهم"

 (2) أي حبهما و صرف العمر في تحصيلهما و تحصيل ما يتوقف عليهما

" أهلكا من كان قبلكم"

 (3) لأن حبهما يمنع من حبه تعالى، و صرف العمر فيهما يمنع من صرف العمر في طاعته تعالى، و التمكن منهما يورث التمكن من كثير من المعاصي، و يبعثان على الأخلاق الدنية و الأعمال السيئة كالظلم و الحسد و الحقد و العداوة و الفخر و الكبر و البخل و منع الحقوق، إلى غير ذلك مما لا يحصى، و مفارقتهما عند الموت تورث الحسرة و الندامة، و حبهما يمنع من حب لقاء الله تعالى، و تركهما يوجب الراحة في الدنيا و خفة الحساب في الآخرة.

 (الحديث السابع)

 (4): كالسابق.

" مثل دودة القز"

 (5) هذا من أحسن التمثيلات للدنيا و قد أنشد بعضهم فيه:

         أ لم تر أن المرء طول حياته             حريص على ما لا يزال يناسجه‏

             كدود كدود القز ينسج دائما             فيهلك غما وسط ما هو ناسجه‏

 

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 233

قوله عليه السلام: أغنى الغناء،

 (1) أي ليس الغناء و عدم الحاجة بكثرة المال، بل بترك الحرص، فإن الحريص كلما ازداد ماله اشتد حرصه فيكون أفقر و أحوج ممن لا مال له‏

" لا تشعروا قلوبكم"

 (2) أي لا تلزموه إياها و لا تجعلوه شعارها، في القاموس:

أشعره الأمر و به أعلمه، و الشعار ككتاب ما تحت الدثار من اللباس، و هو يلي شعر الجسد، و استشعره لبسه و أشعره غيره ألبسه إياه، و أشعر الهم قلبي لزق به، و كلما ألزقته بشي‏ء أشعرته به‏

" الاشتغال بما قد فات"

 (3) أي من أمور الدنيا سواء لم يحصل أو حصل و فات، فإن اشتغال القلب به يوجب غفلته عن ذكر الله تعالى و حبة، فإنه لا يجتمع حبان متضادان في قلب واحد.

 (الحديث الثامن)

 (4): ضعيف.

و الظاهر أن‏

" عن"

 (5) بعد الزهري كما في أكثر النسخ زيد من النساخ، فإن‏

الزهري‏

 (6) هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن الحارث بن شهاب بن زهرة بن كلاب، و هو بدل أو عطف بيان للزهري، و يؤيده أنه قد مر هذا الخبر بعينه في باب ذم الدنيا، و ليس فيه" عن" و لا ينافي ذلك كون ما مر محمد بن مسلم بن شهاب لأنه إسناد إلى الجد الأعلى و هو شائع، و قد مر شرح هذا الخبر فيما مضى، و نذكر هنا بعض الفوائد.

" ما من عمل بعد معرفة الله"

 (7) يدل على أن المعرفة أفضل لأنها أصل جميع‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 234

الأخلاق و الأعمال، و يدخل في معرفة الرسول معرفة الإمام‏

" فإن لذلك"

 (1) كأنه تعليل لكون بغض الدنيا بعد المعرفة أفضل، و فيما مضى" و إن" كما في بعض النسخ هنا و هو أظهر، و ذلك إشارة إلى بغض الدنيا أو إلى الدنيا، و قيل: المشار إليه العمل، يعني أن للأعمال الصالحة لشعبا يرجع كلها إلى بغض الدنيا، و للمعاصي شعبا يرجع كلها إلى حب الدنيا، ثم اكتفى ببيان أحدهما عن الآخر، و كان ما ذكرنا أظهر فالمراد

بالشعب‏

 (2) الأولى أنواع الأخلاق و الأعمال الفاضلة، و بالثانية أنواع المعاصي، و الأولى مندرجة تحت بغض الدنيا، و الثانية تحت حبها، فبغضها أفضل الأعمال لاشتماله على محاسن كثيرة كالتواضع المقابل للكبر، و القنوع المقابل للحرص و هكذا و بحكم المقابلة حب الدنيا أقبح الأعمال لاشتماله على رذائل كثيرة، و هي الكبر إلى آخر ما ذكر.

" فذلك أن"

 (3) و في بعض النسخ فلذلك أي لدخول الحرص على ذريتهما، و إنما قال أكثر لأن طلب المحتاج إليه و هو القدر الضروري من الطعام و اللباس و المسكن و نحوها ليس بمذموم بل ممدوح، لأنه لا يمكن بدونه تكميل النفس بالعلم و العمل‏

" حيث حسد أخاه"

 (4) قيل: حسده في قبول قربانه، و قيل: في حب النساء، و قيل:

في حب الدنيا لئلا يكون له نسل يعيرون أولاده في رد قربانه، و كان المراد

بحب الدنيا

 (5) أولا حب المال أو حب البقاء في الدنيا، و كراهة الموت، و به ثانيا حب كل‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 235

ما لا حاجة به في تحصيل الآخرة، و قيل: يمكن أن يكون المراد بالسبع الكبر و الحرص و حب النساء و حب الرئاسة و حب الراحة و حب الكلام و حب العلو و الثروة، و هما شعبة واحدة بقرينة عدم ذكر الحب في المعطوف، و أما الحسد فقد اكتفي عنه بذكر شعبه و أنواعه‏

" دنيا بلاغ"

 (1) أي كفاف و كفاية أو تبلغ بها إلى الآخرة.

 (الحديث التاسع)

 (2): كالسابق.

" و جعلتها ملعونة"

 (3) اللعن الطرد و الإبعاد و السب و كان المراد بلعنها لعن أهلها أو كراهتها و المنع عن حبها، و كل ما نهى الله تعالى عنها فقد لعنها و طردها و قيل: العرب تقول لكل شي‏ء ضار ملعون، و الشجرة الملعونة عندهم هي كل من ذاقها كرهها و لعنها، و كذلك حال الدنيا فإن كل من ذاق شهواتها لعنها إذا أحس بضررها.

" ملعون ما فيها إلا ما كان فيها لي"

 (4) أقول: هذا معيار كامل للدنيا الملعونة و غيرها فكل ما كان في الدنيا و يوجب القرب إلى الله تعالى من المعارف و العلوم الحقة و الطاعات و ما يتوصل به إليها من المعيشة بقدر الضرورة و الكفاف، فهي من الآخرة و ليست من الدنيا، و كل ما يصير سببا للبعد عن الله و الاشتغال عن ذكره و يلهى عن درجات الآخرة و كمالاتها و ليس الغرض فيه القرب منه تعالى و الوصول إلى رضاه فهي الدنيا الملعونة.

قيل: ما يقع في الدنيا من الأعمال أربعة أقسام: الأول: ما يكون ظاهره‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 236

و باطنه لله كالطاعات و الخيرات الخالصة، الثاني: ما يكون ظاهره و باطنه للدنيا كالمعاصي و كثير من المباحات أيضا لأنها مبدء البطر و الغفلة، الثالث: ما يكون ظاهره لله و باطنه للدنيا كالأعمال الريائية، الرابع: عكس الثالث، كطلب الكفاف لحفظ بقاء البدن و القوة على العبادة و تكميل النفس بالعلم و العمل.

" بقدر علمهم"

 (1) أي بعيوبها و فنائها و مضرتها

" ما من أحد عظمها فقرت عينه فيها"

 (2) أي من عظمها و تعلق قلبه بها تصير سببا لبعده عن الله، و لا تبقى الدنيا له فيخسر الدنيا و الآخرة، و من حقرها تركها و لم يأخذ منها إلا ما يصير سببا لتحصيل الآخرة فينتفع بها في الدارين.

 (الحديث العاشر)

 (3): كالسابق و قد مر مضمونه.

 (الحديث الحادي عشر)

 (4): كالسابق أيضا.

" أما إنهم"

 (5) قال الشيخ البهائي قدس سره: أما بالتخفيف حرف استفتاح و تنبيه يدخل على الجمل لتنبيه المخاطب و طلب إصغائه إلى ما يلقى إليه، و قد يحذف ألفها نحو أم و الله زيد قائم‏

" إلا بسخطة"

 (6) السخط بالتحريك و بضم أوله و سكون ثانيه‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 237

الغضب‏

" لتدافنوا"

 (1) الظاهر أن التفاعل هيهنا بمعنى فعل كتواني و يمكن إبقاؤه على أصل المشاركة بتكلف‏

" فقال الحواريون"

 (2) هم خواص عيسى عليه السلام قيل: سموا حواريين لأنهم كانوا قصارين يحورون الثياب أي يقصرونها و ينقونها من الأوساخ و يبيضونها، مشتق من الحور و هو البياض الخالص، و قال بعض العلماء: إنهم لم يكونوا قصارين على الحقيقة و إنما أطلق هذا الاسم عليهم رمزا إلى أنهم كانوا ينقون نفوس الخلائق من الأوساخ و الأوصاف الذميمة و الكدورات، و يرقونها إلى عالم النور من عالم الظلمات.

" يا روح الله"

 (3) أقول: في تسميته عليه السلام روحا أقوال: الأول أنه إنما سماه روحا لأنه حدث عن نفخة جبرئيل في درع مريم بأمر الله تعالى، و إنما نسبه إليه لأنه كان بأمره، و قيل: إنما أضافه إليه تفخيما لشأنه كما قال: الصوم لي و أنا أجزي به، و قد يسمى النفخ روحا، و الثاني: أن المراد به يحيي به الناس في دينهم كما يحيون بالأرواح، و الثالث: أن معناه إنسان أحياه الله بتكوينه بلا واسطة من جماع و نطفة كما جرت العادة بذلك، الرابع: أن معناه و رحمة منه، و الخامس:

أن معناه روح من الله خلقها فصورها ثم أرسلها إلى مريم فدخلت في فيها فصيرها الله سبحانه عيسى، السادس: سماه روحا لأنه كان يحيي الموتى كما أن الروح يصير سببا للحياة.

و كذا اختلفوا في تسميته‏

" كلمة"

 (4) في قوله سبحانه:" إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ" و قوله تعالى:" إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَ كَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى‏ مَرْيَمَ وَ رُوحٌ مِنْهُ" على أقوال: أحدها:

أنه إنما سمي بذلك لأنه حصل بكلمة من الله من غير والد، و هو قوله" كُنْ" كما قال سبحانه:" إِنَّ مَثَلَ عِيسى‏ عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 238

فَيَكُونُ" و الثاني: أنه سمي بذلك لأن الله تعالى بشر به في الكتب السالفة، أو بشرت بها مريم على لسان الملائكة، الثالث: أنه يهتدي به الخلق كما اهتدوا بكلام الله و وحيه.

" فنودي من الجو"

 (1) بالفتح و التشديد ما بين السماء و الأرض‏

" على شرف"

 (2) قال الشيخ البهائي قدس سره: الشرف المكان العالي قيل: و منه سمي الشريف شريفا تشبيها للعلو المعنوي بالعلو المكاني‏

" فقال ويحك"

 (3) ويح اسم فعل بمعنى الترحم كما أن ويل كلمة عذاب، و بعض اللغويين يستعمل كلا منهما مكان الأخرى‏

و الطاغوت‏

 (4) فلعوت من الطغيان و هو تجاوز الحد و أصله طغيوت فقدموا لامه على عينه على خلاف القياس، ثم قلبوا الياء ألفا فصارت طاغوت، و هو يطلق على الكاهن و الشيطان و الأصنام، و على كل رئيس في الضلالة، و على كل ما يصد عن عبادة الله تعالى، و على كل ما عبد من دون الله تعالى، و يجي‏ء مفردا لقوله تعالى:" يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ" و جمعا كقوله تعالى:" وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ".

و قال قدس سره: لعلك تظن أن ما تضمنه هذا الحديث من أن الطاعة لأهل المعاصي عبادة لهم جار على ضرب من التجوز لا الحقيقة، و ليس كذلك بل هو حقيقة فإن العبادة ليست إلا الخضوع و التذلل و الطاعة و الانقياد، و لهذا جعل سبحانه اتباع الهوى و الانقياد إليه عباده للهوى فقال:" أَ رَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 239

إِلهَهُ هَواهُ" و جعل طاعة الشيطان عبادة له فقال تعالى:" أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ" ثم نقل أخبارا كثيرة في ذلك، و قال بعد ذلك:

و إذا كان اتباع الغير و الانقياد إليه عباده له فأكثر الخلق عند التحقيق مقيمون على عبادة أهواء نفوسهم الخسيسة الدنية و شهواتهم البهيمية و السبعية على كثرة أنواعها و اختلاف أجناسها، و هي أصنامهم التي هم عليها عاكفون و الأنداد التي هم لها من دون الله عابدون، و هذا هو الشرك الخفي نسأل الله سبحانه أن يعصمنا عنه و يطهر نفوسنا منه بمنه و كرمه.

و

" غفلة"

 (1) عطف على خوف، و عطفه على عبادة الطاغوت بعيد

" في لهو"

 (2) قال الشيخ (ره): لفظة في هنا إما للظرفية المجازية كما في نحو: النجاة في الصدق، أو بمعنى مع كما في قوله تعالى:" ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ" أو للسببية كقوله تعالى:

" فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ".

" إذا أقبلت علينا"

 (3) قال قدس سره: الشرطيتان واقعتان موقع أي المفسرة لحب الصبي لأمه‏

" قال: الطاعة لأهل المعاصي"

 (4) قال رحمه الله: ما ذكره هذا الرجل المكلم لعيسى على نبينا و عليه السلام في وصف أصحاب تلك القرية و ما كانوا عليه من الخوف القليل و الأمل البعيد و الغفلة و اللهو و اللعب و الفرح بإقبال الدنيا و الحزن بإدبارها، هو بعينه حالنا و حال أهل زماننا، بل أكثرهم خال عن‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 240

ذلك الخوف القليل أيضا، نعوذ بالله من الغفلة و سوء المنقلب.

" قال جبال من جمر"

 (1) في القاموس: الجمر النار المتقدة، و الجمع جمر، قال الشيخ المتقدم ذكره رحمه الله هذا صريح في وقوع العذاب في مدة البرزخ أعني ما بين الموت و البعث، و قد انعقد عليه الإجماع و نطقت به الأخبار، و دل عليه القرآن العزيز، و قال به أكثر أهل الملل و إن وقع الاختلاف في تفاصيله، و الذي يجب علينا هو التصديق المجمل بعذاب واقع بعد الموت و قبل الحشر في الجملة، و أما كيفياته و تفاصيله فلم نكلف بمعرفتها على التفصيل و أكثرها مما لا تسعه عقولنا، فينبغي ترك البحث و الفحص عن تلك التفاصيل، و صرف الوقت فيما هو أهم منها أعني فيما يصرف ذلك العذاب و يدفعه عنا كيف ما كان، و على أي نوع حصل، و هو المواظبة على الطاعات و اجتناب المنهيات لئلا يكون حالنا في الفحص عن ذلك و الاشتغال به عن الكفر فيما يدفعه و ينجي منه كحال شخص أخذه السلطان و حبسه ليقطع في غد يده و يجدع أنفه فترك الفكر في الحيل المؤدية إلى خلاصه و بقي طول ليله متفكرا في أنه هل يقطع بالسكين أو بالسيف، و هل القاطع زيد أو عمرو.

" قيل لنا كذبتم"

 (2) دل على أنهم لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه كما نطقت به الآية، أو كذبتم فيما دل عليه قولكم هذا أنه يمكنكم العود، و ربما يقرأ بالتشديد أي كذبتم الرسل فلا محيص عن عذابكم‏

" قال: يا روح الله"

 (3) في بعض‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 241

النسخ: يا روح الله و كلمته بقدس الله، فقوله: بقدس الله متعلق بروح الله و كلمته يعني يا أيها الذي صار روح الله و كلمته بقدس الله كما قيل، و يحتمل أن تكون الباء بمعنى مع أي مع تقدسه عن أن يكون له الروح و كلمة حقيقة.

ثم قال الشيخ رحمه الله: ثم لا يخفى أن ما قاله هذا الرجل من أنه كان فيهم و لم يكن منهم فلما نزل العذاب عمه معهم، يشعر بأنه ينبغي المهاجرة عن أهل المعاصي و الاعتزال لهم، و أن المقيم معهم شريك لهم في العذاب و محترق بنارهم، و إن لم يشاركهم في أفعالهم و أقوالهم، و قد يستأنس لذلك بعموم قوله تعالى:" إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ ساءَتْ مَصِيراً" و لو لم يكن في الاعتزال عن الناس فائدة سوى ذلك لكفى، كيف و فيه من الفوائد ما لا يعد و لا يحصى، نسأل الله سبحانه أن يوفقنا لذلك بمنه و كرمه‏

" فإنا معلق"

 (1) هذا كناية عن أنه مشرف على الوقوع فيها، و لا يبعد أن يراد به معناه الصريح أيضا، و

الشفير

 (2) حافة الوادي و جانبه‏

" أكبكب فيها"

 (3) على البناء للمفعول أي أطرح فيها على وجهي، و في القاموس: جرش الشي‏ء لم ينعم دقة فهو

جريش‏

 (4)، و في الصحاح ملم جريش لم يطب‏

" مع عافية الدنيا"

 (5) أي إذا كان مع عافية الدنيا من الخطايا

و الآخرة

 (6) من النار، أو فيه عافية الدنيا من تشويش البال و مشقة تحصيل الأموال و عافية الآخرة من العذاب و السؤال.

 (الحديث الثاني عشر)

 (7): حسن كالصحيح.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 242

و يدل على زيادة الحرص بزيادة المال و غيره من مطلوبات الدنيا كما هو المجرب.

 (الحديث الثالث عشر)

 (1): ضعيف.

" و أنتم ترزقون فيها بغير عمل"

 (2) أي كد شديد كما قال تعالى:" وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها".

" و أنتم لا ترزقون فيها إلا بالعمل"

 (3) كما قال تعالى:" وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى‏"" علماء سوء" بفتح السين، قال الجوهري: ساءه يسوؤه‏

سوءا

 (4) بالفتح نقيض سره، و الاسم السوء بالضم و قرئ قوله تعالى:" عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ" يعني الهزيمة، و الشر، و من فتح فهو من المساءة، و تقول: هذا رجل سوء بالإضافة ثم تدخل عليه الألف و اللام فتقول هذا رجل السوء، قال الأخفش: و لا يقال الرجل السوء لأن السوء ليس بالرجل، قال: و لا يقال هذا رجل السوء بالضم انتهى.

" الأجر تأخذون"

 (5) بحذف حرف الاستفهام و هو على الإنكار و يحتمل أن يكون المراد أجر الدنيا أي نعم الله سبحانه، و على هذا يحتمل أن يكون توبيخا لا استفهاما و أن يكون المراد أجر الآخرة فالاستفهام متعين، فالواو في‏

قوله‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 243

و العمل‏

 (1)، للحالية أي كيف تستحقون أخذ الأجرة و الحال‏

أنكم تضيعون‏

 (2) العمل‏

" أن يقبل عمله"

 (3) أي يتوجه إلى أخذ عمله و هو لا يأخذ و لا يقبل إلا العمل الخالص فهو كناية عن الطلب، و يؤيده أن في مجالس الشيخ أن يطلب عمله أو هو من الإقبال على الحذف و الإيصال، أي يقبل على عمله، و قال بعض الأفاضل: أريد برب العمل العابد الذي يقلد أهل العلم في عبادته أعني يعمل بما يأخذ عنهم، و فيه توبيخ لأهل العلم الغير العامل، و قرأ بعضهم يقيل بالياء المثناة من الإقالة أي يرد عمله فإن المقيل يرد المتاع.

 (الحديث الرابع عشر)

 (4): مجهول.

" إذا لم يهمه إلا بطنه و فرجه"

 (5) أي لا يكون اهتمامه و سعيه و غمه و حزنه إلا في مشتهيات البطن و الفرج، في القاموس: الهم الحزن و ما هم به في نفسه، و همه الأمر حزنه كأهمه فاهتم، انتهى.

فالمراد الإفراط فيهما و قصر همته عليهما، و إلا فللبطن و الفرج نصيب عقلا و شرعا و هو ما يحتاج إليه لقوام البدن و اكتساب العلم و العمل و بقاء النوع.

 (الحديث الخامس عشر)

 (6): صحيح.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 244

" أكبر همه"

 (1) أي قصده أو حزنه‏

" جعل الله الفقر بين عينيه"

 (2) لأنه كلما يحصل له من الدنيا يزيد حرصه بقدر ذلك، فيزيد احتياجه و فقره، أو لضعف توكله على الله يسد الله عليه بعض أبواب رزقه، و قيل: فهو فقير في الآخرة لتقصيره فيما ينفعه فيها و في الدنيا لأنه يطلبها شديدا و الغني من لا يحتاج إلى الطلب، و لأن مطلوبه كثيرا ما يفوت عنه، و الفقر عبارة عن فوات المطلوب، و أيضا يبخل عن نفسه و عياله خوفا من فوات الدنيا و هو فقر حاضر

" و شتت أمره"

 (3) التشتيت التفريق لأنه لعدم توكله على ربه لا ينظر إلا في الأسباب و يتوسل بكل سبب و وسيلة فيتحير في أمره و لا يدري وجه رزقه فلا ينتظم أحواله أو لشدة حرصه لا ينتفع بما حصل له و يطلب الزيادة و لا يتيسر له فهو دائما في السعي و الطلب و لا ينتفع بشي‏ء و حمله على تفرق أمر الآخرة بعيد

" و لم ينل من الدنيا إلا ما قسم له"

 (4) يدل على أن الرزق مقسوم، و لا يزيد بكثرة السعي، كما قال تعالى:" نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا" و لذلك منع الصوفية من طلب الرزق، و الحق أن الطلب حسن و قد يكون واجبا و تقديره لا ينافي اشتراطه بالسعي و الطلب، و لزومه على الله بدون سعي غير معلوم، و قيل: قدر سد الرمق واجب على الله، و يحتمل أن يكون التقدير مختلفا في صورتي الطلب و تركه بأن قدر الله تعالى قدرا من الرزق بدون الطلب لكن مع التوكل التام عليه، و قدرا مع الطلب لكن شدة الحرص و كثرة السعي لا تزيده، و به يمكن الجمع بين أخبار هذا لباب و سيأتي القول فيه في كتاب التجارة إن شاء الله تعالى، و قيل: المراد بقوله لم ينل من الدنيا إلا ما قسم له أنه لا ينفع إلا بما قسم له و إن زاد بالسعي فإنه يبقى للوارث و هو حظه.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 245

و قيل: فيه إشارة إلى أن ذا المال الكثير قد لا ينتفع به بسبب مرض أو غيره و ذا المال القليل ينتفع به أكثر منه، و لا يخفى ما فيه‏

" جعل الله الغنى في قلبه"

 (1) أي بالتوكل على ربه و الاعتماد عليه و إخراج الحرص و حب الدنيا من قلبه لا بكثرة المال و غيره، و لذا نسبه إلى القلب‏

" و جمع له أمره"

 (2) أي جعل أحواله منتظمة، و باله فارغا عن حب الدنيا و تشعب الفكر في طلبها.

 (الحديث السادس عشر)

 (3): ضعيف على المشهور.

" من كثر اشتباكه بالدنيا"

 (4) أي اشتغاله و تعلق قلبه بها يقال: اشتبكت النجوم إذا كثرت و انضمت، و كل متداخلين مشتبكان، و منه تشبيك الأصابع لدخول بعضها في بعض، و الغرض الترغيب في رفض الدنيا و ترك محبتها لئلا يشتد الحزن و الحسرة في مفارقتها.

 (الحديث السابع عشر)

 (5): ضعيف.

" هم لا يفنى"

 (6) لأنه لا يحصل له ما هو مقتضى حرصه و أمله في الدنيا و لا يمكنه الاحتراز عن آفاتها و مصائبها فهو في الدنيا دائما في الغم لما فات و الهم لما لم يحصل، و إذا مات فهو في أحزان و حسرات من مفارقتها، و لم يقدم منها شيئا ينفعه فهمه لا يفنى أبدا، و الفرق بين الأمل و الرجاء أن متعلق الأمل العمر، و البقاء في الدنيا،

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 246

و متعلق الرجاء ما سواه، أو متعلق الأمل بعيد الحصول و متعلق الرجاء قريب الوصول، و معلوم أن محب الدنيا و طالبها يأمل منها ما لا مطمع في حصوله، لكن لشدة حرصه يطلبه و يأمله و يرجو الانتفاع بها، فيحول الأجل بينه و بينها أو يرجو الآخرة و جمعها مع الدنيا، مع أنه لا يسعى لتحصيل الآخرة و يقصر همه على تحصيل الدنيا، و نعم ما قيل:

         يا طالب الرزق مجتهدا             أقصر عنانك فإن الرزق مقسوم‏

             لا تحرصن على ما لست تدركه             إن الحريص على الآمال محروم‏

 

تتمة مهمة

قد مر منا تحقيق في معنى الدنيا المذمومة و الممدوحة في باب ذم الدنيا، و نذكر هنا على وجه آخر قال بعض المحققين: اعلم أن معرفة ذم الدنيا لا يكفيك ما لم تعرف الدنيا المذمومة ما هي و ما الذي ينبغي أن يجتنب، فلا بد أن نبين الدنيا المذمومة المأمور باجتنابها لكونها عدوة قاطعة لطريق الله ما هي.

فنقول: دنياك و آخرتك عبارتان عن حالتين من أحوال قلبك و القريب الداني منهما يسمى دنيا، و هي كل ما قبل الموت، و المتراخي المتأخر يسمى آخرة و هي ما بعد الموت، فكل ما لك فيه حظ و غرض و نصيب و شهوة و لذة في عاجل الحال قبل الوفاة فهي الدنيا في حقك، إلا أن جميع مالك إليه ميل و فيه نصيب و حظ فليس بمذموم، بل هي تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

الأول: ما يصحبك في الدنيا و يبقى معك ثمرته بعد الموت، و هو شيئان العلم و العمل فقط، و أعني بالعلم العلم بالله و صفاته و أفعاله و ملائكته و كتبه و رسله، و ملكوت أرضه و سمائه، و العلم بشريعة نبيه، و أعني بالعمل العبادة الخالصة لوجه الله، و قد يأنس العالم بالعلم حتى يصير ذلك ألذ الأشياء عنده، فيهجر النوم و المنكح و المطعم في لذته لأنه أشهى عنده من جميعها، فقد صار حظا عاجلا

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 247

في الدنيا، و لكنا إذا ذكرنا الدنيا المذمومة لم نعد هذا من الدنيا أصلا، بل قلنا أنه من الآخرة، و كذلك العابد قد يأنس بعبادته و يستلذها بحيث لو منعت عنه لكان ذلك أعظم العقوبات عليه، و هذا أيضا ليس من الدنيا المذمومة.

الثاني: و هو المقابل للقسم الأول على الطرف الأقصى كل ما فيه حظ عاجل و لا ثمرة له في الآخرة أصلا، كالتلذذ بالمعاصي، و التنعم بالمباحات الزائدة على قدر الضرورات و الحاجات الداخلة في جملة الرفاهية و الرعونات كالتنعم بالقناطير المقنطرة من الذهب و الفضة و الخيل المسومة و الأنعام و الحرث، و الغلمان و الجواري و الخيول و المواشي و القصور و الدور المشيدة، و رفيع الثياب و لذائذ الأطعمة، فحظ العبد من هذه كلها هي الدنيا المذمومة، و فيما يعد فضولا و في محل الحاجة نظر طويل.

الثالث: و هو متوسط بين الطرفين كل حظ في العاجل معين على الأعمال الآخرة كقدر القوت من الطعام، و القميص الواحد الخشن، و كل ما لا بد منه ليتأتى للإنسان البقاء و الصحة التي يتوصل إلى العلم و العمل، و هذا ليس من الدنيا كالقسم الأول، لأنه معين على القسم الأول و وسيلة فمهما تناوله العبد على قصد الاستعانة على العلم و العمل، لم يكن به متناولا للدنيا، و لم يصر به من أبنائها.

و إن كان باعثه الحظ العاجل دون الاستعانة على التقوى التحق بالقسم الثاني و صار من جملة الدنيا.

و لا يبقى مع العبد عند الموت إلا ثلاث: صفاء القلب، و أنسه بذكر الله، و حبه لله و صفاء القلب لا يحصل إلا بالكف عن شهوات الدنيا، و الأنس لا يحصل إلا بكثرة ذكر الله، و الحب لا يحصل إلا بالمعرفة، و لا تحصل المعرفة إلا بدوام الفكر، فهذه الثلاث هي المنجيات المسعدات بعد الموت، و هي الباقيات الصالحات، أما طهارة

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 248

القلب عن شهوات الدنيا فهي من المنجيات، إذ تكون جنة بين العبد و بين عذاب الله و أما الإنس و الحب فهما من المسعدات و هي موصلان العبد إلى لذة اللقاء و المشاهدة و هذه السعادة تتعجل عقيب الموت إلى أن يدخل الجنة، فيصير القبر روضة من رياض الجنة، و كيف لا يكون كذلك و لم يكن له إلا محبوب واحد، و كانت العوائق تعوقه عن الأنس بدوام ذكره و مطالعة جماله، فارتفعت العوائق و أفلت من السجن، و خلي بينه و بين محبوبة، فقدم عليه مسرورا آمنا من الفرق، و كيف لا يكون محب الدنيا عند الموت معذبا و لم يكن له محبوب إلا الدنيا، و قد غصب منه و حيل بينه و بينه و سدت عليه طرق الحيلة في الرجوع إليه، و ليس الموت عدما إنما هو فراق لمحاب الدنيا و قدوم على الله تعالى.

فإذا سالك طريق الآخرة هو المواظب على أسباب هذه الصفات الثلاث، و هي الذكر و الفكر و العمل الذي يفطمه عن شهوات الدنيا، و يبغض إليه ملاذها و يقطعه عنها، و كل ذلك لا يمكن إلا بصحة البدن، و صحة البدن لا تنال إلا بالقوت و الملبس و المسكن و يحتاج كل واحد إلى أسباب.

فالقدر الذي لا بد منه من هذه الثلاثة إذا أخذه العبد من الدنيا للآخرة لم يكن من أبناء الدنيا، و كانت الدنيا في حقه مزرعة الآخرة، و إن أخذ ذلك على قصد التنعم و لحظ النفس صار من أبناء الدنيا، و للراغبين في حظوظها إلا أن الرغبة في حظوظ الدنيا تنقسم إلى ما يعرض صاحبه لعذاب الله في الآخرة، و يسمى ذلك حراما و إلى ما يحول بينه و بين الدرجات العلى، و يعرضه لطول الحساب، و يسمى ذلك حلالا و البصير يعلم أن طول الموقف في عرصات القيامة لأجل المحاسبة أيضا عذاب، فمن نوقش في الحساب عذب فلذلك قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: حلالها حساب و حرامها عقاب، و قد قال أيضا: حلالها عذاب إلا أنه عذاب أخف من عذاب الحرام، بل لو لم يكن الحساب لكان ما يفوت من الدرجات العلى في الجنة، و ما يرد

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 249

على القلب من التحسر على تفويتها بحظوظ حقيرة خسيسة لا بقاء لها، هو أيضا عذاب.

فالدنيا قليلها و كثيرها حلالها و حرامها ملعونة إلا ما أعان على تقوى الله، كان ذلك القدر ليس من الدنيا، و كل من كانت معرفته أقوى و أتقن كان حذره من نعيم الدنيا أشد، و لهذا زوى الله تعالى الدنيا عن نبينا صلى الله عليه و آله و سلم فكان يطوي أياما و كان يشد الحجر على بطنه من الجوع، و لهذا سلط الله البلاء و المحن على الأنبياء و الأولياء ثم الأمثل فالأمثل، كل ذلك نظرا لهم و امتنانا عليهم ليتوفر من الآخرة حظهم، كما يمنع الوالد الشفيق ولده لذيذ الفواكه، و يلزمه ألم الفصد و الحجامة شفقة عليه، و حبا له لا بخلا به عليه.

و قد عرفت بهذا أن كل ما ليس لله فهو للدنيا، و ما هو لله فليس من الدنيا فإن قلت: فما الذي هو لله؟

فأقول: الأشياء ثلاثة أقسام، منها: ما لا يتصور أن يكون لله، و هو الذي يعبر عنه بالمعاصي و المحظورات، و أنواع التنعمات في المباحات و هي الدنيا المحضة المذمومة فهي الدنيا صورة و معنى.

و منها: ما صورتها لله و يمكن أن يجعل لغير الله، و هي ثلاثة: الفكر و الذكر و الكف عن الشهوات، فهذه الثلاث إذا جرت سرا و لم يكن عليها باعث سوى أمر الله و اليوم الآخر فهي لله، و ليست من الدنيا، و إن كان الغرض من النظر طلب العلم للتشرف و طلب القبول بين الخلق بإظهار المعرفة، أو كان الغرض من ترك الشهوة حفظ المال أو الحمية لصحة البدن أو الاشتهار بالزهد فقد صار هذا من الدنيا بالمعنى و إن كان يظن بصورتها أنها لله.

و منها: ما صورتها لحظ النفس و يمكن أن يجعل معناه لله، و ذلك كالأكل و النكاح و كل ما يرتبط به بقاؤه و بقاء ولده، فإن كان القصد حظ النفس فهو من‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 250

الدنيا، و إن كان القصد الاستعانة على التقوى فهو لله بمعناه، و إن كان صورته صورة الدنيا، قال صلى الله عليه و آله و سلم: من طلب الدنيا حلالا مكاثرا مفاخرا لقي الله و هو عليه غضبان و من طلبها استعفافا عن المسألة و صيانة لنفسه جاء يوم القيامة و وجهه كالقمر ليلة البدر.

انظر كيف اختلف ذلك بالقصد، فإذا الدنيا حظ نفسك العاجل الذي لا حاجة إليه لأمر الآخرة و يعبر عنه بالهوى، و إليه أشار قوله تعالى:" وَ نَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى‏، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى‏".

و اعلم أن مجامع الهوى خمسة أمور، و هي ما جمعه الله عز و جل في قوله:

" أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ زِينَةٌ وَ تَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَ تَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَ الْأَوْلادِ".

و الأعيان التي تحصل منها هذه الأمور سبعة يجمعها قوله تعالى:" زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَ الْبَنِينَ وَ الْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَ الْفِضَّةِ وَ الْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَ الْأَنْعامِ وَ الْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ اللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ" فقد عرفت أن كلما هو لله فليس من الدنيا، و قدر ضرورة القوت و ما لا بد منه من مسكن و ملبس فهو لله إن قصد منه وجه الله، و الاستكثار منه تنعم و هو لغير الله، و بين التنعم و الضرورة درجة يعبر عنها بالحاجة، و لها طرفان و واسطة، طرف يقرب من حد الضرورة فلا يضر فإن الاقتصار على حد الضرورة غير ممكن، و طرف تتاخم جانب التنعم و يقرب منه، و ينبغي أن يحذر، و بينهما وسائط متشابهة و من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه، و الحزم في الحذر و التقوى و التقرب حد الضرورة ما أمكن اقتداء بالأنبياء و الأولياء.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 251

ثم قال: اعلم أن الدنيا عبارة من أعيان موجودة و للإنسان فيها حظ و له في إصلاحها شغل، فهذه ثلاثة أمور قد يظن أن الدنيا عبارة عن آحادها و ليس كذلك أما الأعيان الموجودة التي الدنيا عبارة عنها فهي الأرض و ما عليها، قال الله تعالى:

" إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا" فالأرض فراش للآدميين و مهاد و مسكن و مستقر، و ما عليها لهم ملبس و مطعم و مشرب و منكح، و يجمع ما على الأرض ثلاثة أقسام: المعادن و النبات و الحيوان، أما المعادن فيطلبها الآدمي للآلات و الأواني كالنحاس و الرصاص، أو للنقد كالذهب و الفضة و لغير ذلك من المقاصد و أما النبات فيطلبها الآدمي للاقتيات و للتداوي، و أما الحيوان فينقسم إلى الإنسان و البهائم، أما البهائم فيطلب لحومها للمأكل و ظهورها للمركب و الزينة، و أما الإنسان فقد يطلب الآدمي أن يملك أبدان الناس ليستخدمهم و يستسخرهم كالغلمان، أو ليتمتع بهم كالجواري و النسوان، و يطلب قلوب الناس ليملكها فيغرس فيه التعظيم و الإكرام، و هو الذي يعبر عنه بالجاه، إذ معنى الجاه ملك قلوب الآدميين.

فهذه هي الأعيان التي يعبر عنها بالدنيا، و قد جمعها الله تعالى في قوله:" زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَ الْبَنِينَ" و هذا من الأنس" وَ الْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَ الْفِضَّةِ" و هذا من المعادن و الجواهر و فيه تنبيه على غيرها من اللئالي و اليواقيت" وَ الْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَ الْأَنْعامِ" و هي البهائم و الحيوانات" وَ الْحَرْثِ" و هو النبات و الزرع.

فهذه هي أعيان الدنيا إلا أن لها مع العبد علاقتين علاقة مع القلب، و هو حبه لها و حظه منها، و انصراف قلبه إليها، حتى يصير قلبه كالعبد، أو المحب المستهتر بالدنيا و يدخل في هذه العلاقة جميع صفات القلب المتعلقة بالدنيا كالكبر و الغل‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 252

و الحسد، و الرياء و السمعة و سوء الظن و المداهنة و حب الثناء و حب التكاثر و التفاخر فهذه هي الدنيا الباطنة و أما الظاهرة فهي الأعيان التي ذكرناها، و العلاقة الثانية مع البدن و هو اشتغاله بإصلاح هذه الأعيان ليصلح لحظوظه و حظوظ غيره و هي جملة الصناعات و الحرف التي الخلق مشغولون بها، و الخلق إنما تسعى أنفسهم و مالهم و منقلبهم لهاتين العلاقتين علاقة القلب بالحب و علاقة البدن بالشغل.

و لو عرف نفسه و عرف ربه و عرف حكمة الدنيا و سرها، علم أن هذه الأعيان التي سميتها دنيا لم تخلق إلا لعلف الدابة التي تسير بها إلى الله تعالى، و أعني بالدابة البدن فإنه لا يبقى إلا بمطعم و ملبس و مسكن، كما لا يبقى الإبل في طريق الحج إلا بعلف و ماء و جلال.

و مثال العبد في نسيانه نفسه و مقصده مثال الحاج الذي يقف في منازل الطريق و لا يزال يعلف الدابة و يتعهدها و ينظفها و يكسوها ألوان الثياب، و يحمل إليها أنواع الحشيش، و يبرد لها الماء بالثلج، حتى تفوته القافلة و هو غافل عن الحج و عن مرور القافلة، و عن بقائه في البادية، فريسة للسباع هو و ناقته، و الحاج البصير لا يهمه من أمر الجمل إلا القدر الذي يقوى به على المشي فيتعهده و قلبه إلى الكعبة و الحج و إنما يلتفت إلى الناقة بقدر الضرورة، فكذلك البصير في سفر الآخرة لا يشتغل بتعهد البدن إلا بالضرورة، كما لا يدخل الماء إلا للضرورة، و لا فرق بين إدخال الطعام في البدن و بين إخراجه من البطن، و أكثر ما شغل الناس عن الله البدن، فإن القوت ضروري و أمر الملبس و المسكن أهون، و لو عرفوا سبب الحاجة إلى هذه الأمور و اقتصروا عليها لم تستغرقهم أشغال الدنيا فإنما استغرقتهم لجهلهم بالدنيا و حكمتها و حظوظهم منها، و لكنهم جهلوا و غفلوا و تتابعت أشغال الدنيا و اتصلت بعضها ببعض، و تداعت إلى غير نهاية محدودة فتاهوا في كثرة الأشغال و نسوا مقصودها.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 253

و أما تفاصيل أشغال الدنيا و كيفية حدوث الحاجة إليها و انجرار بعضها إلى بعض فمما يطول ذكرها و خارج عن مقصود كتابنا.

و إذا تأملت فيها علمت أن الإنسان لاضطراره إلى القوت و المسكن و الملبس يحتاج إلى خمس صناعات، و هي الفلاحة لتحصيل النبات، و الرعاية لحفظ الحيوانات و استنتاجها، و الاقتناص لتحصيل ما خلق الله من صيد أو معدن أو حشيش أو حطب، و الحياكة للباس، و البناء للمسكن، ثم يحتاج بسبب ذلك إلى التجارة و الحدادة و الخرز أي إصلاح جلود الحيوانات و أجزائها، ثم لبقاء النوع إلى المنكح ثم إلى حفظ الولد و تربيته ثم لاجتماعهم إلى قرية يجتمعون فيها، ثم إلى قاض و حاكم يتحاكمون إليه، ثم إلى جند يحرسهم عن الأعادي ثم إلى خراج يعان به الجند ثم إلى عمال و خزان لذلك، ثم إلى ملك يدبرهم، و أمير مطاع و قائد على كل طائفة منهم.

فانظر كيف ابتداء الأمر من حاجة القوت و المسكن و الملبس و إلى ما ذا انتهى و هكذا أمور الدنيا لا يفتح منها باب إلا و ينفتح منها بسببه عشرة أبواب أخر و هكذا يتناهى إلى حد غير محصور، و كأنها هاوية لا نهاية لعمقها، و من وقع في مهواة منها سقط عنها إلى أخرى و هكذا على التوالي، فهذه هي الحرف و الصناعات، و يتفرع عليها أيضا بناء الحوانيت و الخانات للمتحرفة و التجار و جماعة يتجرون و يحملون الأمتعة من بلد إلى بلد، و يتفرع عليها الكراية و الإجارة، ثم يحدث بسبب البيوع و الإجارات و أمثالها الحاجة إلى النقدين لتقع المعاملة بهما فاتخذت النقود من الذهب و الفضة و النحاس، ثم مست الحاجة إلى الضرب و النقش و التقدير فحدث الحاجة إلى دار الضرب و إلى الصيارفة فهذه أشغال الخلق و هي معائشهم و شي‏ء من هذه الحرف لا يمكن مباشرته إلا بنوع تعلم و تعب في الابتداء.

و في الناس من يغفل عن ذلك في الصبا فلا يشتغل به أو يمنعه مانع فيبقى‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 254

عاجزا فيحتاج إلى أن يأكل مما سعى فيه غيره فتحدث فيه حرفتان خسيستان اللصوصية و الكدية، و للصوص أنواع و لهم حيل شتى في ذلك، و أما التكدي فله أسباب مختلفة، فمنهم من يطلب ذلك بالتمسخر و المحاكاة و الشعبذة و الأفعال المضحكة، و قد يكون بالأشعار مع النغمة أو غيرها في المدح، أو التعشق أو غيرهما، أو تسليم ما يشبه العوض و ليس بعوض كبيع التعويذات و الطلسمات، و كأصحاب القرعة و الفال و الزجر من المنجمين، و يدخل في هذا الجنس الوعاظ المتكدون على رؤوس المنابر.

فهذه هي أشغال الخلق و أعمالهم التي أكبوا عليها و جرهم إلى ذلك كله الحاجة إلى القوت و الكسوة، و لكن نسوا في أثناء ذلك أنفسهم و مقصودهم و منقلبهم و مالهم، فضلوا و تاهوا و سبق إلى عقولهم الضعيفة بعد أن كدرها زحمة أشغال الدنيا خيالات فاسدة، و انقسمت مذاهبهم و اختلفت آراؤهم على عدة أوجه.

فطائفة غلبت عليهم الجهل و الغفلة فلم ينفتح أعينهم للنظر إلى عاقبة أمرهم، فقالوا المقصود أن نعيش أياما في الدنيا فنجهد حتى نكسب القوت ثم نأكل حتى نقوى على الكسب ثم نكتسب حتى نأكل، فيأكلون ليكسبوا، و يكسبون ليأكلوا فهذه مذاهب المداحين و المتحرفين و من ليس لهم تنعم في الدنيا و لا قدم في الدين.

و طائفة أخرى زعموا أنهم تفطنوا للأمر و هو أن ليس المقصود أن يشقي الإنسان و لا يتنعم في الدنيا بل السعادة في أن يقضي وطره من شهوات الدنيا و هي شهوة البطن و الفرج، فهؤلاء طائفة نسوا أنفسهم و صرفوا همتهم إلى اتباع النسوان و جمع لذائذ الأطعمة، يأكلون كما تأكل الأنعام و يظنون أنهم إذا نالوا ذلك فقد أدركوا غايات السعادات، فيشغلهم ذلك عن الله و اليوم الآخر.

و طائفة ظنوا أن السعادة في كثرة المال و الاستغناء بكنز الكنوز، فأسهروا ليلهم و نهارهم في الجمع، فهم يتعبون في الأسفار طول الليل و النهار، يترددون‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 255

في الأعمال الشاقة و يكسبون و يجمعون و لا يأكلون إلا قدر الضرورة شحا و بخلا عليها أن تنقص، و هذه لذتهم و في ذلك دأبهم و حركتهم إلى أن يأتيهم الموت فيبقى تحت الأرض أو يظفر به من يأكله في الشهوات و اللذات، فيكون للجامع تعبها و وبالها و للآكل لذتها و حسابها.

ثم إن الذين يجمعون ينظرون إلى أمثال ذلك في أشباههم و أمثالهم فلا يعتبرون.

و طائفة زعموا أن السعادة في حسن الاسم و انطلاق الألسن بالثناء و المدح بالتجمل و المروة فهؤلاء يتعبون في كسب المعايش و يضيقون على أنفسهم في المطعم و يصرفون جميع مالهم إلى الملابس الحسنة و الدواب النفيسة، و يزخرفون أبواب الدور و ما يقع عليه أبصار الناس حتى يقال إنه غني و أنه ذو ثروة و يظنون أن ذلك هو السعادة، فهمتهم في ليلهم و نهارهم في تعهد موقع نظر الناس.

و طائفة أخرى ظنوا أن السعادة في الجاه و الكرامة بين الناس، و انقياد الخلق بالتواضع و التوقير، فصرفوا همتهم إلى استجرار الناس إلى الطاعة بطلب الولاية و تقلد الأعمال السلطانية لينفذوا أمرهم بها على طائفة من الناس، و يرون أنهم إذا اتسعت ولايتهم و انقادت لهم رعاياهم فقد سعدوا سعادة عظيمة، و أن ذلك غاية المطلب، و هذا أغلب الشهوات على قلوب المتغافلين من الناس، فهؤلاء شغلهم حب تواضع الناس لهم عن التواضع لله و عن عبادته، و عن التفكر في آخرتهم و معادهم. و وراء هذا طوائف يطول حصرها تزيد على نيف و سبعين فرقه كلهم ضلوا و أضلوا من سواء السبيل، و إنما جرهم إلى جميع ذلك حاجة المطعم و الملبس و المسكن فنسوا ما يراد له هذه الأمور الثلاثة، و القدر الذي يكفي منها و انجرت بهم أوائل أسبابها إلى أواخرها، و تداعت لهم إلى مبادئ لم يمكنهم الترقي منها،

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 256

فمن عرف وجه الحاجة إلى هذه الأسباب و الأشغال و عرف غاية المقصود منها فلا يخوض في شغل و حرفة و عمل إلا و هو عالم بمقصوده، و عالم بحظه و نصيبه منه، و أن غاية مقصوده تعهد بدنه بالقوت و الكسوة حتى لا يهلك.

و ذلك إن سلك فيه سبيل التقليل اندفعت الأشغال و فرغ القلب و غلب عليه ذكر الآخرة، و انصرف الهمة إلى الاستعداد له، و إن تعدى به قدر الضرورة كثرة الأشغال، و تداعى البعض إلى البعض و تسلسل إلى غير النهاية فتشعب به الهموم و من تشعب به الهموم في أودية الدنيا فلا يبال الله في أي واد أهلكه، فهذا شأن المنهمكين في أشغال الدنيا.

و تنبه لذلك طائفة فأعرضوا عن الدنيا فحسدهم الشيطان فلم يتركهم و أضلهم في الأغراض أيضا حتى انقسموا إلى طوائف، فظنت طائفة أن الدنيا دار بلاء و محنة و الآخرة دار سعادة لكل من وصل إليها، سواء تعبد في الدنيا أو لم يتعبد، فرأوا أن الصواب في أن يقتلوا أنفسهم للخلاص من محنة الدنيا، و إليه ذهب طوائف من عباد الهند فهم يتهجمون على النار و يقتلون أنفسهم بالإحراق، و يظنون أن ذلك خلاص منهم من سجن الدنيا.

و ظنت طائفة أخرى أن القتل لا يخلص بل لا بد أولا من إماتة الصفات البشرية و قلعها عن النفس بالكلية، و أن السعادة في قطع الشهوة و الغضب ثم أقبلوا على المجاهدة فشددوا حتى هلك بعضهم بشدة الرياضة، و بعضهم فسد عقله و جن، و بعضهم مرض و انسدت عليه طرق العبادة، و بعضهم عجز عن قمع الصفات بالكلية، فظن أن ما كلفه الشرع محال، و أن الشرع تلبيس لا أصل له، فوقع في الإلحاد و الزندقة.

و ظهر لبعضهم أن هذا التعب كله لله، و أن الله مستغن عن عبادة العباد، لا ينقصه عصيان عاص و لا يزيده عبادة عابد، فعادوا إلى الشهوات و سلكوا مسالك الإباحة

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 257

فطووا بساط الشرع و الأحكام، و زعموا أن ذلك من صفاء توحيدهم حيث اعتقدوا أن الله مستغن عن عبادة العباد.

و ظن طائفة أخرى أن المقصود من العبادات المجاهدة حتى يصل العبد بها إلى معرفة الله سبحانه، فإذا حصلت المعرفة فقد وصل، و بعد الوصال يستغني عن الوسيلة و الحيلة، فتركوا السعي و العبادة و زعموا أنه ارتفع محلهم في معرفة الله سبحانه سبحانه أن يمتحنوا بالتكاليف، و إنما التكليف على عوام الخلق.

و وراء هذا مذاهب باطلة و ضلالة هائلة و خيالات فاسدة يطول إحصاؤها إلى أن يبلغ نيفا و سبعين فرقة، و إنما الناجي منها فرقة واحدة و هي السالكة ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم و أصحابه، و هو أن لا يترك الدنيا بالكلية و لا يقمع الشهوات بالكلية أما الدنيا فيأخذ منها قدر الزاد، و أما الشهوات فيقمع منها ما يخرج عن طاعة الشرع و العقل فلا يتبع كل شهوة و لا يترك كل شهوة، بل يتبع العدل، و لا يترك كل شي‏ء من الدنيا و لا يطلب كل شي‏ء من الدنيا، بل يعلم مقصود كل ما خلق من الدنيا و يحفظه على حد مقصوده، فيأخذ من القوت ما يقوى به البدن على العبادة، و من المسكن ما يحفظ به من اللصوص و الحر و البرد، و من الكسوة كذلك حتى إذا فرغ القلب من شغل البدن أقبل على الله بكنه همه، و اشتغل بالذكر و الفكر طول العمر، و بقي ملازما لسياسة الشهوات، و مراقبا لها حتى لا يجاوز حدود الورع و التقوى.

و لا يعلم تفصيل ذلك إلا بالاقتداء بالفرقة الناجية الذين صحت عقائدهم و اتبعوا الرسول و الأئمة الهدى صلوات الله عليهم في أقوالهم و أفعالهم، فإنهم ما كانوا يأخذون الدنيا للدنيا، بل للدين، و ما كانوا يترهبون و يهجرون الدنيا بالكلية و ما كان لهم في الأمور تفريط و لا إفراط بل كانوا بين ذلك قواما، و ذلك هو العدل‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 258

و الوسط بين الطرفين و هو أحب الأمور إلى الله تعالى و الله المستعان.

باب الطمع‏

 (1)

 (الحديث الأول)

 (2): ضعيف.

و" ما أقبح"

 (3) صيغة تعجب‏

" و أن تكون"

 (4) مفعوله، و المراد

الرغبة

 (5) إلى الناس بالسؤال عنهم، و هي التي تصير سببا للمذلة، و أما الرغبة إلى الله فهي عين العزة و الصفة تحتمل الكاشفة و الموضحة.

 (الحديث الثاني)

 (6): مرسل.

و لعل المراد

بالطمع‏

 (7) ما في القلب من حب ما في أيدي الناس و أمله، و بالرغبة إظهار ذلك، و السؤال و الطلب من المخلوق يناسب الأول، كما أن الذلة تناسب الثاني.

 (الحديث الثالث)

 (8): ضعيف.

" رأيت الخير كله"

 (9) أي الرفاهية و خير الدنيا و سعادة الآخرة، لأن الطمع يورث الذل و الحقارة و الحسد و الحقد و العداوة و الغيبة و الوقيعة و ظهور الفضائح و الظلم و المداهنة و النفاق و الرياء و الصبر على باطل الخلق و الإعانة عليه و عدم التوكل‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 259

على الله و التضرع إليه و الرضا بقسمته و التسليم لأمره، إلى غير ذلك من المفاسد التي لا تحصى، و قطع الطمع يورث أضداد هذه الأمور التي كلها خيرات.

 (الحديث الرابع)

 (1): مرسل.

و الورع‏

 (2) اجتناب المحرمات و الشبهات و في المقابلة إشعار بأن الطمع يستلزم ارتكابهما.

باب الخرق‏

 (3)

 (الحديث الأول)

 (4): مرسل.

و الظاهر أن‏

الخرق‏

 (5) عدم الرفق في القول و الفعل، في القاموس: الخرق بالضم و التحريك ضد الرفق، و أن لا يحسن الرجل العمل و التصرف في الأمور، و الحمق و في النهاية: فيه الرفق يمن و الخرق شؤم، الخرق بالضم: الجهل و الحمق، انتهى.

و إنما كان الخرق مجانبا للإيمان لأنه يؤذي المؤمنين، و المؤمن من أمن المسلمون من يده و لسانه، و لأنه لا يتهيأ له طلب العلم الذي به كمال الإيمان، و هو مجانب لكثير من صفات المؤمنين كما مر، ثم أنه إنما يكون مذموما إذا أمكن الرفق و لم ينته إلى حد المداهنة في الدين، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 260

و أرفق ما كان الرفق أرفق، و اعتزم بالشدة حين لا يغني عنك، أي الرفق أو إلا الشدة.

 (الحديث الثاني)

 (1): ضعيف.

باب سوء الخلق‏

 (2)

 (الحديث الأول)

 (3): حسن كالصحيح.

و سوء الخلق‏

 (4) وصف للنفس يوجب فسادها و انقباضها و تغيرها على أهل الخلطة و المعاشرة، و إيذائهم بسبب ضعيف أو بلا سبب، و رفض حقوق المعاشرة و عدم احتمال ما لا يوافق طبعه منهم، و قيل: هو كما يكون مع الخلق يكون مع الخالق أيضا، بعدم تحمل ما لا يوافق طبعه من النوائب، و الاعتراض عليه، و مفاسده و آفاته في الدنيا و الدين كثيرة، منها: أنه‏

يفسد العمل‏

 (5) بحيث لا يترتب عليه ثمرته المطلوبة منه‏

" كما يفسد الخل العسل"

 (6) و هو تشبيه المعقول بالمحسوس، و إذا أفسد العمل أفسد الإيمان كما سيأتي.

 (الحديث الثاني)

 (7): ضعيف على المشهور.

و الآباء

 (8) بالتوبة يحتمل الإباء بوقوعها و الإباء بقبولها، و السائل سأل عن حاله‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 261

و سببه، مع أن باب التوبة مفتوح للمذنبين، و الله عز و جل يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ و الجواب أن الخلق السي‏ء يمنع صاحبه من التوبة، و من البقاء عليها لو تاب، حتى إذا تاب من ذنب وقع عقبه في ذنب أعظم منه، لأن ذلك الخلق إذا لم يعالج يعظم و يشتد يوما فيوما، فالذنب الآخر أعظم من الأول، و إنما يتحقق تخلصه بمعالجة هذه الرذيلة بمعالجات علمية و عملية، كما هو المعروف في معالجة سائر الصفات الذميمة، و قيل: كونه أعظم لأن نقض التوبة ذنب مقرون بذنب آخر، و هما أعظم من الأول و له وجه، و لكن الأول أظهر.

 (الحديث الثالث)

 (1): مرسل و قد مر.

 (الحديث الرابع)

 (2): ضعيف.

" عذب نفسه"

 (3) لأن نفسه منه في تعب، إذ هيجان الغضب و الحركات الروحانية و الجسمانية مما يضر ببدنه و روحه، و يندم عما فعل بعد سكون الغضب و يلوم نفسه و أيضا لا يتحمل الناس منه ذلك غالبا و يؤذونه و يهجرون عنه، و لا يعينونه في شي‏ء، و لما كان هو الباعث لذلك كأنه عذب نفسه.

ثم اعلم أنه يمكن أن يكون المراد بهذا الخبر و أشباهه مطلق الأخلاق السيئة كالكبر و الحسد و الحقد و أشباهها، فإنها كلها مما يوقع الإنسان في المفاسد العظيمة الدنيوية أيضا، و يورث ضعف الإيمان و نقص الأعمال، و قد أول بعض‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 262

المحققين قوله تعالى:" وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ" بذلك.

 (الحديث الخامس)

 (1): ضعيف على المشهور.

باب السفه‏

 (2)

 (الحديث الأول)

 (3): ضعيف.

و السفه‏

 (4) خفة العقل، و المبادرة إلى سوء القول و الفعل بلا روية، و في النهاية السفه في الأصل الخفة و الطيش، و سفه فلان رأيه إذا كان مضطربا لا استقامة له، و السفيه الجاهل، و في القاموس: السفه محركة خفة الحلم أو نقيضه، أو الجهل و سفه- كفرح و كرم- علينا جهل كتسافه، فهو سفيه، و الجمع سفهاء و سافهه شاتمه و سفه صاحبه كنصر غلبه في المسافهة، انتهى.

و قوله: خلق لئيم‏

 (5) بضم الخاء و جر لئيم بالإضافة فالوصفان بعده للئيم، و يمكن أن يقرأ لئيم بالرفع على التوصيف فيمكن أن يقرأ بكسر الفاء و فتحها و ضم الخاء و فتحها، فالإسناد على أكثر التقادير في الأوصاف على التوسع و المجاز، أو يقدر مضاف في السفه على بعض التقادير، أو فاعل‏

لقوله: يستطيل‏

 (6) أي صاحبه فتفطن.

و قيل: السفه قد يقابل الحكمة الحاصلة بالاعتدال في القوة العقلية، و هو

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 263

وصف للنفس يبعثها على السخرية و الاستهزاء و الاستخفاف و الجزع و التملق و إظهار السرور عند تألم الغير و الحركات الغير المنتظمة، و الأقوال و الأفعال التي لا تشابه أقوال العقلاء و أفعالهم، و منشأه الجهل و سخافة الرأي، و نقصان العقل، و قد يقابل الحلم بالاعتدال في القوة الغضبية، و هو وصف للنفس يبعثها على البطش و الضرب و الشتم و الخشونة، و التسلط و الغلبة و الترفع و منشأه الفساد في تلك القوة، و ميلها إلى طرف الإفراط، و لا يبعد أن ينشأ من فساد القوة الشهوية أيضا انتهى.

و أقول: الظاهر أن المراد به مقابل الحلم كما مر في حديث جنود العقل و الجهل.

 (الحديث الثاني)

 (1): مرسل.

" لا تسفهوا"

 (2) نقل عن المبرد و تغلب أن سفه بالكسر متعد، و بالضم لازم فإن كسرت الفاء هنا كان المفعول محذوفا، أي لا تسفهوا أنفسكم، و الخطاب للشيعة كلهم، و الغرض من التعليل هو الترغيب في الأسوة، و كأنه تنبيه على أنكم إن سفهتم نسب من خالفكم السفه إلى أئمتكم كما ينسب الفعل إلى المؤدب.

" و قال"

 (3) الظاهر أنه من تتمة الخبر السابق و يحتمل أن يكون خبرا آخر مرسلا.

" من كافأ"

 (4) يستعمل بالهمزة و بدونها، و الأصل الهمزة

" بما أتى إليه"

 (5) على بناء المجرد، أي جاء إليه من قبل خصمه، فالمستتر راجع إلى الموصول، أو التقدير أتى به إليه، فالمستتر للخصم، و في المصباح أنه يأتي متعديا، و قد يقرأ آتى على بناء الأفعال أو المفاعلة

" حيث احتذى"

 (6) تعليل للرضا، و في القاموس: احتذى مثاله‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 264

اقتدى به، و فيه ترغيب في ترك مكافأة السفهاء كما قال تعالى:" وَ إِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً".

 (الحديث الثالث)

 (1): حسن كالصحيح.

" البادي منهما أظلم"

 (2) أي إن صدر الظلم عن صاحبه أيضا فهو أشد ظلما لابتدائه أو لما كان فعل صاحبه في صورة الظلم أطلق عليه الظلم مجازا

" ما لم يتعد المظلوم"

 (3) سيأتي الخبر في باب السباب باختلاف في أول السند، و فيه ما لم يعتذر إلى المظلوم، و على ما هنا كان المعنى ما لم يتعد المظلوم ما أبيح له من مقابلته، فالمراد بوزر صاحبه الوزر التقديري، و يؤيد ما هنا ما رواه مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال: المتسابان ما قالا فعلى البادي ما لم يعتد المظلوم، قال الطيبي: أي الذين يشتمان كل منهما الآخر، و" ما" شرطية أو موصولة، فعلى البادي، جزاء أو خبر أي إثم ما قالا على البادي إذا لم يعتد المظلوم، فإذا تعدى يكون عليهما، انتهى و قال الراوندي (ره) في شرح هذا الخبر في ضرير الشهاب:

السب‏

 (4) الشتم القبيح و سميت الإصبع التي تلي الإبهام سبابة لإشارتها بالسب كما سميت مسبحة لتحريكها في التسبيح، يقول صلى الله عليه و آله و سلم: إن ما يتكلم به المتسابان ترجع عقوبته على البادي، لأنه السبب في ذلك، و لو لم يفعل لم يكن، و لذلك قيل: البادي أظلم و الذي يجيب ليس بملوم كل الملامة، كما قال تعالى:" وَ لَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ" على أن الواجب على المشتوم أن يحتمل و يحلم و لا يطفئ النار بالنار، فإن النارين إذا اجتمعا كان أقوى لهما فيقول تغليظا لأمر

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 265

الشاتم أن ما يجري بينهما من التشاتم عقوبته تركب البادي لكونه سببا لذلك، هذا إذا لم يتجاوز المظلوم حده في الجواب، فإذا تجاوز و تعدى كانا شريكين في الوزر و الوبال، و الكلام وارد مورد التغليظ و إلا فالمشتوم ينبغي أن لا يجيب و لا يزيد في الشر و لا تكون عقوبة فعل المشتوم على الشاتم، إن للشاتم في فعله أيضا نصيبا من حيث كان سببه، و إلا فكل مأخوذ بفعله، انتهى.

و أقول: الحاصل أن أثم سباب المتسابين على البادي، أما إثم ابتدائه فلان السب حرام و فسق لحديث سباب المؤمن فسق، و قتاله كفر، و أما إثم سب الراد فلأن البادي هو الحامل له على الرد، و إن كان منتصرا فلا إثم على المنتصر، لقوله تعالى:" وَ لَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ" الآية، لكن الصادر منه هو سب يترتب عليه الإثم، إلا أن الشرع أسقط عنه المؤاخذة، و جعلها على البادي للعلة المتقدمة، و إنما أسقطها منه ما لم يتعد فإن تعدى كان هو البادي في القدر الزائد، و التعدي بالرد قد يكون بالتكرار مثل أن يقول البادي يا كلب، فيرد عليه مرتين، و قد يكون بالأفحش كما لو قال له: يا سنور، فيقول في الرد: يا كلب، و إنما كان هذا تعديا لأن الرد بمنزلة القصاص، و القصاص إنما يكون بالمثل، ثم الراد أسقط حقه على البادي، و يبقى على البادي حق الله لقدومه على ذلك.

و لا يبعد تخصيص تحمل البادي إثم الراد بما إذا لم يكن الرد كذبا و الأول قذفا فإنه إذا كان الرد كذبا مثل أن يقول البادي: يا سارق و هو صادق فيقول الراد: بل أنت سارق و هو كاذب، أو يكون الأول قذفا مثل أن يقول البادي يا زاني فيقول الراد: بل أنت الزاني، فالظاهر أن إثم الرد على الراد، و بالجملة إنما يكون الانتصار إذا كان السب مما تعارف السب به عند التأديب كالأحمق‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 266

و الجاهل و الظالم و أمثالها، فأمثال هذه إذا رد بها لا إثم على الراد و يعود إثمه على البادي.

و أقول: الآيات و الأخبار الدالة على جواز المعارضة بالمثل كثيرة، فمن الآيات قوله تعالى:" فَمَنِ اعْتَدى‏ عَلَيْكُمْ" قال الطبرسي رحمه الله: أي ظلمكم" فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى‏ عَلَيْكُمْ" أي فجازوه باعتدائه و قابلوه بمثله، و الثاني ليس باعتداء على الحقيقة، و لكن سماه اعتداء لأنه مجازاة اعتداء و جعله مثله و إن كان ذلك جورا و هذا عدلا، لأنه مثله في الجنس، و في مقدار الاستحقاق، و لأنه ضرر كما أن ذلك ضرر فهو مثله في الجنس و المقدار و الصفة، و قال: و فيها دلالة على أن من غصب شيئا و أتلفه يلزمه رد مثله.

ثم إن المثل قد يكون من طريق الصورة في ذوات الأمثال، و من طريق المعنى كالقيامة فيما لا مثل له، و قال المحقق الأردبيلي قدس سره: و اتقوا الله باجتناب المعاصي فلا تظلموا و لا تمنعوا عن المجازاة، و لا تتعدوا في المجازاة عن المثل و العدل و حقكم. ففيها دلالة على تسليم النفس و عدم المنع عن المجازاة و القصاص، و على وجوب الرد على الغاصب المثل أو القيمة، و تحريم المنع و الامتناع عن ذلك، و جواز الأخذ بل وجوبه إذا كان تركه إسرافا فلا يترك إلا أن يكون حسنا، و تحريم التعدي و التجاوز عن حده بالزيادة صفة أو عينا، بل في الأخذ بطريق يكون تعديا و لا يبعد أيضا جواز الأخذ خفية أو جهرة من غير رضاه على تقدير امتناعه من الإعطاء كما قاله الفقهاء من طريق المقاصة. و لا يبعد عدم اشتراط تعذر إثباته عند الحاكم، بل على تقدير الإمكان أيضا و لا إذنه بل يستقل، و كذا في غير المال من الأذى فيجوز الأذى بمثله من غير إذن الحاكم و إثباته عنده، و كذا القصاص إلا أن يكون جرحا لا يجري فيه القصاص أو ضربا لا يمكن‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 267

حفظ المثل، أو فحشا لا يجوز القول و التلفظ به مما يقولون بعدم جوازه مطلقا، مثل الرمي بالزنا، و يدل عليه أيضا قوله سبحانه:" وَ إِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ" قال في المجمع: قيل: نزلت لما مثل المشركون بقتلي أحد و حمزة رضي الله عنهم و قال المسلمون: لئن أمكننا الله لنمثلن بالأحياء فضلا عن الأموات، و قيل: إن الآية عامة في كل ظلم كغصب أو نحوه، فإنما يجازى بمثل ما عمل" وَ لَئِنْ صَبَرْتُمْ" أي تركتم المكافاة و القصاص و جرعتم مرارته" لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ".

و يدل عليه أيضا قوله سبحانه:" وَ الَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ" في المجمع أي ممن بغى عليهم من غير أن يعتدوا، و قيل: جعل الله المؤمنين صنفين صنف يعفون في قوله:" وَ إِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ" و صنف ينتصرون ثم ذكر تعالى حد الانتصار فقال:" وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها" قيل: هو جواب القبيح إذا قال أخزاك الله تقول أخزاك الله من غير أن تعتدي، و قيل: يعني القصاص في الجراحات و الدماء، و سمي الثانية سيئة على المشاكلة" فَمَنْ عَفا وَ أَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ" أي فمن عفا عما له المؤاخذة به و أصلح أمره فيما بينه و بين ربه فثوابه على الله" إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ، وَ لَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ" معناه من انتصر لنفسه و انتصف من ظالمه بعد ظلمه أضاف الظلم إلى المظلوم، أي بعد أن ظلم و تعدى عليه فأخذ لنفسه بحقه، فالمنتصرون ما عليهم من إثم و عقوبة و ذم" إِنَّمَا السَّبِيلُ" أي الإثم و العقاب" عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ" الناس ابتداء" وَ

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 268

يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ" أي مؤلم" وَ لَمَنْ صَبَرَ" أي تحمل المشقة في رضا الله" وَ غَفَرَ" له فلم ينتصر" إِنَّ ذلِكَ" الصبر و التجاوز" لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ" أي من ثابت الأمور التي أمر الله بها فلم تنسخ.

و قيل: عزم الأمور هو الأخذ بأعلاها في باب نيل الثواب.

و قال المحقق الأردبيلي قدس الله روحه بعد ذكر بعض تلك الآيات: فيها دلالة على جواز القصاص في النفس و الطرف و الجروح، بل جواز التعويض مطلقا حتى ضرب المضروب و شتم المشتوم بمثل فعلهما، فيخرج ما لا يجوز التعويض و القصاص فيه مثل كسر العظام و الجرح و الضرب في محل الخوف و القذف و نحو ذلك، و بقي الباقي، و أيضا تدل على جواز ذلك من غير إذن الحاكم و الإثبات عنده و الشهود و غيرها، و تدل على عدم التجاوز عما فعل به و تحريم الظلم و التعدي و على حسن العفو و عدم الانتقام و أنه موجب للأجر العظيم، انتهى.

و أقول: ربما يشعر كلام بعض الأصحاب بعدم جواز المقابلة و أنه أيضا يستحق التعزير كما مر في كلام الراوندي، و قال الشهيد الثاني (ره) عند شرح قول المحقق: قيل: لا يعزر الكافر مع التنابز بالألقاب و التعيير بالأمراض إلا أن يخشى حدوث فتنة فيحسمها الإمام بما يراه القول بعدم تعزيرهم على ذلك، مع أن المسلم يستحق التعزير به هو المشهور بين الأصحاب، بل لم يذكر كثير منهم فيه خلافا، و كان وجهه تكافؤ السبب و الهجاء من الجانبين كما يسقط الحد عن المسلمين بالتقاذف لذلك، و لجواز الإعراض عنهم في الحدود و الأحكام فهنا أولى، و نسب القول إلى القيل مؤذنا بعدم قبوله، و وجهه أن ذلك فعل محرم يستحق فاعله التعزير، و الأصل عدم سقوطه بمقابلة الآخر بمثله، بل يجب على كل منهما ما اقتضاه فعله، فسقوطه يحتاج إلى دليل كما يسقط عن المتقاذفين بالنص، انتهى.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 269

و لا يخفى عليك ضعفه بعد ما ذكرنا، و أما رواية أبي مخلد السراج عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قضى أمير المؤمنين في رجل دعا آخر ابن المجنون فقال له الآخر:

أنت ابن المجنون، فأمر الأول أن يجلد صاحبه عشرين جلدة، و قال له: اعلم أنك ستعقب مثلها عشرين، فلما جلده أعطى المجلود الشوط فجلده عشرين نكالا ينكل بهما، فيمكن أن يكون لذكر الأب، و شتمه لا المواجه، فتأمل.

 (الحديث الرابع)

 (1): ضعيف على المشهور، و كأنه بالبابين الآتيين لا سيما الثاني أنسب و إنما ذكره هنا لأن مبدء ذلك السفه.

باب البذاء

 (2)

 (الحديث الأول)

 (3): موثق كالصحيح.

و الشرك‏

 (4) بالكسر مصدر شركته في الأمر من باب علم إذا صرت له شريكا فيه، و الظاهر أنه إضافة إلى الفاعل، و قال الشيخ في الأربعين: هو بمعنى اسم المفعول أو اسم الفاعل أي مشاركا فيه مع الشيطان، أو مشاركا فيه الشيطان و سيأتي معناه" الذي لا شك فيه" و في بعض النسخ‏

" لا يشك فيه"

 (5) على بناء المجهول و كان المعنى أن أقل ما يكون فيه من رداءة الطينة أن يكون شرك الشيطان فيه عند جماع والده إذ قد يضم إلى ذلك أن يكون ولد زناء كما سيأتي، أو يكون المراد تأكيد كون‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 270

ذلك من علامات شرك الشيطان، و

الفحاش‏

 (1) من يبالغ في الفحش و يعتاد به، و هو القول السي‏ء.

 (الحديث الثاني)

 (2): حسن كالصحيح.

" لغية"

 (3) اللام للملكية المجازية، و هي بالفتح الزنا، قال الجوهري: يقال فلان لغية و هو نقيض قولك لرشدة، و قال الفيروزآبادي: ولد غية و يكسر زنية، و من الغرائب أن الشيخ البهائي قدس سره قال في الأربعين: يحتمل أن يكون بضم اللام و إسكان الغين المعجمة و فتح الياء المثناة من تحت، أي ملغى، و الظاهر أن المراد به المخلوق من الزنا، و يحتمل أن يكون بالعين المهملة المفتوحة أو الساكنة و النون أي من دأبه أن يلعن الناس أو يلعنوه.

قال في كتاب أدب الكاتب: فعلة بضم الفاء و إسكان العين من صفات المفعول، و بفتح العين من صفات الفاعل يقال: رجل همزة للذي يهزأ به، و همزة لمن يهزأ بالناس، و كذلك لعنة و لعنة، انتهى كلامه.

لكنه قدس سره تفطن لذلك بعد انتشار النسخ و كتب ما ذكرنا في الحاشية على سبيل الاحتمال.

 (الحديث الثالث)

 (4): مختلف فيه و معتبر عندي.

" إن الله حرم الجنة"

 (5) قال الشيخ البهائي روح الله روحه: لعله صلى الله عليه و آله و سلم أراد أنها محرمة عليهم زمانا طويلا، لا محرمة تحريما مؤبدا، أو المراد جنة خاصة

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 271

معدة لغير الفحاش، و إلا فظاهره مشكل، فإن العصاة من هذه الأمة مالهم إلى الجنة و إن طال مكثهم في النار

" بذي"

 (1) بالباء التحتانية الموحدة المفتوحة و الذال المعجمة المكسورة و الياء المشددة من البذاء بالفتح و المد بمعنى الفحش‏

" قليل الحياء"

 (2) إما أن يراد به معناه الظاهري أو يراد عديم الحياء كما يقال: فلان قليل الخير أي عديمه.

ثم قال رحمه الله: قال المفسرون في قوله:" وَ شارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَ الْأَوْلادِ" إن مشاركة الشيطان لهم في الأموال حملهم على تحصيلها و جمعها من الحرام، و صرفها فيما لا يجوز و بعثهم على الخروج في إنفاقها عن حد الاعتدال، إما بالإسراف و التبذير أو البخل و التقتير، و أمثال ذلك.

و أما المشاركة لهم في الأولاد فحثهم على التوصل إليها بالأسباب المحرمة من الزنا و نحوه أو حملهم على تسميتهم إياهم بعبد العزى و عبد اللات أو تضليل الأولاد بالحمل على الأديان الزائفة و الأفعال القبيحة، و هذا كلام المفسرين، و قد روى الشيخ الطوسي في تهذيب الأحكام عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام في العمل عند إرادة التزويج و ساق الحديث إلى أن قال: فإذا دخلت عليه فليضع يده على ناصيتها و يقول: اللهم على كتابك تزوجتها و بكلماتك استحللت فرجها، فإن قضيت في رحمها شيئا فاجعله مسلما سويا و لا تجعله شرك شيطان، قلت: و كيف يكون شرك شيطان؟ فقال لي: إن الرجل إذا دنى من المرأة و جلس مجلسه حضره الشيطان فإن هو ذكر اسم الله تنحى الشيطان عنه، و إن فعل و لم يسم أدخل الشيطان‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 272

ذكره فكان العمل منهما جميعا، و النطفة واحدة، قلت: فبأي شي‏ء يعرف هذا؟ قال:

بحبنا و ببغضنا.

و هذا الحديث يعضد ما قاله المتكلمون من أن الشياطين أجسام شفافة تقدر على الولوج في بواطن الحيوانات، و يمكنها التشكل بأي شكل شائت، و به يضعف ما قاله بعض الفلاسفة من أنها النفوس الأرضية المدبرة للعناصر أو النفوس الناطقة الشريرة التي فارقت أبدانها و حصل لها نوع تعلق و ألفه بالنفوس الشريرة المتعلقة بالأبدان، فتمدها و تعينها على الشر و الفساد، انتهى كلامه زيد إكرامه.

" و سأل رجل فقيها"

 (1) الظاهر أنه كلام بعض الرواة من أصحاب الكتب كسليم أو البرقي، فالمراد بالفقيه أحد الأئمة عليهم السلام و كونه كلام الكليني أو أمير المؤمنين أو الرسول صلوات الله عليهما بعيد، و الأخير أبعد و السؤال مبني على أنه لا يوجد غالبا من لا يتأثر من الفحش و سوء القول فيه بالجد، و إن كان في بعض الأجامرة من يتشاتم بالهزل، و الجواب مبني على أن الرضا بالسبب يتضمن الرضا بالمسبب مع العلم بالسببية، أو على أنه من لا يعمل بمقتضى صفة شاع أنه تنفي عنه تلك الصفة كما أن من لا يعمل بعلمه يقال له ليس بعالم كما قيل و ما قلنا أظهر، و لا يبعد أن يكون غرض السائل ندرة هذا الفرد، فالمراد بالجواب أنه شامل لهذا الفرد أيضا و هو في الناس كثير.

 (الحديث الرابع)

 (2): ضعيف.

و قال الجزري فيه:

أن الله يبغض الفاحش المتفحش‏

 (3)، الفاحش ذو الفحش في‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 273

كلامه و فعاله، و المتفحش الذي يتكلف ذلك و يتعمده، و قد تكرر ذكر الفحش و الفاحشة و الفواحش في الحديث، و هو كل ما يشتد قبحه من الذنوب و المعاصي و كثيرا ما ترد الفاحشة بمعنى الزنا، و كل خصلة قبيحة فهي فاحشة من الأقوال و الأفعال، انتهى.

و أقول: يحتمل أن يكون المراد بالمتفحش المتسبب لفحش غيره له، أو القابل له الذي لا يبالي به كما مر.

 (الحديث الخامس)

 (1): مجهول و آخره مرسل.

و الحذاء

 (2) ككتاب النعل، و الحذاء بالتشديد صانعها.

و الخبر يدل على أمور: الأول: يومئ إلى أن ابن الفاعلة قذف، و ظاهر الأصحاب عدمه لعدم الصراحة، لكن الخبر ليس بصريح في ذلك، إذ الشتم الشامل على التعريض بالزنا أمر قبيح يمكن أن يعد من الكبائر و إن لم يكن موجبا للحد، مع أنه قذف للأم و هي كانت مشركة فلا يوجب الحد لذلك أيضا، لكنه إيذاء للمواجه، و ظاهر كثير من الأخبار أن ابن الفاعلة قذف، و لعله لكونه في عرفهم صريحا في ذلك كما قال بعضهم في ولد الحرام، و سيأتي القول في ذلك في كتاب الحدود إن شاء الله.

الثاني: أن هذا القول المستند إلى الجهل لا يعذر قائله به.

الثالث: أنه لا يجوز أن يقال ذلك لأحد من أفراد الإنسان إلا مع القطع بأنه‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 274

متولد من الزنا، بل مع القطع أيضا إذا لم يثبت عند الحاكم.

الرابع: رجحان هجران الفاسق و إن كان قريبا أو صديقا، و قيل: إنما فارقه عليه السلام إلى آخر العمر لأنه كان فاسقا في مدة عمره إذ هذا الذنب لكونه من حق الأم لا يدفعه إلا الحد بعد طلبها أو العفو و شي‏ء منهما لم يقع، و لم يكن مقدورا.

و أقول: يمكن أن يكون عليه السلام علم أنه مصر على هذا الأمر و لم يتب منه.

الخامس: أن نكاح كل قوم صحيح يترتب عليه أحكام العقد الصحيح، بل لا- يحتاج إلى التجديد بعد الإسلام كما هو ظاهر الأصحاب، و تنوين ورعا للتعظيم، و ورع للتحقير و يقال حجزه كضربه و نصره منعه و كفه فانحجز و احتجز.

 (الحديث السادس)

 (1): حسن كالصحيح.

" لو كان مثالا"

 (2) أي ذا شكل و صورة

" مثال سوء"

 (3) بالفتح أي مثالا يسوء الإنسان رؤيته.

 (الحديث السابع)

 (4): صحيح.

و يحتمل أن يكون المراد

بالقرب‏

 (5) و

البعد

 (6) المكانيين و لا يكون ذلك من جهة

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 275

أنه اعتقد أن الله جسم له مكان حتى يكون كافرا، و يكون سببية هذا لعدم الإجابة أقرب من سببية تلك الصفات، بل لأنه قد يجري مثل ذلك على اللسان عند الاضطرار من غير قصد إلى ما يستلزمه، فالسماع و عدمه أيضا بمعناهما، و يمكن أن يكون المراد القرب و البعد المعنويين، و

بعدم السماع‏

 (1) عدم الالتفات المبتني على عدم الرضا، و

بعدم الإجابة

 (2) التأخير الذي سببه المصلحة مع الرضا، و إنما نسب القرب إليه تعالى و البعد إلى نفسه للتنبيه على أن البعد إذا تحقق كان من جانب العبد، و القرب إن تحقق كان من فضله عز و جل، لأن العبد و إن بلغ الغاية في إخلاص العبودية كان مقصرا و لا يستحق الثواب و القرب إلا بفضله و كرمه، و

البذي‏

 (3) على فعيل: الفحاش، و في المغرب‏

العاتي‏

 (4) الجبار الذي جاوز الحد في الاستكبار، و

التقوى‏

 (5) التنزه من رذائل الأعمال و الأخلاق، بل عما يشغل القلب عن الحق، و النية الصادقة توجه القلب إلى الله سبحانه وحده، و انبعاث النفس نحو الطاعة غير ملحوظ فيه، سوى وجه الله، و ما في هذا الخبر أحد الوجوه في دفع شبهة وعده سبحانه الاستجابة مع تخلفها في كثير من الموارد.

و الحاصل أن الوعد مشروط بشروط: منها: اجتناب المعاصي و بعض الأخلاق الرذيلة و الإخلاص في النية، فإن قلت: هذا ينافي ما ورد في بعض الأخبار من أن دعاء الفاسق أسرع إجابة لكراهة استماع صوته؟ قلت: يحتمل أن لا تكون سرعة الإجابة كلية، أو يقال سرعة الإجابة مختصة بمن كان مبغوضا لذاته، و أما من كان محبوبا بذاته و مبغوضا بفعله فربما تبطئ الإجابة نظرا إلى الأول، و ربما تسرع نظرا

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 276

إلى الثاني، و قد يكون البطؤ نظرا إلى الثاني لا لكراهة الاستماع، بل لغرض آخر نحو زجره عن القبائح كما في هذا الرجل.

 (الحديث الثامن)

 (1): موثق.

" من تكره"

 (2) هو الذي عرف بالفحش من القول و اشتهر به لما يجري على لسانه من أنواع البذاء، و يمكن أن يقرأ تكره على بناء الخطاب و بناء الغيبة على المجهول.

 (الحديث التاسع)

 (3): ضعيف على المشهور صحيح عندي.

و في الصحاح‏

الجفاء

 (4) ممدود خلاف البر، و في القاموس رجل جافي الخلقة كز غليظ، انتهى.

و الحاصل أن البذي و الفحش في القول من الجفاء، أي خلاف الآداب أو خلاف البر و الصلة و

" من"

 (5) إما للتبعيض أو الابتداء، أي ناش من الجفاء و غلظة الطبع و الإعراض عن الحق.

" و الجفاء في النار"

 (6) أي يوجب استحقاق النار، و روي في الشهاب عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم البذاء من الجفاء، و قال الراوندي (ره) في الضوء: البذاء الفحش و خبث اللسان، و قد بذؤ الرجل يبذؤ بذوا، و أصله بذاوة فحذفت الهاء كما قالوا جمل جمالا، و فلان بذي اللسان، و امرأة بذية، و الجفاء ضد البر و أصله من البعد، يقول صلى الله عليه و آله و سلم: إن الإفحاش و إسماع المكروه و الإجراء إلى أعراض الناس بقبيح المقال من الجفاء المولم، و ما كل جفاء بضم الجيوب و إيلام الجنوب، فربما كان جفاء

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 277

اللسان أوجع و مضضه أفجع، و قد قيل:

         جراحات السيوف لها التيام             و لا يلتئم ما جرح اللسان‏

 و قال النبي صلى الله عليه و آله و سلم: الحياء من الإيمان و الإيمان في الجنة، و البذاء من الجفاء و الجفاء في النار، و فائدة الحديث الأمر بحفظ اللسان و النهي عن التسرع إلى أعراض الناس، و بيان أن الكلام في ذلك نظير الكلام، و يوشك أن يثبت اسمه في ديوان الجفاة.

 (الحديث العاشر)

 (1): ضعيف على المشهور.

و قال الجوهري:

السلاطة

 (2) القهر، و قد سلطه الله فتسلط عليهم، و امرأة سليطة أي صخابة، و رجل سليط أي فصيح حديد اللسان بين السلاطة و السلوطة، انتهى.

و المراد

بالنفاق‏

 (3) إما مع الخلق لأنه يظهر ودهم و بأدنى سبب يتغير عليهم و يؤذيهم بلسانه و بغيره، أو مع الله لأن إيذاء المؤمنين ينافي كمال الإيمان كما مر.

 (الحديث الحادي عشر)

 (4): كالسابق.

و في النهاية فيه: من سأل و له أربعون درهما فقد

سأل الناس إلحافا،

 (5) أي بالغ فيها يقال: ألحف في المسألة يلحف إلحافا إذا ألح فيها و لزمها، انتهى.

و هو موجب لبغض الرب حيث أعرض عن الغني الكريم و سأل الفقير اللئيم، و أنشد بعضهم‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 278

         الله يغضب إن تركت سؤاله             و بنو آدم حين يسأل يغضب‏

 و ترى في عرف الناس أن عبد الإنسان إذا سأل غير مولاه فهو عار عليه و شكاية منه حقيقة، و لذا ورد في ذم المسألة ما ورد.

 (الحديث الثاني عشر)

 (1): حسن كالصحيح.

و قد مر بعينه سندا و متنا إلا أنه ليس فيه أن الخطاب لعائشة، و كان علي بن إبراهيم رواه على الوجهين.

ثم الظاهر أن هذا مختصر عما سيأتي في باب التسليم على أهل الملل حيث رواه بهذا الإسناد أيضا عن أبي جعفر عليه السلام قال: دخل يهودي على رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم و عائشة عنده، فقال: السام عليكم، فقال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: عليكم، ثم دخل آخر فقال مثل ذلك فرد عليه كما رد على صاحبه، ثم دخل آخر فقال مثل ذلك فرد رسول الله كما رد على صاحبيه، فغضبت عائشة فقالت: عليكم السام و الغضب و اللعنة يا معشر اليهود، يا إخوة القردة و الخنازير، فقال لها رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: يا عائشة إن الفحش لو كان ممثلا لكان مثال سوء، إن الرفق لم يوضع على شي‏ء قط إلا زانه، و لم يرفع عنه قط إلا شانه، قالت: يا رسول الله أ ما سمعت إلى قولهم: السام عليكم؟

فقال: بلى أ ما سمعت ما رددت عليهم، قلت: عليكم؟ فإذا سلم عليكم مسلم فقولوا:

السلام عليكم، و إذا سلم عليكم كافر فقولوا: عليكم.

 (الحديث الثالث عشر)

 (2): ضعيف على المشهور.

و المعصوم المروي عنه غير معلوم، فإن كان الصادق عليه السلام فالإرسال بأزيد من واحد، و

أحمد

 (3) كأنه البزنطي، و ما زعم أنه ابن عيسى بعيد كما لا يخفى على المتدرب،

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 279

فيمكن أن يكون الإرسال بواحد، و

فحش‏

 (1) ككرم و ربما يقرأ على بناء التفعيل، و من جملة أسباب‏

فساد المعيشة

 (2) نفرة الناس عنه و عن معاملته.

 (الحديث الرابع عشر)

 (3): ضعيف على المشهور.

" مبتدئا"

 (4) أي من غير أن أسأله شيئا يكون هذا جوابه أو من غير أن يتظلم إليه الجمال، و في النهاية

الصخب‏

 (5) و السخب الضجة و اضطراب الأصوات للخصام، و فعول و فعال للمبالغة

" أنه"

 (6) بفتح الهمزة أي لأنه، و هو خبر كان، و" إن" في‏

قوله" إن كان"

 (7) شرطية، و اللام في‏

قوله: لقد

 (8)، جواب قسم مقدر، و قائم مقام الفاء الرابطة اللازمة كذا قيل، و في الصحاح قال الفراء في قوله تعالى:" أَخْذَةً رابِيَةً" أي زائدة، كقولك‏

أربيت‏

 (9) إذا أخذت أكثر مما أعطيت‏

" من فعالي"

 (10) بالكسر جمع فعل، أو بالفتح مصدرا و كلاهما مناسب‏

" و لا آمر به"

 (11) كناية عن النهي.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 280

باب من يتقى شره‏

 (1)

 (الحديث الأول)

 (2): موثق.

و في القاموس:

عشيرة

 (3) الرجل بنو أبيه الأدنون أو قبيلته و في المصباح تقول هو أخو تميم أي واحد منهم، انتهى.

و قرأ بعض الأفاضل العشيرة بضم العين و فتح الشين تصغير العشرة بالكسر، أي المعاشرة، و لا يخفى ما فيه و

" بشره"

 (4) بالرفع و

" إليه"

 (5) خبره، و الجملة حالية كيحدثه، و ليس في بعض النسخ" عليه" أو لا فبشره مجرور عطفا على وجهه، و هو أظهر، و يحتمل زيادة إليه آخرا كما يومئ إليه قولها إذ أقبلت عليه بوجهك و بشرك.

و قوله صلى الله عليه و آله و سلم: إن من شر عباد الله‏

 (6)، إما عذر لما قاله أولا أو لما فعله آخرا، أولهما معا فتأمل جدا.

و نظير هذا الحديث رواه مخالفونا عن عروة بن الزبير قال: حدثتني عائشة إن رجلا استأذن على النبي صلى الله عليه و آله و سلم فقال: ائذنوا له فلبئس ابن العشيرة، فلما دخل‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 281

عليه ألان له القول، قالت عائشة: فقلت: يا رسول الله قلت له الذي قلت ثم ألنت له القول؟ قال: يا عائشة إن شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة من ودعه الناس أو تركه اتقاء فحشه.

قال عياض: قوله: لبئس، ذم له في الغيبة و الرجل عيينة بن حصن الفزاري، و لم يكن أسلم حينئذ، ففيه لا غيبة على فاسق و مبتدع، و إن كان قد أسلم فيكون عليه السلام أراد أن يبين حاله، و في ذلك الذم يعني لبئس، علم من أعلام النبوة، فإنه ارتد و جي‏ء به إلى أبي بكر و له مع عمر خبر.

و فيه أيضا أن المداراة مع الفسقة و الكفرة مباحة و تستحب في بعض الأحوال بخلاف المداهنة المحرمة، و الفرق بينهما أن المداراة بذل الدنيا لصلاح الدين أو الدنيا، و المداهنة بذل الدين لصلاح الدنيا، و النبي صلى الله عليه و آله و سلم بذل له من دنياه حسن العشرة و طلاقة الوجه، و لم يرو أنه مدحه حتى يكون ذلك خلاف قوله لعائشة، و لا من ذي الوجهين و هو عليه السلام منزه عن ذلك، و حديثه هذا أصل في جواز المداراة و غيبة أهل الفسق و البدع.

و قال القرطبي: قيل أسلم هو قبل الفتح و قيل بعده، و لكن الحديث دل على أنه شر الناس منزلة عند الله و لا يكون كذلك حتى يختم له بالكفر، و الله سبحانه أعلم بما ختم له و كان من المؤلفة و جفاة الأعراب.

و قال النخعي: دخل على النبي صلى الله عليه و آله و سلم بغير إذن فقال له النبي صلى الله عليه و آله و سلم: و أين الإذن؟ فقال: ما استأذنت على أحد من مضر، فقالت عائشة: من هذا يا رسول الله؟

قال: هذا أحمق مطاع، و هو على ما ترين سيد قومه، و كان يسمى الأحمق المطاع، و قال الآبي: هذا منه صلى الله عليه و آله و سلم تعليم لغيره لأنه أرفع من أن يتقى فحش كلامه.

 (الحديث الثاني)

 (1): ضعيف على المشهور.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 282

" يكرمون"

 (1) على بناء المجهول.

 (الحديث الثالث)

 (2): صحيح.

 (الحديث الرابع)

 (3): ضعيف على المشهور.

باب البغي‏

 (4)

 (الحديث الأول)

 (5): ضعيف.

و البغي‏

 (6) مجاوزة الحد و طلب الرفعة و الاستطالة على الغير، في القاموس: بغى عليه يبغي بغيا علا و ظلم و عدل عن الحق و استطال و كذب، و في مشيته: اختال، و البغي الكثير من البطر، و فئة باغية خارجة عن طاعة الإمام العادل، و قال الراغب:

البغي طلب تجاوز الاقتصاد فيما يتحرى تجاوزه أو لم يتجاوزه، فتارة يعتبر في الكمية و تارة في الكيفية، يقال: بغيت الشي‏ء إذا طلبت أكثر مما يجب، و ابتغيت كذلك،

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 283

و البغي على ضربين محمود و هو تجاوز العدل إلى الإحسان و الفرض إلى التطوع، و مذموم و هو تجاوز الحق إلى الباطل، و بغى تكبر و ذلك لتجاوزه منزلته إلى ما ليس له و يستعمل ذلك في أي أمر كان، قال تعالى:" يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ" و قال:" إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى‏ أَنْفُسِكُمْ" و" بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ"" إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى‏ فَبَغى‏ عَلَيْهِمْ" و قال تعالى:" فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى‏ فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي" فالبغي في أكثر المواضع مذموم، انتهى.

و المراد بتعجيل عقوبته أنها تصل إليه في الدنيا أيضا بل تصل إليه فيها سريعا.

و روي عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة من البغي و قطيعة الرحم، إن الباطل كان زهوقا.

و قال أمير المؤمنين عليه السلام: من سل سيف البغي قتل به.

و الظاهر أن ذلك من قبل الله تعالى عقوبة على البغي و زجرا عنه و عبرة، لا لما قيل: سر ذلك أن الناس لا يتركونه بل ينالونه بمثل ما نالهم أو بأشد، و تلك عقوبة حاضرة جلبها إلى نفسه من وجوه متكثرة، انتهى، و أقول: مما يضعف ذلك أنا نرى أن الباغي يبتلي غالبا بغير من بغى عليه.

 (الحديث الثاني)

 (1): ضعيف على المشهور.

" فإنهما يعدلان" إلخ،

 (2) أي في الإخراج من الدين و العقوبة و التأثير في فساد

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 284

نظام العالم إذ أكثر المفاسد التي نشأت في العالم من مخالفة الأنبياء و الأوصياء عليهم السلام و ترك طاعتهم، و شيوع المعاصي إنما نشأت من هاتين الخصلتين كما حسد إبليس على آدم عليه السلام و بغى عليه، و حسد الطغاة من كل أمة على حجج الله فيها، فطغوا و بغوا فجعلوا حجج الله مغلوبين و سرى الكفر و المعاصي في الخلق.

 (الحديث الثالث)

 (1): حسن كالصحيح.

" أن لا تكلم"

 (2) و في بعض النسخ أن لا تكلمن و هما إما على بناء التفعيل، أي أحدا فإنه متعد أو على بناء التفعل بحذف إحدى التائين‏

" بكلمة بغي"

 (3) أي بكلام مشتمل على بغي، أي جور أو تطاول‏

" و إن أعجبتك نفسك و عشيرتك"

 (4) الظاهر أن فاعل أعجبتك الضمير الراجع إلى الكلمة، و نفسك بالنصب تأكيد للضمير و عشيرتك عطف عليه، و قيل: نفسك فاعل أعجبت و الأول أظهر.

 (الحديث الرابع)

 (5): حسن كالصحيح.

و هذا جزء من خطبة طويلة أثبتها في أوائل الروضة، و ذكر أنه خطب بها بعد مقتل عثمان و بيعة الناس له‏

" و كان مجلسها جريبا"

 (6) قال في المصباح: الجريب الوادي ثم أستعير للقطعة المميزة من الأرض فقيل فيها جريب، و يختلف مقداره‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 285

بحسب اصطلاح أهل الأقاليم كاختلافهم في مقدار الرطل و الكيل و الذراع، و في كتاب المساحة: اعلم أن مجموع عرض كل سبع شعيرات معتدلات يسمى إصبعا و القبضة أربع أصابع، و الذراع ست قبضات، و كل عشرة أذرع يسمى قصبة و كل عشر قبضات يسمى أشلا، و قد يسمى مضروب الأشل في نفسه جريبا، و مضروب الأشل في القصبة قفيزا، و مضروب الأشل في الذراع عشيرا، فحصل من هذا أن الجريب عشرة آلاف ذراع، و نقل عن قدامة أن الأشل ستون ذراعا و ضرب الأشل في نفسه يسمى جريبا فيكون ثلاثة آلاف و ست مائة، انتهى.

فقوله عليه السلام: في جريب‏

 (1) كان المعنى مع جريب فيكون جريبين أو أطلق الجريب على أحد أضلاعه مجازا للإشعار بأنها كانت تملأ الجريب طولا و عرضا أو يكون الجريب في عرف زمانه عليه السلام مقدارا من امتداد المسافة كالفرسخ، و في تفسير علي بن إبراهيم: و كان مجلسها في الأرض موضع جريب.

و المنجل‏

 (2) كمنبر حديدة يحصد بها الزرع، و

النسر

 (3) طائر معروف له قوة في الصيد، و يقال لا مخلب له، و إنما له ظفر كظفر الدجاجة، و في تفسير علي بن إبراهيم و نسرا كالحمار" و كان ذلك في الخلق الأول" أي كانت تلك الحيوانات كذلك في أول الخلق في الكبر و العظم، ثم صارت صغيرة كالإنسان، و

" آمن"

 (4) أفعل تفضيل و ما مصدرية

" و كانوا"

 (5) تامة و المصدر إما بمعناه أو استعمل في ظرف الزمان نحو رأيته مجي‏ء الحاج، و على التقديرين نسبة الأمن إليه على التوسع و المجاز.

و الحاصل أن الله عز و جل قتل الجبارين الذين جبروا خلق الله على ما أرادت نفوسهم الخبيثة من الأوامر و النواهي و بغوا عليهم و لم يرفقوا بهم على أحسن الأحوال و الشوكة و القدرة لفسادهم، فلا يغتر الظالم بأمنه و اجتماع أسباب عزته، فإن الله هو القوي العزيز.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 286

باب الفخر و الكبر

 (1)

 (الحديث الأول)

 (2): صحيح.

و قد مر بعض القول في ذم الكبر و الفخر و دوائهما، و التفكر في أمثال تلك الأخبار، و زجر النفس على خلاف هاتين الرذيلتين مما ينفع في التخلص منهما كما مرت الإشارة إليه.

 (الحديث الثاني)

 (3): ضعيف على المشهور.

و الحسب‏

 (4): الشرف و المجد الحاصل من جهة الآباء و قد يطلق على الشرافة الحاصلة من الأفعال الحسنة و الأخلاق الكريمة، و إن لم تكن من جهة الآباء، في القاموس: الحسب ما تعده من مفاخر آبائك أو المال أو الدين أو الكرم أو الشرف في الفعل أو الفعال الصالح، أو الشرف الثابت في الآباء أو البال، أو الحسب و الكرم قد يكونان لمن لا آباء له شرفاء، و الشرف و المجد لا يكونان إلا بهم.

و أقول: الخبر يحتمل وجوها" الأول" أن لكل شي‏ء آفة تضيعه، و آفة الشرافة من جهة الآباء الافتخار و العجب الحاصلان منها، فإنه يبطل بهما هذا الشرف الحاصل له بتوسط الغير عند الله و عند الناس.

الثاني: أن المراد بالحسب الأخلاق الحسنة و الأفعال الصالحة و يضيعهما

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 287

الافتخار بهما و ذكرهما، و الإعجاب بهما كما مر.

الثالث: أن يكون المراد به أن الحسب يستتبع آفة الافتخار و يوجبها، لا أن آفة الافتخار بالحسب تضيعه كما قيل- و الأول أظهر الوجوه، و يؤيده ما روي في شهاب الأخبار- عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال: آفة العلم النسيان، و آفة الحديث الكذب و آفة الحلم السفه، و آفة العبادة الفترة، و آفة الشجاعة البغي، و آفة السماحة المن و آفة الجمال الخيلاء، و آفة الحسب الفخر، و آفة الظرف الصلف و آفة الجود السرف و آفة الدين الهوى.

و قال الراوندي (ره) في ضوء الشهاب: نهي الحسيب عن الاستطالة و التفاخر الذي يضع الرفيع و كفاك مانعا من الافتخار قوله عليه السلام: أنا سيد ولد آدم و لا فخر و معناه أني لا أذكر ذلك على سبيل الافتخار و المبارأة و إلا فأي مظنة فخر فوق سيادة سيد ولد آدم.

 (الحديث الثالث)

 (1): مجهول.

و في القاموس:

الضخم‏

 (2) بالفتح و بالتحريك العظيم من كل شي‏ء

" ما تمن"

 (3) ما للاستفهام الإنكاري أو نافية

" فليس لأحد"

 (4) إشارة إلى قوله تعالى:" يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى‏ وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 288

أَتْقاكُمْ" و كفى بهذه الآية واعظا و زاجرا عن الكبر و الفخر.

 (الحديث الرابع)

 (1): مجهول.

" و عجبا"

 (2) بالتحريك مصدر باب علم، و هو إما بتقدير حرف النداء أو مفعول مطلق لفعل محذوف، أي عجبت عجبا، فعلى الأول‏

" للمتكبر"

 (3) صفة لقوله عجبا و على الثاني خبر مبتدإ محذوف بتقدير هو للمتكبر و الضمير المحذوف راجع إلى عجبا، و قال النحويون: لا يمكن أن يكون صفة لعجبا لأن الفعل كما لا يكون موصوفا فكذلك النائب الوجوبي له لا يكون موصوفا، و حذف الفعل و إقامة المصدر مقامه في تلك المواضع واجب.

و روى الراوندي قدس سره في ضوء الشهاب عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم: عجبا كل العجب للمختال الفخور، و إنما خلق من نطفة ثم يعود جيفة و هو بين ذلك لا يدري ما يفعل به، ثم قال (ره): العجب و التعجب حالة تعرض للإنسان عند جهله بسبب الشي‏ء، و قيل: العجب ما لا يعرف سببه و لا يوصف الله تعالى بذلك لأنه عالم لذاته و قوله عليه السلام: عجبا، الألف فيه بدل من الياء، لأنهم كثيرا ما يفزعون من الكسرة إلى الفتحة طلبا للخفة كأنه ينادي عجب نفسه و يستحضره لما يرى و يستبدع، و هذا على التشبيه و التمثيل، و إلا فالعجب لا ينادي و يجوز أن يكون كل العجب بدلا من عجبي، و يجوز أن يكون حالا من عجبي، و يجوز أن يكون صفة مصدر يدل عليه الكلام كأنه صلى الله عليه و آله و سلم قال: أعجب عجبا كل العجب، ثم حذف فقال: أعجب كل العجب، و يجوز أن يكون الألف للندبة.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 289

و قال (ره) في قوله صلى الله عليه و آله و سلم: عجبا للمؤمن، عجبا مصدر فعل محذوف، أي عجبت عجبا.

و أقول: هذا الخبر و أمثاله نسخ أدوية من الحكماء الربانية لمعالجة أعظم الأدواء الروحانية و هو الفخر المترتب على الكبر، و حاصلها أن في الإنسان كثير من صفات النقصان، و إن كان فيه كمال فمن رب الإنس و الجان، فلا يليق به أن يفتخر على غيره من الإخوان، و فيها إشعار بأن دفع هذا المرض باختياره و علاجه مركب من أجزاء علمية و عملية، فأما العلمية فبأن يعرف الله سبحانه بجلاله و يوحده في ذاته و صفاته و أفعاله و أن يعلم أن كل موجود سواه مقهور مغلوب عاجز لا وجود له إلا بفيض وجوده و رحمته و أن الإنسان مخلوق من أكثف الأشياء و أخسها و هو التراب، ثم النطفة النجسة القذرة ثم العلقة ثم المضغة ثم العظام ثم الجنين الذي غذاؤه دم الحيض، ثم يصير في القبر جيفة منتنة يهرب منه أقرب الناس إليه، و هو فيما بين ذلك ينقلب من طور إلى طور و من حال إلى حال، من مرض إلى صحة، و من صحة إلى مرض إلى غير ذلك من الأحوال المتبادلة، و هو لا يملك لنفسه نفعا و لا ضرا و لا حياة و لا نشورا.

و إلى هذا أشار صلى الله عليه و آله و سلم‏

بقوله: و هو فيما بين ذلك ما يدري ما يصنع به‏

 (1) ثم لا يعلم ما يأتي عليه في البرزخ و القيامة، كما ذكر سابقا في باب الكبر.

و أنه يعلم أن استكمال كل شي‏ء سواء كان طبيعيا أو إراديا لا يتحقق إلا بالانكسار و الضعف، فإن العناصر ما لم تنكسر صورة كيفياتها الصرفة لم تقبل صورة كمالية معدنية أو حيوانية أو إنسانية، و البذر ما لم يقع في التراب و لم يقرب من التعفن و الفساد لم يقبل صورة نباتية و لم تخرج منه سنبلة و لا ثمر، و ماء الظهر ما لم يصر منيا منتنا لم تفض عليها صورة إنسانية قابلة للخلافة الربانية.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 290

فمن تفكر في أمثال هذه الحكم و المعارف أمكنه التحرز من الكبر و الفخر بفضله تعالى.

و أما العملية فهي المداومة على التواضع لكل عالم و جاهل و صغير و كبير، و الاقتداء بسنن النبي و الأئمة الطاهرين صلوات الله عليه و عليهم، و تتبع سيرهم و أخلاقهم و حسن معاشرتهم لجميع الخلق.

 (الحديث الخامس)

 (1): ضعيف على المشهور.

" أما إنك عاشرهم في النار"

 (2) أي أن آباءك كانوا كفارا و هم في النار، فما معنى افتخارك بهم و أنت أيضا مثلهم في الكفر باطنا، إن كان منافقا، أو ظاهرا أيضا إن كان كافرا، فلا وجه لافتخارك أصلا.

و الحاصل أن عمدة أسباب الفخر بل أشيعها و أكثرها الفخر بالآباء و هو باطل لأن آباءه إن كانوا كفرة أو ظلمة فهم من أهل النار، فينبغي أن يتبرء منهم لا أن يفتخر بهم و إن كان باعتبار أن لهم ما لا فليعلم أن المال ليس بكمال يقع به الافتخار، بل ورد في ذمه كثير من الأخبار، و لو كان كمالا كان لهم لا له، و العاقل لا يفتخر بكمال غيره، و إن كان باعتبار أنه كان خيرا أو فاضلا أو عالما فهذا أجهل من حيث أنه تعزز بكمال غيره، و لذلك قيل:

         لئن فخرت بآباء ذوي شرف             لقد صدقت و لكن بئس ما ولدوا

 فالمتكبر بالنسب إن كان خسيسا في صفات ذاته فمن أين يجبر خسته كمال غيره، و أيضا ينبغي أن يعرف نسبه الحقيقي فيعرف أباه و جده فإن أباه نطفة قذرة، و جده البعيد تراب ذليل، و قد عرفه الله نسبه فقال:" الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 291

خَلَقَهُ وَ بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ" فمن أصله من التراب المهين الذي يداس بالأقدام ثم خمر طينته حتى صار حمأ مسنونا كيف يتكبر، و أخس الأشياء ما إليه نسبه، فإن قال: أفتخر بالأب القريب فالنطفة و المضغة أقرب إليه من الأب فليحتقر نفسه بهما.

و السبب الثاني الحسن و الجمال فإن افتخر به فليعلم أنه قد يزول بأدنى الأمراض و الأسقام، و ما هو في عرضة الزوال ليس بكمال يفتخر به، و لينظر أيضا إلى أصله و ما خلق منه كما مر، و إلى ما يصير إليه في القبر من جيفة منتنة، و إلى ما في باطنه من الخبائث مثل الأقذار التي في جميع أعضائه و الرجيع الذي في أمعائه، و البول الذي في مثانته، و المخاط الذي في أنفه، و الوسخ الذي في أذنيه، و الدم الذي في عروقه، و الصديد الذي تحت بشرته، إلى غير ذلك من المقابح و الفضائح، فإذا عرف ذلك لم يفتخر بجماله الذي هو كخضراء الدمن.

الثالث: القوة و الشجاعة، فمن افتخر بها فليعلم أن الذي خلقه هو أشد منه قوة، و أن الأسد و الفيل أقوى منه، و أن أدنى العلل و الأمراض تجعله أعجز من كل عاجز، و أذل من كل ذليل، و أن البعوضة لو دخلت في أنفه أهلكته و لم يقدر على دفعها.

الرابع: الغناء و الثروة.

الخامس: كثرة الأنصار و الأتباع و العشيرة و قرب السلاطين و الاقتدار من جهتهم، و الكبر و الفخر بهذين السببين أقبح لأنه أمر خارج عن ذات الإنسان و صفاته، فلو تلف ماله أو غصب أو نهب أو تغير عليه السلطان و عزله لبقي ذليلا عاجزا، و إن من فرق الكفار من هو أكثر منه مالا و جاها، فالمتكبر بهما في غاية الجهل.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 292

السادس: العلم و هذا أعظم الأسباب و أقواها فإنه كمال نفساني عظيم عند الله تعالى و عند الخلائق، و صاحبه معظم عند جميع المخلوقات، فإذا تكبر العالم و افتخر فليعلم أن خطر أهل العلم أكثر من خطر أهل الجهل، و أن الله تعالى يحتمل من الجاهل ما لا يحتمل من العالم، و أن العصيان مع العلم أفحش من العصيان مع الجهل، و أن عذاب العالم أشد من عذاب الجاهل، و أنه تعالى شبه العالم الغير العامل تارة بالحمار و تارة بالكلب، و أن الجاهل أقرب إلى السلامة من العالم لكثرة آفاته و أن الشياطين أكثرهم على العالم، و أن سوء العاقبة و حسنها أمر لا يعلمه إلا الله سبحانه، فلعل الجاهل يكون أحسن عاقبة من العالم.

السابع: العبادة و الورع و الزهادة، و الفخر فيها أيضا فتنة عظيمة، و التخلص منها صعب، فإذا غلب عليه فليتفكر أن العالم أفضل منه فلا ينبغي أن يفتخر عليه، و لا ينبغي أيضا أن يفتخر على من تأخر عنه في العلم أيضا إذ لعل قليل عمله يكون مقبولا و كثير عمله مردودا و لا على الجاهل و الفاسق إذ قد يكون لهما خصلة خفية و صفة قلبية موجبة لقرب الرب سبحانه و رحمته، و لو فرض خلوهما عن جميع ذلك بالفعل فلعل الأحوال في العاقبة تنعكس، و قد وقع مثل ذلك كثيرا، و لو فرض عدم ذلك فليتصور أن تكبره في نفسه شرك، فيحبط عمله فيصير هو في الآخرة مثلهم بل أقبح منهم و الله المستعان.

 (الحديث السادس)

 (1): قد مر سندا و متنا إلا زيادة" و العجب" في آخر الأول، و كان الراوي رواه على الوجهين.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 293

باب القسوة

 (1)

 (الحديث الأول)

 (2): مجهول مرفوع.

" لا تطول في الدنيا أملك"

 (3) تطويل الأمل هو أن ينسى الموت و يجعله بعيدا، و يظن طول عمرة أو يأمل آمالا كثيرة لا تحصل إلا في عمر طويل، و ذلك يوجب قساوة القلب و صلابته و شدته، أي عدم خشوعه و تأثره عن المخاوف و عدم قبوله للمواعظ، كما أن تذكر الموت يوجب رقة القلب و وجله عند ذكر الله و الموت و الآخرة، قال الجوهري:

قسا

 (4) قلبه قسوة و قساوة و قساء و هو غلظ القلب و شدته، و أقساه الذنب، و يقال: الذنب مقساة للقلب.

 (الحديث الثاني)

 (5): مرسل.

قيل:

قوله كافرا

 (6)، حال عن العبد، فلا يلزم أن يكون كفره مخلوقا لله تعالى.

أقول: كأنه على المجاز، فإنه تعالى لما خلقه عالما بأنه سيكفر فكأنه خلقه كافرا، أو الخلق بمعنى التقدير، و المعاصي يتعلق بها التقدير ببعض المعاني كما مر تحقيقه، و كذا تحبيب الشر إليه مجاز فإنه لما سلب عنه التوفيق لسوء أعماله و خلي بينه و بين نفسه و بين الشيطان فأحب الشر فكأن الله حببه إليه،

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 294

كما قال سبحانه:" حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَ زَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَ كَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَ الْفُسُوقَ وَ الْعِصْيانَ" و إن كان الظاهر أن الخطاب لخلص المؤمنين.

" فيقرب منه"

 (1) أي العبد من الشر أو الشر من العبد، و على التقديرين كأنه كناية عن ارتكابه، و قال الجوهري: يقال: فيه‏

جبرية

 (2) و جبروة و جبروت و جبورة مثال فروجة أي كبر، و غلظ الوجه كناية عن العبوس أو الخشونة و قلة الحياء

" و كشف الله ستره"

 (3) كناية عن ظهور عيوبه للناس، و قيل: المراد به كشف سره الحاجز بينه و بين القبائح و هو الحياء، فيكون تأكيدا لما قبله.

و أقول: الأول أظهر كما ورد في الخبر

" ثم ركب المحارم"

 (4) أي الصغائر مصرا عليها،

لقوله: فلم ينزع عنها،

 (5) أي لم يتركها

" ثم ركب معاصي الله"

 (6) أي الكبائر، و قيل: المراد بالأول الذنوب مطلقا، و بالثاني حبها أو استحلالها بقرينة

قوله:" و أبغض طاعته"

 (7) لأن بغض الطاعة يستلزم حب المعصية، أو المراد بها ذنوبه بالنسبة إلى الخلق، و

الوثوب على الناس‏

 (8) كناية عن المجادلات و المعارضات.

 (الحديث الثالث)

 (9): ضعيف على المشهور.

و قال الجزري: في حديث ابن مسعود: لابن آدم‏

لمتان لمة من الملك و لمة من الشيطان،

 (10) اللمة: الهمة و الخطرة تقع في القلب، أراد إلمام الملك أو الشيطان به و

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 295

القرب منه، فما كان من خطرات القلب فهو من الملك، و ما كان من خطرات الشر فهو من الشيطان، انتهى.

" فلمة الملك الرقة و الفهم"

 (1) أي هما ثمرتها أو علامتها، و الحمل على المجاز لأن لمة الملك إلقاء الخير و التصديق بالحق في القلب، و ثمرتها رقة القلب و صفاؤه و ميلة إلى الخير، و كذا

لمة الشيطان‏

 (2) إلقاء الوساوس و الشكوك و الميل إلى الشهوات في القلب، و ثمرتها السهو عن الحق و الغفلة عن ذكر الله و قساوة القلب.

باب الظلم‏

 (3)

 (الحديث الأول)

 (4): ضعيف.

و الظلم‏

 (5) وضع الشي‏ء غير موضعه، فالمشرك ظالم لأنه جعل غير الله تعالى شريكا له، و وضع العبادة في غير محلها، و العاصي ظالم لأنه وضع المعصية موضع الطاعة،

فالشرك‏

 (6) كأنه يشمل كل إخلال بالعقائد الإيمانية، و المراد المغفرة بدون التوبة

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 296

كما قال عز و جل:" إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ".

" و أما الظلم الذي يغفره"

 (1) أي يمكن أن يغفره بدون التوبة كما قال" لِمَنْ يَشاءُ"

" و أما الظلم الذي لا يدعه"

 (2) أي لا يترك مكافأته في الدنيا أو الأعم، و لعل التفنن في العبارة لأنه ليس من حقه سبحانه حتى يتعلق به المغفرة، أو المعنى لا يدع تداركه للمظلوم إما بالانتقام من الظالم أو بالتعويض للمظلوم، فلا ينافي الأخبار الدالة على أنه إذا أراد تعالى أن يغفر لمن عنده من حقوق الناس يعوض المظلوم حتى يرضى‏

" و المداينة بين العباد"

 (3) أي المعاملة بينهم كناية عن مطلق حقوق الناس، فإنها تترتب على المعاملة بينهم أو المراد به المحاكمة بين العباد في القيامة، فإن سببها حقوق الناس، قال الجوهري: داينت فلانا إذا عاملته فأعطيت دينا و أخذت بدين، و الدين الجزاء و المكافاة، يقال: دانه دينا أي جازاه.

 (الحديث الثاني)

 (4): مرسل‏

" إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ"

 (5) قال في المجمع: المرصاد الطريق، مفعال من رصده يرصده رصدا رعي ما يكون منه ليقابله بما يقتضيه أي عليه طريق العباد، فلا يفوته أحد، و المعنى أنه لا يفوته شي‏ء من أعمالهم لأنه يسمع و يرى جميع أقوالهم و أفعالهم كما لا يفوت من هو بالمرصاد، و روي عن علي عليه السلام أنه قال: معناه إن ربك قادر على أن يجزي أهل المعاصي جزاءهم.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 297

و عن الصادق عليه السلام أنه قال: المرصاد قنطرة على الصراط لا يجوزها عبد بمظلمة عبد، و قال عطاء: يعني يجازى كل أحد و ينتصف من الظالم للمظلوم، و روي عن ابن عباس في هذه الآية قال: إن على جسر جهنم سبع مجالس يسأل العبد عند أولها عن شهادة أن لا إله إلا الله، فإن جاء بها تامة جاز إلى الثاني فيسأل عن الصلاة، فإن جاء بها تامة جاز إلى الثالث، فيسأل عن الزكاة فإن جاء بها تامة جاز إلى الرابع، فيسأل عن الصوم فإن جاء بها تامة جاز إلى الخامس، فيسأل عن الحج فإن جاء به تاما جاز إلى السادس، فيسأل عن العمرة، فإن جاء بها تامة جاز إلى السابع فيسأل عن المظالم، فإن خرج منها و إلا يقال انظروا فإن كان له تطوع أكمل به أعماله، فإذا فرغ انطلق به إلى الجنة، و في القاموس: المرصاد الطريق و المكان يرصد فيه العدو و قال:

القنطرة

 (1) الجسر و ما ارتفع من البنيان، و

المظلمة

 (2) بكسر اللام ما تطلبه عند الظالم و هو اسم ما أخذ منك، ذكره الجوهري.

 (الحديث الثالث)

 (3): مجهول.

و النخع‏

 (4) بالتحريك قبيلة باليمن منهم مالك الأشتر

" حتى تؤدي"

 (5) أي مع معرفتهم و إمكان الإيصال إليهم، و إلا فالتصدق أيضا لعله قائم مقام الإيصال كما هو المشهور، إلا أن يقال أرباب الصدقة أيضا ذوو الحقوق في تلك الصورة، و لعله عليه السلام لما علم أنه لا يعمل بقوله لم يبين له المخرج من ذلك، و الله يعلم.

 (الحديث الرابع)

 (6): موثق.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 298

" لا يجد صاحبها عونا"

 (1) أي لا يمكنه الانتصار في الدنيا لا بنفسه و لا بغيره، و ظلم الضعيف العاجز أفحش، و قيل: المعنى أنه لا يتوسل في ذلك إلى أحد، و لا يستعين بحاكم، بل يتوكل على الله و يؤخر انتقامه إلى يوم الجزاء، و الأول أظهر، و روي عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنه قال: قال الله عز و جل: اشتد غضبي على من ظلم أحدا لا يجد ناصرا غيري، و روي أيضا عنه صلى الله عليه و آله و سلم: إن العبد إذا ظلم فلم ينتصر و لم يكن من ينصره و رفع طرفه إلى السماء فدعا الله تعالى، قال جل جلاله:

لبيك عبدي أنصرك عاجلا و آجلا، اشتد غضبي على من ظلم أحدا لا يجد ناصرا غيري.

 (الحديث الخامس)

 (2): ضعيف.

 (الحديث السادس)

 (3): مجهول.

و ضمير

عنه‏

 (4) راجع إلى أحمد، فينسحب عليه العدة.

و قيل: المراد

بالقصاص‏

 (5) قصاص الدنيا و لا يخفى قلة فائدة الحديث حينئذ، بل المعنى أن من خاف قصاص الآخرة و مجازاة أعمال العباد

كف نفسه عن ظلم‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 299

الناس،

 (1) فلا يظلم أحدا، و الغرض التنبيه على أن الظالم لا يؤمن و لا يوقن بيوم الحساب، فهو على حد الشرك بالله و الكفر بما جاءت به رسل الله عليهم السلام، و يحتمل أن يكون المراد القصاص في الدنيا، لكن للتنبيه على ما ذكرنا أي من خاف قصاص الدنيا ترك ظلم الناس، مع أنه لا قدر له في جنب قصاص الآخرة فمن لا يخاف قصاص الدنيا و يجترئ على الظلم فمعلوم أنه لا يخاف عقاب الآخرة، و لا يؤمن به، فيرجع إلى الأول مع مزيد تأكيد و تنبيه.

 (الحديث السابع)

 (2): موثق.

و ظاهره أن من دخل الصباح على تلك الحالة و هي أن لا يقصد ظلم أحد غفر الله له كل ما صدر عنه من الذنوب غير القتل و أكل مال اليتيم، و كان المراد بعدم النية العزم على العدم، و لا ينافي ذلك صدوره منه في أثناء اليوم، لكن ينافي ذلك الأخبار الكثيرة الدالة على المؤاخذة بحقوق الناس، و قد مر بعضها، و تخصيص هذه الأخبار الكثيرة بل ظواهر الآيات أيضا بمثل هذا الخبر مشكل، و إن قيل:

بأن الله تعالى يرضي المظلوم.

و يمكن توجيهه بوجوه: الأول: أن يكون الغرض استثناء جميع حقوق الناس سواء كان في أبدانهم أو في أموالهم، و ذكر من كل منهما فردا على المثال، لكن خص أشدهما، ففي الأبدان القتل، و في الأموال أكل مال اليتيم، فيكون حاصل الحديث أن من أصبح غير قاصد بالظلم و لم يأت به في ذلك اليوم غفر الله له كل ما كان بينه و بين الله تعالى من الذنوب كما هو ظاهر الخبر الآتي.

الثاني: أن يكون التخصيص لأنهما من الكبائر و الباقي من الصغائر كما هو ظاهر أكثر أخبار الكبائر، و ما سواهما من الكبائر من حقوق الله، و يمكن شمول‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 300

سفك الدم للجراحات أيضا و لا استبعاد كثيرا في كون هذا العزم في أول اليوم مع ترك كبائر حقوق الناس مكفرا لحقوق الله و سائر حقوق الناس بأن يرضى الله الخصوم.

الثالث: أن يكون المعنى من أصبح و لم يهم بظلم أحد و لم يأت به في أثناء اليوم أيضا غفر الله له ما أذنب من حقوقه تعالى ما لم يسفك دما قبل ذلك اليوم و لم يأكل مال يتيم قبل ذلك اليوم، و لم يتب منهما، فإن من كانت ذمته مشغولة بمثل هذين الحقين لا يستحق لغفران الذنوب، و على هذا يحتمل أن يكون" ذلك اليوم" ظرفا للغفران لا للذنب، فيكون الغفران شاملا لما مضى أيضا كما هو ظاهر الخبر الآتي و قد يأول الغفران بأن الله يوفقه لئلا يصر على كبيرة، و لا يخفى بعده.

ثم اعلم أن‏

قوله: حراما

 (1) يحتمل أن يكون حالا عن كل من السفك و الأكل فالأول للاحتراز عن القصاص و قتل الكفار و المحاربين، و الثاني للاحتراز عن الأكل بالمعروف و أن يكون حالا عن الأخير لظهور الأول.

 (الحديث الثامن)

 (2): ضعيف على المشهور.

و في القاموس:

جرم‏

 (3) فلان أذنب، كأجرم و اجترم فهو مجرم، و

" ما"

 (4) يحتمل المصدرية و الموصولة.

 (الحديث التاسع)

 (5): حسن كالصحيح و سيأتي الكلام في مؤاخذة الولد.

 (الحديث العاشر)

 (6): كالسابق و معلق عليه.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 301

و الظلمات‏

 (1) جمع ظلمة و هي خلاف النور، و حملها على الظلم باعتبار تكثره معنى أو للمبالغة، و المراد بالظلمة إما الحقيقة لما قيل: من أن الهيئات النفسانية التي هي ثمرات الأعمال الموجبة للسعادة أو الشقاوة أنوار و ظلمات مصاحبة للنفس و هي تنكشف لها في القيامة التي هي محل بروز الأسرار و ظهور الخفيات فتحيط بالظالم على قدر مراتب ظلمه ظلمات متراكمة حين يكون المؤمنون في نور يسعى نورهم بين أيديهم و بأيمانهم، أو المراد بها الشدائد و الأهوال كما قيل في قوله تعالى:" قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ".

 (الحديث الحادي عشر)

 (2): صحيح.

 (الحديث الثاني عشر)

 (3): حسن كالصحيح.

و ذكر النفس و المال‏

 (4) على المثال لما مر و سيأتي من إضافة الولد و فيه إشعار بأن رد المظالم ليس جزءا من التوبة بل من شرائط صحته.

 (الحديث الثالث عشر)

 (5): مجهول.

و لما كان استبعاد السائل عن إمكان وقوع مثل هذا لا عن أنه ينافي العدل‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 302

فأجاب عليه السلام بوقوع مثله في قصة اليتامى أو أنه لما لم يكن له قابلية فهم ذلك و أنه لا ينافي العدل أجاب بما يؤكد الوقوع، أو يقال رفع عليه السلام الاستبعاد بالدليل الإني و ترك الدليل اللمي و الكل متقاربة.

و أما تفسير الآية فقال البيضاوي: أمر للأوصياء بأن يخشوا الله و يتقوه في أمر اليتامى فيفعلوا بهم ما يحبون أن يفعل بذراريهم الضعاف بعد وفاتهم، أو للحاضرين المريض عند الإيصاء بأن يخشوا ربهم أو يخشوا على أولاد المريض و يشفقوا عليهم شفقتهم على أولادهم، فلا يتركونهم أن يضر بهم بصرف المال عنهم، أو للورثة بالشفقة على من حضر القسمة من ضعفاء الأقارب و اليتامى و المساكين متصورين أنهم لو كانوا أولادهم بقوا خلفهم ضعافا مثلهم هل يجوزون حرمانهم، أو للموصين بأن ينظروا للورثة فلا يسرفوا في الوصية، و" لو" بما في حيزه جعل صلة للذين على معنى: و ليخش الذين حالهم و صفتهم أنهم لو شارفوا أن يخلفوا ذرية ضعافا خافوا عليهم الضياع، و في ترتيب الأمر عليه إشارة إلى المقصود منه و العلة فيه، و بعث على الترحم و أن يحب لأولاد غيره ما يحب لأولاده، و تهديد للمخالف بحال أولاده.

" فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَ لْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً"

 (1) أمرهم بالتقوى الذي هو نهاية الخشية بعد ما أمرهم بها مراعاة للمبتدإ و المنتهى، إذ لا ينفع الأول دون الثاني ثم أمرهم أن يقولوا لليتامى مثل ما يقولون لأولادهم بالشفقة و حسن الأدب أو للمريض ما يصده عن الإسراف في الوصية ما يؤدي إلى مجاوزة الثلث و تغييره الورثة، و يذكره‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 303

التوبة و كلمة الشهادة، أو لحاضري القسمة عذرا جميلا و وعدا حسنا، أو أن يقولوا في الوصية ما لا يؤدي إلى مجاوزة الثلث و تضييع الورثة، انتهى.

و قال الطبرسي (ره) في ذكر الوجوه في تفسير الآية: و ثانيها: أن الأمر في الآية لولي مال اليتيم، يأمره بأداء الأمانة فيه و القيام بحفظه، كما لو خاف على مخلفه إذا كانوا ضعافا و أحب أن يفعل بهم عن ابن عباس، و إلى هذا المعنى يؤول ما روي عن موسى بن جعفر عليه السلام قال: إن الله تعالى أوعد في مال اليتيم عقوبتين ثنتين، أما إحداهما فعقوبة الدنيا

قوله:" وَ لْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا"

 (1) الآية قال:

يعني بذلك ليخش أن أخلفه في ذريته كما صنع بهؤلاء اليتامى.

و أقول: أما دفع توهم الظلم في ذلك فهو أنه يجوز أن يكون فعل الألم بالغير لطفا لآخرين، مع تعويض أضعاف ذلك الألم بالنسبة إلى من وقع عليه الألم بحيث إذا شاهد ذلك العوض رضي بذلك الألم، كأمراض الأطفال، فيمكن أن يكون الله تعالى أجرى العادة بأن من ظلم أحدا أو أكل مال يتيم ظلما بأن يبتلي أولاده بمثل ذلك فهذا لطف بالنسبة إلى كل من شاهد ذلك أو سمع من مخبر علم صدقه، فيرتدع عن الظلم على اليتيم و غيره و يعوض الله الأولاد بأضعاف ما وقع عليهم أو أخذ منهم في الآخرة، مع أنه يمكن أن يكون ذلك لطفا بالنسبة إليهم أيضا فيصير سببا لصلاحهم و ارتداعهم عن المعاصي فإنا نعلم أن أولاد الظلمة لو بقوا في نعمه آبائهم لطغوا و بغوا و هلكوا كما كان آباؤهم، فصلاحهم أيضا في ذلك و ليس في شي‏ء من ذلك ظلم على أحد، و قد تقدم بعض القول منا في ذلك سابقا.

 (الحديث الرابع عشر)

 (2): موثق.

و الظلامة

 (3) بالضم ما تطلبه عند الظالم و هو اسم ما أخذ منك، و فيه دلالة على‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 304

أن سلطنة الجبارين أيضا بتقديره تعالى، حيث مكنهم منها و هيأ لهم أسبابها، و لا ينافي ذلك كونهم معاقبين على أفعالهم لأنهم غير مجبورين عليها، مع أنه يظهر من الأخبار أنه كان في الزمن السابق السلطنة الحقة لغير الأنبياء و الأوصياء أيضا لكنهم كانوا مأمورين بأن يطيعوا الأنبياء فيما يأمرونهم به، و

قوله: فإني لن أدع ظلامتهم،

 (1) تهديد للجبار بزوال ملكه، فإن الملك يبقى مع الكفر و لا يبقى مع الظلم.

 (الحديث الخامس عشر)

 (2): ضعيف على المشهور.

و في القاموس:

الجذوة

 (3) مثلثة القبسة من النار و الجمرة، و المراد بالأخ إن كان المسلم فالتخصيص لأن أكل مال الكافر ليس بهذه المثابة و إن كان حراما، و كذا إن كان المراد به المؤمن، فإن مال المخالف أيضا ليس كذلك، و إن كان المراد به من كان بينه و بينه أخوة و مصادقة فالتخصيص لكونه الفرد الخفي لأن الصداقة مما يوهم حل أكل ماله مطلقا لحل بعض الأموال في بعض الأحوال كما قال تعالى:

" أَوْ صَدِيقِكُمْ" فالمعنى فكيف من لم يكن كذلك، و كان الأوسط أظهر.

و أكل الجذوة إما حقيقة بأن يلقى في حلقه النار أو كناية عن كونه سببا لدخول النار.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 305

 (الحديث السادس عشر)

 (1): ضعيف كالموثق.

" العامل بالظلم"

 (2) الظاهر الظلم على الغير، و ربما يعم بما يشمل الظلم على النفس‏

" و المعين له"

 (3) أي في الظلم، و قد يعم‏

" و الراضي به"

 (4) أي غير المظلوم، و قيل:

يشمله، و يؤيده قوله تعالى:" وَ لا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ" قال في الكشاف: النهي متناول للانحطاط في هواهم، و الانقطاع إليهم، و مصاحبتهم و مجالستهم، و زيارتهم و مداهنتهم، و الرضا بأعمالهم و التشبه بهم، و التزيي بزيهم، و مد العين إلى زهرتهم، و ذكرهم بما فيه تعظيم لهم، و في خبر مناهي النبي صلى الله عليه و آله و سلم في الفقيه و غيره أنه صلى الله عليه و آله و سلم قال: من مدح سلطانا جائرا أو تخفف و تضعضع طمعا فيه كان قرينه في النار، و قال صلى الله عليه و آله و سلم: من دل جائرا على جور كان قرين هامان في جهنم.

 (الحديث السابع عشر)

 (5): صحيح.

" فما يزال يدعو"

 (6) أقول: يحتمل وجوها، الأول: أنه يفرط في الدعاء على الظالم، حتى يصير ظالما بسبب هذا الدعاء كان ظلمه بظلم يسير كشتم أو أخذ دراهم يسيرة، فيدعو عليه بالموت و القتل و الفناء، أو العمى أو الزمن و أمثال ذلك، أو يتجاوز في الدعاء إلى من لم يظلمه كانقطاع نسله أو موت أولاده و أحبائه أو استئصال عشيرته و أمثال ذلك، فيصير في هذا الدعاء ظالما.

الثاني: أن يكون المعنى أنه يدعو كثيرا على العدو المؤمن و لا يكتفي بالدعاء لدفع ضرره بل يدعو بابتلائه، و هذا مما لا يرضى الله به فيكون في ذلك ظالما على نفسه بل على أخيه أيضا إذ مقتضى الأخوة الإيمانية أن يدعو له بصلاحه، و كف ضرره‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 306

عنه كما ذكره سيد الساجدين في دعاء دفع العدو، و ما ورد من الدعاء بالقتل و الموت و الاستئصال فالظاهر أنه كان للدعاء على المخالفين و أعداء الدين بقرينة أن أعداءهم كانوا كفارا لا محالة كما يومئ إليه قوله تعالى:" وَ لَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ" و سيأتي عن علي بن الحسين عليه السلام أن الملائكة إذا سمعوا المؤمن يذكر أخاه بسوء و يدعو عليه قالوا له: بئس الأخ أنت لأخيك كف أيها المستر على ذنوبه و عورته و أربع على نفسك، و احمد الله الذي ستر عليك، و اعلم أن الله عز و جل أعلم بعبده منك.

الثالث: ما قيل أنه يدعو كثيرا و لا يعلم الله صلاحه في إجابته فيؤخرها فييأس من روح الله فيصير ظالما على نفسه و هو بعيد.

الرابع: أن يكون المعنى أنه يلح في الدعاء حتى يستجاب له فيسلط على خصمه فيظلمه فينعكس الأمر و كانت حالته الأولى أحسن له من تلك الحالة.

الخامس: أن يكون المراد به لا تدعو كثيرا على الظلمة فإنه ربما صرتم ظلمة فيستجيب فيكم ما دعوتم على غيركم.

السادس ما قيل: كان المراد من يدعو لظالم يكون ظالما لأنه رضي بظلمه كما روي عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم من دعا لظالم بالبقاء فقد أحب أن يعصى الله في أرضه.

و أقول: هذا أبعد الوجوه.

 (الحديث الثامن عشر)

 (1): مجهول.

" من عذر ظالما"

 (2) يقال عذرته فيما صنع عذرا من باب ضرب: رفعت عنه اللوم‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 307

فهو معذور، أي غير ملوم و الاسم العذر بضم الذال للاتباع و تسكن، و الجمع أعذار و المعذرة بمعنى العذر و أعذرته بالألف لغة

" و إن دعا لم يستجب له"

 (1) أي إن دعا الله تعالى أن يدفع عنه ظلم من يظلمه لم يستجب له لأنه بسبب عذره صار ظالما خرج عن استحقاق الإجابة، أو لما عذر ظالم غيره يلزمه أن يعذر ظالم نفسه و لم يأجره الله‏

على ظلامته‏

 (2) لذلك، أو لأنها وقعت مجازاة، و قيل: لا ينافي ذلك الانتقام من ظالمه كما دل عليه الخبر الأول.

 (الحديث التاسع عشر)

 (3): ضعيف على المشهور.

و

الانتصار

 (4) الانتقام‏

" وَ كَذلِكَ نُوَلِّي".

 (5) أقول: قبله قوله تعالى:" وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَ قالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَ بَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ" ثم قال سبحانه:" وَ كَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ".

و قال الطبرسي (ره): الكاف للتشبيه أي كذلك المهل بتخلية بعضهم على بعض للامتحان الذي معه يصح الجزاء على الأعمال توليتنا بعض الظالمين بعضا بأن نجعل بعضهم يتولى أمر بعض للعقاب الذي يجري على الاستحقاق، و قيل: معناه إنا كما وكلنا هؤلاء الظالمين من الجن و الإنس بعضهم إلى بعض يوم القيامة و تبرأنا منهم فكذلك نكل الظالمين بعضهم إلى بعض يوم القيامة و نكل الأتباع إلى المتبوعين و نقول‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 308

للأتباع قولوا للمتبوعين حتى يخلصوكم من العذاب عن الجبائي، و قال غيره: لما حكى الله سبحانه ما يجري بين الجن و الإنس من الخصام و الجدال في الآخرة قال" وَ كَذلِكَ" أي و كما فعلنا بهؤلاء من الجمع بينهم في النار و تولية بعضهم بعضا نفعل مثله بالظالمين جزاء على أعمالهم، و قال ابن عباس: إذا رضي الله عن قوم ولي أمرهم خيارهم و إذا سخط على قوم ولي أمرهم شرارهم.

" بِما كانُوا يَكْسِبُونَ" من المعاصي أي جزاء على أعمالهم القبيحة، و ذلك معنى قوله:" إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ" و مثله ما رواه الكلبي عن مالك بن دينار قال: قرأت في بعض كتب الحكمة أن الله تعالى يقول: إني أنا الله مالك الملوك، قلوب الملوك بيدي فمن أطاعني جعلتهم عليه رحمة، و من عصاني جعلتهم عليه نقمة، فلا تشغلوا أنفسكم بسب الملوك، و لكن توبوا إلى أعطفهم عليكم، و قيل معنى: نولي بعضهم بعضا، نخلي بينهم و بين ما يختارونه من غير نصرة لهم، و قيل:

معناه نتابع بعضهم بعضا في النار، انتهى.

و أقول: ما ذكره عليه السلام أوفق بكلام ابن عباس و الكلبي، و مطابق لظاهر الآية.

 (الحديث العشرون)

 (1): ضعيف على المشهور

" ففاته"

 (2) أي لم يدركه ليطلب البراءة و يرضيه، و لعله محمول على ما إذا لم يكن حقا ماليا كالغيبة و أمثالها، و إلا فيجب أن يتصدق عنه إلا أن يقال: التصدق عنه أيضا طلب مغفرة له.

 (الحديث الحادي و العشرون)

 (3): مجهول.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 309

 (الحديث الثاني و العشرون)

 (1): ضعيف على المشهور.

و في القاموس:

تدارءوا

 (2) تدافعوا في الخصومة، و دارأته داريته و دافعته و لا ينته ضد

" فلما أن سمع"

 (3) أن زائدة لتأكيد الاتصال‏

" ما ظفر أحد بخير"

 (4) أقول: هذه العبارة تحتمل عندي وجوها: الأول: أن ظفر من باب علم و الظفر الوصول إلى المطلوب و الباء في قوله: بخير، الآلية المجازية، كقولك: قام زيد بقيام حسن، و في‏

بظلم‏

 (5) صلة للظفر، و من صلة لأفعل التفضيل، و الظلم مصدر مبني للفاعل أو للمفعول و الحاصل أنه لم يظفر أحد بنعمة يكون خيرا من أن يظفر بظلم ظالم له أو بمظلومية من ظالم، فإنه ظفر بالمثوبات الأخروية كما سنبينه.

الثاني: أن يكون كالسابق لكن يكون الباء في قوله بخير صلة للظفر و في قوله بالظلم للآلية المجازية، و من للتعليل متعلقا بالظفر و الظلم مصدر مبني للفاعل أي ما ظفر أحد بأمر خير بسبب ظفره بظلم أحد.

الثالث ما قيل: إن الخير مضاف إلى من بالمنع و لا يخفى ما فيه.

الرابع: أن يكون من اسم موصول و ظفر فعلا ماضيا و يكون بدلا لقوله أحد كما في قوله تعالى:" وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا" و هذا مما خطر أيضا بالبال لكن الأول أحسن الوجوه، و على التقادير

قوله: أما

 (6) إنه، استئناف بياني لسابقه، و يؤيده ما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام لا يكبرن عليك ظلم من ظلمك فإنه يسعى في مضرته و نفعك.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 310

" و ليس يحصد أحد من المر حلوا"

 (1) هذا تمثيل لبيان أن جزاء الشر لا يكون نفعا و خيرا، و جزاء الخير و ثمرته لا يكون شرا و وبالا في الدارين.

 (الحديث الثالث و العشرون)

 (2): ضعيف على المشهور.

باب اتباع الهوى‏

 (3)

 (الحديث الأول)

 (4): مجهول.

" احذروا أهواءكم"

 (5) الأهواء جمع الهوى و هو مصدر هويه كرضيه إذا أحبه و اشتهاه، ثم سمي به المهوي المشتهى، محمودا كان أو مذموما ثم غلب على المذموم.

قال الجوهري: كل حال هواء، و قوله تعالى:" وَ أَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ" يقال: إنه لا عقول فيها، و الهوى مقصورا هوى النفس، و الجمع الأهواء، و هوى بالكسر يهوي هوى أي أحب، الأصمعي: هوى بالفتح يهوي هويا أي سقط إلى أسفل.

و قال الراغب: الهوى ميل النفس إلى الشهوة، و يقال ذلك للنفس المائلة إلى الشهوة، و قيل: سمي بذلك لأنه يهوي بصاحبه في الدنيا إلى كل داهية و في الآخرة

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 311

إلى الهاوية، و قد عظم الله ذم اتباع الهوى فقال:" أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ" و قال:" وَ لا تَتَّبِعِ الْهَوى‏ فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ"" وَ اتَّبَعَ هَواهُ وَ كانَ أَمْرُهُ فُرُطاً" و قوله:" وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ" فإنما قاله بلفظ الجمع تنبيها على أن لكل هوى غير هوى الآخر، ثم هوى كل واحد لا يتناهى فإذا اتباع أهوائهم نهاية الضلال و الحيرة، و قال:" وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ" و قال:" كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ"" وَ لا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ" و قال:" قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً"" وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَ قُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ و مَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ" انتهى.

و أقول: ينبغي أن يعلم أن ما تهواه النفس ليس كله مذموما و ما لا تهواه النفس ليس كله ممدوحا، بل المعيار ما مر في باب ذم الدنيا و هو أن كل ما يرتكبه الإنسان لمحض الشهوة النفسانية و اللذة الجسمانية و المقاصد الفانية الدنيوية و لم يكن الله مقصودا له في ذلك فهو من الهوى المذموم و يتبع فيه النفس الأمارة بالسوء، و إن كان مشتملا على زجر النفس عن بعض المشتهيات أيضا كمن يترك لذيذ المأكل و المطعم و الملبس و يقاسي الجوع و الصوم و السهر للاشتهار بالعبادة و جلب قلوب الجهال، و ما يرتكبه الإنسان لإطاعة أمره سبحانه و تحصيل رضاه و إن كان مما تشتهيه نفسه و تهواه، فليس هو من الهوى المذموم كمن يأكل و يشرب لأمره تعالى بهما، أو لتحصيل القوة على العبادة، و كمن يجامع الحلال لكونه مأمورا به‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 312

أو لتحصيل الأولاد الصالحين، أو لعدم ابتلائه بالحرام فهؤلاء و إن حصل لهم الالتذاذ بهذه الأمور لكن ليس مقصودهم محض اللذة، بل لهم في ذلك أغراض صحيحة إن صدقتهم أنفسهم، و لم تكن تلك من التسويلات النفسانية و التخييلات الشيطانية، و لو لم يكن غرضهم من ارتكاب تلك اللذات هذه الأمور فليسوا بمعاقبين في ذلك إذا كان حلالا لكن إطاعة النفس في أكثر ما تشتهيه قد ينجر إلى ارتكاب الشبهات و المكروهات ثم إلى المحرمات و من حام حول الحمى أو شك أن يقع فيه.

فظهر أن كل ما تهواه النفس ليس مما يلزم اجتنابه فإن كثيرا من العلماء قد يلتذون بعلمهم أكثر مما يلتذ الفساق بفسقهم، و كثيرا من العباد يأنسون بالعبادة بحيث يحصل لهم الهم العظيم بتركها، و ليس كل ما لا تشتهيه النفس يحسن ارتكابه كأكل القاذورات و الزنا بالجارية القبيحة، و يطلق أيضا الهوى على اختيار ملة أو طريقة أو رأي لم يستند إلى برهان قطعي، أو دليل من الكتاب و السنة، كمذاهب المخالفين و آرائهم و بدعهم فإنها من شهوات أنفسهم، و من أوهامهم المعارضة للحق الصريح كما دلت عليه أكثر الآيات المتقدمة.

فذم الهوى مطلقا إما مبني على أن الغالب فيما تشتهيه الأنفس أنها مخالفة لما ترتضيه العقل، أو على أن المراد بالنفس النفس المعتادة بالشر الداعية إلى السوء و الفساد، و يعبر عنها بالنفس الأمارة كما قال تعالى:" إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي".

أو صار الهوى حقيقة شرعية في المعاصي و الأمور القبيحة التي تدعو النفس إليها، و الآراء و الملل و المذاهب الباطلة التي تدعو إليها الشهوات الباطلة و الأوهام الفاسدة، لا البراهين الحقة فليس شي‏ء أعدى للرجال لأن ضرر العدو على فرض وقوعه راجع إلى الدنيا الزائلة و منافعها الفانية، و ضرر الهوى راجع إلى الآخرة الباقية.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 313

" و حصائد ألسنتهم"

 (1) قال في النهاية: فيه و هل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم أي ما يقطعونه من الكلام الذي لا خير فيه، واحدتها حصيدة تشبيها بما يحصد من الزرع و تشبيها للسان و ما يقتطعه من القول بحد المنجل الذي يحصد به، و قال الطيبي: أي كلامهم القبيح كالكفر و القذف و الغيبة، و قال الجوهري: حصدت الزرع و غيره أحصده و أحصده حصدا و الزرع محصود و حصيد و حصيدة، و حصائد ألسنتهم الذي في الحديث هو ما قيل في الناس باللسان و قطع به عليهم.

 (الحديث الثاني)

 (2): ضعيف.

" و عزتي"

 (3) أقسم سبحانه تأكيدا لتحقيق مضمون الخطاب و تثبيته في قلوب السامعين أولا بعزته و هي القوة و الغلبة و خلاف الذلة و عدم المثل و النظير، و ثانيا بجلاله و هو التنزه من النقائص أو عن أن يصله إليه عقول الخلق أو القدرة التي تصغر لديها قدرة كل ذي قدرة، و ثالثا بعظمته و هي تنصرف إلى عظمة الشأن و القدر الذي يذل عندها شأن كل ذي شأن، أو هو أعظم من أن يصل إلى كنه صفاته أحد، و رابعا بكبريائه و هو كون جميع الخلائق مقهورا له منقادا لإرادته، و خامسا بنوره و هو هدايته التي بها يهتدي أهل السماوات و الأرضين إليه و إلى مصالحهم و مراشدهم كما يهتدى بالنور، و سادسا بعلوه أي كونه أرفع من أن يصل إليه العقول و الأفهام أو كونه فوق الممكنات بالعلية، أو تعاليه عن الاتصاف بصفات المخلوقين، و سابعا بارتفاع مكانه و هو كونه أرفع من أن يصل إليه وصف الواصفين أو يبلغه نعت الناعتين و كان بعضها تأكيد لبعض.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 314

" لا يؤثر"

 (1) أي لا يختار

" عبد هواه"

 (2) أي ما يحبه و يهواه‏

" على هواي"

 (3) أي على ما أرضاه و أمرت به‏

" إلا شتت عليه أمره"

 (4) على بناء المجرد أو التفعيل، في القاموس: شت يشت شتا و شتاتا و شتيتا فرق و افترق كانشت و تشتت، و شتته الله و أشته.

و أقول: تشتت أمره إما كناية عن تحيره في أمر دينه فإن الذين يتبعون الأهواء الباطلة، في سبل الضلالة يتيهون و في طرق الغواية يهيمون، أو كناية عن عدم انتظام أمور دنياهم فإن من اتبع الشهوات لا ينظر في العواقب فيختل عليه أمور معاشه و يسلب الله البركة عما في يده أو الأعم منهما، و على الثاني الفقرة الثانية تأكيد و على الثالث تخصيص بعد التعميم.

" و لبست عليه دنياه"

 (5) أي خلطتها أو أشكلتها و ضيقت عليه المخرج منها، قال في المصباح: لبست الأمر لبسا من باب ضرب خلطته، و في التنزيل" وَ لَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ" و التشديد مبالغة، و في الأمر لبس بالضم و لبسة أيضا إشكال، و التبس الأمر أشكل، و لابسته بمعنى خالطته، و قال الراغب: أصل اللبس ستر الشي‏ء، و يقال ذلك في المعاني، يقال: لبست عليه أمره، قال تعالى:" وَ لَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ"" وَ لا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ"" لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ"" الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ" و يقال في الأمر لبسة أي التباس و لابست فلانا خالطته.

" و شغلت قلبه بها"

 (6) أي هو دائما في ذكرها و فكرها غافلا عن الآخرة و تحصيلها

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 315

و لا يصل من الدنيا غاية مناه فيخسر الدنيا و الآخرة، و ذلك هو الخسران المبين‏

" إلا استحفظته ملائكتي"

 (1) أي أمرتهم بحفظه من الضياع و الهلاك في الدين و الدنيا.

" و كفلت السماوات و الأرضين رزقه"

 (2) و قد مر" و ضمنت" أي جعلتهما ضامنين و كفيلين لرزقه، كناية عن تسبب الأسباب السماوية و الأرضية لوصول رزقه المقدر إليه.

" و كنت له من وراء تجارة كل تاجر"

 (3) أقول: قد مر أنه يحتمل وجوها الأول: أن يكون المعنى كنت له من وراء تجارة التاجرين أي عقبها أسوقها إليه أي أسخر له قلوبهم له و ألقي فيها أن يدفعوا قسطا من أرباح تجارتهم إليه.

الثاني: أني أتجر له عوضا عن تجارة كل تاجر له لو كانوا اتجروا له.

الثالث: أن المعنى أنا أي قربي و حبي له عوضا عن المنافع الزائلة الفانية التي تحصل للتجار في تجارتهم، و بعبارة أخرى أنا مقصوده في تجارته المعنوية بدلا عما يقصده التجار من أرباحهم الدنيوية" فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَ ما كانُوا مُهْتَدِينَ".

الرابع: أن المعنى كنت له بعد أن أسوق إليه أرباح التاجرين فتجتمع له الدنيا و الآخرة، و هي التجارة الرابحة.

" و أتته الدنيا و هي راغمة"

 (4) أي ذليلة منقادة كناية عن تيسر حصولها بلا مشقة و لا مذلة أو مع هوانها عليه، و ليست لها عنده منزلة لزهده فيها، أو مع كرهها كناية عن بعد حصولها له بحسب الأسباب الظاهرة لعدم توسله بأسباب حصولها، و هذا معنى لطيف و إن كان بعيدا، و في القاموس: الرغم الكره و يثلث كالمرغمة، رغمه كعلمه و منعه كرهه، و التراب كالرغام و رغم أنفي لله مثلثة ذل عن كره، و أرغمه الله أسخطه، و رغمته فعلت شيئا على رغمه، و في النهاية أرغم الله أنفه ألصقه بالرغام و هو التراب، هذا هو الأصل، ثم استعمل في الذل و العجز عن الانتصاف و الانقياد على كره.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 316

 (الحديث الثالث)

 (1): ضعيف على المشهور.

" أما اتباع الهوى فإنه يصد عن الحق"

 (2) لأن حب الدنيا و شهواتها يعمى القلب عن رؤية الحق و تمنع النفس عن متابعته، فإن الحق و الباطل متقابلان و الآخرة و الدنيا ضرتان متنافرتان. و الدنيا مع أهل الباطل فاتباع الهوى إما يصير سببا لاشتباه الحق بالباطل في نظره، أو يصير باعثا على إنكار الحق مع العلم به، و الأول كعوام أهل الباطل و الثاني كعلمائهم‏

" و طول الأمل"

 (3) أي ظن البقاء في الدنيا و توقع حصول المشتهيات فيها بالأماني الكاذبة الشيطانية

ينسى‏

 (4) الموت و

الآخرة

 (5) و أهوالها فلا يتوجه إلى تحصيل الآخرة و ما ينفعه فيها، و يخلصه من شدائدها و إنما ينسب الخوف منهما إلى نفسه القدسية لأنه هو مولى المؤمنين و المتولي لإصلاحهم و الراعي لهم في معاشهم، و الداعي لهم إلى صلاح معادهم.

 (الحديث الرابع)

 (6): ضعيف.

" اتق المرتقى السهل" إلخ،

 (7) المرقى و المرتقى و المرقاة موضع الرقي و الصعود من رقيت السلم و السطح و الجبل علوته، و

المنحدر

 (8) الموضع الذي ينحدر منه أي ينزل، من الانحدار و هو النزول، و

الوعر

 (9) ضد السهل، قال الجوهري: جبل وعر بالتسكين و مطلب وعر، قال الأصمعي: و لا تقل وعر.

أقول: و لعل المراد به النهي عن طلب الجاه و الرئاسة و سائر شهوات الدنيا

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 317

و مرتفعاتها فإنها و إن كانت مؤاتية على اليسر و الخفض إلا أن عاقبتها عاقبة سوء و التخلص من غوائلها و تبعاتها في غاية الصعوبة، و الحاصل أن متابعة النفس في أهوائها و الترقي من بعضها إلى بعض و إن كانت كل واحدة منها في نظره حقيرة، و تحصل له بسهولة، لكن عند الموت يصعب عليه ترك جميعها، و المحاسبة عليها، فهو كمن صعد جبلا بحيل شتى فإذا انتهى إلى ذروته تحير في تدبير النزول عنها.

و أيضا تلك المنازل الدنية تحصل له في الدنيا بالتدريج، و عند الموت لا بد من تركها دفعة، و لذا تشق عليه سكرات الموت بقطع تلك العلائق، فهو كمن صعد سلما درجة درجة ثم سقط في آخر درجة منه دفعة، فكلما كانت الدرجات في الصعود أكثر كان السقوط منها أشد ضررا و أعظم خطرا فلا بد للعاقل أن يتفكر عند الصعود على درجات الدنيا في شدة النزول عنها فلا يرقى كثيرا و يكتفي بقدر الضرورة و الحاجة، فهذا التشبيه البليغ على كل من الوجهين من أبلغ الاستعارات و أحسن التشبيهات، و في بعض النسخ: أتقي بالياء و كأنه من تصحيف النساخ، و لذا قرأ بعض الشارحين أتقى بصيغة التفضيل على البناء للمفعول و قرأ السهل مرفوعا ليكون خبرا للمبتدإ و هو أتقى، أو يكون أتقي بتشديد التاء بصيغة المتكلم من باب الافتعال فالسهل منصوب صفة للمرتقى، و كل منهما لا يخلو من بعد.

" لا تدع النفس و هواها"

 (1) أي لا تتركها مع هواها و ما تهواه و تحبه من الشهوات المردية

" فإن هواها في رداها"

 (2) أي هلاكها في الآخرة بالهلاك المعنوي، في القاموس ردي في البئر سقط كتردى و أرداه غيره و رداه و روي كرضى ردي هلك، و أرداه، و رجل ردها لك.

قوله عليه السلام: أذاها،

 (3) الأذى ما يؤذي الإنسان من مرض أو مكروه، و الشي‏ء القذر، و في بعض النسخ داؤها أي مرضها و هو أنسب بقوله: دواءها لفظا و معنى، في القاموس الدواء مثلثة ما داويت به، و بالقصر المرض.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 318

باب المكر و الغدر و الخديعة

 (1)

 (الحديث الأول)

 (2): مرفوع كالحسن.

و في القاموس:

المكر

 (3) الخديعة، و قال: خدعه كمنعه خدعا و يكسر ختله، و أراد به المكروه من حيث لا يعلم كاختدعه فانخدع، و الاسم الخديعة، و قال الراغب:

المكر صرف الغير عما يقصده بحيلة، و ذلك ضربان مكر محمود و هو أن يتحرى بذلك فعل جميل، و على ذلك قال الله عز و جل:" وَ اللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ" و مذموم و هو أن يتحرى به فعل قبيح، قال تعالى:" وَ لا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ" و قال في الأمرين:" وَ مَكَرُوا مَكْراً وَ مَكَرْنا مَكْراً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ" و قال بعضهم من مكر الله تعالى إمهال العبد و تمكينه من أعراض الدنيا، و لذلك قال أمير المؤمنين عليه السلام: من وسع عليه دنياه و لم يعلم أنه مكر به فهو مخدوع عن غفلة، و قال: الخداع إنزال الغير عما هو بصدده بأمر يبديه على خلاف ما يخفيه، انتهى.

و في المصباح:

خدعته‏

 (4) خدعا فانخدع، و الخدع بالكسر اسم منه، و الخديعة مثله، و الفاعل خدوع مثل رسول و خداع أيضا و خادع، و الخدعة بالضم ما يخدع به الإنسان مثل اللعبة لما يلعب به، انتهى.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 319

و ربما يفرق بينهما حيث اجتمعا بأن يراد بالمكر احتيال النفس و استعمال الرأي فيما يراد فعله مما لا ينبغي، و إرادة إظهار غيره و صرف الفكر في كيفيته، و بالخديعة إبراز ذلك في الوجود و إجراؤه على من يريد.

و كأنه عليه السلام إنما قال ذلك لأن الناس كانوا ينسبون معاوية لعنه الله إلى الدهاء و العقل، و ينسبونه عليه السلام إلى ضعف الرأي لما كانوا يرون من إصابة حيل معاوية المبنية على الكذب و الغدر و المكر، فبين عليه السلام أنه أعرف بتلك الحيل منه، و لكنها لما كانت مخالفة لأمر الله و نهيه، فلذا لم يستعملها، كما روى السيد رضي الله عنه في نهج البلاغة عنه صلوات الله عليه أنه قال: و لقد أصبحنا في زمان اتخذ أكثر أهله الغدر كيسا، و نسبهم أهل الجهل فيه إلى حسن الحيلة، ما لهم قاتلهم الله؟ قد يرى الحول القلب وجه الحيلة و دونه مانع من أمر الله و نهيه، فيدعها رأي العين بعد القدرة عليها، و ينتهز فرصتها من لا حريجة في الدين، و الحريجة التقوى.

و قال بعض الشراح في تفسير هذا الكلام: و ذلك لجهل الفريقين بثمرة الغدر و عدم تمييزهم بينه و بين الكيس، فإنه لما كان الغدر هو التفطن بوجه الحيلة و إيقاعها على المغدور به و كان الكيس هو التفطن بوجه الحيلة و المصالح فيما ينبغي، كانت بينهما مشاركة في التفطن بالحيلة و استخراجها بالآراء إلا أن تفطن الغادر بالحيلة التي هي غير موافقة للقوانين الشرعية و المصالح الدينية، و الكيس هو المتفطن بالحيلة الموافقة لهما، و لدقة الفرق بينهما يلبس الغادر غدرة بالكيس و ينسبه الجاهلون إلى حسن الحيلة كما نسب ذلك إلى معاوية و عمرو بن العاص و المغيرة بن شعبة و أضرابهم، و لم يعلموا أن حيلة الغادر تخرجه إلى رذيلة الفجور، و أنه لا حسن لحيلة جرت إلى رذيلة، بخلاف حيلة الكيس و مصلحته فإنها تجر

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 320

إلى العدل، انتهى.

و قد صرح عليه السلام بذلك في مواضع يطول ذكرها، و كونه عليه السلام أعرف بتلك الأمور و أقدر عليها ظاهر، لأن مدار المكر على استعمال الفكر في درك الحيل، و معرفة طرق المكروهات و كيفية إيصالها إلى الغير على وجه لا يشعر به، و هو عليه السلام لسعة علمه كان أعرف الناس بجميع الأمور، و المراد بكونهما في النار كون المتصف بهما فيها و الإسناد على المجاز.

 (الحديث الثاني)

 (1): ضعيف على المشهور.

و في القاموس: الغدر ضد الوفاء، غدر هو به كنصر و ضرب و سمع غدرا، و أقول: يطلق الغدر غالبا على نقض العهد و البيعة و إرادة إيصال السوء إلى الغير بالحيلة بسبب خفي، و

قوله: بإمام‏

 (2) متعلق بغادر، و المراد بالإمام إمام الحق.

و يحتمل أن يكون الباء بمعنى مع و يكون متعلقا بالمجي‏ء فالمراد بالإمام إمام الضلالة كما قال بعض الأفاضل‏

" يجي‏ء كل غادر"

 (3) يعني من أصناف الغادرين على اختلافهم في أنواع الغدر" بإمام" يعني مع إمام يكون تحت لوائه كما قال الله سبحانه:" يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ" و إمام كل صنف من القادرين على اختلافهم من كان كاملا في ذلك الصنف من القدر أو باديا به، و يحتمل أن يكون المراد بالغادر بإمام من غدر ببيعة إمام في الحديث الآتي خاصة، و أما هذا الحديث فلا، لاقتضائه التكرار و للفصل فيه بيوم القيامة، و الأول أظهر لأنهما في الحقيقة حديث واحد يبين أحدهما الآخر، فينبغي أن يكون معناهما واحدا، انتهى.

و في المصباح:

الشدق‏

 (4) بالفتح و الكسر جانب الفم قاله الأزهري، و جمع المفتوح‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 321

شدوق مثل فلس و فلوس، و جمع المسكور أشداق مثل حمل و أحمال، و قيل: لما كان الغادر غالبا يتشبث بسبب خفي لإخفاء غدرة ذكره عليه السلام أنه يعاقب بضد ما فعل، و هو تشهيره بهذه البلية التي تتضمن خزيه على رؤوس الأشهاد، ليعرفوه بقبح عمله، و

النكث‏

 (1) نقض البيعة، و الفعل كنصر و ضرب، في المصباح: نكث الرجل العهد نكثا من باب قتل نقضه و نبذه فانتكث مثل نقضه فانتقض و النكث بالكسر ما نقض ليغزل ثانية، و الجمع أنكاث.

قوله: أجذم‏

 (2)، قال الجزري فيه من تعلم القرآن ثم نسيه لقي الله يوم القيامة و هو أجذم، أي مقطوع اليد من الجذم القطع، و منه حديث علي عليه السلام من نكث بيعته لقي الله و هو أجذم، ليست له يد، قال القتيبي: الأجذم هيهنا الذي ذهبت أعضاؤه كلها و ليست اليد أولى بالعقوبة من باقي الأعضاء، يقال: رجل أجذم و مجذوم إذا تهافتت أطرافه من الجذام، و هو الداء المعروف، قال الجوهري: لا يقال للمجذوم أجذم و قال ابن الأنباري ردا على ابن قتيبة: لو كان العذاب لا يقع إلا بالجارحة التي باشرت المعصية لما عوقب الزاني بالجلد و الرجم في الدنيا و بالنار في الآخرة، قال ابن الأنباري: معنى الحديث أنه لقي الله و هو أجذم الحجة لا لسان له يتكلم، و لا حجة له في يده، و قول علي عليه السلام: ليست له يد أي لا حجة له، و قيل: معناه لقيه منقطع السبب يدل عليه قوله: القرآن سبب بيد الله، و سبب بأيديكم، فمن نسيه فقد قطع سببه.

و قال الخطابي: معنى الحديث ما ذهب إليه ابن الأعرابي: و هو أن من نسي القرآن لقي الله خالي اليد صفرها عن الثواب، فكني باليد عما تحويه و تشتمل عليه من الخير.

قلت: و في تخصيص علي عليه السلام بذكر اليد معنى ليس في حديث نسيان القرآن، لأن البيعة تباشرها اليد من بين الأعضاء، انتهى.

و أقول: في حديث القرآن أيضا يحتمل أن يكون المراد بنسيانه ترك العمل‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 322

بما يدل عليه من مبايعة ولي الأمر و متابعته، فيرجع معناه إلى الخبر الآخر.

 (الحديث الثالث)

 (1): كالسابق.

" ليس منا"

 (2) أي من أهل الإسلام مبالغة، أو من خواص أتباعنا و شيعتنا، و كان المراد

بالمماكرة

 (3) المبالغة في المكر فإن ما يكون بين الطرفين يكون أشد أو فيه إشعار بأن المكر قبيح و إن كان في مقابلة المكر.

 (الحديث الرابع)

 (4): ضعيف كالموثق.

و في المصباح وحد يحد

حدة

 (5) من باب وعد انفرد بنفسه، و كل شي‏ء على حدة أي متميز عن غيره، و في الصحاح أعط كل واحد منهم على حدة أي على حياله، و الهاء عوض عن الواو، و في القاموس: يقال جلس وحده و على وحده و على وحدهما و وحديهما و وحدهم، و هذا على حدته و على وحده أي توحده.

" على أن يغزوا"

 (6) بصيغة الجمع أي المسلمون‏

معهم،

 (7) أي مع الملك الغادر و أصحابه‏

تلك المدينة

 (8) أي أهل تلك المدينة المغدور بها و في بعض النسخ ملك المدينة أي الملك المغدور به أو على أن يغزو بصيغة المفرد أي الملك الغادر" معهم" أي مع المسلمين و الباقي كما مر

" و لا يأمروا بالغدر"

 (9) عطف على يغدروا و لا لتأكيد النفي، أي لا ينبغي للمسلمين أن يأمروا بالغدر، لأن الغدر عدوان و ظلم و الأمر بهما غير جائز و إن كان المغدور به كافرا

" و لا يقاتلوا مع الذين غدروا"

 (10) أي لا ينبغي لهم أن يقاتلوا

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 323

مع الغادرين المغدورين‏

و لكنهم يقاتلون المشركين حيث وجدوهم‏

 (1)، سواء كانوا من أهل هاتين القريتين أو غيرهم، و فيه دلالة على جواز قتالهم في حال الغيبة،

و لا يجوز عليهم ما عاهد عليه الكفار

 (2)، و معنى لا يجوز لا ينفذ و لا يصح، تقول: جاز العقد و غيره إذا نفذ، و مضى على الصحة، يعني عهد المشركين و صلحهم معهم على غزو فريقهم غير نافذ و لا صحيح، فلهم أن يقاتلوهم حيث وجدوهم، أو المعنى أن الصلح الذي جرى بين الفريقين لا يكون مانعا لقتال المسلمين، الفرقة التي لم يصالحوا مع المسلمين، فإن الصلح مع أحد المتصالحين لا يستلزم الصلح مع الآخر، أو المعنى أن ما صالحوا عليه الكفار من إعانتهم لا يلزمهم العمل به، فيكون تأكيدا لما مر، و الأول أظهر.

 (الحديث الخامس)

 (3): ضعيف، و قد مر مضمونه و شرحه.

 (الحديث السادس)

 (4): مجهول.

و في القاموس‏

الدهى‏

 (5) و الدهاء النكر و جودة الرأي و الإرب، و رجل داه و ده و داهية و الجمع دهاة و دهاه دهيا، و دهاه نسبه إلى الدهاء، أو عابه و تنقصه.

أو أصابه بداهية، و هي الأمر العظيم، و الدهى كغني العاقل، انتهى.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 324

و كان المراد هنا طلب الدنيا بالحيلة و استعمال الرأي في غير المشروع مما يوجب الوصول إلى المطالب الدنيوية و تحصيلها، و طالبها على هذا النحو يسمى داهيا و داهية للمبالغة، و هو مستلزم للغدر بمعنى نقض العهد و ترك الوفاء

" ألا أن لكل غدرة فجرة"

 (1) أي اتساع في الشر و انبعاث في المعاصي، أو كذب أو موجب للفساد أو عدول عن الحق.

في القاموس: الفجر الانبعاث في المعاصي و الزنا كالفجور فيهما، فجر فهو فجور من فجر بضمتين و فاجر من فجار و فجرة، و فجر فسق و كذب و عصى و خالف، و أمرهم فسد و أفجر كذب و زنى و كفر و مال عن الحق، انتهى.

و ربما يقرأ بفتح اللام للتأكيد و غدرة بالتحريك جمع غادر كفجرة جمع فاجر، و كذا الفقرة الثانية و لا يخفى بعده‏

" و لكل فجرة كفرة"

 (2) بالفتح فيهما أي سترة للحق أو كفران للنعمة و ستر لها أو المراد بها الكفر الذي يطلق على أصحاب الكبائر كما مر، و في القاموس الكفر ضد الإيمان و يفتح، و كفر نعمة الله و بها كفورا و كفرانا جحدها و سترها، و كافر جاحد لأنعم الله تعالى و الجمع كفار و كفرة، و كفر الشي‏ء ستره ككفرة، و قال:

الخون‏

 (3) أن يأتمن الإنسان فلا ينصح، خانه خونا و خيانة و قد خانه العهد و الأمانة.

و أقول: روي في نهج البلاغة عنه عليه السلام: ما معاوية بأدهى مني و لكنه يغدر و يفجر و لو لا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس و لكن كل غدرة فجرة و كل فجرة كفرة و لكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة، و الله ما استغفل بالمكيدة و لا استغمز بالشديدة، و قال ابن أبي الحديد: الغدرة على فعلة الكثير الغدر، و الكفرة و الفجرة الكثير الكفر و الفجور، و كلما كان على هذا البناء فهو الفاعل، فإن أسكنت العين تقول رجل ضحكة أي يضحك منه، و قال ابن ميثم: وجه لزوم الكفر

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 325

هنا أن الغادر على وجه استباحة ذلك و استحلاله كما هو المشهور من حال عمرو ابن العاص و معاوية في استباحة ما علم تحريمه بالضرورة من دين محمد صلى الله عليه و آله و سلم و جحده هو الكفر، و يحتمل أن يريد كفر نعم الله و سترها بإظهار معصيته كما هو المفهوم منه لغة، و إنما وحد الكفرة لتعدد الكفر بسبب تعدد الغدر.

باب الكذب‏

 (1)

 (الحديث الأول)

 (2): مجهول و قد مر قريب منه في باب طلب الرئاسة.

" كذبة"

 (3) أي كذبة واحدة فكيف الأكثر، و الكذب الإخبار عن الشي‏ء بخلاف ما هو عليه سواء طابق الاعتقاد أم لا على المشهور، و قيل: الصدق مطابقة الاعتقاد و الكذب خلافه، و قيل: الصدق مطابقة الواقع و الاعتقاد معا و الكلام فيه يطول و لا ريب في أن الكذب من أعظم المعاصي و أعظم أفراده و أشنعها الكذب على الله و على رسوله و على الأئمة عليهم السلام.

" فتسلب الحنيفية"

 (4) الحنيفية مفعول ثان لتسلب أي الملة المحمدية المائلة عن الضلالة إلى الاستقامة، أو من الشدة إلى السهولة، أي خرج عن كمال الملة و الدين و لم يعمل بشرائطها إلا أنه خرج من الملة حقيقة و قد مر نظائره أو هو محمول على ما إذا تعمد ذلك لإحداث بدعة في الدين أو للطعن على الأئمة الهادين، و في النهاية: الحنيف المائل إلى الإسلام الثابت عليه، و الحنيفية عند العرب من كان على دين إبراهيم و أصل الحنيف الميل، و منه الحديث بعثت بالحنيفية السمحة السهلة، انتهى.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 326

و الكذب يصدق على العمد و الخطإ لكن الظاهر أن الإثم يتبع العمد، و الكذب عليهم يشمل افتراء الحديث عليهم، و صرف حديثهم إلى غير مرادهم و الجزم به و نسبة فعل إليهم لا يرضون به، أو ادعاء مرتبة لهم لم يدعوها كالربوبية و خلق العالم و علم الغيب، أو فضلهم على الرسول صلى الله عليه و آله و سلم و أمثال ذلك، أو نسبة ما يوجب النقص إليهم كفعل ينافي العصمة و أشباهه.

" و لا تطلبن أن تكون رأسا فتكون ذنبا"

 (1) الفاء متفرع على الطلب و هو يحتمل وجوها:

الأول: أن يكون الذنب كناية عن الذل و الهوان عند الله و عند الصالحين من عباده.

الثاني: أن يكون المراد به التأخر في الآخرة عمن طلب الرئاسة عليهم، و قد نبه على ذلك بتشبيه حسن و هو أن الركبان المترتبون الذاهبون في طريق إذا بدا لهم الرجوع أو اضطروا إليه يقع لضيق الطريق لا محالة المتأخر متقدما و المتقدم متأخرا، و كذا القطيع من الغنم و غيره إذا رجعوا ينعكس الترتيب.

الثالث: أن يكون المعنى تكون ذنبا و ذليلا و لا يحصل مرادك في الدنيا أيضا فإن الطالب لكل مرتبة من مراتب الدنيا يصير محروما منها غالبا و الهارب من شي‏ء منها تدركه.

الرابع: أن يكون المعنى أن الرئاسة في الدنيا لأوساط الناس لا يكون إلا بالتوسل برئيس أعلى منه إما في الحق أو في الباطل، و لما كان في غير دولة الحق لا يمكن التوسل بأهل الحق في ذلك، فلا بد من التوسل بأهل الباطل فيكون ذنبا و تابعا لهم و من أعوانهم و أنصارهم محشورا في الآخرة معهم، لقوله تعالى:" احْشُرُوا

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 327

الَّذِينَ ظَلَمُوا وَ أَزْواجَهُمْ" إلا أن يكون مأذونا من قبل إمام الحق خصوصا أو عموما و يفعل ذلك بنياتهم على الوجه الذي أمروا به، و هذا في غاية الندرة و أكثر الوجوه مما خطر بالبال، و الله أعلم بحقيقة الحال.

و ربما يقرأ ذئبا بالهمزة بدل النون أي آكلا للناس و أموالهم و مهلكا لهم و هو مخالف للنسخ المضبوطة

" و لا تستأكل الناس بنا"

 (1) أي لا تطلب أكل أموال الناس بوضع الأخبار الكاذبة فينا أو بافتراء الأحكام و نسبتها إلينا

" فتفتقر"

 (2) أي في الدنيا أو في الآخرة و الأخير أنسب بما هنا، لكن كان فيما مضى: و لا تقل فينا ما لا نقول في أنفسنا فإنك موقوف.

 (الحديث الثاني)

 (3): مرسل.

و في المصباح:

جد

 (4) في الأمر يجد جدا من بابي ضرب و قتل اجتهد فيه و الاسم الجد بالكسر، و منه يقال: فلان محسن جدا، أي نهاية و مبالغة، و جد في الكلام جدا من باب ضرب هزل و الاسم منه الجد بالكسر أيضا و الأول هو المراد هنا للمقابلة، و

هزل‏

 (5) في كلامه هزلا من باب ضرب مزح و لعب، و الفاعل هازل و هزال مبالغة، و الظاهر أن كل واحد من الجد و الهزل متعلق بالصغير و الكبير و تخصيص الأول بالصغير و الثاني بالكبير بعيد، و ظاهره حرمة الكذب في الهزل أيضا، و يؤيده عمومات النهي عن الكذب مطلقا و لم أذكر تصريحا من الأصحاب في ذلك.

و روي من طريق العامة عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنه قال: ويل للذي يحدث فيكذب‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 328

ليضحك. فويل له ثم ويل له، و روي أنه صلى الله عليه و آله و سلم كان يمزح و لا يقول إلا حقا و لا يؤذي قلبا و لا يفرط فيه، فالمزاح على حد الاعتدال مع عدم الكذب و الأذى لا حرج فيه، بل هو من خصال الإيمان، و لا ريب أن ترك الكذب في المزاح إذا لم يكن من المعاريض المجوزة التي يكون مقصود القائل فيها حقا كما سيأتي أولى و أحوط، لكن الحكم بالتحريم بمجرد هذه الأخبار مشكل، لا سيما إذا لم يترتب عليه مفسدة، و يظهر خلافه قريبا و إنما المقصود محض المطايبة فإن هذه الأخبار مسوقة لبيان مكارم الأخلاق و الزجر عن مساويها أعم من أن تكون واجبة أو مندوبة، محرمة أو مكروهة، و المراد بالكبير إما الكذب على الله و على رسوله و على الأئمة عليهم السلام كما سيأتي أنها من الكبائر، أو الأعم منها و مما تعظم مفسدته و ضرره على المسلمين.

و قوله: اجترأ على الكبير،

 (1) أي على الكبير من الكذب بأحد المعنيين، أو الكبير من المعاصي أعم من الكذب و غيره، فإن الكذب كثيرا ما يؤدي إلى ذنوب غيره كما أن الصدق يؤدي إلى البر و العمل الصالح حتى يكتب صديقا.

و يخطر بالبال وجه آخر و هو أن يكون المراد بالكبير الرب العليم القدير، أي لا تجتر على الكذب الصغير بأنه صغير فإنه معصية لله و معصية الكبير كبيرة، و ما سيأتي بالأول أنسب.

قال الراغب:

الصديق‏

 (2) من كثر منه الصدق، و قيل: بل يقال ذلك لمن لم يكذب قط، و قيل: بل لمن لا يتأتى منه الكذب، لتعوده الصدق، و قيل: من صدق بقوله و اعتقاده و حقق صدقه بفعله، و الصديقون هم قوم دون الأنبياء في الفضيلة، و قيل: لعل معنى يكتب، على ظاهره فإنه يكتب في اللوح المحفوظ أو في دفتر الأعمال أو في غيرهما أن فلانا صديق و فلانا كذاب ليعرفهما الناظرون إليه بهذين‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 329

الوصفين، أو معناه يحكم لهما بذلك أو يوجب لهما استحقاق الوصف بصفة الصديقين و ثوابهم، و صفة الكذابين و عقابهم، أو معناه أنه يلقى ذلك في قلوب المخلوقين و يشهره بين المقربين.

 (الحديث الثالث)

 (1): موثق.

و الشر

 (2) في الأول صفة مشبهة و في الثاني أفعل التفضيل، و المراد

بالشراب‏

 (3) جميع الأشربة المسكرة، و كان المراد

بالأقفال‏

 (4) الأمور المانعة من ارتكاب الشرور من العقل و ما يتبعه و يستلزمه من الحياء من الله و من الخلق، و التفكر في قبحها و عقوباتها و مفاسدها الدنيوية و الأخروية، و الشراب يزيل العقل، و بزوالها ترتفع جميع تلك الموانع، فتفتح جميع الأقفال.

و كان المراد

بالكذب‏

 (5) الذي هو شر من الشراب الكذب على الله و على حججه عليهم السلام، فإنه تألى الكفر و تحليل الأشربة المحرمة ثمرة من ثمرات هذا الكذب، فإن المخالفين بمثل ذلك حللوها، و قيل: الوجه فيه أن الشرور التابعة للشراب تصدر بلا شعور بخلاف الشرور التابعة للكذب، و قد يقال: الشر في الثاني أيضا صفة مشبهة و من تعليلية و المعنى أن الكذب أيضا شر ينشأ من الشراب لئلا ينافي ما سيأتي في كتاب الأشربة أن شرب الخمر أكبر الكبائر.

 (الحديث الرابع)

 (6): ضعيف.

و الحمل على المبالغة، أي هو سبب‏

خراب الإيمان‏

 (7) و قد يقرأ بتشديد الراء بصيغة المبالغة.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 330

 (الحديث الخامس)

 (1): ضعيف.

 (الحديث السادس)

 (2): موثق.

و لفظة

" ثم"

 (3) إما للترتيب الرتبي و يحتمل الزماني أيضا إذ علم الله مقدم على إرادته أيضا، ثم بإلهام الله تعالى يعلم الملكان أو عند الإرادة تظهر منه رائحة خبيثة يعلم الملكان قبحه و كذبه كما يظهر من بعض الأخبار، و يمكن أن يكون علم الملكين لمصاحبتهما له و علمهما بأحواله بناء على عدم تبدلهما في كل يوم كما هو ظاهر أكثر الأخبار، و أما تأخر علمه فلأنه ما لم يتم الكلام لا يعلم يقينا صدور الكذب منه.

 (الحديث السابع)

 (4): صحيح.

و أريد

بالكذاب‏

 (5) في هذا الحديث إما مدعي الرئاسة بغير حق و سبب‏

إهلاكه بالبينات‏

 (6) إفتاؤه بغير علم مع علمه بجهله، و سبب هلاك‏

أتباعه بالشبهات‏

 (7) تجويز كونه عالما و عدم قطعهم بجهله، فهم في شبهة من أمره أو من يضع الحديث و يبتدع في الدين فهو يهلك نفسه بأمر يعلم كذبه و أتباعه يهلكون بالشبهة و الجهالة لحسن ظنهم به و احتمالهم صدقه، و الوجهان متقاربان.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 331

 (الحديث الثامن)

 (1): صحيح.

" بأن يخبرك"

 (2) كان الباء زائدة أو التقدير تعلم بأن يخبرك و إنما كان هذا آية الكذاب لأنه لو كان علمه بالوحي و الإلهام لكان أحرى بأن يعلم الحلال و الحرام، لأن الحكيم العلام من يفيض على الأنام ما هم أحوج إليه من الحقائق و الأحكام، و كذا لو كان بالوراثة عن الأنبياء و الأوصياء عليهم السلام، و لو كان بالكشف فعلى تقدير إمكان حصوله لغير الحجج عليهم السلام فالعلم بحقائق الأشياء على ما هي عليه لا يحصل لأحد إلا بالتقوى و تهذيب السر عن رذائل الأخلاق، قال الله تعالى:" وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ يُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ" و لا يحصل التقوى إلا بالاقتصار على الحلال و الاجتناب عن الحرام، و لا يتيسر ذلك إلا بالعلم بالحلال و الحرام، فمن أخبر عن شي‏ء من حقائق الأشياء و لم يكن عنده معرفة بالحلال و الحرام فهو لا محالة كذاب يدعي ما ليس له.

 (الحديث التاسع)

 (3): حسن موثق.

و يدل على أن الكذب على الله و على رسوله و على الأئمة عليهم السلام يفسد الصوم كما ذهب إليه جماعة من الأصحاب، و هم اختلفوا فقيل: يجب به القضاء و الكفارة، و قيل: القضاء خاصة، و المشهور أنه لا يفسد و إن نقص به ثوابه و فضله، و تضاعف‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 332

به العذاب و العقاب.

 (الحديث العاشر)

 (1): مرسل.

و قوله: أنه ملعون‏

 (2)، بفتح الهمزة بدل اشتمال للحائك، و يحتمل أن يكون الحديث عنده عليه السلام موضوعا و لم يمكنه إظهار ذلك تقية فذكر له تأويلا يوافق الحق، و مثل ذلك في الأخبار كثير يعرف ذلك من اطلع على أسرار أخبارهم عليهم السلام و استعارة الحياكة لوضع الحديث شايعة بين العرب و العجم.

 (الحديث الحادي عشر)

 (3): مجهول.

و وجدان طعم الإيمان‏

 (4) كناية عن كماله و ترتب الثمرات العظيمة عليه، و لا يكون ذلك إلا بوصوله درجة اليقين و صاحب اليقين المشاهد لمثوبات الآخرة و عقوباتها دائما لا يجترئ على شي‏ء من المعاصي لا سيما الكذب الذي هو من كبائرها.

 (الحديث الثاني عشر)

 (5): حسن كالصحيح.

و المطبوع على الكذب‏

 (6) المجبول عليه بحيث صار عادة له و لا يتحرز عنه و

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 333

لا يبالي به و لا يندم عليه، و من لا يكون كذلك لا يصدق عليه الكذاب مطلقا فإنه صيغة مبالغة، أو المراد الكذاب الذي يكتبه الله كذابا كما مر، أو الكذاب الذي ينبغي أن يجتنب مؤاخاته كما سيأتي، و فيه إيماء إلى أن الكذب مطلقا ليس من الكبائر، و في القاموس طبع على الشي‏ء بالضم: جبل.

 (الحديث الثالث عشر)

 (1): مرسل.

" ذهب بهاؤه"

 (2) أي حسنه و جماله و وقره عند الله سبحانه و عند الخلق، فإن الخلق و إن لم يكونوا من أهل الملة يكرهون الكذب و يقبحونه و يتنفرون من أهله.

 (الحديث الرابع عشر)

 (3): مرفوع.

و سيأتي مثله في باب مجالسة أهل المعاصي في كتاب العشرة في باب من تكره مجالسته و مصادقته‏

" حتى يجي‏ء بالصدق فلا يصدق"

 (4) الظاهر أنه على بناء المفعول من التفعيل أي لكثرة ما ظهر لك من كذبه لا يمكنك تصديقه فيما يأتي به من الصدق أيضا فلا تنتفع بمصاحبته و مؤاخاته، مع أنه جذاب لطبع الجليس إلى طبعه، و يخطر بالبال أنه يحتمل أن يكون المراد به أن هذا الرجل المؤاخي يكذب نقلا عن الأخ الكذاب لاعتماده عليه ثم يظهر كذب ما أخبر به حتى لا يعتمد الناس على صدقه أيضا كما ورد في الخبر: كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما يسمع، و ما سيأتي في البابين يؤيد المعنى الأول، و ربما يقرأ يصدق على بناء المجرد أي إذا

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 334

أخبر بصدق يغيره و يدخل فيه شيئا يصير كذبا.

 (الحديث الخامس عشر)

 (1): موثق كالصحيح.

" إن مما أعان الله على الكذابين"

 (2) أي أضرهم به و فضحهم فإنهم كثيرا ما يكذبون في خبر ثم ينسون و يخبرون بما ينافيه و يكذبه، فيفتضحون بذلك عند الخاصة و العامة، قال الجوهري: في الدعاء رب أعني و لا تعن على.

 (الحديث السادس عشر)

 (3): مرسل.

" تسمع من الرجل كلاما"

 (4) كان من بمعنى في كما في قوله تعالى:" إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ" أي فيه، و كذا قالوا في قوله سبحانه:" أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ" أي في الأرض، و يحتمل أن يكون تقدير الكلام تسمع من رجل كلاما في حق رجل آخر يذمه به فيبلغ الرجل الثاني ذلك الكلام فتخبث نفسه عن الأول أي يتغير عليه و يبغضه فتلقى الرجل الثاني فتقول: سمعت من الرجل الأول فيك كذا و كذا من مدحه خلاف ما سمعت منه من ذمه، و التكلف فيه من جهة إرجاع ضمير يبلغه إلى الرجل الثاني، و هو غير مذكور في الكلام لكنه معلوم بقرينة المقام.

و هذا القول و إن كان كذبا لغة و عرفا جائز لقصد الإصلاح بين الناس‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 335

و كأنه لا خلاف فيه عند أهل الإسلام، و الظاهر أنه لا تورية و لا تعريض فيه، و إن أمكن أن يقصد تورية بعيدة كان ينوي أنه كان حقه أن يقول كذا و لو صافيته لقال فيك كذا، لكنه بعيد، و قد اتفقت الأمة على أنه لو جاء ظالم ليقتل رجلا مختفيا ليقتله ظلما أو يطلب وديعة مؤمن ليأخذها غصبا وجب الإخفاء على من علم ذلك، فلو أنكرها فطولب باليمين ظلما يجب عليه أن يحلف لكن قالوا إذا عرف التورية بما يخرج به عن الكذب وجبت التورية، كان يقصد ليس عندي مال يجب علي أداؤه إليك، أو لا أعلم علما يلزمني الإخبار به و أمثال ذلك.

و قالوا: إذا لم يعرفها وجب الحلف و الكذب بغير تورية أيضا فإنه و إن كان قبيحا إلا أن إذهاب حق الآدمي أشد قبحا من حق الله تعالى في الكذب أو اليمين الكاذبة، فيجب ارتكاب أخف الضررين، و لأن اليمين الكاذب عند الضرورة مأذون فيه شرعا كمطلق الكذب النافع، بخلاف مال الغير فإنه لا يباح إذهابه بغير إذنه مع إمكان حفظه فأمثال هذا الكذب ليست بمذمومة في نفس الأمر بل إما واجبة أو مندوبة، و يدل الحديث على أن الكذب شرعا إنما يطلق على ما كان مذموما فغير المذموم قسم ثالث من الكلام يسمى إصلاحا فهو واسطة بين الصدق و الكذب.

 (الحديث السابع عشر)

 (1): مجهول.

" في قول يوسف عليه السلام"

 (2) هذا لم يكن قول يوسف عليه السلام و إنما كان قول مناديه و نسب إليه لوقوعه بأمره، و

العير

 (3) بالكسر الإبل تحمل الميرة، ثم غلب على كل‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 336

قافلة

" و قال إبراهيم"

 (1) عطف على الجملة السابقة بتقدير روينا، و قيل" قال" هنا مصدر، فإن القال و القيل مصدران كالقول، فهو عطف على قول يوسف‏

" بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ"

 (2) أريد بالكبير الكبير في الخلقة أو التعظيم، قيل: كانت لهم سبعون صنما مصطفة و كان ثمة صنم عظيم مستقبل الباب من ذهب و في عينيه جوهرتان تضيئان بالليل، و لعل إرجاع الضمير المذكر العاقل إلى الأصنام من باب التهكم أو باعتبار أنها يعقلون و يفهمون و يجيبون بزعم عبادها، و أما ضمير الجمع في‏

قوله عليه السلام: و الله ما فعلوا،

 (3) فراجع إلى الكبير باعتبار إرادة الجنس الشامل للمتعدد و لو فرضا، أو إلى الأصنام للتنبيه على اشتراك الجميع في عدم صلاحية صدور ذلك الفعل منه.

و قيل: إنما أتى بالجمع لمناسبة ما سرقوا أو مبني على أن الفعل الصادر عن واحد من الجماعة قد ينسب إلى الجميع نحو قوله تعالى:" فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ" بناء على أن المنادي جبرئيل فقط، قيل: و يمكن أن يكون إرجاع ضمير

" فَسْئَلُوهُمْ"

 (4) أيضا من هذا القبيل إذ لو كان المقصود نطق كل واحد في الزمان المستقبل تكون زيادة

" كانوا"

 (5) في المضارع لغوا و إن كان الغرض النطق في الزمان الماضي لا يترتب عليه صحة السؤال إذ لا يلزم جواز نطقهم قبل الكسر جواز ذلك بعده.

" أحب الخطر فيما بين الصفين"

 (6) في النهاية يقال: خطر البعير بذنبه يخطر إذا رفعه و حطه، إنما يفعل ذلك عند الشبع و السمن، و منه حديث مرحب: فخرج‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 337

يخطر بسيفه أي يهزه معجبا بنفسه متعرضا للمبارزة، أو أنه كان يخطر في مشيته أي يتمايل و يمشي مشية المعجب، و سيفه في يده أي كان يخطر سيفه معه.

" إرادة الإصلاح"

 (1) لعل المراد إرادة إصلاح قومه برجوعهم عن عبادة الأصنام، وجه الدلالة أن العاقل إذا تفكر في نسبة الكسر إليها و علم أنه لا يصح ذلك إلا من ذي شعور عاقل قادر، و علم أن هذه الأوصاف منتفية فيها، و علم أنها لا تقدر على دفع الاستخفاف و الضرر عن أنفسها علم أنها ليست بمستحقة للألوهية و العبادة و يكون ذلك داعيا إلى الرجوع عنها و رفض العبادة لها.

و للعلماء فيه وجوه أخرى: الأول: أنها من المعاريض التي يقصد بها الحق و إلزام الخصم و تبكيته فلم يكن قصده عليه السلام أن ينسب الفعل الصادر عنه إلى الصنم و إنما قصد أن يقرره لنفسه على أسلوب تعريضي مع الاستهزاء و التكبيت كما لو قال لك من لا يحسن الخط فيما كتبته بخط رشيق: أنت كتبت؟ فقلت: بل كتبته أنت، كان قصدك بهذا الجواب تقريره لك مع الاستهزاء به لا نفيه عنك و إثباته لصاحبك الأمي، و التعريض مما يجوز عقلا و نقلا لمصلحة جلب نفع أو دفع ضرر أو استهزاء في موضعه و نحوها.

الثاني: أنه عليه السلام غاظته الأصنام حين رآها مصطفة مزينة و كان غيظ كبيرها أشد لما رأى من زيادة تعظيمهم و توقيرهم له، فأسند الفعل إليه لأنه هو السبب في استهانته و كسره لها، و الفعل كما يسند إلى المباشر يسند إلى السبب أيضا.

الثالث: أن ذلك حكاية لما يعود إليه مذهبهم كأنه قال: ما تنكرون أن يفعله كبيرهم فإن من حق من يعبد و يدعي إليها أن يقدر على أمثال هذه الأفعال لا سيما الكبير الذي يستنكف أن يعبد معه هذه الصغار.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 338

الرابع: ما روي عن الكسائي أنه كان يقف عند قوله: بل فعله، ثم يبتدئ:

كبيرهم هذا، أي فعله من فعله و هذا من باب التورية إذ له ظاهر و باطن، و باطنه ما ذكر و ظاهره إسناد الفعل إلى الكبير و فهمهم تعلق به و مراده عليه السلام هو الباطن.

الخامس: ما روي عن بعضهم أنه كان يقف عند قوله كبيرهم، ثم يبتدئ بقول هذا فاسألوهم، و أراد بالكبير نفسه لأن الإنسان أكبر من كل صنم، و هذا أيضا من باب التورية و قيل: إنه يتم بدون الوقف أيضا بأن يكون هذا إشارة إلى نفسه المقدسة و المغايرة بين المشير و المشار إليه كاف بحسب الاعتبار.

السادس: أن في الكلام تقديما و تأخيرا و التقدير: بل فعله كبيرهم إن كانوا ينطقون فاسألوهم، فيكون إضافة الفعل إلى كبيرهم مشروطا بكونهم ناطقين فلما لم يكونوا ناطقين لم يكونوا فاعلين، و الغرض منه تسفيه القوم و تقريعهم و توبيخهم لعبادة من لا يسمع و لا ينطق و لا يقدر على أن يخبر من نفسه بشي‏ء.

و يؤيده ما روي في كتاب الاحتجاج أنه سئل الصادق عن قول الله عز و جل في قصة إبراهيم:" قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ" قال: ما فعله كبيرهم و ما كذب إبراهيم، قيل: و كيف ذلك؟ فقال: إنما قال إبراهيم:

فاسألوهم إن كانوا ينطقون، إن نطقوا فكبيرهم فعل، و إن لم ينطقوا فلم يفعل كبيرهم شيئا فما نطقوا و ما كذب إبراهيم.

و قال البيضاوي: و ما روي أنه عليه السلام قال: لإبراهيم ثلاث كذبات، تسمية للمعاريض كذبا لما شابهت صورتها صورته.

" و قال يوسف عليه السلام إرادة الإصلاح"

 (1) كان المراد الإصلاح بينه و بين إخوته في حبس أخيه بنيامين عنده و إلزامهم ذلك بحيث لا يكون لهم محل منازعة و لم يتيسر له ذلك إلا بأمرين: أحدهما نسبة السرقة إليه، و ثانيهما: التمسك بحكم آل يعقوب في السارق و هو استرقاق السارق سنة و كان حكم ملك مصر أن يضرب السارق‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 339

و يغرم مما سرق فلم يتمكن من أخذ أخيه في دين الملك فلذلك أمر فتيانه بأن يدسوا الصاع في رحل أخيه و أن ينسبوا السرقة إليه، و أن يستفتوا في جزاء السارق منهم فقالوا:" جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ" أي أخذ السارق نفسه هو جزاؤه لا غير، فلما فتشوا وجدوا الصاع في رحل أخيه فأخذوا برقبته و حكموا برقيته، و لم يبق لإخوته محل منازعة في حبسه إلا أن قالوا على سبيل التضرع و الالتماس" فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ" فردهم بقوله:" مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ".

قيل: أراد إنا إذا أخذنا غيره لظالمون في مذهبكم، لأن استعباد غير من وجد الصاع في رحله ظلم عندكم، أو أراد أن الله أمر بي و أوحى إلى أن آخذ بنيامين فلو أخذت غيره كنت عاملا بخلاف الوحي.

و للعلماء فيه أيضا وجوه أخرى: الأول: أن ذلك النداء لم يكن بأمره بل نادوا من عند أنفسهم لأنهم لما لم يجدوا الصاع غلب على ظنهم أنهم أخذوه.

الثاني: أنهم لم ينادوا أنكم سرقتم الصاع فلعل المراد أنكم سرقتم يوسف من أبيه، يدل عليه ما رواه الصدوق في العلل بإسناده عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال في تفسير هذه الآية: أنهم سرقوا يوسف من أبيه أ لا ترى أنهم حين قالوا" ما ذا تَفْقِدُونَ قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ" و لم يقولوا سرقتم صواع الملك.

الثالث: لعل المراد من قولهم" إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ" الاستفهام كما في قوله حكاية عن إبراهيم" هذا رَبِّي" و إن كان ظاهره الخبر و أيد ذلك بأن في مصحف ابن مسعود أئنكم بالهمزتين.

و قال بعض الأفاضل: حاصل الجواب إن لكل من الصدق و الكذب معنيين أحدهما لغوي و الآخر عرفي، فالأول هو الموافق للواقع و المخالف للواقع، و الثاني الموافق للحق و المخالف للحق، و المراد بالحق رضا الله تعالى فكما يمكن أن لا

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 340

يكون الصادق اللغوي صادقا عرفيا كما قال تعالى" فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ فكذلك يمكن أن لا يكون الكاذب اللغوي كاذبا عرفيا كما ذكره عليه السلام في هذا الخبر.

 (الحديث الثامن عشر)

 (1): مجهول‏

" يوما"

 (2) لعل الإبهام لاحتمال أن يكون السؤال في القبر أو في القيامة، و يحتمل الدنيا أيضا فإن للناس أن يعيروه بذلك‏

" إلا كذبا"

 (3) المراد به الكذب اللغوي‏

" فهو موضوع عنه"

 (4) أي إثمه مرفوع عنه لا يأثم عليه‏

" يلقى هذا بغير ما يلقى به هذا"

 (5) كان يقول: لكل منهما التقصير منك و هو غير مقصر في حقك أو يلقى كلا منهما بكلام غير الكلام الذي سمع من الآخر فيه و من الشتم و إظهار العداوة، و هذا أنسب معنى و الأول لفظا" و ما" في قوله: ما بينهما، موصولة و هي مفعول الإصلاح.

" أو رجل وعد أهله"

 (6) فيه أن الوعد من قبيل الإنشاء، و الصدق و الكذب إنما يكونان في الخبر، و لعله باعتبار أنه يلزمه إذا لم يف به أن يعتذر بما يتضمن الكذب كان يقول نسيت أو لم يمكني و أمثال ذلك، أو باعتبار ما يستلزمه من الإخبار ضمنا بإرادة الوفاء، هذا بحسب ما هو أظهر عندي في الوعد لكن ظاهر أكثر العلماء أنه من قبيل الخبر و سيأتي الكلام فيه في باب خلف الوعد.

قال الراغب: الصدق و الكذب أصلهما في القول ماضيا كان أو مستقبلا، وعدا كان أو غيره، و لا يكونان بالقصد الأول إلا في القول، و لا يكونان من القول إلا

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 341

في الخبر دون غيره من أصناف الكلام الاستفهام و الأمر و الدعاء، و لذلك قال:

" وَ مَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا"" وَ مَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً"" وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ" و قد يكونان بالعرض في غيره من أنواع الكلام من الاستفهام و الأمر و الدعاء و ذلك نحو قول القائل: أ زيد في الدار؟ فإن في ضمنه إخبارا بكونه جاهلا بحال زيد و كذا إذا قال: واسني في ضمنه أنه محتاج إلى المواساة، و إذا قال: لا تؤذني ففي ضمنه أنه يؤذيه، انتهى.

ثم اعلم أن مضمون الحديث متفق عليه بين الخاصة و العامة فروى الترمذي عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم: لا يحل الكذب إلا في ثلاث: يحدث الرجل امرأته ليرضيها، و الكذب في الحرب، و الكذب في الإصلاح بين الناس، و في صحيح مسلم قال ابن شهاب و هو أحد رواته: لم أسمع يرخص في شي‏ء مما يقول الناس كذب إلا في ثلاث: الحرب و الإصلاح بين الناس و حديث الرجل امرأته و حديث المرأة زوجها، قال عياض: لا خلاف في جوازه في الثلاث و إنما يجوز في صورة ما يجوز منه فيها فأجاز قوم فيها صريح الكذب و أن يقول ما لم يكن، لما فيه من المصالح و يندفع فيها الفساد، قالوا: و قد يجب لنجاة مسلم من القتل، و قال بعضهم: لا يجوز فيها التصريح بالكذب و إنما يجوز فيها التورية بالمعاريض، و هي شي‏ء يخلص من المكروه و الحرام إلى الجائز، إما لقصد الإصلاح بين الناس أو لدفع ما يضر أو لغير ذلك و تأول المروي على ذلك.

و قال: مثل أن يعد زوجته أن يفعل لها و يحسن إليها، و نيته إن قدر الله تعالى أو يأتيها في هذا بلفظ محتمل، و كلمة مشتركة تفهم من ذلك ما يطيب قلبها، و كذلك في الإصلاح بين الناس ينقل لهؤلاء من هؤلاء الكلام المحتمل، و كذلك في الحرب‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 342

مثل أن يقول لعدوه: انحل حزام سرجك و يريد فيما مضى، و يقول لجيش عدوه مات أميركم ليذعر قلوبهم، و يعني النوم أو يقول لهم: غدا يأتينا مدد و قد أعد قوما من عسكره ليأتوا في صورة المدد أو يعني بالمدد الطعام، فهذا نوع من الخدع الجائزة و المعاريض المباحة.

و قال القرطبي: لعل ما استند في منعه التصريح بقاعدة حرمة الكذب و تأويله الأحاديث بحملها على المعاريض ما يعضده دليل، و أما الكذب ليمنع مظلوما من الظلم عليه فلم يختلف فيه أحد من الأمم لا عرب و لا عجم، و من الكذب الذي يجوز بين الزوجين الإخبار بالمحبة و الاغتباط و إن كان كذبا لما فيه من الإصلاح و دوام الألفة.

 (الحديث التاسع عشر)

 (1): صحيح و كان فيه إشعارا بتجويز التكرار و المبالغة في الكذب للإصلاح.

 (الحديث العشرون)

 (2): مجهول.

و في القاموس:

الزعم‏

 (3) مثلثة القول الحق و الباطل و الكذب ضد، و أكثر ما يقال فيما يشك فيه، و الزعمي الكذاب و الصادق، و زعمتني كذا ظننتني و التزعم التكذب و أمر مزعم كمقعد لا يوثق به، و في النهاية فيه أنه ذكر أيوب عليه السلام فقال: إذا كان مر برجلين يتزاعمان، و قال الزمخشري: معناه أنهما يتحادثان بالزعمات و هي ما لا يوثق به من الأحاديث، و منه الحديث بئس مطية الرجل، زعموا معناه أن الرجل إذا أراد المسير إلى بلد و الظعن في حاجة ركب مطية حتى يقضي إربه فشبه ما

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 343

يقدمه المتكلم أمام كلامه و يتوصل به إلى غرضه من قوله زعموا كذا و كذا بالمطية التي يتوصل بها إلى الحاجة و إنما يقال: زعموا في حديث لا سند له و لا ثبت فيه، و إنما يحكى عن الألسن على البلاغ فذم من الحديث ما هذا سبيله، و الزعم بالضم و الفتح قريب من الظن.

و قال في المصباح: زعم زعما من باب قتل، و في الزعم ثلاث لغات: فتح الزاي للحجاز، و ضمها لأسد و كسرها لبعض قيس، و يطلق بمعنى القول، و منه زعمت الحنفية و زعم سيبويه، أي قال، و عليه قوله تعالى:" أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ" أي كما أخبرت، و يطلق على الظن، يقال: في زعمي كذا و على الاعتقاد، و منه قوله تعالى:" زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا".

قال الأزهري: و أكثر ما يكون الزعم فيما يشك فيه و لا يتحقق، و قال بعضهم: هو كناية عن الكذب، و قال المرزوقي: أكثر ما يستعمل فيما كان باطلا و فيه ارتياب، و قال ابن القوطية: زعم زعما قال خبرا لا يدري أ حق هو أو باطل، قال الخطابي: و لذا قيل: زعم مطية الكذب، و زعم غير مزعم، قال غير مقول صالح، و ادعى ما لا يمكن، انتهى.

أقول: و إذا علمت ذلك ظهر لك أن الزعم إما حقيقة لغوية أو عرفية أو شرعية في الكذب، أو ما قيل بالظن أو بالوهم من غير علم و بصيرة، فإسناده إلى من لا يكون قوله إلا عن حقيقة و يقين ليس من دأب أصحاب اليقين، و إن كان مراده مطلق القول أو القول عن علم فغرضه عليه السلام تأديبه و تعليمه آداب الخطاب مع أئمة الهدى و سائر أولي الألباب.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 344

و أما الحكم بكون ذلك كذبا و حراما فهو مشكل، إذ غاية الأمر أن يكون مجازا و لا حجر فيه، و أما يمينه عليه السلام على عدم الزعم فهو صحيح لأنه قصد به الحقيقة أو المجاز الشائع، و كأنه من التورية و المعاريض لمصلحة التأديب أو تعليم جواز مثل ذلك للمصلحة، فإن المعتبر في ذلك قصد المحق من المتخاصمين كما ذكره الأصحاب، و كأنه لذلك ذكر المصنف (ره) الخبر في هذا الباب و إن كان مع قطع النظر عن ذلك له مناسبة خفية فتأمل.

قوله عليه السلام" إن كل زعم في القرآن كذب"

 (1) أي أطلق في مقام إظهار كذب المخبر به فلا ينافي ذلك قوله تعالى حاكيا عن المشركين:" أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً" فإنهم أشاروا بقولهم زعمت إلى قوله تعالى:" إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ" فإن ما أشاروا إليه بقوله زعمت حق لكنهم أوردوه في مقام التكذيب، و يمكن أيضا تخصيصه بما ذكره الله من قبل نفسه سبحانه غير حاك عن غيره، كما قال تعالى:" زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا" و قال سبحانه" بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً" و قال:" أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ" و قال:" قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ".

 (الحديث الحادي و العشرون)

 (2): ضعيف على المشهور.

و فيه إما إرسال أو إضمار بأن يكون ضمير قال راجعا إلى الصادق عليه السلام أو الرضا عليه السلام‏

" إياكم و الكذب"

 (3) أراد عليه السلام لا تكذبوا في ادعائكم الرجاء و الخوف‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 345

من الله سبحانه، و ذلك‏

لأن كل راج طالب‏

 (1) لما يرجو ساع في أسبابه و أنتم لستم كذلك،

و كل خائف هارب‏

 (2) مما يخاف منه مجتنب مما يقربه منه و أنتم لستم كذلك.

و هذا مثل قوله عليه السلام الذي رواه في نهج البلاغة أنه عليه السلام قال بعد كلام طويل لمدع كاذب أنه يرجو الله و يدعي بزعمه أنه يرجو الله: كذب و الله العظيم ما باله لا يتبين رجاؤه في عمله و كل من رجا عرف رجاؤه في عمله إلا رجاء الله، فإنه مدخول، و كل خوف محقق إلا خوف الله فإنه معلول يرجو الله الكبير و يرجو العباد في الصغير، فيعطى العبد ما لا يعطي الرب، فما بال الله جل ثناؤه يقصر به عما يصنع لعباده، أ تخاف أن تكون في رجائك له كاذبا أو يكون لا تراه للرجاء موضعا؟ و كذلك إن هو خاف عبدا من عبيده أعطاه من خوفه ما لا يعطي ربه، فجعل خوفه من العباد نقدا و خوفه من خالقه ضمارا و وعدا.

و قال بعضهم: حذر من الكذب على الله و على رسوله و على غيرهما في ادعاء الدين مع ترك العمل به، و رغب في الصدق بأن الكذب ينافي الإيمان، و ذلك لأن الكاذب لم يطلب الثواب، و كل من لم يطلب الثواب فهو ليس براج بحكم المقدمة الأولى، و لم يهرب من العقاب، و كل من لم يهرب من العقاب فهو ليس بخائف بحكم المقدمة الثانية، و من انتفى عنه الخوف و الرجاء فهو ليس بمؤمن كما هو المقرر عند أهل الإيمان، انتهى.

و ارتكب أنواع التكلف لقلة التتبع، و المقصود ما ذكرنا.

 (الحديث الثاني و العشرون)

 (3): مجهول.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 346

و قوله:" ثم تلا"

 (1) كلام الراوي، و الضمير راجع إلى الصادق عليه السلام أو كلام الإمام عليه السلام و الضمير راجع إلى الرسول صلى الله عليه و آله و سلم و الأول أظهر و قد مر مضمونه.

تكملة

قال بعض المحققين: اعلم أن الكذب ليس حراما لعينه بل لما فيه من الضرر على المخاطب أو على غيره، فإن أقل درجاته أن يعتقد المخبر الشي‏ء على خلاف ما هو به فيكون جاهلا و قد يتعلق به ضرر غيره و رب جهل فيه منفعة و مصلحة، فالكذب تحصيل لذلك الجهل فيكون مأذونا فيه، و ربما كان واجبا كما لو كان في الصدق قتل نفس بغير حق.

فنقول: الكلام وسيلة إلى المقاصد فكل مقصود محمود يمكن التوصل إليه بالصدق و الكذب جميعا فالكذب فيه حرام، و إن أمكن التوصل بالكذب دون الصدق فالكذب فيه مباح، إن كان تحصيل ذلك المقصود مباحا، و واجب إن كان المقصود واجبا، كما أن عصمة دم المسلم واجبة، فمهما كان في الصدق سفك دم مسلم قد اختفى من ظالم فالكذب فيه واجب، و مهما كان لا يتم مقصود الحرب أو إصلاح ذات البين أو استمالة قلب المجني عليه إلا بالكذب فالكذب مباح، إلا أنه ينبغي أن يحترز عنه ما يمكن لأنه إذا فتح على نفسه باب الكذب فيخشى أن يتداعى إلى ما يستغني عنه و إلى ما يقتصر فيه على حد الواجب و مقدار الضرورة، فكان الكذب حراما في الأصل إلا لضرورة.

و الذي يدل على الاستثناء ما روي عن أم كلثوم قالت: ما سمعت رسول الله صلى الله عليه و آله يرخص في شي‏ء من الكذب إلا في ثلاث: الرجل يقول القول‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 347

يريد الإصلاح و الرجل يقول القول في الحرب، و الرجل يحدث امرأته و المرأة تحدث زوجها.

و قالت أيضا: قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: ليس بكذاب من أصلح بين اثنين، فقال خيرا أو نما خيرا.

و قالت أسماء بنت يزيد: إن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم قال: كل الكذب يكتب على ابن آدم إلا رجل كذب بين رجلين يصلح بينهما، و روي عن أبي كاهل قال: وقع بين رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه و آله و سلم كلام حتى تصادما، فلقيت أحدهما فقلت:

ما لك و لفلان فقد سمعته يحسن الثناء عليك؟ و لقيت الآخر فقلت له مثل ذلك حتى اصطلحا، ثم قلت: أهلكت نفسي و أصلحت بين هذين؟ فأخبرت النبي صلى الله عليه و آله و سلم فقال:

يا أبا كاهل أصلح بين الناس و لو بالكذب.

و قال عطاء بن يسار: قال رجل للنبي صلى الله عليه و آله و سلم: أ أكذب أهلي، قال: لا خير في الكذب قال: أعدها و أقول لها؟ قال: لا جناح عليك.

و عن النواس بن سمعان الكلابي قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: ما لي أراكم تتهافتون في الكذب تهافت الفراش في النار كل الكذب مكتوب كذبا لا محالة إلا أن يكذب الرجل في الحرب، فإن الحرب خدعة، أو يكون بين رجلين شحناء فيصلح بينهما، أو يحدث امرأته يرضيها.

و قال علي عليه السلام: إذا حدثتكم بشي‏ء عن رسول الله فلئن أخر من السماء أحب إلى من أن أكذب عليه، و إذا حدثتكم فيما بيني و بينكم فالحرب خدعة.

فهذه الثلاث ورد فيها صريح الاستثناء، و في معناها ما عداها إذا ارتبط به‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 348

مقصود صحيح له أو لغيره، أما ماله فمثل أن يأخذه ظالم و يسأله عن ماله، فله أن ينكر أو يأخذه السلطان فيسأله عن فاحشة بينه و بين الله ارتكبها فله أن ينكرها و يقول: ما زنيت و لا شربت، قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: من ارتكب شيئا من هذه القاذورات فليستتر بستر الله، و ذلك لأن إظهار الفاحشة فاحشة أخرى، فللرجل أن يحفظ دمه و ماله الذي يؤخذ ظلما و عرضه بلسانه و إن كان كاذبا.

و أما عرض غيره فبأن يسأل عن سر أخيه فله أن ينكره و أن يصلح بين اثنين و أن يصلح بين الضرات من نسائه بأن يظهر لكل واحدة أنها أحب إليه، أو كانت امرأته لا تطيعه إلا بوعد ما لا يقدر عليه فيعدها في الحال تطييبا لقلبها، أو يعتذر إلى إنسان بالكذب و كان لا يطيب قلبه إلا بإنكار ذنب و زيادة تودد فلا بأس به، و لكن الحد فيه أن الكذب محذور و لكن لو صدق في هذه المواضع تولد منه محذور.

فينبغي أن يقابل أحدهما بالآخر و يزن بالميزان القسط، فإذا علم أن المحذور الذي يحصل بالصدق أشد وقعا في الشرع من الكذب فله الكذب، و إن كان ذلك المقصود أهون من مقصود الصدق فيجب الصدق، و قد يتقابل الأمران بحيث يتردد فيهما و عند ذلك الميل إلى الصدق أولى لأن الكذب مباح بضرورة أو حاجة مهمة فإذا شك في كون الحاجة مهمة فالأصل التحريم فيرجع إليه، و لأجل غموض إدراك مراتب المقاصد ينبغي أن يحترز الإنسان من الكذب ما أمكنه، و كذلك مهما كانت الحاجة له فيستحب أن يترك أغراضه و يهجر الكذب.

فأما إذا تعلق بعرض غيره فلا يجوز المسامحة بحق الغير و الإضرار به، و أكثر كذب الناس إنما هو لحظوظ أنفسهم ثم هو لزيادات المال و الجاه، و لأمور ليس فواتها محذورا حتى أن المرأة ليحكي عن زوجها ما يتفاخر به و تكذب لأجل مراغمة الضرات و ذلك حرام.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 349

قالت أسماء: سمعت امرأة تسأل رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم قالت: إن لي ضرة و أنا أتكثر من زوجي بمالا لا يفعل أضارها بذلك فهل لي فيه شي‏ء؟ فقال: المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور.

و قال النبي صلى الله عليه و آله و سلم: من تطعم بما لم يطعم، و قال: لي و ليس له، و أعطيت و لم يعط، كان كلابس ثوبي زور يوم القيامة.

و يدخل في هذا فتوى العالم بما لا يتحققه، و رواية الحديث الذي ليس يثبت فيه إذ غرضه أن يظهر فضل نفسه فهو لذلك يستنكف من أن يقول لا أدري، و هذا حرام.

و مما يلتحق بالنساء الصبيان فإن الصبي إذا كان لا يرغب في المكتب إلا بوعد و وعيد و تخويف، كان ذلك مباحا، نعم روينا في الأخبار أن ذلك يكتب كذبة و لكن الكذب المباح أيضا يكتب و يحاسب عليه و يطالب لتصحيح قصده فيه ثم يعفى عنه، لأنه إنما أبيح بقصد الإصلاح و يتطرق إليه غرور كثير فإنه قد يكون الباعث له حظه و غرضه الذي هو مستغنى عنه و إنما يتعلل ظاهرا بالإصلاح فلهذا يكتب.

و كل من أتى بكذبه فقد وقع في خطر الاجتهاد ليعلم أن المقصود الذي كذب له هل هو أهم في الشرع من الصدق أو لا، و ذلك غامض جدا، فالحزم في تركه إلا أن يصير واجبا بحيث لا يجوز تركه كما يؤدي إلى سفك دم أو ارتكاب معصية كيف كان، و قد ظن ظانون أنه يجوز وضع الأخبار في فضائل الأعمال و في التشديد في المعاصي، و زعموا أن القصد منه صحيح و هو خطاء محض، إذ قال صلى الله عليه و آله و سلم: من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار، و هذا لا يترك إلا بضرورة و لا ضرورة هيهنا، إذ في الصدق مندوحة عن الكذب، ففيما ورد من الآيات و الأخبار كفاية عن غيرها.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 350

و قول القائل: أن ذلك قد تكرر على الإسماع و سقط وقعها و ما هو جديد على الأسماع فوقعه أعظم، فهذا هوس إذ ليس هذا من الأغراض التي تقاوم محذور الكذب على رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم و على الله تعالى، و يؤدي فتح بابه إلى أمور تشوش الشريعة، فلا يقاوم خير هذا بشره أصلا، فالكذب على رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم من الكبائر التي لا يقاومها شي‏ء.

ثم قال: قد نقل عن السلف: أن في المعاريض ما يغني الرجل عن الكذب و عن ابن عباس و غيره إما في المعاريض ما يغني الرجل عن الكذب و إنما أرادوا من ذلك إذا اضطر الإنسان إلى الكذب فأما إذا لم يكن حاجة و ضرورة فلا يجوز التعريض و لا التصريح جميعا، و لكن التعريض أهون.

و مثال المعاريض ما روي أن مطرفا دخل على زياد فاستبطأه فتعلل بمرض فقال: ما رفعت جنبي منذ فارقت الأمير إلا ما رفعني الله، و قال إبراهيم: إذا بلغ الرجل عنك شي‏ء فكرهت أن تكذب فقل: إن الله ليعلم ما قلت من ذلك من شي‏ء، فيكون قوله: ما، حرف النفي عند المستمع و عنده للإبهام، و كان النخعي لا يقول لابنته: اشترى لك سكرا بل يقول أ رأيت لو اشتريت لك سكرا فإنه ربما لا يتفق، و كان إبراهيم إذا طلبه في الدار من يكرهه قال للجارية: قولي له: اطلبه في المسجد، و كان لا يقول: ليس هيهنا لئلا يكون كاذبا، و كان الشعبي إذا طلب في البيت و هو يكرهه، فيخط دائرة و يقول للجارية: ضع الإصبع فيها و قولي: ليس هيهنا.

و هذا كله في موضع الحاجة فأما مع عدم الحاجة فلا، لأن هذا تفهيم للكذب و إن لم يكن اللفظ كذبا، و هو مكروه على الجملة كما روي عن عبد الله بن عتبة قال: دخلت مع أبي على عمر بن عبد العزيز فخرجت و علي ثوب فجعل الناس يقولون:

هذا كساء أمير المؤمنين فكنت أقول: جزى الله أمير المؤمنين خيرا، فقال لي: يا بني اتق الكذب إياك و الكذب و ما أشبهه، فنهاه عن ذلك لأن فيه تقريرا لهم على ظن‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 351

كاذب لأجل غرض المفاخرة و هو غرض باطل فلا فائدة فيه.

نعم المعاريض يباح لغرض خفيف كتطييب قلب الغير بالمزاح كقوله صلى الله عليه و آله و سلم:

لا تدخل الجنة عجوز، و في عين زوجك بياض، و نحملك على ولد البعير، فأما الكذب الصريح فكما يعتاده الناس من مداعبة الحمقاء بتغريرهم بأن امرأة قد رغبت في تزويجك، فإن كان فيه ضرر يؤديه إلى إيذاء قلب فهو حرام، و إن لم يكن إلا مطائبة فلا يوصف صاحبها بالفسق و لكن ينقص ذلك من درجة إيمانه، و قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: لا يستكمل المرء الإيمان حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، و حتى يجتنب الكذب في مزاحه، و أما قوله صلى الله عليه و آله و سلم: إن الرجل ليتكلم بالكلمة يضحك بها الناس يهوي بها أبعد من الثريا، أراد به ما فيه غيبة مسلم أو إيذاء قلب دون محض المزاح.

و من الكذب الذي لا يوجب الفسق ما جرت به العادة في المبالغة كقوله:

قلت لك كذا مائة مرة، و طلبتك مائة مرة فإنه لا يراد بها تفهيم المرات بعددها، بل تفهيم المبالغة، فإن لم يكن طلبه إلا مرة واحدة كان كاذبا و إن طلب مرات لا يعتاد مثلها في الكثرة فلا يأثم و إن لم يبلغ مائة، و بينهما درجات يتعرض مطلق اللسان بالمبالغة فيها لخطر الكذب.

و مما يعتاد الكذب فيه و يتساهل به أن يقال: كل الطعام فيقول: لا أشتهيه و ذلك منهي عنه و هو حرام و إن لم يكن فيه غرض صحيح، قال مجاهد: قالت أسماء بنت عميس: كنت صاحبة عائشة التي هيئتها و أدخلتها على رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم و معي‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 352

نسوة، قالت: فو الله ما وجدنا عنده قوتا إلا قدحا من لبن فشرب ثم ناوله عائشة، قالت: فاستحيت الجارية، فقلت: لا تردين يد رسول الله خذي منه، قالت: فأخذته على حياء فشربت منه ثم قال: ناولي صواحبك، فقلن: لا نشتهيه، فقال: لا تجمعن جوعا و كذبا، قالت: فقلت: يا رسول الله إن قالت أحد منا لشي‏ء نشتهيه لا نشتهيه أ يعد ذلك كذبا؟ قال: إن الكذب ليكتب حتى يكتب الكذيبة كذيبة.

و قد كان أهل الورع يحترزون عن التسامح بمثل هذا الكذب، قال الليث بن سعد: كانت ترمص عينا سعيد بن المسيب حتى يبلغ الرمص خارج عينيه فيقال له: لو مسحت هذا الرمص؟ فيقول: فأين قول الطبيب و هو يقول لي: لا تمس عينيك فأقول لا أفعل.

و هذه من مراقبة أهل الورع، و من تركه انسل لسانه عن اختياره فيكذب و لا يشعر، و عن خوات التيمي قال: جاءت أخت الربيع بن خثيم عائدة إلى بني لي فانكبت عليه فقالت: كيف أنت يا بني؟ فجلس الربيع فقال: أرضعته؟ فقالت:

لا، قال: ما عليك لو قلت يا بن أخي فصدقت.

و من العادة أن يقول: يعلم الله فيما لا يعلمه، قال عيسى عليه السلام: إن من أعظم الذنوب عند الله أن يقول العبد إن الله يعلم لما لا يعلم، و ربما يكذب في حكاية المنام و الإثم فيه عظيم، قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: إن من أعظم الفري أن يدعي الرجل إلى غير أبيه أو يرى عينيه في المنام ما لم تريا أو تقول علي ما لم أقل، و قال صلى الله عليه و آله و سلم: من‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 353

كذب في حلمه كلف يوم القيامة أن يعقد بين شعيرين.

باب ذي اللسانين‏

 (1)

 (الحديث الأول)

 (2): ضعيف على المشهور، و قال بعض المحققين: ذو اللسانين هو الذي يأتي هؤلاء بوجه و هؤلاء بوجه، و يتردد بين المتعاديين و يكلم كل واحد بكلام يوافقه و قلما يخلو عنه من يشاهد متعاديين، و ذلك عين النفاق.

و قال بعضهم: اتفقوا على أن ملاقاة الاثنين بوجهين نفاق، و للنفاق علامات كثيرة و هذه من جملتها، فإن قلت: فبما ذا يصير الرجل ذا اللسانين و ما حد ذلك؟

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 354

فأقول: إذا دخل على متعاديين و جامل كل واحد منهما و كان صادقا فيه لم يكن منافقا و لا ذا اللسانين فإن الواحد قد يصادق متعاديين، و لكن صداقة ضعيفة لا تنتهي إلى حد الإخوة، إذ لو تحققت الصداقة لاقتضت معاداة الأعداء، نعم لو نقل كلام كل واحد إلى الآخر فهو ذو لسانين و ذلك شر من النميمة إذ يصير نماما بأن ينقل من أحد الجانبين، فإن نقل من الجانبين فهو شر من النميمة و إن لم ينقل كلاما و لكن حسن لكل واحد منهما ما هو عليه من المعاداة مع صاحبه فهذا ذو لسانين، و كذلك إذا وعد كل واحد منهما أنه ينصره، و كذلك إذا أثنى على كل واحد منهما في معاداته، و كذلك إذا أثنى على أحدهما و كان إذا خرج من عنده يذمه فهو ذو لسانين بل ينبغي أن يسكت أو يثني على المحق من المتعاديين و يثني في حضوره و في غيبته و بين يدي عدوه.

قيل لبعض الصحابة: إنا ندخل على أمرائنا فنقول القول فإذا خرجنا قلنا غيره؟ فقال: كنا نعد ذلك نفاقا على عهد رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم و هذا نفاق مهما كان مستغنيا عن الدخول على الأمير و عن الثناء عليه، فلو استغنى عن الدخول و لكن إذا دخل يخاف إن لم يثن فهو نفاق لأنه الذي أحوج نفسه إليه، و أن كان يستغني عن الدخول لو قنع بالقليل و ترك المال و الجاه، فلو دخل لضرورة الجاه و الغناء و أثنى فهو منافق، و هذا معنى قوله صلى الله عليه و آله و سلم: حب المال و الجاه ينبتان النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل، لأنه يحوج إلى الأمراء و مراعاتهم و مراءاتهم، فأما إذا ابتلي به لضرورة و خاف إن لم يثن فهو معذور فإن اتقاء الشر جائز.

و قال أبو الدرداء: إنا لنكشر في وجوه أقوام و إن قلوبنا لتبغضهم.

و قالت عائشة: استأذن رجل على رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم فقال: ائذنوا له فبئس رجل العشيرة هو، فلما دخل أقبل عليه و ألان له القول، فلما خرج قالت عائشة: قد قلت‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 355

بئس رجل العشيرة ثم ألنت له القول؟ فقال: يا عائشة إن شر الناس الذي يكرم اتقاء لشره.

و لكن هذا ورد في الإقبال و في الكشر و التبسم، و أما الثناء فهو كذب صريح فلا يجوز إلا لضرورة أو إكراه يباح الكذب لمثلهما بل لا يجوز الثناء و لا التصديق و تحريك الرأس في معرض التقرير على كل كلام باطل، فإن فعل ذلك فهو منافق بل ينبغي أن ينكر بلسانه و بقلبه، فإن لم يقدر فليسكت بلسانه و لينكر بقلبه.

و أقول: قال الشهيد الثاني قدس الله روحه كونه ذا اللسانين و ذا الوجهين من الكبائر للتوعد عليه بخصوصه، ثم ذكر في تفصيله و تحقيقه نحوا مما مر، و لا ريب أن في مقام التقية و الضرورة يجوز مثل ذلك، و أما مع عدمهما فهو من علامات النفاق و أخس ذمائم الأخلاق.

 (الحديث الثاني)

 (1): مجهول.

" يطري"

 (2) على بناء الأفعال بالهمز و غيره، في القاموس: في باب الهمزة أطرأه بالغ في مدحه و في باب المعتل أطراه أحسن الثناء عليه، و في النهاية في المعتل الإطراء مجاوزة الحد في المدح و الكذب فيه، و الجوهري ذكره في المعتل فقط، و قال: أطراه أي مدحه و

" يأكله"

 (3) أي يغتابه كما قال تعالى:" أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً".

" إن أعطي"

 (4) على بناء المجهول أي الأخ، و

الخذلان‏

 (5) ترك النصرة.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 356

 (الحديث الثالث)

 (1): مرفوع.

" لسانا واحدا"

 (2) أي لا تقول في الأحوال المختلفة شيئين مختلفين للأغراض الباطلة فيشمل الرياء و الفتاوى المختلفة و ما مر ذكره‏

" و كذلك قلبك"

 (3) أي ليكن باطن قلبك موافقا لظاهرة إذ ربما يكون الشي‏ء كامنا في القلب يغفل عنه نفسه كحب الدنيا فينخدع و يظن أنه لا يحبها و أشباه ذلك، ثم يظهر له ذلك في الآخرة بعد كشف الحجب الظلمانية النفسانية أو في الدنيا أيضا بعد المجاهدة و التفكر في خدع النفس و تسويلاتها، و لذا قال سبحانه بعده:

" إني أحذرك نفسك"

 (4) و قد قال:" بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ" و يحتمل أن يكون المعنى: و كذلك ينبغي أن يكون قلبك موافقا للسانك، فلا تقول ما ليس فيه، أو المعنى أنه كما يجب أن يكون القول باللسان واحدا يجب أن يكون اعتقاد القلب واحدا واصلا إلى حد اليقين و يطمئن قلبه بالحق، و لا يتزلزل بالشبهات فيعتقد اليوم شيئا و غدا نقيضه، و يجب أن تكون عقائد القلب متوافقة متناسبة لا كقلوب أهل الضلال و الجهال، فإنهم يعتقدون الضدين و النقيضين لتشعب أهوائهم و تفرق آراء من حيث لا يشعرون كاعتقادهم بأفضلية أمير المؤمنين و تقديمهم الجهال عليه، و اعتقادهم بعدله تعالى و حكمهم بأن الكفر و جميع المعاصي من فعله، و يعذبهم عليها، و اعتقادهم بوجوب طاعة من جوزوا فسقه و كفره و أمثال ذلك كثيرة.

أو المعنى أن المقصود الحقيقي و الغرض الأصلي للقلب لا يكون إلا واحدا و لا تجتمع فيه محبتان متضادتان كحب الدنيا و حب الآخرة، و حب الله و حب معاصيه و الشهوات التي نهى عنها، فمن اعتقد أنه يحب الله تعالى و يتبع الهوى‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 357

و يحب الدنيا فهو كذي اللسانين، الجامع بين مؤالفة المتباغضين فإن الدنيا و الآخرة كضرتين و طاعة الله و طاعة الهوى كالمتباغضين، فقلبه منافق ذو لسانين، لسان منه مع الله و الآخر مع ما سواه فهذا أولى بالذم من ذي اللسانين.

و تحقيقه: أن بدن الإنسان بمنزلة مدينة كبيرة لها حصن منيع هو القلب، بل هو العالم الصغير من جهة، و العالم الكبير من جهة أخرى، و الله سبحانه هو سلطان القلب و مدبره، بل القلب عرشه، و حصنه بالعقل و الملائكة، و نوره بالأنوار الملكوتية، و استخدمه القوي الظاهرة و الباطنة، و الجوارح و الأعضاء الكثيرة و لهذا الحصن أعداء كثيرة من النفس الأمارة و الشياطين الغدارة، و أصناف الشهوات النفسانية و الشبهات الشيطانية، فإذا مال العبد بتأييده سبحانه إلى عالم الملكوت، و صفى قلبه بالطاعات و الرياضات عن شوك الشكوك و الشبهات، و قذارة الميل إلى الشهوات استولى عليه حبه تعالى، و منعه عن حب غيره، فصارت القوي و المشاعر و جميع الآلات البدنية مطيعة منقادة له، و لا يأتي شي‏ء منها بما ينافي رضاه.

و إذا غلبت عليه الشقوة و سقط في مهاوي الطبيعة، استولى الشيطان على قلبه و جعله مستقر ملكه و نفرت عنه الملائكة، و أحاطت به الشياطين، و صارت أعماله كلها للدنيا و إرادته كلها للهوى، فيدعي أنه يعبد الله و قد نسي الرحمن و هو يعبد النفس و الشيطان.

فظهر أنه لا يجتمع حب الله و حب الدنيا و متابعة الله و متابعة الهوى في قلب واحد، و ليس للإنسان قلبان حتى يحب بأحدهما الرب تعالى و يقصده بأعماله، و يحب بالآخر الدنيا و شهواتها و يقصدها في أفعاله، كما قال سبحانه:" ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ" و مثل سبحانه لذلك باللسان و السيف، فكما لا يكون‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 358

في فم لسانان، و لا في غمد سيفان، فكذلك لا يكون في صدر قلبان، و يحتمل أن يكون اللسان لما مر في ذي اللسانين.

و أما

قوله: فكذلك الأذهان،

 (1) فالفرق بينهما و بين القلب مشكل، و يمكن أن يكون القلب للحب و العزم، و الذهن للاعتقاد و الجزم، أي لا يجتمع في القلب حب الله و حب ما ينافي حبه سبحانه من حب الدنيا و غيرها، و كذلك لا يجتمع الجزم بوجوده تعالى و صفاته المقدسة و سائر العقائد الحقة، مع ما ينافيه من العقائد الباطلة، و الشكوك و الشبهات في ذهن واحد، كما أشرنا إليه سابقا.

و قيل: يعني كما أن الظاهر من هذه الأجسام لا يصلح تعددها في محل واحد، كذلك باطن الإنسان الذي هو ذهنه و حقيقته لا يصلح أن يكون ذا قولين مختلفين، أو عقيدتين متضادتين، و قيل: الذهن الذكاء و الفطنة، و لعل المراد هنا التفكر في الأمور الحقة النافعة و مباديها، و كيفية الوصول إليها.

و بالجملة أمره بأن يكون لسانه واحدا و قلبه واحدا و ذهنه واحدا و مطلبه واحدا و لما كان سبب التعدد و الاختلاف أمرين: أحدهما تسويل النفس، و الآخر الغفلة عن عقوبة الله، عقبه بتحذيرها، و ربما يقرأ بالدال المهملة من المداهنة في الدين، كما قال تعالى:" أَ فَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ" و قال:" وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ" و هذا تصحيف و تحريف مخالف للنسخ المضبوطة.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 359

باب الهجرة

 (1)

 (الحديث الأول)

 (2): مرفوع.

و الهجر و

الهجران‏

 (3) خلاف الوصل، قال في المصباح: هجرته هجرا من باب قتل تركته و رفضته فهو مهجور، و هجرت الإنسان قطعته و الاسم الهجران، و في التنزيل:" وَ اهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ"

" البراءة"

 (4) أي براءة الله و رسوله منه، و

معتب‏

 (5) بضم الميم و فتح العين و تشديد التاء المكسورة، و كان من خيار موالي الصادق عليه السلام بل خيرهم كما روي فيه‏

" هذا الظالم"

 (6) أي أحدهما ظالم، و الظالم خبر أو التقدير هذا الظالم استوجب ذلك فما حال المظلوم؟ و لم استوجبه؟

" إلى صلته"

 (7) أي إلى صلة نفسه، و يحتمل رجوع الضمير إلى الأخ.

" و لا يتغامس"

 (8) في أكثر النسخ بالغين المعجمة، و الظاهر أنه بالمهملة كما في بعضها قال في القاموس: تعامس تغافل، و علي تعامي علي، و يمكن التكلف في المهملة بما يرجع إلى ذلك من قولهم غمسه في الماء أي رمسه، و الغميس الليل المظلم و الظلمة و الشي‏ء الذي لم يظهر للناس و لم يعرف بعد، و كل ملتف يغتمس فيه أو يستخفي، قال في النهاية: في حديث علي عليه السلام: ألا و إن معاوية قاد لمة من الغواة و عمس عليهم الخبر، العمس أن ترى أنك لا تعرف الأمر و أنت به عارف، و يروى بالغين‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 360

المعجمة.

" فعاز"

 (1) بالزاي المشددة، و في بعض النسخ: فعال باللام المخففة، في القاموس:

عزه كمدة غلبه في المعازة، و في الخطاب غالبة كعازه، و قال: عال جار و مال عن الحق، و الشي‏ء فلانا غلبه و ثقل عليه و أهمه‏

" أنا الظالم"

 (2) كأنه من المعاريض للمصلحة.

 (الحديث الثاني)

 (3): حسن كالصحيح.

و ظاهره أنه لو وقع بين أخوين من أهل الإيمان موجده أو تقصير في حقوق العشرة و الصحبة و أفضى ذلك إلى الهجرة فالواجب عليهم أن لا يبقوا عليها فوق ثلاث ليال، و أما الهجر في الثالث فظاهره أنه معفو عنه و سببه أن البشر لا يخلو عن غضب و سوء خلق فسومح في تلك المدة، مع أن دلالته بحسب المفهوم و هي ضعيفة، و هذه الأخبار مختصة بغير أهل البدع و المصرين على المعاصي، لأن هجرهم مطلوب و هو من أقسام النهي عن المنكر.

 (الحديث الثالث)

 (4): موثق.

و

الصرم‏

 (5) القطع أي يهجره رأسا، و يدل على أن الأمر بصلة الرحم يشمل‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 361

المؤمن و المنافق و الكافر كما مر و هذا الخبر بالباب الآتي أنسب و كأنه كان مكتوبا على الهامش فاشتبه على الكتاب و كتبوه هيهنا.

 (الحديث الرابع)

 (1): ضعيف.

و

شلقان‏

 (2) بفتح الشين و سكون اللام لقب لعيسى بن أبي منصور، و قيل: إنما لقب بذلك لسوء خلقه من الشلق و هو الضرب بالسوط و غيره، و قد روي في مدحه أخبار كثيرة منها: أن الصادق عليه السلام قال فيه: من أحب أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا، و قال عليه السلام أيضا فيه: إذا أردت أن تنظر إلى خيار في الدنيا خيار في الآخرة فانظر إليه، و المراد بكونه عنده عليه السلام أنه كان في بيته لا أنه كان حاضرا في المجلس.

" و كان قد صيره في نفقته"

 (3) أي تحمل عليه السلام نفقته و جعله في عياله و قيل:

و كل إليه نفقة العيال و جعله قيما عليها، و الأول أظهر

" هجره"

 (4) أي هجر مرازم عيسى، فعبر عنه ابن حديد هكذا، و قال الشهيد الثاني (ره): و لعل الصواب هجرته و قال بعض الأفاضل: أي هجر عيسى أبا عبد الله عليه السلام بسبب سوء خلقه مع أصحاب أبي عبد الله عليه السلام الذين كان مرازم منهم.

و أقول: صحف بعضهم على هذا الوجه و قرأ نكلم بصيغة المتكلم مع الغير

و تكلم‏

 (5) في بعض النسخ بدون العاطف، و على تقديره فهو عطف على مقدر أي تواصل و تكلم و نحو هذا، و هو استفهام على التقديرين على التقرير، و يحتمل الأمر على بعض الوجوه.

                                                مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 362

 (الحديث الخامس)

 (1): ضعيف على المشهور.

" إلا كانا"

 (2) كان الاستثناء من مقدر أي لم يفعلا ذلك إلا كانا خارجين، و هذا النوع من الاستثناء شائع في الأخبار، و يحتمل أن يكون إلا هنا زائدة كما قال الشاعر:

         أرى الدهر إلا مجنونا بأهله‏

 

 و قيل: التقدير لا يصطلحان على حال إلا و قد كانا خارجين، و قيل‏

" أيما"

 (3) مبتدأ و

" لا يصطلحان"

 (4) حال عن فاعل مكثا و إلا مركب من إن الشرطية و لا النافية نحو" إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ"

" و لم يكن"

 (5) بتشديد النون مضارع مجهول من باب الأفعال، و تكرار للنفي في إن لا كانا، مأخوذ من الكنة بالضم و هي جناح يخرج من حائط أو سقيفة فوق باب الدار، و

قوله: فأيهما

 (6)، جزاء الشرط، و الجملة الشرطية خبر المبتدأ أي أيما مسلمين تهاجرا ثلاثة أيام إن لم يخرجا من الإسلام و لم يضعا الولاية و المحبة على طاق النسيان فأيهما سبق، إلخ.

و إنما ذكرنا ذلك للاستغراب، مع أن أمثال ذلك دأبه رحمه الله في أكثر الأبواب، و ليس ذلك منه بغريب، و المراد

بالولاية

 (7) المحبة التي تكون بين المؤمنين.

 (الحديث السادس)

 (8): حسن كالصحيح.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 363

و في القاموس:

أغرى‏

 (1) بينهم العداوة ألقاها، كأنه ألزقها بهم‏

" ما لم يرجع أحدهم عن دينه"

 (2) كأنه للسلب الكلي،

فقوله: إذا فعلوا

 (3) للإيجاب الجزئي، و يحتمل العكس، و ما بمعنى ما دام، و

التمدد

 (4) للاستراحة و إظهار الفراغ من العمل و الراحة

" فزت"

 (5) أي وصلت إلى مطلوبي.

 (الحديث السابع)

 (6): مجهول.

و اصطكاك الركبتين‏

 (7) اضطرابهما و تأثير أحدهما في الآخر، و

التخلع‏

 (8) التفكك و الأوصال المفاصل أو مجتمع العظام و إنما التفت في حكاية قول إبليس عن التكلم إلى الغيبة في قوله:" ويله"" و لقي" تنزيها لنفسه المقدسة من نسبة الشر إليه في اللفظ، و إن كان في المعنى منسوبا إلى غيره، و نظيره شائع في الكلام، قال في النهاية فيه: إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول: يا ويله،

الويل‏

 (9) الحزن و الهلاك و المشقة من العذاب و كل من وقع في هلكة دعا بالويل، و معنى النداء فيه: يا ويلي و يا حزني و يا هلاكي و يا عذابي احضر فهذا وقتك و أوانك، و أضاف الويل إلى ضمير الغائب حملا على المعنى، و عدل عن حكاية قول إبليس: يا ويلي كراهة أن يضيف الويل إلى نفسه، انتهى.

و ما في‏

قوله" ما لقي"

 (10) للاستفهام التعجبي، و منصوب المحل، مفعول لقي، و

من‏

 (11) للتبعيض، و

الثبور

 (12) بالضم الهلاك.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 364

باب قطيعة الرحم‏

 (1)

 (الحديث الأول)

 (2): حسن كالصحيح.

و في النهاية فيه: دب إليكم داء الأمم البغضاء و هي الحالقة،

الحالقة

 (3) الخصلة التي من شأنها أن يحلق أي تهلك و تستأصل الدين كما يستأصل الموسى الشعر، و قيل:

قطيعة الرحم و التظالم، انتهى.

و كان المصنف رحمه الله أورده في هذا الباب لأن التباغض يشمل ذوي الأرحام أيضا، أو لأن الحالقة فسرت في سائر الأخبار بالقطيعة، بل في هذا الخبر أيضا يحتمل أن يكون المراد ذلك، بأن يكون المراد أن التباغض بين الناس من جملة مفاسده قطع الأرحام و هو حالقة الدين.

 (الحديث الثاني)

 (4): ضعيف.

" تميت الرجال"

 (5) أي تورث موتهم و انقراضهم كما سيأتي، و حمله على موت القلوب كما قيل بعيد، و يمكن أن يكون هذا أحد وجوه التسمية بالحالقة،

و الرحم‏

 (6) في الأصل منبت الولد و وعاؤه في البطن، ثم سميت القرابة من جهة الولادة رحما و منها ذو الرحم خلاف الأجنبي.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 365

 (الحديث الثالث)

 (1): مرسل.

" على الدار"

 (2) أي الدار التي ورثناها من جدنا

" و لو تكلمت أخذت"

 (3) يمكن أن يقرأ على صيغة المتكلم، أي لو نازعتهم و تكلمت معهم يمكنني أن آخذ منهم، أفعل ذلك أم أتركهم؟ أو يقرأ على الخطاب أي لو تكلمت أنت معهم يعطوني، فلم ير عليه السلام المصلحة في ذلك، أو الأول على الخطاب و الثاني على المتكلم و الأول أظهر، و في النهاية:

الوباء

 (4) بالقصر و المد و الهمز الطاعون و المرض العام.

" في إحدى و ثلاثين"

 (5) كذا في أكثر النسخ التي وجدناها، و في بعضها بزيادة:

و مائة

 (6)، و على الأول أيضا المراد ذلك و أسقط الراوي المائة للظهور، فإن إمامة الصادق عليه السلام كانت في سنة مائة و أربعة عشر، و وفاته في سنة ثمان و أربعين و مائة، و الفاء في‏

قوله: فما بقي‏

 (7)، في الموضعين للبيان، و

من‏

 (8) ابتدائية و المراد

بالأحد

 (9) أولادهم، أو الفاء للتفريع و من تبعيضية، و

قوله: بعقوقهم‏

 (10) متعلق بقوله بتروا، و هو في بعض النسخ بتقديم الموحدة على المثناة الفوقانية، و في بعضها بالعكس، فعلى الأول إما على بناء المعلوم من المجرد من باب علم، أو المجهول من باب نصر، و على الثاني على المجهول من باب ضرب أو التفعيل.

في القاموس:

البتر

 (11) القطع أو مستأصلا و الأبتر المقطوع الذنب، بتره فبتر كفرح و الذي لا عقب له و كل أمر منقطع من الخير، و قال: البتر بالفتح الكسر

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 366

و الإهلاك كالتبتير فيهما و الفعل كضرب، انتهى.

" و أنهم ضيقوا"

 (1) الواو إما للحال و الهمزة مكسورة، أو للعطف و الهمزة مفتوحة.

 (الحديث الرابع)

 (2): صحيح.

و" ثلاث"

 (3) مبتدأ و جملة

لا يموت‏

 (4) خبر، و في القاموس:

الوبال‏

 (5) الشدة و الثقل، و في المصباح: الوبيل الوخيم، و الوبال بالفتح من وبل المرتع بالضم وبالا بمعنى وخم، و لما كان عاقبة المرعى الوخيم إلى شر قيل في سوء العاقبة: وبال، و العمل السي‏ء وبال على صاحبه، و

البغي‏

 (6) خبر مبتدإ محذوف بتقديرهن البغي، و جملة

يبارز الله‏

 (7) صفة اليمين إذ اللام للعهد الذهني أو استينافية، و المستتر في يبارز راجع إلى صاحبهن و الجلالة منصوبة و الباء في بها للسببية أو للآلية، و الضمير لليمين لأن اليمين مؤنث و قد يقرأ يبارز على بناء المجهول و رفع الجلالة، و في القاموس: بارز القرن مبارزة و برازا برز إليه، و هما يتبارزان.

أقول: لما أقسم به تعالى بحضوره كذبا فكأنه يعاديه علانية و يبارزه، و على التوصيف احتراز عن اليمين الكاذبة جهلا و خطأ من غير عمد، و توصيف اليمين بالكاذبة مجاز

" و إن أعجل"

 (8) كلام علي أو الباقر عليهما السلام، و التعجيل لأنه يصل ثوابه إليه في الدنيا أو بلا تراخ فيها

" فتنمي"

 (9) على بناء الأفعال أو كيمشي، في القاموس: نما ينمو نموا زاد كنمى ينمي نميا و نميا و نمية، و أنمى و نمى، و على الأفعال الضمير

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 367

للصلة، و

يثرون‏

 (1) أيضا يحتمل الأفعال و المجرد كيرضون أو يدعون و يحتمل بناء المفعول.

في القاموس: الثروة كثرة العدد من الناس و المال، و ثري القوم ثراءا كثروا و نموا، و المال كذلك، و ثري كرضى كثر ماله كأثرى و مال ثري كغني كثير، و رجل ثري و أثرى كأحوى كثيره، و في الصحاح الثروة كثرة العدد، و قال الأصمعي:

ثري القوم يثرون إذا كثروا و نموا، و ثري المال نفسه يثرو إذا كثر، و قال أبو عمرو:

و ثري الله القوم كثرهم و أثرى الرجل إذا كثرت أمواله، انتهى.

و المعنى يكثرون عددا أو مالا أو يكثرهم الله، و في النهاية فيه: اليمين الكاذبة تدع الديار

بلاقع‏

 (2)، جمع بلقع و بلقعة و هي الأرض القفر التي لا شي‏ء بها يريد أن الحالف بها يفتقر و يذهب ما في بيته من الرزق، و قيل: هو أن يفرق الله شمله و يغير عليه ما أولاه من نعمه، انتهى.

و أقول: مع التتمة التي في هذا الخبر لا يحتمل المعنى الأول، بل المعنى أن ديارهم تخلو منهم إما بموتهم و انقراضهم أو بجلائهم عنها و تفرقهم أيدي سبأ، و الظاهر أن المراد

بالديار

 (3) ديار القاطعين، لا البلدان و القرى لسراية شؤمهما كما توهم.

" و تنقل الرحم"

 (4) الضمير المرفوع راجع إلى القطيعة، و يحتمل الرجوع إلى كل واحد لكنه بعيد، و التعبير عن انقطاع النسل بنقل الرحم لأنه حينئذ تنتقل القرابة من أولاده إلى سائر أقاربه، و يمكن أن يقرأ تنقل على بناء المفعول، فالواو للحال، و قيل: هو من النقل بالتحريك و هو داء في خف البعير يمنع المشي، و لا يخفى بعده.

و قيل: الواو إما للحال عن القطيعة أو للعطف على قوله و إن اليمين إن جوز

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 368

عطف الفعلية على الاسمية، و إلا فليقدر و إن قطيعة الرحم تنقل بقرينة المذكورة لا على قوله: لتذران، لأن هذا مختص بالقطيعة، و لعل المراد بنقل الرحم نقلها من الوصلة إلى الفرقة، و من التعاون و المحبة إلى التدابر و العداوة، و هذه الأمور من أسباب نقص العمر و انقطاع النسل كما صرح به على سبيل التأكيد و المبالغة

بقوله: و إن نقل الرحم انقطاع النسل‏

 (1)، من باب حمل المسبب على السبب مبالغة في السببية، انتهى، و هو كما ترى.

و أقول: سيأتي في باب اليمين الكاذبة من كتاب الأيمان و النذور بهذا السند عن أبي جعفر عليه السلام قال: إن في كتاب علي عليه السلام إن اليمن الكاذبة و قطيعة الرحم تذران الديار بلاقع من أهلها، و تنقل الرحم يعني انقطاع النسل و هناك في أكثر النسخ بالغين المعجمة، قال في النهاية: النغل بالتحريك الفساد، و قد نغل الأديم إذا عفن و تهرى في الدماغ فيفسد و يهلك، انتهى.

و لا يخلو من مناسبة، و روى الصدوق في معاني الأخبار عن أبي بصير عن أبي عبد الله مثله بتغيير، و فيه: إن قطيعة الرحم و اليمين الكاذبة لتذران الديار بلاقع من أهلها و يثقلان الرحم و إن تثقل الرحم انقطاع النسل، و هو أظهر من وجهين:

أحدهما تثنية الضمير، و ثانيهما: أن ثقل الرحم بقطع النسل أنسب، و في مجالس المفيد و كتاب الحسين بن سعيد عن أبي عبيدة مثله، و فيهما تدع الديار، و هو يؤيد العود إلى كل واحد.

 (الحديث الخامس)

 (2): مجهول.

" و افعل"

 (3) أي كظم الغيظ دائما و إن أصروا على الإساءة أو افعل كلما أمكنك‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 369

من البر فيكون حذف المفعول للتعميم‏

" إنهم يفعلون"

 (1) أي الإضرار و أنواع الإساءة و لا يرجعون عنها

" أ تريد أن تكون مثلهم"

 (2) في القطع و ارتكاب القبيح و ترك الإحسان‏

فلا ينظر الله إليكم‏

 (3) أي يقطع عنكم جميعا رحمته في الدنيا و الآخرة، و إذا وصلت فإما أن يرجعوا فيشملكم الرحمة و كنت أولى بها و أكثر حظا منها، و إما أن لا يرجعوا فيخصك الرحمة و لا انتقام أحسن من ذلك.

 (الحديث السادس)

 (4): ضعيف على المشهور.

و ظاهره تحريم القطع و إن قطعوا و ينافيه ظاهرا قوله تعالى:" فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى‏ عَلَيْكُمْ" و يمكن تخصيص الآية بتلك الأخبار و لم يتعرض أصحابنا رضي الله عنهم لتحقيق تلك المسائل مع كثرة الحاجة إليها، و الخوض فيها يحتاج إلى بسط و تفصيل لا يناسبان هذه التعليقة، و قد مر بعض القول فيها في باب صلة الرحم، و سلوك سبيل الاحتياط في جميع ذلك أقرب إلى النجاة.

 (الحديث السابع)

 (5): مرفوع.

و ابن الكواء

 (6) كان من رؤساء الخوارج لعنهم الله و

يشكر

 (7) اسم أبي قبيلتين كان هذا الملعون من إحداهما فيحرمهم الله من سعة الأرزاق و طول الأعمار و إن كانوا متقين فيما سوى ذلك، و لا ينافيه قوله تعالى:" وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 370

وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ" فإنه غير متق لقطع الرحم، و مفهومها غير مقصود، فإن كثيرا من الكفار و الفساق مرزوقون، و لو كان مقصودا فيمكن أن يكون باعتبار التقييد بقوله من حيث لا يحتسب.

 (الحديث الثامن)

 (1): صحيح.

" جعلت الأموال في أيدي الأشرار"

 (2) هذا مجرب و أحد أسبابه أنهم يتخاصمون و يتنازعون و يترافعون إلى الظلمة و حكام الجور، فتصير أموالهم بالرشوة في أيديهم و أيضا إذا تخاصموا و لم يتعاونوا يتسلط عليهم الأشرار و يأخذونها منهم.

باب العقوق‏

 (3)

 (الحديث الأول)

 (4): ضعيف على المشهور.

" لنهى عنه"

 (5) إذ معلوم أن الغرض النهي عن جميع الأفراد فاكتفى بالأدنى ليعلم منه الأعلى بالأولوية كما هو الشائع في مثل هذه العبارة، و

الأف‏

 (6) كلمة تضجر

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 371

و قد أفف تأفيفا إذا قال ذلك، و المراد

بعقوق الوالدين‏

 (1) ترك الأدب لهما و الإتيان بما يؤذيهما قولا و فعلا، و مخالفتهما في أغراضهما الجائزة عقلا و نقلا و قد عد من الكبائر، و دل على حرمته الكتاب و السنة و أجمع عليها الخاصة و العامة و قد مر القول في ذلك في باب برهما.

 (الحديث الثاني)

 (2): حسن كالصحيح.

" فاقتصر على الجنة"

 (3) أي اكتف بها، و فيه تعظيم أجر البر حتى أنه يوجب دخول الجنة، و يفهم منه أنه يكفر كثيرا من السيئات و يرجح عليها ميزان الحساب.

 (الحديث الثالث)

 (4): مجهول.

" العاق لوالديه"

 (5) أي لهما أو لكل منهما، و يدل ظاهرا على عدم دخول العاق الجنة، و يمكن حمله على المستحل أو على أنه لا يجد ريحها ابتداء و إن دخلها أخيرا، أو المراد بالوالدين هنا النبي و الإمام كما ورد في الأخبار، أو يحمل على جنة مخصوصة.

 (الحديث الرابع)

 (6): ضعيف على المشهور.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 372

" فوق كل ذي بر بر"

 (1) البر بالكسر مصدر بمعنى التوسع في الصلة و الإحسان إلى الغير و الإطاعة، و بالفتح صفة مشبهة لهذا المعنى، و يمكن هنا قراءتهما بالكسر بتقدير مضاف في الأول أي فوق بر كل ذي بر، أو في الثاني أي ذو بر أو الحمل على المبالغة كما في قوله تعالى:" وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى‏" و يمكن أن يقرأ الأول بالكسر و الثاني بالفتح و هو أظهر.

" حتى يقتل الرجل أحد والديه"

 (2) أي أعم من أن يكون مع قتل الآخر أو بدونه أو من غير هذا الجنس من العقوق، فلا ينافي كون قاتلهما أعق، و أيضا المراد عقوق الوالدين و الأرحام أو من جنس الكبائر فلا ينافي كون قتل الإمام أشد، فإنه من نوع الكفر لأنه يمكن شموله لقتل والدي الدين النبي و الإمام صلوات الله عليهما كما مر في باب بر الوالدين و غيره.

 (الحديث الخامس)

 (3): صحيح على الظاهر.

و قول ابن شهرآشوب أن‏

ابن عميرة

 (4) واقفي ليس بمعتمد لأنه لم يذكره غيره من القدماء

" و هما ظالمان له"

 (5) فكيف إذا كانا بارين به، و لا ينافي ذلك كونهما أيضا آثمين لأنهما ظلماه و حملاه على العقوق، و القبول كمال العمل و هو غير الإجزاء.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 373

 (الحديث السادس)

 (1): ضعيف.

و كان الخمسمائة بالنسبة إلى الجميع، و

الألف‏

 (2) بالنسبة إلى جماعة، و يؤيده التعميم في السابق حيث قال: من كانت له روح، أو يكون الاختلاف بقلة كشف الأغطية و كثرتها، و يؤيده أن في الخبر السابق غطاء فيكون هذا الخبر إذا كشف غطاءان مثلا، و فيما سيأتي في كتاب الوصايا و إن ريحها لتوجد من مسيرة ألفي عام فيما إذا كشف أربعة أغطية مثلا، أو يكون بحسب اختلاف الوجدان و شدة الريح و خفتها ففي الخمسمائة توجد ريح شديد، و هكذا، أو باختلاف الأوقات و هبوب الرياح الشديدة أو الخفيفة، أو تكون هذه الأعداد كناية عن مطلق الكثيرة و لا يراد بها خصوص العدد كما في قوله تعالى:" إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً".

و يطلق‏

الإزار

 (3) بالكسر غالبا على الثوب الذي يشد على الوسط تحت الرداء و كان جفاة العرب كانوا يطيلون الإزار فيجر على الأرض، و يمكن أن يراد هنا مطلق الثوب كما فسره في القاموس بالملحفة، فيشمل تطويل الرداء و سائر الأثواب كما فسر قوله تعالى:" وَ ثِيابَكَ فَطَهِّرْ" بالتشمير و سيأتي الأخبار في ذلك في أبواب الزي و التجمل، و قد يطلق على ما يشد فوق الثوب على الوسط مكان المنطقة، فالمراد إسبال طرفيه تكبرا كما يفعله بعض أهل الهند.

و قال الجوهري: الخال و الخيلاء و

الخيلاء

 (4) الكبر، تقول منه: اختال فهو ذو خيلاء، و ذو خال و ذو مخيلة أي ذو كبر، و قوله: خيلاء كأنه مفعول لأجله، و قيل:

حال عن فاعل جار أي جار ثوبه على الأرض متبخترا متكبرا مختالا أي متمائلا

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 374

من جانبيه، و أصله من المخيلة و هي القطعة من السحاب تميل في جو السماء هكذا و هكذا، و كذلك المختال يتمايل لعجبه بنفسه و كبره و هي مشية المطيطاء، و منه قوله تعالى:" ثُمَّ ذَهَبَ إِلى‏ أَهْلِهِ يَتَمَطَّى" أي يتمايل مختالا متكبرا كما قيل.

و أما إذا لم يقصد بإطالة الثوب و جره على الأرض الاختيال و التكبر بل جرى في ذلك على رسم العادة، فقيل: إنه أيضا غير جائز، و الأولى أن يقال غير مستحسن كما صرح الشهيد و غيره باستحباب ذلك، و ذلك لوجوه:

منها: مخالفة السنة و شعار المؤمنين المتواضعين كما سيأتي، و قد روت العامة أيضا في ذلك أخبارا، قال في النهاية فيه: ما أسفل من الكعبين من الإزار في النار، أي ما دونه من قدم صاحبه في النار عقوبة له، أو على أن هذا الفعل معدود في أفعال أهل النار، و منه الحديث أزره المؤمن إلى نصف الساق و لا جناح فيما بينه و بين الكعبين، الإزرة بالكسر الحالة و هيئة الائتزار مثل الركبة و الجلسة، انتهى.

و منها: الإسراف في الثوب بما لا حاجة فيه.

و منها: أنه لا يسلم الثوب الطويل من جره على النجاسة تكون بالأرض غالبا فيختل أمر صلاته و دينه، فإن تكلف رفع الثوب إذا مشى تحمل كلفة كان غنيا منها ثم يغفل عنه فيسترسل.

و منها: أنه يسرع البلى إلى الثوب بدوام جره على التراب و الأرض فيخرقه إن لم ينجس.

 (الحديث السابع)

 (1): مجهول.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 375

" فيحد النظر"

 (1) على بناء المجرد بضم الحاء أو على بناء الأفعال من تحديد السكين أو السيف مجازا، و يحتمل أن يكون هذا من الأدنى و يساوي الأف في المرتبة، أو يكون الأف أدنى بحسب القول و هذا بحسب الفعل، و الغرض أنه يجب أن ينظر إليهما على سبيل الخشوع و الأدب، و لا يملأ عينيه منهما و لا ينظر إليهما على وجه الغضب.

 (الحديث الثامن)

 (2): مجهول.

و الظاهر أن ضمير

" كلمه"

 (3) راجع إلى الابن و رجوعه إلى الأب من حيث مكنه من ذلك بعيد، و قد يحمل على عدم رضا الأب أو أنه فعله تكبرا و اختيالا، و من هذه الأخبار يفهم أن أمر بر الوالدين دقيق و أن العقوق يحصل بأدنى شي‏ء.

 (الحديث التاسع)

 (4): كالسابق.

و قد مر مثله عن حديد و الاختلاف في سائر السند.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 376

باب الانتفاء

 (1) أي التبري عن نسب باعتبار دناءته عرفا

 (الحديث الأول)

 (2): حسن كالصحيح.

" و إن دق"

 (3) أي بعد، أو و إن كان خسيسا دنيا و قيل: يحتمل أن يكون ضمير دق راجعا إلى التبري بأن لا يكون صريحا بل بالإيماء و هو بعيد، و قيل: يعني و إن دق ثبوته و هو أبعد، و الكفر هنا ما يطلق على أصحاب الكبائر كما مر و سيأتي، و ربما يحمل على ما إذا كان مستحلا لأن مستحل قطع الرحم كافر، أو المراد به كفر النعمة لأن قطع النسب كفر لنعمة المواصلة، أو يراد به أنه شبيه بالكفر لأن هذا الفعل يشبه فعل أهل الكفر، لأنهم كانوا يفعلونه في الجاهلية، و لا فرق في ذلك بين الولد و الوالد و غيرهما من الأرحام.

 (الحديث الثاني)

 (4): موثق كالصحيح.

 (الحديث الثالث)

 (5): ضعيف.

و المراد

بالحسب‏

 (6) أيضا النسب الدني‏ء فإن الأحساب غالبا يكون بالأنساب،

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 377

و يحتمل على بعد أن لا تكون" من" صلة للانتفاء بل يكون للتعليل، أي بسبب حسب حصل له أو لآبائه القريبة، و حينئذ في‏

قوله: و إن دق‏

 (1) تكلف إلا على بعض الوجوه البعيدة السابقة، و ربما يقرأ على هذا الوجه الانتقاء بالقاف أي دعوى النقاوة و الامتياز و الفخر بسبب حسب و هو تصحيف.

باب من أذى المسلمين و احتقرهم‏

 (2)

 (الحديث الأول)

 (3): صحيح.

" ليأذن"

 (4) أي ليعلم كما قال تعالى في ترك ما بقي من الربا:" فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ" قال البيضاوي: أي فأعلموا بها من أذن بالشي‏ء إذا علم به، و تنكير حرب للتعظيم، و ذلك يقتضي أن يقاتل المربي بعد الاستتابة حتى يفي‏ء إلى أمر الله كالباغي و لا يقتضي كفره.

و في المجمع: أي فأيقنوا و اعلموا بقتال من الله و رسوله، و معنى الحرب عداوة الله و رسوله و هذا إخبار بعظم المعصية، و قال ابن عباس و غيره: إن من عامل بالربا استتابه فإن تاب و إلا قتله، انتهى.

و أقول: في الخبر يحتمل أن يكون كناية عن شدة الغضب بقرينة المقابلة، أو المعنى أن الله يحاربه أي ينتقم منه في الدنيا و الآخرة أو من فعل ذلك فليعلم أنه محارب لله كما سيأتي: فقد بارزني بالمحاربة، و قيل: الأمر بالعلم ليس على‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 378

الحقيقة بل هو خبر عن وقوع المخبر به على التأكيد، و كذا بالأمن من إخبار عن عدم وقوع ما يحذر منه على التأكيد، و المراد

بالمؤمن‏

 (1) مطلق الشيعة أو الكامل منهم كما يومئ إليه:

عبدي‏

 (2)، و على الأول المراد

بالإيذاء

 (3) الذي لم يأمر به الشارع كالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و المراد

بالإكرام‏

 (4) الرعاية و التعظيم خلقا و قولا و فعلا منه جلب النفع له و دفع الضرر عنه.

" و لو لم يكن"

 (5) تامة و المراد

بالخلق‏

 (6) سوى الملائكة و الجن و

قوله: مع إمام‏

 (7) إما متعلق بلم يكن أو حال عن المؤمن، و على الأخير يدل على ملازمته للإمام، و المراد

بالاستغناء

 (8) بعبادة مؤمن واحد مع أنه سبحانه غني مطلق لا حاجة له إلى عبادة أحد قبول عبادتهما و الاكتفاء بهما لقيام نظام العالم، و كان كون المؤمن مع الإمام أعم من كونه بالفعل أو بالقوة القريبة منه، فإنه يمكن أن يبعث نبي و لم يؤمن به أحد إلا بعد زمان كما مر في باب قلة عدد المؤمنين: إن إبراهيم عليه السلام كان يعبد الله و لم يكن معه غيره حتى آنسه الله بإسماعيل و إسحاق، و قد مر الكلام فيه.

و قيل: المقصود هنا بيان حال هذه الأمة فلا ينافي الوحدة في الأمم السابقة، و أرضين بتقدير سبع أرضين‏

" و أنس"

 (9) إما مضاف إلى‏

" سواهما"

 (10) أو منون و سواهما للاستثناء.

 (الحديث الثاني)

 (11): ضعيف على المشهور.

" أين الصدود لأوليائي"

 (12) كذا في أكثر نسخ الكتاب و ثواب الأعمال و غيرهما

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 379

و تطبيقه على ما يناسب المقام لا يخلو من تكلف، في القاموس: صد عنه صدودا أعرض و فلانا عن كذا صدا منعه و صرفه، و صد يصد و يصد صديدا ضج، و التصدد التعرض و في النهاية: الصد الصرف و المنع، يقال: صده و أصده و صد عنه و الصد الهجران و منه الحديث: فيصد هذا و يصد هذا، أي يعرض بوجهه عنه و في المصباح: صد من كذا من باب ضرب ضحك.

و أقول: أكثر المعاني مناسبة لكن بتضمين معنى التعرض و نحوه للتعدية باللام، فالصدود بالضم جمع صاد و في بعض النسخ المؤذون لأوليائي فلا يحتاج إلى تكلف.

و قال الجوهري:

نصبت‏

 (1) لفلات نصبا إذا عاديته، و ناصبته الحرب مناصبة. و قال:

التعنيف‏

 (2) و التعيير اللوم و قيل: لعل خلو وجوههم من اللحم لأجل أنه ذاب من الغم و خوف العقوبة، أو من خدشه بأيديهم تحسرا و تأسفا، و يؤيده ما رواه العامة عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال: مررت ليلة أسري بي بقوم لهم أظفار من نحاس يخدشون وجوههم و صدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبرئيل؟ قال: هم الذين يأكلون لحوم الناس و يقعون في أعراضهم، و قيل: إنما سقط لحم وجوههم لأنهم كاشفوهم بوجوههم الشديدة من غير استحياء من الله و منهم.

و أقول: أو لأنهم لما أرادوا أن يقبحوهم عند الناس في الدنيا قبحهم الله في الآخرة عند الناس في أظهر أعضائهم و أحسنها.

 (الحديث الثالث)

 (3): مجهول.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 380

و المراد

بالولي‏

 (1) المحب البالغ بجهده في عبادة مولاه المعرض عما سواه‏

" فقد أرصد"

 (2) أي هيأ نفسه أو أدوات الحرب، و يمكن أن يقرأ على بناء المفعول قال في النهاية: يقال رصدته إذا قعدت له على طريقه تترقبه، و أرصدت له العقوبة إذا أعددتها، و حقيقته جعلتها على طريقه كالمترقبة له، و الإضافة في‏

قوله" لمحاربتي"

 (3) إلى المفعول، و من فوائد هذا الخبر التحذير التام لأذى كل من المؤمنين [خشية] لاحتمال أن يكون من أوليائه تعالى، كما روى الصدوق بإسناده عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: إن الله أخفى وليه في عباده فلا تستصغروا شيئا من عباده فربما كان وليه و أنت لا تعلم.

 (الحديث الرابع)

 (4): مرسل.

و في القاموس:

الحقر

 (5) الذلة كالحقرية بالضم، و الحقارة مثلثة و المحقرة، و الفعل كضرب و كرم، و الإذلال كالتحقير و الاحتقار و الاستحقار، و الفعل كضرب و قال:

مقته‏

 (6) مقتا و مقاتة أبغضه كمقته و التحقير يكون بالقلب فقط، و إظهاره أشد و هو إما بقول كرهه أو بالاستهزاء به أو بشتمه أو بضربة أو بفعل يستلزم إهانته أو بترك قول أو فعل يستلزمها و أمثال ذلك.

 (الحديث الخامس)

 (7): مختلف فيه معتبر عندي.

و يدل على أن عقوبة إذلال المؤمن تصل إلى المذل في الدنيا أيضا بل بعد

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 381

الإذلال بلا مهلة و لو بمنع اللطف و الخذلان.

 (الحديث السادس)

 (1): ضعيف على المشهور.

و في المصباح:

نابذتهم‏

 (2) خالفتهم و نابذتهم الحرب كاشفتهم إياها و جاهرتهم بها.

 (الحديث السابع)

 (3): مجهول.

" و ما تقرب"

 (4) لما قدم سبحانه ذكر اختصاص الأولياء لديه أشار إجمالا إلى طريق الوصول إلى درجة الولاية من بداية السلوك إلى النهاية أي ما تحبب و لا طلب القرب لدي بمثل أداء ما افترضت عليه، أي أصالة أو أعم منه و مما أوجبه على نفسه بنذر و شبهه، لعموم الموصول.

و يدل على أن الفرائض أفضل من المندوبات مطلقا، و هذا ظاهر بحسب الاعتبار أيضا فإنه سبحانه أعلم بالأسباب التي توجب القرب إلى محبته و كرامته فلما أكد في الفرائض و أوعد على تركها علمنا أنها أفضل مما خيرنا في فعله و تركه، و وعد على فعله و لم يتوعد على تركه.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 382

قال الشيخ البهائي قدس سره: فإن قلت: مدلول هذا الكلام هو أن غير الواجب ليس أحب إلى الله سبحانه من الواجب لا أن الواجب أحب إليه من غيره فلعلها متساويان؟ قلت: الذي يستفيده أهل اللسان من مثل هذا الكلام هو تفضيل الواجب على غيره، كما تقول: ليس في البلد أحسن من زيد، لا تريد مجرد نفي وجود من هو أحسن منه فيه، بل تريد نفي من تساويه في الحسن و إثبات أنه أحسن أهل البلد و إرادة هذا المعنى من مثل هذا الكلام شائع متعارف في أكثر اللغات، انتهى.

و قال الشهيد روح الله روحه في القواعد: الواجب أفضل من الندب غالبا لاختصاصه بمصلحة زائدة، و لقوله صلى الله عليه و آله و سلم: في الحديث القدسي: ما تقرب إلى عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، و قد تخلف ذلك في صور كالإبراء من الدين الندب، و إنظار المعسر الواجب، و إعادة المنفرد صلاته جماعة، فإن الجماعة مطلقا تفضل صلاة الفذ بسبع و عشرين درجة، فصلاة الجماعة مستحبة و هي أفضل من الصلاة التي سبقت و هي واجبة، و كذلك الصلاة في البقاع الشريفة فأتها مستحبة و هي أفضل من غيرها مائة ألف إلى اثنتي عشرة صلاة، و الصلاة بالسواك و الخشوع في الصلاة مستحب و يترك لأجله سرعة المبادرة إلى الجمعة و إن فات بعضها مع أنها واجبة لأنه إذا اشتد سعيه شغله الانتهار عن الخشوع، و كل ذلك في الحقيقة غير معارض لأصل الواجب و زيادته لاشتماله على مصلحة أزيد من فعل الواجب لا بذلك القيد، انتهى.

و أقول: ما ذكره قد لا يصلح جوابا للجميع و يمكن الجواب عن الأول بأن‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 383

الواجب أحد الأمرين و الإبراء أفضل الفردين، و عن الثاني بأنا لا نسلم كون هذه الجماعة أفضل من المنفرد، و لو سلم فيمكن أن يكون الفضل لكون أصلها واجبة و انضمت إلى تلك الفضيلة، مع أنه قد ورد أنه تعالى يقبل أفضلهما، و احتمل بعض الأصحاب نية الوجوب فيها أيضا.

و كان بعض مشايخنا يحتمل هنا عدول نية الصلاة إلى الاستحباب بناء على جواز عدول النية بعد الفعل كما يظهر من بعض الأخبار.

و مما ذكروه نقضا على تلك القاعدة الابتداء بالتسليم و رده فإن الأول أفضل مع وجوب الثاني، و الإشكال فيه أصعب، و يمكن الجواب بأن الابتداء بالسلام أفضل من الترك، و انتظار تسليم الغير، و لا نسلم أنه أفضل من الرد الواجب، بل يمكن أن يقال: إن إكرام المؤمن و ترك إهانته واجب و هو يتحقق في أمور شتى فمنها ابتداء التسليم أو رده، فلو تركهما عصى، و في الإتيان بكل منهما يتحقق ترك الإهانة لكن اختيار الابتداء أفضل، فظهر أنه يمكن إجراء جوابه رحمه الله في الجميع.

و أقول: يمكن تخصيص الأخبار و كلام الأصحاب بكون الواجب أفضل من المستحب من نوعه و صنفه، كصلاة الفريضة و النافلة، فلا يلزم كون رد السلام أفضل من الحج المندوب، و لا من صلاة جعفر رضي الله عنه و لا من بناء قنطرة عظيمة أو مدرسة كبيرة، و بالجملة فروع هذه المسألة كثيرة و لم أر من تعرض لتحقيقها كما ينبغي، و الخوض فيها يوجب بسطا من الكلام لا يناسب المقام، و سيأتي شرح باقي الخبر في الخبر الآتي.

 (الحديث الثامن)

 (1): صحيح.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 384

و قال الشيخ البهائي برد الله مضجعه هذا الحديث صحيح السند و هو من الأحاديث المشهورة بين الخاصة و العامة، و قد رووه في صحاحهم بأدنى تغيير هكذا قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: إن الله تعالى قال: من عادى لي وليا فقد أذنته بالحرب، و ما يتقرب إلى عبدي بشي‏ء أحب إلى مما افترضت عليه، و ما يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، و بصره الذي يبصر به، و يده التي يبطش بها، و رجله التي يمشي بها إن سألني لأعطيته و إن استعاذني لأعيذنه و ما ترددت في شي‏ء أنا فاعله كترددي في قبض نفس المؤمن يكره الموت و أكره مساءته، و لا بد له منه.

" لما أسري بي"

 (1) أسري بالبناء للمفعول من السري على وزن هدى، و هو السير في الليل، و أما تقييده بالليل في قوله تعالى:" سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى‏ بِعَبْدِهِ لَيْلًا" الآية فللدلالة بتنكير الليل على تقليل مدة الإسراء، مع أن المسافة بين المسجدين مسير أربعين ليلة

" ما حال المؤمن عندك"

 (2) أي ما قدره و منزلته؟

" من أهان لي وليا"

 (3) المراد بالولي المحب، و

بالمبارزة

 (4) بالمحاربة إظهارها و التصدي لها.

" و ما ترددت في شي‏ء أنا فاعله"

 (5) نسبة التردد إليه سبحانه يحتاج إلى التأويل و فيه وجوه:

الأول: أن في الكلام إضمارا، و التقدير لو جاز على التردد ما ترددت في شي‏ء كترددي في وفاة المؤمن.

الثاني: أنه لما جرت العادة بأن يتردد الشخص في مساءة من يحترمه و يوقره كالصديق الوفي و الخل الصفي و أن لا يتردد في مساءة من ليس له عنده قدر و لا حرمة، كالعدو و الحية و العقرب بل إذا خطر بالبال مساءته أوقعها

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 385

من غير تردد و لا تأمل، صح أن يعبر بالتردد و التأمل في مساءة الشي‏ء عن توقيره و احترامه، و بعدمها عن إذلاله و احتقاره، فقوله سبحانه: ما ترددت في شي‏ء أنا فاعله كترددي في وفاة المؤمن، المراد به و الله أعلم: ليس لشي‏ء من مخلوقاتي عندي قدر و حرمة كقدر عبدي المؤمن و حرمته، فالكلام من قبيل الاستعارة التمثيلية.

الثالث: أنه قد ورد في الحديث من طرق الخاصة و العامة أن الله سبحانه يظهر للعبد المؤمن عند الاحتضار من اللطف و الكرامة و البشارة بالجنة ما يزيل عنه كراهة الموت، و يوجب رغبته في الانتقال إلى دار القرار، فيقل تأذيه به و يصير راضيا بنزوله راغبا في حصوله، فأشبهت هذه الحالة معاملة من يريد أن يؤلم حبيبه ألما يتعقبه نفع عظيم، فهو يتردد في أنه كيف يوصل ذلك الألم إليه على وجه يقل تأذيه به، فلا يزال يظهر له ما يرغبه فيما يتعقبه من اللذة الجسمية، و الراحة العظيمة إلى أن يتلقاه بالقبول، و يعده من الغنائم المؤدية إلى إدراك المأمول.

و أقول: يمكن أن يكون التردد إشارة إلى المحو و الإثبات في لوحهما، فإنه يكتب أجله في زمان و آن فيدعو لتأخيره أو يتصدق فيمحو الله ذلك، و يؤخره إلى وقت آخر فهو يشبه فعل المتردد، أطلق عليه التردد على وجه الاستعارة، هذا بحسب ما ورد في لسان الشريعة.

أما الحكماء و الصوفية فيقولون: النفوس المنطبعة الفلكية لم تحط بتفاصيل ما سيقع من الأمور دفعة واحدة، لعدم تناهيها بل إنما ينتقش فيها الحوادث شيئا فشيئا، و جملة فجملة مع أسبابها و عللها، و ربما حكمت بشي‏ء باعتبار الاطلاع على بعض عللها، و لم تطلع على ما يضادها و يمنع من تأثيرها، فإذا اطلعت عليها رجعت عن ذلك الحكم كما إذا حصل لها العلم بموت زيد بمرض كذا في ليلة كذا لأسباب يقتضي ذلك، و لم يحصل لها العلم بتصدقه الذي يأتي به قبيل ذلك، لعدم اطلاعها على أسباب التصدق بعد، ثم علم به، و كان موته بتلك الأسباب مشروطا بأن لا

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 386

يتصدق فتحكم أولا بالموت و ثانيا بالبرء، و ذلك لأن شأن النفوس أن يكون توجهها إلى بعض المعلومات يذهلها عن البعض الآخر، و ذلك هو البداء.

ثم إذا كانت الأسباب بوقوع أمر و لا وقوعه متكافئة و لم يحصل لها العلم برجحان أحدهما بعد كان لها التردد في وقوع ذلك الأمر و لا وقوعه، و ينتقش فيها الوقوع تارة و اللاوقوع أخرى، فهذا هو التردد.

ثم لما كانت أفعال الملائكة المسخرين و إرادتهم مستهلكة في فعله سبحانه و إرادته إذ لا يعصون الله ما أمرهم و يفعلون ما يؤمرون، و مكتوبهم مكتوب الله بعد قضائه السابق المكتوب بقلمه الأول، جاز أن يوصف الله سبحانه بالبداء و التردد و أمثالهما، فلذا قال سبحانه: ما ترددت في شي‏ء، إلخ.

مع أنه عز و جل قد قضى عليه الموت قضاء حتما كما قال عز و جل:" ثُمَّ قَضى‏ أَجَلًا وَ أَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ" و قال:" وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَ لا يَسْتَقْدِمُونَ".

و أقول: هذا بحسب آرائهم و مصطلحاتهم، و قد مر تحقيق ذلك في باب البداء و قد مرت لتأويل هذا الحديث وجوه أخرى في باب الرضا بموهبة الإيمان.

ثم قال قدس سره: و الجملة الاسمية يعني" أنا فاعله" نعت" شي‏ء" و اسم الفاعل فيها يجوز أن يكون بمعنى الحال أو الاستقبال" يكره الموت و أكره مساءته" جملة مستأنفة استينافا بيانيا كان سائلا يسأل ما سبب التردد؟ فأجيب بذلك، و يحتمل الحالية من المؤمن و الاستئناف أولى، و المساءة على وزن سلامة مصدر ميمي من ساءه إذا فعل ما يكرهه.

و قال روح الله روحه: قد يتوهم المنافاة بين ما دل عليه هذا الحديث و أمثاله‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 387

من أن المؤمن الخاص يكره الموت و يرغب في الحياة، و بين ما ورد عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه و من كره لقاء الله كره الله لقاءه، فإنه يدل بظاهره على أن المؤمن الحقيقي لا يكره الموت بل يرغب فيه كما نقل عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه كان يقول: أن ابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمه، و أنه قال حين ضربه ابن ملجم عليه اللعنة: فزت و رب الكعبة.

و قد أجاب عنه شيخنا الشهيد في الذكرى فقال: إن حب لقاء الله غير مقيد بوقت فيحمل على حال الاحتضار و معاينة ما يحب كما روينا عن الصادق عليه السلام و رووه في الصحاح عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنه قال: من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، و من كره لقاء الله كره الله لقاءه، قيل: يا رسول الله إنا لنكره الموت؟ فقال: ليس ذلك و لكن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان الله و كرامته، فليس شي‏ء أحب إليه مما أمامه، فأحب لقاء الله و أحب الله لقاءه، و أن الكافر إذا احتضره يبشر بعذاب الله فليس شي‏ء أكره إليه مما أمامه، كره لقاء الله فكره الله لقاءه، انتهى.

و قد يقال: إن الموت ليس نفس لقاء الله فكراهته من حيث الألم الحاصل منه لا يستلزم كراهة لقاء الله، و هذا ظاهر، و أيضا حب لقاء الله يوجب حب كثرة العمل الصالح النافع وقت لقائه، و هو يستلزم كراهة الموت القاطع لها، انتهى.

و أقول: أوردت وجوها أخرى في الكتاب الكبير، و عسى أن يأتي بعضها في كتاب الجنائز إن شاء الله.

و قال رحمه الله في قوله سبحانه: و إن من عبادي من لا يصلحه إلا الغني، الصناعة النحوية تقتضي أن يكون الموصول اسم إن، و الجار و المجرور خبرها، لكن لا يخفى أنه ليس الغرض الأخبار عن أن الذي لا يصلحه إلا الفقر بعض العباد إن لا فائدة فيه، بل الغرض العكس، فالأولى أن يجعل الظرف اسم إن و الموصول خبرها و هذا و إن كان خلاف ما هو المتعارف بين القوم لكن جوز بعضهم مثله في قوله تعالى‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 388

" وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ".

قال المحقق الشريف في حواشي الكشاف عند تفسير هذه الآية: فإن قيل:

لا فائدة في الإخبار بأن من يقول كذا و كذا من الناس؟ أجيب: بأن فائدته التنبيه على أن الصفات المذكورة تنافي النوع الإنساني، فينبغي أن يجهل كون المتصف بها من الناس و يتعجب منه، و رد بأن مثل هذا التركيب قد يأتي في مواضع لا يتأتى فيها مثل هذا الاعتبار، و لا يقصد منها إلا الإخبار بأن من هذا الجنس طائفة متصفة بكذا، كقوله تعالى:" مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ".

فالأولى أن يجعل مضمون الجار و المجرور مبتدأ على معنى و بعض الناس، أو بعض منهم من اتصف بما ذكر، فيكون مناط الفائدة تلك الأوصاف و لا استبعاد في وقوع الظرف بتأويل معناه مبتدءا، انتهى كلامه.

ثم لما كان مضمون هذا الخبر مظنة التردد و الإنكار حسن فيه التأكيد، فإن قلت: المخاطب هو النبي صلى الله عليه و آله و سلم و هو لا يتردد في أن أفعاله سبحانه مبنية على الحكم العميمة و المصالح العظيمة؟ قلت: أمثال هذه الخطابات من قبيل:" اسمعي يا جارة" و أكثر ما خاطب الله سبحانه الأنبياء صلى الله عليه و آله و سلم من هذا القبيل و لا ريب أن أكثر الخلق مترددون في مضمون ذلك الخبر بل ربما ينكره بعضهم.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 389

" لو صرفته إلى غير ذلك لهلك"

 (1) فصل هذه الجملة الشرطية عن جملة الصلة لأنها كاشفة و مبينة لها إذ كون هلاك دينه في الفقر مما يبين كون صلاحه في الغنى، فبينهما كمال الاتصال، و ما مر في حديث آخر شبيه بهذا الخبر من عطف مثل هذه الشرطية على الصلة بالواو، حيث قال:

و إن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر،

 (2) و لو أغنيته لأفسده ذلك، فلملاحظة كون حصول الإفساد أمرا مغايرا لعدم الإصلاح و غير مندرج في جنسه، و قد صرح علماء المعاني بأن الجملتين اللتين بينهما كمال الاتصال الموجب للفصل ربما يلاحظ بينهما الانقطاع بوجه من الوجوه، فتعطف إحداهما على الأخرى لتوسطهما حينئذ بين كمال الاتصال و كمال الانقطاع.

أ لا ترى إلى ما قالوه في قوله تعالى في سورة البقرة:" يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ" و في سورة إبراهيم" وَ يُذَبِّحُونَ" بالواو من أن طرح الواو في الآية الأولى يجعل تذبيح الأبناء بيانا ليسومونكم و تفسيرا للعذاب، و إثباتها في الآية الثانية لملاحظة كون التذبيح فوق العذاب المتعارف و زائدا عليه، فكأنه جنس آخر غير مندرج فيه.

" و أنه ليتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه"

 (3) النوافل جميع الأفعال الغير الواجبة و أما تخصيصها بالصلوات المندوبة فعرف طار، و معنى محبة الله سبحانه للعبد هو كشف الحجاب عن قلبه و تمكينه من أن يطأ على بساط قربه فإن ما يوصف به سبحانه إنما يؤخذ باعتبار الغايات لا باعتبار المبادئ، و علامة حبه سبحانه للعبد

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 390

توفيقه للتجافي عن دار الغرور و الترقي إلى عالم النور، و الأنس بالله و الوحشة عما سواه، و صيرورة جميع الهموم هما واحدا.

قال بعض العارفين: إذا أردت أن تعرف مقامك فانظر فيما أقامك.

" فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به" إلخ‏

 (1) أقول: تمسك بعض الصوفية و الاتحادية و الحلولية و الملاحدة بظواهر تلك العبارات و أعرضوا عن بواطن هذه الاستعارات فضلوا و أضلوا، مع أن عقل جميع أرباب العقول يحكم باستحالة اتخاذ شي‏ء مع أشياء كثيرة متباينة الحقائق مختلفة الآثار، و أيضا ما ذكروه من الكفر الصريح لا اختصاص له بالمحبين و العارفين، بل يحكمون باتحاده تعالى بجميع أصناف الموجودات حتى الكلاب و الخنازير و القاذورات سبحانه و تعالى عما يقولون علوا كبيرا.

فهذه الأخبار نافية لمذاهبهم الفاسدة الخبيثة لا مثبتة لها، و لها عند أهل الإيمان و أصحاب البيان و أرباب اللسان معان واضحة ظاهرة تقبلها الأذهان و مبنية على مجازات و استعارات شائعة في الحديث و القرآن، و مشتملة على نكأت بليغة استحسنها أرباب المعاني، و لا تنافي عقائد أهل الإيمان، و هي كثيرة نومئ هنا إلى بعضها.

الأول: ما ذكره الشيخ البهائي قدس سره و إن داهن في أول كلامه حيث قال: لأصحاب القلوب في هذا المقام كلمات سنية و إشارات سرية و تلويحات ذوقية تعطر مشام الأرواح و تحيي رميم الأشباح، لا يهتدي إلى معناها و لا يطلع على مغراها إلا من أتعب بدنه في الرياضات و عنى نفسه بالمجاهدات حتى ذاق مشربهم و عرف مطلبهم، و أما من لم يفهم تلك الرموز و لم يهتد إلى هاتيك الكنوز لعكوفه على الحظوظ الدنية و انهماكه في اللذات البدنية فهو عند سماع تلك الكلمات على خطر

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 391

عظيم من التردي في غياهب الإلحاد و الوقوع في مهاوي الحلول و الاتحاد، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، و نحن نتكلم في هذا المقام بما يسهل تناوله على الأفهام.

فنقول: هذا مبالغة في القرب و بيان لاستيلاء سلطان المحبة على ظاهر العبد و باطنه و سره و علانيته، فالمراد و الله أعلم: إني إذا أحببت عبدي جذبته إلى محل الأنس و صرفته إلى عالم القدس و صيرت فكره مستغرقا في أسرار الملكوت و حواسه مقصورة على اجتلاء أنوار الجبروت، فيثبت حينئذ في مقام القرب قدمه و يمتزج بالمحبة لحمه و دمه، إلى أن يغيب عن نفسه و يذهل عن حسه فيتلاشى الأغيار في نظره حتى أكون له بمنزلة سمعه و بصره كما قال من قال:

         جنوني فيك لا يخفى             و ناري منك لا تخبو

             فأنت السمع و الأبصار             و الأركان و القلب‏

 و قال رحمه الله:" يبطش بها" بالكسر و الضم أي يأخذ بها، و أصل البطش الأخذ بالعنف و السطوة، انتهى.

الثاني: ما قيل: المعنى أني إذا أحببته كنت كسمعه و بصره في سرعة الإجابة فقوله: إن دعاني أجبته، إشارة إلى وجه التشبيه يعني إني أجيبه سريعا إن دعاني إلى مقاصده كما يجيبه سمعه عند إرادته سماع المسموعات، و بصره عند إرادته أبصار المبصرات، و هذا مثل قول الناس المعروف بينهم: فلان عيني و نور بصري و يدي و عضدي، و إنما يريدون به التشبيه في معنى من المعاني المناسبة للمقام، و يسمون هذا تشبيها بليغا بحذف الأداة مثل زيد أسد.

الثالث: أن المعنى أنه تعالى هو المطلوب لهذا العبد عند سمعه للمسموعات و بصره للمبصرات و هكذا، يعني مني يسمع المسموعات و بها يرجع إلى، و المقصود أنه يبتدئ بي في سماع المسموعات و ينتهي إلى، فلا يصرف شيئا من جوارحه فيما ليس فيه رضاي، و إليه أشار بعضهم بقوله: ما رأيت شيئا إلا و رأيت الله قبله أو

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 392

بعده أو معه.

و أقول: على هذا يرجع الحمل إلى المبالغة في السببية أو الغائية، و يؤيده ما ورد في رواية أخرى فبي يسمع و بي يبصر و بي يمشي و بي ينطق.

الرابع: أنه لكثرة تخلقه بأخلاق ربه و وفور حبه لجناب قدسه تخلى عن محبته و إرادته، فلا يسمع إلا ما يحبه تعالى، و لا ينظر إلا إلى ما يحبه تعالى، و لا يبطش إلا إلى ما يوصل إلى قربه سبحانه، و قريب منه ما قيل: لا يسمع إلا بحق و إلى حق و لا ينظر إلا بحق و إلى حق، و لا يبطش إلا بإذن الحق و لا يمشي إلا إلى ما يرضى به الحق و هو المحق الولي و المؤمن حقا الذي انزاح عنه كل باطل و صار واقفا مع الحق، و هو قريب من الوجه الثالث.

الخامس: ما ظهر لي في بعض المقامات و هو أظهر عندي من سائر الوجوه، و تفصيله يحتاج إلى بسط وسيع في الكلام لا يسعه هذا المقام، و محصله أنه سبحانه أودع في بدن الإنسان و قلبه و روحه قوي ضعيفة هي في معرض الانحلال و الاختلال و الانقضاء و الفناء، فإذا اكتفي بها و صرفها في شهوات النفس و الهوى تفنى كلها، و لا يبقى معه شي‏ء منها و من ثمراتها إلا الحسرة و الندامة، و إذا استعملها في طاعة ربه و صرفها في طاعة محبوبة أبدله الله خيرا منها، و أقوى و أبقى تكون معه في الدنيا و العقبى، لقوله تعالى:" لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ" فمنها قوة السمع إذا بذلها في طاعة النفس و الشيطان، و ما يلهى عن الرحمن، بطل سمعهم الروحاني و هذا السمع الجسماني في معرض الفناء و لذا قال سبحانه فيهم:" أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا".

فهم صم بكم عمي في الدنيا و الآخرة، فمثلهم كمثل الذي ينعق بما لا يسمع‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 393

إلا دعاء و نداءا فهم في الدنيا أيضا كذلك، فإذا بطل بالموت حسهم لم يبق لهم إلا الضلال و الوبال، و إذا صرفها في طاعة ربه أبدله الله سمعا كاملا روحانيا لا يذهب بالصمم و لا بالموت، فهو يسمع كلام الملائكة و يصغي إلى خطاب الرب تعالى في الآخرة و الأولى، و يفهم كلام الله و كلام الأنبياء و الأوصياء عليهم السلام، فما منحه الله تعالى سمع قلبي روحاني لا يضعف بضعف البدن و لا يذهب بالموت، و به يسمع في القبر الخطاب و يعد الجواب، و يناديهم الحبيب كما نادى الرسول صلى الله عليه و آله و سلم أهل القليب.

و كذا أودع الله سبحانه حسا ضعيفا في البصر فإذا صرفه في مشتهيات نفسه ذهب الله بنوره و أعمى عين قلبه فهو في الآخرة أعمى و أضل سبيلا، و إذا بذله في طاعة ربه نور الله عين قلبه و أعطى بصره نورا أعلى و أقوى فيه ينظر إلى الملكوت الأعلى و يتوسم في وجوه الخلق ما لا يعرف غيره، و يرى الملائكة الروحانيين كما قال النبي صلى الله عليه و آله و سلم: اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله، و قال تعالى:" إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ".

و كذا قوة البطش البدنية إذا صرفها في طاعة الله و قربه و نهكها بالرياضات الحقة أعطاه الله قوة روحانية لا تضعف بالأمراض، و لا تذهب بالموت فيها يقدر على التصرف في عالم الملك و الملكوت، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: ما قلعت باب خيبر بقوة جسمانية بل بقوة ربانية.

و كذا النطق إذا صدق فيه و كان موافقا لعمله و مصادفا لرضا ربه فتح الله به ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه فظهر معنى قوله سبحانه: كنت سمعه و بصره، و غير ذلك على ألطف الوجوه لمن كان له قلب أو ألقى السمع و هو شهيد.

السادس: ما هو أرفع و أوقع و أحلى و أدق و ألطف و أخفى مما مضى، و هو أن العارف لما تخلى من شهواته و إرادته و تجلى محبة الحق على عقله و روحه و مسامعه‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 394

و مشاعره و فوض جميع أموره إليه و سلم و رضي بكل ما قضى ربه عليه يصير الرب سبحانه متصرفا في عقله و قلبه و قواه، و يدبر أموره على ما يحبه و يرضاه، فيريد الأشياء بمشية مولاه كما قال سبحانه مخاطبا لهم:" وَ ما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ" كما ورد في تأويل هذه الآية في غوامض الأخبار عن معادن الحكم و الأسرار و الأئمة الأخيار.

و روي عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم: قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء.

و كذلك يتصرف ربه الأعلى منه في سائر الجوارح و القوي، كما قال سبحانه مخاطبا لنبيه المصطفى:" وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اللَّهَ رَمى‏" و قال تعالى:

" إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ" فلذلك صارت طاعتهم طاعة الله و معصيتهم معصية الله، فاتضح بذلك معنى قوله تعالى: كنت سمعه و بصره و أنه به يسمع و يبصر فكذا سائر المشاعر تدرك بنوره و تنويره، و سائر الجوارح تتحرك بتيسيره و تدبيره، كما قال تعالى:" فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى‏".

و قريب منه ما ذكره الحكماء في اتصال النفس بالعقول المفارقة، و الأنوار المجردة على زعمهم حيث قالوا: قد تصير النفس لشدة اتصالها بالعقل الفعال بحيث يصير العقل بمنزلة الروح للنفس، و النفس بمنزلة البدن للعقل، فيلاحظ المعقولات في لوح العقل و يدبر العقل نفسه كتدبير النفس للبدن، و لذا يظهر منه الغرائب التي يعجز عنها سائر الناس كإحياء الموتى و شق القمر و أمثالهما.

قال صاحب الشجرة الإلهية: كما أن في النفس في حال التعلق بالبدن تتوهم أنها هي البدن أو أنها فيه و إن لم تكن هو و لا فيه، فكذلك النفس الكاملة إذا

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 395

فارقت البدن و قطعت تعلقها من شدة قوتها و نوريتها و علاقتها العشقية مع نور الأنوار و الأنوار العقلية، تتوهم أنها هي فتصير الأنوار مظاهرا لنفوس المفارقة كما كانت الأبدان أيضا، فهذا هو معنى الاتحاد لا بمعنى صيرورة الشيئين شيئا واحدا فإنه باطل، انتهى.

و ما ذكرنا أوفق بالكتاب و السنة و أنسب بالحق و مصطلحات أهله و لا يتوقف على إثبات ما نفته الشريعة من العقول المفارقة القديمة و غيرها، و كثيرا ما يشتبه الحق بالباطل كما اشتبه على كثير من الأوائل.

قال المحقق الطوسي قدس الله روحه القدوسي: العارف إذا انقطع عن نفسه و اتصل بالحق رأى كل قدرة مستغرقة في قدرته المتعلقة بجميع المقدورات، و كل علم مستغرقا في علمه الذي لا يعزب عنه شي‏ء من الموجودات، و كل إرادة مستغرقة في إرادته التي لا يتأبى عنها شي‏ء من الممكنات، بل كل وجود و كل كمال وجود فهو صادر عنه فائض من لدنه.

فصار الحق حينئذ بصره الذي يبصر به، و سمعه الذي به يسمع، و قدرته التي بها يفعل، و علمه الذي به يعلم، وجوده الذي به يجود، فصار العارف حينئذ متخلقا بأخلاق الله في الحقيقة.

و قال بعض المحققين في شرح هذا الخبر أيضا: معنى محبة الله كشفه الحجاب عن قلبه و تمكينه إياه من قربه، و معنى المحبة من العبد ميل نفسه إلى الشي‏ء لكمال إدراكه فيه بحيث يحملها على ما يقربها إليه، فإذا علم العبد أن الكمال الحقيقي ليس إلا لله، و أن كل ما يراه كمالا من نفسه أو من غيره فهو من الله و بالله و إلى الله لم يكن حبه إلا لله و في الله، و ذلك يقتضي إرادة طاعته و الرغبة فيما يقربه إليه و اتباعه من كان وسيلة له إلى معرفته و محبته، قال الله تعالى لرسوله:" قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ" فإن بمتابعة الرسول في عبادته‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 396

و سيرته و أخلاقه و أحواله و نوافله، يحصل القرب إلى الله، و بالقرب يحصل محبة الله إياه.

و قال بعض العارفين بزعمه: إذا تجلى الله سبحانه بذاته لأحد يرى كل الذوات و الصفات و الأفعال متلاشية في أشعة ذاته و صفاته و أفعاله، و يجد نفسه مع جميع المخلوقات كأنها مدبرة لها و هي أعضاؤها و لا يلم بواحد منها شي‏ء إلا و يراه ملما به، و يرى ذاته الذات الواحدة، و صفته صفتها، و فعله فعلها لاستهلاكه بالكلية في عين التوحيد، و ليس للإنسان وراء هذه الرتبة مقام في التوحيد.

و لما انجذب بصيرة الروح إلى مشاهدة جمال الذات استتر نور العقل الفارق بين الأشياء في غلبة نور الذات القديمة، و ارتفع التميز بين القدم و الحدوث لزهوق الباطل عند مجي‏ء الحق.

و قيل: إلى هذا المعنى يشير ما ورد في الحديث النبوي: علي ممسوس في ذات الله، و لعل هذا هو السر في صدور بعض الكلمات الغريبة من مولانا أمير المؤمنين عليه السلام في خطبة البيان و أمثالها، انتهى.

و أقول: الاكتفاء بما أسلفنا و أومأنا و ترك الخوض في تلك المسالك الخطيرة أولى و أحوط و أحرى و الله الموفق للهدي.

فائدة

قال في المصباح المنير: الأعضاء ثلاثة أقسام: الأول يذكر و لا يؤنث، و الثاني يؤنث و لا يذكر، و الثالث جواز الأمرين، فعد من الأول الروح على الأشهر و الوجه و الرأس و الحلق و الشعر و قصاصه، و الفم و الحاجب و الصدغ و الصدر و اليافوخ و اللحى و الذهن و البطن و القلب و الطحال و الخصر و الحشا و الظهر و المرفق و الزند و الظفر و الثدي و العصعص، و كل اسم للفرج من الذكر و الأنثى، و الكوع و الكرسوع و شفر العين و الجفن و الهدب، و الحجارة و المأق و النخاع و المصير و الناب و الضرس‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 397

و الناجذ و الضاحك و العارض و اللسان و ربما أنث.

وعد من الثاني العين، و أول ما وقع فيه التذكير في الاستعمالات بوجوه، و الأذن و الكبد و الإصبع و العقب و الساق و الفخذ و اليد و الرجل و القدم و الكف و الضلع و الذراع و السن.

و كذلك السن من الكبر و الورك و الأنملة و اليمين و الشمال و الكرش.

و عد من الثالث العنق و العاتق و المعي و التذكير أكثر، و الإبط و العضد و العجز و النفس إن أريد بها الروح، و إن أريد بها الإنسان نفسه فمذكر.

و طباع الإنسان التأنيث فيه أكثر، و رحم المرأة مذكر، و حكي فيه التأنيث و رحم القرابة أنثى و قد يذكر، و الذراع أنثى و قد تذكر.

 (الحديث التاسع)

 (1): حسن كالصحيح.

" لقلة ذات يده"

 (2) أي ما في يده من المال كناية عن فقره‏

" شهره الله"

 (3) على بناء المجرد أو التفعيل، أي جعل له علامة سوء يعرفه جميع الخلائق بها أنه من أهل العقوبة فيفتضح بذلك في المحشر، و يذل كما أذل المؤمن في الدنيا، في القاموس:

استذله‏

 (4) رآه ذليلا، و قال: الشهرة بالضم ظهور الشي‏ء في شنعة، شهره كمنعه و شهره و اشتهره فاشتهر

" على رؤوس الخلائق"

 (5) أي على وجه يطلع عليه جميع الخلائق كأنه فوق رؤوسهم.

 (الحديث العاشر)

 (6): صحيح.

" من وراء الحجاب"

 (7) كان المراد بالحجاب الحجاب المعنوي، و هو إمكان‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 398

العبد المانع لأن يصل العبد إلى حقيقة الربوبية، أو كان خلق الصوت أولا من وراء حجاب ثم ظهر الصوت في الجانب الذي هو صلى الله عليه فيه، و هو المراد بالمشافهة.

و في بعض النسخ:

فشافهني‏

 (1)، فيمكن أن يكون الفاء للتفسير و للترتيب المعنوي فكلاهما كان بالمشافهة، و المراد بها عدم توسط الملك، و قيل: المراد بالحجاب الملك و بالمشافهة ما كان بدون توسط الملك، و في القاموس: شافهه أدنى شفته من شفته، و في الصحاح: المشافهة المخاطبة من فيك إلى فيه.

قوله: إلى أن قال،

 (2) في بعض النسخ: فشافهني أن قال، فكلمة" أن" مصدرية و التقدير بأن قال‏

" فقد علمت"

 (3) الفاء للبيان من أخذت كان المراد به الأخذ مع القبول.

 (الحديث الحادي عشر)

 (4): مختلف فيه.

" فأصرفه عنه"

 (5) أي فاصرف الموت عنه بتأخير أجله، و قيل: أصرف كراهة الموت عنه بإظهار اللطف و الكرامة و البشارة بالجنة

فاستجيب له بما هو خير له‏

 (6) أي بفعل ما خير له من الذي طلبه، و إنما سماه استجابة لأنه يطلب الأمر لزعمه أنه خير له، فهو في الحقيقة يطلب الخير و يخطأ في تعيينه، و في الآخرة يعلم أن ما أعطاه خير له مما طلبه، كما إذا طلب الصبي المريض ما هو سبب لهلاكه فيمنعه‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 399

والده و يعطيه دنانير فإذا كبر و عقل علم أن ما أعطاه خير مما منعه، فكأنه استجاب له على أحسن الوجوه.

و يحتمل أن يكون المعنى: استجيب له بما أعلم أنه خير له، إما بإعطاء المسؤول أو بدله في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما.

باب من طلب عثرات المؤمنين و عوراتهم‏

 (1)

 (الحديث الأول)

 (2): ضعيف على المشهور.

" و أقرب"

 (3) مبتدأ

" و ما"

 (4) مصدرية و يكون من الأفعال التامة و إلى متعلق بأقرب، و أن في‏

قوله: أن يؤاخي‏

 (5) مصدرية، و هو في موضع ظرف الزمان مثل رأيته مجي‏ء الحاج، و هو خبر المبتدأ، و

العثرة

 (6) الكبوة في المشي أستعير للذنب مطلقا أو الخطإ منه، و قريب منه‏

الزلة

 (7)، و يمكن تخصيص إحداهما بالذنوب و الأخرى بمخالفة العادات و الآداب، و

التعنيف‏

 (8) التعيير و اللوم، و هذا من أعظم الخيانة في الصداقة و الأخوة.

و لذا قال بعض العارفين: لا بد من أن تأخذ صديقا معتمدا موافقا مأمونا شره و لا يحصل ذلك إلا بعد اعتبارك إياه قبل الصداقة آونة من الزمان في جميع أقواله و أفعاله مع بني نوعه، و مع ذلك لا بد بعد الصداقة من أن تخفى كثيرا من أحوالك و أسرارك منه، فإنه ليس بمعصوم فلعل بعد المفارقة منك لأمر قليل يوجب زوال‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 400

الصداقة يعنفك بأمر تكرهه.

و المراد بإحصاء العثرات و الزلات حفظها و ضبطها في الخاطر أو الدفاتر ليعيره بها يوما من الأيام، و يفهم منه أن كمال قربه من الكفر بمجرد الإحصاء بهذا القصد و إن لم يقع منه، و قيل: وجه قربه من الكفر أن ذلك منه باعتبار عدم استقرار إيمانه في قلبه، أو المراد بالكفر كفر نعمة الأخوة، فهو مع هذا القصد قريب من الكفر بوقوع التعنيف، بل ينبغي للأخ في الله إذا عرف من أخيه عثرة أن ينظر أولا إلى عثرات نفسه و يطهر نفسه عنها، ثم ينصح أخاه بالرفق و اللطف و الشفقة ليترك تلك العثرات، و تكمل الأخوة و الصداقة.

و يمكن أن يكون المراد بتلك العثرات ما ينافي حسن الصحبة و العشرة، و أما ما ينافي الدين من الذنوب فلا يعنفه على رؤوس الخلائق، و لكن يجب عليه من باب النهي عن المنكر زجره عنها على الشروط و التفاصيل التي سنذكرها في محلها إن شاء الله تعالى.

 (الحديث الثاني)

 (1): موثق و سنده الثاني ضعيف.

و

المعشر

 (2) الجماعة من الناس و الجمع معاشر و الإضافة من قبيل إضافة متعدد إلى جنسها، و خلص إليه الشي‏ء كنصر وصل، و فيه دلالة على أن من أصر على المعاصي فهو كالمنافقين الذين قال الله تعالى فيهم:" قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَ لَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ" إذ لو دخل الإيمان قلبه و استقر فيه ظهرت آثاره في جوارحه و إن أمكن أن يكون الخطاب للمنافقين الذين كانوا

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 401

بين المسلمين و كانوا يؤذونهم و يتتبعون عثراتهم، و

قوله: و لا تتبعوا

 (1) من باب التفعل بحذف إحدى التائين، في المصباح تتبعت أحواله و المراد بتتبع الله سبحانه عورته منع لطفه و كشف ستره، و منع الملائكة عن ستر ذنوبه و عيوبه فهو يفتضح في السماء و الأرض، و لو أخفاها و فعلها في جوف بيته و اهتم بإخفائها، أو المعنى و لو كانت فضيحته عند أهل بيته و الأول أظهر.

و روى الشيخ المفيد (ره) في الاختصاص بإسناده عن الصادق عليه السلام أن لله تبارك و تعالى على عبده أربعين جنة فمن أذنب ذنبا كبيرا رفع عنه جنة فإذا عاب أخاه المؤمن بشي‏ء يعلمه منه انكشفت تلك الجنن عنه، و يبقى مهتوك الستر فيفتضح في السماء على ألسنة الملائكة، و في الأرض على ألسنة الناس، و لا يرتكب ذنبا إلا ذكروه، و تقول الملائكة الموكلون به: يا ربنا بقي عبدك مهتوك الستر و قد أمرتنا بحفظه؟ فيقول عز و جل: ملائكتي لو أردت بهذا العبد خيرا ما فضحته فارفعوا أجنحتكم عنه، فو عزتي لا يألو بعدها إلى خيرا أبدا.

 (الحديث الثالث)

 (2): موثق كالصحيح لإجماع العصابة على ابن بكير، و ذكر الرجل أولا من قبيل وضع الظاهر موضع المضمر.

 (الحديث الرابع)

 (3): صحيح.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 402

و قد مر مثله، و في أكثر النسخ فيه و فيما مر و سيأتي يتبع فهو كيعلم أو على بناء الافتعال استعمل في التتبع مجازا أو على التفعيل و كأنه من النساخ و في أكثر نسخ الحديث على التفعل، في القاموس‏

تبعه‏

 (1) كفرح مشى خلفه و مر به فمضى معه، و أتبعتهم تبعتهم، و ذلك إذا كانوا سبقوك فلحقتهم، و التتبيع التتبع و الاتباع كالتبع و التباع بالكسر الولاء، و تتبعه تطلبه، و في الصحاح: تبعت القوم تبعا و تباعة بالفتح إذا مشيت خلفهم أو مروا بك فمضيت معهم، و كذلك اتبعتهم و هو افتعلت و أتبعت القوم على أفعلت إذا كانوا قد سبقوك فلحقتهم، و أتبعت أيضا غيري يقال: أتبعته الشي‏ء فتبعه.

قال الأخفش: تبعته و أتبعته أيضا بمعنى مثل ردفته و أردفته، و منه قوله تعالى" فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ" و تابعته على كذا متابعة و التباع الولاء و تتبعت الشي‏ء تتبعا أي تطلبته متبعا له و كذلك تبعته تتبيعا.

 (الحديث الخامس)

 (2): حسن كالصحيح.

 (الحديث السادس)

 (3): موثق كالصحيح، و قد مر سندا و متنا بأدنى تغيير في المتن‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 403

و مثله من المصنف غريب.

 (الحديث السابع)

 (1): كالسابق.

و يقال‏

عيرته‏

 (2) كذا و بكذا إذا قبحته عليه و نسبته إليه يتعدى بنفسه و بالباء و كان المراد الأبعدية بالنسبة إلى ما لا يؤدى إلى الكفر، فلا ينافي قوله عليه السلام أقرب ما يكون العبد إلى الكفر.

باب التعيير

 (3)

 (الحديث الأول)

 (4): مرسل كالحسن.

و قال الجوهري:

أنبه‏

 (5) تأنيبا عنفه و لامه، و تأنيبه عز و جل إما على الحقيقة ففي الآخرة ظاهر و في الدنيا و إن لم يسمع لكن يفتضح عند الملإ الأعلى، و يعلمه بأخبار المخبر الصادق و أمثال ذلك من نداء الله تعالى مع عدم سماعه كثيرة، و الكل محمول على ذلك، و إما المراد به إفشاء عيوبه و ابتلاؤه بمثله في الدنيا و عقابه على التأنيب في الآخرة على المشاكلة أو تسمية المسبب باسم السبب.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 404

 (الحديث الثاني)

 (1): حسن موثق كالصحيح.

و

الفاحشة

 (2) كل ما نهى الله عز و جل عنه، و ربما يخص بما يشتد قبحه من الذنوب‏

" كان كمبتدئها"

 (3) أي فاعلها و إنما عبر عنه بالمبتدء لأن المذيع كالفاعل فهو بالنسبة إليه مبتدأ و يحتمل أن يكون المراد بالفاحشة البدعة القبيحة و المعنى من عمل بها و أفشاها بين الناس كان عليه كوزر من ابتدعها أولا، و هذا بالنظر إلى الابتداء أظهر كالأول بالنسبة إلى الإذاعة، في القاموس: بدأ به كمنع ابتداء و الشي‏ء فعله ابتداء كأبدأه و ابتدأه.

و قد يقال: هذا الوعيد إنما هو في ذوي الهيئات الحسنة و فيمن لم يعرف باذية و لا فساد في الأرض، و أما المولعين بذلك الذين ستروا غير مرة فلم يكفوا فلا يبعد القول بكشفهم لأن الستر عليهم من المعاونة على المعاصي و ستر من يندب إلى سترة إنما هو في معصية مضت، و أما معصية هو متلبس بها فلا يبعد القول بوجوب المبادرة إلى إنكارها و المنع منها لمن قدر عليه، فإن لم يقدر رفع إلى والي الأمر ما لم يؤد إلى مفسدة أشد، و أما جرح الشاهد و الراوي و الأمناء على الأوقاف و الصدقات و أموال الأيتام فيجب الجرح عند الحاجة إليه لأنه تترتب عليه أحكام شرعية، و لو رفع إلى الإمام ما يندب الستر فيه لم يأثم إذا كانت نيته رفع معصية الله تعالى لا كشف ستره.

و جرح الشاهد إنما هو عند طلب ذلك منه أو يرى حاكما يحكم بشهادته و قد علم منه ما يبطلها، فلا يبعد القول بحسن رفعه و سيأتي تمام القول في الباب الآتي إن شاء الله تعالى.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 405

 (الحديث الثالث)

 (1): صحيح.

و في القاموس:

ركب‏

 (2) الذنب اقترفه كارتكبه، و يدل على أنه لا ينبغي تعيير مؤمن بشي‏ء و إن كان معصية سيما على رؤوس الخلائق، و لا ينافي وجوب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، لأن المطلوب منهما النصح لا التأنيب إلا إذا علم أنه لا تنفعه فيلزم التشدد عليه على الترتيب الذي سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى.

 (الحديث الرابع)

 (3): مجهول‏

بحسين بن عمرو

 (4) و في أكثر نسخ الرجال ابن سلمان و في بعضها ابن سليمان.

" بما يؤنبه"

 (5) كان كلمة" ما" مصدرية فالمستتر في يؤنبه راجع إلى" من" و يحتمل أن تكون موصولة فيحتمل إرجاع المستتر إلى" من" أيضا بتقدير العائد أي بما يؤنبه به، أو إلى" ما" ففي الإسناد تجوز.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 406

باب الغيبة و البهت‏

 (1)

 (الحديث الأول)

 (2): ضعيف على المشهور.

و الأكلة

 (3) كفرحة داء في العضو يأتكل منه كما في القاموس و غيره، و قد يقرأ بمد الهمزة على وزن فاعلة أي العلة التي تأكل اللحم و الأول أوفق باللغة، و

قوله أسرع في دين الرجل،

 (4) أي في ضرره و إفنائه.

و قيل: الأكلة بالضم اللقمة و كفرحة داء في العضو يأتكل منه، و كلاهما محتملان إلا أن ذكر الجوف يؤيد الأول و إرادة الإفناء و الإذهاب يؤيد الثاني، و الأول أقرب و أصوب و لتشبيه الغيبة بأكل اللقمة أنسب لأن الله سبحانه شبهها بأكل اللحم، انتهى.

و كان الثاني أظهر و التخصيص بالجوف لأنه أضر و أسرع في قتله، و في التأييد الذي ذكره نظر و المستتر في‏

قوله: ما لم يحدث‏

 (5)، راجع إلى الجالس المفهوم من الجلوس، و هو على بناء الأفعال و الاغتياب منصوب، و قال الجوهري:

اغتابه‏

 (6) اغتيابا إذا وقع فيه، و الاسم الغيبة، و هو أن يتكلم خلف إنسان مستور بما يغمه لو سمعه، فإن كان صدقا سمي غيبة، و إن كان كذبا سمي بهتانا.

أقول: هذا بحسب اللغة و أما بحسب عرف الشرع فهو ذكر الإنسان المعين‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 407

أو من هو بحكمه في غيبته بما يكره نسبته إليه و هو حاصل فيه، و يعد نقصا في العرف، بقصد الانتقاص و الذم قولا أو إشارة أو كناية، تعريضا أو تصريحا، فلا غيبة في غير معين كواحد مبهم غير محصور كأحد أهل البلد.

و قال الشيخ البهائي قدس سره: و بحكمه لإدراج المبهم من محصور كأحد قاضي البلد فاسق مثلا، فإن الظاهر أنه غيبة و لم أجد أحدا تعرض له انتهى.

و قولنا: في غيبته لإخراج ما إذا كان في حضوره لأنه ليس بغيبة و إن كان إثما لإيذائه إلا بقصد الوعظ و النصيحة، و التعريض حينئذ أولى إن نفع.

و قولنا: بما يكره لإخراج غيبة من لا يكره نسبة الفسق و نحوه إليه، بل ربما يفرح بذلك و يعده كمالا.

و قولنا: و هو حاصل فيه لإخراج التهمة و إن كانت أشد.

و قولنا: و يعد نقصا لإخراج العيوب الشائعة التي لا تعد في العرف نقصا، و في الفسوق الشائعة التي لا يعدها أكثر الناس نقصا مع كونها مخفية و عدم مبالاته بذكرها و عدم عد أكثر الناس نقصا لشيوعها، ففيه إشكال و الأحوط ترك ذكرها و إن كان ظاهر الأصحاب جوازه.

و قولنا: بقصد الانتقاص لخروج ما إذا كان للطبيب لقصد العلاج، و للسلطان للترحم أو للنهي عن المنكر.

و قال الشهيد الثاني رفع الله درجته: و أما في الاصطلاح فلها تعريفان أحدهما مشهور و هو ذكر الإنسان حال غيبته بما يكره نسبته إليه مما يعد نقصانا في العرف بقصد الانتقاص و الذم، و احترز بالقيد الأخير و هو قصد الانتقاص عن ذكر العيب للطبيب مثلا أو لاستدعاء الرحمة من السلطان في حق الزمن و الأعمى بذكر نقصانهما

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 408

و يمكن الغناء عنه بقيد كراهة نسبته إليه، و الثاني التنبيه على ما يكره نسبته إليه إلى آخره، و هو أعم من الأول لشمول مورده اللسان و الإشارة و الحكاية و غيرها، و هو أولى لما سيأتي من عدم قصر الغيبة على اللسان و قد جاء على المشهور قول النبي صلى الله عليه و آله و سلم: هل تدرون ما الغيبة؟ فقالوا: الله و رسوله أعلم، قال: ذكرك أخاك بما يكره، قيل: أ رأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته و إن لم يكن فيه فقد بهته.

و تحريم الغيبة في الجملة إجماعي بل هو كبيرة موبقة للتصريح بالتوعد عليها بالخصوص في الكتاب و السنة، و قد نص الله على ذمها في كتابه و شبه صاحبها بأكل لحم الميتة فقال:" وَ لا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ".

و عن جابر و أبي سعيد الخدري قالا: قال النبي صلى الله عليه و آله و سلم: إياكم و الغيبة فإن الغيبة أشد من الزنا، إن الرجل قد يزني و يتوب فيتوب الله عليه، و أن الغيبة لا يغفر له حتى يغفر له صاحبه.

و عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: مررت ليلة أسري بي على قوم يخمشون وجوههم بأظافيرهم، فقلت: يا جبرئيل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين يغتابون الناس و يقعون في أعراضهم.

و عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: فذكر الربا و عظم شأنه، فقال: إن الدرهم يصيبه الرجل من الربا أعظم عند الله في الخطيئة من ست و ثلاثين زنية يزنيها الرجل، و إن أربى الربا عرض الرجل المسلم.

و أوحى الله عز و جل إلى موسى بن عمران عليه السلام أن المغتاب إذا تاب فهو

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 409

آخر من يدخل الجنة، و إن لم يتب فهو أول من يدخل النار.

و روي أن عيسى عليه السلام مر و الحواريون على جيفة كلب، فقال الحواريون:

ما أنتن ريح هذا؟ فقال عيسى عليه السلام: ما أشد بياض أسنانه، كأنه ينهاهم عليه السلام عن غيبة الكلب و ينبههم على أنه لا يذكر من خلق الله إلا أحسنه.

و قيل في تفسير قوله تعالى:" وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ" الهمزة الطعان في الناس و اللمزة الذي يأكل لحوم الناس.

و قال بعضهم: أدركنا السلف لا يرون العبادة في الصوم و لا في الصلاة، و لكن في الكف عن أعراض الناس.

و اعلم أن السبب الموجب للتشديد في أمر الغيبة و جعلها أعظم من كثير من المعاصي الكثيرة هو اشتمالها على المفاسد الكلية المنافية لغرض الحكيم سبحانه، بخلاف باقي المعاصي، فإنها مستلزمة لمفاسد جزئية، بيان ذلك أن المقاصد المهمة للشارع اجتماع النفوس على هم واحد و طريقة واحدة، و هي سلوك سبيل الله بسائر وجوه الأوامر و النواهي، و لا يتم ذلك إلا بالتعاون و التعاضد بين أبناء النوع الإنساني و ذلك يتوقف على اجتماع هممهم و تصافي بواطنهم و اجتماعهم على الألفة و المحبة حتى يكونوا بمنزلة عبد واحد في طاعة مولاه، و لن يتم ذلك إلا بنفي الضغائن و الأحقاد و الحسد و نحوه، و كانت الغيبة من كل منهم لأخيه مثيرة لضغنه و مستدعية منه لمثلها في حقه لا جرم، و كانت ضد المقصود الكلي للشارع، و كانت مفسدة كلية و لذلك أكثر الله و رسوله النهي عنها و الوعيد عليها و بالله التوفيق.

ثم قال قدس سره في ذكر أقسامها: لما عرفت أن المراد منها ذكر أخيك بما يكرهه منه لو بلغه، أو الإعلام به أو التنبيه عليه كان ذلك شاملا لما يتعلق بنقصان في بدنه أو نسبه أو خلقه أو فعله أو قوله أو دينه أو دنياه، حتى في ثوبه و داره.

                                                مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 410

و قد أشار الصادق عليه السلام إلى ذلك أي في مصباح الشريعة بقوله: وجوه الغيبة تقع بذكر عيب في الخلق و الفعل و المعاملة و المذهب و الجهل و أشباهه، فالبدن كذكرك فيه العمش و الحول و العور و القرع و القصر و الطول و السواد و الصفرة، و جميع ما يتصور أن يوصف به مما يكرهه.

و أما النسب بأن تقول: أبوه فاسق أو خبيث أو خسيس أو إسكاف أو حائك أو نحو ذلك مما يكرهه كيف كان.

و أما الخلق بأن يقول: إنه سيئ الخلق، بخيل متكبر مرائي شديد الغضب، جبان ضعيف القلب و نحو ذلك.

و أما في أفعاله المتعلقة بالدين كقولك: سارق كذاب شارب خائن ظالم متهاون بالصلاة لا يحسن الركوع و السجود، و لا يحترز من النجاسات، ليس بارا بوالديه و لا يحرس نفسه من الغيبة و التعرض لإعراض الناس.

و أما فعله المتعلق بالدنيا كقولك: قليل الأدب متهاون بالناس، لا يرى لأحد عليه حقا، كثير الكلام كثير الأكل نؤوم يجلس في غير موضعه و نحو ذلك.

و أما في ثوبه كقولك: إنه واسع الكم طويل الذيل وسخ الثياب و نحو ذلك.

و اعلم أن ذلك لا يقصر على اللسان بل التلفظ به إنما حرم لأن فيه تفهيم الغير نقصان أخيك و تعريفه بما يكرهه، فالتعريض كالتصريح، و الفعل فيه كالقول و الإشارة و الإيماء و الغمز و الرمز و الكنية و الحركة، و كل ما يفهم المقصود داخل في الغيبة مساو للسان في المعنى الذي حرم التلفظ به لأجله.

و من ذلك ما روي عن عائشة أنها قالت: دخلت علينا امرأة فلما ولت أومأت‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 411

بيدي، أي قصيرة فقال صلى الله عليه و آله و سلم: اغتبتها.

و من ذلك المحاكاة بأن تمشي متعارجا أو كما يمشي فهو غيبة بل أشد من الغيبة لأنه أعظم في التصوير و التفهيم.

و كذلك الغيبة بالكتاب فإن الكتاب كما قيل أحد اللسانين، و من ذلك ذكر المصنف شخصا معينا و تهجين كلامه في الكتاب إلا أن يقترن به شي‏ء من الأعذار المحوجة إلى ذكره كمسائل الاجتهاد التي لا يتم الغرض من الفتوى و إقامة الدلائل على المطلوب إلا بتزييف كلام الغير و نحو ذلك، و يجب الاقتصار على ما تندفع به الحاجة في ذلك، و ليس منه قوله: قال قوم كذا ما لم يصرح بشخص معين، و منها أن يقول الإنسان: بعض من مر بنا اليوم أو بعض من رأيناه حاله كذا إذا كان المخاطب يفهم منه شخصا معينا لأن المحذور تفهيمه دون ما به التفهيم، فأما إذا لم يفهمه عينه جاز، كان رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم إذا كره من إنسان شيئا قال: ما بال أقوام يفعلون كذا و كذا؟ و لا يعين.

و من أخبث أنواع الغيبة غيبة المتسمين بالفهم و العلم المرائين، فإنهم يفهمون المقصود على صفة أهل الصلاح و التقوى ليظهروا من أنفسهم التعفف عن الغيبة، و يفهمون المقصود، و لا يدرون بجهلهم أنهم جمعوا بين فاحشتين الرياء و الغيبة، و ذلك مثل أن يذكر عنده إنسان فيقول: الحمد لله الذي لم يبتلنا بحب الرئاسة أو بحب الدنيا أو بالتكيف بالكيفية الفلانية، أو يقول: نعوذ بالله من قلة الحياء أو من سوء التوفيق أو نسأل الله أن يعصمنا من كذا، بل مجرد الحمد على شي‏ء إذا علم منه اتصاف المحدث عنه بما ينافيه و نحو ذلك، فإنه يغتابه بلفظ الدعاء و سمت أهل الصلاح و إنما قصده أن يذكر عيبه بضرب من الكلام المشتمل على الغيبة و الرياء، و دعوى الخلاص من الرذائل و هو عنوان الوقوع فيها بل في أفحشها.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 412

و من ذلك أنه قد يقدم مدح من يريد غيبته فيقول: ما أحسن أحوال فلان ما كان يقصر في العبادات، و لكن قد اعتراه فتور و ابتلي بما نبتلي به كلنا، و هو قلة الصبر فيذكر نفسه بالذم و مقصوده أن يذم غيره و أن يمدح نفسه بالتشبه بالصالحين في ذم أنفسهم، فيكون مغتابا مرائيا مزكيا نفسه، فيجمع بين ثلاث فواحش و هو يظن بجهله أنه من الصالحين المتعففين عن الغيبة، هكذا يلعب الشيطان بأهل الجهل إذا اشتغلوا بالعلم أو العمل من غير أن تيقنوا الطريق فيتبعهم و يحبط بمكايدة عملهم، و يضحك عليهم. و من ذلك أن يذكر ذاكر عيب إنسان فلا يتنبه له بعض الحاضرين فيقول: سبحان الله ما أعجب هذا حتى يصغي الغافل إلى المغتاب و يعلم ما يقوله، فيذكر الله سبحانه و يستعمل اسمه آلة له في تحقيق خبثه و باطله، و هو يمن على الله بذكره جهلا منه و غرورا.

و من ذلك أن يقول جرى من فلان كذا و ابتلي بكذا، بل يقول: جرى لصاحبنا أو صديقنا كذا، تاب الله علينا و عليه، يظهر الدعاء و التألم و الصداقة و الصحبة و الله مطلع على خبث سريرته و فساد ضميره و هو بجهله لا يدري أنه قد تعرض لمقت أعظم مما يتعرض له الجهال إذا جاهروا بالغيبة.

و من أقسامها الخفية الإصغاء إلى الغيبة على سبيل التعجب فإنه إنما يظهر التعجب ليزيد نشاط المغتاب في الغيبة فيزيد فيها فكأنه يستخرج منه الغيبة بهذا الطريق فيقول: عجبت مما ذكرته ما كنت أعلم بذلك إلى الآن ما كنت أعرف من فلان ذلك؟ يريد بذلك تصديق المغتاب و استدعاء الزيادة منه باللطف، و التصديق للغيبة غيبة، بل الإصغاء إليها بل السكوت عند سماعها، قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم:

المستمع أحد المغتابين، و قال علي عليه السلام: السامع للغيبة أحد المغتابين، و مراده عليه السلام‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 413

السامع على قصد الرضا و الإيثار لا على وجه الاتفاق أو مع القدرة على الإنكار و لم يفعل.

و وجه كون المستمع و السامع على ذلك الوجه مغتابين مشاركتهما للمغتاب في الرضا و تكيف ذهنهما بالتصورات المذمومة التي لا ينبغي و إن اختلفا في أن أحدهما قائل و الآخر قابل، لكن كل واحد منهما صاحب آلة أما أحدهما فذو لسان يعبر عن نفس قد تنجست بتصور الكذب و الحرام، و العزم عليه، و أما الآخر فذو سمع تقبل عنه النفس تلك الآثار عن إيثار و سوء اختيار، فتألفها و تعتادها فتمكن من جوهرها سموم عقارب الباطل و من ذلك قيل: السامع شريك القائل.

و قد تقدم في الخبر ما يدل عليه، فالمستمع لا يخرج من إثم الغيبة إلا بأن ينكر بلسانه، فإن خاف فبقلبه، و إن قدر على القيام أو قطع الكلام بكلام غيره فلم يفعله لزمه، و لو قال بلسانه: اسكت و هو يشتهي ذلك بقلبه، فذلك نفاق و فاحشة أخرى زائدة لا يخرجه عن الإثم ما لم يكرهه بقلبه.

و قد روي عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنه قال: من أذل عنده مؤمن و هو يقدر على أن ينصره فلم ينصره أذله الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق، و عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: من رد عن عرض أخيه بالغيب كان حقا على الله أن يرد عن عرضه يوم القيامة، و قال أيضا: من رد عن عرض أخيه بالغيب كان حقا على الله أن يعتقه من النار.

و روى الصدوق بإسناده إلى رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم أنه قال: من تطول على أخيه في غيبة سمعها عنه في مجلس فردها عنه رد الله عنه ألف باب من الشر في الدنيا و الآخرة و إن هو لم يردها و هو قادر على ردها كان عليه كوزر من اغتابه سبعين مرة.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 414

و بإسناده إلى الباقر عليه السلام أنه قال: من اغتيب عنده أخوه المؤمن فنصره و أعانه نصره الله في الدنيا و الآخرة، و من لم ينصره و لم يدفع عنه و هو يقدر على نصرته و عونه خفضه الله في الدنيا و الآخرة.

ثم قال قدس سره في علاج الغيبة: اعلم أن مساوئ الأخلاق كلها إنما تعالج بمعجون العلم و العمل، و إنما علاج كل علة بمضاد سببها فلنبحث عن سبب الغيبة أولا ثم نذكر علاج كف اللسان عنها على وجه يناسب علاج تلك الأسباب فنقول:

جملة ما ذكروه من الأسباب الباعثة على الغيبة عشرة أشياء قد نبه الصادق عليه السلام عليها إجمالا يعني في مصباح الشريعة بقوله: أصل الغيبة تتنوع بعشرة أنواع شفاء غيظ، و مساعدة قوم، و تصديق خبر بلا كشفه، و تهمة، و سوء ظن، و حسد، و سخرية، و تعجب و تبرم و تزين، و نحن نشير إليها مفصلة:

الأول: تشفي الغيظ، و ذلك إذا جرى سبب غيظ غضب عليه، فإذا هاج غضبه تشفي بذكر مساويه و سبق اللسان إليه بالطبع إن لم يكن ثمة دين وازع و قد يمتنع من تشفي الغيظ عند الغضب فيحتقن الغضب في الباطن، و يصير حقدا ثابتا فيكون سببا دائما لذكر المساوي بالحقد و الغضب من البواعث العظيمة على الغيبة.

الثاني: موافقة الأقران و مجاملة الرفقاء و مساعدتهم على الكلام، فإنهم إذا كانوا يتفكهون بذكر الأعراض فيرى أنه لو أنكر أو قطع المجلس استثقلوه و نفروا عنه، فيساعدهم و يرى ذلك من حسن المعاشرة و يظن أنه مجاملة في الصحبة و قد يغضب رفقاؤه فيحتاج إلى أن يغضب لغضبهم إظهارا للمساهمة في السراء و الضراء فيخوض معهم في ذكر العيوب و المساوي.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 415

الثالث: أن يستشعر من إنسان أنه سيقصده و يطول لسانه فيه أو يقبح حاله عند محتشم أو يشهد عليه بشهادة فيبادر قبل ذلك و يطعن فيه ليسقط أثر شهادته و فعله، أو يبتدئ بذكر ما فيه صادقا ليكذب عليه بعده فيروج كذبه بالصدق الأول و يستشهد به و يقول: ما من عادتي الكذب فإني أخبرتكم بكذا و كذا من أحواله فكان كما قلت.

الرابع: أن ينسب إليه شي‏ء فيريد أن يتبرء منه فيذكر الذي فعله، و كان من حقه أن يتبرء نفسه و لا يذكر الذي فعله، و لا ينسب غيره إليه أو يذكر غيره بأنه كان مشاركا له في الفعل، ليمهد بذلك عذر نفسه في فعله.

الخامس: إرادة التصنع و المباهاة و هو أن يرفع نفسه بتنقيص غيره، فيقول فلان جاهل و فهمه ركيك، و كلامه ضعيف، و غرضه أن يثبت في ضمن ذلك فضل نفسه و يريهم أنه أفضل منه أو يحذر أن يعظم مثل تعظيمه فيقدح فيه لذلك.

السادس: الحسد و هو أنه يحسد من يثني الناس عليه و يحبونه و يكرمونه فيريد زوال تلك النعمة عنه، فلا يجد سبيلا إليه إلا بالقدح فيه، فيريد أن يسقط ماء وجهه عند الناس حتى يكفوا عن إكرامه و الثناء عليه، لأنه يثقل عليه أن يسمع ثناء الناس عليه، و إكرامهم له، و هذا هو الحسد، و هو عين الغضب و الحقد و الحسد قد يكون مع الصديق المحسن و القرين الموافق.

السابع: اللعب و الهزل و المطايبة و ترجية الوقت بالضحك، فيذكر غيره بما يضحك الناس على سبيل المحاكاة و التعجب.

الثامن: السخرية و الاستهزاء استحقارا له فإن ذلك قد يجري في الحضور فيجري أيضا في الغيبة و منشأه التكبر و استصغار المستهزئ به.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 416

التاسع: و هو مأخذ دقيق ربما يقع في الخواص و أهل الحذر من مزال اللسان، و هو أن يغتم بسبب ما يبتلي به أحد فيقول: يا مسكين فلان قد غمني أمره و ما ابتلي به و يذكر سبب الغم، فيكون صادقا في اغتمامه و يلهيه الغم من الحذر عن ذكر اسمه فيذكره بما يكرهه فيصير به مغتابا فيكون غمه و رحمته خيرا و لكنه ساقه إلى شر من حيث لا يدري و الترحم و التغمم ممكن من دون ذكر اسمه و نسبته إلى ما يكرهه، فيهيجه الشيطان على ذكر اسمه ليبطل به ثواب اغتمامه و ترحمه.

العاشر: الغضب لله فإنه قد يغضب على منكر قارفه إنسان فيظهر غضبه و يذكر اسمه على غير وجه النهي عن المنكر، و كان الواجب أن يظهر غضبه عليه على ذلك الوجه خاصة، و هذا مما يقع فيه الخواص أيضا فإنهم يظنون أن الغضب إذا كان لله تعالى كان غدرا كيف كان، و ليس كذلك.

أقول: وعد بعضهم الوجهين الأخيرين مما يختص بأهل الدين و الخاصة، و زاد وجها آخر، و هو أن ينبعث من الدين داعية التعجب من إنكار المنكر و الخطإ في الدين، فيقول: ما أعجب ما رأيت من فلان، فإنه قد يكون صادقا و يكون تعجبه من المنكر، و لكن كان حقه أن يتعجب و لا يذكر اسمه فسهل عليه الشيطان ذكر اسمه في ذكر تعجبه، فصار به مغتابا من حيث لا يدري و أثم، و من ذلك قول الرجل:

تعجبت من فلان كيف يحب جاريته و هي قبيحة؟ و كيف يجلس بين يدي فلان و هو جاهل.

ثم قال الشهيد (ره): إذا عرفت هذه الوجوه التي هي أسباب الغيبة فاعلم أن الطريق في علاج كف اللسان عن الغيبة يقع على وجهين: أحدهما على الجملة و الآخر على التفصيل.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 417

أما ما على الجملة فهو أن يعلم تعرضه لسخط الله تعالى بغيبته كما قد سمعته في الأخبار المتقدمة و أن يعلم أنه يحبط حسناته فإنها تنقل في القيامة حسناته إلى من اغتابه بدلا عما أخذ من عرضه، فإن لم تكن له حسنات نقل إليه من سيئاته و هو مع ذلك متعرض لمقت الله تعالى و مشبه عنده بأكل الميتة، و قد روي عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنه قال: ما النار في اليبس بأسرع من الغيبة في حسنات العبد، و ينفعه أيضا أن يتدبر في نفسه فإن وجد فيها عيبا اشتغل بعيب نفسه، و ذكر قوله صلى الله عليه و آله و سلم: طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس، و مهما وجد عيبا فينبغي أن يستحيي أن يترك نفسه و يذم غيره، بل ينبغي أن يعلم أن عجز غيره عن نفسه في التنزه عن ذلك العيب كعجزه إن كان ذلك عيبا يتعلق بفعله و اختياره، و إن كان أمرا خلقيا فالذم له ذم للخالق فإن من ذم صنعة فقد ذم الصانع، و إن لم يجد عيبا في نفسه فليشكر الله و لا يلوثن نفسه بأعظم العيوب، بل لو أنصف من نفسه لعلم أن ظنه بنفسه أنه بري‏ء من كل عيب جهل بنفسه، و هو من أعظم العيوب و ينفعه أن يعلم أن يعلم أن تألم غيره بغيبته كتألمه بغيبة غيره له، فإذا كان لا يرضى لنفسه أن يغتاب فينبغي أن لا يرضى لغيره ما لا يرضاه لنفسه.

و أما التفصيلية فهو أن ينظر إلى السبب الباعث له على الغيبة و يعالجه فإن علاج الغيبة بقطع سببها، و قد عرفت الأسباب الباعثة، أما الغضب فيعالجه بالتفكر فيما مضى من ذم الغضب و فيما تقدم من فضل كظم الغيظ و مثوباته، و أما الموافقة فبأن تعلم أن الله تعالى يغضب عليك، إذا طلبت سخطه في رضا المخلوقين، فكيف ترضى لنفسك أن توقر غيرك و تحقر مولاك، إلا أن يكون غضبك لله تعالى، و ذلك لا يوجب أن تذكر المغضوب عليه بسوء، بل ينبغي أن تغضب لله أيضا على رفقائك إذا ذكروه و بالسوء، فإنهم عصوا ربك بأفحش الذنوب و هو الغيبة.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 418

و أما تنزيه النفس بنسبة الجناية إلى الغير حيث يستغني عن ذكر الغير فتعالجه بأن تعرف بأن التعرض لمقت الخالق أشد من التعرض لمقت الخلق و أنت بالغيبة متعرض لسخط الله تعالى يقينا، و لا تدري أنك تتخلص من سخط الناس أم لا، فتخلص نفسك في الدنيا بالتوهم و تهلك في الآخرة، و تخسر حسناتك في الحقيقة، و يحصل ذم الله لك نقدا و تنتظر دفع ذم الخلق نسيئة.

و هذا غاية الجهل و الخذلان، و أما عذرك كقولك: إن أكلت الحرام ففلان يأكل، و نحو ذلك فهذا جهل لأنك تعتذر بالاقتداء بمن لا يجوز الاقتداء به، فإن من خالف أمر الله لا يقتدى به كائنا من كان، فما ذكرته غيبة و زيادة معصية أضفتها إلى ما اعتذرت عنه و سجلت، مع الجمع بين المعصيتين على جهلك و غباوتك.

و أما قصدك المباهاة و تزكية النفس فينبغي أن تعلم أنك بما ذكرته أبطلت فضلك عند الله تعالى و أنت من اعتقاد الناس فضلك على خطر، و ربما نقص اعتقادهم فيك إذا عرفوك بثلب الناس فتكون قد بعت ما عند الخالق يقينا بما عند المخلوق و هما و لو حصل لك من المخلوق اعتقاد الفضل لكانوا لا يغنون عنك من الله شيئا.

و أما الغيبة للحسد فهو جمع بين عذابين لأنك حسدته على نعمة الدنيا و كنت معذبا بالحسد، فما قنعت بذلك حتى أضفت إليه عذاب الآخرة فكنت خاسرا في الدنيا فجعلت نفسك خاسرا في الآخرة لتجمع بين النكالين، فقد قصدت محسودك فأصبت نفسك، و قد مر في باب الحسد ما فيه كفاية للمتدبر.

و أما الاستهزاء فمقصودك منه إخزاء غيرك عند الناس بإخزاء نفسك عند الله و الملائكة و النبيين، فلو تفكرت في حسرتك و حياتك و خجلتك و خزيك يوم تحمل‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 419

سيئات من استهزأت به، و تساق إلى النار لأدهشك ذلك عن إخزاء صاحبك، و لو عرفت حالك لكنت أولى أن يضحك منك فإنك سخرت به عند نفر قليل و عرضت نفسك لأن يأخذ بيدك في القيامة على ملإ من الناس و يسوقك تحت سيئاته كما يساق الحمار إلى النار مستهزئا بك و فرحا بخزيك و مسرورا بنصر الله إياه و تسلطه على الانتقام منك.

و أما الرحمة على إثمه فهو حسن و لكن حسدك إبليس و استنطقك بما ينقل من حسناتك إليه بما هو أكثر من رحمتك، فيكون جبرا لإثم المرحوم فيخرج عن كونه مرحوما و تنقلب أنت مستحقا لأن تكون مرحوما إذا حبط أجرك و نقصت من حسناتك.

و كذلك الغضب لله لا يوجب الغيبة و إنما حبب إليك الشيطان الغيبة ليحبط أجر غضبك و تصير متعرضا لغضب الله بالغيبة.

و بالجملة فعلاج جميع ذلك المعرفة و التحقيق لها بهذه الأمور التي هي من أبواب الإيمان، فمن قوي إيمانه بجميع ذلك انكف عن الغيبة لا محالة.

ثم ذكر رحمه الله الأعذار المرخصة في الغيبة فقال:

اعلم أن المرخص في ذكر مساءة الغير هو غرض صحيح في الشرع لا يمكن التوصل إليه إلا به فيدفع ذلك أثم الغيبة، و قد حصروها في عشرة:" الأول" الظلم فإن من ذكر قاضيا بالظلم و الخيانة و أخذ الرشوة كان مغتابا عاصيا، و أما المظلوم من جهة القاضي فله أن يتظلم إلى من يرجو منه إزالة ظلمه، و ينسب القاضي إلى الظلم إذ لا يمكنه استيفاء حقه إلا به، و قد قال صلى الله عليه و آله و سلم: لصاحب الحق مقال، و قال صلى الله عليه و آله و سلم: مطل الغني ظلم، و قال صلى الله عليه و آله و سلم: مطل الواجد يحل عرضه و عقوبته.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 420

الثاني: الاستعانة على تغيير المنكر و رد المعاصي إلى نهج الصلاح، و مرجع الأمر في هذا إلى القصد الصحيح، فإن لم يكن ذلك هو المقصود كان حراما.

الثالث: الاستفتاء كما تقول للمفتي: ظلمني أبي و أخي فكيف طريقي في الخلاص؟

و الأسلم في هذا التعريض بأن تقول: ما قولك في رجل ظلمه أبوه أو أخوه؟ و قد روي أن هندا قالت للنبي صلى الله عليه و آله و سلم: إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني أنا و ولدي أ فآخذ من غير علمه؟ فقال: خذي ما يكفيك و ولدك بالمعروف، فذكرت الشح لها و لولدها و لم يزجرها رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم إذ كان قصدها الاستفتاء.

و أقول: الأحوط حينئذ التعريض لكون الخبر عاميا مع أنه يحتمل أن يكون عدم المنع لفسق أبي سفيان و نفاقه.

ثم قال: الرابع: تحذير المسلم من الوقوع في الخطر و الشر، و نصح المستشير فإذا رأيت متفقها يتلبس بما ليس من أهله فلك أن تنبه الناس على نقصه و قصوره عما يؤهل نفسه له، و تنبيههم على الخطر اللاحق لهم بالانقياد إليه، و كذلك إذا رأيت رجلا يتردد إلى فاسق يخفى أمره و خفت عليه من الوقوع بسبب الصحبة فيما لا يوافق الشرع، فلك أن تنبهه على فسقه مهما كان الباعث لك الخوف على إفشاء البدعة و سراية الفسق، و ذلك موضع الغرور و الخديعة من الشيطان إذ قد يكون الباعث لك على ذلك هو الحسد له على تلك المنزلة فيلبس عليك الشيطان ذلك بإظهار الشفقة على الخلق، و كذلك إذا رأيت رجلا يشتري مملوكا و قد عرفت المملوك بعيوب مستنقصة فلك أن تذكرها للمشتري، فإن في سكوتك ضررا للمشتري و في ذكرك ضررا للعبد، لكن المشتري أولى بالمراعاة، و لتقتصر على العيب المنوط به ذلك الأمر فلا تذكر في عيب التزويج ما يخل بالشركة أو المضاربة أو السفر مثلا بل تذكر في كل أمر ما يتعلق بذلك الأمر و لا تتجاوزه قاصدا نصح المستشير لا

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 421

الوقيعة، و لو علم أنه يترك التزويج بمجرد قوله: لا يصلح لك، فهو الواجب، فإن علم أنه لا ينزجر إلا بالتصريح بعيبه فله أن يصرح به، قال النبي صلى الله عليه و آله و سلم: أ ترعوون عن ذكر الفاجر حتى يعرفه الناس اذكروه بما فيه يحذره الناس، و قال صلى الله عليه و آله و سلم لفاطمة بنت قيس حين شاورته في خطابها: أما معاوية فرجل صعلوك لا مال له، و أما أبو جهم فلا يضع العصا عن عاتقه.

الخامس: الجرح و التعديل للشاهد و الراوي، و من ثم وضع العلماء كتب الرجال و قسموهم إلى الثقات و المجروحين، و ذكروا أسباب الجرح غالبا، و يشترط إخلاص النصيحة في ذلك كما مر بأن يقصد في ذلك حفظ أموال المسلمين و ضبط السنة و حمايتها عن الكذب، و لا يكون حاملة العداوة و التعصب، و ليس له إلا ذكر ما يخل بالشهادة و الرواية منه، و لا يتعرض لغير ذلك مثل كونه ابن ملاعنة و شبهة إلا أن يكون متظاهرا بالمعصية كما سيأتي.

السادس: أن يكون المقول فيه مستحقا لذلك لتظاهره بسببه كالفاسق المتظاهر بفسقه بحيث لا يستنكف من أن يذكر بذلك الفعل الذي يرتكبه فيذكر بما هو فيه لا بغيره، قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: من ألقى جلباب الحياء عن وجهه فلا غيبة له، و ظاهر الخبر جواز غيبته و إن استنكف عن ذكر ذلك الذنب، و في جواز اغتياب مطلق الفاسق احتمال ناش من قوله صلى الله عليه و آله و سلم: لا غيبة لفاسق، و رد بمنع أصل الحديث أو بحمله على فاسق خاص، أو بحمله على النهي و إن كان بصورة الخبر، و هذا هو الأجود إلا أن يتعلق بذلك غرض ديني و مقصد صحيح يعود على المغتاب، بأن يرجو ارتداعه عن معصيته بذلك فيلحق بباب النهي عن المنكر.

السابع: أن يكون الإنسان معروفا باسم يعرب عن غيبته كالأعرج و الأعمش فلا إثم على من يقول ذلك كان يقول: روى أبو الزناد الأعرج، و سليمان الأعمش‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 422

و ما يجري مجراه، فقد نقل العلماء ذلك لضرورة التعريف و لأنه صار بحيث لا يكره صاحبه لو علمه بعد أن صار مشهورا به، و الحق أن ما ذكره العلماء المعتمدون من ذلك يجوز التعويل فيه على حكايتهم، و أما ما ذكره عن الإحياء فمشروط بعلم رضا المنسوب إليه لعموم النهي، و حينئذ يخرج عن كونه غيبة، و كيف كان فلو وجد عنه معدلا و أمكنه التعريف بعبارة أخرى فهو أولى، و لذلك يقال: للأعمى البصير عدولا عن اسم النقص.

الثامن: لو اطلع العدد الذين يثبت لهم الحد أو التعزير على فاحشة جاز ذكرها عند الحكام بصورة الشهادة في حضرة الفاعل أو غيبته، و لا يجوز التعرض لها في غير ذلك إلا أن يتجه فيه أحد الوجوه الأخرى.

التاسع: قيل إذا علم اثنان من رجل معصية شاهداها فأجرى أحدهما ذكرها في غيبة ذلك العاصي، جاز لأنه لا يؤثر عند السامع شيئا و إن كان الأولى تنزيه النفس و اللسان عن ذلك لغير غرض من الأغراض المذكورة خصوصا مع احتمال نسيان المقول له لذلك المعصية، أو خوف اشتهارها عنهما. العاشر: إذا سمع أحد مغتابا لآخر و هو لا يعلم استحقاق المقول عنه للغيبة و لا عدمه، قيل لا يجب نهي القائل لإمكان استحقاق المقول عنه فيحمل فعل القائل على الصحة ما لم يعلم فساده، لأن ردعه يستلزم انتهاك حرمته، و هو أحد المحرمين و الأولى التنبيه على ذلك إلى أن يتحقق المخرج منه لعموم الأدلة و ترك الاستفصال فيها و هو دليل إرادة العموم حذرا من الإغراء بالجهل، و لأن ذلك لو تم لتمشي فيمن يعلم عدم استحقاق المقول عنه بالنسبة إلى السامع، لاحتمال اطلاع القائل على ما يوجب تسويغ مقاله، و هو هدم قاعدة النهي عن الغيبة، و هذا الفرد يستثنى من جهة سماع الغيبة، و قد تقدم أنه إحدى الغيبتين.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 423

و بالجملة فالتحرز عنها من دون وجه راجح في فعلها فضلا عن الإباحة أولى لتتسم النفس بالأخلاق الفاضلة، و يؤيد إطلاق النهي فيما تقدم لقوله صلى الله عليه و آله و سلم:

أ تدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله و رسوله أعلم، قال: ذكرك أخاك بما يكره، و أما مع رجحانها كرد المبتدعة و زجر الفسقة و التنفير عنهم و التحذير من اتباعهم، فذلك يوصف بالوجوب مع إمكانه، فضلا عن غيره، و المعتمد في ذلك كله على المقاصد، فلا يغفل المتيقظ عن ملاحظة مقصده و إصلاحه، و الله الموفق، انتهى ملخص كلامه نور الله ضريحه.

و قال ولده السعيد السديد الفاضل المحقق المدقق الشيخ حسن نور الله ضريحه في أجوبة المسائل التي سأله عنها بعض السادة الكرام حيث قال: قد نظرت في مسائلك أيها المولى الجليل الفاضل، و السيد السعيد الماجد، و أجبت التماسك لتحرير أجوبتها على حسب ما اتسع له المجال و أرجو إنشاء الله أن يكون مطابقا لمقتضى الحال، و ذكرت أيدك الله بعنايته و وفقنا الله و إياك لطاعته أن تحريم الغيبة و نحوها من النميمة و سوء الظن هل يختص بالمؤمن أو يعم كل مسلم؟ و أشرت إلى الاختلاف الذي يوهمه ظاهر كلام الوالد قدس سره حيث قال في ديباجة رسالته:

و نظرائهم من المسلمين، فإنه يعطى العموم، و صرح في الروضة بتخصيص الحكم بالمسلم؟

الجواب: لا ريب في اختصاص تحريم الغيبة بمن يعتقد الحق، فإن أدلة الحكم غير متناولة لأهل الضلال، أما الآية فلأنها خطاب مشافهة للمؤمنين بالنهي عن غيبة بعضهم بعضا مع التصريح في التعليل الواقع فيها بتحقق الأخوة في الدين بين المغتاب و من يغتابه، و أما الأخبار المروية في هذا الباب من طريق أهل البيت فالحكم فيها منوط بالمؤمن أو بالأخ، و المراد أخوة الإيمان، فظاهر عدم تناول اللفظين‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 424

لمن لا يعتقد الحق، و في بعض الأخبار أيضا تصريح بالإذن في سب أهل الضلال و الوقيعة فيهم.

فروى الشيخ أبو جعفر الكليني رضي الله عنه في الصحيح عن داود بن سرحان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: إذا رأيتم أهل الريب و البدع من بعدي فأظهروا البراءة منهم و أكثروا من سبهم و القول فيهم و الوقيعة، و باهتوهم كيلا يطغوا في الفساد في الإسلام، و يحذرهم الناس و لا يتعلمون من بدعهم يكتب الله لكم بذلك الحسنات، و يرفع لكم به الدرجات في الآخرة.

و ما تضمنته عبارة الوالد في ديباجة الرسالة غير مناف لما في الروضة، فإن كلمة من في قوله: من المسلمين، للتبعيض لا للتبيين، و غير المؤمن ليس من نظرائه.

و ينبغي أن يعلم أن ظاهر جملة من أخبارنا أن المراد بالإيمان في كلام أئمتنا عليهم السلام معنى زائد على مجرد اعتقاد الحق و ذلك يقتضي عدم عموم تحريم معتقد الحق أيضا، فروى الكليني في الصحيح عن أبي عبيدة عن أبي جعفر عليه السلام قال: إنما المؤمن الذي إذا رضي لم يدخل رضاه في إثم و لا باطل، و إذا سخط لم يخرجه سخطه من قول الحق، و الذي إذا قدر لم تخرجه قدرته إلى التعدي إلى ما ليس له بحق.

و في الحسن عن ابن رئاب عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إنا لا نعد الرجل مؤمنا حتى يكون لجميع أمرنا متبعا مريدا، ألا و إن من اتباع أمرنا الورع فتزينوا به يرحمكم الله، و كيدوا أعداءنا ينعشكم الله.

و في الصحيح عن سليمان بن خالد عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال: يا سليمان أ تدري من المسلم؟ قلت: جعلت فداك أنت أعلم، قال: من سلم المسلمون من لسانه‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 425

و يده، ثم قال: أو تدري من المؤمن؟ قلت: أنت أعلم، قال: المؤمن من ائتمنه المؤمنون على أنفسهم و أموالهم.

و عن ابن خالد عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من أقر بدين الله فهو مسلم، و من عمل بما أمر الله فهو مؤمن.

ثم ذكر بعض الأخبار التي مضت في معنى الإيمان و صفات المؤمن، ثم قال قدس سره: و ورد أيضا في عدة أخبار تعليق تحريم الغيبة على أمور زائدة على مجرد اعتقاد الحق، منها: حديث ابن أبي يعفور المتضمن لبيان معنى العدالة التي تقبل معها شهادة الشاهد، و هو طويل مذكور في مواضع كثيرة من كتب أصحابنا.

و منها: ما رواه الكليني بإسناده السابق عن ابن خالد عن عثمان بن عيسى عن سماعة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من عامل الناس فلم يظلمهم و حدثهم فلم يكذبهم و وعدهم فلم يخلفهم، كان ممن حرمت غيبته و كملت مروته، و ظهر عدله، و وجبت إخوته.

و بملاحظة هذه الأخبار يظهر أن المنع من غيبة الناس كما يميل إليه كلام الشهيد الأول في قواعده، و الثاني في رسالته ليس بمتجه فإن دلالتها على اختصاص الحكم بغيره أظهر من أن يبين.

و أما ما أورده الوالد قدس سره في رسالته من الأخبار التي يظهر منها عموم المنع كلها من أخبار العامة فلا تصلح لإثبات حكم شرعي، و عذره في إيرادها أنه إنما ذكرها في سياق الترهيب و شأنهم التسامح في مثله، و قد سبقه إلى ذكره على النهج الذي سلكه بعض العامة يعني الغزالي، فسهل عليه إيرادها و إلا فهي غير مستحقة لتعب تحصيلها و جمعها، و خصوصا مع وجود الداعي لهم إلى اختلاف مثلها

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 426

فإن كثرة عيوب أئمتهم و نقائص رؤسائهم يحوج إلى سد باب إظهارها بكل وجه ليروج حالهم و يأمنوا نفرة الرعية منهم، و أعراض الناس عنهم.

و بالجملة فكما أن في التعرض لإظهار عيوب الناس خطرا و محذورا فكذا في حسم مادته و سد بابه، فإنه مغر لأهل النقائص و مرتكبي المعاصي بما هم عليه، فلا بد من تخصيص الغيبة بمواضع معينة يساعدها الاعتبار و توافق مدلول الأخبار و في استثنائهم للأمور المشهورة التي نصوا على جوازها و هي بصورة الغيبة، شهادة واضحة بما قلناه، فإن مأخذه الاعتبار، فهو قابل للزيادة و النقصان بحسب اختلاف الأفكار.

و للسيد الإمام السعيد ضياء الدين بن أبي الرضا فضل الله بن علي الحسني في شرحه لكتاب الشهاب المتضمن للأخبار المروية عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم في الحكم و الآداب كلام جيد في تفسير قوله صلى الله عليه و آله و سلم: ليس لفاسق غيبة، كلام يساعد على ما ذكرناه، حيث قال: إن الغيبة ذكر الغائب بما فيه من غير حاجة إلى ذكره، ثم قال: فأما إذا كان من يغتاب فاسقا فإنه ليس ما يذكر به غيبة، و إنما يسمى ما يذكر به في غيبته غيبة إذا كان تائبا نادما، فأما إذا كان مصرا عليه فإنها ليست بغيبة كيف و هو يرتكب ما يغتاب فيه جهارا.

و في أخبارنا و كلام بعض أهل اللغة ما يشهد له كقول الجوهري: خلف إنسان مستور، و كما في رواية الأزرق مما لا يعرفه الناس، و رواية ابن سيابة: ما ستر الله عليه.

و الحاصل أن الاعتبار يقتضي اختصاص الحكم بالمستور الذي لا يترتب على معصيته أثر في غيره، و يحتمل حالهم عدم الإصرار عليها إن كانت صغيرة، و التوبة منها إن كانت كبيرة، أو يرتجى له ذلك قبل ظهورها عنه و اشتهاره بها، و لا يكون في‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 427

ذكرها صلاح له كما إذا قصد تقريعه و ظن انزجاره، و كان القصد خالصا من الشوائب و الأدلة لا تنافي هذا فلا وجه للتوقف فيه، و إذا علم حكم غير المؤمن في الغيبة فالحال في نحوها من النميمة و سوء الظن أظهر، فإن محذور النميمة هو كونها مظنة للتباعد و التباغض، و ذلك في غير المؤمن تحصيل للحاصل، و قريب منه الكلام في سوء الظن.

ثم ذكرت أنه هل يفرق في ذلك بين ما يتضمن القذف و ما لا يتضمنه؟

و الجواب أن القذف مستثنى من البين، و له أحكام خاصة مقررة في محلها من كتب الفقه.

و ذكرت أن الرواية التي حكاها الوالد في الرسالة من كلام عيسى عليه السلام مع الحواريين في شأن جيفة الكلب، حيث قالوا: ما أنتن جيفة هذا الكلب؟ فقال عليه السلام: ما أشد بياض أسنانه، تدل على تحريم غيبة الحيوانات أيضا، و سألت عن وجه الفرق بينها و بين الجمادات؟ مع أن تعليل الحكم بأنه لا ينبغي أن يذكر من خلق الله إلا الحسن يقتضي عدم الفرق؟ و الجواب أنه ليس المقتضي لكلام عيسى عليه السلام كون كلام الحواريين غيبة، بل الوجه أن نتن الجيفة و نحوها مما لا يلائم الطباع غير مستند إلى فعل من يحسن إنكار فعله، و كلام الحواريين ظاهر في الإنكار كما لا يخفى، فكان عيسى عليه السلام نظر إلى أن الأمور الملائمة و غيرها مما هو من هذا القبيل كلها من فعل الله تعالى على مقتضى حكمته و قد أمر بالشكر على الأولى و الصبر على الثانية.

و في إظهار الحواريين لإنكار نتن الرائحة دلالة على عدم الصبر أو الغفلة عن حقيقة الأمر، فصرفهم عنه إلى أمر يلائم طباعهم و هو شدة بياض أسنان الكلب و جعله مقابلا للأمر الذي لا يلائم، و شاغلا لهم، و هذا معنى لطيف تبين لي من الكلام،

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 428

فإن صحت الرواية فهي منزلة عليه، و لكنها من جملة الروايات المحكية من كتب العامة، انتهى.

و قال الشهيد رفع الله درجته في قواعده: الغيبة محرمة بنص الكتاب العزيز و الأخبار، و هي قسمان: ظاهر و هو معلوم، و خفي و هو كثير كما في التعريض مثل أنا لا أحضر مجلس الحكام، أنا لا آكل أموال الأيتام أو فلان، و يشير بذلك إلى من يفعل ذلك، أو الحمد لله الذي نزهنا من كذا، يأتي به في معرض الشكر، و من الخفي الإيماء و الإشارة إلى نقص في الغير و إن كان حاضرا، و منه و لو فعل كذا كان خيرا، و لو لم يفعل كذا لكان حسنا، و منه التنقص بمستحق الغيبة لينبه به على عيوب آخر غير مستحق للغيبة.

أما ما يخطر في النفس من نقائص الغير فلا يعد غيبة، لأن الله تعالى عفا عن حديث النفس. و من الأخفى أن يذم نفسه بطرائق غير محمودة فيه، أو ليس متصفا بها لينبه على عورات غيره، و قد جوزت صورة الغيبة في مواضع سبعة:

الأول: أن يكون المقول فيه مستحقا لذلك لتظاهره بسببه كالكافر و الفاسق و أوجب التعزير بقذفه بذلك الفسق، و قد روى الأصحاب تجويز ذلك، قال العامة:

حديث لا غيبة لفاسق أو في فاسق لا أصل له، قلت: و لو صح أمكن حمله على النهي أي خبر يراد به النهي، أما من يتفكه بالفسق و يتبجج به في شعره أو كلامه فيجوز حكاية كلامه.

الثاني: شكاية المتظلم بصورة ظلمه.

الثالث: النصيحة للمستشير.

الرابع: الجرح و التعديل للشاهد و الراوي.

الخامس: ذكر المبتدعة و تصانيفهم الفاسدة و آرائهم المضلة و ليقتصر على ذلك‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 429

القدر قال العامة: من مات منهم و لا شيعة له تعظمه و لا خلف كتبا تقرأ و لا ما يخشى إفساده لغيره فالأولى أن يستر بستر الله عز و جل، و لا يذكر له عيب البتة، و حسابه على الله عز و جل، و قال علي عليه السلام: اذكروا محاسن موتاكم، و في خبر آخر: لا تقولوا في موتاكم إلا خيرا.

السادس: لو اطلع العدد الذين يثبت بهم الحد أو التعزير على فاحشة جاز ذكرها عند الحكام بصورة الشهادة في حضرة الفاعل و غيبته.

السابع: قيل: إذا علم اثنان من رجل معصية شاهداها فأجرى أحدهما ذكرها في غيبة ذلك العاصي جاز لأنه لا يؤثر عند السامع شيئا، و الأولى التنزه عن هذا لأنه ذكر له بما يكره لو كان حاضرا و لأنه ربما ذكر أحدهما صاحبه بعد نسيانه أو كان سببا لاشتهارها.

و قال الشيخ البهائي روح الله روحه: و قد جوزت الغيبة في عشرة مواضع:

الشهادة، و النهي عن المنكر، و شكاية المتظلم، و نصح المستشير، و جرح الشاهد و الراوي و تفضيل بعض العلماء و الصناع على بعض، و غيبة المتظاهر بالفسق الغير المستنكف على قول و ذكر المشتهر بوصف مميز له كالأعور و الأعرج مع عدم قصد الاحتقار و الذم و ذكره عند من يعرفه بذلك بشرط عدم سماع غيره على قول، و التنبيه على الخطإ في المسائل العلمية و نحوها بقصد أن لا يتبعه أحد فيها.

و أقول: إنما أطنبت الكلام فيها لكثرة الحاجة إلى تحقيقها و وقوع الإفراط و التفريط من العلماء فيه، و الله الموفق للخير و الصواب.

 (الحديث الثاني)

 (1): حسن كالصحيح.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 430

" إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ"

 (1) قال الطبرسي (ره): أي يفشوا و يظهروا الزنا و القبائح‏

" فِي الَّذِينَ آمَنُوا"

 (2) بأن ينسبوها إليهم و يقذفوهم بها

" لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا"

 (3) بإقامة الحد عليهم" وَ الْآخِرَةِ" و هو عذاب النار.

أقول: و الغرض أن مورد الآية ليس هو البهتان فقط، بل يشمل ما إذا رآها و سمعها فإنه يلزمه الحد و التعزير، إلا أن يكون بعنوان الشهادة عند الحاكم لإقامة حدود الله، و ثبت عنده كما مر، و إنما قال: من الذين، لأن الآية تشمل البهتان و ذكر عيبه في حضوره، و من أحب شيوعه و إن لم يذكر و من سمعه و رضي به و الوعيد بالعذاب في الجميع.

 (الحديث الثالث)

 (4): ضعيف على المشهور معتبر عندي و

سرحان‏

 (5) بكسر السين.

" هو أن تقول"

 (6) الضمير للغيبة و تذكيره بتأويل الاغتياب أو باعتبار الخبر مع أنه مصدر

" لأخيك في دينه"

 (7) الظرف إما صفة لأخيك، أي الأخ الذي كانت أخوته بسبب دينه فيكون للاحتراز عن غيبة الكافر و المخالف كما مر، أو متعلق بالقول أي كان ذلك القول طعنا في دينه بنسبة كفر أو معصية إليه، و يدل على أن الغيبة تشمل البهتان أيضا، و كان هذا اصطلاح آخر للغيبة، و على الأول يحتمل أن يكون المراد بما لم يفعل العيب الذي لم يكن باختياره، و فعله الله فيه كالعيوب البدنية فيخص بما إذا كان مستورا فالأول لذكر العيوب و الثاني لذكر المعاصي، فلا يكون اصطلاحا آخر و هذا وجه حسن.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 431

و ربما يحمل الدين على الوجه الثاني على الذل و هو أحد معانيه و في على التعليل، أي تقول فيه لا ذلا له ما لم يفعله و لم يكن باختياره كالأمراض و الفقر و أشباههما.

" لم يقم"

 (1) على بناء المفعول من الأفعال أي لم يقم الحاكم الشرعي عليه حدا أو لم يقمه الله عليه، أي لم يقرر عليه حدا في الكتاب و السنة، أو على بناء الفاعل من باب نصر و ضمير عليه راجع إلى الأخ، و ضمير

فيه‏

 (2) إلى الأمر، و الجملة صفة بعد صفة أو حال بعد حال للأمر.

و يدل على أن ذكر الأمر المشهور من الذنوب ليس بغيبة، و لا ريب فيه مع إصراره عليه، و أما بعد توبته ذكره عند من لا يعلمه مشكل، و الأحوط الترك و كذا بعد إقامة الحد عليه ينبغي ترك ذكره بذلك مع التوبة بل بدونها أيضا، فإن الحد بمنزلة التوبة، و قد روي النهي عن ذكره بسوء معللا بذلك، و حمله على الشهادة لإقامة الحد كما زعم بعيد.

 (الحديث الرابع)

 (3): مجهول.

" كلما ذكرته"

 (4) أي الرجل بالغيبة أو كفارة غيبة واحدة أن تستغفر له كلما ذكرت من اغتبته، أو كل وقت ذكرت الاغتياب، و في بعض النسخ: كما ذكرته و حمل على أن ذلك بعد التوبة و ظاهره عدم وجوب الاستحلال ممن اغتابه، و به قال جماعة بل منعوا منه، و لا ريب أن الاستحلال منه أولى و أحوط إذا لم يصر سببا لمزيد إهانته و لإثارة فتنة لا سيما إذا بلغه ذلك.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 432

و يمكن حمل هذا الخبر على ما إذا لم يبلغه و به يجمع بين الأخبار، و يؤيده ما روي في مصباح الشريعة عن الصادق عليه السلام أنه قال: فإن اغتيب فبلغ المغتاب فلم يبق إلا أن تستحل منه و إن لم يبلغه و لم يلحقه علم ذلك فاستغفر الله له.

و روى الصدوق (ره) في الخصال و العلل بإسناده عن أسباط بن محمد رفعه إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنه قال: الغيبة أشد من الزنا، فقيل: يا رسول الله و لم ذاك؟ قال:

صاحب الزنا يتوب فيتوب الله عليه، و صاحب الغيبة يتوب فلا يتوب الله عليه، حتى يكون صاحبه الذي يحله.

و قيل: يكفيه الاستغفار دون الاستحلال و ربما يحتج في ذلك بما روي عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنه قال: كفارة من اغتبته أن تستغفر له، و قال مجاهد: كفارة أكلك لحم أخيك أن تثني عليه و تدعو له بخير، و سئل بعضهم عن التوبة عن الغيبة؟ فقال:

تمشي إلى صاحبك و تقول: كذبت فيما قلت و ظلمت و أسأت، فإن شئت أخذت بحقك و إن شئت عفوت.

و ما قيل: إن العرض لا عوض له فلا يجب الاستحلال منه بخلاف المال فلا وجه له إذ وجب في العرض حد القذف و أثبتت المطالبة به.

و قال المحقق الطوسي قدس سره في التجريد عند ذكر شرائط التوبة:

و يجب الاعتذار إلى المغتاب مع بلوغه، و قال العلامة (ره) في شرحه: المغتاب إما أن يكون بلغه اغتيابه أم لا، و يلزم على الفاعل للغيبة في الأول الاعتذار إليه لأنه أوصل إليه ضرر الغم فوجب عليه الاعتذار منه و الندم عليه، و في الثاني لا يلزمه الاعتذار و لا الاستحلال عنه، لأنه لم يفعل به ألما، و في كلا القسمين يجب الندم لله تعالى لمخالفته في النهي، و العزم على ترك المواعدة، انتهى.

و نحوه قال الشارح الجديد لكنه قال في الأول: و لا يلزمه تفصيل ما اغتاب إلا إذا بلغه على وجه أفحش" انتهى" و لا بأس به.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 433

و قال الشهيد الثاني قدس الله لطيفه: اعلم أن الواجب على المغتاب أن يندم و يتوب و يتأسف على ما فعله ليخرج من حق الله سبحانه تعالى، ثم يستحل المغتاب ليحله فيخرج عن مظلمته، و ينبغي أن يستحله و هو حزين متأسف نادم على فعله إذ المرائي قد يستحل ليظهر من نفسه الورع، و في الباطن لا يكون نادما، فيكون قد قارف معصية أخرى.

و قد ورد في كفارتها حديثان أحدهما قوله صلى الله عليه و آله و سلم: كفارة من اغتبته أن تستغفر له، و الثاني قوله صلى الله عليه و آله و سلم: من كانت عنده في قبله مظلمة في عرض أو مال فليتحللها منه من قبل أن يأتي يوم ليس هناك دينار و لا درهم، يؤخذ من حسناته فإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فزيدت على سيئاته.

و يمكن أن يكون طريق الجمع حمل الاستغفار له على من لم تبلغ غيبته المغتاب فينبغي له الاقتصار على الدعاء له و الاستغفار، لأن في الاستحلال منه إثارة للفتنة و جلبا للضغائن، و في حكم من لم يبلغه من لم يقدر على الوصول إليه بموت أو غيبة و حمل المحالة على من يمكن التوصل إليه مع بلوغه الغيبة و يستحق للمعتذر إليه قبول العذر و المحالة استحبابا مؤكدا، قال الله تعالى:" خُذِ الْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ" فقال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: يا جبرئيل ما هذا العفو؟ قال:

إن الله يأمرك أن تعفو عمن ظلمك، و تصل من قطعك و تعطي من حرمك، و في خبر آخر: إذا جثت الأمم بين يدي الله تعالى يوم القيامة نودوا ليقم من كان أجره على الله تعالى فلا يقوم إلا من عفي في الدنيا عن مظلمته، و روي عن بعضهم أن رجلا قال له: إن فلانا قد اغتابك فبعث إليه طبقا من الرطب، و قال: بلغني أنك أهديت إلى حسناتك فأردت أن أكافيك عليها فأعذرني لا أقدر أن أكافيك على التمام.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 434

و سبيل المعتذر أن يبالغ في الثناء عليه و التودد و يلازم ذلك حتى يطيب قلبه، فإن لم يطب قلبه كان اعتذاره و تودده حسنة محسوبة له، و قد يقابل بها سيئة الغيبة في القيامة، و لا فرق بين غيبة الصغير و الكبير و الحي و الميت و الذكر و الأنثى و ليكن الاستغفار و الدعاء له على حسب ما يليق بحاله، فيدعو للصغير بالهداية و للميت بالرحمة و المغفرة، و نحو ذلك.

و لا يسقط الحق بإباحة الإنسان عرضه للناس لأنه عفو عما لم يجب، و قد صرح الفقهاء بأن من أباح قذف نفسه لم يسقط حقه من حده، و ما روي عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم: أ يعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم، كان إذا خرج من بيته قال: اللهم إني تصدقت بعرضي على الناس، معناه أني لا أطلب مظلمته في القيامة، و لا أخاصم عليها لا أن غيبته صارت بذلك حلالا، و تجب النية لها كباقي الكفارات، و الله الموفق انتهى كلامه.

 (الحديث الخامس)

 (1): صحيح.

" في طينة خبال"

 (2) قال في النهاية: فيه من شرب الخمر سقاه الله من طينة الخبال يوم القيامة، جاء تفسيره في الحديث: أن الخبال عصارة أهل النار و الخبال في الأصل الفساد، و يكون في الأفعال و الأبدان و العقول، و قال الجوهري: و الخبال أيضا الفساد، و أما الذي في الحديث من قفا مؤمنا بما ليس فيه وقفه الله في روغة الخبال حتى يجي‏ء بالمخرج عنه، فيقال: هو صديد أهل النار، قوله: قفا أي قذف، و الروغة الطينة، انتهى.

" حتى يخرج مما قال"

 (3) لعل المراد به الدوام و الخلود فيها إذ لا يمكنه إثبات‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 435

ذلك، و الخروج منه لكونه بهتانا، أو المراد به خروجه من دنس الإثم بتطهير النار له، و قال الطيبي في شرح المشكاة: حتى يخرج مما قال، أي يتوب منه أو يتطهر.

أقول: لعل مراده التوبة قبل ذلك في الدنيا، و لا يخفى بعده، و في النهاية فيه: حتى تنظر في وجوه المومسات، المومسة: الفاجرة و تجمع على ميامس أيضا و موامس، و قد اختلف في أصل هذه اللفظة فبعضهم يجعله من الهمزة و بعضهم يجعله من الواو و كل منهما تكلف له اشتقاقا فيه بعد، انتهى.

و في الصحاح:

صديد

 (1) الجرح ماؤه الرقيق المختلط بالدم قبل أن تغلظ المدة و إنما عبر عن الصديد بالطينة لأنه يخرج من البدن و كان جزؤه و نسب إلى الفساد لأنه إنما خرج عنها لفساد عملها أو لفساد أصل طينتها.

 (الحديث السادس)

 (2): مجهول.

" مما عرفه الناس"

 (3) أي اشتهر به، فلو عرفه السامع أيضا فلا ريب أنه ليس بغيبة، و لو لم يعرفه السامع و كان مشهورا به و لا يبالي بذكره فهو أيضا كذلك، و لو كان مما يحزنه ففيه إشكال، و قد مر القول فيه، و الجواز أقوى و الترك أحوط و هذا إذا لم يرتدع منه و لم يتب، و أما مع التوبة و ظهور آثار الندامة فيه فالظاهر عدم الجواز و إن اشتهر بذلك و أقيم عليه الحد، و يدل أيضا على جواز ذكر الألقاب المشهورة كالأعمى و الأعور كما عرفت، و يحتمل الخبر وجهان آخر، و هو أن يكون المراد بالناس من يذكر عندهم الغيبة و إن لم يعرفها غيرهم، و لم يكن مشهورا بذلك لكنه بعيد.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 436

و قوله عليه السلام: من خلفه‏

 (1) يدل على أنه لو ذكره في حضوره بما يسوؤه لم تكن غيبة و إن كان حراما لأنه لا يجوز إيذاء المؤمن بل هو أشد من الغيبة، و في القاموس‏

بهته‏

 (2) كمنعه بهتا و بهتانا: قال عليه ما لم يفعل، و البهيتة الباطل الذي يتحير من بطلانه، و الكذب كالبهت بالضم.

 (الحديث السابع)

 (3): كالسابق.

و في القاموس:

الحدة

 (4) بالكسر ما يعتري الإنسان من الغضب و النزق، و

العجلة

 (5) بالتحريك السرعة و المبادرة في الأمور من غير تأمل، و يفهم منه و مما سبق أن البهتان يشمل الحضور و الغيبة.

ثم ما ذكر في هذه الأخبار أنها ليست بغيبة، يحتمل أن يكون المراد أنها ليست بغيبة محرمة أو ليست بغيبة أصلا، فإنها حقيقة شرعية في المحرمة غير البهتان و ما كان بحضور الإنسان، و قد يقال في البهتان أنها غيبة و بهتان، و تجتمع عليه العقوبتان و هو بعيد.