مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 1

الجزء الحادي عشر

 [تتمة كتاب الإيمان و الكفر]

باب الرواية على المؤمن‏

 (1) أي ينقل منه شيئا للإضرار عليه‏

 (الحديث الأول)

 (2): ضعيف على المشهور.

" من روى على مؤمن"

 (3) بأن ينقل عنه كلاما يدل على ضعف عقله و سخافة رأيه على ما ذكره الأكثر، و يحتمل شموله لرواية الفعل أيضا

" يريد بها شينه"

 (4) أي عيبه، في القاموس: شانه يشينه ضد زانه يزينه، و قال الجوهري: المروءة الإنسانية و لك أن تشدد، قال أبو زيد: مرأى الرجل صار ذا مروءة انتهى.

و قيل: هي آداب نفسانية تحمل مراعاتها الإنسان على الوقوف على محاسن الأخلاق و جميل العادات، و قد يتحقق بمجانبة ما يؤذن بخسة النفس من المباحات كالأكل في الأسواق، حيث يمتهن فاعله، قال الشهيد رحمه الله: المروة تنزيه النفس عن الدنائة التي لا يليق بأمثاله كالسخرية و كشف العورة التي يتأكد استحباب سترها في الصلاة، و الأكل في الأسواق غالبا، و لبس الفقيه لباس الجندي بحيث يسخر منه.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 2

" أخرجه الله من ولايته"

 (1) في النهاية و غيره: الولاية بالفتح المحبة و النصرة، و بالكسر التولية و السلطان، فقيل: المراد هنا المحبة، و إنما لا يقبله الشيطان لعدم الاعتناء به، لأن الشيطان إنما يحب من كان فسقه في العبادات، و يصيره وسيلة لإضلال الناس، و قيل: السر في عدم قبول الشيطان له أن فعله أقبح من فعل الشيطان لأن سبب خروج الشيطان من ولاية الله هو مخالفة أمره مستندا بأن أصله أشرف من أصل آدم عليه السلام و لم يذكر من فعل آدم ما يسوؤه و يسقطه عن نظر الملائكة، و سبب خروج هذا الرجل من ولايته تعالى هو مخالفة أمره عز و جل من غير أن يسندها إلى شبهة إذ الأصل واحد، و ذكره من فعل المؤمن ما يؤذيه و يحقره و ادعاء الكمال لنفسه ضمنا، و هذا إدلال و تفاخر و تكبر، فلذا لا يقبله الشيطان لكونه أقبح فعالا منه، على أن الشيطان لا يعتمد على ولايته له، لأن شأنه نقض الولاية لا عن شي‏ء فلذلك لا يقبله، انتهى.

و لا يخفى ما في هذه الوجوه لا سيما في الأخيرين على من له أدنى مسكة، بل المراد إما المحبة و النصرة، فيقطع الله عنه محبته و نصرته و يكله إلى الشيطان الذي اختار تسويله، و خالف أمر ربه، و عدم قبول الشيطان له لأنه ليس غرضه من إضلال بني آدم كثيرة الاتباع و المحبين، فيودهم و ينصرهم إذا تابعوه، بل مقصوده إهلاكهم و جعلهم مستوجبين للعذاب للعداوة القديمة بينه و بين أبيهم، فإذا حصل غرضه منهم يتركهم و يشمت بهم و لا يعينهم في شي‏ء، لا في الدنيا كما قال سبحانه:" كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِي‏ءٌ مِنْكَ" و كما هو المشهور من قصة برصيصا و غيره، و لا في الآخرة لقوله:" فَلا تَلُومُونِي وَ لُومُوا أَنْفُسَكُمْ"

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 3

و المراد التولي و السلطنة، أي يخرجه الله من حزبه و عداد أوليائه و يعده من أحزاب الشيطان، و هو لا يقبله لأنه يتبرأ منه كما عرفت.

و يحتمل أن يكون عدم قبول الشيطان كناية عن عدم الرضا بذلك منه، بل يريد أن يكفره و يجعله مستوجبا للخلود في النار.

 (الحديث الثاني)

 (1): صحيح.

و الضمير في‏

له‏

 (2) للصادق عليه السلام، و في النهاية

العورة

 (3) كل ما يستحيي منه إذا ظهر، انتهى.

و غرضه عليه السلام أن المراد بهذا الخبر إفشاء السر لا أن النظر إلى عورته ليس بحرام، و المراد بحرمة العورة حرمة ذكرها و إفشائها و السفلين العورتين، و كنى عنها لقبح التصريح بهما.

 (الحديث الثالث)

 (4): موثق.

" ما هو"

 (5) ما نافية، و الضمير للحرام أو للعورة بتأويل العضو أو النظر المقدر منه‏

" شيئا"

 (6) أي من عورتيه‏

" أن تروي عليه"

 (7) أي قولا يتضرر به‏

" أو تعيبه"

 (8) بالعين المهملة أي تذكر عيبه، و ربما يقرأ بالغين المعجمة من الغيبة.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 4

باب الشماتة

 (1)

 (الحديث الأول)

 (2): حسن موثق.

و قال الجوهري:

الشماتة

 (3) الفرح ببلية العدو يقال: شمت به بالكسر يشمت شماتة، و قال: كل شي‏ء أبديته و بديته أظهرته، و قال:

افتتن‏

 (4) الرجل و فتن فهو مفتون، إذا أصابته فتنة فيذهب ماله أو عقله، و كذلك إذا اختبر، و إنما نهى عليه السلام عن الإيذاء لأنه قد يوجد ذلك في قلب العدو بغير اختياره، و تكليف عامة الخلق به حرج ينافي الشريعة السمحة.

و الإيذاء يكون بالفعل كإظهار السرور و البشاشة و الضحك عند المصاب و في غيبته، و بالقول مثل الهزء و السخرية به، و عقوبته في الدنيا أن الله تعالى يبتليه بمثله غيرة للمؤمن، و انتصارا له، و أيضا هو نوع بغي و عقوبة البغي عاجلة سريعة.

باب السباب‏

 (5)

 (الحديث الأول)

 (6): ضعيف على المشهور.

و السباب‏

 (7) إما بكسر السين و تخفيف الباء مصدر أو بفتح السين و تشديد الباء

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 5

صيغة مبالغة، و على الأول كان في المشرف مضاف أي كفعل المشرف، و ربما يقرأ المشرف بفتح الراء مصدرا ميميا، و في بعض النسخ كالشرف، و السب الشتم و هو بحسب اللغة يشمل القذف أيضا و لا يبعد شمول أكثر هذه الأخبار أيضا له.

و في اصطلاح الفقهاء هو السب الذي لم يكن قذفا بالزنا و نحوه كقولك: يا شارب الخمر أو يا آكل الربا، أو يا ملعون، أو يا خائن، أو يا حمار، أو يا كلب، أو يا خنزير، أو يا فاسق، أو يا فاجر، و أمثال ذلك مما يتضمن استخفافا أو إهانة، و في المصباح: سبه سبا فهو سباب، و منه يقال للإصبع التي تلي الإبهام سبابة لأنه يشاربها عند السب، و السبة العار و سابه مسابة و سبابا أي بالكسر، و اسم الفاعل منه سب.

و قال:

الهلكة

 (1) مثال القصبة الهلاك، و لعل المراد بها هنا الكفر و الخروج من الدين، و بالمشرف عليها من قرب وقوعه فيها بفعل الكبائر العظيمة، و الساب شبيه بالمشرف و قريب منه، و يحتمل أن تكون الكاف زائدة.

 (الحديث الثاني)

 (2): موثق كالصحيح.

و السباب‏

 (3) هنا بالكسر مصدر باب المفاعلة و إما بمعنى السب أو المبالغة في السب أو على بابه من الطرفين و الإضافة إلى المفعول أو الفاعل، و الأول أظهر، فيدل على أنه لا بأس بسب غير المؤمن إذا لم يكن قذفا بل يمكن أن يكون المراد

بالمؤمن‏

 (4) من لا يتظاهر بارتكاب الكبائر و لا يكون مبتدعا مستحقا للاستخفاف، قال المحقق في الشرائع: كل تعريض بما يكرهه المواجه و لم يوضع للقذف لغة و لا عرفا يثبت به التعزير، إلى قوله: و لو كان المقول له مستحقا للاستخفاف فلا حد و لا تعزير، و كذا كل ما يوجب أذى كقوله: يا أجذم أو يا أبرص.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 6

و قال الشهيد الثاني في شرحه: لما كان أذى المسلم الغير المستحق للاستخفاف محرما فكل كلمة يقال له و يحصل له بها الأذى و لم تكن موضوعة للقذف بالزنا و ما في حكمه لغة و لا عرفا يجب بها التعزير بفعل المحرم كغيره من المحرمات، و منه التعبير بالأمراض.

و في صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل سب رجلا بغير قذف يعرض به هل يجلد؟ قال: عليه التعزير.

و المراد بكون المقول له مستحقا للاستخفاف أن يكون فاسقا متظاهرا بفسقه فإنه لا حرمة له حينئذ، لما روي عن الصادق عليه السلام: إذا جاهر الفاسق بفسقه فلا حرمة له و لا غيبة، و في بعض الأخبار عن تمام العبادة الوقيعة في أهل الريب، و في الصحيح عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: إذا رأيتم أهل الريب و البدع من بعدي فأظهروا البراءة منهم و أكثروا من سبهم و القول فيهم و الوقيعة و باهتوهم لئلا يطغوا في الفساد في الإسلام، و يحذرهم الناس و لا يتعلمون من بدعهم يكتب الله لكم بذلك الحسنات، و يرفع لكم به الدرجات في الآخرة.

و الفسق‏

 (1) في اللغة الخروج عن الطاعة مطلقا لكن يطلق غالبا في الكتاب و السنة.

على الكفر أو ارتكاب الكبائر العظيمة، قال في المصباح: فسق فسوقا من باب قعد:

خرج عن الطاعة و الاسم الفسق، و يفسق بالكسر لغة، و يقال: أصله خروج الشي‏ء على وجه الفساد، و منه فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها، و قال الراغب: فسق فلان خرج عن حد الشرع و هو أعم من الكفر و الفسق يقع بالقليل من الذنوب و بالكثير، لكن تعورف فيما كان كثيرا و أكثر ما يقال الفاسق لمن التزم حكم الشرع و أقر به، ثم أخل بجميع أحكامه أو ببعضه، قال عز و جل:" فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ"

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 7

" فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ"" وَ أَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ"" أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً" فقابل بها الإيمان" وَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ"" وَ أَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ"" وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ"" وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ"" و كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ" انتهى.

فالفسق هنا ما قارب الكفر لأنه ترقى عنه إلى الكفر، و يظهر منه أن السباب أعظم من الغيبة مع أن الإيذاء فيه أشد إلا أن يكون الغيبة بالسباب فهي داخلة فيه.

" و قتاله كفر"

 (1) المراد به الكفر الذي يطلق على أرباب الكبائر أو إذا قاتله مستحلا أو لإيمانه، و قيل: كان القتال لما كان من أسباب الكفر أطلق الكفر عليه مجازا أو أريد بالكفر كفر نعمة التآلف، فإن الله ألف بين المؤمنين أو إنكار حق الإخوة فإن من حقها عدم المقاتلة

" و أكل لحمه"

 (2) المراد به الغيبة كما قال عز و جل:

" وَ لا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً" شبه صاحب الغيبة بأكل لحم أخيه الميت زيادة في التنفير و الزجر عنها، و قيل: المراد بالمعصية الكبيرة.

" و حرمة ماله كحرمة دمه"

 (3) جمع بين المال و الدم في الاحترام و لا شك في أن إهراق دمه كبيرة مهلكة، فكذا آكل ماله، و مثل هذا الحديث مروي من طرق العامة، و قال في النهاية: قيل هذا محمول على من سب أو قاتل مسلما من غير تأويل،

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 8

و قيل: إنما قال على جهة التغليظ لا أنه يخرجه إلى الفسق و الكفر، و قال الكرماني في شرح البخاري: هو بكسر مهملة و خفة موحدة أي شتمه أو تشاتمهما و" قتاله" أي مقاتلته" كفر" فكيف يحكم بتصويب المرجئة في أن مرتكب الكبيرة غير فاسق.

 (الحديث الثالث)

 (1): صحيح.

و كسب العداوة بالسب‏

 (2) معلوم، و هذه من مفاسده الدنيوية.

 (الحديث الرابع)

 (3): صحيح.

و قد مر في باب السفه باختلاف في صدر السند، و كان فيه ما لم يتعد المظلوم، و قد مر الكلام فيه، و ما هنا يدل على أنه إذا اعتذر إلى صاحبه و عفا عنه سقط عنه الوزر بالأصالة و بالسببية، و التعزير أو الحد أيضا و لا اعتراض للحاكم، لأنه حق آدمي تتوقف إقامته على مطالبته، و يسقط بعفوه.

 (الحديث الخامس)

 (4): ضعيف.

" ما شهد رجل"

 (5) بأن شهد به عند الحاكم أو أتى بصيغة الخبر نحو أنت كافر، أو بصيغة النداء نحو: يا كافر، و قال الجوهري: قال الأخفش" وَ باؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ" أي رجعوا به أي صار عليهم، انتهى.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 9

و في‏

قوله: فإياكم‏

 (1)، إشارة إلى أن مطلق الطعن حكمه حكم الكفر في الرجوع إلى أحدهما، و

قوله: إن كان‏

 (2)، استئناف بياني.

و كفر الساب مع أن محض السب و إن كان كبيرة لا يوجب الكفر، يحتمل وجوها أشرنا إلى بعضها مرارا:" الأول" أن يكون المراد به الكفر الذي يطلق على مرتكبي الكبائر في مصطلح الآيات و الأخبار.

الثاني: أن يعود الضمير إلى الذنب أو الخطإ المفهوم من السياق لا إلى الكفر.

الثالث: عود الضمير إلى التكفير لا إلى الكفر، يعني تكفيره لأخيه تكفير لنفسه، لأنه لما كفر مؤمنا فكأنه كفر نفسه، و أورد عليه أن التكفير حينئذ غير مختص بأحدهما لتعلقه بهما جميعا، و لا يخفى ما فيه و في الثاني من التكلف.

الرابع: ما قيل: أن الضمير يعود إلى الكفر الحقيقي لأن القاتل اعتقد أن ما عليه المقول له من الإيمان كفر" فقد كفر" لقوله تعالى:" وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ" و يرد عليه أن القائل بكفر أخيه لم يجعل الإيمان كفرا بل أثبت له بدل الإيمان كفرا توبيخا و تغيرا له بترك الإيمان، و أخذ الكفر بدلا منه، و بينهما بون بعيد، نعم يمكن تخصيصه بما إذا كان سبب التكفير اعتقاده بشي‏ء من أصول الدين، الذي يصير إنكاره سببا للكفر باعتقاد القائل كما إذا كفر عالم قائل بالاختيار عالما آخر قائلا بالجبر، أو كفر قائل بالحدوث قائلا بالقدم، أو قائل بالمعاد الجسماني منكرا له، و أمثال ذلك، و هذا وجه وجيه و إن كان في التخصيص بعد.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 10

و قال الجزري في النهاية: فيه: من قال لأخيه يا كافر فقد باء به أحدهما، لأنه إما أن يصدق عليه أو يكذب، فإن صدق فهو كافر و إن كذب عاد الكفر إليه بتكفيره أخاه المسلم، و الكفر صنفان أحدهما الكفر بأصل الإيمان و هو ضده، و الآخر الكفر بفرع من فروع الإسلام فلا يخرج به عن أصل الإيمان، و قيل: الكفر على أربعة أنحاء: كفر إنكار بأن لا يعرف الله أصلا و لا يعترف به، و كفر جحود ككفر إبليس يعرف الله بقلبه و لا يقر بلسانه، و كفر عناد و هو أن يعرف بقلبه و يعترف بلسانه و لا يدين به حسدا و بغيا ككفر أبي جهل و أضرابه، و كفر نفاق و هو أن يقر بلسانه و لا يعتقد بقلبه.

قال الهروي: سئل الأزهري عمن يقول بخلق القرآن أ تسميه كافرا؟ فقال:

الذي يقوله كفر، فأعيد عليه السؤال ثلاثا و يقول مثل ما قال، ثم قال في الآخر:

قد يقول المسلم كفرا، و عنه حديث ابن عباس قيل له:" وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ" قال: هم كفرة، و ليسوا كمن كفر بالله و اليوم الآخر، و منه الحديث الآخر: أن الأوس و الخزرج ذكروا ما كان منهم في الجاهلية فثار بعضهم إلى بعض السيوف، فأنزل الله تعالى:" وَ كَيْفَ تَكْفُرُونَ وَ أَنْتُمْ تُتْلى‏ عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَ فِيكُمْ رَسُولُهُ" و لم يكن ذلك على الكفر بالله، و لكن على تغطيتهم ما كانوا عليه من الألفة و المودة.

و منه حديث ابن مسعود: إذا قال الرجل للرجل أنت لي عدو فقد كفر أحدهما بالإسلام، أراد كفر نعمته لأن الله ألف بين قلوبهم فأصبحوا بنعمته إخوانا، فمن لم يعرفها فقد كفرها.

و كذلك الحديث: من أتى حائضا فقد كفر، و حديث الأنواء إن الله ينزل الغيث فيصبح به قوم كافرين، يقولون مطرنا بنوء كذا و كذا أي كافرين بذلك دون‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 11

غيره حيث ينسبون المطر إلى النوء دون الله، و منه الحديث: فرأيت أكثر أهلها النساء لكفرهن قيل: أ يكفرن بالله؟ قال: لا و لكن يكفرن الإحسان، و يكفرن العشير، أي يجحدون إحسان أزواجهن، و الحديث الآخر: سباب المسلم فسوق و قتاله كفر، و الأحاديث من هذا النوع كثيرة و أصل الكفر تغطية الشي‏ء تستهلكه.

 (الحديث السادس)

 (1): ضعيف على المشهور.

و قال في النهاية: في حديث أبي أيوب إذا شئت فاركب، ثم سغ في الأرض‏

ما وجدت مساغا

 (2)، أي ادخل فيها ما وجدت مدخلا و روي في المصابيح عن رسول الله أنه قال: إن العبد إذا لعن شيئا صعدت اللعنة إلى السماء، فتغلق أبواب السماء دونها، ثم تهبط إلى الأرض فتغلق أبوابها دونها، ثم تأخذ يمينا و شمالا فإذا لم تجد مساغا رجعت إلى الذي لعن، فإن كان لذلك أهلا و إلا رجعت إلى قائلها.

و في النهاية:

اللعن‏

 (3) الطرد و الإبعاد من الله تعالى، و من الخلق السب و الدعاء.

و أقول: كان هذا محمول على الغالب، و قد يمكن أن يكون اللاعن و الملعون كلاهما من أهل الجنة كما إذا ثبت عند اللاعن كفر الملعون و استحقاقه اللعن، و إن لم يكن كذلك، فإنه لا تقصير للاعن في اللعن، و قد يمكن أن يجري أكثر من اللعن بسبب ذلك كالحد و القتل و القطع بشهادة الزور، و يحتمل أن يكون المراد بالمساغ محل الجواز و الغدر في اللعن، أو يكون المساغ بالمعنى المتقدم كناية عن ذلك، فإن اللاعن إذا كان معذورا كان مثابا عليه فيصعد لعنه إلى السماء و يثاب عليه.

 (الحديث السابع)

 (4): موثق كالصحيح.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 12

و يمكن إجراء بعض التأويلات السابقة فيه بل كلها و إن كان أبعد.

 (الحديث الثامن)

 (1): ضعيف على المشهور.

و لعل في السند تصحيفا أو تقديما و تأخيرا فإن محمد بن سنان ليس هنا موضعه و تقديم محمد بن علي عليه أظهر

" خرج عن ولايته"

 (2) أي محبته و نصرته الواجبتين عليه، و يحتمل أن يكون كناية عن الخروج عن الإيمان لقوله تعالى:" إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ الَّذِينَ آوَوْا وَ نَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ" ثم قال:" وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ" و قال سبحانه" وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ"" و إذا قال: أنت عدوي كفر أحدهما" لما مر من أنه إن كان صادقا كفر المخاطب، و إن كان كاذبا كفر القائل، و قد مر معنى الكفر.

" و هو مضمر على أخيه المؤمن سوءا"

 (3) أي يريد به شرا أو يظن به ما هو بري‏ء عنه، أو لم يثبت عنده و ليس المراد به الخطرات التي تخطر في القلب لأن دفعه غير مقدور، بل الحكم به و إن لم يتكلم، و أما مجرد الظن فيشكل التكليف بعدمه مع حصول بواعثه، و أما الظن الذي حصل من جهة شرعيته فالظاهر أنه خارج عن ذلك لترتب كثير من الأحكام الشرعية عليه كما مر، و لا ينافي ما ورد أن الحزم‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 13

مساءة الظن لأن المراد به التحفظ و الاحتياط في المعاملات دون الظن بالسوء.

 (الحديث التاسع)

 (1): ضعيف على المشهور.

" يطعن في عين مؤمن"

 (2) أي يواجهه بالطعن و العيب و يذكره بمحضره، قال في المصباح: طعنت عليه من باب قتل و من باب نفع لغة: قدحت و عبت، طعنا و طعانا فهو طاعن و طعان في الأعراض، و في القاموس عين فلانا أخبره بمساويه في وجهه، انتهى.

و الظاهر أنه أعم من أن يكون متصفا بها أم لا، و الميتة بالكسر للهيئة و الحالة، قال الجوهري: الميتة بالكسر كالجلسة و الركبة يقال: مات فلان ميتة حسنة، و المراد

بشر الميتة

 (3) إما بحسب الدنيا كالغرق و الحرق و الهدم و أكل السبع و سائر ميتات السوء، أو بحسب الآخرة كالموت على الكفر أو على المعاصي بلا توبة و في الصحاح‏

أنت قمن‏

 (4) أن تفعل كذا، بالتحريك أي خليق و جدير، لا يثني و لا يجمع و لا يؤنث، فإن كسرت الميم أو قلت قمين ثنيت و جمعت.

" إلى خير"

 (5) أي إلى التوبة و صالح الأعمال أو إلى الإيمان.

باب التهمة و سوء الظن‏

 (6)

 (الحديث الأول)

 (7): حسن كالصحيح.

في القاموس:

الوهم‏

 (8) من خطرات القلب و هو مرجوح طرفي المتردد فيه، و وهم في الشي‏ء كوعد ذهب و همه إليه، و توهم ظن و اتهمه كافتعله و أوهمه أدخل‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 14

عليه التهمة كهمزة أي ما يتهم عليه، فاتهم هو فهو متهم و تهيم، و في المصباح:

اتهمت بكذا ظننته به فهو تهيم، و اتهمته في قوله شككت في صدقه، و الاسم التهمة و زان رطبة و السكون لغة حكاها الفارابي، و أصل التاء واو، و قال:

ماث‏

 (1) الشي‏ء موثا من باب قال و يميث ميتا من باب باع لغة: ذاب في الماء، و ماثه غيره من باب قال، يتعدى و لا يتعدى، و ماثت الأرض لأنت و سهلت، و في القاموس: ماث موثا و موثانا محركة خلطه و دافه فانماث انمياثا، انتهى.

و كان المراد هنا بالتهمة أن يقول فيه ما ليس فيه مما يوجب شينه، و يحتمل أن يشمل سوء الظن أيضا، و من في‏

قوله" من قلبه"

 (2) إما بمعنى في كما في قوله تعالى:

" إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ" أو ضمن فيه معنى الذهاب أو الزوال و نحوه، و يحتمل التعليل لأن ذلك بسبب فساد قلبه، و قيل: إنما قال كذلك للتنبيه على فساد قلبه حتى أنه ينافي الإيمان و يوجب فساده.

 (الحديث الثاني)

 (3): مرسل مجهول.

و قوله: في دينه‏

 (4)، يحتمل تعلقه بالأخوة أو بالتهمة و الأول أظهر كما مر، و على الثاني التهمة بترك شي‏ء من الفرائض أو ارتكاب شي‏ء من المحارم، لأن الإتيان بالفرائض و الاجتناب عن المحارم من الدين كما أن القول الحق و التصديق به من الدين‏

" فلا حرمة بينهما"

 (5) أي حرمة الإيمان، كناية عن سلبه، و الحاصل أنه انقطعت علاقة الأخوة و زالت الرابطة الدينية بينهما، في القاموس: الحرمة بالضم و بضمتين و كهمزة ما لا يحل انتهاكه، و الذمة و المهابة و النصيب" وَ مَنْ يُعَظِّمْ‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 15

حُرُماتِ اللَّهِ" أي ما وجب القيام به و حرم التفريط فيه.

" بمثل ما عامل به الناس"

 (1) أي المخالفين أو الأعم منهم و من فساق الشيعة، و ممن لا صداقة و أخوة بينهما" و التسوية في المعاملة" بأن يربح عليهما على حد سواء، و لا يخص أخاه بالرعاية و المسامحة و ترك الربح أو تقليله، و شدة النصيحة و حفظ حرمته في الحضور و الغيبة و المواساة معه، و أمثال ذلك مما هو مقتضى الأخوة كما فصل في الأخبار الكثيرة.

" فهو بري‏ء ممن ينتحل"

 (2) أي من يجعل هو أو أخوه ولايتهم نحلة و مذهبا و هم الرب سبحانه و رسوله و الأئمة عليهم السلام، و الظاهر أن المستتر في ينتحل راجع إلى العامل لا إلى الأخ تعريضا بأنه خارج من الدين فإن الانتحال ادعاء ما ليس له و لم يتصف به، في القاموس: انتحله و تنحله ادعاه لنفسه و هو لغيره، و في أكثر النسخ مما ينتحل و هو أظهر، فالمراد بما ينتحل التشيع أو الأخوة.

 (الحديث الثالث)

 (3): مرسل.

" ضع أمر أخيك"

 (4) أي احمل ما صدر من أخيك من قول أو فعل على أحسن محتملاته و إن كان مرجوحا من غير تجسس حتى يأتيك منه أمر لا يمكنك تأويله فإن الظن قد يخطئ و التجسس منهي عنه كما قال تعالى:" إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ" و قال:" وَ لا تَجَسَّسُوا".

و قوله: و ما يغلبك‏

 (5)، في بعض النسخ بالغين‏

فقوله منه‏

 (6) متعلق بيأتيك، أي حتى يأتيك من قبله ما يعجزك و لم يمكنك التأويل، و في بعض النسخ بالقاف من باب‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 16

ضرب كالسابق، أو من باب الأفعال فالظرف متعلق بيقلبك و الضمير للأحسن، و

قوله عليه السلام: و لا تظنن‏

 (1)، تأكيد لبعض أفراد الكلام أو السابق محمول على الفعل.

و هذه الجملة مروية في نهج البلاغة و فيه: من أحد، و محتملا، و الحاصل أنه إذا صدرت منه كلمة ذات وجهين وجب عليك أن تحملها على الوجه الخير و إن كان معنى مجازيا بدون قرينة أو كناية أو تورية أو نحوها، لا سيما إذا ادعاه القائل و من هذا القبيل ما سماه علماء العربية أسلوب الحكيم، كما قال الحجاج للقبعثري متوعدا له بالقيد: لأحملنك على الأدهم! فقال القبعثرى: مثل الأمير يحمل على الأشهب و الأدهم فأبرز وعيده في معرض الوعد، ثم قال الحجاج للتصريح بمقصوده أنه حديد، فقال القبعثرى: لأن يكون حديدا خير من أن يكون بليدا.

و قال الشهيد الثاني روح الله روحه و غيره ممن سبقه: اعلم أنه كما يحرم على الإنسان سوء القول في المؤمن و أن يحدث غيره بلسانه بمساوئ الغير، كذلك يحرم عليه سوء الظن و أن يحدث نفسه بذلك، و المراد من سوء الظن المحرم عقد القلب و حكمه عليه بالسوء من غير يقين، فأما الخواطر و حديث النفس فهو معفو عنه كما أن الشك أيضا معفو عنه، قال الله تعالى:" اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ" فليس لك أن تعتقد في غيرك سوءا إلا إذا انكشف لك بعيان لا يحتمل التأويل، و ما لم تعلمه ثم وقع في قلبك فالشيطان يلقيه، فينبغي أن تكذبه فإنه أفسق الفساق، و قد قال الله تعالى:" يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ" فلا يجوز تصديق إبليس، و من هنا جاء في الشرع أن من علمت في فيه رائحة الخمر لا يجوز أن تحكم عليه بشربها و لا يحده عليه لإمكان‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 17

أن يكون تمضمض به و مجه، أو حمل عليه قهرا و ذلك أمر ممكن، فلا يجوز إساءة الظن بالمسلم، و قد قال صلى الله عليه و آله و سلم: إن الله تعالى حرم من المسلم دمه و ماله و أن يظن به ظن السوء، فلا يستباح ظن السوء إلا بما يستباح به الدم أو المال، و هو بعين مشاهدة أو ببينة عادلة، فأما إذا لم يكن ذلك و خطر ذلك سوء الظن فينبغي أن تدفعه عن نفسك و تقرر عليها أن حاله عندك مستور كما كان، فإن ما رأيته فيه يحتمل الخير و الشر.

فإن قلت: فبما ذا يعرف عقد سوء الظن و الشكوك تختلج و النفس تحدث؟

فأقول: أمارة عقد سوء الظن أن تتغير القلب معه عما كان فينفر عنه نفورا لم يعهده و يستثقله و يفتر عن مراعاته و تفقده و إكرامه و الاهتمام بسببه، فهذه أمارات عقد الظن و تحقيقه، و قد قال عليه السلام: ثلاث في المؤمن لا يستحسن و له منهن مخرج فمخرجه من سوء الظن أن لا يحققه أي لا يحقق في نفسه بعقد و لا فعل لا في القلب و لا في الجوارح، أما في القلب فبتغيره إلى النفرة و الكراهة، و في الجوارح بالعمل بموجبه و الشيطان قد يقرر على القلب بأدنى مخيلة مساءة الناس، و يلقى إليه أن هذا من فطنتك و سرعة تنبهك و ذكائك، و أن المؤمن ينظر بنور الله و هو على التحقيق ناظر بغرور الشيطان و ظلمته.

فأما إذا أخبرك به عدل فمال ظنك إلى تصديقه كنت معذورا لأنك لو كذبته لكنت جافيا على هذا العدل إذ ظننت به الكذب، و ذلك أيضا من سوء الظن، فلا ينبغي أن تحسن الظن بالواحد و تسي‏ء بالآخر، نعم ينبغي أن تبحث هل بينهما عداوة و محاسدة و مقت فيتطرق التهمة بسببه؟ و قد رد الشرع شهادة العدو على عدوه للتهمة، فلك عند ذلك أن تتوقف في إخباره و إن كان عدلا و لا تصدقه و لا تكذبه و لكن تقول المستور حاله كان في ستر الله عني، و كان أمره محجوبا و قد بقي كما كان لم ينكشف لي شي‏ء من أمره.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 18

و قد يكون الرجل ظاهر العدالة و لا محاسدة بينه و بين المذكور، و لكن يكون من عادته التعرض للناس و ذكر مساويهم، فهذا قد يظن أنه عدل و ليس بعدل، فإن المغتاب فاسق و إذا كان ذلك من عادته ردت شهادته إلا أن الناس لكثرة الاعتياد تساهلوا في أمر الغيبة و لم يكترثوا بتناول أعراض الخلق، و مهما خطر ذلك خاطر سوء على مسلم فينبغي أن تزيد في مراعاته و تدعو له بالخير، فإن ذلك يغيظ الشيطان و يدفعه عنك، فلا يلقى إليك الخاطر السوء خيفة من اشتغالك بالدعاء و المراعاة.

و مهما عرفت هفوة مسلم بحجة فانصحه في السر و لا يخدعنك الشيطان فيدعوك إلى اغتيابه، و إذا وعظته فلا تعظه و أنت مسرور باطلاعك على نقصه لينظر إليك بعين التعظيم و تنظر إليه بعين الاستصغار، و ترتفع عليه بدلالة الوعظ و ليكن قصدك تخليصه من الإثم و أنت حزين كما تحزن على نفسك إذا دخل عليك نقصان، و ينبغي أن يكون تركه ذلك من غير نصيحتك أحب إليك من تركه بالنصيحة، و إذا أنت فعلت ذلك لكنت جمعت بين أجر الواعظ و أجر الغم بمصيبته و أجر الإعانة له على دينه.

و من ثمرات سوء الظن التجسس فإن القلب لا يقنع بالظن و بطلب التحقيق فيشتغل بالتجسس و هو أيضا منهي عنه، قال الله:" وَ لا تَجَسَّسُوا" فالغيبة و سوء الظن و التجسس منهي عنها في آية واحدة، و معنى التجسس أنه لا تترك عباد الله تحت ستر الله فتتوصل إلى الاطلاع و هتك الستر حتى ينكشف لك ما لو كان مستورا عنك لكان أسلم لقلبك و دينك، انتهى.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 19

باب من لم يناصح أخاه المؤمن‏

 (1)

 (الحديث الأول)

 (2): مجهول.

" فلم يناصحه"

 (3) و في بعض النسخ فلم ينصحه أي لم يبذل الجهد في قضاء حاجته و لم يهتم بذلك و لم يكن غرضه حصول ذلك المطلوب، قال الراغب: النصح تحري قول أو فعل فيه صلاح صاحبه، انتهى.

و أصله الخلوص و هو خلاف الغش و قد مر تحقيقه مرارا، و يدل على أن خيانة المؤمن خيانة لله و الرسول.

 (الحديث الثاني)

 (4): موثق.

 (الحديث الثالث)

 (5): مجهول.

و في القاموس:

الجهد

 (6) الطاقة، و يضم و المشقة، و أجهد جهدك أي أبلغ غايتك‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 20

و جهد كمنع جد كاجتهد،

قوله: من لدن أمير المؤمنين‏

 (1)، يحتمل أن يكون المراد بهم الأئمة عليهم السلام كما مر في الأخبار الكثيرة تفسير المؤمنين في الآيات بهم عليهم السلام فإنهم المؤمنون حقا الذين يؤمنون على الله فيجيز أمانهم، و أن يكون المراد ما يشمل سائر المؤمنين، و أما خيانة الله فلأنه خالف أمره و ادعى الإيمان و لم يعمل بمقتضاه و خيانة الرسول و الأئمة عليهم السلام لأنه لم يعمل بقولهم، و خيانة سائر المؤمنين لأنهم كنفس واحدة و لأنه إذا لم يكن الإيمان سببا لنصحه فقد خان الإيمان و استحقره و لم يراعه و هو مشترك بين الجميع فكأنه خانهم جميعا.

 (الحديث الرابع)

 (2): ضعيف.

" و كان الله خصمه"

 (3) أي يخاصمه من قبل المؤمن في الآخرة أو في الدنيا أيضا فينتقم له فيهما.

 (الحديث الخامس)

 (4): مجهول.

و في المصباح‏

شرت‏

 (5) العسل أشوره شورا من باب قال جنيته، و شرت الدابة شورا عرضته للبيع، و شاورته في كذا و استشرته راجعته لأرى فيه رأيه، فأشار علي بكذا أراني ما عنده فيه من المصلحة، فكانت إشارته حسنة و الاسم المشورة، و فيه لغتان سكون الشين و فتح الواو، و الثانية ضم الشين و سكون الواو و زان معونة، و يقال هي من شار إذا عرضه في المشوار، و يقال: من أشرت العسل، فشبه حسن النصيحة

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 21

بشري العسل، و تشاور القوم و اشتوروا و الشورى اسم منه.

" فلم يمحضه"

 (1) من باب منع أو من باب الأفعال، في القاموس: المحض اللبن الخالص، و محضه كمنعه سقاه المحض كأمحضه، و أمحضه الود أخلصه كمحضه و الحديث صدقه و الأمحوضة النصيحة الخالصة، و

قوله: محض الرأي‏

 (2)، إما مفعول مطلق أو مفعول به، و في المصباح الرأي العقل و التدبير، و رجل ذو رأي أي بصيرة.

 (الحديث السادس)

 (3): موثق و قد مر باختلاف في أول السند.

باب خلف الوعد

 (4)

 (الحديث الأول)

 (5): حسن كالصحيح.

قال الراغب:

الوعد

 (6) يكون في الخير و الشر، يقال: وعدته بنفع و ضر وعدا و موعدا و ميعادا، و الوعيد في الشر خاصة يقال منه: أوعدته، و يقال واعدته و تواعدنا و قال:

النذر

 (7) أن توجب على نفسك ما ليس بواجب يقال: نذرت لله نذرا، و قال الجوهري: الوعد يستعمل في الخير و الشر قال الفراء: يقال وعدته خيرا و وعدته شرا، فإذا أسقطوا الخير و الشر قالوا في الخير الوعد و العدة، و في الشر الإيعاد و الوعيد، قال الشاعر

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 22

         و إني و إن أوعدته أو وعدته             لمخلف إيعادي و منجز موعدي‏

 فإن أدخلوا الباء في الشر جاءوا بالألف، يقال: أوعدني بالسجن، و العدة الوعد و الهاء عوض عن الواو، و يجمع على عدات، و لا يجمع الوعد، انتهى.

فقوله عليه السلام: نذر أي كالنذر في جعله على نفسه أو في لزوم الوفاء به و هو أظهر، و عدم الكفارة الظاهر أنه للتغليظ كاليمين الغموس أو للتخفيف و هو بعيد.

" فيخلف الله بدءا"

 (1) لأن الله أخذ على العباد العهد بأن يعملوا بأوامره و ينتهوا عما نهى عنه، و لما أمر بالوفاء بالعهد و نهى عن الخلف عنه فمن أراد خلف العهد خالف الله فيما عاهده عليه، و إن كان معفوا مع عدم الفعل‏

" و لمقته"

 (2) أي غضبه سبحانه" تعرض".

و أما الآية فقال الطبرسي (ره): قيل إن الخطاب للمنافقين و هو تقريع لهم بأنهم يظهرون الإيمان و لا يبطنونه، و قيل: إن الخطاب للمؤمنين و تعيير لهم أن يقولوا شيئا و لا يفعلونه، قال الجبائي: هذا على ضربين: أحدهما أن يقول سأفعله و من عزمه أن لا يفعل و هو قبيح مذموم، و الآخر أن يقول سأفعل و من عزمه أن يفعله و المعلوم أن لا يفعله فهذا قبيح لأنه لا يدري أ يفعله أم لا، و ينبغي في مثل هذا أن يقرن بلفظ إنشاء الله‏

" كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ"

 (3). أي كبر هذا القول و عظم مقتا عند الله و هو

أن تقولوا ما لا تفعلونه‏

 (4) و قيل: معناه كبر أن تقولوا ما لا تفعلونه و تعدوا من أنفسكم ما لا تفون به مقتا عند الله.

و قال البيضاوي: روي أن المسلمين قالوا لو علمنا أحب الأعمال إلى الله لبذلنا فيه أموالنا و أنفسنا، فأنزل" إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ" قولوا يوم أحد فنزلت:" كَبُرَ مَقْتاً" المقت أشد الغضب و نصبه على التميز للدلالة على أن قولهم‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 23

هذا مقت خالص كبير عند من يحقر عنده كل عظيم، مبالغة في المنع عنه.

و قال الرازي: منهم من قال هذه الآية في حق جماعة من المؤمنين و هم الذين أحبوا أن يعملوا بأحب الأعمال إلى الله تعالى، فأنزل الله تعالى:" يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى‏ تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ" الآية،" و إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ" فأحبوا الجهاد و تولوا يوم أحد، فأنزل الله تعالى:" لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ" و قيل: في حق من يقول قاتلت و لم يقاتل، و طعنت و لم يطعن، و فعلت و لم يفعل، و قيل: أنها في حق أهل النفاق في القتال لأنهم تمنوا القتال، فلما أمر الله تعالى به" قالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ" و قيل: أنها في حق كل مؤمن لأنهم قد اعتقدوا الوفاء بما وعدهم الله من الطاعة و الاستسلام و الخضوع و الخشوع، فإذا لم يوجد الوفاء بما وعدهم الله خيف عليهم، انتهى.

و أقول: الآية تحتمل وجوها بحسب ظاهر اللفظ:

الأول: ما يظهر من هذا الخبر من أنها في التعيير على خلف الوعد من الناس، و يؤيده ما روي في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين عليه السلام حيث قال: و الخلف يوجب المقت عند الله و الناس، قال الله سبحانه:" كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ" فيكون على سبيل القلب، و يكون المعنى لم لا تفعلون ما تقولون، أو يقال: النهي المفهوم من الآية يتوجه إلى القيد، و هو عدم الفعل كما إذا قال: لا تأتني راكبا فإن النهي يتوجه إلى الركوب، أو يكون محمولا على وعد لا يكون صاحبه عند الوعد عازما على الفعل، فيكون مشتملا على نوع من التدليس و الكذب، و الأول أظهر و هذا النوع من الكلام شائع.

الثاني: أن يكون المراد بها ذم مخالفة عهود الله و مواثيقه، كما هو ظاهر

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 24

بعض ما تقدم من قول المفسرين، و يحتمل أيضا الوجهين السابقين بأن يكون الذم على عدم الفعل أو على القول مع عدم إرادة الفعل، و يؤيده ما ذكر علي بن إبراهيم (ره) حيث قال: مخاطبة لأصحاب رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم الذين وعدوه أن ينصروه و لا يخالفوا أمره، و لا ينقضوا عهده في أمير المؤمنين عليه السلام، فعلم الله أنهم لا يفون بما يقولون، فقال:" لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ" الآية، فقد سماهم الله مؤمنين بإقرارهم و إن لم يصدقوا.

الثالث: أن يكون المراد أعم من عهود الله و عهود الخلق فلا ينافي هذا الخبر، و به يجمع بين الأخبار، و خصوص أخبار النزول لا ينافي عموم الحكم.

الرابع: أن يكون المعنى لم تقولون للناس و تأمرونهم بما لا تعملون به فيكون نظير قوله سبحانه:" أَ تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ" و هذا المعنى ليس ببعيد من الآية، و إن لم يذكره المفسرون و هو أيضا يرجع إلى ذم عدم الفعل لا القول، فإن بذل العلم واجب و العمل به أيضا واجب، فمن تركهما ترك واجبين، و من أتى بأحدهما فقد فعل واجبا، لكن ترك العمل مع القول أقبح و أشنع و قد مر بعض القول فيه.

 (الحديث الثاني)

 (1): حسن كالصحيح.

" من كان يؤمن بالله"

 (2) يحتمل أن يكون على وفق سائر الأوامر و النواهي المتوجهة إلى المؤمنين لكونهم المنتفعين بها، و يمكن أن يكون إشارة إلى أن ذلك مقتضى الإيمان و من لوازمه، فمن لم يفعل ذلك فليس بمؤمن، و قيل: أن إدخال كان على المضارع لإفادة استمراره في الماضي، فيدل على أن خلف الوعد يوجب‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 25

إبطال الإيمان و كماله فيما سبق.

ثم اعلم أن هذين الحديثين مع قوة سندهما يدلان على وجوب الوفاء بالوعد، و الخبر الأول فيه تهديد شديد، و يدل على نزول الآية في خلف الوعد و هي مشتملة على تأكيدات و مبالغات، فالآية بتوسط الخبر المعتبر تدل أيضا على وجوب الوفاء به.

فإن قيل: الآية لما كانت محتملة لوجوه شتى فالاستدلال بالآية مع قطع النظر عن الخبر مشكل لا سيما و قد ورد في الأخبار الخاصية و العامية أنها في المنافقين و المخالفين، فالاستدلال إنما هو بالخبر؟

قلت: لا يبعد ادعاء ظهور الآية بإطلاقها أو بعمومها لا سيما مع كون" ما" موصوفة فيما يشمل خلف الوعد أيضا، و قد عرفت أن خصوص سبب النزول لا يصير سببا لخصوص الحكم، فظهر أنه يمكن الاستدلال بالآية مع قطع النظر عن الخبر أيضا، و ظاهر أكثر أصحابنا استحباب الوفاء به إن لم يكن في ضمن عقد لازم، و يدل على الوجوب أيضا ما مر في كثير من الأخبار أنه من صفات الإيمان، و إن خلفه من صفات النفاق.

و قد مر في باب أصول الكفر أنه سئل الصادق عليه السلام: رجل على هذا الأمر إن حدث كذب و إن وعد أخلف و إن ائتمن خان ما منزلته؟ قال: هي أدنى المنازل من الكفر و ليس بكافر، و في الباب المذكور عنه عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم:

ثلاث من كن فيه كان منافقا و إن صام و صلى و زعم أنه مسلم، من إذا ائتمن خان، و إذا حدث كذب، و إذا وعد أخلف، و قد روي أيضا في الموثق و غيره عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من عامل الناس فلم يظلمهم و حدثهم فلم يكذبهم، و وعدهم فلم يخلفهم، كان ممن حرمت غيبته و كملت مروته، و ظهر عدله و وجبت إخوته.

فيدل على أن من أخلف الوعد تجوز غيبته، و معلوم أنه ليس تجويز

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 26

الغيبة هنا إلا من جهة الفسق.

فإن قيل: المترتب على هذه الصفات أربعة أمور مفهومه أن مع عدم كل من تلك الخصال لا تجتمع تلك الأربعة، فلعل ذلك بانتفاء أمر آخر سوى حرمة الغيبة.

قلت: الظاهر من العطف استقلال كل في الحكم، كما إذا قلت جاء زيد و عمرو، كان بمنزلة قولك جاء زيد و جاء عمرو، و كون الواو بمعنى مع نادر.

ثم اعلم أنه لا بد من تقييد الخبر بما إذا لم يرتكب سائر الكبائر، بل المقصود في الخبر إفادة المفهوم لا المنطوق فافهم، و الأخبار في ذلك كثيرة و يستفاد من عموم كثير من الآيات أيضا ذلك نحو قوله سبحانه:" وَ أَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا" و يشمل بعمومه أو إطلاقه عهود الخلق أيضا، و العهد و الوعد متقاربان، و قوله:" وَ الْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا".

و روى الصدوق في الخصال بإسناده عن عنبسة بن مصعب قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: ثلاثة لم يجعل الله تعالى لأحد فيه رخصة: بر الوالدين برين كانا أو فاجرين، و الوفاء بالعهد للبر و الفاجر، و أداء الأمانة للبر و الفاجر.

و يؤيدها أيضا أخبار كثيرة كما روى الكليني عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إذا قال الرجل للرجل هلم أحسن بيعك يحرم عليه الربح، و قد ورد في أخبار صحيحة و غير صحيحة: المسلمون عند شروطهم إلا ما خالف كتاب الله، و ليس فيها التقييد بكونها في ضمن العقد، و كذا ما روى الشيخ في التهذيب بإسناده عن إسحاق بن عمار عن أبي جعفر عن أبيه عليهما السلام أن عليا عليه السلام كان يقول: من شرط لامرأته شرطا فليف به، فإن المسلمين عند شروطهم إلا شرطا حرم حلالا، أو أحل حراما.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 27

و قد يستدل على الجواز بما رواه الكليني (ره) بإسناده عن الحسين بن المنذر قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: يجيئني الرجل فيطلب العينة فأشتري له المتاع مرابحة ثم أبيعه إياه ثم أشتريه منه مكاني؟ قال: إذا كان بالخيار إن شاء باع و إن شاء لم يبع، و كنت أنت بالخيار إن شئت اشتريت و إن شئت لم تشتر فلا بأس.

و بإسناده عن خالد بن الحجاج قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: الرجل يجي‏ء فيقول: اشتر هذا الثوب و أربحك كذا و كذا، قال: أ ليس إن شاء ترك و إن شاء أخذ؟

قلت: بلى قال: لا بأس به، إنما يحل الكلام و يحرم الكلام.

و بإسناده أيضا عن معاوية بن عمار قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: يجيئني الرجل فيطلب مني بيع الحرير و ليس عندي منه شي‏ء فيقاولني عليه و أقاوله في الربح و الأجل حتى نجتمع على شي‏ء، ثم أذهب فأشتري له الحرير فأدعوه إليه؟

فقال: أ رأيت إن وجد بيعا هو أحب إليه مما عندك أ يستطيع أن ينصرف إليه و يدعك أو وجدت أنت ذلك أ تستطيع أن تنصرف إليه و تدعه؟ قلت: نعم قال:

لا بأس.

و روي مثله باختلاف يسير بأسانيد كثيرة.

و وجه الاستدلال بها أنها تدل على أن محض المواعدة بينهما لا يوجب الوفاء من الجانبين ما لم يكن بيعه وكالة عنه.

و الجواب أنه يحتمل أن يكون المعنى أنها ليست مواعدة حتمية بل يقول اشتر لنفسك إن شئت اشتريته منك و إلا فلا، لكنه بعيد.

و أقول: يمكن أن يستدل بما ورد في الأيمان و النذور من أنه مع عدم التلفظ.

بالصيغة بشرائطها لا يلزمه الوفاء بها، و ظاهره شمولها لما إذا وقعت المواعدة بينهما و يمكن أن يستدل عليه بما رواه الكليني (ره) عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 28

إسماعيل بن مرار عن يونس في المدبر و المدبرة يباعان يبيعهما صاحبهما في حياته فإذا مات فقد عتقا، لأن التدبير عدة و ليس بشي‏ء واجب، فإذا مات كان المدبر من ثلثه الذي يتركه، و فرجها حلال لمولاها الذي دبرها، و للمشتري الذي اشتراها حلال بشرائه قبل موته، فإن الظاهر أنه فرع كون عدم الوجوب على كونه عدة فيدل على أنه لا يجب الوفاء بها.

و يرد عليه وجوه من الإيراد: الأول: إن الخبر مجهول بابن مرار فلا يمكن إثبات نفي الوجوب به.

الثاني: أنه موقوف لم يسنده إلى إمام و يشبه أن يكون من اجتهادات يونس و تلفيقاته كما هو دأبه في أكثر المواضع، و لذا كان المحدثون يقدحون فيه مع جلالته بالاجتهاد و الرأي، و تشويش الكلام يدل عليه أيضا.

الثالث: إن ما تضمنه من حكم التدبير خلاف المشهور بين الأصحاب لا سيما المتأخرين.

الرابع: أن قوله: عدة معلوم أنه ليس بمحمول على الحقيقة، بل هو على التشبيه و المجاز، فإن التدبير إما عتق بشرط أو وصية بالعتق باتفاق الخاصة و العامة و ليس شي‏ء منهما وعدا، بل الوعد ما يعده الرجل أن يفعله بنفسه، فيمكن أن يكون التشبيه من جهة أنه لا يترتب عليه حكمه الآن، بل يتوقف على حلول الأجل.

الخامس: سلمنا أن الحمل على الحقيقة لا نسلم كون عدم الوجوب تفريعا بل يمكن أن يكون تقييدا له.

السادس: أنه لو سلمنا أنه تفريع فالتفريع من جهة أنه لا يترتب عليه حكم العتق قبل الأجل و إلا لكان الكلام متناقضا، و نحن لا نقول في الوعد أنه يجب الوفاء به قبل محله بل نرجع و نستدل به على وجوب الوفاء بالوعد لأنه فرع وجوب التدبير و لزومه بعد الموت، على كونه عدة فالوفاء بالوعد بعد حلول الأجل واجب،

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 29

فظهر أن مفاد كلامه أن التدبير ليس عتقا منجزا لا يمكن التصرف في المدبر، قبل حلول الأجل الذي هو الموت، بل هو عدة أي معلق على شرط و ليس بشي‏ء واجب أي لازم منجز يترتب عليه حكمه عند إيقاعه، بل يتوقف على حصول شرطه فلا دلالة له على عدم وجوب الوفاء بالوعد، بل دلالته على الوجوب أقرب، و بقي في زوايا المقام خبايا أحلناها على فهم المتأمل.

و قد يستدل على عدم الجواز بأنه كذب و هو قبيح و حرام، و عندي فيه نظر لا لما قيل أن الكذب لا يكون إلا في الماضي أو الحال و لا يكون في المستقبل، فإنه سخيف فإن المنكر للمعاد لا ريب أنه كاذب، و المنجم إذا أخبر بوقوع أمر في المستقبل و لم يقع يقال: أنه كاذب، و يصدق عليه تعريف الكذب، بل لأن الوعد ليس من هذا القبيل بل هو معاملة تجري بين المتواعدين، فإن المولى إذا قال لعبده إذا فعلت الفعل الفلاني أعطيتك درهما و إذا فعلت الفعل الفلاني ضربتك سوطا ليس المراد به الإخبار من وقوع أحد الأمرين بل هو إلزام أمر عليه أو على نفسه، و إن علم أنه لا يوقعه كالبيع و الشراء و البيعة، فإنها إنشاء أمر يوجب عليه متابعة من بايعه لا محض الإخبار عن ذلك، فإنا نجد الفرق بين أن يعد زيد عمروا أن يعطيه درهما أو بأن يخبر بأن سيعطيه درهما لكن ليس من إنشاء إلا و يلزمه خبر يجري فيه الصدق و الكذب، فما ورد من نسبة الصدق إلى الوعد من هذا القبيل، كقوله تعالى:" إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ" فإذا خالف الوعد فليس هذا من الكذب المصطلح في شي‏ء، نعم إذا وعده و كان عازما على عدم الوفاء كان كذبه في لازم الإنشاء، فإن الوعد يدل ضمنا على أنه عازم على عدم الوفاء كان كذبه في لازم الإنشاء، فإن الوعد يدل ضمنا على أن عازم على الوفاء، كما أن أضرب يدل على أنه يريد إيقاع الضرب و ليس مدلول الوعد الإخبار عن أنه عازم على أن يفعل ذلك، و حرمة هذا الكذب الضمني في محل المنع، و كذا شمول الآيات و الأخبار الدالة على حرمة الكذب له ممنوع.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 30

و لو سلم فلا يدل على حرمة الخلف مطلقا قال الراغب: الصدق و الكذب أصلهما في القول ماضيا كان أو مستقبلا، وعدا كان أو غيره، و لا يكونان بالقصد الأول إلا في القول، و لا يكون من القول إلا في الخبر دون غيره من أصناف الكلام، و لذلك قال:" وَ مَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا"" وَ مَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً"" وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ" و قد يكونان بالعرض في غيره من أنواع الكلام الاستفهام و الأمر و الدعاء و ذلك، نحو قول القائل: أ زيد في الدار؟ فإن في ضمنه أخبارا بكونه جاهلا بحال زيد، و كذا إذا قال. واسني، في ضمنه أنه محتاج إلى المواساة، و إذا قال: لا تؤذني ففي ضمنه أنه يؤذيه، و قد يستعمل الصدق و الكذب في كل ما يحق و يحصل في الاعتقاد، نحو صدق ظني و كذب، و يستعملان في أعمال الجوارح فيقال: صدق في القتال إذا و في حقه، و فعل على ما يجب و كما يجب، و كذب في القتال إذا كان على خلاف ذلك، قال الله تعالى:" رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ" أي حققوا العهد بما أظهروه من أفعالهم، انتهى.

فقد تبين أن للصدق و الكذب معاني غير المعنى المصطلح، فنسبة الصدق و الكذب إلى الوعد محمول على بعض تلك المعاني المجازية، فظهر أن حسن الوفاء بالوعد أو وجوبه ليس من جهة أن مخالفته تستلزم الكذب حتى يقال: أن ذلك يجري في الوعيد أيضا، و يجاب بأن الكذب في المصلحة حسن، بل من جهة أن العقل يحكم بحسن الوفاء بالعهد أو بقبح خلفه، و يحكم في الوعيد بخلاف ذلك، و كذلك‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 31

الكلام في وعده سبحانه و وعيده، لكن مخالفة الوعد فيه تعالى محال لأخباره بأنه لا يخلف الميعاد، بخلاف الوعيد فإنه لم يقل أنه لا يخلف الوعيد بل وعد عباده بالعفو و الصفح و المغفرة، و ليس ذلك من الكذب في شي‏ء، هذا ما تبين لي في هذا المقام لكن ظاهر المحققين من أصحابنا و المخالفين أن الوعد من نوع الخبر و هو محتمل للصدق و الكذب و كذا الوعيد، مع أن ظاهر أكثر أصحابنا أن الوفاء بالوعد مستحب كما قالوا في كثير من الشروط إذا لم يكن في ضمن العقد اللازم هو وعد يستحب الوفاء به، و لنذكر بعض كلماتهم:

قال السيد الشريف في حاشية شرح التخليص: الخبر إذا قيد حكمه بزمان أو قيد آخر كان صدقه بتحقق حكمه في ذلك الزمان أو مع ذلك القيد، و كذبه بعدمه فيه أو معه، و إذا لم يقيد فصدقه بتحققه في الجملة، و كذبه بمقابله، فإذا قلت أضرب زيدا و أردت الاستقبال فإن تحقق ضربك إياه في وقت من الأوقات المستقبلة كان صادقا و إلا فكاذبا، و كذلك إذا قلت أضربه يوم الجمعة أو قائما فلا بد في صدقه من تحقق ضربك إياه و تحقق ذلك القيد معه، فإن لم يضربه أو ضربه في غير حالة القيام كان كاذبا، و كذلك إذا كان القيد ممتنعا كقولك اضربه في زمان لا يكون ماضيا و لا حالا و لا مستقبلا، فالخبر يكون كاذبا.

و بالجملة انتفاء القيد سواء كان ممتنعا أو غير ممتنع يوجب انتفاء المقيد من حيث هو مقيد فيكذب الخبر الذي يدل عليه، و كيف لا و قولك أضربه يوم الجمعة أو قائما مشتمل على وقوع الضرب منك عليه، و على كون ذلك الضرب واقعا يوم الجمعة أو مقارنا للقيام، فلو فرض انتفاء القيام مثلا لم يكن الضرب المقارن له موجودا فينتفى مدلول الخبر، فيكون كاذبا سواء وجد منك ضرب في حال غير القيام أو لم يوجد، انتهى.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 32

و هذا لا دلالة فيه على كون الوعد خبرا بل إنما يدل على أنه يمكن تعلق الخبر بالمستقبل و لا ريب فيه، و إن زعم بعضهم اختصاصه بالماضي و الحال كما عرفت و الخبر عن الآتي لا ينحصر في الوعيد و الوعد، بل يمكن أن يكون الغرض فيه محض الإخبار.

و إنما أوردت ذلك لئلا يتوهم متوهم أنه يمكن الاستدلال به و إن كان لا حجة في قوله، و لتستعين به على فهم بعض ما سيأتي من الوجوه في بعض الآيات.

و قال في شرح المقاصد: تمسك القائلون بجوار العفو عقلا و امتناعه سمعا بالنصوص الواردة في وعيد الفساق و أصحاب الكبائر، فلو تحقق العفو و ترك العقوبة بالنار لزم الخلف في الوعيد و الكذب في الإخبار، و اللازم باطل فكذا الملزوم، و أجيب: بأنهم داخلون في عمومات الوعد بالثواب و دخول الجنة على ما مر، و الخلف في الوعد لؤم لا يليق بالكريم وفاقا، بخلاف الخلف في الوعيد فإنه ربما يعد كرما.

ثم ساق الكلام إلى أن قال: نعم لزوم الكذب بإخبار الله تعالى مع الإجماع على بطلانه و لزوم تبديل القول مع النص الدال على انتفائه مشكل، فالجواب الحق أن من تحقق العفو في حقه يكون خارجا عن عموم اللفظ بمنزلة التائبين.

فإن قيل: صيغة العموم المعرية عن دليل الخصوص يدل على إرادة كل فرد مما يتناوله التنصيص عليه باسم الخاص، فإخراج البعض بدليل متراخ يكون نسخا و هو لا يجري في الخبر للزوم الكذب، و إنما التخصيص هو الدلالة على أن المخصوص غير داخل في العموم و لا يكون ذلك إلا بدليل متصل؟

قلنا: ممنوع بل إرادة الخصوص من العام و التقييد من المطلق شائع من غير دليل متصل، ثم دليل التخصيص و التقييد بعد ذلك و إن كان متراخيا بيان لا نسخ‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 33

و هذا هو المذهب عند الفقهاء الشافعية و القدماء من الحنفية، و كانوا ينسبون القول بخلاف ذلك إلى المعتزلة، إلا أن المتأخرين منهم تعدون ذلك نسخا و يخصون التخصيص بما يكون دليله متصلا و يجوزون الخلف في الوعيد، و يقولون الكذب يكون في الماضي دون المستقبل، و هذا ظاهر الفساد فإن الأخبار بالشي‏ء على خلاف ما هو كذب، سواء كان في الماضي أو في المستقبل، قال الله تعالى:" أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَ لا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً" ثم قال:" وَ اللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ، لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَ لَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ" على أن المذهب عندنا أن أخبار الله تعالى أزلي لا يتعلق بالزمان و لا يتغير المخبر به، على ما سبق في بحث الكلام.

ثم قال: و للإمام الرازي هنا جواب إلزامي و هو أن صدق كلامه لما كان عندنا أزليا امتنع كذبه، لأن ما ثبت قدمه امتنع عدمه، و أما عندكم فإنما امتنع كذبه لكونه قبيحا، و لم قلتم أن هذا الكذب قبيح و قد توقف عليه العفو الذي هو غاية الكرم، و هذا كمن أخبر أنه يقتل زيدا غدا ظلما، ففي الغد إما أن يكون الحسن قتله و هو باطل، و أما ترك قتله و هو الحق لكنه لا يوجد إلا عند وجود الكذب، و ما لا يوجد الحسن إلا عند وجوده حسن قطعا فهذا الكذب حسن قطعا.

و يمكن دفعه بأن الكذب في إخبار الله تعالى قبيح و إن تضمن وجوها من المصلحة، و توقف عليه أنواع من الحسن لما فيه من مفاسد لا تحصى، و مطاعن في الإسلام لا تخفى، منها مقال الفلاسفة في المعاد، و مجال الملاحدة في العناد، و منها بطلان ما وقع عليه الإجماع من القطع بوجود الكفار في النار، فإن غاية الأمر شهادة النصوص القاطعة بذلك و إذا جاز الخلف لم يبق القطع إلا عند شرذمة لا

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 34

يجوزون العفو عنهم في الحكمة، على ما يشعر به قوله تعالى:" أَ فَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ" و غير ذلك من الآيات.

و وجه التفرقة أن المعاصي قلما تخلو عن خوف عقاب و رجاء رحمة و غير ذلك من خيرات تقابل ما ارتكب من المعصية اتباعا للهوى، بخلاف الكافر، و أيضا الكفر مذهب و المذهب يعتقد للأبد و حرمته لا تحتمل الارتفاع أصلا، فكذلك عقوبته بخلاف المعصية فإنها لوقت الهوى و الشهوة، و أما من جوز العفو عقلا و الكذب في الوعيد إما قولا بجواز الكذب المتضمن لفعل الحسن، أو بأنه لا كذب بالنسبة إلى المستقبل، فمع صريح إخبار الله تعالى بأنه لا يعفو عن الكافر، و يخلده في النار، فجواز الخلف و عدم وقوع مضمون هذا الخبر محتمل، و لما كان هذا باطلا علم أن القول بجواز الكذب في إخبار الله تعالى باطل قطعا.

و قال المحقق الدواني في شرح العقائد: لا يجب الثواب عليه تعالى في الطاعة و لا العقاب على المعصية خلافا للمعتزلة و الخوارج، فإنهم أوجبوا عقاب صاحب الكبيرة إذا مات بلا توبة على الله تعالى، و حرموا عليه العفو، و استدلوا عليه بأن الله تعالى أوعد مرتكب الكبيرة بالعقاب، فلو لم يعاقب لزم الخلف في وعيده و الكذب في خبره، و هما محالان على الله تعالى.

و أجيب عنه: بأن غايته عدم وقوعه و لا يلزم منه الوجوب على الله تعالى، و اعترض عليه الشريف العلامة بأنه حينئذ يلزم جوازهما و هو محال، لأن إمكان المحال محال، و أجاب عنه بأن استحالتهما ممنوعة كيف و هما من الممكنات يشملهما قدرة الله تعالى عليهما.

قلت: الكذب نقص و النقص عليه تعالى محال، فلا يكون من الممكنات و لا يشملهما القدرة كسائر وجوه النقص عليه كالجهل و العجز و نفي صفة الكلام و غيرها

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 35

من صفات الكمال، بل الوجه في الجواب ما أشرنا إليه سابقا من أن الوعد و الوعيد مشروطتان بقيود و شروط معلومة من النصوص فيجوز التخلف بسبب انتفاء بعض تلك الشروط، و أن الغرض منهما إنشاء الترغيب و الترهيب.

على أنه بعد التسليم إنما يدل علي أن استحالة وقوع التخلف لا على الوجوب عليه، إذ فرق بين استحالة الوقوع و بين الوجوب عليه كما أن إيجاد المحال محال على الله تعالى، و لا يقال: أنه حرام عليه بل الوجوب و الحرمة و نحوهما فرع القدرة على الواجب و الحرام.

و اعلم أن بعض العلماء ذهب إلى أن الخلف في الوعيد جائز على الله تعالى، و ممن صرح به الواحدي في تفسير الوسيط في قوله تعالى في سورة النساء:" وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها" حيث قال: و الأصل في هذا أن الله تعالى يجوز أن يخلف الوعيد و إن كان لا يجوز أن يخلف الوعد و بهذا وردت السنة، ثم ذكر في ذلك أخبارا.

ثم قال: و قيل: إن المحققين على خلافه كيف و هو تبديل للقول و قد قال الله تعالى:" ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ" قلت: إن حمل آيات الوعيد على إنشاء التهديد، فلا خلاف لأنه حينئذ ليس خبرا بحسب المعنى و إن حمل على الإخبار كما هو الظاهر، فيمكن أن يقال بتخصيص المذنب المغفور عن عمومات الوعيد بالدلائل المفصلة و لا خلف على هذا التقدير أيضا فلا يلزم تبدل القول، و أما إذا لم نقل بأحد هذين الوجهين فيشكل التفصي عن لزوم التبدل و الكذب، إلا أن تحمل آيات الوعيد على استحقاق ما أوعد به لا على وقوعه بالفعل، و في الآية المذكورة إشارة إلى ذلك حيث قيل" فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها" انتهى.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 36

و قال الرازي في تفسير قوله تعالى:" بَلى‏ مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَ أَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ" اختلف أهل القبلة في وعيد أصحاب الكبائر فمن الناس من قطع بوعيدهم و هم فريقان، منهم من أثبت الوعيد المؤبد و هو قول جمهور المعتزلة و الخوارج، و منهم من أثبت وعيدا منقطعا، و من الناس من قطع بأنه لا وعيد لهم و هو قول شاذ، و القول الثالث إنا نقطع بأنه سبحانه يعفو عن بعض العصاة و عن بعض المعاصي، لكنا نتوقف في حق كل أحد على التعيين أنه هل يعفو عنه أم لا، و نقطع بأنه إذا عذب أحدا منهم فإنه لا يعذبه أبدا بل يقطع عذابه و هو قول أكثر الصحابة و التابعين و أهل السنة و الجماعة و أكثر الإمامية، و بسط الكلام في ذلك بما لا مزيد عليه و لا يناسب ذكرها في هذا المقام، و يرجع حاصل أجوبته عن دلائل الخصم إلى أن آيات العفو مخصصة و مقيدة لآيات العقاب.

و قال في قوله تعالى:" إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ" كلاما طويلا في ذلك ثم قال في آخر كلامه: فأما قولك إنه لو لم يفعل لصار كاذبا أو مكذبا نفسه، فجوابه أن هذا إنما يلزم لو كان الوعيد ثابتا جزما من غير شرط، و عندي جميع الوعيدات مشروط بعدم العفو، فلا يلزم من تكره دخول الكذب في كلام الله، انتهى.

و مما يدل على أنهم يعدونه خبرا أنهم يحكمون بوجوب الاستثناء فيما يعده الإنسان أو يخبر بإيقاعه، إما بالقول أو بالضمير، قال السيد المرتضى رضي الله عنه عند تأويل قوله تعالى:" وَ لَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ" الآية، فأما قول بعضهم أن ذنبه من حيث لم يستشهد بمشية الله لما قال: تلد كل واحدة منهن غلاما فهذا غلط، لأنه عليه السلام و إن لم يستثن ذلك فقد استثناه ضميرا و اعتقادا، إذ لو كان قاطعا مطلقا للقول‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 37

لكان كاذبا، أو مطلقا لما لا يأمن أن يكون كذبا، و ذلك لا يجوز عند من جوز الصغائر على الأنبياء.

و نحوه قال الشيخ الطبرسي قدس سره في تأويل تلك الآية، و هذا الكلام و إن كان فيما ظاهره الخبر لكن سيأتي منهما رضي الله عنهما ما يدل على أنهم لا يفرقون في ذلك بين الوعد و الخبر. و أقول: كلام كثير من أصحابنا جار هذا المجرى، و سلموا كون الوعد أو الوعيد خبرا فعلى هذا يشكل القول بجواز مخالفة الوعد من غير عذر و مصلحة، و أما الوعيد فتكون مخالفته من قبيل الكذب المجوز للمصلحة إذ لا خلاف في أن خلف الوعيد ليس بحرام بل هو حسن، فيكون جوازه مشروطا بمصلحة مجوزة للكذب، و القول بهذا أيضا مشكل فإن العبد إذا استحق من المولى تأديبا و أوعده ذلك من غير مصلحة في ذلك الوعيد، ثم عفا عنه يكون كذبا بغير مصلحة و حراما، و لا أظن أحدا قال بذلك إلا أن يقال العفو من الصفات الحسنة و الأفعال الجميلة، فإذا صادف الكذب يصير به حسنا، و فيه بعد.

و أيضا لو كان قبح خلف الوعد من جهة الكذب لزم إذا قال رجل أركب غدا مخبرا بذلك من غير أن يعد أحدا ثم بدا له و لم يركب أن يكون عاصيا، و لعله مما لم يقل به أحد، فالأولى جعلهما من قبيل الإنشاء لا الخبر، فلا يوصفان بالصدق و الكذب، و إطلاقهما عليهما على التوسع و المجاز.

و مما ينبه على ذلك أن الصدق و المكذب إنما يطلقان على ما يتصف بهما حين القول، لا ما يكون تصديقه و تكذيبه باختيار القائل، و ليس هذا دليلا و لكنه منبه و يمكن المناقشة فيه.

فإن قيل: لم لم يعد أهل العربية الوعد من أقسام الإنشاء؟ قلت: مدارهم على ذكر الإطلاقات اللغوية و مصطلحاتهم، و لذا لم يعدوا بعت و اشتريت و أنكحت‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 38

و آجرت و أمثالها من أنواع الإنشاء، لأنها من الحقائق الشرعية لا من الحقائق اللغوية.

قال الشهيد قدس سره: الإنشاء أقسام القسم و الأمر و النهي و الترجي و العرض و النداء قيل: و هذه تبنى على كونها إنشاء في الإسلام و الجاهلية، و أما صيغ العقود فالصحيح أنها إنشاء، و قال بعض العامة: هي أخبار على الوضع اللغوي و الشرع قدم مدلولاتها قبل النطق بها لضرورة تصديق المتكلم بها و الإضمار أولى من النقل، و هو تكلف.

ثم اعلم أنه على تقدير القول بالوجوب، فالظاهر أنه يستثنى منه أمور: الأول:

الاستثناء بالمشية، و قول إن شاء الله فإنه يحل النذور و الأيمان المؤكدة كما صرح به في الأخبار و يدل عليه قوله تعالى:" وَ لا تَقُولَنَّ لِشَيْ‏ءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ".

قال الطبرسي قدس سره قد ذكر في معناه وجوه: أحدها أنه نهي من الله لنبيه عليه و آله السلام أن يقول أفعل شيئا في الغد إلا أن يقيد ذلك بمشية الله تعالى، فيقول: إن شاء الله، قال الأخفش: و فيه إضمار القول، فتقديره إلا أن تقول إن شاء الله، فلما حذف تقول فقل إن شاء الله إلى لفظ الاستقبال، فيكون هذا تأديبا من الله لعباده و تعليما لهم أن يعلقوا ما يخبرون به بهذه اللفظة حتى يخرج عن حد القطع، فلا يلزمهم كذب أو حنث إذا لم يفعلوا ذلك لمانع، و هذا معنى قول ابن عباس.

و ثانيها: أن قوله أن يشاء الله بمعنى المصدر و تعلق بما تعلق به على ظاهره، و تقديره و لا تقولن إني فاعل شيئا غدا إلا بمشية الله، عن الفراء و هذا وجه حسن يطابق الظاهر، و لا يحتاج فيه إلى بناء الكلام على محذوف، و معناه لا تقل إني‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 39

أفعل إلا ما يشاء الله و يريده، و إذا كان الله تعالى لا يشاء إلا الطاعات فكأنه قال لا تقل إني أفعل إلا الطاعات، و لا يطعن على هذا بجواز الإخبار عما يفعل من المباحات التي لا يشاءها الله تعالى، لأن هذا النهي نهي تنزيه لا نهي تحريم، بدلالة أنه لو لم يقل ذلك لم يأثم بلا خلاف.

و ثالثها: أنه نهي عن أن يقول الإنسان سأفعل غدا و هو يجوز الاخترام قبل أن يفعل ما أخبر به فلا يوجد مخبره على ما أخبر به فهو كذب، و لا يأمن أيضا أن لا يوجد مخبره بحدوث شي‏ء من فعل الله تعالى نحو المرض و العجز، أو بأن يبدو له هو في ذلك فلا يسلم خبره من الكذب إلا بالاستثناء الذي ذكره الله تعالى، فإذا قال إني صائر غدا إلى المسجد إن شاء الله أمن من أن يكون خبره هذا كذبا لأن الله إن شاء أن يلجئه إلى المصير إلى المسجد غدا حصل المصير إليه منه لا محالة، فلا يكون خبره هذا كذبا و إن لم يوجد المصير منه إلى المسجد لأنه لم يوجد ما استثناه في ذلك من مشية الله تعالى عن الجبائي، و قد ذكرنا فيما قبل ما جاء في الرواية أن النبي صلى الله عليه و آله و سلم سئل عن قصة أصحاب الكهف و ذي القرنين فقال: أخبركم عنه غدا و لم يستثن فاحتبس عنه الوحي أياما حتى شق عليه، فأنزل الله هذه الآية يأمره بالاستثناء بمشية الله.

و قوله:" وَ اذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ" فيه وجهان أحدهما أنه كلام متصل بما قبله ثم اختلف في ذلك فقيل: معناه و اذكر ربك إذا نسيت الاستثناء ثم تذكرت فقل إنشاء الله، و إن كان بعد يوم أو شهر أو سنة عن ابن عباس، و قد روي ذلك عن أئمتنا عليهم السلام، و يمكن أن يكون الوجه فيه أنه إذا استثني بعد النسيان فإنه يحصل له ثواب المستثنى من غير أن يؤثر الاستثناء بعد انفصال الكلام في الكلام،

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 40

و في إبطال الحنث و سقوط الكفارة في اليمين و هو الأشبه بمراد ابن عباس في قوله، و قيل: فاذكر الاستثناء ما لم تقم من المجلس عن الحسن و مجاهد، و قيل: فاذكر الاستثناء إذا تذكرت ما لم ينقطع الكلام و هو الأوجه، و قيل: معناه و اذكر ربك إذا نسيت الاستثناء بأن تندم على ما قطعت عليه من الخبر عن الأصم، و الآخر أنه كلام مستأنف.

ثم قال (ره): قال السيد الأجل المرتضى قدس الله روحه: اعلم أن للاستثناء الداخل على الكلام وجوها مختلفة فقد يدخل في الأيمان و الطلاق و العتاق و سائر العقود و ما يجري مجراها من الإخبار، فإذا دخل في ذلك اقتضى التوقف عن إمضاء الكلام و المنع من لزوم ما يلزم به، و لذلك يصير ما يتكلم به كأنه لا حكم له، و كذلك يصح على هذا الوجه أن يستثني الإنسان في الماضي فيقول: قد دخلت الدار إن شاء الله ليخرج بهذا الاستثناء من أن يكون كلامه خبرا قاطعا أو يلزم به حكما، و إنما لم يصح دخوله في المعاصي على هذا الوجه، لأن فيه إظهار الانقطاع إلى الله تعالى و المعاصي لا يصح ذلك فيها.

و هذا الوجه أحد ما يحتمله تأويل الآية، و قد يدخل الاستثناء في الكلام و يراد به اللطف و التسهيل و هذا الوجه يختص بالطاعات، و لهذا جرى في قول القائل لأقضين غدا ما علي من الدين أو لأصلين غدا إنشاء الله مجرى أن يقول إني فاعل إن لطف الله فيه و سهلة، و متى قصد الحالف هذا الوجه لم يحنث إذا لم يقع منه الفعل أن يكون حانثا أو كاذبا لأنه إذا لم يقع منه الفعل علمنا أنه لم يلطف فيه لأنه لا لطف له.

و هذا الوجه لا يصح أن يقال في الآية لأنه يختص الطاعات و الآية تتناول كلما لم يكن قبيحا بدلالة إجماع المسلمين على حسن ما تضمنته في كل فعل لم يكن قبيحا.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 41

و قد تدخل الاستثناء في الكلام و يراد به التسهيل و الأقدار و التخلية و البقاء على ما هو عليه من الأحوال، و هذا هو المراد إذا دخل في المباحات.

و هذا الوجه يمكن في الآية، و قد يدخل استثناء المشية في الكلام و إن لم يرد به شي‏ء من المتقدم ذكره، بل يكون الغرض الانقطاع إلى الله من غير أن يقصد به إلى شي‏ء من هذه الوجوه، و يكون هذا الاستثناء أيضا غير معتد به في كونه كاذبا أو صادقا لأنه في الحكم كأنه قال: لا فعلن كذا إن وصلت إلى مرادي مع انقطاعي إلى الله و إظهاري الحاجة إليه.

و هذا الوجه أيضا يمكن في الآية و متى تأمل جملة ما ذكرناه من الكلام عرف به الجواب عن المسألة التي يسأل عنها من يذهب إلى خلاف العدل من قولهم:

لو كان الله تعالى إنما يريد الطاعات من الأعمال دون المعاصي لوجب إذا قال الذي عليه الدين و طالبه به: و الله لأعطينك حقك غدا إن شاء الله، أن يكون كاذبا أو حانثا إذا لم يفعل لأن الله قد شاء ذلك منه عندكم و إن كان لم يقع، و لكان يجب أن تلزمه به الكفارة و أن لا يؤثر هذا الاستثناء في يمينه، و لا يخرجه من كونه حانثا كما أنه لو قال: و الله لأعطينك حقك إن قام زيد فقام و لم يعطه فيكون حانثا، و في التزام هذا الحنث خروج عن الإجماع" انتهى" و سيأتي تمام الكلام فيه في الاستثناء بالمشية إن شاء الله.

و أقول: قد أطبق الأصحاب على أنه يجوز للحالف الاستثناء في يمينه بمشية الله، و المشهور أنه يقتضي عدم انعقاد اليمين، و فصل العلامة في القواعد فحكم بانعقاد اليمين مع الاستثناء إن كان المحلوف عليه واجبا أو مندوبا و إلا فلا، و مستند المشهور و إن كان ضعيفا لكنه منجبر بالشهرة بين الأمة، و أيضا ظاهرا لأكثر عدم الفرق بين قصد التعليق و التبرك، و ربما يقصر الحكم على التعليق، و أيضا المشهور أن الاستثناء إنما يكون باللفظ و استوجه في المختلف الاكتفاء بالنية و فيه نظر،

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 42

و ورد في الأخبار جواز الاستثناء إلى أربعين يوما، و لعله في العمل بالسنة لا التأثير في اليمين كما ذكره الطبرسي و سيأتي الكلام في جميع ذلك إن شاء الله.

و لا يبعد جريان جميع تلك الأحكام هنا بتقريب ما مر و كما يظهر من كلام السيد رضي الله عنه، و كما يومئ إليه الخبر: الأول: من تشبيهه بالنذر، الثاني: ما إذا كان الأمر الموعود حراما، فإنه لا ريب في عدم جواز الوفاء به و وجوب الخلف.

الثالث: إذا كان الأمر الموعود مرجوحا دينا أو دنيا فإنه لا يبعد جواز الخلف فيه، فإن اليمين و النذر و العهد مع كونها عدة مؤكدة مع الله و عهدا موثقا مقرونا باسمه سبحانه يجوز مخالفته فهذا يجوز الخلف فيه بطريق أولى، و أيضا يشمل تلك الأخبار ما يتضمن عدة لمؤمن أو مؤمنة، و قد ورد في أخبار كثيرة إذا رأيت خيرا من يمينك فدعها، و في بعضها إذا حلف الرجل على شي‏ء و الذي حلف عليه إتيانه خيرا من يمينك فدعها، و في بعضها إذا حلف الرجل على شي‏ء و الذي حلف عليه إتيانه خير من تركه فليأت الذي هو خير و لا كفارة عليه، و في خبر آخر من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فأتى ذلك فهو كفارة يمينه و له حسنة، فعلى هذا لو وعده فيما فعله مكروه أو خلافه مستحب يجوز له الخلف، و أما إذا كان خلافه راجحا بحسب الدنيا، فإن تضمن ضررا بدنيا بالنسبة إلى الواعد أو غيره من المؤمنين أو هتك عرض له بينا بالنسبة إلى الواعد فيجوز الخلف فيه، بل يجب في بعض الصور و إن تضمن ضررا ماليا قليلا لا يضر بحال الواعد، فالظاهر عدم جواز الخلف على تقدير الوجوب و إلا يلزم أن لا يجب الوفاء في الوعد بالمال أصلا.

نعم إذا تضمن تفويت مال بغير جهة شرعية كالسرقة و الغصب و فوت الغريم و نحو ذلك، فلا يبعد القول بالجواز كما جوزوا قطع الصلاة الواجبة له، بل جوز بعض الأصحاب ترك الحج أيضا لذلك، و جوزوا لذلك التيمم و ترك طلب الماء للطهارة.

                                                مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 43

الرابع: ما كان فعله راجحا دينا بحيث لا يصل إلى حد الوجوب و مرجوحا دنيا هل يجوز الخلف فيه؟ ظاهرا لأصحاب عدم جواز الخلف في اليمين، و يظهر من كثير من الأخبار الجواز كقول أبي عبد الله عليه السلام في صحيحة زرارة: كلما كان لك منفعة في أمر دين أو دنيا فلا حنث عليك، و قول أبي جعفر عليه السلام في موثقة زرارة: كل يمين حلفت عليها لك فيها منفعة في أمر دين أو دنيا فلا شي‏ء عليك فيها، و إنما تقع عليك الكفارة فيما حلفت عليه فيما لله فيه معصية أن لا تفعله ثم تفعله، و في الحسن كالصحيح عن زرارة قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: أي شي‏ء لا نذر في معصية؟ قال: فقال: كل ما كان لك فيه منفعة في دين أو دنيا فلا حنث عليك فيه، فإذا كان في اليمين و النذر كذلك ففي الوعد كذلك، بتقريب ما مر مع ما ورد في الخبر من تشبيهه بالنذر.

الخامس: ما كان مباحا متساوي الطرفين فالمشهور في اليمين الانعقاد، و في النذر عدمه، و ظاهر كثير من الأخبار أن اليمين أيضا لا ينعقد كما روي عن زرارة أنه سأل أبا عبد الله عليه السلام: أي شي‏ء الذي فيه الكفارة من الأيمان؟ فقال: ما حلفت عليه مما فيه البر فعليك الكفارة إذا لم تف به، و ما حلفت عليه مما فيه المعصية فليس عليك فيه الكفارة إذا لم تف به، و ما حلفت عليه مما فيه المعصية فليس عليك فيه الكفارة إذا رجعت عنه، و ما كان سوى ذلك مما ليس فيه بر و لا معصية فليس بشي‏ء، و قد ورد مثله بأسانيد جمة فالظاهر بتقريب ما مر عدم الوجوب في الوعد، و يدل عليه أيضا تسميته نذرا في الخبر الأول، إذ قوله عليه السلام: نذر، الظاهر أن المراد به النذر الشرعي لا اللغوي لقوله: لا كفارة، فلما لم يكن نذرا شرعيا فالغرض التشبيه به في الاشتراك في الأحكام، و قوله: لا كفارة له، بمنزلة الاستثناء إذ هو بقوة إلا أنه لا كفارة له، كما هو الظاهر من السياق، و الاستثناء دليل العموم، فالكلام في قوة أنه بحكم النذر، و مشترك معه في الأحكام إلا في‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 44

الكفارة، فيجري فيه أحكام النذر.

السادس: أنه لا حكم له مع عدم القصد كالنذر و اليمين.

السابع: أنه لا حكم له مع الجبر و الإكراه و التقية، و حفظ عرض مؤمن أو ماله أو دمه، و كلما يجوز فيه اليمين، و ينحل به النذر كل ذلك بتقريب ما مر، و وجوه أخرى لا تخفى.

الثامن: أن النية فيه على قصد الحق و العبرة به كاليمين.

التاسع: وعد الأهل كما مر في باب الكذب عن عيسى بن حسان عن أبي عبد الله عليه السلام حيث قال: كل كذب مسئول عنه صاحبه يوما إلا كذبا في ثلاثة، إلى أن قال: أو رجل وعد أهله شيئا و هو لا يريد أن يتم لهم، و يمكن أن يستدل به على السادس و الثامن، و قد مر الكلام في تسميته كذبا، و لو حمل على الحقيقة، و قيل: بأن قبحه للكذب فأخبار جواز الكذب للمصلحة كثيرة، و قد سبق بعضها، و الخبر يومئ إلى جواز الخلف لقليل من المصالح الدنيوية، فكيف الدينية.

ثم اعلم أن كلما ذكرنا فإنما هو في الوعد، و أما الوعيد فلا ريب في حسن الخلف فيه عقلا و نقلا كما مر بعض الكلام فيه في وعيد الله سبحانه، و الأخبار الدالة على الوجوب أو الرجحان إنما هي في الوعد لا الوعيد، و الخبر الأول أيضا ورد بلفظ العدة و قد مر في كلام الجوهري أنها في الوعد بالخير، و الخبر الثاني ظاهر و الأخبار الواردة بحسن العفو عن الوعيد قولا و فعلا عن أئمة الهدى عليهم السلام أكثر من أن تحصى.

و اعلم أيضا أن الوعد على تقدير القول بوجوب الوفاء به الظاهر أنه لا يوجب شغل ذمة للواعد و لا حقا لازما للموعود له يمكنه الاستعداء به و الأخذ منه قهرا، بل الأظهر عندي في اليمين أيضا كذلك، بل حق لله عليه يلزمه الوفاء به، و بهذا يظهر الفرق بين ما إذا كان في ضمن عقد لازم أو لم يكن، و يمكن حمل كلام بعض‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 45

الأصحاب حيث حكموا بالفرق على هذا الوجه أيضا و إن كان بعيدا، و الله تعالى يعلم حقائق الأحكام و حججه الكرام عليهم الصلاة و السلام.

و قد أطنبنا الكلام في هذا المقام لأنه مما يعم به البلوى، و لم أر من الأصحاب من تصدى لتحقيقه، و في بالي إن وفقني الله تعالى أن أكتب فيه رسالة مفردة و الله الموفق.

باب من حجب أخاه المؤمن‏

 (1)

 (الحديث الأول)

 (2): ضعيف.

" كان بينه و بين مؤمن حجاب"

 (3) أي مانع من الدخول عليه إما بإغلاق الباب دونه أو إقامة بواب على بابه يمنعه من الدخول عليه، و قال الراغب:

الضرب‏

 (4) إيقاع شي‏ء على شي‏ء، و لتصور اختلاف الضرب خولف بين تفاسيرها كضرب الشي‏ء باليد و العصا و نحوهما، و ضرب الأرض بالمطر، و ضرب الدراهم اعتبارا بضربه بالمطرقة، و قيل له الطبع اعتبارا بتأثير السكة فيه، و ضرب الخيمة لضرب أوتادها بالمطرقة و تشبيها بضرب الخيمة قال:" ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ" أي التحفتهم الذلة التحاف الخيمة لمن ضربت عليه و منه أستعير:" فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ" و قال:

" فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ" إلى آخر ما قال في ذلك.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 46

" مسيرة ألف عام"

 (1) أي من أعوام الدنيا، و يحتمل عام الآخرة، ثم الظاهر منه إرادة هذا العدد حقيقة، و يمكن حمله على المجاز و المبالغة في بعده عن الرحمة و الجنة، أو على أنه لا يدخلها إلا بعد زمان طويل تقطع فيه تلك المسافة البعيدة، و على التقادير لعله محمول على ما إذا كان الاحتجاب للتكبر و الاستهانة بالمؤمن و تحقيره، و عدم الاعتناء بشأنه لأنه معلوم أنه لا بد للمرء من ساعات في اليوم و الليلة يشتغل فيها الإنسان بإصلاح أمور نفسه و معاشه و معاده، لا سيما العلماء لاضطرارهم إلى المطالعة و التفكر في المسائل الدينية و جمعها و تأليفها و تنقيحها، و جمع الأخبار و شرحها و تصحيحها و غير ذلك من الأمور التي لا بد لهم من الخوض فيها و الاعتزال عن الناس و التخلي في مكان لا يشغله عنها أحد، و الأدلة في مدح العزلة و المعاشرة متعارضة و سيأتي تحقيقها إنشاء الله، و قد يقال المراد بالجنة جنة معينة يدخل فيها من لم يحجب المؤمن.

 (الحديث الثاني)

 (2): ضعيف.

" كان فلان"

 (3) قيل: كان تامة أو فلان كناية عن اسم غير منصرف كأحمد، و أقول: يحتمل تقدير الخبر أي كان فلان قارع الباب، و في القاموس:

ما اكترث له‏

 (4) ما أبالي به.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 47

" فلما كان من الغد"

 (1) قيل: كان تامة و المستتر راجع إلى أمر الدهر و من بمعنى في، و في القاموس:

بكر عليه‏

 (2) و إليه و فيه بكورا و بكر و ابتكر و أبكر و باكره أتاه بكرة، و كل من بادر إلى شي‏ء فقد أبكر إليه في أي وقت كان، و قال:

الضيعة

 (3) العقار و الأرض المغلة.

" و لم يعتذروا إليه"

 (4) ربما يفهم منه أنه عرف أنهم كانوا في البيت و لم يأذنوا له، و فيه نظر بل الظاهر من آخر الخبر خلافه، و يدل على أنه لو صدر عن أحد مثل هذه البادرة كان عليه أن يبادر إلى الاعتذار و أنه مع رضاه يسقط عنهم الوزر.

" ضعيف الحال"

 (5) أي قليل المال‏

" قد أظلتهم"

 (6) أي قربت منهم، أو الشمس لما كانت في جانب المشرق وقعت ظلها عليهم قبل أن تحاذي رؤوسهم‏

" فظنوا أنه"

 (7) أي سبب حدوث الغمامة

" مطر، فبادروا"

 (8) ليصلوا إلى الضيعة قبل نزول المطر، و

النفر

 (9) لما كان في معنى الجمع جعل تميزا للثلاثة

" و أما الساعة فلا"

 (10) أي لا ينفعهم ليردوا إلى الدنيا

" و عسى أن ينفعهم"

 (11) أي في البرزخ و القيامة.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 48

 (الحديث الثالث)

 (1): ضعيف، و قد مر مثله إلا أنه لم يكن فيه" غلظ السور".

 (الحديث الرابع)

 (2): مجهول.

" أيما مسلم"

 (3) قيل: أي مبتدأ و ما زائدة بين المضاف و المضاف إليه،

و أتى مسلما

 (4) خبره، و الجملة شرطية و جملة لم يزل جزائية، و الضمير راجع إلى المسلم الثاني، و لو كان أتي صفة و لم يزل خبرا لم يكن للمبتدإ عائدا، و لعل المراد

بالالتقاء

 (5) الاعتذار أو معه و هو محمول على ما مر من عدم العذر أو الاستخفاف.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 49

باب من استعان به أخوه فلم يعنه‏

 (1)

 (الحديث الأول)

 (2): ضعيف.

و قوله: و القيام‏

 (3) إما عطف تفسير للمعونة، أو المراد

بالمعونة

 (4) ما كان من عند نفسه، و بالقيام ما كان من غيره‏

" إلا ابتلي"

 (5) كذا في أكثر النسخ، فكلمة إلا إما زائدة أو المستثنى منه مقدر أي ما فعل ذلك إلا ابتلي، و قيل: من للاستفهام الإنكاري، و في بعض النسخ ابتلي بدون كلمة إلا موافقا لما في المحاسن و ثواب الأعمال و هو أظهر، و ضمير

عليه‏

 (6) راجع إلى من بتقدير مضاف أي على معونته، و فاعل يأثم راجع إلى من بخل، و يحتمل أن يكون راجعا إلى من في من يأثم، و ضمير عليه للباخل، و التعدية بعلى لتضمين معنى القهر، أو على بمعنى في أي بمعونة ظالم يأخذ منه قهرا و ظلما، و يعاقب على ذلك الظلم و

قوله: و لا يؤجر

 (7) أي الباخل على ذلك الظلم لأنه عقوبة، و على الأول قوله: و لا يؤجر إما تأكيد أو لدفع توهم أن يكون آثما من جهة و مأجورا من أخرى.

 (الحديث الثاني)

 (8): صحيح.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 50

و الاستثناء يحتمل الوجوه الثلاثة المتقدمة، و

قوله: يعذبه الله‏

 (1) صفة حوائج و ضمير

عليها

 (2) راجع إلى الحوائج، و المضاف محذوف، أي علي قضائها، و يدل على تحريم قضاء حوائج المخالفين، و يمكن حمله على النواصب أو على غير المستضعفين جمعا بين الأخبار و حمله على الإعانة في المحرم بأن يكون يعذبه الله قيدا احترازيا بعيد.

 (الحديث الثالث)

 (3): ضعيف.

" حتى يسعى"

 (4) متعلق بالمعونة فهو من تتمة مفعول يدع، و الضمير في‏

يأثم‏

 (5) راجع إلى الرجل، و العائد إلى من محذوف، أي على معونته.

 (الحديث الرابع)

 (6): ضعيف على المشهور.

" مستجيرا به"

 (7) أي لدفع ظلم أو لقضاء حاجة ضرورية

" فقد قطع ولاية الله"

 (8) أي محبته لله أو محبة الله له أو نصرة الله له أو نصرته لله، أو كناية عن سلب إيمانه فإن الله ولي الذين آمنوا، و الحاصل أنه لا يتولى الله أموره و لا يهديه بالهدايات الخاصة و لا يعينه و لا ينصره.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 51

باب من منع مؤمنا شيئا من عنده أو من عند غيره‏

 (1)

 (الحديث الأول)

 (2): ضعيف.

" مزرقة عيناه"

 (3) بضم الميم و سكون الزاي و تشديد القاف من باب الأفعال من الزرقة، و كأنه إشارة إلى قوله تعالى:" وَ نَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً" و قال البيضاوي: أي زرق العيون وصفوا بذلك لأن الزرقة أسوأ ألوان العين و أبغضها إلى العرب، لأن الروم كانوا أعدى أعدائهم و هم زرق، و لذلك قالوا في صفة العدو أسود الكبد أصهب السبال أزرق العين أو عمياء، فإن حدقة الأعمى تزرق، انتهى.

و قال في غريب القرآن:" يَوْمَئِذٍ زُرْقاً" لأن أعينهم تزرق من شدة العطش، و قال الطيبي فيه: أسودان أزرقان، أراد سوء منظرهما و زرقه أعينهما و الزرقة أبغض الألوان إلى العرب، لأنها لون أعدائهم الروم، و يحتمل إرادة قبح المنظر و فظاعة الصورة، انتهى.

و قيل: لشدة الدهشة و الخوف تنقلب عينه و لا يرى شيئا، و إلى في‏

قوله إلى عنقه‏

 (4) بمعنى مع، أو ضمن معنى الانضمام، و يدل على وجوب قضاء حاجة المؤمن‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 52

مع القدرة، و ربما يحمل على ما إذا منعه لإيمانه أو استخفافا به و كان المراد بالمؤمن المؤمن الكامل.

 (الحديث الثاني)

 (1): كالأول.

و المراد

بحق المؤمن‏

 (2) الديون و الحقوق اللازمة أو الأعم منها و مما يلزمه أداؤه من جهة الإيمان على سياق سائر الأخبار

" خمسمائة عام"

 (3) أي مقدارها من أعوام الدنيا

" أودية"

 (4) في بعض النسخ أو دمه فالترديد من الراوي، و قيل أو للتقسيم أي إن كان ظلمه قليلا يسيل عرقه و إن كان كثيرا يسيل دمه و الموبخ المؤمنون أو الملائكة أو الأنبياء و الأوصياء عليهم السلام أو الأعم، و فيه دلالة على أن حق المؤمن حق الله عز و جل لكمال قربه منه أو لأمره تعالى به.

 (الحديث الثالث)

 (5): كالسابق.

و ظاهر هذه الأخبار وجوب إعانة المؤمنين بكل ما يقدر عليه و إسكانهم و غير ذلك مما لم يقل بوجوبه أحد من الأصحاب، بل ظاهرها كون تركها من الكبائر و هو حرج عظيم ينافي الشريعة السمحة، و قد يأول بكون المنع من أجل الإيمان فيكون كافرا، أو على ما إذا وصل اضطرارا المؤمن حدا خيف عليه التلف‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 53

أو الضرر العظيم الذي تجب إعانته عنده، أو يراد بالجنان جنات معينة لا يدخلها إلا المقربون.

 (الحديث الرابع)

 (1): ضعيف على المشهور.

و قد مر سندا و متنا في باب قضاء حاجة المؤمن إلى قوله: كان أسوأ حالا إلا أن فيه: مغفورا له أو معذبا، و مضى ما بعده في الباب السابق، نقول زائدا على ما مضى أن‏

قوله: فقد وصله بولايتنا

 (2)، يحتمل أن يكون المراد أنه وصل ذلك الفعل بولايتنا، أي جعله سببا لولايتنا و حبنا له، و هو أي الفعل أو الولاية بتأويل سبب لولاية الله، و يمكن أن يكون ضمير الفاعل في وصل راجعا إلى الفعل، و المفعول إلى الرجل أي وصل ذلك الفعل الرجل الفاعل له بولايتنا

" كان أسوأ حالا"

 (3) أي المطلوب أو الطالب كما مر و الأول أظهر، فالمراد بقوله عذره، قبل عذره الذي اعتذر به، و لا أصل له.

و كون حال المطلوب حينئذ أسوأ ظاهر، لأنه صدقة فيما ادعى كذبا و لم يقابله بتكذيب و إنكار يستخف وزره، و أما على الثاني فقيل كونه أسوأ لتصديق الكاذب و لتركه النهي عن المنكر، و الأولى أن يحمل على ما إذا فعل ذلك للطمع و ذلة النفس لا للقربة و فضل العفو.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 54

باب من أخاف مؤمنا

 (1)

 (الحديث الأول)

 (2): مجهول، و لو كان عبد الغفار بن القاسم الثقة فالحديث صحيح.

" يوم لا ظل إلا ظله"

 (3) أي إلا ظل عرشه و المراد بالظل الكنف أي لا ملجأ و لا مفزع إلا إليه، قال الراغب: الظل ضد الضح و هو أعم من الفي‏ء، و يعبر بالظل عن العزة و المناعة و عن الرفاهة، قال تعالى:" إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَ عُيُونٍ" أي في عزة و مناعة، و أظلني فلان أي حرسني، و جعلني في ظله أي في عزه و مناعته" وَ نُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا" كناية عن غضارة العيش.

 (الحديث الثاني)

 (4): مجهول.

" ليصيبه منه"

 (5) أي من السلطان‏

" مكروه"

 (6) أي ضرر يكرهه‏

" فلم يصبه"" فهو في النار"

 (7) أي يستحقها أي لم يعف عنه، و

الروع‏

 (8): الفزع، و الترويع: التخويف‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 55

" في النار"

 (1) قيل أي في نار البرزخ، حيث قال:" النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَ عَشِيًّا وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ".

 (الحديث الثالث)

 (2): حسن كالصحيح.

و قال في النهاية:

الشطر

 (3) النصف، و منه الحديث: من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة، قيل هو أن يقول: اق في اقتل، كما قال صلى الله عليه و آله و سلم: كفى بالسيف شا، يريد شاهدا و في القاموس: الشطر نصف الشي‏ء و جزؤه، و أقول: يحتمل أن يكون كناية عن قلة الكلام أو كان يقول نعم مثلا في جواب من قال أقتل زيدا؟ و كان بين العينين كناية عن الجبهة.

باب النميمة

 (4)

 (الحديث الأول)

 (5): صحيح.

" المشاؤون بالنميمة"

 (6) إشارة إلى قوله تعالى:" وَ لا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ، هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ، مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ، عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ" قال البيضاوي‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 56

هَمَّازٍ أي عياب، مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ أي نقال للحديث على وجه السعاية، عُتُلٍّ: جاف غليظ بَعْدَ ذلِكَ أي بعد ما عد من مثاليه، زَنِيمٍ دعي، و في المصباح نم الرجل الحديث نما من بابي قتل و ضرب سعى به ليوقع فتنة أو وحشة، و الرجل نم تسمية بالمصدر و مبالغة و الاسم النميمة و النميم أيضا، و في النهاية النميمة نقل الحديث من قوم إلى قوم على جهة الإفساد و الشر.

" المفرقون بين الأحبة"

 (1) بالنميمة و غيرها، و

البغي‏

 (2) الطلب‏

و البراء

 (3) ككرام و كفقهاء جمع البري‏ء، و هنا يحتملهما، و أكثر النسخ على الأول، و يقال أنا براء منه بالفتح لا يثني و لا يجمع و لا يؤنث أي بري‏ء، كل ذلك ذكره الفيروزآبادي و الأخير هنا بعيد، و الظاهر أن المراد به من يثبت لمن لا عيب له عيبا ليسقطه من أعين الناس، و يحتمل شموله لمن لا يتجسس عيوب المستورين ليفشيها عند الناس و إن كانت فيهم فالمراد البراء عند الناس.

 (الحديث الثاني)

 (4): صحيح.

و في القاموس:

القت‏

 (5) نم الحديث و الكذب و اتباعك الرجل سرا لتعلم ما يريد، و في النهاية فيه لا يدخل الجنة قتات و هو النمام، يقال: وقت الحديث يفته إذا زوره و هيأه و سواه، و قيل:

النمام‏

 (6) الذي يكون مع القوم يتحدثون فينم عليهم، و القتات الذي يتسمع مع القوم و هم لا يعلمون ثم ينم، و القساس الذي يسأل عن الأخبار ثم ينمها، انتهى.

و ربما يأول الحديث بالحمل على المستحل أو على أن الجنة محرمة عليه‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 57

ابتداء و لا يدخلها إلا بعد انقضاء مدة العقوبة، أو على أن المراد بالجنة جنة معينة لا يدخلها القتات أبدا.

 (الحديث الثالث)

 (1): مجهول.

و قال الشهيد الثاني قدس الله روحه في رسالة الغيبة: في عد ما يلحق بالغيبة أحدها

النميمة

 (2)، و هي نقل قول الغير إلى المقول فيه، كما تقول فلان تكلم فيك بكذا و كذا، سواء نقل ذلك بالقول أم بالكتابة أم بالإشارة و الرمز، فإن تضمن ذلك نقصا أو عيبا في المحكي عنه كان ذلك راجعا إلى الغيبة أيضا، فجمع بين معصية الغيبة و النميمة، و النميمة إحدى المعاصي الكبائر، قال الله تعالى:" هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ" ثم قال:" عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ".

قال بعض العلماء: دلت هذه الآية على أن من لم يكتم الحديث و مشى بالنميمة ولد زناء، لأن الزنيم هو الدعي، و قال تعالى:" وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ" قيل:

الهمزة النمام و قال تعالى عن امرأة نوح و امرأة لوط" فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَ قِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ" قيل: كانت امرأة لوط تخبر بالضيفان،

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 58

و امرأة نوح تخبر بأنه مجنون.

و قال النبي صلى الله عليه و آله و سلم: لا يدخل الجنة نمام، و في حديث آخر: لا يدخل الجنة قتات، و القتات هو النمام، و روي أن موسى استسقى لبني إسرائيل حين أصابهم قحط فأوحى الله تعالى إليه: أني لا أستجيب لك و لا لمن معك و فيكم نمام قد أصر على النميمة، فقال موسى عليه السلام: يا رب من هو حتى نخرجه من بيننا؟ فقال: يا موسى أنهاكم عن النميمة و أكون نماما! فتابوا بأجمعهم فسقوا.

أقول: و ذكر رفع الله درجته أخبارا كثيرة من طريق الخاصة و العامة، ثم قال: و اعلم أن النميمة تطلق في الأكثر على من ينم قول الغير إلى المقول فيه كما يقال فلان كان يتكلم فيك بكذا و كذا، و ليست مخصوصة بالقول فيه، بل يطلق على ما هو أعلم من القول كما مر في الغيبة، و حدها بالمعنى الأعم كشف ما يكره كشفه سواء كرهه المنقول منه أو المنقول إليه، أم كرهه ثالث، و سواء كان الكشف بالقول أم بالكتابة أم الرمز أم الإيماء، و سواء كان المنقول من الأعمال أم من الأقوال، و سواء كان ذلك عيبا و نقصانا على المنقول عنه أم لم يكن، بل حقيقة النميمة إفشاء السر و هتك الستر عما يكره كشفه، بل كل ما رآه الإنسان عن أحوال الناس، فينبغي أن يسكت عنه إلا ما في حكايته فائدة لمسلم أو دفع لمعصية كما إذا رأى من يتناول مال غيره فعليه أن يشهد به مراعاة لحق المشهود عليه، فأما إذا رآه يخفي مالا لنفسه فذكره نميمة و إفشاء للسر، فإن كان ما ينم به نقصانا أو عيبا في المحكي عنه كان جمع بين الغيبة و النميمة.

و السبب الباعث على النميمة إما إرادة السوء بالمحكي عنه أو إظهار الحب للمحكي له أو التفرج بالحديث أو الخوض في المفضول.

و كل من حملت إليه النميمة، و قيل له: إن فلانا قال فيك كذا و كذا

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 59

و فعل فيك كذا و كذا و هو يدبر فيها فساد أمرك أو في ممالاة عدوك أو تقبيح حالك أو ما يجري مجراه، فعليه ستة أمور:

الأول: أن لا يصدقه لأن النمام فاسق و هو مردود الشهادة، قال الله تعالى:

" إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ".

الثاني: أن ينهاه عن ذلك و ينصحه و يقبح له فعله، قال الله تعالى:" وَ أْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَ انْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ".

الثالث: أن يبغضه في الله تعالى، فإنه بغيض عند الله و يحب بغض من يبغضه الله.

الرابع: أن لا تظن بأخيك السوء بمجرد قوله، لقوله تعالى:" اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ" بل تثبت حتى تتحقق الحال.

الخامس: أن لا يحملك ما حكي لك على التجسس و البحث لتحقق، لقوله تعالى:" وَ لا تَجَسَّسُوا".

السادس: أن لا ترضى لنفسك ما نهيت النمام عنه فلا تحكي نميمته فتقول: فلان قد حكى لي كذا و كذا، فتكون به نماما و مغتابا فتكون قد أتيت بما نهيت عنه، و قد روي عن علي عليه السلام: أن رجلا أتاه يسعى إليه برجل، فقال: يا هذا نحن نسأل عما قلت فإن كنت صادقا مقتناك و إن كنت كاذبا عاقبناك، و إن شئت أن نقيلك أقلناك، قال: أقلني يا أمير المؤمنين، و قال الحسن: من نم إليك نم عليك، و هذه إشارة إلى أن النمام ينبغي أن يبغض و لا يوثق بصداقته، و كيف لا يبغض و هو لا ينفك من الكذب و الغيبة و الغدر و الخيانة و الغل و الحسد و النفاق و الإفساد بين الناس‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 60

و الخديعة، و هو ممن سعى في قطع ما أمر الله تعالى به أن يوصل، قال الله تعالى:

" وَ يَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ" و قال تعالى:" إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ" و النمام منهم.

و بالجملة فشر النمام عظيم ينبغي أن يتوقى، قيل: باع بعضهم عبدا للمشتري ما فيه عيب إلا النميمة، قال: رضيت به فاشتراه فمكث الغلام أياما ثم قال لزوجة مولاه: إن زوجك لا يحبك و هو يريد أن يتسرى عليك، فخذي الموسى و احلقي من قفاه شعيرات حتى أسحر عليها فيحبك، ثم قال للزوج: إن امرأتك اتخذت خليلا و تريد أن تقتلك فتناوم لها حتى تعرف، فتناوم فجاءت المرأة بالموسى فظن أنها تقتله، فقام و قتلها، فجاء أهل المرأة و قتلوا الزوج، فوقع القتال بين القبيلتين و طال الأمر.

باب الإذاعة

 (1)

 (الحديث الأول)

 (2): مجهول.

و يقال:

ذاع‏

 (3) الخبر يذيع ذيعا أي انتشر، و أذاعه غيره أي أفشاه‏

" وَ إِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ"

 (4) قال البيضاوي: أي مما يوجب الأمن أو الخوف‏

" أَذاعُوا بِهِ"

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 61

 (1) أي أفشوه كان يفعله قوم من ضعفة المسلمين إذا بلغهم خبر عن سرايا رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم أو أخبرهم الرسول بما أوحى إليه من وعد بالظفر أو تخويف من الكفرة أذاعوا لعدم حزمهم، و كانت إذاعتهم مفسدة، و الباء مزيدة، أو لتضمن الإذاعة معنى التحدث" وَ لَوْ رَدُّوهُ" أي ردوا ذلك الخبر" إِلَى الرَّسُولِ وَ إِلى‏ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ" أي إلى رأيه و رأي كبار الصحابة البصراء بالأمور أو الأمراء" لَعَلِمَهُ" أي لعلمه على أي وجه يذكر" الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ" أي يستخرجون تدبيره بتجاربهم و أنظارهم.

و قيل: كانوا يسمعون أراجيف المنافقين فيذيعونها فيعود وبالا على المسلمين، و لو ردوه إلى الرسول و إلى أولي الأمر منهم حتى سمعوه منهم و يعرفوا أنه هل يذاع لعلم ذلك من هؤلاء الذين يستنبطونه من الرسول و أولي الأمر أي يستخرجون علمه من جهتهم، انتهى.

و في الأخبار أن أولي الأمر الأئمة عليه السلام، و على أي حال تدل الآية على ذم إذاعة ما في إفشائه مفسدة، و الغرض التحذير عن إفشاء أسرار الأئمة عليهم السلام عند المخالفين، فيصير مفسدة و ضررا على الأئمة و على المؤمنين، و يمكن شموله لإفشاء بعض غوامض العلوم التي لا تدركها عقول عامة الخلق كما مر في باب الكتمان.

 (الحديث الثاني)

 (2): مجهول.

و يدل على أن المذيع و الجاحد متشاركون في عدم الإيمان، و براءة الإمام منهم، و فعل ما يوجب لحوق الضرر بل ضرر الإذاعة أقوى، لأن ضرر الجحد يعود إلى الجاحد و ضرر الإذاعة يعود إلى المذيع و إلى المعصوم و إلى المؤمنين، و لعل‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 62

مخاطبة المعلى بذلك لأنه كان قليل التحمل لأسرارهم، و صار ذلك سببا لقتله، و روى الكشي بإسناده عن المفضل قال: دخلت على أبي عبد الله عليه السلام يوم قتل فيه المعلى بن خنيس فقلت له: يا بن رسول الله أ لا ترى إلى هذا الخطب الجليل الذي نزل بالشيعة في هذا اليوم؟ قال: و ما هو! قلت: قتل المعلى بن خنيس! قال: رحم الله المعلى قد كنت أتوقع ذلك أنه أذاع سرنا، و ليس الناصب لنا حربا بأعظم مؤنة علينا من المذيع علينا سرنا، فمن أذاع سرنا إلى غير أهله لم يفارق الدنيا حتى يعضه السلاح أو يموت بخيل.

 (الحديث الثالث)

 (1): صحيح.

" سلبه الله الإيمان"

 (2) أي يمنع منه لطفه فلا يبقى علي الإيمان.

 (الحديث الرابع)

 (3): مرسل.

و كان المعنى أنه مثل قتل العمد في الوزر، كما سيأتي خبر آخر كمن قتلنا لا أن حكمه حكم العمد في القصاص و غيره.

 (الحديث الخامس)

 (4): ضعيف.

" و ما ندي دما"

 (5) في بعض النسخ مكتوب بالياء، و في بعضها بالألف و كان الثاني تصحيف، و لعله ندي بكسر الدال مخففا، و دما إما تميز أو منصوب بنزع‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 63

الخافض أي ما ابتل بدم و هو مجاز شائع بين العرب و العجم، قال في النهاية: فيه من لقي الله و لم يتند من الدم الحرام بشي‏ء دخل الجنة، أي لم يصب منه شيئا و لم ينله منه شي‏ء، كأنه نالته نداوة الدم و بلله، يقال: ما نداني من فلان شي‏ء أكرهه، و لا نديت كفى له بشي‏ء، و قال الجوهري: المنديات المخزيات فقال: ما نديت بشي‏ء نكرهه، و قال الراغب: ما نديت بشي‏ء من فلان، أي ما نلت منه ندي، و منديات الكلم المخزيات التي تعرف.

و أقول: يمكن أن يقرأ على بناء التفعيل فيكون دما منصوبا بنزع الخافض، أي ما بل أحدا بدم أخرجه منه، و يحتمل إسناد التندية إلى الدم على المجاز، و ما ذكرنا أولا أظهر، و قرأ بعض الفضلاء بدا بالباء الموحدة أي ما أظهر دما و أخرجه و هو تصحيف.

 (الحديث السادس)

 (1): ضعيف على المشهور.

قوله: و تلا

 (2)، الواو للاستئناف أو حال عن فاعل قال المذكور بعدها، أو عن فاعل روى المقدر، أو للعطف على جملة أخرى تركها الراوي‏

" ذلِكَ"

 (3) إشارة إلى ما سبق من ضرب الذلة و المسكنة، و البوء بالغضب‏

" بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ‏

 (4) أي بالمعجزات أو بآيات الكتب المنزلة

" وَ يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ"

 (5) كشعيبا و يحيى و زكريا و غيرهم.

" ذلِكَ بِما عَصَوْا"

 (6) قيل أي جرهم العصيان و التمادي و الاعتداء فيه إلى الكفر

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 64

بالآيات و قتل النبيين، فإن صغار المعاصي سبب يؤدي إلى ارتكاب كبارها.

قال: و الله ما قتلوهم‏

 (1)، هذا يحتمل وجوها: الأول: أن قتل الأنبياء لم يصدر من اليهود بل من غيرهم من الفراعنة، و لكن اليهود لما تسببوا إلى ذلك بإفشاء أسرارهم نسب ذلك إليهم.

الثاني: أنه تعالى نسب إلى جميع اليهود أو آباء المخاطبين القتل و لم يصدر ذلك من جميعهم، و إنما صدر من بعضهم، و إنما نسب إلى الجميع لذلك، فقوله:

ما قتلوهم، أي جميعا.

الثالث: أن يكون المراد في هذه الآية غير المقاتلين، و على التقادير يمكن أن يكون المراد بغير الحق أي بسبب أمر غير حق، و هو ذكرهم الأحاديث في غير موضعها، فالباء للآلة، و قوله تعالى:" ذلِكَ بِما عَصَوْا" يمكن أن يراد به أن ذلك القتل أو نسبته إليهم بسبب أنهم عصوا و اعتدوا في ترك التقية كما قال عليه السلام، فصار أي الإذاعة قتلا و اعتداء و معصية، و هذا التفسير أشد انطباقا على الآية من تفسير سائر المفسرين.

 (الحديث السابع)

 (2): موثق.

و مضمونه موافق للخبر السابق و هذه الآية في آل عمران، و السابقة في البقرة.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 65

 (الحديث الثامن)

 (1): مجهول.

و قد مضى بعينه متنا و سندا في أول الباب، و كأنه من النساخ.

 (الحديث التاسع)

 (2): مرسل.

و قوله: و لم يقتلنا خطاء،

 (3) إما تأكيد أو لإخراج شبه العمد، فإنه عمد من جهة، و خطاء من أخرى.

 (الحديث العاشر)

 (4): ضعيف على المشهور.

" مذيع السر شاك"

 (5) كان المعنى مذيع السر عند من لا يعتمد عليه من الشيعة شاك، أي غير موقن فإن صاحب اليقين لا يخالف الإمام في شي‏ء و يحتاط في عدم إيصال الضرر إليه، أو أنه إنما يذكره له غالبا لتزلزله فيه و عدم التسليم التام، و يمكن حمله على الأسرار التي لا تقبلها عقول عامة الخلق، و ما سيأتي على ما يخالف أقوال المخالفين، و قيل: الأول مذيع السر عند مجهول الحال، و الثاني عند من يعلم أنه مخالف.

" قلت ما هو"

 (6) أي ما المراد بالتمسك بالعروة الوثقى؟ قال: التسليم للإمام‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 66

عليه السلام في كل ما يصدر عنه مما تقبله ظواهر العقول أو لا تقبله، و مما كان موافقا للعامة أو مخالفا لهم، و إطاعتهم في التقية و حفظ الأسرار و غيرها.

 (الحديث الحادي عشر)

 (1): ضعيف.

" جعل الدين دولتين"

 (2) قيل: المراد بالدين العبادة و دولتين منصوب بنيابة ظرف الزمان، و الظرف مفعول ثان لجعل، و الدولة نوبة ظهور حكومة حاكم عادلا كان أو جائرا، و المراد

بدولة آدم‏

 (3) دولة الحق الظاهر الغالب، كما كان لآدم عليه السلام في زمانه، فإنه غلب على الشيطان و أظهر الحق علانية، فكل دولة حق غالب ظاهر فهو دولة آدم، و هي دولة الحكومة التي رضي الله لعباده.

" و كانت"

 (4) في الموضعين تامة، فإذا علم الله صلاح العباد في أن يعبدوه ظاهرا سبب أسباب ظهور دولة الحق فكانت كدولة آدم عليه السلام، و إذا علم صلاحهم في أن يعبدوه سرا و تقية و كلهم إلى أنفسهم فاختاروا الدنيا و غلب الباطل على الحق، فمن أظهر الحق و ترك التقية في دولة الباطل لم يرض بقضاء الله، و خالف أمر الله، و ضيع مصلحة الله التي اختارها لعباده.

" فهو مارق"

 (5) أي خارج عن الدين غير عامل بمقتضاه، أو خارج عن العبادة غير عامل بها، قال في القاموس: مرق السهم من الرمية مروقا خرج من الجانب الآخر، و الخوارج مارقة لخروجهم من الدين.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 67

 (الحديث الثاني عشر)

 (1): صحيح.

و كان‏

استفتاح النهار

 (2) على المثال أو لكونه أشد أو كناية عن كون هذا منه على العمد و القصد لا على الغفلة و السهو، و يحتمل أن يكون الاستفتاح بمعنى الاستنصار و طلب النصرة، كما قال تعالى:" وَ كانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا" و قال:" إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ" أي يظهر الفتح، و يهدد المخالفين بذكر الأسرار التي ذكرها الأئمة عليه السلام تسلية للشيعة كانقراض دولة بني أمية أو بني العباس في وقت كذا، فقوله: نهاره، أي في جميع نهاره لبيان المداومة عليه‏

" حر الحديد"

 (3) أي ألمه و شدته من سيف أو شبهه، و العرب تعبر عن الراحة بالبرد و عن الشدة و الألم بالحر، قال في النهاية: في حديث علي عليه السلام أنه قال لفاطمة: لو أتيت النبي صلى الله عليه و آله و سلم فسألته خادما يقيك حرما أنت فيه من العمل، و في رواية: حار ما أنت فيه، يعني التعب و المشقة من خدمة البيت، لأن الحرارة مقرونة بهما كما أن البرد مقرون بالراحة و السكون، و الحار الشاق المتعب، و منه حديث عيينة بن حصن: حتى أذيق نساءه من الحر مثل ما أذاق نسائي، يريد حرقة القلب من الوجع و الغيظ و المشقة، و

ضيق المحابس‏

 (4) أي السجون، و في بعض النسخ المجالس و المعنى واحد.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 68

باب من أطاع المخلوق في معصية الخالق‏

 (1)

 (الحديث الأول)

 (2): ضعيف على المشهور.

" من طلب رضا الناس بسخط الله"

 (3) هذا النوع في الخلق كثير بل أكثرهم كذلك، كالذين تركوا متابعة أئمة الحق لرضاء أئمة الجور و طلب ما عندهم، و كأعوان السلاطين الجائرين و عمالهم و المتقربين إليهم بالباطل، و المادحين لهم على قبائح أعمالهم، و كالذين يتعصبون للأهل و العشائر بالباطل، و كشاهد الزور و الحاكم بالجور بين المتخاصمين طلبا لرضاء أهل العزة و الغلبة، و الذين يساعدون المغتابين و لا يزجرونهم عنها طلبا لرضاء أهل العزة و الغلبة، و الذين يساعدون المغتابين و لا يزجرونهم عنها طلبا لرضاهم، و لئلا يتنفروا من صحبته و أمثال ذلك كثيرة

" و جعل حامده من الناس ذاما"

 (4) أي بعد ذلك الحمد أو يحمدونه بحضرته و يذمونه في غيبته، أو يكون المراد بالحامد من يتوقع منهم المدح.

 (الحديث الثاني)

 (5): ضعيف.

و المرضاة

 (6) مصدر ميمي‏

" و من آثر طاعة الله"

 (7) أي في غير موضع التقية فإنها

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 69

طاعة الله في هذا الموضع، و

الظهير

 (1) المعين.

 (الحديث الثالث)

 (2): ضعيف.

" بحرفين"

 (3) أي بجملتين و ما ذكره عليه السلام مع العطف في حكم جملتين، و يحتمل أن يكون الحرفان كناية عن الاختصار في الكلام" من حاول" أي رام و قصد، و اللام في‏

قوله" لما يرجو"

 (4) و

" لمجي‏ء"

 (5) للتعدية.

 (الحديث الرابع)

 (6): صحيح.

" لا دين"

 (7) أي لا إيمان أو لا عبادة

" لمن دان"

 (8) أي عبد الله‏

" بطاعة من عصى الله"

 (9) أي غير المعصوم، فإنه لا يجوز طاعة غير المعصوم في جميع الأمور، و قيل: من عصى الله من يكون حكمه معصية و لم يكن أهلا للفتوى‏

" لمن دان"

 (10) أي اعتقد أي عبد الله‏

" بافتراء الباطل على الله"

 (11) أي جعل هذا الافتراء عبادة أو جعل عبادته مبنية على الافتراء

" بجحود شي‏ء من آيات الله"

 (12) أي أنكر شيئا من محكمات القرآن، و يحتمل أن يكون المراد بالآيات الأئمة عليهم السلام كما مر في الأخبار.

 (الحديث الخامس)

 (13): ضعيف على المشهور.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 70

و يمكن حمله على من أرضى خلفاء الجور بإنكار أئمة الحق أو شي‏ء من ضروريات، و قد مر تأويل مثله مرارا.

باب في عقوبات المعاصي العاجلة

 (1) و في بعض النسخ المناكير التي تظهر في عقوبات، إلخ.

 (الحديث الأول)

 (2): مرسل.

و خمس‏

 (3) مبتدأ مع تنكيره مثل: كوكب أنقض الساعة، و الجملة الشرطية خبره، أو خمس فاعل فعل محذوف أي تكون خمس، و

الفاحشة

 (4) الزنا، و في القاموس‏

السنة

 (5) الجدب و القحط، و الأرض المجدبة و الجمع سنون، و في النهاية: السنة الجدب يقال: أخذتهم السنة إذا أجدبوا و أقحطوا و المئونة القوت، و

شدة المئونة

 (6) ضيقها و عسر تحصيلها.

و قيل: يترتب على كل واحد منهما عقوبة تناسبه، فإن الأول لما كان فيه‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 71

تضييع آلة النسل ناسبه الطاعون الموجب لانقطاعه، و الثاني لما كان القصد فيه زيادة المعيشة ناسبه القحط و شدة المئونة

و جور السلطان‏

 (1) بأخذ المال و غيره، و الثالث لما كان فيه منع ما أعطاه الله بتوسط الماء ناسبه منع‏

نزول المطر من السماء

 (2)، و الرابع لما كان فيه ترك العدل و الحاكم العادل ناسبه تسلط العدو و أخذ الأموال، و الخامس لما كان فيه رفض الشريعة و ترك القوانين العدلية ناسبه وقوع الظلم بينهم و غلبة بعضهم على بعض.

و أقول: يمكن أن يقال لما كان في الأول مظنة تكثير النسل عاملهم الله بخلافه، و في الثالث لما كان غرضهم توفير المال منع الله القطر ليضيق عليهم، و أشار

بقوله: و لو لا البهائم لم يمطروا

 (3)، إلى أن البهائم لعدم صدور المعصية منهم و عدم تكليفهم، استحقاقهم للرحمة أكثر من الكفرة و أرباب الذنوب و المعاصي، كما دلت عليه قصة النملة و استسقائها، و قولها: اللهم لا تؤاخذنا بذنوب بني آدم، و يومئ إليه قوله تعالى." بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا" و المراد

بنقض عهد الله و عهد رسوله‏

 (4) نقض الأمان و الذمة التي أمر الله برعايتها و الوفاء بها كما سيأتي في باب تفسير الذنوب: و إذا خفرت الذمة أديل لأهل الشرك من أهل الإسلام، و هو الظاهر من الخبر الآتي أيضا، و قيل: هو نقض العهد بنصرة الإمام الحق و اتباعه في جميع الأمور، و الأول أظهر.

و لما كان هذا الغدر للغلبة على الخصم بالحيلة و المكر، يعاملهم بما يخالف‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 72

غرضهم فيجعل بأسهم بينهم، في القاموس:

البأس‏

 (1) العذاب و الشدة في الحرب، أي جعل عذابهم و حربهم بينهم بتسلط بعضهم على بعض، و يتغالبون و يتحاربون و لا ينتصف بعضهم من بعض، و ترتب هذا على الجور في الحكم ظاهر، و يحتمل أن يكون السبب أنهم إذا جاروا في الحكم و حكموا للظالم على المظلوم يسلط الله على الظالم ظالما آخر يغلبه الله، فيصير بأسهم و حربهم بينهم و هذا أيضا مجرب.

 (الحديث الثالث)

 (2): صحيح.

" في كتاب رسول الله"

 (3) سيأتي صدر هذا الحديث في كتاب النكاح، و فيه في كتاب علي عليه السلام و هو أظهر، و لا تنافي بينهما لأن مملي الكتاب رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم و الكاتب علي عليه السلام فيجوز نسبته إلى كل منهما، و على تقدير المغايرة يمكن وجدانه فيهما، و في المصباح‏

فجأت‏

 (4) الرجل أفجؤه مهموز من باب تعب، و في لغة بفتحتين جئته بغتة، و الاسم الفجاءة بالضم و المد، و في لغة و زان تمرة و فجأة الأمر مهموز من بابي تعب و نفع أيضا و فاجأه مفاجاة أي عاجلة، و قال: الطفيف مثل القليل وزنا و معنى، و منه قيل:

تطفيف المكيال و الميزان،

 (5) و قد طففه فهو مطفف إذا كال أو وزن و لم يوف، انتهى.

و أقول: قال تعالى:" وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَ إِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ" قال البيضاوي: التطفيف البخس في الكيل و الوزن، لأن ما يبخس طفيف أي حقير.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 73

و في الحديث: خمس بخمس، ما نقض العهد قوم إلا سلط الله عليهم عدوهم، و ما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر، و ما ظهر فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت، و لا طففوا الكيل إلا منعوا النبات و أخذوا بالسنين، و لا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم القطر.

و قال" عَلَى النَّاسِ" أي منهم" يَسْتَوْفُونَ" أي يأخذون حقوقهم وافية" وَ إِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ" أي كالوا للناس و وزنوا لهم، و المراد بالنقص نقص ريع الأرض من الثمرات و الحبوب، كما قال سبحانه:" وَ لَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَ نَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ".

" منعت الأرض"

 (1) على بناء المعلوم، فيكون المفعول الأول محذوفا أي منعت الأرض الناس‏

" بركتها"

 (2) أو المجهول فيكون الفاعل هو الله تعالى، و

الجور

 (3) نقيض العدل.

و هذه الفقرة تحتمل وجهين: الأول أن الجور في الحكم و ترك العدل هو معاونة للظالم على المظلوم، فلا يكون على سياق سائر الفقرات، و كان النكتة فيه أن سوء أثره و هو الاختلال في نظام العالم لما كان ظاهرا اكتفي بتوضيح أصل الفعل و إظهار قبحه.

الثاني: أن يكون المراد أنه تعالى بسبب هذا الفعل يمنع اللطف عنهم، فيتعاونون على الظلم و العدوان حتى يصل ضرره إلى الحاكم و الظالم أيضا كما قال عليه السلام في الخبر السابق: جعل الله بأسهم بينهم، و الظاهر أن المراد بالعهد المعاهدة مع الكفار كما عرفت.

و يحتمل التعميم، و كون قطع الأرحام سببا لجعل الأموال في أيدي الأشرار مجرب، و له أسباب باطنة و ظاهرة، فعمدة الباطنة قطع لطف الله تعالى‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 74

عنهم، و من الظاهرة أنهم لا يتعاونون في دفع الظلم فيتسلط عليهم الأشرار و يأخذون الأموال منهم، و منها أنهم يدلون بأموالهم إلى الحكام الجائرين لغلبة بعضهم على بعض، فينتقل أموالهم إليهم.

" و إذا لم يأمروا بالمعروف"

 (1) قيل: يحتمل ترتب التسليط على ترك كل واحد منهما أو تركهما معا، و أقول: الثاني أظهر مع أن كلا منهما يستلزم الآخر فإن ترك كل معروف منكر و ترك كل منكر معروف، و المراد

بالخيار

 (2) الفاعلون للمعروف الآمرون به، و التاركون للمنكر الناهون عنه، و عدم استجابة دعائهم لاستحكام الغضب و بلوغه حد الحتم و الإبرام، أ لا يرى أنه لم يقبل شفاعة خليل الرحمن عليه السلام لقوم لوط، و يحتمل أن يكون المراد بالخيار الذين لم يتركوا المعروف و لم يرتكبوا المنكر، لكنهم لم يأمروا و لم ينهوا، فعدم استجابة دعائهم لذلك كأصحاب السبت، فإن العذاب نزل على المعتدين و الذين لم ينهوا معا و عدم استجابة دعاء المؤمنين لظهور القائم عليه السلام يحتمل الوجهين.

و اعلم أن عمدة ترك النهي عن المنكر في هذه الأمة ما صدر عنهم بعد الرسول صلى الله عليه و آله و سلم في مداهنة خلفاء الجور، و عدم اتباع أئمة الحق عليهم، فتسلط عليهم خلفاء الجور من التيمي و العدوي و بني أمية و بني العباس، و سائر الملوك الجائرين فكانوا يدعون و يتضرعون فلا يستجاب لهم، و ربما يخص الخبر بذلك لقوله و لم يتبعوا الأخيار من أهل بيتي، و التعميم أولى.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 75

باب مجالسة أهل المعاصي‏

 (1)

 (الحديث الأول)

 (2): مجهول.

و المراد

بمعصية الله‏

 (3) ترك أوامره و فعل نواهيه كبيرة كانت أو صغيرة، حق الله كان أو حق الناس، و من ذلك اغتياب المؤمن، فإن فعل أحد شيئا من ذلك و قدرت على تغييره و منعه منه فغيره أشد تغيير حتى يسكت عنه و ينزجر منه، و لك ثواب المجاهدين، و إن خفت منه فاقطعه و أنقله بالحكمة مما هو مرتكبه إلى أمر آخر جائز، و لا بد من أن يكون الإنكار بالقلب و اللسان وحده، و القلب مائل إليه، فإن ذلك نفاق و فاحشة أخرى، و إن لم تقدر عليه فقم و لا تجلس معه، فإن لم تقدر على القيام أيضا فأنكره بقلبك و امقته في نفسك و كن كأنك على الرضف، فإن الله تعالى مطلع على سرائر القلوب و أنت عنده من الآمرين بالمعروف و الناهين عن المنكر، و إن تنكر و لم تقم مع القدرة على الإنكار و القيام فقد رضيت بالمعصية فأنت و هو حينئذ سواء في الإثم، و قد مر الكلام في ذلك في باب الغيبة.

 (الحديث الثاني)

 (4): صحيح.

و الجعفري‏

 (5) هو أبو هاشم داود بن القاسم الجعفري و هو من أجلة أصحابنا، و يقال إنه لقي الرضا إلى آخر الأئمة عليهم السلام، و أبو الحسن يحتمل الرضا و الهادي عليهما السلام‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 76

و يحتمل أن يكون سليمان بن جعفر الجعفري كما صرح به في مجالس المفيد.

" يقول"

 (1) أي الرجل‏

" فقال"

 (2) أي ذلك الرجل، و كونه كلام بكر و الضمير للجعفري بعيد، و في المجالس بقول لأبي و هو أظهر، و يؤيد الأول‏

" فقال إنه خالي"

 (3) الظاهر تخفيف اللام، و تشديده من الخلة كأنه تصحيف‏

" يصف الله"

 (4) أي بصفات الأجسام كالقول بالجسم و الصورة أو بالصفات الزائدة كالأشاعرة، و في المجالس:

يصف الله تعالى و يحده و هو يؤيد الأول، و الواو في‏

قوله عليه السلام: و لا يوصف‏

 (5) للحال، أي و الحال أنه لا يجوز وصفه بالمعنيين‏

" فأما جلست معه"

 (6) أي لا يمكن الجمع بين الجلوس معه و الجلوس معنا، فإن جالسته كنت فاسقا و نحن لا نجالس الفساق، مع أن الجمع بينهما مما يوهم تصويب قوله، و ظاهره مرجوحية الجلوس مع من يجالس أهل العقائد الفاسدة، و تحريم الجلوس معهم.

" فيلحقه بموسى"

 (7) أي يدخله في دينه أو يلحقه بعسكره و مالهما واحد

" فمضى أبوه"

 (8) أي في الطريق الباطل الذي اختاره أي استمر على الكفر و لم يقبل الرجوع أو مضى في البحر

" و هو يراغمه"

 (9) أي يبالغ في ذكر ما يبطل مذهبه، و يذكر ما يغضبه، في القاموس: المراغمة الهجران و التباعد و المغاضبة و راغمهم نابذهم و هجرهم و عاداهم، و ترغم تغضب، و في المجالس تخلف عنه ليعظه و أدركه موسى و أبوه يراغمه‏

" حتى بلغا طرفا من البحر"

 (10) أي أحد طرفي البحر، و هو الطرف الذي يخرج منه قوم‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 77

موسى من البحر.

و أقول: كان المعنى هنا قريبا من طرف البحر، و في المجالس طرف البحر فغرقا جميعا فأتى موسى الخبر، فسأل جبرئيل عن حاله فقال له: غرق رحمه الله و لم يكن على رأي أبيه، و لكن النقمة" إلخ".

 (الحديث الثالث)

 (1): صحيح.

" فتصيروا عند الناس كواحد منهم"

 (2) يدل على وجوب الاحتراز عن مواضع التهمة، و إن فعل ما يوجب حسن ظن الناس مطلوب إذا لم يكن للرياء و السمعة و قد يمكن أن ينفعه ذلك في الآخرة لما ورد أن الله يقبل شهادة المؤمنين و إن علم خلافه‏

" المرء على دين خليله"

 (3) أي عند الناس فيكون استشهادا لما ذكره عليه السلام أو يصير واقعا كذلك فيكون بيانا لمفسدة أخرى كما ورد أن صاحب الشر يعدي و قرين السوء يغوى، و هذا أظهر.

 (الحديث الرابع)

 (4): صحيح.

و كان المراد

بأهل الريب‏

 (5) الذين يشكون في الدين و يشككون الناس فيه بإلقاء الشبهات، و قيل: المراد بهم الذين بناء دينهم على الظنون و الأوهام الفاسدة

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 78

كعلماء أهل الخلاف، و يحتمل أن يراد بهم الفساق و المتظاهرين بالفسوق، فإن ذلك مما يريب الناس في دينهم، و هو علامة ضعف يقينهم، في القاموس: الريب صرف الدهر و الحاجة و المظنة و التهمة، و في النهاية: الريب الشك، و قيل: هو الشك مع التهمة، و البدعة اسم من الابتداع كالرفعة من الارتفاع، ثم غلب استعمالها فيما هو نقص في الدين أو زيادة، كذا ذكره في المصباح.

و أقول:

البدعة

 (1) في عرف الشرع ما حدث بعد الرسول صلى الله عليه و آله و سلم و لم يرد فيه نص على الخصوص، و لا يكون داخلا في بعض العمومات، أو ورد نهي عنه خصوصا أو عموما، فلا تشمل البدعة ما دخل في العمومات مثل بناء المدارس و أمثالها الداخلة في عمومات إيواء المؤمنين و إسكانهم و إعانتهم، و كإنشاء بعض الكتب العلمية و التصانيف التي لها مدخل في المعلومات الشرعية، و كالألبسة التي لم تكن في عهد الرسول صلى الله عليه و آله و سلم و الأطعمة المحدثة فإنها داخلة في عمومات الحلية و لم يرد فيها نهي، و ما يفعل منها على وجه العموم إذا قصد كونها مطلوبة على الخصوص كان بدعة، كما أن الصلاة خير موضوع و يستحب فعلها في كل وقت، و لما عين عمر ركعات مخصوصة على وجه مخصوص في وقت معين صارت بدعة، و كما إذا عين أحد سبعين تهليلة في وقت مخصوص على أنها مطلوبة للشارع في خصوص هذا الوقت بلا نص ورد فيها كانت بدعة، و بالجملة إحداث أمر في الشريعة لم يرد فيها نص بدعة، سواء كانت أصلها مبتدعا أو خصوصيتها مبتدعة، فما ذكره المخالفون أن البدعة منقسمة بانقسام الأحكام الخمسة تصحيحا لقول عمر في التراويح: نعمة البدعة، باطل، إذ لا تطلق البدعة إلا على ما كان محرما كما قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: كل بدعة ضلالة و كل ضلالة سبيلها إلى النار، و ما فعله عمر كان من البدعة المحرمة، لنهي النبي صلى الله عليه و آله و سلم عن الجماعة في النافلة فلم ينفعهم هذا التقسيم" و لن يصلح العطار ما أفسد

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 79

الدهر".

و قد أشبعنا القول في ذلك في كتاب الفتن في باب مطاعن عمر.

قال الشهيد قدس الله روحه في قواعده: محدثات الأمور بعد النبي صلى الله عليه و آله و سلم تنقسم أقساما لا تطلق اسم البدعة عندنا إلا على ما هو محرم منها:

أولها: الواجب كتدوين الكتاب و السنة إذا خيف عليهما التفلت من الصدور فإن التبليغ للقرون الآتية واجب إجماعا و للآية، و لا يتم إلا بالحفظ و هذا في زمان الغيبة واجب. أما في زمن ظهور الإمام فلا لأنه الحافظ لهما حفظا لا يتطرق إليه خلل.

و ثانيها: المحرم و هو بدعة تناولتها قواعد التحريم و أدلته من الشريعة كتقديم غير الأئمة المعصومين عليهم، و أخذهم مناصبهم و استيثار ولاة الجور بالأموال، و منعها مستحقها، و قتال أهل الحق و تشريدهم و إبعادهم، و القتل على الظنة و الإلزام ببيعة الفساق و المقام عليها و تحريم مخالفتها، و الغسل في المسح، و المسح على غير القدم و شرب كثير من الأشربة، و الجماعة في النوافل و الأذان الثاني يوم الجمعة، و تحريم المتعتين، و البغي على الإمام و توريث الأباعد و منع الأقارب، و منع الخمس أهله و الإفطار في غير وقته، إلى غير ذلك من المحدثات المشهورات، و منها بالإجماع من الفريقين المكس و تولية المناصب غير الصالح لها ببذل أو إرث أو غير ذلك.

و ثالثها: المستحب و هو ما تناولته أدلة الندب كبناء المدارس و الربط، و ليس منه اتخاذ الملوك الأهبة ليعظموا في النفوس، اللهم إلا أن يكون مرهبا للعدو.

و رابعها: المكروه و هو ما شملته أدلة الكراهة كالزيادة في تسبيح الزهراء سلام الله عليها و سائر الموظفات، أو النقيصة منها، و التنعم في الملابس و المأكل‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 80

بحيث لا يبلغ الإسراف بالنسبة إلى الفاعل، و ربما أدى إلى التحريم إذا استضر به و عياله.

و خامسها: المباح و هو الداخل تحت أدلة الإباحة كنخل الدقيق فقد ورد:

أول شي‏ء أحدثه الناس بعد رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم اتخاذ المناخل، لأن العيش و الرفاهية من المباحات فوسيلته مباحة، انتهى.

و قال في النهاية: البدعة بدعتان، بدعة هدى و بدعة ضلال، فما كان في خلاف ما أمر الله به و رسوله فهو في حيز الذم و الإنكار، و ما كان واقعا تحت عموم ما ندب الله إليه، و حض عليه أو رسوله فهو في حيز المدح، و ما لم يكن له مثال موجود كنوع من الجود و السخاء و فعل المعروف فهو من الأفعال المحمودة، و لا يجوز أن يكون ذلك على خلاف ما ورد به الشرع، لأن النبي صلى الله عليه و آله و سلم قد جعل له في ذلك ثوابا، فقال: من سن سنة حسنة كان له أجرها و أجر من عمل بها، و قال في ضده: من سن سنة سيئة كان عليه وزره و وزر من عمل بها، و ذلك إذا كان في خلاف ما أمر الله به و رسوله ثم قال: و أكثر ما يستعمل به المبتدع في الذم، انتهى.

و المراد

بسبهم‏

 (1) الإتيان بكلام يوجب الاستخفاف بهم، قال الشهيد الثاني رفع الله درجته: يصح مواجهتهم بما يكون نسبته إليهم حقا لا بالكذب، و هل يشترط جعله على طريق النهي فيشترط شروطه أم يجوز الاستخفاف بهم مطلقا؟ ظاهر النص و الفتاوى الثاني، و الأول أحوط، و دل على جواز مواجهتهم بذلك و على رجحانها رواية البرقي عن أبي عبد الله عليه السلام إذا ظاهر الفاسق بفسقه فلا حرمة له و لا غيبة، و مرفوعة محمد بن بزيع: من تمام العبادة الوقيعة في أهل الريب، انتهى.

" و القول فيهم"

 (2) أي قول الشر و الذم فيهم، و في القاموس:

الوقيعة

 (3) القتال‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 81

و غيبة الناس، و في الصحاح الوقيعة في الناس الغيبة، و الظاهر أن المراد

بالمباهتة

 (1) إلزامهم بالحجج القاطعة و جعلهم متحيرين لا يحيرون جوابا كما قال تعالى:" فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ" و يحتمل أن يكون من البهتان للمصلحة فإن كثيرا من المساوي يعدها أكثر الناس محاسن خصوصا العقائد الباطلة، و الأول أظهر، قال الجوهري: بهته بهتا أخذه بغتة، و بهت الرجل بالكسر إذا دهش و تحير، و في المصباح بهت و بهت من بابي قرب و تعب دهش و تحير، و يعدى بالحرف و بغيره، فيقال: بهته يبهته بفتحتين، فبهت بالبناء للمفعول" و لا يتعلموا" في أكثر النسخ‏

و لا يتعلمون‏

 (2) و هو تصحيف.

 (الحديث الخامس)

 (3): مجهول.

لكن الظاهر أن‏

ميسرا

 (4) هو ابن عبد العزيز الثقة فهو موثق، و

المؤاخاة

 (5) المصاحبة و الصداقة بحيث يلازمه و يراعى حقوقه، و يكون محل إسراره و يواسيه بماله و جاهه‏

و الفجور

 (6) التوسع في الشر، قال الراغب: الفجر شق الشي‏ء شقا واسعا قال تعالى:

" وَ فَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً" و الفجور شق ستر الديانة يقال: فجر فجورا فهو فاجر و جمعه فجار و فجرة، انتهى.

و تخصيص الكذاب‏

 (7) مع أنه داخل في الفاجر لأنه أشد ضررا من سائر الفجار.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 82

 (الحديث السادس)

 (1): ضعيف.

و في القاموس:

مجن‏

 (2) مجونا صلب و غلظ، و منه الماجن لمن لا يبالي قولا و فعلا كأنه صلب الوجه، و قال الجوهري: المجون أن لا يبالي الإنسان ما صنع و كان المراد

بالجفاء

 (3) البعد عن الآداب الحسنة، و يطلق في الأخبار على هذا المعنى كثيرا و هو الأنسب هنا، و يمكن أن يكون المراد به أنه يوجب غلظ الطبع، و ترك الصلة و البر، و منه الحديث: من بدا جفا أي من سكن البادية غلظ طبعه لقلة مخالطة الناس، و الجفاء غلظ الطبع.

" و قسوة"

 (4) أي توجب القسوة، و

المدخل‏

 (5) مصدر ميمي و كذا المخرج، و يحتملان الإضافة إلى الفاعل و إلى المفعول أي دخولك عليه أو دخوله عليك، و كذا المخرج‏

" فإنه لا يشير عليك بخير"

 (6) أي إذا شاورته‏

" و لا يرجى لصرف السوء عنك"

 (7) أي إذا ابتليت ببلية

" و لو أجهد"

 (8) أي أتعب نفسه فإن كل ذلك فرع العقل.

" و ربما أراد منفعتك فضرك"

 (9) لحمقه من حيث لا يشعر

" فموته خير"

 (10) لك‏

" من حياته"

 (11) في كل حال‏

" و سكوته"

 (12) عند المشورة و غيرها

" خير"

 (13) لك" من نطقه"

" و بعده"

 (14) عنك أو بعدك عنه‏

" خير لك من قربه"

 (15) فإن احتمال الضرر أكثر من النفع‏

" لا يهنئك"

 (16) بالهمز و القلب أيضا، في المصباح هنؤ الشي‏ء بالضم مع الهمز هناءة

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 83

بالفتح و المد تيسر من غير مشقة و لا عناء فهو هني‏ء، و يجوز الإبدال و الإدغام، و هنا في الولد يهنؤني مهموز من بابي نفع و ضرب، أي سرني و يقول العرب في الدعاء ليهنئك الولد بهمزة ساكنة و بإبدالها ياءا و حذفها عامي، و معناه سرني فهو هاني و هنأني الطعام يهنؤني ساغ.

" ينقل حديثك و ينقل إليك الحديث"

 (1) أي يكذب عليك عند الناس و يكذب على الناس عندك، فيفسد بينك و بينهم،

فقوله: كلما أفنى‏

 (2) بيان مفسدة أخرى، و هي عدم الاعتماد على كلامه و يحتمل أن يكون الجميع لبيان مفسدة واحدة و هو أن العمدة في منفعة الصديق أن يأتيك بكلام غيرك أو فعله و أن يبلغ رسالتك إلى غيره، و لما كانت عادته الكذب لا تعتمد أنت على كلامه و لا غيرك فتنتفي الفائدتان هذا إذا لم يأت بما يوجب الإفساد و الإغراء، و إلا فمفسدته أشد فيكون قوله و يغري تأسيسا لا تأكيدا.

و في القاموس: الحديث الخبر، و الجمع أحاديث شاذ، و

الأحدوثة

 (3) ما يتحدث به، و في الصحاح الحديث الخبر يأتي على القليل و الكثير، و يجمع على أحاديث على غير قياس، قال الفراء: نرى أن واحد الأحاديث أحدوثة، ثم جعلوه جمعا للحديث و الأحدوثة ما يتحدث به، و قال:

مطه‏

 (4) يمطه أي مده، و في القاموس مطه مده و الدلو جذبه، و حاجبيه و خده تكبر، و أصابعه مدها مخاطبا بها، و تمطط تمدد، و في الكلام لون فيه، انتهى.

و سيأتي هذا الخبر بعينه في كتاب العشرة، و فيه مطرها و في القاموس: مطر بي و ما مطر منه خيرا و بخير أي ما أصابه منه خير، و تمطرت الطير أسرعت في هويتها كمطرت، و على الأول الباء في‏

قوله بأخرى‏

 (5) للآلة، و على الثاني للتعدية إلى المفعول الثاني‏

" فما يصدق"

 (6) على بناء المجهول من التفعيل، و ربما يقرأ على بناء المعلوم‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 84

كينصر أي أصل الحديث صادق، فيمطها بكذب من عنده فلا يكون صادقا لذلك و الأول أظهر، و في القاموس:

أغرى‏

 (1) بينهم العداوة ألقاها كأنه ألزقها بهم و قال الجوهري: أغريت الكلب بالصيد و أغريت بينهم.

و أقول: كان المعنى هنا يغري بينهم المخاصمات بسبب العداوة، أو الباء زائدة و قد قال تعالى:" فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ" و يظهر من بعضهم كالجوهري أن الإغراء بمعنى الإفساد، فلا يحتاج إلى مفعول، و في بعض النسخ فيما سيأتي و يفرق بين الناس بالعداوة، فلا يحتاج إلى تكلف، و قال:

السخيمة

 (2) و السخمة بالضم الحقد.

" و انظروا لأنفسكم"

 (3) أي اختاروا للمؤاخاة و المصاحبة غير هؤلاء حيث عرفتم ضرر مصاحبتهم، أو لما نبهتكم على ضرر مصاحبة صاحب السوء فاتقوا عواقب السوء و اختاروا للإخوة من لم تتضرروا بمصاحبتهم في الدين و الدنيا و إن كان غير هؤلاء كما سيأتي أفراد أخر، و قيل: المعنى فانظروا لأنفسكم و لا تقبلوا قول الكذاب و لا تعادوا الناس بقولهم، و قد قال تعالى:" إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا" و لا يخلو من بعد.

 (الحديث السابع)

 (4): ضعيف.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 85

" فإنه"

 (1) أي الكذاب‏

" بمنزلة السراب"

 (2) قال الراغب: السراب اللامع في المفازة كالماء، و ذلك لانسرابه في رأي العين، و يستعمل السراب فيما لا حقيقة له كالشراب فيما له حقيقة، قال تعالى:" كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً" و قال تعالى:" وَ سُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً" انتهى.

و قد يقال: المراد

بالكذاب‏

 (3) هنا من يكذب على الله و رسوله بالفتاوى الباطلة و يمكن أن يكون إشارة إلى قوله تعالى:" وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ" إلخ.

و

قوله عليه السلام: يقرب‏

 (4)، استيناف لبيان وجه الشبه، و المستتر فيه راجع إلى الكذاب و المعنى أنه بكذبه يقرب إليك البعيد عن الحق و الواقع أو عن العقل، و كذا العكس.

" فإنه بائعك"

 (5) على صيغة اسم الفاعل أو فعل ماض من المبايعة بمعنى البيعة، و الأول أظهر، و الأكلة إما بالفتح أي بأكلة واحدة أو بالضم أي لقمة، قال الجوهري:

أكلت الطعام أكلا و مأكلا، و

الأكلة

 (6) المرة الواحدة حتى تشبع، و الأكلة بالضم اللقمة، تقول: أكلت أكلة واحدة، أي لقمة، و هي القرصة أيضا، و هذا الشي‏ء أكلة لك أي طعمة، انتهى.

و قد يقرأ بأكله بالإضافة إلى الضمير الراجع إلى الفاسق، كناية عن مال الدنيا،

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 86

فقوله: و أقل من ذلك‏

 (1)، الصيت و الذكر عند الناس و هو بعيد، و الأول أصوب كما روي في النهج عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال لابنه الحسن: يا بني إياك و مصادقة الأحمق فإنه يريد أن ينفعك فيضرك،

و إياك و مصادقة البخيل‏

 (2) فإنه يقعد عنك أحوج ما تكون إليه و إياك مصادقة الفاجر فإنه يبيعك بالتافه، و إياك و مصادقة الكذاب فإنه كالسراب يقرب عليك البعيد و يبعد عنك القريب، و التافه: اليسير الحقير، و ذلك لأنه لا يخاف الله و يسهل عليه خلاف الديانة فلا يحفظ حق المصادقة

" فإنه يخذلك في ماله"

 (3) أي يترك نصرتك بسبب ماله‏

" أحوج ما تكون إليه"

 (4) قيل: أحوج منصوب بنيابة ظرف الزمان لإضافته إلى المصدر، لكون ما مصدرية، و كما أن المصدر يكون نائبا لظرف الزمان مثل رأيته قدوم الحاج كذلك يكون المضاف إليه أيضا نائبا و تكون تامة، و نسبة الحاجة إلى المصدر مجاز، و المقصود نسبته إلى الفاعل، و إليه متعلق بالأحوج و الضمير راجع إلى البخيل أو إلى ماله و قيل: أحوج منصوب على الحال من الكاف.

" في ثلاث مواضع"

 (5) كذا في أكثر النسخ و كان تأنيثه بتأويل المواضع بالآيات، و في بعضها في ثلاثة و هو أظهر

" فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ‏

 (6) قال البيضاوي: أي توليتم أمور الناس و تأمرتم عليهم، أو أعرضتم و توليتم عن الإسلام‏

" أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَ تُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ"

 (7) تناجزا عن الولاية و تجاذبا لها أو رجوعا إلى ما كنتم عليه في الجاهلية من التغاور و المقاتلة مع الأقارب، و المعنى أنهم لضعفهم في الدين و حرصهم على الدنيا أحقاء بأن يتوقع ذلك منهم من عرف حالهم و يقول لهم: هل عسيتم" أولئك المذكورون الذين لعنهم الله لإفسادهم و قطعهم الأرحام فأصمهم عن استماع الحق و قبوله و أعمى أبصارهم فلا يهتدون إلى سبيله.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 87

" الَّذِينَ يَنْقُضُونَ"

 (1) في الرعد" و الذين" و حذف العاطف سهل، لكن ليس في بعض النسخ" وَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ" و كأنه من النساخ لوجوده في أكثر النسخ.

و في كتاب الاختصاص و غيره‏

" عهد الله"

 (2) قيل: لله تعالى عهود، عهد أخذه بالعقل على عباده بإراءة آياته في الآفاق و الأنفس، و بما ذكر من إقامة الحجة على وجود الصانع و قدرته و علمه و حكمته و توحيده، و عهد أخذه عليهم بأن يقروا بربوبيته فأقروا، و قالوا بلى حين قال: أ لست بربكم، و عهد أخذه على أهل الكتاب في الكتب المنزلة على أنبيائهم بتصديق محمد صلى الله عليه و آله و سلم، و عهد أخذه على الأمم أن يصدقوا نبيا بعث إليهم بالمعجزات و يتبعوه و لا يخالفوا حكمه، و عهد أخذه عليهم بالولاية للأوصياء، و عهد أخذه على العلماء بأن يعلموا الجهال و يبينوا ما في الكتاب و لا يكتموه، و عهد أخذه على النبيين بأن يبلغوا الرسالة و يقيموا الذين و لا يتفرقوا فيه، و قد وقع النقض في جميع ذلك إلا في الأخير.

و الضمير في ميثاقه للعهد، و قال المفسرون: هو اسم لما تقع به الوثاقة و هي الاستحكام و المراد به ما وثق الله به عهده من الآيات و الكتب، أو ما وثقوه به من الالتزام و القبول و أن يوصل في محل الخفض على أنه بدل الاشتمال من ضمير به، و في تفسير الإمام عليه السلام في تفسير آية البقرة" الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ" المأخوذ عليهم لله بالربوبية و لمحمد صلى الله عليه و آله و سلم بالنبوة، و لعلي بالإمامة و لشيعتهما بالمحبة و الكرامة

" مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ"

 (3) أي إحكامه و تغليظه‏

" وَ يَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ"

 (4) من الأرحام و القرابات أن يتعاهدهم و أفضل رحم و أوجبهم حقا رحم محمد فإن حقهم محمد كما أن قرابات الإنسان بأبيه و أمه، و محمد أعظم حقا من أبويه، كذلك حق رحمه أعظم و قطيعته أفظع و أفضح؟.

" وَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ"

 (5) بالبراءة فمن فرض الله إمامته، و اعتقاد إمامة من قد

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 88

فرض الله مخالفته‏

" أُولئِكَ"

 (1) أهل هذه الصفة

" هُمُ الْخاسِرُونَ"

 (2) خسروا أنفسهم لما صاروا إليه من النيران، و حرموا الجنان، فيا لها من خسارة ألزمتهم عذاب الأبد، و حرمتهم نعيم الأبد.

و قيل في‏

" يَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ"

 (3): يدخل فيه التفريق بين الأنبياء و الكتب في التصديق و ترك موالاة المؤمنين، و ترك الجمعة و الجماعات المفروضة، و سائر ما فيه رفض خيرا و تعاطى شر فإنه يقطع الوصلة بين الله و بين العبد التي هي المقصودة بالذات من كل وصل و فصل، و قوله عليه السلام: وجدته ملعونا في ثلاثة مواضع اللعن في الآية الأولى و الثانية ظاهر، و أما الثالثة فلاستلزام الخسران لا سيما على ما فسره الإمام عليه السلام اللعن و البعد من رحمة الله، و الله سبحانه في أكثر القرآن وصف الكفار بالخسران، فقد قال تعالى:" أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ". و قال:" فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ" و قال بعد ذكر الكفار:" لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ" و قال:" فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ" و قال:" وَ مَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ" و قال:" وَ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَ كَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ" و قال:" وَ مَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ" و قال:" قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَ أَهْلِيهِمْ‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 89

يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ" و قال:" وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ" و قال:" وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ" و قال:" لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ" و قال" وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَ هُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ" و قال:" وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَ هُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ".

 (الحديث الثامن)

 (1): صحيح.

" وَ قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ"

 (2) يعني في القرآن و كأنه إشارة إلى قوله تعالى في سورة الأنعام:" وَ إِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَ إِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى‏ مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ" فإن الأنعام مكية، و هذه الآية في سورة النساء و هي مدنية و كأنه عليه السلام لذلك اختار هذه الآية لإشارتها إلى الآية الأخرى أيضا، و تتمة الآية" فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَ الْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً،

أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ"

 (3) قيل:" أن" مفسرة، و قال البيضاوي: محففة، و المعنى أنه إذا سمعتم آيات الله، و قد ورد في الأخبار الكثيرة أن آيات الله الأئمة عليهم السلام أو الآيات النازلة فيهم و قال علي بن إبراهيم هنا: آيات الله هم الأئمة عليهم السلام.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 90

يُكْفَرُ بِها وَ يُسْتَهْزَأُ بِها"

 (1) قال البيضاوي: حالان من الآيات جي‏ء بهما لتقييد النهي عن المجالسة في قوله:" فَلا تَقْعُدُوا" إلخ، الذي هو جزاء الشرط بما إذا كان من يجالسه هازئا معاندا غير مرجو، و يؤيده الغاية، و الضمير في معهم للكفرة المدلول عليهم بقوله: يكفر بها و يستهزئ بها" إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ" في الإثم لأنكم قادرون على الإعراض عنهم و الإنكار عليهم أو الكفر إن رضيتم بذلك أو لأن الذين يقاعدون الخائضين في القرآن من الأخبار كانوا منافقين، و يدل عليه" إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَ الْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً" يعني القاعدين و المقعود معهم، انتهى.

و في الآية إيماء إلى أن من يجالسهم و لا ينهاهم هو من المنافقين كائنا من كان، أي سواء كان من أقاربك أم من الأجانب، و سواء كان ظاهرا من أهل ملتك أم لا، و سواء كان معدودا ظاهرا من أهل العلم أم لا، و سواء كان من الحكام أو غيرهم إذا لم تخف ضررا.

 (الحديث التاسع)

 (2): مجهول بعبد الأعلى، و قد يعد حسنا لمدح فيه رواه نفسه.

" فلا يجلس"

 (3) بالجزم أو الرفع، و كأنه إشارة إلى قوله تعالى:" لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ" و فيه زجر عظيم عن‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 91

استماع غيبة المؤمن حيث عادلة بانتقاص الإمام، يقال:

فلان ينتقص فلانا

 (1) أي يقع فيه و يذمه.

 (الحديث العاشر)

 (2): ضعيف.

" مكان ريبة"

 (3) أي مقام تهمة و شك، و كان المراد النهي عن حضور موضع يوجب التهمة بالفسق أو الكفر أو بذمائم الأخلاق أعم من أن يكون بالقيام أو المشي أو القعود أو غيرها، فإنه يتهم بتلك الصفات ظاهرا عند الناس و قد يتلوث به باطنا أيضا كما مر، قال في المغرب: رابه ريبا شككه، و الريبة الشك و التهمة، و منها الحديث دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الكذب ريبة، و إن الصدق طمأنينة أي ما يشك و يحصل فيك الريبة، و هي في الأصل قلق النفس و اضطرابها، أ لا ترى كيف قابلها بالطمأنينة و هي السكون، و ذلك أن النفس لا تستقر متى شكت في أمر، و إذا أيقنته سكنت و اطمأنت، انتهى.

و يحتمل أن يكون المراد به المنع عن مجالسة أرباب الشكوك و الشبهات الذين يوقعون الشبهة في الدين، و يعدونها كياسة و دقة فيضلون الناس عن مسالك أصحاب اليقين كأكثر الفلاسفة و المتكلمين، فمن جالسهم و فاوضهم لا يؤمن بشي‏ء بل يحصل في قلبه مرض الشك و النفاق، و لا يمكنه تحصيل اليقين في شي‏ء من أمور الدين، بل يعرضه إلحاد عقلي لا يتمسك عقله بشي‏ء، و لا يطمئن في شي‏ء، كما أن الملحد الديني لا يؤمن بملة، فهم كما قال تعالى:" فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً" و أكثر أهل زماننا سلكوا هذه الطريقة، و قلما يوجد مؤمن على الحقيقة أعاذنا الله و إخواننا المؤمنين من ذلك، و حفظنا عن جميع المهالك.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 92

 (الحديث الحادي عشر)

 (1): مجهول أو حسن و قد تقدم مثله بتغيير ما في المتن و السند.

 (الحديث الثاني عشر)

 (2): مجهول.

و كان المراد

بالأخ الرضا عليه السلام‏

 (3)، لأن الشيخ عد إسحاق من أصحابه عليه السلام‏

و بالعم‏

 (4) علي بن جعفر، و كأنه كان عن أبي عبد الله عليه السلام فظن الرواة أنه زائد فأسقطوه و إن أمكن رواية علي بن جعفر عن أبيه، و الرضا عليه السلام لا يحتاج إلى الواسطة في الرواية، و المراد

بالنقمة

 (5) أما العقوبة الدنيوية أو اللعنة و الحكم باستحقاق العقوبة الأخروية، و

قوله: و لا تجالسوهم‏

 (6) إما تأكيد لقوله فلا تقاعدوهم، أو المراد

بالمقاعدة

 (7) مطلق القعود مع المرء و بالمجالسة الجلوس معه على وجه الموادة و المصاحبة و المؤانسة كما يقال فلان أنيسه و جليسه، فيكون ترقيا من الأدون إلى الأعلى كما هو عادة العرب، و عليه جرى قوله تعالى:" وَ لا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْبَرَ" و قوله سبحانه:" لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَ لا نَوْمٌ".

و يحتمل العكس أيضا بأن يكون المراد بالمقاعدة من يلازم القعود كقوله تعالى:" عَنِ الْيَمِينِ وَ عَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ" أو يكون المراد بأحدهما حقيقة المقاعدة و بالأخرى مطلق المصاحبة.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 93

و قد ذكروا وجوها من الفرق بين القعود و الجلوس لكن مناسبته لهذا المقام محل تأمل، و إن أمكن تحصيلها بتكلف، قال في المصباح: الجلوس غير القعود، فالجلوس هو الانتقال من سفل إلى علو و القعود هو الانتقال من علو إلى سفل، فعلى الأول يقال لمن هو نائم أو ساجد اجلس، و على الثاني لمن هو قائم أقعد و قد يكون جلس بمعنى قعد متربعا، و قد يفارقه، و منه جلس بين شعبها أي حصل و تمكن، إذ لا يسمى هذا قعودا فإن الرجل حينئذ يكون معتمدا على أعضائه الأربع، و يقال:

جلس متكئا و لا يقال قعد متكئا بمعنى الاعتماد على أحد الجانبين.

و قال الفارابي و جماعة: الجلوس نقيض القيام فهو أعم من القعود، و قد يستعملان بمعنى الكون و الحصول فيكونان بمعنى واحد، و منه يقال: جلس متربعا، و قعد متربعا، و الجليس من يجالسك، فعيل بمعنى فاعل.

" في فتياه"

 (1) قيل: في للتعليل، و نحو قوله:" فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ" و قال الجوهري: الرث الشي‏ء البالي، و قال:

صد

 (2) عنه صدودا أعرض، و صده عن الأمر صدا منعه و صرفه عنه، و المراد بمن يصد عنهم أعم من ذلك المجلس و غيره،

لقوله: و أنت تعلم،

 (3) أي و أنت تعلم أنه ممن يصد عنا، فإن لم تعلم فلا حرج عليك في مجالسته.

" قال ثم تلا"

 (4) الضمير في قال هنا و فيما سيأتي راجع إلى كل من الأخ و العم، و لذلك تكلف بعضهم و قال: الأخ و العم واحد، و المراد الأخ الرضاعي و لا يخفى بعده،

" أو قال كفه"

 (5) الترديد من الراوي أي أو قال مكان في فيه في كفه،

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 94

و على التقديرين الغرض التعجب من سرعة الاستشهاد بالآيات بلا تفكر و تأمل.

و ترتيب الآيات على خلاف ترتيب المطالب، فالآية الثالثة للكذب في الفتيا، و الأولى للثاني، إذ قد ورد في الأخبار أن المراد بسب الله سب أولياء الله، و إذا جلس مجلسا يذكر فيه أعداء الله فإما أن يسكت فيكون مداهنا أو يتعرض لهم فيدخل تحت الآية، و سيأتي في الروضة في حديث طويل عن الصادق عليه السلام: و جاملوا الناس و لا تحملوهم على رقابكم تجمعوا مع ذلك طاعة ربكم، و إياكم و سب أعداء الله حيث يسمعونكم فيسبوا الله عدوا بغير علم، و قد ينبغي لكم أن تعلموا حد سبهم لله، كيف هو أنه من سب أولياء الله فقد انتهك سب الله، و من أظلم عند الله ممن استسب لله و لأوليائه، فمهلا مهلا فاتبعوا أمر الله و لا حول و لا قوة إلا بالله.

و روى العياشي عنه عليه السلام أنه سئل عن هذه الآية؟ فقال: أ رأيت أحدا يسب الله؟ فقال: لا و كيف؟ قال: من سب ولي الله فقد سب الله؟

و في الاعتقادات عنه عليه السلام أنه قيل له: إنا نرى في المسجد رجلا يعلن بسب أعدائكم و يسبهم؟ فقال: ما له لعنه الله، تعرض بنا، قال الله:" وَ لا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ" الآية، قال: و قال الصادق عليه السلام في تفسير هذه الآية: لا تسبوهم فإنهم يسبوا عليكم، و قال: من سب ولي الله فقد سب الله، قال النبي صلى الله عليه و آله و سلم لعلي عليه السلام:

من سبك فقد سبني، و من سبني فقد سب الله، و من سب الله فقد كبه الله على منخريه في النار.

و الآية الثانية للمطلب الثالث إذ قد ورد في الأخبار أن المراد بالآيات الأئمة عليهم السلام، و روى علي بن إبراهيم عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم، قال: من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فلا يجلس في مجلس يسب فيه إمام أو يغتاب فيه مسلم، إن الله تعالى يقول‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 95

في كتابه:" وَ إِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا" الآية، و قيل:

الأولى للثالث، و الثانية للثاني، و قال: الخوض في شي‏ء الطعن فيه كما قال تعالى:

" وَ كُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ" و لنرجع إلى تفسير الآيات على قول المفسرين:"

وَ لا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ‏

 (1)، قالوا أي لا تذكروا آلهتهم التي يعبدونها فيها من القبائح‏

" فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً"

 (2) أي تجاوزا عن الحق إلى الباطل‏

" بِغَيْرِ عِلْمٍ"

 (3) أي على جهالة بالله و ما يجب أن يذكر به.

و أقول: على تأويلهم عليهم السلام يحتمل أن يكون المعنى بغير علم أن سب أولياء الله سب لله‏

" وَ إِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا قالوا"

 (4) أي بالتكذيب و الاستهزاء بها و الطعن فيها

" فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ"

 (5) أي فلا تجالسهم و قم عنهم‏

" حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ"

 (6) قيل: أعاد الضمير على معنى الآيات لأنها القرآن، و قيل في قوله" فِي آياتِنا" حذف مضاف، أي حديث آياتنا بقرينة قوله في حديث غيره، و قال بعد ذلك:" وَ إِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ" بأن يشغلك بوسوسته حتى تنسى النهي" فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى‏" أي بعد أن تذكره" مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ" أي معهم بوضع الظاهر موضع المضمر دلالة على أنهم ظلموا بوضع التكذيب و الاستهزاء موضع التصديق و الاستعظام.

" وَ لا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ"

 (7) قيل: اللام للتعليل و متعلق بالنهي عنه في لا تقولوا، و ما مصدرية، قال البيضاوي: انتصاب‏

الكذب‏

 (8) بلا تقولوا و

" هذا حَلالٌ وَ هذا حَرامٌ"

 (9) بدل منه أو متعلق بتصف على إرادة القول أي لا تقولوا الكذب لما تصف‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 96

ألسنتكم فتقولوا هذا حلال و هذا حرام، أو مفعول لا تقولوا، أو الكذب منتصب بتصف و ما مصدرية أي لا تقولوا هذا حلال و هذا حرام لوصف ألسنتكم الكذب أي لا تحرموا و لا تحلوا بمجرد قول تنطق به ألسنتكم من غير دليل.

و وصف ألسنتهم الكذب مبالغة في وصف كلامهم بالكذب، كان حقيقة الكذب كانت مجهولة، و ألسنتهم تصفها و تعرفها بكلامهم، هذا و لذلك عد من من فصيح الكلام كقولهم وجهها يصف الجمال، و عينها تصف السحر

" لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ"

 (1) تعليل لا يتضمن الغرض كما في قوله" لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً".

 (الحديث الثالث عشر)

 (2): مجهول.

و في النهاية في حديث الصلاة كان في التشهد الأول‏

" كأنه على الرضف"

 (3) الرضف الحجارة المحماة علي النار، واحدتها رضفة، انتهى.

و سخط الله‏

 (4) لعنهم و الحكم بعذابهم و خذلانهم، و منع الألطاف عنهم، فإذا نزل يمكن أن يشمل من قارنهم و قاربهم فيجب الاحتراز عن مجالستهم إذا لم تكن تقية.

 (الحديث الرابع عشر)

 (5): صحيح.

و يدل على تحريم الجلوس مع النواصب و إن لم يسبوا في ذلك المجلس و هو أيضا محمول على غير التقية.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 97

 (الحديث الخامس عشر)

 (1): مجهول.

و الانتصاف‏

 (2) الانتقام، و في القاموس: انتصف منه استوفى حقه منه كاملا حتى صار كل على النصف سواء، و تناصفوا أنصف بعضهم بعضا، انتهى.

و الانتصاف أن يقتله إذا لم يخف على نفسه أو عرضه أو ماله أو على مؤمن آخر، و إضافة صالح إلى الموصول بيانية فيفيد سلب أصل المعرفة بناء على أن من للبيان، و يحتمل التبعيض أي من أنواع معرفتنا فيفيد سلب الكمال، و يحتمل التعليل أي الأعمال الصالحة و الأخلاق الحسنة التي أعطاه يسبب المعرفة، و يحتمل أن تكون الإضافة لامية فيرجع إلى الأخير و الأول أظهر.

 (الحديث السادس عشر)

 (3): مجهول.

و يحيى بن أم الطويل‏

 (4) من أصحاب الحسين، و قال الفضل بن شاذان: لم يكن في زمن علي بن الحسين عليه السلام في أول أمره إلا خمسة أنفس، و ذكر من جملتهم يحيى بن أم الطويل، و روي عن الصادق عليه السلام أنه قال: ارتد الناس بعد الحسين عليه السلام إلا ثلاثة، أبو خالد الكابلي و يحيى بن أم الطويل و جبير بن مطعم، ثم إن‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 98

الناس لحقوا و كثروا، و في رواية أخرى مثله، و زاد فيها و جابر بن عبد الله الأنصاري، و روي عن أبي جعفر عليه السلام أن الحجاج طلبه و قال: تلعن أبا تراب و أمر بقطع يديه و رجليه و قتله.

و أقول: كان هؤلاء الأجلاء من خواص أصحاب الأئمة عليهم السلام كانوا مأذونين من قبل الأئمة عليهم السلام بترك التقية لمصلحة خاصة خفية، أو أنهم كانوا يعلمون أنه لا ينفعهم التقية و أنهم يقتلون على كل حال بأخبار المعصوم أو غيره، و التقية إنما تجب إذا نفعت مع أنه يظهر من بعض الأخبار أن التقية إنما تجب إبقاء للدين و أهله، فإذا بلغت الضلالة حدا توجب اضمحلال الدين بالكلية فلا تقية حينئذ و إن أوجب القتل كما أن الحسين عليه السلام لما رأى انطماس آثار الحق رأسا ترك التقية و المسالمة.

و قال الفيروزآبادي:

الكناسة

 (1) بالضم موضع بالكوفة، و

البراء

 (2) إما بالفتح مصدر، و الحمل للمبالغة، أو بالضم أو الكسر جمع بري‏ء، أو كعلماء جمعه أيضا كما مر.

" مما تسمعون"

 (3) أي من سب أمير المؤمنين عليه السلام و مدح أئمة الجور

" و ما يعبدون من دون الله"

 (4) إشارة إلى أنهم على كفرهم الأصلي يظهرون الإسلام و يبطنون الكفر، أو إلى أن تركهم الطاعة لأئمة المنصوبين من قبل الله و طاعتهم خلفاء الجور بمنزلة الشرك، فالمراد بمن يعبدون من دون الله الطواغيت.

" ثم يخفض"

 (5) ذكر المضارع مكان الماضي للإشعار بتكرر وقوع ذلك منه‏

" فيما نحن عليه"

 (6) أي مذهب الإمامية.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 99

و قال في النهاية:

الفتح‏

 (1) الحكم، و منه حديث ابن عباس: ما كنت أدري ما قوله عز و جل" رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَ بَيْنَ قَوْمِنا" حتى سمعت بنت ذي يزن تقول لزوجها: تعال أفاتحك، أي أحاكمك، و منه الحديث: لا تفاتحوا أهل القدر، أي لا تحاكموهم، و قيل: لا تبتدئوهم بالمجادلة و المناظرة، و في القاموس: فاتح جامع و قاضي، و تفاتحا كلاما بينهما تحافتا دون الناس" فقد خنتموه" الغرض الحث على الإعطاء قبل سؤالهم حتى لا يحتاجوا إلى المسألة، فإن العطية بعد السؤال جزاؤه كما قاله الحكماء، و وردت به الأخبار و قيل: المعنى إن لم تعطوه فقد خنتموه و هو بعيد.

" أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها"

 (2) في القاموس: السرادق كلما أحاط بشي‏ء من حائط أو مضرب أو خباء، و قال البيضاوي: أي فسطاطها شبه به ما يحيط بهم من النار، و قيل:

السرادق الحجرة التي تكون حول الفسطاط، و قيل: سرادقها دخانها و قيل: حائط من نار

" وَ إِنْ يَسْتَغِيثُوا"

 (3) من العطش‏

" كَالْمُهْلِ"

 (4) أي كالجسد المذاب و قيل: كدردي الزيت‏

" يَشْوِي الْوُجُوهَ"

 (5) إذا قدم ليشرب من فرط حرارته‏

" بِئْسَ الشَّرابُ"

 (6) المهل‏

" وَ ساءَتْ"

 (7) النار

" مُرْتَفَقاً"

 (8) أي متكئا، و أصل الاتفاق نصب المرفق تحت الخد، و هو لمقابلة قوله: و حسنت مرتفقا، و إلا فلا ارتفاق لأهل النار.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 100

باب أصناف الناس‏

 (1)

 (الحديث الأول)

 (2): ضعيف على المشهور.

" الناس ستة أصناف"

 (3) قيل: لعل وجه الحصر أن الناس إما مؤمن أو كافر أو لا هذا و لا ذاك، و الأخير هم المستضعفون الذين لا يقرون بالحق و لا ينكرونه، و الثاني هم أهل النار قطعا، و الأول إما مؤمن كامل سابق بالخيرات لم يصدر منه ذنب أصلا أولا، و الأول هم أهل الجنة قطعا، و الثاني إما أن يتوب عن ذنبه أو لا و الأول هم‏

" آخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَ آخَرَ سَيِّئاً

 (4) عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ" أي يقبل توبتهم، و الثاني إما أن تغلب حسناته على سيئاته أو لا، و الأول هم" آخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَ إِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ" و الثاني هم أصحاب الأعراف، انتهى.

و أقول: قد عرفت أن مصطلح الآيات و الأخبار في الإيمان و الكفر غير مصطلح المتكلمين، و أن المؤمن غالبا يطلق على من صحت عقائده و عمل بفرائض الله و اجتنب الكبائر، فهو من أهل الوعد بالجنة، و يدخلها البتة و يقابله أقسام كثيرة، فلذا تنقسم الفرق ستة أقسام، فالأول و الثاني أهل الوعد و الوعيد، اكتفي بأحدهما تغليبا، و في بعض النسخ الوعد لذلك، و في بعضها الوعدين و هو أظهر، أي الذين‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 101

يتحقق فيهم وعد الثواب و وعيد العقاب قطعا إذا ماتوا على إحدى الحالتين.

و قوله: من أهل الجنة و النار

 (1) بيان لأهل الوعيد، أي جزما، و هم الذين قال الله تعالى فيهم في سورة التوبة:" وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ مَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَ رِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ" و قال في تلك السورة أيضا" وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَ الْمُنافِقاتِ وَ الْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَ لَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ" فهاتان الفرقتان أهل الوعدين و قال أيضا في تلك السورة:" وَ آخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ".

قال الطبرسي: يعني من أهل المدينة أو من الأعراب آخرون أقروا بذنوبهم و ليس براجع إلى المنافقين، و الاعتراف و الإقرار بالشي‏ء عن معرفة" خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً" يعني أنهم يفعلون أفعالا جميلة و أفعالا سيئة قبيحة، و التقدير و عملا آخرا سيئا" عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ"، قال المفسرون: عسى من الله واجبة و إنما قال عسى حتى يكونوا بين طمع و إشفاق، فيكون ذلك أبعد من الاتكال على العفو و إهمال التوبة" إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ" هذا تعليل لقبول التوبة من العصاة.

ثم قال (ره): قال أبو حمزة: بلغنا أنهم ثلاثة نفر من الأنصار: أبو لبابة بن عبد المنذر، و ثعلبة بن وديعة، و أوس بن حذام، تخلفوا عن رسول الله عند مخرجه إلى تبوك، فلما بلغهم ما أنزل فيمن تخلف عن نبيه صلى الله عليه و آله و سلم أيقنوا بالهلاك فأوثقوا أنفسهم بسواري المسجد، فلم يزالوا كذلك حتى قدم رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم فسأل عنهم فذكروا أنهم أقسموا لا يحلون أنفسهم حتى يكون رسول الله محلهم، فقال رسول الله‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 102

صلى الله عليه و آله و سلم: و أنا أقسم لا أكون أول من حلهم إلا أن أو مر فيهم بأمر، فلما نزل" عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ" عمد رسول الله إليهم فحلهم فانطلقوا فجاءوا بأموالهم إلى رسول الله فقالوا: هذه أموالنا التي خلفتنا عنده فخذها و تصدق بها عنا، فقال عليه السلام: ما أمرت فيها بأمر، فنزل:" خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ" الآيات.

و قيل: إنهم كانوا عشرة رهط منهم أبو لبابة عن ابن عباس، و روي عن أبي جعفر عليه السلام أنها نزلت في أبي لبابة و لم يذكر معه غيره، و سبب نزولها فيه ما جرى منه في بني قريظة حين قال: إن نزلتم على حكمه فهو الذبح، و به قال مجاهد.

و قيل: نزلت فيه خاصة حين تأخر عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم في غزوة تبوك، فربط نفسه بسارية كما تقدم.

" قال: وحشي منهم"

 (1) قال في القاموس: وحشي بن حرب صحابي و هو قاتل حمزة رضي الله عنه في الجاهلية، و مسيلمة الكذاب في الإسلام.

و أقول: أدرجه عليه السلام في هذا الصنف و أدرجه أبوه عليه السلام فيما سيأتي في المرجون لأمر الله، و لعله قد يطلق المرجون على المعنى الشامل للصنفين جميعا، و يمكن أن يكون بين الصنفين عموم و خصوص و إنما أوردهما للاستشهاد بالآيتين،

" وَ آخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ"

 (2) أي مؤخرون موقوفون لما يرد من أمر الله فيهم.

و قال قال الأزهري: إلا رجاء تهمز و لا تهمز أرجأت الأمر و أرجيته أخرته‏

" إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَ إِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ"

 (3) و إما لوقوع أحد الشيئين و الله سبحانه عالم بما يصير إليه أمرهم، و لكنه‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 103

سبحانه خاطب العباد بما عندهم،" وَ اللَّهُ عَلِيمٌ" بما يؤول إليه حالهم" حَكِيمٌ" فيما يفعله بهم.

و قال (ره): قال مجاهد و قتادة: نزلت الآية في هلال بن أمية و مرارة بن الربيع و كعب بن مالك، و هم من الأوس و الخزرج، و كان كعب بن مالك رجل صدق غير مطعون عليه، و إنما تخلف توانيا عن الاستعداد حتى فإنه المسير، و انصرف رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم فقال: و الله ما لي من عذر و لم يعتذر إليه بالكذب، فقال صلى الله عليه و آله و سلم:

صدقت قم حتى يقضي الله فيك، و جاء الآخران فقالا مثل ذلك و صدقا، فنهى رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم من مكالمتهم و أمر نساءهم باعتزالهم حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، فأقاموا على ذلك خمسين ليلة، و بني كعب خيمة على سلع فيكون فيها وحده، ثم نزلت التوبة عليهم بعد الخمسين في الليل، و هي قوله:" وَ عَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا" الآية، فأصبح المسلمون يبتدرونهم و يبشرونهم، انتهى.

أقول: يظهر مما ذكروه أن هؤلاء أيضا كانوا تائبين فالفرق بينهم و بين الفرقة السابقة مشكل إلا أن يكون الفرق باختلاف مراتب ذنوبهم و مراتب توبتهم و سيأتي في الأخبار الآتية وجوه أخرى من الفرق بحسب ضعف الإيمان و قوته و كمال إتمام الحجة عليهم و عدمه.

" إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ"

 (1) أقول: سابقه هذه الآية:" إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ" أي يقبض أرواحهم" ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ" أي في حال هم فيها ظالمو أنفسهم" قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ" أي قالت لهم الملائكة في أي شي‏ء كنتم من دينكم؟ على وجه التقرير و التوبيخ" قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ" فيستضعفنا أهل الشرك بالله في أرضنا و بلادنا" قالُوا أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها" أي فتخرجوا من أرضكم و دوركم و تفارقوا من يمنعكم من الإيمان بالله و رسوله" فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ ساءَتْ مَصِيراً، إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ" أي‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 104

الذين استضعفهم المشركون" مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ وَ الْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً" أي يعجزون عن الهجرة لإعسارهم و قلة حيلتهم" وَ لا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا" في الخلاص من مكة

" فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ"

 (1) لعذرهم في ترك الهجرة" وَ كانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً".

هذا على تفسير المفسرين، و على تأويله عليه السلام لا يستطيعون حيلة إلى الكفر أي لا يقدرون على إلقاء الشبه القوية في الكفر، و لا على الرسوخ فيه" وَ لا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا" إلى الإيمان أي لبلاهتهم و قلة عقلهم و معرفتهم لا يستولون على معرفة الحق و الثبات فيه، فلهم في ذلك عذر يمكن أن يعفو الله عنهم، و لعله من بطون الآية، و يمكن تطبيقه على ظاهر الآية أيضا بأن يكونوا في مكة غير عارفين بالإسلام و شرائعه و دلائله، و كانوا بين المشركين و لم يمكنهم تحصيل ذلك هناك، و لما سمعوا بعثة الرسول كان يجب عليهم الهجرة ليتم عليهم الحجة و يستقروا في الدين، فمنهم من كان يمكنه ذلك و لم يفعل فهو غير معذور و لذا تقول لهم الملائكة:" أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً"؟ و منهم من لم يمكنهم ذلك فعسى أن يقبل الله عذرهم.

و أما الأعراف‏

 (2) فقد مر تفسيرها، و قال بعض المفسرين: هو سور بين الجنة و النار، و هو السور المذكور في قوله تعالى:" فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ" و قيل:

أي حاجة إلى ضرب هذا السور، و الجنة فوق السماوات و الجحيم في أسفل سافلين؟

و أجيب بأن بعد أحدهما عن الآخر لا يمنع أن يكون بينهما سور و حجاب و له أسفل و أعلى، و على أعلاه رجال يعرفون كلا بسيماهم، أجلسهم الله تعالى في ذلك المكان العالي إظهارا لشرفهم، و ليكونوا مشرفين مطلعين على أحوال الخلائق، و هم كما كانوا في الدنيا شهداء على أهل الإيمان و أهل الكفر و أهل الطاعة و أهل المعصية

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 105

كذلك يكونون شهداء في ذلك اليوم عليهم، ثم إنه تعالى ينقلهم إلى أعلى درجات الجنة و على أسفله قوم تساوت حسناتهم و سيئاتهم، أوقفهم الله تعالى عليه لأنها درجة متوسطة بين الجنة و النار، و يمكن أن ينتقل بعضهم أو كلهم بعد ذلك إلى الجنة بفضله تعالى.

و أقول: يحتمل أن يكون الغرض من التقسيم بيان الواسطة بين المؤمن و الكافر بذكر آيات تدل على ذلك و إن كان بعض الأقسام متداخلة أو متساوية، و سيأتي وجوه أخر إنشاء الله تعالى.

 (الحديث الثاني)

 (1): حسن.

" الناس على ست فرق"

 (2) أقول: مضمونه قريب من مفاد الخبر السابق، و الضمير في‏

قوله: و هم‏

 (3)، راجع إلى الست فرق، و

الوعد

 (4) أعم من الوعيد، و النسخ هنا أيضا مختلفة كالسابق، و هو إشارة إلى فريقين إحداهما أهل وعد الجنة، و

قوله:

المؤمنون‏

 (5) بيان له، و الأخرى أهل وعيد النار، و

قوله: و الكافرون‏

 (6) بيان له، و قيل: هم راجع إلى أهل الضلال و الواو في‏

قوله: و النار

 (7) بمعنى مع، أي وعدهم الله الجنة و النار معا، و قوله: المؤمنون، و ما بعده خبر مبتدإ محذوف، و التقدير الست فرق المؤمنون" إلخ" و لا يخفى بعده.

و قيل: يعني إن الناس ينقسمون أولا إلى ثلاث فرق بحسب الإيمان و الكفر و الضلال، ثم إن أهل الضلال ينقسمون إلى أربع فيصير المجموع ست فرق: الأولى أهل الوعد بالجنة، و هم المؤمنون و أريد بهم من آمن بالله و بالرسول و بجميع ما جاء به الرسول صلى الله عليه و آله و سلم إما بقلبه أو بلسانه أو خالف الله في شي‏ء من كبائر الفرائض استخفافا.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 106

و الثالثة:

المستضعفون‏

 (1) و هم الذين لا يهتدون إلى الإيمان سبيلا، لعدم استطاعتهم كالصبيان و المجانين و البله، و من لم تصل الدعوة إليه.

و الرابعة:

المرجون لأمر الله‏

 (2) و هم المؤخر حكمهم إلى يوم القيامة من الإرجاء بمعنى التأخير يعني لم يأت لهم وعد و لا وعيد في الدنيا، و إنما أخر أمرهم إلى مشية الله فيهم‏

إما يعذبهم و إما يتوب عليهم‏

 (3)، و هم الذين تابوا من الكفر و دخلوا في الإسلام إلا أن الإسلام لم يتقرر في قلوبهم و لم يطمئنوا إليه بعد، و منهم المؤلفة قلوبهم و من يعبد الله على حرف، قبل أن يستقرا على الإيمان أو الكفر، و هذا التفسير للمرجين بحسب هذا التقسيم الذي في هذا الحديث.

و الخامسة: فساق المؤمنين الذين خلطوا عملا صالحا و آخر سيئا ثم اعترفوا بذنوبهم فعسى الله أن يتوب عليهم.

و السادسة:

أصحاب الأعراف‏

 (4) و هم قوم استوت حسناتهم و سيئاتهم لا يرجح إحداهما على الأخرى ليدخلوا به الجنة و النار، فيكونون في الأعراف حتى يرجح أحد الأمرين بمشية الله سبحانه.

 (الحديث الثالث)

 (5): حسن كالصحيح.

" أو أنا و بكير"

 (6) الترديد إما من زرارة أو من راويه و في القاموس:

المطمار

 (7) خيط للبناء يقدر به كالمطمر، و قال:

التر

 (8) بالضم الأصل و الخيط يقدر به البناء، و سؤاله عليه السلام عن المطمار إما مبني على الإنكار أي لم تقرر لك مطمارا فمن أين أخذت المطمار فلم يفهم السائل و فسره بالتر أو سأل عن غرضه من المطمار و أنه استعارة لأي شي‏ء؟

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 107

ليتضح للحاضرين مراده فيجيبه علي حسبه، فأجابه عليه السلام بأن غرضي من المطمار الأصل و القاعدة الكلية التي بها يعرف المؤمن و الكافر، كما أن البناء يعرف بالمطمار ما تقدم من اللبنات و ما تأخر منها، فالمراد بالتر هنا الأصل.

و الظاهر أن غرض زرارة أنه لا يدخل الجنة غير من صحت عقائده من الفرقة المحقة الإمامية، و غرضه عليه السلام أنه يمكن أن يدخل بعض المستضعفين من المخالفين و من لم يتم عليهم الحجة لضعف عقولهم أو لبعدهم عن بلاد الإسلام و الإيمان و غير ذلك الجنة.

و يحتمل أن يكون مراده بالموافق من وافق قولا و فعلا فيخرج منه أصحاب الكبائر من الشيعة أيضا كما هو رأي الخوارج، و

قول الله‏

 (1) هو وعد المستضعفين و من بعدهم من الأصناف المذكورة بالجنة و العفو و المغفرة، فلا يجوز إدخالهم في المخالف و التبري منهم،

قوله: و زاد حماد

 (2)، الظاهر أنه كلام ابن أبي عمير، و روى الحديث عن حماد و جميل أيضا عن زرارة، و كان في رواية حماد زيادة لم تكن في رواية هشام فتعرض لها، و كان في رواية جميل أيضا زيادة على رواية حماد فأشار إليها أيضا.

و يحتمل أن يكون كلام إبراهيم بن هاشم أو كلام الكليني و الأول أظهر، كما أن الأخير أبعد

" فارتفع صوت أبي جعفر عليه السلام"

 (3) هذا مما يقدح به في زرارة و يدل على سوء أدبه، و لما كانت جلالته و عظمته و رفعة شأنه و علو مكانه مما أجمعت عليه الطائفة و قد دلت عليه الأخبار المستفيضة، فلا يعبأ بما يوهم خلاف ذلك.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 108

و يمكن أن يكون هذه الأمور هو في بدو أمره قبل كمال معرفته، أو كان هذا من طبعه و سجيته و لم يمكنه ضبط نفسه، و لم يكن ذلك لشكه و قلة اعتنائه، أو كان قصده معرفة كيفية المناظرة في هذا المطلب مع المخالفين، أو كان لشدة تصلبه في الدين و حبه لأئمة المؤمنين، حيث كان لا يجوز دخول مخالفيهم في الجنة، مع أنه كان يحتمل و يجوز أن يكون تجويزه عليه السلام تقية أن يدخل الضلال الجنة أي بعضهم، و المراد

بالضلال‏

 (1) المستضعفون و غيرهم من الأصناف المذكورة، فهم ليسوا بكفار لدلالة الروايات الكثيرة و إجماع الفرق على أن الكفار لا يدخلون الجنة، و في بعض النسخ:

أن لا يدخل‏

 (2)، فهو استفهام إنكاري.

باب الكفر

 (3)

 (الحديث الأول)

 (4): مختلف فيه، و صحته أرجح عندي.

" سنن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم"

 (5) أي ما لم يظهر من ظاهر القرآن و بينه الرسول صلى الله عليه و آله و سلم أعم من الواجب و الندب‏

" كفرائض الله"

 (6) أي في الشرف و الاحترام أو في لزوم الوفاء أو في كفر التارك‏

" إن الله عز و جل فرض فرائض"

 (7) أي في القرآن أو الأعم و الأول أظهر، إذ فرائض القرآن أكثرها من ضروريات الدين فمن جحدها كان كافرا

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 109

بخلاف ما ظهر من السنة، فإن أكثرها ليست من الضروريات فالترك أعم من أن يكون مع الجحود أو بدونه، فلا يظهر حكم ترك الفرائض بدون الجحد، و يمكن أن يكون عدم الذكر لئلا يجترئ الناس على تركها، و يمكن أن يكون المراد بالأول إنكار ما فرض في القرآن و بالثاني ما سوى ذلك، سواء كان ترك الفرائض بدون الإنكار أو ترك ما علم بالسنة مع الإنكار و بدونها.

و جملة القول فيه أنه يحتمل أن يكون المراد بالفرائض مطلق الواجبات، و بما ذكره بعد مطلق المندوبات، و يكون المراد

بالجحد

 (1) الترك متهاونا فيحسن التقابل و يظهر الفرق، فالمراد

بالكفر

 (2) غير المعنى المصطلح، و يحتمل أن يكون الجحد بمعناه و الواو بمعنى أو، فالفرق في أن تارك الفرائض كافر ببعض المعاني دون السنن و يحتمل أن يكون المراد بالفرائض ما ظهر وجوبه من ظاهر القرآن، و بالسن أعم من الواجبات و جميع المندوبات، أو يكون المراد بالفرائض ما ثبت وجوبه من الدين ضرورة، و بالسنن غيرها أو المندوبات، و يكون الغرض أن في الواجبات يكون مثل ذلك و ليس في السنن ما يكفر الإنسان بتركه، أو بإنكاره مطلقا و على أي حال تطبيقه على ما يوافق آراء المتكلمين أو سائر الأخبار لا يخلو من إشكال.

و قد يقال: المراد أن الكل بأمر الله سبحانه و تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه و آله و سلم بعضه فرائض موجبات تركها مع الجحود يوجب الكفر، و بعضه فضل تركه يوجب نقص الخير، و قيل: الفريضة تشمل الواجبات الأصولية و الفروعية، فلا يبعد أن يكون‏

قوله فلم يعمل بها

 (3) ناظرا إلى الثانية، و قوله: و جحدها ناظرا إلى الأول، و حينئذ يكون الكفر أعم من كفر الجحود و كفر ترك ما أمر الله تعالى به،

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 110

و إن كان تركه مقرونا بالجحود كان كفره أيضا كفر جحود، و أما من ترك الأولى من غير جحود و لا إقرار فهو مستضعف و قد مر، و سيجي‏ء أن المستضعف ليس بمؤمن و لا كافر و أنه في المشية، و قوله: و أمر الله بأمور، لعل المراد به الفروعية مطلقا فإن ترك بعضها و هو المندوبات ليس بكفر بشرط عدم الاستخفاف و الإنكار، انتهى.

و في بعض النسخ:

و أمر رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم بأمور

 (1)، فيؤيد بعض الوجوه.

 (الحديث الثاني)

 (2): حسن كالصحيح.

و الذي يظهر لي من هذه الأخبار أن الغرض بيان كفر من أنكر إمامة أمير المؤمنين عليه السلام و تقدم عليه و حاربه، و أنهم أخبث من المشركين، و يظهر منها أن الكفر هو ترك طاعة الله معاندة و استكبارا،

و الشرك‏

 (3) هو أن يثبت لله في الخلق أو العبادة أو الطاعة شريكا أعم من أن يكون ذلك على المعاندة أو على الجهل و الضلال فبين عليه السلام أولا أن ترك طاعته تعالى مع العلم معاندة و استكبارا أخبث و أقدم من الشرك، لأن أول معصية وقعت من العباد و أشدها معصية إبليس، و هي كانت من هذا القبيل، لأنه لم يشرك بل ترك السجود و الطاعة معاندة و استكبارا، و هذا أشد من شرك لم ينضم إليه ذلك، و كان من الجهل و الضلالة، فأما الشرك الذي كان على وجه الاستكبار و المعاندة فهو أشد لتلك الجهة لا لجهة الشرك.

ثم إنه عليه السلام بعد ذلك أثبت لهم الشرك أيضا بأن إثبات دين غير دين المؤمنين يتضمن الشرك أيضا حيث أشرك مع الله تعالى غيره في وجوب الطاعة، فهؤلاء الأخابث مع اتصافهم بالكفر الذي هو أقدم و أخبث متصفون بالشرك أيضا.

و يحتمل أن يكون الاستدلال بالأقدمية على كونه أعظم‏

و أخبث‏

 (4) من‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 111

جهة أنه صار سببا لحدوث الشرك، فإن الكفر أولا حدث من إبليس ثم صار كفره سببا لشرك من أشرك بعده، و إذا تأملت في جميع أخبار الباب يتضح لك ما ذكرنا.

قوله عليه السلام حين قال الله له اسجد لآدم‏

 (1) أي أمره بالسجود، في قوله:" وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ" و شمول خطاب الملائكة له لكونه داخلا فيهم و معدودا من جملتهم‏

" فمن اختار على الله عز و جل"

 (2) أي اختار مراده على مراده تعالى أو أمر إبليس على أمره تعالى، أو عارض الله تعالى فيما علم صلاح العباد فيه، كما قال إبليس:

" خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ".

" و أبي الطاعة"

 (3) أي أنكرها و هو الكفر صريحا، أو ترك العمل بها، فلو كان الواو بمعنى أو يكون الكفر شاملا لكفر النعمة و كفر ترك المأمور به، و كذا الكلام في‏

قوله: و أقام على الكبائر

 (4)، و الظاهر أن الواو بمعناه إشارة إلى قوله تعالى:

" وَ اسْتَكْبَرَ وَ كانَ مِنَ الْكافِرِينَ".

 (الحديث الثالث)

 (5): موثق كالصحيح‏

و سالم بن أبي حفصة

 (6) روى عن السجاد و الباقر و الصادق عليهما السلام و كان زيديا بتريا من رؤسائهم، و لعنه الصادق عليه السلام و كذبه و كفره، و روي في ذمه روايات كثيرة، و اسم أبي حفصة زياد.

" قال ذكر" على بناء المعلوم، و المرفوع في‏

قال و ذكر

 (7) راجعان إلى زرارة،

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 112

و كذا المرفوع في‏

فقال‏

 (1)، و يمكن أن يقرأ ذكر على بناء المجهول، و يحتمل أن يكون فاعل قال أولا ابن بكير، و على الأول قائل قال ابن بكير

" فإنهم يزعمون أنهم كفار"

 (2) أي إن لم يقولوا بشركهم فلا محيص لهم عن القول بكفرهم، فإن محاربة الإمام كبيرة البتة، و المصر على الكبيرة عندهم كافر، و الكفر أخبث و أقدم من الشرك كما مر.

و يحتمل أن يكونوا قائلين بكفرهم صريحا، و إنما نفوا الشرك و على التقديرين ليس فيه تصديق لقولهم بنفي الشرك، و إن احتمل ذلك بناء على أن الشرك عبارة عن عبادة غير الله حقيقة، أو القول بالشريك في الخلق، لا في الطاعة و الأمر، و هو لم يتحقق فيهم و الكفر يتحقق بترك الطاعة، و يؤيد الأول إطلاق الشرك على الحروري و الناصب في سائر الأخبار.

" يعني مستخف كافر"

 (3) الظاهر أنه كلام بعض الرواة ابن بكير أو غيره، و قيل:

يحتمل كونه من كلامه عليه السلام و على التقديرين يحتمل أن يكون تقييدا للحكم بالكفر بالاستخفاف، أي إنما يحكم بكفره إذا كان مستخفا لا لغلبة الشهوة كما سيأتي، و يمكن أن يكون علة للحكم بالكفر أي لا ينفك الإباء عن الطاعة عمدا و الإصرار على الكبائر عن الاستخفاف و هو موجب للكفر.

 (الحديث الرابع)

 (4): حسن موثق.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 113

" إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ"

 (1) قال البيضاوي: أي بنصف الدلائل و إنزال الآيات‏

" إِمَّا شاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً"

 (2) حالان من الهاء، و إما للتفصيل أو التقسيم، أي هديناه في حالية جميعا أو مقسوما إليهما، بعضهم شاكر بالاهتداء و الأخذ فيه، و بعضهم كفور بالإعراض عنه أو من السبيل، و وصفه بالشكر و الكفر مجاز، و لعله لم يقل كافرا ليطابق قسيمه محافظة على الفواصل و إشعارا بأن الإنسان لا يخلو عن كفران غالبا و إنما المأخوذ به المتوغل فيه، انتهى.

و الخبر يدل على أن المراد بالكفور الكافر، فيدل على أن من لم يأخذ السبيل هداه الله إليه من الإقرار به و برسوله، و بما جاء الرسول به من المعاد و ولاية أئمة الدين فهو كافر، و يحتمل شموله لترك العمل أيضا فيأول الكفر بما مر مرارا و سيأتي، و فيها دلالة على كمال لطفه تعالى بأن الإقرار و العمل و إن كانا شكرين لنعمة الهداية و الخلق و إعطاء العقل و سائر الآلات و الألطاف و الهدايات يجازيهم عليها نعيم الأبد.

 (الحديث الخامس)

 (3): ضعيف على المشهور.

" وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ"

 (4) قيل الياء للعوض كقوله تعالى:" اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى‏" أو للمصاحبة نحو" اهْبِطْ بِسَلامٍ" فعلى الأول المعنى الكفر بعد

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 114

الإيمان و على الثاني المراد به الإنكار قلبا، و الإقرار ظاهرا، و قال البيضاوي: يريد بالإيمان شرائع الإسلام، و بالكفر به إنكاره و الامتناع منه، و قال الطبرسي: أي من يجحد ما أمر الله بالإقرار به و التصديق له من توحيد الله و عدله و نبوة نبيه صلى الله عليه و آله و سلم‏

" فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ"

 (1) الذي عمله و اعتقده قربة إلى الله تعالى" وَ هُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ" أي الهالكين، و قيل: أي و من بكفر بالإيمان من أهل الكتاب أي يمتنع عن الإيمان و لم يؤمن.

قوله عليه السلام: ترك العمل الذي أقر به‏

 (2) فالمراد بالكفر هنا ارتكاب مطلق الكبائر أو الكبائر التي تؤذن فعلها بعدم اليقين و الاستخفاف بالدين كما يرشد إليه التمثيل بترك الصلاة من غير سقم و لا شغل و قد يحمل على إنكار و الاستخفاف فيوافق الاصطلاح المشهور، و قيل: فسر عليه السلام الكفر هنا بترك العمل و هو كفر المخالفة، و فسر الإيمان بالإقرار بوجوب العمل، ثم ذكر لذلك مثالا.

 (الحديث السادس)

 (3): كالسابق.

" ما عهدي بك تخاصم الناس"

 (4) أي ما كنت أظن أنك تخاصم الناس أو لم تكن قبل هذا ممن يخاصم المخالفين و تتفكر في هذه المسائل التي هي محل المخاصمة بين المتكلمين؟ و هذا السؤال يشعر بأنك شرعت في ذلك؟ و يحتمل أن يكون ما استفهامية أي أ لم أعهد إليك أن لا تخاصم الناس فهل تخاصمهم بعد عهدي إليك؟

و مضمون الخبر قد مر.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 115

 (الحديث السابع)

 (1): حسن كالصحيح بسنديه.

" يدخل النار مؤمن"

 (2) المراد بالمؤمن هنا الإمامي المجتنب للكبائر الغير المصر على الصغائر، و بالكافر من اختل بعض عقائده إما في التوحيد أو في النبوة أو في الإمامة، أو في المعاد أو في غيرها من أصول الدين، مع تعصبه في ذلك و إتمام الحجة عليه لكمال عقله و بلوغ الدعوة إليه، فحصلت هنا واسطة هي أصحاب الكبائر من الإمامية و المستضعفون من العامة، و من لم تتم عليهم الحجة من سائر الفرق، فهم يحتمل دخولهم النار و عدمه، فهم وسائط بين المؤمن و الكافر.

أو المراد بالمؤمن الإمامي الصحيح العقيدة، و بالكافر ما مر بناء على ما ورد في كثير من الأخبار أن الشيعة لا تدخل النار، و إنما عذابهم عند الموت و في البرزخ و في القيامة، فالواسطة من تقدم ذكره سوى أصحاب الكبائر، و زرارة كان ينكر الواسطة بإدخال الوسائط في الكافر أو بعضهم في المؤمن، و بعضهم في الكافر و كان لا يجوز دخول المؤمن النار و غير المؤمن الجنة، و لذا لم يتزوج بعد تشيعه لأنه كان يعتقد أن المخالفين كفار لا يجوز التزوج منهم.

و كأنه تمسك بقوله تعالى:" هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَ مِنْكُمْ مُؤْمِنٌ" و بقوله تعالى:" فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَ فَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ" و المنع عليهما ظاهر.

" قال: فحدثني"

 (3) فاعل قال إما ابن أبي عمير أو إبراهيم بن هاشم،

و قوله:

شيخ لا علم له بالخصومة

 (4)، الظاهر أن غرضه الإمام صلوات الله عليه، يعني لا يعلم طريق المجادلة، و حمله على أنه أراد نفسه بعيد.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 116

فأقول زائدا على ما مر: إنه يمكن أن يكون ذلك بمحض خطور بال لا يؤاخذ الإنسان به، و حاصل كلامه عليه السلام الرد عليه بإثبات الواسطة، لأن المخالفين في بعض الأحكام في حكم المسلمين و إن كان غير من ذكرنا من الواسطة مخلدين في النار، و أيضا يمكن دخول بعض المخالفين كالمستضعفين الجنة، فلما لم يفهم زرارة غرضه عليه السلام و كان يزعم أن الواسطة غير معقولة نبهه عليه السلام بأحوال من أقر له بالحكم، أي خدمه و بأحوال خدمه أي عبيده و سائر أهاليه، فقال عليه السلام: أ تجوز قتلهم و لم لا تقتلهم إن كانوا كفارا مشركين؟ فتفطن من ذلك بالفرق بينهم و بين سائر الكفار، و علم أنه إذا جاز الفرق في القتل بينهم و بين سائر الكفار، فيجوز في غير ذلك من الأمور فاعترف بأن نفسه لا علم له بالخصومة.

و يحتمل أن يكون المراد

بالخدم و الأهالي‏

 (1) المستضعفين من الشيعة، للتنبيه على حال المستضعفين من العامة، و قيل: في‏

قوله عليه السلام: فيمن أقر لك بالحكم‏

 (2)، يعني قال لك أنا على مذهبك، كلما حكمت، علي أن أعتقده و أدين الله به.

" أ تقبله"

 (3) بالباء الموحدة كما في بعض النسخ، يعني تحكم عليه بالإيمان بمجرد تقليده إياك، و كذا القول في الخدم و الأهلين فعجز زرارة عن الجواب، فعلم أنه الذي لا علم له بالخصومة دون الإمام عليه السلام، و إنما عجز عن الجواب لأنه كيف يحكم عليهم بالإيمان بمجرد التقليد المحض من دون بصيرة، و كيف يحكم عليهم بالكفر و هم يقولون إنا ندين بدينك و نقر لك بكل ما تحكم علينا، فثبت المنزلة بين المنزلتين قطعا.

 (الحديث الثامن)

 (4): ضعيف.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 117

و مفعول‏

سمعت‏

 (1) محذوف، يدل عليه‏

قوله: فقال الكفر أقدم‏

 (2)، و حاصل الجواب أن الشيطان لعنه الله أول الكافرين و المشركين، و كان كفره أسبق لأنه أولا خالف أمر الله تعالى معاندة، فصار كافرا و لم يكن حينئذ مشركا، ثم لما أمر الناس بعبادة غير الله حصل الشرك، و صار هو أيضا مشركا، فيدل على أن الأمر بالشرك و حث الناس عليه شرك أيضا.

 (الحديث التاسع)

 (3): كالسابق.

و قيل: المراد

بالحجة

 (4) هنا المعيار لا الدليل، و أقول: الدليل أيضا مناسب‏

" قاصدا إليها"

 (5) أي إلى اللذة أو إلى المرأة، فالقصد في مقابله السهو و الغفلة، و هو المراد

بقوله: قاصدا

 (6) ثانيا، و قاصدا في الأول حال عن البارز في قوله لإتيانه، و الظاهر أن المراد

بالكفر

 (7) هنا ارتكاب ما يؤذن بقلة الاكتراث بالدين، و ضعف اليقين لعدم غلبة داع قوي على مخالفة أمر الله، و هذا مما يستوجب به العذاب العظيم و العقاب الطويل، و ليس هو الكفر الذي يوجب الخلود في النار مع الكفار، و لا ينفعهم شفاعة الشافعين، و يجري عليهم في الدنيا أحكام الكافرين من نجاستهم و عدم جواز المناكحة و الموارثة.

و حمله على الاستحلال و الجحود بعيد، فإن الزاني أيضا مع الاستحلال كافر، فهذا أحد معاني الكفر و درجة من درجاته في مقابل درجات الإيمان.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 118

قوله عليه السلام: ما فرق،

 (1) يمكن أن يقرأ على صيغة الفعل و الاسم، و على التقديرين هو خبر ما الاستفهامية، و على الأول بين منصوب بالمفعولية، و على الثاني مجرور بالإضافة، كقوله تعالى:" وَ إِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما" و تكرار بين للتصريح بدفع احتمال طلب الفرق بين الزنا و شرب الخمر

" كما يستخف"

 (2) على بناء المعلوم، و الظرف نائب المفعول المطلق للفعل المنفي في لا يكون، و

لم يدعك‏

 (3) خبر إن و

مثل‏

 (4) منصوب بنيابة المفعول المطلق للفعل المنفي في لم يدعك و لم يغلبك، و

" فرق"

 (5) يحتمل الوجهين السابقين، و ثالثا و هو أن يقرأ فرق بالتنوين فتكون ما للإبهام.

 (الحديث العاشر)

 (6): صحيح.

و الواو

 (7) للتقسيم بمعنى أو، و يدل على أن الشك في أصول الدين أيضا يوجب الكفر، و قد مر في أبواب الإيمان و الإسلام و سيأتي إنشاء الله و كأنه محمول على الشك بعد إتمام الحجة، أو المراد بالكفر ما يقابل الإيمان فيشمل المستضعفين أيضا، و الكفر بهذا المعنى لا يستلزم الخلود في النار.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 119

 (الحديث الحادي عشر)

 (1): حسن كالصحيح.

و فيه إشعار بأن كفر الشاك ليس من ضروريات الدين حتى يكون إنكاره كفرا، و إنما أمسك عن الجواب لئلا يجتروا على الشك و لا يستصغروه، أو لئلا يتوهموا لسوء فهمهم التنافي بين الكلامين، أو لافتقار بيان الحكم على تفصيل لا تقتضي المصلحة ذكره، أو يكون كافرا و عدم الذكر للتقية.

و قيل: إنما

أمسك عليه السلام‏

 (2) عن جوابه و غضب منه لأن هذا ليس مما ينبغي أن يسأل عنه، و ظاهر أن هذا الشك ليس مما يوجب الكفر، كيف و السائل نفسه كان شاكا فيه، جاهلا به، و لهذا سأل عنه إلا أن يقال بإيجابه للكفر بعد سماعه عنه مشافهة و الكفر من هذه الجهة، فيرجع إلى تكذيبه عليه السلام و هذا حديث آخر.

 (الحديث الثاني عشر)

 (3): موثق كالصحيح.

و قد مر شرح صدر الخبر، و

قوله: فما موضع ترك العمل‏

 (4)، يحتمل وجهين:

الأول أن يكون الغرض استعلام أن المراد جميع الأعمال أو الأعم منه و من البعض، فأجاب عليه السلام بأن المراد به الثاني، الثاني: أن يكون الغرض أن كل عمل تاركه كافر أو بعض الأعمال كذلك، فأومأ عليه السلام إلى أن المراد به الثاني، و على التقديرين‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 120

كلمة ما استفهامية، و

الموضع‏

 (1) بمعنى المرتبة، و اللام في‏

" العمل"

 (2) للعهد أي العمل الذي أقر به، و الاستفهام في‏

" حتى يدعه"

 (3) مقدر، و قيل: لعل المراد من السؤال استعلام مطلق العمل الذي تركه يوجب الكفر، و يكون قوله حتى يدعه أجمع استفهاما آخر، يعني أ هو ترك الأعمال أجمع؟ فأجاب عليه السلام بأنه قد يكون ترك بعض الأعمال كالصلاة.

 (الحديث الثالث عشر)

 (4): حسن.

" مرجئة"

 (5) أقول: قد مر الكلام في بيان مذاهب هؤلاء مرارا، و أن المرجئة بالهمز اسم فاعل من أرجأته إذا أخرته، و هم فرقة من المخالفين يزعمون أن الإيمان محض العلم بما جاء به الرسول، و أنه لا يضر مع الأيمان معصية كما أنه لا ينفع مع الكفر طاعة، سموا بذلك لأنهم اعتقدوا أن الله تعالى أخر تعذيبهم على المعاصي و أخره عنهم، قال في المصباح: أرجأته بالهمز أخرته، و المرجئة اسم فاعل من هذا لأنهم لا يحكمون على أحد بشي‏ء في الدنيا، بل يؤخرون الحكم إلى يوم القيامة، و تخفف فتقلب الهمزة ياءا مع الضمير المتصل، فيقال: أرجيته.

و أقول: قد مضى الكلام في بيان مذاهبهم في باب أن الإيمان مبثوث بجوارح البدن، و قال الشيخ البهائي قدس سره: لعل المراد

بالقدرية

 (6) الجبرية، و أقول:

يحتمل أن يكون المراد بهم التفويضية القائلين باستقلال العبد في أفعاله، و أن لا مدخل لله فيها أصلا، النافين لقضاء الله و قدره رأسا، و قد عرفت إطلاقه عليهما، و أنهما خارجان عن الحق و أن الحق الأمر بين الأمرين، و في النهاية:

الحرورية

 (7) من الخوارج نسبوا إلى‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 121

حروراء بالمد و القصر، و هو موضع قريب من الكوفة، كان أول مجتمعهم و تحكيمهم فيه و هم أحد الخوارج الذين قاتلهم علي عليه السلام‏

" الكافرة المشركة"

 (1) قد عرفت الفرق بين الكفر و الشرك، و أن الكفر أعم أي هم جمعوا بينهما فإنهم كفروا حيث تركوا ما أمر الله به من طاعة الأئمة عليه السلام عنادا أو بغيا، و أشركوا حيث اتخذوا طواغيته أئمة من غير نصب الله لهم التي لا تعبد الله على شي‏ء من الدين، فإنه لا دين لهم، أو من العبادة فإن عباداتهم باطلة.

 (الحديث الرابع عشر)

 (2): حسن موثق.

و الضمير في‏

عنه‏

 (3) لابن أبي عمير

" ما هذا عندك"

 (4) يعني أ هو كافر باعتقادك أم مسلم؟

" قلت: و ما هو؟

 (5)" أي لا أعلم مذهبه حتى أحكم عليه بالإسلام أو الكفر

" أي و الله مشرك"

 (6) أي كفره مجامع للشرك، و في بعض النسخ و مشرك و هو أظهر.

 (الحديث الخامس عشر)

 (7): صحيح.

" كل شي‏ء يجره الإقرار"

 (8) أي هو من لوازمه و توابعه كالأعمال الصالحة و الأخلاق الفاضلة، و الورع عن المعاصي، فهو داخل في الإيمان على وجه و مكمل له على وجه آخر.

" و كل شي‏ء يجره الإنكار و الجحود"

 (9) أي هو من لوازمهما و توابعهما و آثارهما، فهو داخل في الكفر و من مكملاته أو من طرقه المؤدية إليه،

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 122

فإن المعاصي طرق إلى الكفر.

 (الحديث السادس عشر)

 (1): ضعيف على المشهور و معتبر عندي.

و المراد

بالداخل‏

 (2) العارف بحقه، و

بالخارج‏

 (3) المنكر له، سواء أنكره مطلقا أو أنكره في مرتبته، فيبقى قسم ثالث و هو الذي لم يدخل و لم يخرج و يسمى ضالا و مستضعفا كما مر و سيأتي.

 (الحديث السابع عشر)

 (4): ضعيف.

و الظاهر أن المراد به‏

الذل‏

 (5) في الدنيا و عند الناس، لأن طاعته توجب ترك الدنيا و زينتها، و الحكم للضعفاء على الأقوياء و الرضا بتسوية القسمة بين الشريف و الوضيع، و القناعة بالقليل من الحلال، و التواضع و ترك التكبر و الترفع، و كل ذلك مما يوجب الذل عند الناس، كما روي أنه لما قسم بيت المال بين أكابر الصحابة و الضعفاء بالسوية غضب لذلك طلحة و الزبير، و أسسا أساس الفتنة و البغي و الجور، و قيل: المراد بالذل التذلل لله تعالى و الانقياد له و التواضع عنده بقبول أوامره و الانتهاء عند نواهيه، و ترك التكبر و الترفع من الذل بالكسر، و الأول أظهر كما ينادي به سياق الخبر.

و يؤيده ما سيأتي في نوادر الحدود عن أبي عبد الله عليه السلام قال: بعث أمير المؤمنين عليه السلام إلى بشر بن عطارد التميمي في كلام بلغه فمر به رسول أمير المؤمنين عليه السلام في‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 123

بني أسد و أخذه فقام إليه نعيم بن دجاجة الأسدي فأفلته فبعث إليه أمير المؤمنين فأتوه به و أمر به أن يضرب، فقال له نعيم: أما و الله إن المقام معك لذل و إن فراقك لكفر، قال: فلما سمع ذلك منه قال له: قد عفونا عنك إن الله عز و جل يقول:

" ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ" أما قولك: إن المقام معك لذل فسيئة اكتسبتها، و أما قولك: إن فراقك لكفر فحسنة اكتسبتها، فهذه بهذه، ثم أمر أن يخلي عنه.

و لا ينافيه عده سيئة فإن مواجهته عليه السلام بهذا الكلام كان سوء أدب و إن كان حقا فتأمل.

 (الحديث الثامن عشر)

 (1): ضعيف على المشهور.

و كان فساق الشيعة و المستضعفين و أشباههم داخلون في القسم الثالث، و أما من بلغته الدعوة و تمت عليه الحجة فعدم الدخول فيه كفر و هو غير معذور.

 (الحديث التاسع عشر)

 (2): كالسابق.

و هو باب رحمة فتحه الله للعباد، و يدل على أن الجاهل معذور في أكثر الموارد، كمن جهل إمامة علي عليه السلام و لم تقم عليه حجة إذا وقف و لم ينكره لم يكفر و دخل‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 124

في المستضعفين، و هو في مشية الله فعسى أن تدركه الرحمة، و كذا الجاهل في سائر الأمور من أصول الدين و فروعه.

 (الحديث العشرون)

 (1): كالسابق.

" و من جهله"

 (2) أي توقف و لم ينكر

" و من نصب معه شيئا"

 (3) أي إماما آخر و أخره عن مرتبته فهو مشرك لأنه وضع دينا غير دين الله، و أشرك مع الله غيره في نصب الإمام.

 (الحديث الحادي و العشرون)

 (4): ضعيف كالموثق و قد مر مضمونه.

باب وجوه الكفر

 (5)

 (الحديث الأول)

 (6): ضعيف على المشهور

ببكر بن صالح‏

 (7) و إنما ضعفه ابن الغضائري و أبو عمرو الزبيري و إن كان مجهولا لكن يظهر من أخباره أنه من محققي الرواة و أصحاب أسرار الأئمة عليهم السلام، و هذا الخبر جزء خبر طويل فرقه المصنف و غيره على الأبواب كما يظهر من هذا الكتاب، و تفسير العياشي و غيرها، و قد مر

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 125

جزء آخر في باب السبق إلى الإيمان و لما سأله عليه السلام عن أجزاء الإيمان و زيادته و نقصانه و منازله و درجاته سأله عن معاني الكفر و وجوهه، فبين عليه السلام أن‏

الكفر في كتاب الله على خمسة أوجه‏

 (1) وجهان منها يرجع إلى الجحود، و

قوله: فهو الجحود بالربوبية

 (2) لما كان الجحود في اللغة مطلق الإنكار، و كان المراد به هيهنا إنكار ما يتعلق بالربوبية أعني ما جاء من قبل الرب تعالى فسره عليه السلام بذلك و خصه به كما قيل.

و أقول: إنما كان هذا جحدا للربوبية لأن ربيته سبحانه يقتضي التكليف و الثواب و العقاب، فهؤلاء إما ينكرون وجوده سبحانه أو ربيته، و كان المراد

بالصنفين‏

 (3) صنف أنكروا المبدأ و المعاد معا، و هم الملاحدة، و صنف أثبتوا المبدأ و أنكروا المعاد كبعض الفلاسفة حيث أنكروا المعاد و قالوا بقدم العالم و أبديته، و كفار مكة الذين ذكرهم الله في تلك الآية، و هم الذين يقولون‏

" وَ ما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ"

 (4) زعموا أن تولد الأشخاص و تكون الممتزجات و فسادها و حياتها و موتها مستندة إلى الدهر، و حركات الأفلاك و تأثيرات الكواكب، و يحتمل أن يكون إشارة إلى القائلين بالتناسخ و القائلين ببطلان الجسد و الروح بالكلية، أو القائلين بالطبيعة و القائلين بالدهر، و قيل: صنف طلبوا لهذا العالم سببا فأحالوه على الطبع الذي هو صفة جسمانية خالية عن العلم و الإدراك، و صنف لم يطلبوا له سببا بل اشتغلوا بأنفسهم و عاشوا عيش البهائم.

قال الله تعالى:" إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ، أن ذلك"

 (5) بفتح الهمزة و تشديد النون متعلق بيظنون.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 126

و الحاصل أنه استشهد لقوله إنهم وضعوا الدين بمحض الاستحسان من غير حجة و برهان بأنه تعالى قال بعد قولهم:" وَ ما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ وَ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ".

" إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ"

 (1) سواء اسم من الاستواء و خبر لأن، و ما بعده فاعله أي مستو عليهم إنذارهم و عدمه، أو خبر لما بعده، و الجملة خبر لأن أي إنذاره و عدمه سيان عليهم، و

قوله: بتوحيد الله‏

 (2) متعلق بلا يؤمنون، و يحتمل تعلقه بكفروا أو بهما على التنازع، و الظاهر أن هذه الآية و الآية السابقة موردهما واحد و قد يقال: إن الآية الأولى في صنف من الزنادقة لا سبيل لهم إلى شبهة قوية و الثانية لقوم من الفلاسفة لهم شبه قوية على إنكار حدوث العالم و المعاد و فناء العالم فهو أشد رسوخا في باطلهم من الفرقة الأولى، و لذلك لا ينفعهم الإنذار و ليس ببعيد.

و إنما خص نفي الإيمان في الآية بتوحيد الله لأن سائر ما يكفرون به من توابع التوحيد

" و أما الوجه الآخر من الجحود"

 (3) قيل: الصواب و أما الوجه الآخر من الجحود فهو الجحود على معرفة، و لعله سقط من قلم النساخ، انتهى.

و كان الفرق بين هذا و ما تقدم أن الفرقة المتقدمة عرضت لهم شبهة ضعيفة اتبعوها، و هؤلاء أنكروا مع العلم عتوا و استكبارا و عنادا و حسدا كالفرق الذي ذكرنا سابقا بين الكفر و الشرك.

و يحتمل وجها آخر من الفرق بأن يكون الأول ما يكون في التوحيد و ما يتبعه من أمر المعاد، و الثاني ما يكون بعد الإقرار بالتوحيد من الإقرار بالنبوة

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 127

و الإمامة و غيرهما، و لكل من الوجهين شواهد لا يخفى على المتأمل.

قوله: على معرفة،

 (1) أي للحق‏

" قد استقر عنده"

 (2) أي استقرارا لا شك فيه‏

" وَ جَحَدُوا بِها"

 (3) أي أنكروا آيات الله و كذبوها، و الحال أن أنفسهم مستيقنة بها عالمة إياها، و إنما أنكروها ظلما لأنفسهم و علوا أي ترفعا على الرسول و الانقياد له و الإيمان به، و استدلوا بها على أن الإيمان هو التصديق مع العمل دون التصديق وحده، و اعترض عليه بأنه يمكن أن يكون مشروطا بالإقرار باللسان مع القدرة كما ذهب إليه طائفة من العامة، كما قال الدواني في شرح العقائد: التلفظ بكلمتي الشهادتين مع القدرة عليه شرط، فمن أخل به فهو كافر مخلد في النار، انتهى.

و قيل: مشروط بعدم الإنكار فينتفى الإيمان بالإنكار و قد مر القول فيه مفصلا

و قال الله عز و جل:" وَ كانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا"

 (4) أي و كان أهل الكتاب من قبل البعثة يطلبون الغلبة على المشركين و يستنصرون عليهم بخاتم الأنبياء، و يقولون اللهم انصرنا بنبي آخر الزمان المنعوت في التوراة، أو يفتحون عليهم و يعرفونهم أن نبيا يبعث منهم و قرب زمانه‏

" فَلَمَّا جاءَهُمْ"

 (5) النبي الذي عرفوه كفروا به و جحدوه حسدا أو خوفا من الرئاسة أو لغير ذلك‏

" فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ"

 (6) أي عليهم فوضع الظاهر موضع الضمير للتنصيص على أن لعنهم بسبب كفرهم و إنكارهم الحق المعروف عندهم.

أقول: روى علي بن إبراهيم هذا الخبر عن أبيه عن بكر بن صالح عن الزبيري عن أبي عبد الله عليه السلام قال: الكفر في كتاب الله على خمسة وجوه، فمنه كفر الجحود و هو على وجهين كفر جحود بعلم، و جحود بغير علم، فأما الذين جحدوا بغير علم‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 128

فهم الذين حكى الله عنهم في قوله:" وَ قالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَ نَحْيا وَ ما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ وَ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ" و قوله:" إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ" فهؤلاء كفروا و جحدوا بغير علم، و أما الذين كفروا و جحدوا بعلم فهم الذين قال الله عز و جل:

" وَ كانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ" فهؤلاء كفروا و جحدوا بعلم.

و في تفسير النعماني عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: و أما الكفر المذكور في كتاب الله تعالى فخمسة وجوه، منها كفر الجحود، و منها كفر فقط، و الجحود ينقسم على وجهين، و منها كفر الترك لما أمر الله تعالى به، و منها كفر البراءة، و منها كفر النعم فأما كفر الجحود فأحد الوجهين منه جحود الوحدانية و هو قول من يقول لا رب و لا جنة و لا نار و لا بعث و لا نشور، و هؤلاء صنف من الزنادقة، و صنف من الدهرية الذين يقولون ما يهلكنا إلا الدهر، و ذلك رأي وضعوه لأنفسهم استحسنوه بغير حجة فقال الله تعالى" إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ" و قال:" إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا" إلى قوله" لا يُؤْمِنُونَ" أي لا يؤمنون بتوحيد الله.

و الوجه الآخر من الجحود هو الجحود مع المعرفة بحقيته قال تعالى" وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَ عُلُوًّا".

و قال سبحانه:" وَ كانُوا مِنْ قَبْلُ" إلى قوله" عَلَى الْكافِرِينَ" أي جحدوه‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 129

بعد أن عرفوه.

أقول: إنما أوردنا الروايتين لتأييد كل منهما لبعض الوجوه السابقة

" يحكي قول سليمان"

 (1) لما عرف سليمان عليه السلام نعمة الله عليه، و علم أنها للابتلاء قال‏

هذا من فضل ربي،

 (2) أي الاقتدار من إحضار العرش في مدة يسيرة من مسافة بعيدة و هي ما بين سبأ و الشام بلا حركات جسمانية من فضل نعم ربي‏

" لِيَبْلُوَنِي أَ أَشْكُرُ"

 (3) بالإقرار بأن ذلك الفضل له و منه لا لي و مني، و الإتيان بالثناء الجزيل و الذكر الجميل‏

" أَمْ أَكْفُرُ"

 (4) بترك ذلك الإقرار و عدم ذلك الإتيان.

" وَ مَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ"

 (5) لأنه يديم العتيد و يجلب المزيد، و يستحق به الثواب، و من كفر بما مر فلا يضر الله شيئا فإن ربي غني عن عبادة العابدين و شكر الشاكرين، كريم بالإفضال و الإحسان و ترك مؤاخذة العبد بالإساءة و الكفران لعله يتوب و يصلح حاله في مستقبل الأزمان، و من هاهنا ظهر أن ترك الشكر على النعمة كفر.

و قال:" لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ"

 (6) قيل: الشكر هو الاعتراف بالنعمة ظاهرة كانت أو باطنة، جلية كانت أم خفية و الإقرار بها للمنعم، و الإتيان بالأعمال الصالحة المطلوبة له و الامتثال لأوامره و الاجتناب عن معاصيه، و كفر النعم ضد ذلك، و هو سبب لزوال النعمة و عدم الزيادة و تحقق العقوبة في الدنيا و الآخرة، و لذلك قال الله عز و جل مؤكدا بوجوه شتى:" وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ".

و قال:" فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ"

 (7) قيل: أي فاذكروني ظاهرا باللسان و باطنا بالجنان لا سيما عند الأوامر و النواهي، أذكركم في ملإ المقربين بالخير و الصلاح أو بالجزاء الجميل، أو في القيامة إذا بلغت القلوب الحناجر من شدائدها، أو في حال الموت أو في البرزخ أو في جميع الأحوال، كما دلت عليه صيغة الاستقبال.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 130

" وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ"

 (1) قيل: أخذ العهد منهم بأن لا يقتلوا أنفسهم كما يفعله من يصعب عليه الزمان للتخلص من الصعوبة، و كما يفعله أهل الهند للتخلص من عالم الفساد و اللحوق بعالم النور، و قيل: بأن لا يفعلوا ما يوجب قتلهم و إخراجهم من ديارهم، و قيل: بأن لا يقتل بعضهم بعضا و لا يخرج بعضهم بعضا من وطنه، و إنما جعل قتل الرجل و إخراجه غيره قتل نفسه و إخراجها لاتصاله به نسبا أو دينا، أو لأنه يقتص منه فكأنه قتل نفسه و قيل: بأن لا يفعلوا ما يصرفهم في الحياة الأبدية التي هي الحياة الحقيقية و ما يمنعهم من الجنة التي هي دار القرار، فإنه الجلاء الحقيقي.

" ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَ أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ"

 (2) أي ثم أقررتم بالميثاق و اعترفتم على أنفسكم بلزومه" وَ أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ" عليها، و هذا تأكيد كقولك أقر فلان على نفسه بكذا شاهدا عليها أو اعترفتم على قبوله و شهد بعضكم على بعض بذلك، أو أنتم تشهدون يا معشر اليهود على إقرار أسلافكم بهذا الميثاق فيكون إسناد الإقرار إلى المخاطبين مجازيا.

" ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ"

 (3) قيل: ثم استبعاد لما أسند إليهم من القتل و الأجلاء و العدوان بعد الميثاق منهم و إقرارهم و شهادتهم، و أنتم مبتدأ و هؤلاء خبره و المعنى أنتم بعد ذلك هؤلاء الناقضون الشاهدون يعني أنتم قوم آخرون غير هؤلاء الشاهدين، كقولك رجعت بغير الوجه الذي خرجت، أي ما أنت الذي كنت من قبل نزل تغير الصفة منزلة تغير الذات، و تقتلون حينئذ بيان لهذه الجملة.

و قيل: أنتم مبتدأ و تقتلون خبره، و هؤلاء إما منصوب بتقدير أعني أو منادي بحذف حرف النداء عند من جوز حذف حرف النداء في المبهمات كسيبويه و أتباعه و قيل: أنتم مبتدأ و هؤلاء بمعنى الذين و تقتلون صلته، أي ثم أنتم الذين تقتلون،

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 131

و هذا عند الكوفيين، و أما البصريون فلا يجوزون أن يكون هؤلاء و أولاء و هذا بمعنى الموصول.

و قيل: أنتم مبتدأ و هؤلاء خبره بحذف المضاف، أي مثل هؤلاء

" تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ"

 (1) قيل: هو حال عن فاعل تخرجون أو عن مفعوله أو كليهما، و التظاهر التعاون من الظهر أي تتعاونون عليهم، و قيل: و لما كان الإخراج من الديار و قتل البعض بعضا مما تعظم به الفتنة، و احتيج فيه إلى زيادة اقتدار عليه، بين الله تعالى أنهم فعلوه على وجه الاستعانة بمن يظاهرهم على الظلم و العدوان، و فيه دلالة على أن الظلم كما هو محرم فكذا إعانة الظالم على ظلمه محرمة، و لا يشكل هذا بتمكين الله تعالى الظالم من الظلم فإنه كما مكنه فقد زجره بخلاف معين الظالم، فإنه يدعوه إلى الظلم و يحسنه عنده.

" وَ إِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى‏ تُفادُوهُمْ"

 (2) قال المفسرون: قريظة و هم قبيلة من يهود خيبر كانوا حلفاء الأوس و النضير، و هم قبيلة أخرى كانوا حلفاء الخزرج، فإذا اقتتلا عاون كل فريق حلفاءه في القتل و تخريب الديار و إخراج أهلها، و إذا أسر رجل من الفريقين جمعوا له حتى يفدوه فعيرتهم العرب و قالت: كيف تقاتلونهم ثم تفدونهم، فيقولون أمرنا أن نفديهم و حرم علينا قتالهم، و لكنا نستحيي أن نذل حلفاءنا فذمهم الله على ذلك إذ أتوا ببعض الواجب و تركوا البعض، و قيل: معناه إن يأتوكم أسارى في أيدي الشياطين تتصدون لإنقاذهم بالإرشاد و الوعظ مع تضييعكم أنفسكم، كقوله:" أَ تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ".

و أسارى جمع أسرى كسكارى و سكرى، و أسرى جمع أسير كمرضي و مريض، و قيل: أسارى أيضا جمع أسير، و قيل: هو من الجموع التي تركوا مفردها كأنه جمع أسران كعجالي و عجلان.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 132

" وَ هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ"

 (1) متعلق بقوله: و تخرجون فريقا منكم من ديارهم، و ما بينهما اعتراض، و الضمير للشأن أو مبهم، و يفسره إخراجهم أو راجع إلى ما دل عليه يخرجون من المصدر، و إخراجهم تأكيد أو بيان له‏

" أَ فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ"

 (2) يعني الفداء

" وَ تَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ"

 (3) يعني حرمة المقاتلة و الأجلاء. و أقول: و يظهر من الخبر أن المراد بالكفر هنا ترك ما أمر الله تعالى به من الكف عن قتلهم و إخراجهم، و كان التعبير عنه بترك ما أمر الله به دون فعل ما نهى الله عنه ليشمل ترك الطاعات أيضا و هو أهم و أعظم، أو لأن المقصود في النهي عن المعاصي حصول أضدادها، فإن النهي عن شرب الخمر الغرض منه حفظ العقل و الغرض من النهي عن الزنا حفظ الأنساب، و عن القتل حفظ النفوس، و هكذا و يظهر مما سيأتي في تأويل الآية بروايات أهل البيت عليهم السلام أنها نزلت في ترك القول بإمامة أهل البيت عليهم السلام، و ما تفرع على ذلك من قتلهم و إخراجهم عن الإمامة و إخراج أصحابهم كأبي ذر رضي الله عنه عن ديارهم نكتة أخرى أظهر مما ذكرنا كما لا يخفى على المتأمل.

" و نسبهم إلى الإيمان"

 (4) أي الإيمان الظاهري حيث ورد في تفسير النعماني في سياق هذا الخبر، فكانوا كفارا لتركهم ما أمر الله به فنسبهم إلى الإيمان بإقرارهم بألسنتهم على الظاهر دون الباطن، فلم ينفعهم ذلك لقوله" فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ" الآية.

قال الطبرسي (ره): و مما يسأل في هذه الآية أن ظاهرها يقتضي صحة اجتماع الإيمان و الكفر، و ذلك مناف للصحيح من المذهب؟ و القول فيه: أن المعنى أنهم أظهروا التصديق ببعض الكتاب و الإنكار للبعض، و يحتمل أن يكون المراد بذلك‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 133

أنكم إذا اعتقدتم جميع ذلك ثم عملتم ببعضه دون بعض فكأنكم آمنتم ببعضه دون بعض، و هذا يدل على أنه لا ينفعهم الإيمان بالبعض مع الكفر بالبعض الآخر، انتهى.

" فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ"

 (1) أي الكفر أو الجمع بين الأمرين‏

" إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا"

 (2) كقتل بني قريظة و سبي نسائهم و ذراريهم، و أجلاء بني النضير لنقض عهدهم و ضرب الجزية على غيرهم، و الخزي ذل يستحيي منه، يقال: أخزاه الله أي إهانة و أوقعه موقعا يستحيي منه، و تنكير خزي يدل على فظاعة شأنه و أنه بلغ مبلغا لا يعرف كنهه.

" إِلى‏ أَشَدِّ الْعَذابِ"

 (3) قيل: عذاب منكري الصانع كالدهرية يجب أن يكون أشد فكيف وصف عذاب اليهود بأنه أشد؟ و أجيب أولا بأن كفر العناد أشد فعذابهم أشد، و ثانيا بأن المراد أن عذابهم أشد من الخزي لا مطلقا

" وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ"

 (4) قيل: هذا وعيد شديد للعاصين، و بشارة عظيمة للمطيعين، لأن القدرة الكاملة مع عدم الغفلة يقتضي وصول الحقوق إلى مستحقيها.

و أقول: قال الإمام عليه السلام في تفسيره: قوله عز و جل:" إِخْراجُهُمْ" و لم يقتصر على أن يقول و هو محرم عليكم لأنه لو قال ذلك لرأي أن المحرم إنما هو مفاداتهم ثم قال عز و جل:" أَ فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ" و هو الذي أوجب عليكم المفاداة" وَ تَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ" و هو الذي حرم قتلهم و إخراجهم، فقال فإذا كان قد حرم الكتاب قتل النفوس و الإخراج من الديار كما فرض فداء الأسراء فما بالكم تطيعون في بعض و تعصون في بعض؟ كأنكم ببعض كافرون و ببعض مؤمنون، ثم قال عز و جل:" فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ" يا معشر اليهود" إِلَّا خِزْيٌ" ذل" فِي‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 134

الْحَياةِ الدُّنْيا" جزية تضرب عليه يذل بها" وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى‏ أَشَدِّ الْعَذابِ" إلى جنس أشد العذاب، يتفاوت ذلك على قدر تفاوت معاصيهم" وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ" أي يعمل هؤلاء اليهود.

ثم قال عليه السلام: فقال رسول الله: لما نزلت هذه الآية في اليهود، هؤلاء اليهود نقضوا عهد الله و كذبوا رسول الله، و قتلوا أولياء الله أ فلا أنبؤكم بمن يضاهيهم من يهود هذه الأمة؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: قوم من أمتي ينتحلون بأنهم من أهل ملتي يقتلون أفاضل ذريتي و أطايب أمتي و يبدلون شريعتي و سنتي، و يقتلون ولدي الحسن و الحسين كما قتل أسلاف هؤلاء اليهود زكريا و يحيى، ألا و إن الله يلعنهم كما لعنهم، و يبعث على بقايا ذراريهم قبل يوم القيامة هاديا مهديا من ولد الحسين عليه السلام المظلوم يحرقهم بسيوف أوليائه إلى نار جهنم، إلى آخر الخبر.

و قال علي بن إبراهيم: أنها نزلت في أبي ذر رضي الله عنه و فيما فعل به عثمان من إخراجه إلى الربذة و غير ذلك مما أجرى من الظلم عليه، و اعترف بأنه لو وجده أسيرا في أيدي المشركين فداه بجميع ماله، فصار مصداق هذه الآية، و القصة طويلة و سيأتي في المحل المناسب لها إن شاء الله.

" يعني تبرأنا منكم"

 (1) و قد يفرق بين العداوة و البغض بأن‏

العداوة

 (2) يظهر أثرها بخلاف البغض، أو بأن البغض أشد من العداوة، و في المصباح البغضة بالكسر

و البغضاء

 (3) شدة البغض‏

" مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً"

 (4) قد دلت الأخبار الكثيرة على أن أئمة الكفر و الضلالة داخلة فيهم، و الآيات المذكورة صريحة في أن الكفر يطلق على البراءة، و أن كفر البراءة كما يكون بين المؤمن و الكافر كذلك يكون بين الكافرين‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 135

و قيل: لعله عليه السلام إنما لم يذكر كفر النفاق في هذا الحديث لأنه جعل النفاق قسيما للكفر لا قسما منه لأن فيه إذعانا، و يؤيده قوله سبحانه:" يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَ الْمُنافِقِينَ" حيث عطف أحدهما على الآخر.

تأييد

قال الراغب في مفرداته: الكفر في اللغة ستر الشي‏ء، و وصف الليل بالكافر لستره الأشخاص، و الزارع لستره البذر في الأرض، و ليس ذلك باسم لهما، و الكافور اسم أكمام الثمرة التي تكفرها، و كفر النعمة و كفرانها سترها بترك أداء شكرها قال عز و جل:" فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ" و أعظم الكفر جحود الوحدانية أو النبوة أو الشريعة، و الكفران في جحود النعمة أكثر استعمالا، و الكفر في الدين أكثر، و الكفور فيهما جميعا، قال تعالى:" فَأَبى‏ أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً"" فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُوراً" و يقال منهما كفر فهو كافر، قال في الكفران:" لِيَبْلُوَنِي أَ أَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَ مَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ" و قال تعالى:

" وَ اشْكُرُوا لِي وَ لا تَكْفُرُونِ" و قوله:" وَ فَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَ أَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ" أي تحريت كفران نعمتي، و قال:" لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ".

و لما كان الكفران يقتضي جحود النعمة صار يستعمل في الجحود، قال تعالى‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 136

" وَ لا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ" أي جاحد له و ساتر.

و الكافر على الإطلاق متعارف فيمن يجحد الوحدانية أو النبوة أو الشريعة أو ثلاثها و قد يقال كفر لمن أخل بالشريعة و ترك ما لزمه من شكر الله عليه" قال مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَ مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ" و يدل على ذلك مقابلته بقوله:" وَ مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ" و قال:" يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَ أَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ" و قوله:" وَ لا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ" أي لا تكونوا أئمة في الكفر فيقتدي بكم، و قوله:" وَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ" و عنى بالكافر الساتر للحق فلذلك جعله فاسقا، و معلوم أن الكفر المطلق هو أعظم من الفسق، و معناه من جحد حق الله فقد فسق عن ربه، و لما رأي جعل كل فعل محمود من الإيمان جعل كل فعل مذموم من الكفر.

و قال في السحر:" وَ ما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَ لكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا" و قال:

" الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ" إلى قوله" وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ" و قال:" وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ" إلى قوله:" وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ".

و الكفور المبالغ في كفران النعمة، و قوله:" إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ" و قال" ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَ هَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ" إن قيل: كيف وصف‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 137

الإنسان هيهنا بالكفور و لم يرض بذلك حتى أدخل عليه إن و اللام كل ذلك تأكيدا و قال في موضع آخر: و كره إليكم الكفر" و قوله عز و جل:" إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ" فتنبيه على ما ينطوي عليه الإنسان من كفران النعمة و قلة ما يقوم بأداء الشكر، و على هذا قوله:" قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ" و لذلك قال:" وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ" و قوله:" إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً" تنبيها أنه عرفه الطريقين كما قال:" وَ هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ" فمن سالك سبيل الشكر و من سالك سبيل الكفر و قال:" وَ كانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً" فمن الكفر و نبه بقوله" كان" أنه لم يزل منذ وجد منطويا على الكفر.

و الكفار أبلغ من الكفور، لقوله:" كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ" و قال:" وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ" و قال:" إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ" و قال:" وَ لا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً" و قد أجرى الكفار مجرى الكفور في قوله:

" إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ".

و الكفار في جمع الكافر المضاد للإيمان أكثر استعمالا لقوله تعالى:" أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ" و قوله:" لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ" و الكفرة في جمع كافر النعمة أكثر استعمالا، و قوله عز و جل:" أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ" أ لا ترى أنه‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 138

وصف الكفرة بالفجرة، و الفجرة قد يقال للفساق من المسلمين.

و قوله" جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ" أي الأنبياء و من يجري مجراهم ممن بذلوا النصح في أمر الله فلم يقبل منهم، و قوله عز و جل:" إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا" قيل: عنى بقوله إنهم آمنوا بموسى ثم كفروا بمن بعده، و قيل:

آمنوا بموسى ثم كفروا بموسى إذ لم يؤمنوا بغيره.

و قيل: هو ما قال:" وَ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَ اكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ" و لم يرد أنهم آمنوا مرتين و كفروا مرتين، بل ذلك إشارة إلى أحوال كثيرة و قيل: كما يصعد الإنسان في الفضائل في ثلاث درجات يتسكع في الرذائل في ثلاث درجات و الآية إشارة إلى ذلك، و يقال: كفر فلان إذا اعتقد الكفر، و يقال ذلك إذا أظهر الكفر و إن لم يعتقد، و لذلك قال" مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ" و يقال: كفر فلان بالشيطان إذا كفر بسببه، و قد يقال ذلك إذا آمن و خالف الشيطان كقوله:" فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ".

و أكفره إكفارا حكم بكفره، و قد يعبر عن التبري بالكفر، نحو:" ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ" الآية، و قوله عز و جل:" إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ" و قوله:" كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا".

و قيل: كنى بالكفار الزراع لأنهم يغطون البذر في التراب ستر الكافر

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 139

حق الله، بدلالة قوله: يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار، و لأن الكفار لا اختصاص لهم بذلك، و قيل: بل عنى الكفار و خصهم لكونهم معجبين بالدنيا و زخارفها، و راكنين إليها.

و الكفارة ما يغطي الإثم و التكفير ستره و تغطيته حتى يصير بمنزلة ما لم يعمل، و يصح أن يكون أصله إزالة الكفر، و الكفران نحو التمريض في كونه إزالة للمرض، انتهى.

و أقول: قد مر بعض الكلام في حقيقة الكفر في أبواب الأيمان.

باب دعائم الكفر و شعبه‏

 (1)

 (الحديث الأول)

 (2): مختلف فيه.

و هو جزء من خطبة مشهورة مر بعضها بسند آخر في باب صفة الإيمان، و الباب الذي قبله، و رواها الصدوق في الخصال بإسناده عن ابن نباتة رضي الله عنه في النهج قليلا منه قد ذكرنا بعضه هنا و نذكر تتمته هيهنا قال.

و الكفر على أربع دعائم على التعمق و التنازع و الزيغ و الشقاق، فمن تعمق لم ينب إلى الحق، و من كثر نزاعه بالجهل دام عماه عن الحق، و من زاغ ساءت عنده الحسنة، و حسنت عنده السيئة و سكر سكر الضلالة، و من شاق وعرت عليه طرقه و أعضل عليه أمره، و ضاق مخرجه.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 140

و الشك على أربع شعب على التماري و الهول و التردد و الاستسلام، فمن جعل المراء ديدنا لم يصبح ليله، و من هاله ما بين يديه نكص على عقبيه، و من تردد في الريب وطئته سنابك الشياطين، و من استسلم لهلكة الدنيا و الآخرة هلك فيهما.

ثم قال قدس سره: و بعد هكذا كلام تركنا ذكره خوف الإطالة و الخروج عن الغرض المقصود في هذا الكتاب.

و قال ابن ميثم في شرحه: و أما الكفر فرسمه أنه جحد الصانع أو إنكار أحد رسله عليهم السلام أو ما علم مجيئهم به بالضرورة، و له أصل و هو ما ذكرناه، و كمالات و متممات هي الرذائل الأربع التي جعلها دعائم له، و هي الرذائل من الأصول الأربعة للفضائل الخلقية.

فأحدها التعمق و هو الغلو في طلب الحق، و التعسف فيه بالجهل و الخروج إلى حد الإفراط، و هو رذيلة الجور من فضيلة الحكمة، و يعتمد الجهل بمظان طلب الحق و نفر عن هذه الرذيلة بذكر ثمرتها، و هو عدم الإنابة إلى الحق و الرجوع إليه لكون تلك الرذيلة صارت ملكة.

و الثانية التنازع و هو رذيلة الإفراط من فضيلة العلم و يسمى جربزة و يعتمد الجهل المركب، و لذلك نفر عنه بما يلزمه عند كثرته و صيرورته ملكة من دوام العمى عن الحق.

الثالثة: الزيغ و يشبه أن يكون رذيلة الإفراط عن فضيلة العفة و هو الميل عن حاق الوسط منها إلى رذيلة الفجور، و يعتمد الجهل، و لذلك لزمه قبح الحسنة و حسن السيئة و سكر الضلالة، و استعار لفظ السكر لغفلة الجهل باعتبار ما يلزمها من سوء التصرف، و عدم وضع الأشياء مواضعها، و يحتمل أن يكون إشارة إلى رذيلة التفريط من فضيلة الحكمة المسماة غباوة.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 141

الرابعة: الشقاق و هو رذيلة الإفراط من فضيلة الشجاعة، المسمى تهورا أو مستلزم له، و يلزمها توعر المسالك على صاحبها، و ضيق مخرجه من الأمور، لأن مبدء سهولة المسالك و اتساع المداخل و المخارج في الأمور هو مسالمة الناس و التجاوز عما يقع منهم، و الحلم عنهم، و احتمال مكروههم.

و أما الشك فعبارة عن التردد في اعتقاد أحد طرفي النقيض و يقابل اليقين، و ذكر له أربع شعب: أحدهما التماري و ظاهر أن مبدء المراء الشك، و نفر من اتخذه ملكة بكونه لا يصبح ليله، و ذلك كناية عن عدم وضوح الحق له من ظلمة ليل الشك و الجهل.

الثاني: الهول لأن الشك في الأمور يستلزم عدم العلم بما فيها من صلاح أو فساد، و ذلك يستلزم الفزع منها و الخوف من الإقدام عليها و ثمرتها النكوص و الرجوع على الأعقاب.

الثالث: التردد في الشك إلى الانتقال من حال إلى حال، و من شك في أمر إلى شك في آخر من غير ثقة بشي‏ء، و ذلك دأب من تعود التشكك في الأمور، و نفر عن ذلك بما يلزمه مما كنى عنه بوطئ سنابك الشياطين، و هو ملك الوهم و الخيال لأرض قلبه، حتى يكون سلطان العقل بمعزل عن الجزم بما من شأنه الجزم به.

الرابع: الاستسلام لهلكة الدنيا و الآخرة، و لزومه عن الشك لأن الشاك في الأمور الدنيوية و الأخروية المتعود لذلك غير عامل لشي‏ء منها، ولايتهم لأسبابها، و بحسب ذلك يكون استسلامه لما يرد منها عليه، و لزوم هلاكه فيها لاستسلامه ظاهر، و بالله التوفيق، انتهى.

و لنرجع إلى شرح ما في الكتاب:

" الدعائم"

 (1) جمع الدعامة بالكسر، و هي عماد البيت، و المراد هنا أصوله و بواعثه، و

الفسق‏

 (2) الخروج عن الطاعة، و يقال: أصله‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 142

خروج الشي‏ء من الشي‏ء على وجه الفساد، و قال الراغب: أكثر ما يقال الفاسق لمن التزم حكم الشرع و أقر به، ثم أخل بجميع أحكامه أو ببعضه.

و الغلو

 (1) هو مجاوزة الحد في الدين، و في التنزيل:" لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ" و يقال: أصله الارتفاع و مجاوزة القدر في كل شي‏ء، و في الخصال: و العتو، قال في المصباح: عتا يعتو عتوا من باب قعد استكبر، و قال الراغب:

العتو

 (2) النبو عن الطاعة قال تعالى:" وَ عَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً"" فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ"" وَ كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها" و قال:" بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَ نُفُورٍ" و قوله تعالى:" أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا" قيل: المعنى هيهنا مصدر، و قيل: هو جمع عاتي، و قيل:

العاتي الجاني، انتهى.

و ما في المتن أظهر لذكر العتو بعد ذلك إلا أن يكون بمعنى آخر، و

الشك‏

 (3) في الاصطلاح و هو تساوي الطرفين عند العقل، و قال في المصباح: الشك الارتياب و يستعمل الفعل لازما و متعديا بالحرف، فيقال: شك في الأمر قال أئمة اللغة:

الشك خلاف اليقين فقولهم خلاف اليقين هو التردد بين الشيئين، سواء استوى طرفاه أو رجح أحدهما على الآخر، قال تعالى:" فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ" قال المفسرون: أي غير مستيقن و هو يعم الحالتين، انتهى.

و كان المراد به هنا الشك في أصول الدين و ضرورياته، و هو أعظم أصول الكفر.

و الشبهة

 (4) ما يشبه الحق و ليس به، و قال الراغب: الشبهة هو أن لا يتميز أحد

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 143

الشيئين من الآخر لما بينهما من التشابه عينا كان أو معنى، انتهى.

و قيل: هي ترجيح الباطل بالباطل، و تصوير غير الواقع بصورة الواقع، و جلها بل كلها يحصل بمزج الباطل بالحق و لما فرغ من دعائم الكفر و أصوله و كان لكل واحدة منها أربع شعب و كانت لتلك الشعب ثمرات و آثار مهلكة أشار إلى تلك الشعب و ثمراتها للتحذير منها، و التنفير عنها،

بقوله: و الفسق على أربع شعب.

 (1) و الشعبة من الشجرة بالضم الغصن المتفرع منها، و قيل: الشعبة ما بين الغصنين و القرنين، و الطائفة من الشي‏ء أو طرف الغصن و المراد هنا الفروع، و

الجفاء

 (2) الغلظة في الطبع، و الخرق في المعاملة، و الفظاظة في القلب، و رفض الصلة و البر و الرفق و البعد عن الآداب الحسنة، قال في المصباح: جفا السرج عن ظهر الفرس يجفو جفاء ارتفع، و جافيته فتجافى، و جفوت الرجل أجفوه أعرضت عنه أو طردته، و هو مأخوذ من جفاء السيل و هو ما نفاه السيل، و قد يكون مع بغض، و جفا الثوب يجفو إذا غلظ فهو جاف، و منه جفاء البدو و هو غلظتهم و فظاظتهم.

و العمى‏

 (3) ذهاب بصر القلب و ترك التفكر في الأمور النافعة في الآخرة، و عدم إدراك الحق و التميز بينه و بين الباطل.

و في المصباح:

الغفلة

 (4) غيبة الشي‏ء عن بال الإنسان، و عدم تذكره له، و قد استعمل فيمن ترك إهمالا و إعراضا كما في قوله تعالى:" وَ هُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ" يقال منه غفلت عن الشي‏ء غفولا من باب قعد، و له ثلاثة مصادر غفول و هو أعمها و غفلة و زان تمرة، و غفل و زان سبب، و أغفلت الشي‏ء إغفالا تركته إهمالا من غير نسيان، و قال الراغب: الغفلة سهو يعتري من قلة التحفظ و التيقظ، قال عز و جل:" لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا"" وَ هُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ"" وَ هُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ"

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 144

" وَ لا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ"" لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ".

" احتقر الحق"

 (1) و في بعض النسخ الخلق أي أهل الحق‏

" و مقت الفقهاء

 (2) أي" أهل البيت عليهم السلام. أو الأعم منهم و من علماء شيعتهم و هو أظهر،

" و أصر على الحنث العظيم"

 (3) و هو الإثم بالاحتقار و المقت، أو بالأعم منهما و من سائر الكبائر و هو إشارة إلى قوله تعالى:" وَ كانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ" في وصف أصحاب الشمال بعد ذكر شدة عذابهم و أنهم كانوا قبل ذلك مترفين، قال الطبرسي: الحنث نقض العهد المؤكد بالحلف.

و قال: أي الذنب العظيم، و قال: الإصرار أن يقيم عليه فلا يقلع عنه و لا يتوب منه، و قيل: الحنث العظيم الشرك أي لا يتوبون عنه، و قيل: كانوا يحلفون لا يبعث الله من يموت و أن الأصنام أنداد الله، و قال الراغب: أي الذنب المؤثم، و سمي اليمين الغموس حنثا لذلك‏

" و من عمي نسي الذكر"

 (4) أي ذكر الله أو الآخرة أو القرآن أو القرآن أو أهل البيت عليهم السلام، و ذكر الله يعم الجميع إشارة إلى قوله تعالى:

" اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ" و قد مر و سيأتي أنهم عليه السلام ذكر الله.

" و اتبع الظن"

 (5) أي في أصول الدين التي لا يجوز فيها اتباعه، أو المراد به الظنون التي لا يجوز اتباعها كالظن الحاصل بالرأي و القياسات و الاستحسانات العقلية كما هو شأن المخالفين، و ليست هذه الفقرة في" ل".

" و بارز خالقه"

 (6) أي حاربه مطلقا أو في اتباع الظن حيث ارتكب ما نهاه‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 145

عنه بقوله عز و جل:" وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ" و بقوله:" إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَ إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً".

" و ألح عليه الشيطان"

 (1) إشارة إلى قوله:" اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ"

" و طلب المغفرة"

 (2) هذا أيضا ليست في" ل".

" بلا توبة"

 (3) أي ندامة عما فعل‏

و لا استكانة

 (4) و تضرع في طلب المغفرة.

" و لا غفلة"

 (5) عن الذنوب، و شبهة عرضت له فيها

" و من غفل"

 (6) أي عن الآخرة و عقوباتها و مضرة الشيطان و اتباع شهوات الدنيا و لذاتها

" جنى على نفسه"

 (7) أي أهلكها

" و انقلب"

 (8) عن الدين‏

" على ظهره".

" و حسب غيه"

 (9) و ضلاله‏

" رشدا"

 (10) و صلاحا و ذلك لغفلته عن تسويلات الشيطان و وساوسه‏

" و غرته الأماني"

 (11) أي المواعيد الكاذبة من الشيطان حيث قال اللعين:

" وَ لَأُمَنِّيَنَّهُمْ" قال الراغب: الأمنية الصورة الحاصلة في النفس من تمنى الشي‏ء، و لما كان الكذب تصور ما لا حقيقة له و إيراده باللفظ صار التمني كالمبدء للكذب، فصح أن يعبر عن الكذب بالتمني، و قال: التمني تقدير الشي‏ء في النفس و تصويره فيها، و ذلك قد يكون عن تخمين و ظن، و قد يكون عن رؤية و بناء على أصل لكن لما كان أكثره عن تخمين صار الكذب له أملك.

قال بعض الأفاضل: من المغرورين من ينكر الحشر و النشر، و منهم من يزعم أن وعيد الأنبياء من باب التخويف و لا عقاب في الآخرة، و منهم من يقول أن لذات الدنيا متيقنة، و عقوبة الآخرة مشكوكة و المتيقن لا يترك بالمشكوك، و منهم من يفعل المعاصي و يقول إن الله غفور رحيم، و منهم من يزعم أن الدنيا نقد و الآخرة

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 146

نسيئة و النقد أحسن من النسيئة، و منهم من اغتر بنفسه و بعلمه و غفل عن آفاته، و منهم من اغتر بعلمه و ظن أنه بلغ حد الكمال و ليس مثله أحد و كأنه لم يسمع ما ورد في ذم العلماء المغرورين بعلومهم، و منهم من علم و عمل و غفل عن طهارة الباطن عن الأخلاق الرذيلة و ظن أنه منزه عنها مستحق للثواب الجزيل بسببه، و منهم من اغتر بأصل العلم و طلب علوما نافعة في الدنيا و غفل عن علم الآخرة، و منهم من اغتر بأصل الطهارة و النيات و اتبع وسواس الشيطان و ظن أنه يحسن شيئا و أنه مستحق للأجر به، و منهم من اغتر بالعبادة و ظن أنه فاق العابدين، و منهم من اغتر بالزهد و ظن أنه أزهد الناس و أنه شفيع للخلق يوم القيامة، و منهم من اغتر بالمال و المغرورون به كثير، و منهم من اغتر بالأولاد و الأنصار، و منهم من اغتر بالجاه و الرئاسة، إلى غير ذلك من أسباب الغرة التي لا تحصى كثرة.

" و أخذته الحسرة"

 (1) مما لحقه من الفضائح‏

" و الندامة"

 (2) مما فعله من القبائح‏

" إذا قضى الأمر"

 (3) بين الخلائق في القيامة أو أمر الدنيا بالموت‏

" و انكشف عنه الغطاء"

 (4) المانع من مشاهدة سوء عاقبته أو في وقت الموت فرأى ما سمعه عيانا.

هذا بالنظر إلى أصحاب الغفلة فأما من رأى أمور الآخرة بعين اليقين فقد قامت قيامته في الدنيا كما قال سيد أصحاب اليقين: لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا.

" و بدا له"

 (5) أي من الله و من أمور الآخرة و في" ل": و أخذته الحسرة إذا انكشف الغطاء و بدا له من الله‏

" ما لم يكن يحتسب"

 (6) أي يظن و يتوقع إشارة إلى قوله سبحانه:

" وَ لَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَ مِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ بَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ".

" و من عتا من أمر الله"

 (7) أي تركه استكبارا

" شك"

 (8) أي في الله أو في أمره، فإن‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 147

المعصية طريق إلى الكفر و يستلزمه‏

" تعالى الله عليه"

 (1) أي غضب عليه‏

" فأذله"

 (2) في الدنيا و الآخرة

" بسلطانه"

 (3) أي بقدرته و عزته‏

" و صغره"

 (4) عند الخلائق‏

" بجلاله"

 (5) و عظمته فيفعل به نقيض مقصوده.

" كما اغتر بربه الكريم"

 (6) الذي أحسن إليه و أنعم عليه، إشارة إلى قوله تعالى:" ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ" قال البيضاوي: أي أي شي‏ء خدعك و جرأك على عصيانه، و ذكر الكريم للمبالغة في المنع عن الاغترار، فإن محض الكرم لا يقتضي إهمال الظالم و تسوية الموالي و المعادي و المطيع و العاصي، فكيف إذا انضم إليه صفة القهر و الانتقام، و الإشعار بما يغره به الشيطان، فإنه يقول له: افعل ما شئت فربك كريم لا يعذب أحدا، أو لا يعاجل بالعقوبة و الدلالة على أن كثرة كرمه يستدعي الجد في طاعته لا الانهماك في عصيانه اغترارا بكرمه.

" و فرط في أمره"

 (7) أي قصر في طاعته، و جعل المفعول في أذله و صغره راجعين إلى الله تعالى بعيد جدا، و في" ل" ثم أذله بسلطانه و صغره لجلالة كما فرط في جنبه و عتا عن أمر ربه الكريم‏

" على التعمق بالرأي"

 (8) أي التعمق و الغور في الأمور بالآراء و المقاييس الباطلة، و ليس قوله بالرأي في" ل" يقال تعمق في الأمر أي بالغ في النظر فيه، و المراد به المبالغة المفضية إلى حد الإفراط، و بعد ظهور الحق، كمن وصل في البئر إلى الماء و قضى الوطر ثم غاص في البئر فغرق، و قيل: المراد بالتعمق تدقيق النظر في طلب الباطل، لأن طلب الحق يشبه الصعود و العروج، و طلب الباطل يشبه النزول إلى القعر، و على الأول يدل على ذم كثرة التفكر و التعمق في أمور الدين.

" و التنازع فيه"

 (9) أي في الرأي و ليس في" ل‏

" و الزيغ‏

 (10) الميل عن الاستقامة على‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 148

الحق إلى الباطل، كما قال تعالى:" رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا" و قال:

" بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ" و قال تعالى:" فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ" أي لما فارقوا الاستقامة عاملهم بذلك‏

" و الشقاق"

 (1) أي المخالفة الشديدة مع أهل الحق‏

" لم ينب"

 (2) على صيغة الأفعال أي لم يرجع‏

إلى الحق‏

 (3) و إن ظهر له، لأن من خاض في الباطل و تمكن في قلبه لم يرجع إلى الحق الواضح إلا من شذ

" و لم يزدد"

 (4) أي في تعمقه‏

" إلا غرقا في الغمرات"

 (5) أي الشبه القوية و الآراء الفاسدة التي لم يمكنه التخلص منها.

في القاموس: الغمر الماء الكثير، و معظم البحر و غمرة الشي‏ء شدته و مزدحمة، و الجمع غمرات و غمار

" و لم تنحسر"

 (6) أي لم تنكشف‏

" عنه فتنة"

 (7) مضلة

" إلا غشيته أخرى"

 (8) لأن الشرور بعضها يجر إلى بعض فيتعسر عليه الخروج عنها و التخلص منها

" و انخرق دينه"

 (9) بمقراض الفتنة

" فهو يهوي في أمر مريج"

 (10) أي في أمر مختلط بالأباطيل المختلفة أو بالحق و بالباطل، قال الراغب: أصل المرج الخلط، و المرج الاختلاف يقال: أمرهم مريج أي مختلط و قال البيضاوي في قوله تعالى:" بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ" أي مضطرب من مرج الخاتم من إصبعه إذا خرج، و ذلك قولهم تارة أنه شاعر، و تارة أنه ساحر، و تارة أنه كاهن.

" شهر بالعثل"

 (11) في بعض النسخ بالعين المهملة و الثاء المثلثة أي الحمق، في القاموس العثل ككتف الغليظ الضخم، و كصبور الأحمق، و النخلة الجافية الغليظة، و قد يقرأ

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 149

بالتاء المثناة، في القاموس عتل إلى الشر كفرح فهو عتل أسرع، و في أكثر النسخ بالفشل، بالفاء و الشين المعجمة، و هو الضعف و الجبن، قيل: و إنما شهر بالفشل لأن خصمه المبطل لا ينقاد للحق، بل لا يزال يجادل بالباطل ليدحض به الحق، فيظهر ضعف هذا المحق فيشهر به.

" و من زاغ"

 (1) أي مال عن منهج الحق إلى الباطل زين له الشيطان سوء أعماله فقبحت عنده الحسنة، و حسنت عنده السيئة.

" و من شاق"

 (2) أي عارض و نازع أهل الدين و الإمام المبين‏

" أعورت عليه طرقه"

 (3) على بناء الأفعال أو الافعلال أي صار أي طريق سلك فيه أعور أي بلا علم يهتدى به فيتحير فيها، في القاموس الأعور من الطرق الذي لا علم فيه، و في بعض النسخ أوعرت أي صعبت. في القاموس الوعر ضد السهل، و قد وعر المكان ككرم و وعد و ولع و توعر صار وعرا، و أوعر به الطريق وعر عليه و أفضى به إلى وعر، و الرجل وقع في وعر و استوعروا طريقهم رأوه وعرا كأعوره، انتهى.

و جمع الطرق إشارة إلى كثرة طرق الباطل‏

" و اعترض عليه أمره"

 (4) أي يحول بينه و بين الوصول إلى مقصوده أو يصعب عليه و لا يتأتى له بسهولة، أو على بناء المجهول أي تعترض له الشبهات فتحول بينه و بين الوصول إلى أمره الذي يريده، و في القاموس الاعتراض المنع و الأصل فيه أن الطريق إذا اعترض فيه بناء أو غيره منع السابلة من سلوكه، و اعترض صار وقت العرض راكبا. و صار كالخشبة المعترضة في النهر، و الشي‏ء دون الشي‏ء حال، و الفرس في رسنه لم يستقم لقائده، و زيد البعير ركبه، و هو صعب بعد، انتهى.

و قيل: أي أمره معترض عليه مستول كالفرس الحرون يمشي نشاطا في عرض الطريق، و هو كناية عن عدم استقامته أو عن قوته و نشاطه في الباطل، أو يعترض عليه مانع له عن قبول الحق من عرض له عارض أي مانع و منه اعتراضات العلماء لأنها تمنع من التمسك بالدليل، و تعارض البينات لأن كل واحدة تعترض الأخرى‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 150

و تمنع نفوذها، و في بعض النسخ أعورت عليه طرفه، بالفاء، أي صار عين قلبه أعور لا يبصر الحق. و أقول: الظاهر أنه إشارة إلى قوله تعالى:" وَ مَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى‏ وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَ نُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَ ساءَتْ مَصِيراً".

" على المرية"

 (1) قال الجوهري: المرية الشك و الجدل، و قد يضم، و قرئ قوله تعالى:" فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ" بهما، و قال: هاله الشي‏ء يهوله هولا أي أفزعه، و قال: استسلم أي انقاد و قال: نكص على عقبيه ينكص و ينكص أي رجع، و قيل:

المراد

بالشك‏

 (2) الشك في أصول الدين أو خلاف اليقين، و بالمرية الشك في فروعه، أو بمعنى تساوي الطرفين الحق و الباطل، و الأخيران من شعب الأولين‏

و الهوى‏

 (3)، إذ الشك يوجب متابعة الهوى‏

" و التردد"

 (4) أي بين الحق و الباطل، لأن الشاك متردد بينهما، قد يختار هذا و قد يختار ذاك،

و الاستسلام‏

 (5) الانقياد لأن الشاك واقف على الجهل مستسلم له أو لما يوجب هلاك الدنيا و الآخرة.

" و هو قول الله عز و جل"

 (6) أي الشك الذي ذكرنا شعبه هو الذي زجر الله عنه في‏

قوله" فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى‏"

 (7) إذ المماراة مجادلة على طريقة الشك، قال البيضاوي: أي تتشكك، و الخطاب للرسول صلى الله عليه و آله و سلم أو لكل أحد.

أقول: الظاهر أن المراد بالشك هنا الشك في أصول الدين لا سيما في الإمامة

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 151

كما يومئ إليه الاستشهاد بآية سورة النجم، لأنه تعالى قال فيها:" وَ النَّجْمِ إِذا هَوى‏" و قد روي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال: سينقض كوكب من السماء مع طلوع الفجر فيسقط في دار أحدكم، فمن سقط ذلك الكوكب في داره فهو وصيي و خليفتي و الإمام بعدي، فسقط في دار علي عليه السلام فقال المنافقون: لقد ضل محمد في محبة ابن عمه و غوى، و ما ينطق في شأنه إلا بالهوى، فأنزل الله تعالى:" وَ النَّجْمِ إِذا هَوى‏" يقول: و خالق النجم إذا هوى" ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ" يعني في محبة علي" وَ ما غَوى‏، وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى‏" يعني في شأنه" إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى‏".

و روى علي بن إبراهيم عن الباقر عليه السلام يقول: ما ضل في علي و ما غوى، و ما ينطق فيه عن الهوى، و ما كان ما قاله فيه إلا بالوحي الذي أوحى إليه و مثله كثير و قد ورد في الأخبار الكثيرة أنه لما عرج بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم فكان قاب قوسين أو أدنى أوحى الله إليه في ولاية أمير المؤمنين عليه السلام و قال بعد ذلك: فأوحى إلى عبده ما أوحى، يعني في علي عليه السلام ثم قال:" أَ فَتُمارُونَهُ عَلى‏ ما يَرى‏" أي أ فتجادلونه من المراء. و قال علي ابن إبراهيم سئل رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم عن ذلك الوحي، فقال: أوحى إلى أن عليا سيد المؤمنين و إمام المتقين و قائد الغر المحجلين، و أول خليفة يستخلفه خاتم النبيين فدخل القوم في الكلام، فقالوا: أ من الله أو من رسوله؟ فقال الله جل ذكره لرسوله صلى الله عليه و آله و سلم: قل لهم" ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى‏" ثم رد عليهم فقال:" أَ فَتُمارُونَهُ عَلى‏ ما يَرى‏" فقال لهم رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: قد أمرت فيه بغير هذا، أمرت أن أنصبه للناس.

فأقول: هذا وليكم من بعدي. ثم قال:" إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَ ما تَهْوَى الْأَنْفُسُ".

إلى أن قال:" فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَ لَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا، ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ" ثم قال:" فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى‏" و قد ورد في الأخبار الكثيرة

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 152

أنهم عليهم السلام آلاء الله، فإذا تأملت في آيات تلك السورة عرفت ما ذكره عليه السلام من الشك.

و شعبه حق المعرفة.

" فمن هاله من بين يديه"

 (1) من الحق و الرغبة إلى الآخرة

" نَكَصَ عَلى‏ عَقِبَيْهِ"

 (2) إلى الباطل و الدنيا كما قال سبحانه:" فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى" الآية.

" و من امترى في الدين"

 (3) في القاموس المرية بالكسر و الضم الشك و الجدل، و ماراه مماراة و مراء و امترى فيه و تمارى شك‏

" تردد في الريب"

 (4) بالفتح أو بكسر الراء و فتح الباء جمع ريبة كسدرة و سدر، و هو أظهر أي انتقل من حال إلى حال و من شك إلى شك آخر من غير ثقة بشي‏ء أو استمرار على أمر كما هو دأب المعتادين بالتشكيك في الأمور

" و سبقه الأولون من المؤمنين"

 (5) أي الذين كانوا في مرتبته من الإيمان، و لعدم الشك و المرية صعدوا إلى درجات اليقين‏

" و أدركه الآخرون"

 (6) أي الذين كانوا أخفض مرتبة منه فترقوا إلى مرتبته و هو واقف متحير لا يبرح من درجته الخسيسة لابتلائه بالشك و الشبهة.

" و وطئته سنابك الشيطان"

 (7) السنابك جمع سنبك كقنفذ، و هو طرف الحافر و هو كناية عن استيلاء الشيطان و جنوده من الجن و الإنس عليه و في" ل" الشياطين‏

" و من استسلم لهلكة الدنيا و الآخرة هلك فيما بينهما"

 (8) فلم تكن له الدنيا خالصة لزوالها مع ما عليه من العقوبات فيها، و لم تكن له الآخرة لعدم إتيانه بما ينفعه فيها.

قال بعض المحققين: فيه إشارة إلى أن الطالب للدنيا المستسلم لها هالك، و أن الطالب للعقبى و نعيمها أيضا هالك، و للإنسان الموقن شأن وراء ذلك يليق به، و هو نبذ الدنيا و العقبى وراء ظهره، و الترقي إلى ساحة الوصول أمام دهره، و روي أن الله تعالى أوحى إلى داود عليه السلام يا داود أحب الإحياء إلى من عبدني بغير نوال‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 153

و لكن عبدني ليعطي الربوبية حقها، و من أظلم ممن عبدني لجنة أو نار، أ لم أكن أهلا أن أطاع و أعبد خالصة.

" و من نجا من ذلك فمن فضل اليقين"

 (1) قيل: اليقين ليس محض الاعتقاد، بل هو كيفية نفسانية تبعث على متابعة من أقر بهم من الأنبياء و الأوصياء عليهم السلام من جميع الوجوه و تمنع عن مخالفتهم، و لذا قال عليه السلام:

" و لم يخلق الله خلقا أقل من اليقين،

 (2) لأن اليقين بالمعنى المذكور لا يكون إلا لمن اصطفاه الله تعالى من عباده، و لمن تابعهم حق المتابعة، و قد مر الكلام في اليقين، و كان المراد بالخلق هنا التقدير.

" و الشبهة على أربع شعب: إعجاب بالزينة"

 (3) أي إعجاب المرء بالزينة الدنيوية أو القلبية من الأمور التي اخترعتها النفس بالرأي و الاستحسان، مع استعانة الوهم و الخيال فأعجبت بها.

" و تسويل النفس"

 (4) أي تزيينها للأمور الباطلة بحسب المادة و الصورة، مع شوب الحق و عدمه، فإن النفس باستعانة الوهم قد تزين الأمور الباطلة الصرفة، كما تزين الباطل الممتزج بالحق، و الظاهر أن الإضافة إلى الفاعل كما قال تعالى" بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً" و الإضافة إلى المفعول بعيد، قال الراغب: التسويل تزيين النفس لما تحرص عليه و تصوير القبيح منه بصورة الحسن، قال تعالى:" بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً"" الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَ أَمْلى‏ لَهُمْ".

" و تأول العوج"

 (5) أي تأويل الأمر المعوج و الباطل بما يظن أنه حق و مستقيم‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 154

و قيل: أي التأويل الغير المستقيم قال في القاموس: أول الكلام تأويلا و تأوله دبره و قدره و فسره، و قال: عوج كفرح و الاسم كعنب، أو يقال في كل منتصب كالحائط و العصا فيه عوج محركة، و في نحو الأرض و الدين كعنب، و قال في النهاية: هو بفتح العين مختص بكل شي‏ء مرئي كالأجسام و بالكسر فيما ليس بمرئي كالرأي و القول.

" و ليس الحق بالباطل"

 (1) أي خلط الحق و الواقع بما هو ليس بواقع كالجمع بين خلافة أمير المؤمنين عليه السلام و خلافة الثلاثة أو إخفاء الحق بتأويله بالباطل كتأويل حدوث العالم بالحدوث الذاتي، و هو إشارة إلى قوله تعالى:" وَ لا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَ تَكْتُمُوا الْحَقَّ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ" و قال البيضاوي: اللبس الخلط و قد يلزمه جعل الشي‏ء مشتبها بغيره، و المعنى لا تخلطوا الحق المنزل بالباطل الذي تخترعونه و تكتبونه حتى لا يميز بينهما، أو لا تجعلوا الحق ملتبسا بسبب خلط الباطل الذي تكتبونه في خلاله أو تذكرونه في تأويله.

" و ذلك بأن الزينة تصدف عن البينة"

 (2) أي تصرف النفس عن البينة الشرعية و العقلية التي يحكم بصحتها النص الصحيح، و العقل الصريح، في القاموس صدف عنه يصدف أعرض و فلانا صرفه كأصدقه، انتهى.

و قال سبحانه:" فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَ صَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ"

" تقحم على الشهوة"

 (3) أي يوجب دخول الإنسان في المشتهيات النفسانية من غير روية، قال في القاموس: قحم في الأمر كنصر قحوما رمى بنفسه فيه فجأة بلا روية و قحمه تقحيما و أقحمته فانقحم و قحمه الفرس تقحيما رمته على وجهه‏

" و إن العوج يميل بصاحبه"

 (4) أي إلى الباطل‏

" مَيْلًا عَظِيماً"

 (5) يتعسر معه الرجوع إلى الحق، و إنما لم يقل تأول العوج لأن‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 155

تأول العوج لاختياره، فإذا اختاره فهو يميل به، و قيل: هو إما للاختصار اكتفاء بما سبق، أو للتنبيه على أن تأول العوج أيضا عوج.

" و إن اللبس"

 (1) أي لبس الحق بالباطل و إن كان واحدا

" ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ"

 (2) ظلمة الباطل و ظلمة القلب، و ظلمة الأعمال المترتبة عليه كذا قيل، أو المعنى أن سلوك هذه الطريقة يوجب تراكم الظلمات الكثيرة لكثرة موارده.

باب صفة النفاق و المنافق‏

 (3)

 (الحديث الأول)

 (4): كالسابق و هو تتمته، أفرده المصنف عنه و جعله جزء هذا الباب كما أنه جعل سائر أجزائه أجزاء لأبواب أخر، مرت في أول الكتاب، و النفاق بالكسر فعل المنافق و محله القلب و اشتقاقه إما من نفقت الدابة تفوقا من باب قعد إذا ماتت، لأن المنافق بنفاقه بمنزلة الميت الهالك، أو من نفق البيع نفاقا بالفتح إذا راج، لأن المنافق يروج إيمانه ظاهرا و يخفى باطله باطنا أو من النفق بفتحتين و هو ضرب من الأرض يكون له مخرج من موضع آخر. لأن المنافق يستر نفاقه كما يستر السائر في الأرض نفاقه أي دراهمه و غيرها، أو من النافقاء و هي إحدى جحرتي اليربوع، لأن له جحرتين يقال لإحديهما النافقاء و للأخرى القاصعاء، فإذا دخل عن إحداهما و هي القاصعاء أخرج من الأخرى و هي النافقاء، و فيه تشبيه له باليربوع فإن اليربوع يخرق الأرض من أسفل حتى إذا قارب وجهها أرق التراب،

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 156

فإذا رابه شي‏ء دفع التراب برأسه و خرج، فظاهر جحرة تراب و باطنه خفر، و كذا المنافق ظاهره إيمان و باطنه كفر، و يخرج من الإيمان من غير الوجه الذي دخل فيه.

" على الهوى و الهوينا"

 (1) قد مر تفسير الهوى و قيل: إنه ميل النفس إلى مقتضى طباعها و خروجها عن حدود الله عز و جل، و هو أشد جاذب عن قصد الحق و أعظم ساد عن سلوك سبيله و أقوى باعث على سلوك سبيل النفاق، و قال في النهاية:

الهوينا تصغير الهونى تأنيث الأهون، و هو من الهون الرفق و اللين و التثبت، انتهى.

و المراد هنا التهاون في أمر الدين و ترك الاهتمام فيه كما هو طريقة المتقين، و قيل: هي الفتنة الصغرى التي تجر إلى الكبرى، و الفتن تترتب كبراها على صغراها، و المؤمن يترك الصغرى فضلا عن الكبرى، و قال الجوهري:

الحفيظة

 (2) الغضب و الحمية، و قال:

بغى‏

 (3) عليه بغيا علا و ظلم و استطال و كذب و في مشيه اختال، و قال:

العدوان‏

 (4) الظلم الصراح، و قد عدا عليه و تعدى عليه و اعتدى كله بمعنى،

و التعدي‏

 (5) مجاوزة الشي‏ء إلى غيره، و قال:

طغا

 (6) يطغى و يطغو طغيانا: جاوز الحد، و قال: فلان قليل الغائلة و المغالة أي الشر، و الغوائل الدواهي‏

" و تخلي"

 (7) على بناء المجهول،

" و منه"

 (8) نائب مناب الفاعل، و كذا

" قصر"

 (9) و

" عليه"

 (10) يقال: تخلى منه و عنه تركه، أي يخليه الله مع الشيطان و غلب عليه، لسلب توفيق الله منه، و

البوائق‏

 (11) الدواهي و الشرور

" و لم يسلم قلبه"

 (12) على بناء المجرد، أي من الآفات و الأمراض النفسانية.

" و من لم يعذل نفسه"

 (13) في المصباح عذلته عذلا من بابي ضرب و قتل لمته، فاعتذل، أي لام نفسه و رجع، انتهى.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 157

و في بعض النسخ بالدال المهملة، فهو على بناء التفعيل، و تعديله هو أن تقتصر على الحلال و لم تتجاوز إلى الحرام، و الأول أكثر و أظهر، و في" ل" و من لم يعزل نفسه عن الشهوات بالزاي، و له وجه خاص أي دخل في الخبيثات أي الخصال الدنية و الأفعال الرديئة.

" و من طغى"

 (1) أي جاوز حده و ادعى ما لم يكن له و لم يتصف به، و قيل: ارتكب الكبائر و أصر عليها، و الأول أظهر

" ضل على عمد"

 (2) لأنه عارف بنفسه بلا حجة له عند الله و

الغرة

 (3) بالكسر الغفلة، و هي هنا الغفلة عن ربه و عن عدوه الأكبر، و عما خلق لأجله، و عما يؤول إليه أمره، أو الاغترار بالأماني و الآمال، و برحمة الله و شفاعة الشفعاء، أو بكثرة الأعمال مع غفلته عن شرائطها.

و الأمل‏

 (4) الرجاء، قال في المصباح: أملته أملا من باب طلب و هو ضد اليأس، و أكثر ما يستعمل فيما يستبعد حصوله قال زهير:" أرجو و آمل أن تدنو مودتها" و من عزم إلى بلد بعيد يقول أملت الوصول و لا يقول طمعت إلا إذا قرب منها، و الرجاء بين الأمل و الطمع فإن الراجي قد يخاف أن لا يحصل مأمولة، انتهى.

و تطويل الأمل هو أن يأمل أمورا يتوقف حصوله على عمر طويل، و هو إنما يكون بأن يعد الموت منه بعيدا و هذا يصير سببا لأن يجترئ على المعاصي و يسوف التوبة و يتوغل في الدنيا و يبني ما لا يسكنه، و يحصل ما لا ينتفع به، و لذا ورد: من أطال الأمل أساء العمل، و قد قال سبحانه:" رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ، ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَ يَتَمَتَّعُوا وَ يُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ" و قد روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: أن أخوف ما أخاف عليكم اثنتان اتباع الهوى و طول الأمل فإن اتباع الهوى يصد عن الحق، و طول الأمل ينسى الآخرة.

و المطل و المماطلة:

 (5) التسويف بالعدة و الدين‏

" و ذلك بأن الهيبة"

 (6) أي المهابة

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 158

و المخافة من غير الله" و المماطلة" أي صاحبها و الإسناد مجازي‏

" حتى يقدم عليه"

 (1) أي على المماطل بقرينة المقام، و قيل: الضمير للعمل، و الأجل آخر العمر.

" حسب ما هو فيه"

 (2) بالتحريك أي حسابه و قدره و عدده، و ما هو فيه عمره و عمله إشارة إلى قول النبي صلى الله عليه و آله و سلم: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، و يحتمل التدبير لكنه بعيد، و في القاموس: حسبه حسبا و حسبانا بالضم و حسبانا و حسابا و حسابة و حسبة بكسرهن عده و المعدود محسوب، و حسب محركة و منه هذا بحسب ذا، أي بعدده و قدره و قد يسكن و في الصحاح: حسبته أحسبه بالضم حسبا و حسابا و حسبانا و حسابة إذا عددته، و المعدود محسوب، و حسب و هو فعل بمعنى مفعول، و منه قولهم: ليكن عملك بحسب ذلك أي على قدره و عدده، و احتسبت عليه كذا إذا أنكرت عليه، و احتسبت بكذا أجرا عند الله، و الاسم الحسبة بالكسر و هي الأجر و الجمع الحسب.

و في المصباح قال الأصمعي: فلان حسن الحسبة في الأمر أي حسن التدبير و النظر، و جمع الحسبة حسب كعنب، و قيل: هو حسب جمع الحسبة بمعنى الاحتساب و هو إنكار المنكر بجزاء العمل السي‏ء و هو بعيد.

و الحاصل على ما ذكرنا أنه لو لا الأمل و الغفلة التي يستلزمها توجه إلى حساب عمره و ما صرفه فيه و ما اكتسبه من المعاصي فيه و تفكر في أنه يمكن أن يأتيه الموت قريبا فيذهب إلى الآخرة بلا عمل و لا زاد، و تفكر في سكرات الموت و أهوال ما بعده و عقبات القيامة و أفزاعها و شدائد العقوبات التي استحقها فكرا صحيحا كان حقه أن يموت فجأة من الهول و الوجل، كما مات همام لما سمع صفات المؤمن، و أما الأمل فيلهيه عن جميع ذلك حتى يأتيه الأجل، و يظهر منه أن في قدر من الأمل و الغفلة حكمة لنظام النوع و بقاء الدنيا، و الإكثار منهما يوجب الشقاوة في العقبى.

و في القاموس: خفت خفوتا سكن و سكت‏

و خفاتا

 (3) أي بالضم مات فجاءة، و

الهول‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 159

 (1) الخوف، و

الوجل‏

 (2) بالتحريك الفزع و هو من آثار الخوف و توابعه.

" و الغرة"

 (3) بالمعاني المتقدمة

" تقصر بالمرء عن العمل"

 (4) أي تجعله قاصرا عن كمال العمل مقصرا فيه، و هو ظاهر و قيل: الفرق بين الغرة و المماطلة أن مع المماطلة شعورا بالعمل و معرفة بثبوته و حقيته، بخلاف الغرة و لذلك ذكر التفريط مع المماطلة، و القصر مع الغرة إذ الشائع في التفريط هو التقصير في الشي‏ء مع العلم به، انتهى.

و أقول: على ما ذكرنا من معاني الغرة يظهر الفرق بوجوه أخرى كمالا يخفى على المتدبر.

" و الحفيظة على أربع شعب على الكبر"

 (5) و قد مر أنه ترفع الإنسان و تعظمه بادعاء الشرف و العلو على غيره، أو هو بطر الحق كما مر في الأخبار، قال في النهاية:

هو أن يجعل ما جعله الله حقا من توحيده و عبادته باطلا، و قيل: هو أن يتجبر عند الحق فلا يراه حقا، و قيل: هو أن يتكبر عن الحق فلا يقبله‏

" و الفخر"

 (6) و هو إظهار الفرح و الكمال بالحسب و النسب و المال و نحوها، و ادعاء العظمة و الشرف بذلك، و أما ذكر آلائه تعالى و نعمائه فليس من الفخر كما قال النبي صلى الله عليه و آله و سلم: أنا سيد ولد آدم و لا فخر، أي لا أقوله تبجحا و فخرا و لكن شكر الله تعالى و تحدثا بنعمته. و

" الحمية"

 (7) الأنفة و الغيرة قال الراغب: عبر عن القوة الغضبية إذا ثارت و كثرت بالحمية فقيل: حميت على فلان، أي غضبت عليه، قال تعالى:" حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ" و العصبة الأقارب من جهة الأب و العصبية حمايتهم و الدفع عنهم، و

التعصب‏

 (8) المحاماة و المدافعة و هي و الحمية من توابع الكبر، و كان الفرق بينهما أن الحمية للنفس و العصبية للأقارب، أو الحمية للأهل و العصبية للقبيلة.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 160

" فمن استكبر أدبر عن الحق"

 (1) لتكبره عن طاعة أئمة الحق و التذلل عند ظهوره‏

" و من فخر فجر"

 (2) أي كذب أو أذنب بوقوعه في المحارم.

" و من حمى أصر"

 (3) أي على الذنوب التي توجبها الحمية من الشتم و الضرب و القتل و إنكار الحق و تقوية الباطل‏

" جار"

 (4) أي مال عن الحق و ظلم و تعدى لرعاية العشيرة و القبيلة.

" فبئس الأمر"

 (5) الحفيظة لتردده بين الأدبار عن الحق و الفجور و التوسع في الشر و الإصرار علي الباطل و الذنوب‏

" و الجور على الصراط"

 (6) و كان على بمعنى عن أي ميل عن الصراط المستقيم.

" الفرح"

 (7) أي السرور بما يحصل من الدنيا

" و المرح"

 (8) هو بالتحريك أشد الفرح و كان المراد هنا إظهاره بالتبختر، و هو التمادي في الفعل المزجور عنه،

و التكاثر

 (9) و هو التباهي بالكثرة في الأموال و الأولاد و الأنصار و نحوها،

" فالفرح مكروه عند الله"

 (10) كما قال سبحانه:" إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ"

" و المرح خيلاء"

 (11) هو بالضم و الكسر و المد العجب و التبختر في المشي، و قيل: هو التكبر في كل شي‏ء، و قال ابن دريد:

هو التكبر مع جر الإزار، و أنه من كمال التكبر عند العرب.

" و اللجاجة بلاء"

 (12) أي فتنة و محنة

" لمن اضطرته"

 (13) أي اللجاجة

" إلى حمل الآثام"

 (14) الناشئة منها، لأن اللجاجة سبب للمعاصي و الآثام، و لذلك قيل: اللجاجة متولدة من الكبر و غيره من الأمور الفاسدة، و يتولد منها أمور فاسدة أخرى‏

" و التكاثر لهو و لعب"

 (15) شبه التقلب في أمر الدنيا باللهو و اللعب في الإتعاب بلا منفعة و في المنع عما يوجب منفعة أبدية من أمر الآخرة و شغل القلب عن الله تعالى و عما أراد

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 161

من نوع الإنسان من الأعمال الصالحة و الأخلاق الفاضلة النافعة في الآخرة

" و استبدال الذي هو أدنى"

 (1) و هو الدنيا و زهراتها الفانية

" بالذي هو خير"

 (2) و هو الآخرة و نعمها الباقية.

" فذلك النفاق و دعائمه و شعبة"

 (3) أي أصوله و فروعه المنتجة للبعد من الله و من دينه، فمن تخلص من الجميع فهو مؤمن كامل، و من اتصف بالجميع فهو منافق كامل و من اتصف ببعض دون بعض فهو مذبذب بينهما شبيه بالمنافق إلى أن يستقر أمره فيما شاء الله تعالى.

قيل: أحاديث هذا الباب تدل على أن المؤمن أقل وجودا من الكبريت الأحمر إذ لا يخلو أحد من العلماء و الصالحين عن بعض الخصال المذكورة فضلا عن غيرهم. و يمكن أن يقال: هذه الخصال إن كانت لأجل التهاون بالدين أو عدم اعتقاد حقيته كان صاحبها منافقا خارجا عن الإيمان، مشاركا لمنافقي عهد النبي صلى الله عليه و آله و سلم في الاسم و المعنى، و إن لم يكن لأجل ذلك بل حصلت بمجرد اقتضاء الطبيعة و هوى النفس الأمارة كان مشابها بهم و مشاركا لهم في الاسم دون المعنى، و لا يكون بذلك خارجا عن الإيمان و إن خرج عن كماله، قال المازري: من المخالفين من غلب عليه خصال النفاق و أصر فيها و جعلها طبيعة و عادة له لا من وجدت فيه ندرة، و قال: لا بد من هذا التأويل لأن تلك الخصال قد تجتمع في واحد و لا تخرجه من الإسلام كما اجتمعت في بعض السلف و بعض العلماء، و في إخوة يوسف و أنهم حدثوا فكذبوا و وعدوا و أخلفوا و ائتمنوا فخانوا، مع أنهم لم يكونوا منافقين خارجين عن الإسلام لأن ذلك كان ندرة منهم، و لم يصروا على ما فعلوا، و قال محيي الدين البغوي:

هذه ذنوب لا تكفر بها فتحمل على أن من فعلها عادة و تهاونا بالدين يكون منافقا خارجا عن الإسلام، أو على أن المراد بالنفاق معناه اللغوي لأنه لغة إظهار خلاف‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 162

ما في الضمير، و من فيه هذه الخصال كذلك فإن الكاذب يظهر أنه صادق و مخلف الوعد يظهر أنه يفي بوعده و كذا في بقيتها

" و الله قاهر فوق عباده"

 (1) إشارة إلى قوله تعالى:

" وَ هُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ" أي غالب على جميعهم فوقهم بالاستيلاء و القدرة على إيجادهم و إبقائهم و إفنائهم‏

" تعالى ذكره"

 (2) أي عن النقائص أو عن أن يشبه ذكر المخلوقين أو عين أن يأتي به أحدكما هو حقه.

و يؤيد الثاني ما ورد في الدعاء: تعالى ذكرك عن المذكورين.

" و جل وجهه"

 (3) أي ذاته أجل من أن يوصل إلى كنهه أو أنبيائه و حججه عليهم السلام أو دينه‏

" و أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلَقَهُ"

 (4) قوله: خلقه بدل اشتمال لكل شي‏ء أي أحسن خلق كل شي‏ء أو هو بفتح اللام على صيغة الفعل و على التقديرين ناظر إلى قوله سبحانه:" ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ، الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلَقَهُ" و قد قرئ على الوجهين.

قال البيضاوي الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلَقَهُ موفرا عليه ما يستعده و يليق به على وجه الحكمة و المصلحة، و خلقه بدل من كل شي‏ء بدل الاشتمال، و قيل: علم كيف يخلقه عن قوله: قيمة المرء ما يحسنه، أي يحسن معرفته و خلقه مفعول ثان، و قرأ نافع و الكوفيون بفتح اللام على الوصف، انتهى.

و يرد عليه أن الإحسان بمعنى العلم لا يتعدى إلى مفعولين.

في القاموس: هو يحسن الشي‏ء إحسانا يعلمه، فالظاهر أن يكون على هذا التقدير أيضا بدل اشتمال‏

" و انبسطت يداه"

 (5) إشارة إلى قوله تعالى:" وَ قالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَ لُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ" و قيل:

ثنى اليد مبالغة في الرد و نفي البخل عنه و إثباتا لغاية الجود، فإن غاية ما يبذله السخي‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 163

من ماله أن يعطيه بيديه، و تنبيها على منح الدنيا و الآخرة و على ما يعطى للاستدراج و ما يعطى للإكرام.

و قال الطبرسي (ره): اليد تذكر في اللغة على خمسة أوجه: الجارحة و النعمة، و القوة و الملك، و تحقيق إضافة الفعل، ثم قال: و لما كان الجواد ينفق باليد و الجواد بمسك اليد عن الإنفاق، أضافوا الجود و البخل إلى اليد، فقالوا للجواد: مبسوط اليد، و للبخيل مقبوض الكف، و أنكر الزجاج كون اليد هنا بمعنى النعمة لأنه يكون معناه نعمتاه مبسوطتان، و نعم الله أكثر من أن تحصى، و أجيب بأن المراد مطلق التكرار نحو لبيك و سعديك، ثم قال: و لك أن تحمل المثنى على أنه تثنية جنس، و يكون أحد جنسي النعمة نعمة الدنيا، و الآخرة نعمة الآخرة و النعم الظاهرة و الباطنة كما قال سبحانه:" وَ أَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَ باطِنَةً" و قيل: المراد باليد القوة أي قوتاه بالثواب و العقاب مبسوطتان، انتهى.

و أقول: يحتمل أن يكون اليدان كناية عن النعمة و البلاء، فإن منحه تعالى منح لعباده كما قيل في الدعاء: و الخير في يديك، و قيل: كناية عن قبول توبة المذنبين، و إنما كني بذلك لأن العرب إذا رضي أحدهم الشي‏ء بسط يده لأخذه، و إذا كرهه قبضها.

" و وسعت كل شي‏ء رحمته"

 (1) من المؤمن و الكافر، و المكلف و غيره في الدنيا، و أما في الآخرة فهو للمؤمن خاصة كما قال جل شأنه:" وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ‏ءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ".

" و ظهر أمره"

 (2) أي وجوده و علمه و قدرته و حكمته بما أظهر في الآفاق و الأنفس، أو دينه و شرائعه في العباد ليقروا له بالعبودية، أو أمره التكويني الدال على كمال‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 164

قدرته‏

" و أشرق نوره"

 (1) أي أفاض نور الوجود و العلم و الكمالات على جميع المواد القابلة بحسب قابلياتها، و استعداداتها، و قيل: أي علمه في قلوب العارفين أو حجته الدالة على وحدانيته و علو ذاته و صفاته، أو نبوة محمد صلى الله عليه و آله و سلم أو نور الولاية المشار إليه بقوله تعالى:" يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَ يَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ" و الأظهر أنه إشارة إلى قوله سبحانه:" لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَ قَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَ ظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَ هُمْ كارِهُونَ" قيل: لقد ابتغوا الفتنة، أي تشتت أمرك و تفريق أصحابك" مِنْ قَبْلُ" يعني يوم أحد" وَ قَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ" أي دبروا لك المكائد و الحيل و دوروا لآراء في إبطال أمرك" حَتَّى جاءَ الْحَقُّ" أي النصر و التأييد الإلهي" وَ ظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ" أي علانية" وَ هُمْ كارِهُونَ" أي على زعم منهم.

" و فاضت بركته"

 (2) أي كثرت من فاض الماء يفيض فيضا إذا كثر، و من أسمائه تعالى: الفياض لسعة عطائه و كثرته، و تطلق البركة غالبا على النعم الدنيوية كالرحمة على الأخروية، قال الراغب: أصل البرك صدر البعير، و إن استعمل في غيره يقال له: بركة، و برك البعير ألقى بركة، و اعتبر منه معنى اللزوم و سمي محبس الماء بركة، و البركة ثبوت الخير الإلهي في الشي‏ء قال تعالى:" لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ" و سمي بذلك لثبوت الخير ثبوت الماء في البركة، و المبارك ما فيه ذلك الخير.

" و استضاءت حكمته"

 (3) أي شريعته أو مصلحته أو علمه بالأشياء و إيجادها على غاية الإتقان، أو ما علمه العباد من الحكم كما قال تعالى:" وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ".

" و هيمن كتابه"

 (4) أي صار كتابه حافظا و شاهدا و رقيبا على كل شي‏ء، لأن‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 165

فيه تبيان كل شي‏ء أو هو قائم على سائر الكتب رقيب عليها لأنه يشهد لها بالصحة و الأخير أظهر، لأنه ناظر إلى قوله تعالى:" وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ".

قال البيضاوي: من الكتاب، أي من جنس الكتب المنزلة و مهيمنا عليه و رقيبا على سائر الكتب يحفظها عن التغيير و يشهد لها بالصحة و الثبات، و قرئ على بنية المفعول، أي هو من عليه و حوفظ من التحريف و الحافظ له هو الله تعالى، و الحفاظ في كل عصر، و في القاموس: هيمن الطائر على فراخه رفرف، و على كذا صار رقيبا عليه و حافظا، و المهيمن و تفتح الميم الثانية من أسماء الله تعالى في معنى المؤمن من أمن غيره من الخوف فهو ماء من بهمزتين، قلبت الثانية ياءا ثم الأولى هاء، أو بمعنى الأمين أو المؤتمن أو الشاهد.

" و فلجت حجته"

 (1) أي غلبت حجته الدالة على ربوبيته و توحيده و قدرته و حكمته و ظهرت ظهورا تاما حتى فرقت بين الحق و الباطل أو تمت حجته على العباد، كما قال سبحانه:" قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ" أو المراد بالحجة الرسل و الأوصياء عليهم السلام‏

" و خلص دينه"

 (2) أي الدين الذي شرع للعباد خالص عن الكذب و الباطل و الغش، و قيل: الدين الطاعة و فيه تنبيه على أن الطاعة المختلطة بغير وجه الله تعالى ليست طاعة.

أقول: هذا إشارة إلى قوله تعالى في الزمر:" إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ" قال البيضاوي: أي محضا له الدين من الشرك و الرياء، ثم قال: ألا لله الدين الخالص، قال: هو أي ألا هو الذي وجب اختصاصه بأن يخلص له الطاعة، فإنه المتفرد بصفات الألوهية و الاطلاع على السرائر و الضمائر ثم قال‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 166

تعالى:" وَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى‏ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ" ثم قال سبحانه:" قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ" إلى أن قال:" قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ".

قال الطبرسي: مخلصا له الدين من شرك الأوثان و الأصنام، و الإخلاص له أن يقصد العبد بنيته و عمله إلى خالقه لا جعل ذلك لغرض الدنيا، و الخالص ما لا يشوبه الرياء و السمعة، و لا وجه من وجوه الدنيا، و الدين الخالص الإسلام، و قيل: معناه ألا لله الطاعة بالعبادة التي يستحق بها الجزاء فهذا لله وحده لا يجوز أن يكون لغيره، و قيل: هو الاعتقاد الواجب في التوحيد و العدل و النبوة و الإقرار بها و العمل بموجبها، و البراءة من كل دين سواها، و قال: العبادة الخالصة هي التي لا يشوبها شي‏ء من المعاصي، انتهى.

فظهر أن خلوص دينه عبارة عن نفي الشرك الظاهر و الباطن و الجلي و الخفي، كما هو مفاد الآيات البينات‏

" و استظهر سلطانه"

 (1) الاستظهار بمعنى الظهور و العلو و الغلبة، يقال: ظهر على الحائط إذا علاه، و ظهر علي العدو إذا غلبه، و السلطان يطلق على الحجة و البرهان و الولاية و السلطنة و الزيادات للتأكيد و المبالغة.

" و حقت كلمته"

 (2) أي مواعيده في الثواب و العقاب للمؤمنين و الكفار، و قيل:

أي كلامه مطلقا أو القرآن الكريم، و في الأخبار أن كلمات الله هم الحجج عليهم السلام و كأنه إشارة إلى قوله سبحانه:" وَ كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ" و قوله:" كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ" و قوله:" وَ لكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ" و قوله:" وَ تَمَّتْ‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 167

كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَ عَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ".

" و أقسطت موازينه"

 (1) أي صارت ذا قسط و عدل، و الإسناد مجازي و هو إشارة إلى قوله تعالى:" وَ نَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً" و قال البيضاوي: القسط العدل يوزن بها صحائف الأعمال، و إفراد القسط لأنه مصدر وصف به للمبالغة، و في المصباح: قسط قسطا من باب ضرب و قسوطا جار و عدل أيضا فهو من الأضداد، قال ابن القطاع، و أقسط بالألف عدل و الاسم القسط.

و قال الراغب: القسط هو النصيب بالعدل، قال تعالى:" وَ أَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ" و القسط بالفتح هو أن يأخذ قسط غيره و ذلك جور، و الأقساط أن يعطي قسط غيره و ذلك إنصاف، و لذلك قيل: قسط الرجل إذا جار و أقسط إذا عدل، قال تعالى:" وَ أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً" و قال:" وَ أَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ".

" فجعل السيئة"

 (2) الفاء لبيان تبليغ الرسل، و السيئة الفعلة القبيحة ضد الحسنة، سواء كان من القول أو الفعل أو العقد، و الذنب ما يوجب العقوبة أي جعل الأفعال التي يستقبحها العقول السليمة موجبة للعقوبة حيث نهى عنها و حرمها و أوعد عليها،

" و الذنب فتنة"

 (3) أي ضلالة عن الحق أو افتتانا و امتحانا، فإن التكاليف كلها ابتلاء أو سبب للافتتان بالدنيا و استيلاء الشيطان عليه، أو عذابا و عقوبة، و في القاموس: الفتنة بالكسر الخبرة و إعجابك بالشي‏ء و الضلال و الإثم و الكفر و الفضيحة و العذاب، و إذابة الذهب و الفضة و الإضلال و الجنون و المحنة و المال و الأولاد، و اختلاف الناس في الآراء.

و أقول: أكثر المعاني هنا مناسبة.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 168

" و الفتنة دنسا"

 (1) أي وسخا تتوسخ به النفس و القلب فتذهب نورهما و صفائهما كما قال تعالى:" كَلَّا بَلْ رانَ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ"

" و جعل الحسنى"

 (2) أي الفعلة الحسنى و هي الأعمال الحسنة مقابل السيئة أو الكلمة الحسني و هي العقائد الحقة و العتبي الرضا أي سببا لرضا الخالق أو الرجوع من الذنب و الإساءة و العصيان إلى الطاعة و التوبة و الإحسان، و قيل: أي جعل الأعمال الحسنة بمنزلة التوبة ما حية للذنوب، فهو ناظر إلى قوله تعالى:" إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ" و يحتمل أن يكون المعنى أن العاقبة الحسنى إنما تحصل بالعتبى و التوبة كما قال:" لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى‏ وَ زِيادَةٌ" و قال تعالى:" وَ صَدَّقَ بِالْحُسْنى‏، و كَذَّبَ بِالْحُسْنى‏" و قال:" وَ يَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى"" إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى‏"" وَ تَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى‏" و مثله كثير.

و قال الراغب: الفرق بين الحسن و الحسنة و الحسنى أن الحسن يقال في الأعيان و الأحداث، و كذلك إذا كانت وصفا، و إذا كانت اسما فمتعارف في الأحداث، و الحسنى لا يقال إلا في الأحداث دون الأعيان.

" و العتبي توبة"

 (3) أي اكتفي بترك الذنب و الندامة عليها مع العزم على الترك توبة ماحية للذنب.

" و التوبة طهورا"

 (4) أي مطهرا من دنس العصيان و لوث الخطايا

" فمن تاب اهتدى"

 (5) إلى الحق و سبيل النجاة

" و من افتتن"

 (6) بالأدناس أي الذنوب الموجبة للدنس‏

" غوى"

 (7) عن سبيل الحق و النجاة و ضل.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 169

" و لا يهلك على الله"

 (1) ضمن معنى الاجتراء فعدي بعلى، و يحتمل أن يكون على بمعنى في كما في قوله تعالى:" وَ دَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى‏ حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها" أو بمعنى من كما قيل في قوله تعالى:" إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ" فالهلاك بمعنى الخيبة، أو بمعنى مع كما قيل في قوله تعالى:" وَ آتَى الْمالَ عَلى‏ حُبِّهِ" أي مع رحمته الكاملة

" إلا هالك"

 (2) بلغ الغاية في استحقاق العقوبة و الهلاك.

" الله الله"

 (3) منصوبان بفعل محذوف أي اتقوا الله و احذروا الله، و التكرير للمبالغة و التأكيد، و قد يراد به التعجب‏

" فما أوسع"

 (4) للتعجب‏

" ما لديه من التوبة"

 (5) أي قبولها

" و ما أنكل ما عنده من الأنكال"

 (6) إشارة إلى قوله تعالى:" إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا وَ جَحِيماً و النكل بالتحريك منع الرجل و تبعيده عما يريد، و النكال بالفتح العقوبة التي ينكل الناس عن فعل ما جعلت له جزاء، و النكل بالكسر القيد لأنه ينكل به أي يمنع، و جمعه أنكال، و

الجحيم‏

 (7) من أسماء جهنم و أصله ما اشتد لهبه من النيران،

و البطش الشديد

 (8) ناظر إلى قوله تعالى:" إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ" و البطش: الأخذ القوي الشديد، و الوصف للتأكيد

" اجتلب كرامته"

 (9) أي تحفه و هداياه الخاصة لأوليائه في الدنيا و الآخرة

" ذاق وبال نقمته"

 (10) الوبال في الأصل الثقل و المكروه و قد يراد به العذاب في الآخرة، و النقمة السخط و الغضب و العقوبة، و من أسمائه سبحانه المنتقم، و هو المبالغ في العقوبة، و كما أن رحمته عظيمة كذلك نقمته شديدة، فإن‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 170

كل ما اتصف به فهو على حد الكمال‏

" و عما قليل"

 (1) ما زائدة للمبالغة في القلة أي عن زمان قليل أو نكرة موصوفة

" لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ"

 (2) عما فعلوا من المعاصي، و لا ينفعهم الندم لفوت زمان التكليف.

 (الحديث الثاني)

 (3): مجهول.

" يُخادِعُونَ اللَّهَ"

 (4) أي يظهرون الإيمان و الصلاح و يخفون الكفر و الفساد للنجاة من قتلهم و سبي ذراريهم و نهب أموالهم و دفع ضرر المؤمنين عن أنفسهم‏

" وَ هُوَ خادِعُهُمْ"

 (5) بإدخالهم في المسلمين ظاهرا و إجراء أحكامهم عليهم و تعذيبهم أشد من تعذيب الكفار، و جعلهم في الدرك الأسفل من النار و خداعهم مع الله ليس على ظاهره، لأنه لا يخفى عليه شي‏ء بل المراد إما مخادعة رسوله على حذف المضاف، أو على أن معاملة الرسول معاملة الله، و إما صورة صنيعهم مع الله و صورة صنيعه معهم صورة المتخادعين‏

" قامُوا كُسالى‏"

 (6) أي متثاقلين عنها كالمكره على الفعل‏

" يُراؤُنَ النَّاسَ"

 (7) إظهارا لإيمانهم.

" وَ لا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا"

 (8) لأن المرائي لا يفعل إلا بحضور من يراه و هو أقل أحواله، أو لأن المراد بالذكر الذكر القلبي‏

" مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ"

 (9) حال من واو يراؤون مثل و لا يذكرون، أو من واو يذكرون أو منصوب على الذم و المعنى مرددين بين الإيمان و الكفر، و متحيرين بينهما من ذبذبه تركه حيران مترددا، و المذبذب المتردد بين أمرين‏

" لا إِلى‏ هؤُلاءِ وَ لا إِلى‏ هؤُلاءِ"

 (10) أي لا منسوبين إلى المؤمنين و لا إلى الكافرين، لعدم الإقرار بالجنان و عدم الإنكار باللسان،

" وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ"

 (11) بسلب‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 171

اللطف و التوفيق‏

" فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا"

 (1) إلى الحق و الإيمان، و قيل: لعله لم يذكر المسألة تقية.

و كان السؤال عن حال المأمون لأنه كان من أعداء أهل البيت عليهم السلام، و يظهر التشيع للمصلحة نفاقا

فقوله: ليسوا من الكافرين‏

 (2)، المراد هو و أضرابه كذي الرئاستين و مثله.

 (الحديث الثالث)

 (3): ضعيف.

و قيل: لعل المراد

بالمنافق‏

 (4) هنا ناقص الإيمان، و هو شبيه بالمنافق الحقيقي لما بينهما من الملائكة في عدم الإتيان بما ينبغي الإتيان به و إن كان هذا معتقدا للحق كما مر عن يزيد الصائغ: هي أدنى منازل الكفر و ليس بكافر، و لا دلالة فيه على أن من شرط الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر العمل بما يقول، لأن الواجب في طرف الآمر أمران أحدهما أن يأمر غيره، و الثاني أن يمتثل في نفسه، و كذا في طرف النهي و النفاق و العقوبة من جهة المخالفة، و هي أنه لم يمتثل لا للأمر و النهي، و الاعتراض أن يمشي في عرض الطريق يمينا و شمالا أستعير هنا للالتفات يمينا و شمالا.

" و إذا ركع ربض"

 (5) في المصباح: الربض بفتحتين و المريض مثال مجلس للغنم‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 172

مأواها ليلا، و ربضت الدابة ربضا من باب ضرب و ربوضا و هو مثل بروك الإبل.

و أقول: هنا إما كناية عن إدلاء رأسه و عدم استواء ظهره، أو عن أنه يسقط نفسه على الأرض قبل أن يرفع رأسه من الركوع كإسقاط الغنم نفسه عند ربوضه، و

العشاء

 (1) كسماء طعام العشي، و ظاهره وجوب الوفاء بالوعد و إن أمكن المناقشة فيه.

 (الحديث الرابع)

 (2): كالسابق.

" و إذا سجد نقر"

 (3) أي خفف السجود، في النهاية: فيه أنه نهى عن نقرة الغراب يريد تخفيف السجود و أنه لا يمكث فيه إلا قدر وضع الغراب منقاره فيما يريد أكله‏

" و إذا جلس شغر"

 (4) قيل: أي أقعى كإقعاء الكلب، و قيل: أي رفع ساقيه من الأرض، و قعد على عقبيه من شغر الكلب كمنع رفع أحد رجليه بال أو لم يبل، و الأظهر عندي أنه إشارة إلى ما يستحبه أكثر المخالفين في التشهد فإنهم يجلسون على الورك الأيسر، و يجعلون الرجل اليمنى فوق اليسرى، و يقيمون القدم اليمنى بحيث يكون رؤوس الأصابع إلى القبلة، و في بعض النسخ شفر بالفاء، و قيل: هو من التشفير بمعنى النقص، في القاموس: شفر كفرح نقص و الأول أظهر.

 (الحديث الخامس)

 (5): موثق.

و هو تشبيه حسن للمنافق و إنه لعدم استقامته لا يصلح لشي‏ء إلا للإحراق‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 173

 (الحديث السادس)

 (1): ضعيف.

و كلمة

" ما"

 (2) شرطية زمانية، نحو:" فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ" و لذا لم يحتج إلى العائد، و يدل على أن زيادة خشوع البدن علي خشوع القلب من الرياء، و هو من النفاق، و في‏

قوله: عندنا

 (3) إيماء إلى أنه ليس بنفاق حقيقي بل هو خصلة مذمومة شبيهة بالنفاق.

باب الشرك‏

 (4)

 (الحديث الأول)

 (5): صحيح.

و يظهر من أخبار الباب أن للشرك معاني و منازل كالتوحيد الذي يقابله‏

" من قال للنواة إنها حصاة"

 (6) قال الشيخ البهائي: لعل مراده عليه السلام من اعتقد شيئا من الدين و لم يكن كذلك في الواقع فهو أدنى الشرك، و لو كان مثل اعتقاد أن النواة حصاة و أن الحصاة نواة، ثم دان به، انتهى.

و المضاف هنا مقدر أي حال من قال، و الواو في‏

قوله و للحصاة

 (7) بمعنى أو، و

قوله:

ثم دان به‏

 (8)، إشارة إلى أنه إنما يكون شركا إذا دان به أي عبد الله و اعتقد أو أظهر أنه من عند الله، بخلاف ما إذا قال زيد ابن عمرو و لم يكن كذلك، لكن لم ينسبه إلى‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 174

الله، و يمكن أن يقال في التشبيه بالنواة و الحصاة إشعار بأنه إنما يكون شركا إذا كان من ضروريات الدين فإن كون الحصاة حصاة و النواة نواة ضروري يعرفه كل أحد، لكن سائر أخبار الباب يدل على ما هو أعم من ذلك فكل من ابتدع شيئا في الدين فهو مشرك، لأنه افترى على الله و أشرك به حيث اتبع في ذلك الشيطان أو سائر الطواغيت، أو النفس و الهوى، و هذا هو الشرك بالمعنى الأعم.

و قيل: دان به يعني اعتقده بقلبه و جعله دينا، و الوجه في كونه شركا أنه يرجع إلى متابعة الهوى أو تقليد من يهوي فصاحبه و إن عبد الله و أطاعه فقد أطاع هواه، أو من يهواه مع الله و أشركه معه" انتهى" و يرجع إلى ما ذكرنا.

 (الحديث الثاني)

 (1): صحيح.

و الرأي المبتدع‏

 (2) ما ليس له مستند شرعي، و صاحبه مشرك لأنه اتخذ مع الرب عز و جل ربا آخر، و هو نفسه و هواه، أو غيرهما كما مر و إن لم يشعر به، سواء كان ذلك الرأي متعلقا بالأصول أم بالفروع‏

" فأحب عليه"

 (3) أي من تابعه فيه‏

" و أبغض عليه"

 (4) أي من خالفه، و أما الذي أخطأ في فهم الكتاب و السنة و بذل الجهد في ذلك و لم يقصر فيه و كان أهلا لذلك فالظاهر أنه ليس بداخل فيه.

 (الحديث الثالث)

 (5): ضعيف.

" وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ"

 (6) قال في المجمع: اختلف في معناه على أقوال: أحدها أنهم‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 175

مشركو قريش كانوا يقرون بالله خالقا و محييا و مميتا و يعبدون الأصنام و يدعونها آلهة مع أنهم كانوا يقولون الله ربنا و إلهنا يرزقنا فكانوا مشركين بذلك عن ابن عباس و الجبائي، و ثانيها: أنها نزلت في مشركي العرب إذا سئلوا من خلق السماوات و الأرض و ينزل القطر؟ قالوا: الله، ثم هم يشركون و كانوا يقولون في تلبيتهم لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه و ما ملك، عن الضحاك، و ثالثها: أنهم أهل الكتاب آمنوا بالله و اليوم الآخر و التوراة و الإنجيل ثم أشركوا بإنكار القرآن و إنكار نبوة نبينا عن الحسن، و هذا القول مع ما تقدمه رواه دارم بن قبيصة عن الرضا عن جده أبي عبد الله عليهما السلام و رابعها: أنهم المنافقون يظهرون الإيمان و يشركون في السر عن البلخي، و خامسها: أنهم المشبهة آمنوا في الجملة و أشركوا في التفصيل عن ابن عباس أيضا، و سادسها: أن المراد بالإشراك شرك الطاعة لا شرك العبادة أطاعوا الشيطان في المعاصي التي يرتكبونها مما أوجب الله عليها النار فأشركوا بالله في طاعته و لم يشركوا بالله في عبادته فيعبدون معه غيره عن أبي جعفر عليه السلام.

و روي عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: قول الرجل لو لا فلان لضاع عيالي، جعل لله شريكا في ملكه يرزقه و يدفع عنه، فقيل له: لو قال: لو لا أن من الله علي بفلان لهلك؟ قال: لا بأس بهذا.

و في رواية زرارة و محمد بن مسلم و حمران عنهما عليهما السلام أنه شرك النعم.

و روى محمد بن الفضيل عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال: إنه شرك لا يبلغ به الكفر، انتهى.

و أقول: روى علي بن إبراهيم و العياشي عن الباقر عليه السلام: هي المعاصي التي يرتكبون فهي شرك طاعة أطاعها فيها الشيطان فأشركوا بالله في الطاعة لغيره و ليس بإشراك عبادة أن يعبدوا غير الله، و روى العياشي عن الباقر عليه السلام هو قول الرجل لا و حياتك، و في التوحيد عن الصادق عليه السلام قال: هم الذين يلحدون في أسمائه بغير

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 176

علم فيضعونها غير مواضعها، و أما هذا الخبر فلعل المراد به أنه يطيع الشيطان و يتوهم أنه يطيع الله كاتباع البدع و الاستبداد بالآراء في الأمور الشرعية و سوء الفهم لها و نحو ذلك إذا لم يتعمد المعصية فإن ذلك كله إطاعة للشيطان من حيث لا يعلم و هو شرك طاعة ليس بشرك عبادة لأنه تعالى نسبهم إلى الإيمان، و لذا قيدناه بعدم التعمد فإنه مع التعمد كفر و خروج عن الإيمان و شرك عبادة، و قد يقال‏

" من حيث لا يعلم"

 (1) متعلق بقوله فيشرك و هو بعيد لفظا و إن كان قريبا معنى.

 (الحديث الرابع)

 (2): مجهول.

" شرك طاعة"

 (3) أي المراد بالشرك شرك طاعة لغير الله لا شرك عبادة له فمن أطاع غير الله سواء كان شيطانا أو نفسا أمارة بالسوء أو إنسانا ضالا مضلا فقد أشرك بالله غيره و إن لم يسجد له.

" وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى‏ حَرْفٍ"

 (4) قال الطبرسي: أي على ضعف من العبادة كضعف القائم على حرف أي على طرف جبل و نحوه عن علي بن عيسى، قال: و ذلك من اضطرابه في طريق العلم إذا لم يتمكن من الدلائل المؤدية إلى الحق فينقاد لأدنى شبهة لا يمكنه حلها، و قيل: على حرف: على شك عن مجاهد، و قيل: معناه أن يعبد الله بلسانه دون قلبه عن الحسن، قال: الدين حرفان أحدهما اللسان و الثاني القلب، فمن اعترف بلسانه و لم يساعده قلبه فهو على حرف، و قال البيضاوي: أي على طرف من الدين لا ثبات له فيه كالذي يكون على طرف الجيش فإن أحس بظفر قر و إلا فر، روي أنها نزلت في أعاريب قدموا إلى المدينة فكان أحدهم إذا صح بدنه و نتجت فرسه مهرا سويا و ولدت امرأته غلاما سويا و كثر ماله و ماشيته قال‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 177

ما أصبت منذ دخلت في ديني هذا إلا خيرا و اطمأن، و إن كان الأمر بخلافه قال: ما أصبت إلا شرا و انقلب، انتهى.

" ثم يكون في أتباعه"

 (1) أي نزلت الآية في قوم شكوا في النبي صلى الله عليه و آله و سلم و ما جاء به من الولاية و غيرها ثم جرت فيمن تبعهم على ذلك بعدهم كالمستضعفين من المخالفين و الجهال الذين يتبعونهم بغير علم، أو نزلت في الذين شكوا في النبي صلى الله عليه و آله و سلم ثم جرت في الذين شكوا في الإمام" و

" قد يكون محضا"

 (2) أي مشركا محضا كعلماء المخالفين و المتعصبين منهم حيث تركوا الحق، مع وضوح البرهان عنادا.

و الحاصل أنه سأل السائل عن المخالفين أ هم من أهل هذه الآية؟ فقال عليه السلام:

بعضهم من أهل هذه الآية، و بعضهم مشرك محض، و يحتمل أن يكون تتمة كلامه سابقا أي و قد يكون في الرجل محضا و لا يكون في أتباعه، و في بعض النسخ و قد يكون مختصا فهو صريح في المعنى الأخير.

 (الحديث الخامس)

 (3): مجهول.

و يدل على أن المخالفين مشركون.

 (الحديث السادس)

 (4): حسن، و يدل على أن عدم الرضا بما صنعه الله و ترك‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 178

التسليم لما ورد عنهم عليهم السلام شرك، و قد مضى في باب التسليم أن الخطاب في هذه الآية إلى أمير المؤمنين عليه السلام‏

" و ألا"

 (1) بالفتح و التشديد حرف تحضيض، قال النحاة: دخوله على المستقبل حث على الفعل و طلب له، و على الماضي توبيخ على ترك الفعل نحو:

أ لا تنزل عندنا، و أ لا نزلت.

 (الحديث السابع)

 (2): حسن.

" اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ"

 (3) في المجمع أي علماءهم‏

" وَ رُهْبانَهُمْ"

 (4) أي عبادهم‏

" أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ"

 (5) روي عن أبي جعفر و أبي عبد الله عليهما السلام أنهما قالا: أما و الله ما صاموا لهم و لا صلوا، و لكنهم أحلوا لهم حراما و حرموا عليهم حلالا، فاتبعوهم فعبدوهم من حيث لا يشعرون، و روى الثعلبي بإسناده عن عدي بن حاتم قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم و في عنقي صليب من ذهب فقال: يا عدي اطرح هذا الوثن من عنقك، قال:

فطرحته و انتهيت إليه و هو يقرأ من سورة البراءة هذه الآية" اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ" حتى فرغ منها، فقلت له: إنا لسنا نعبدهم فقال:

أ ليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، و يحلون ما حرم الله فتستحلونه؟ قال: فقلت‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 179

بلى، قال: فتلك عبادتهم.

و قال البيضاوي: بأن أطاعوهم في تحريم ما أحل الله و تحليل ما حرمة، أو بالسجود لهم" وَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ" بأن جعلوه ابنا الله" وَ ما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا" أي ليطيعوا" إِلهاً واحِداً" و هو الله تعالى، و أما طاعة الرسول و سائر من أمر الله بطاعته فهي في الحقيقة طاعة الله.

 (الحديث الثامن)

 (1): حسن كالصحيح.

" في معصية"

 (2) متعلق بأطاع، و قيل: إما وصف لرجل أو حال عنه، أو متعلق بأطاع فعلى الأولين يفيد أن العاصي معبود لمن أطاعه مطلقا، و على الأخيران العاصي معبود لمن أطاعه في المعصية، و سر ذلك أن العبادة ليست إلا الخضوع و التذلل، و الطاعة و الانقياد، و لذلك جعل الله سبحانه اتباع الهوى و طاعة الشيطان عبادة لهما، فقال:" أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ" و قال:" أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ" و إذا كان اتباع الغير بغير أمر الله عبادة له فأكثر الخلق مقيمون على عبادة غير الله تعالى. و هو النفس و الشيطان، و أهل المعصية و الكفران، و هذا هو الشرك الخفي نعوذ بالله منه.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 180

باب الشك‏

 (1)

 (الحديث الأول)

 (2): مجهول.

" و قد قال إبراهيم"

 (3) كان غرض السائل إبداء العذر لشكه بأن إبراهيم عليه السلام مع رتبة النبوة كان شاكا في الموتى فسأل ربه ما يزيل شكه و ما سأله إما معجزة ليزول شكه، أو دليل على الإمامة، و على الأول إما أظهر له معجزة و لم يذكره الراوي أو لم ير عليه السلام المصلحة في ذلك، أو علم أنه تمت عليه الحجة و ظهر له الحق و إنما يظهر الشك للوسواس أو للعناد، و على الثاني أيضا يحتمل الوجوه الثلاثة و الأخير أظهر.

و أما العذر الذي أبداه فقد أبطله عليه السلام بأن إبراهيم عليه السلام لم يكن شاكا و لم يسأل ذلك ليزيل الشك عن نفسه، لأنه كان مؤمنا بالرب تعالى و صفاته الكمالية و قدرته على إحياء الموتى، و بالبعث و النشور، و لم يشك قط بل سأله ليزداد يقينا بأن يرى بالعيان ما علمه بالدليل و الوحي و البرهان، و الحاصل أنه كان له علم اليقين فطلب عين اليقين‏

" و أنت شاك"

 (4) كما اعترفت به‏

" و الشاك لا خير فيه"

 (5) لأن الخير كله في الإيمان، و هو لا يحصل إلا باليقين.

" و كتب عليه السلام إنما الشك ما لم يأت اليقين"

 (6) و هذا يحتمل وجهين: الأول أن يكون تأكيدا

لقوله عليه السلام: إن إبراهيم كان مؤمنا،

 (7) و حاصله أنه كان له يقين بقدرته‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 181

تعالى على إحياء الموتى و الشك لا يجامع اليقين، فعدم الجواز بمعنى الامتناع، الثاني: أن يكون المراد باليقين ما يوجب اليقين، فالشك بعد ذلك يكون تكلفا للشك و حملا للنفس عليه عنادا، فالمراد بعدم الجواز عدم كونه معذورا في ذلك الشك، و هذا يؤيد الوجه الأخير من الوجوه الثلاثة المتقدمة، و قيل: في الآية وجوه أخر، منها:

أنه إنما سأله ليعلم قدره و منزلته عند الله تعالى، لأن الإسعاف بالمطلب الجليل يدل على رفعة شأن السائل، و حينئذ فمعنى" أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ" أو لم تؤمن بمنزلتك عندي.

و منها: ما رواه الصدوق في العيون عن الرضا عليه السلام أن الله كان أوحى إلى إبراهيم عليه السلام إني متخذ من عبادي خليلا إن سألني إحياء الموتى أجبته، فوقع في نفس إبراهيم عليه السلام أنه ذلك الخليل، فقال: رب أرني كيف تحيي الموتى، قال: أو لم تؤمن قال:

بلى و لكن ليطمئن قلبي على الخلة.

و منها: أنه أراد أن يكون له ذلك معجزة كما كانت للرسل.

و منها: أنه كان له علم اليقين بالإحياء و إنما سأل ليعلم كيفية الإحياء كما يشعر به قوله: كيف؟.

و منها: أنه إنما سأله أن يقدره على إحياء الموتى و تأدب في السؤال فقال:

أرني كيف تحيي الموتى.

و قال بعض أهل الإشارة: رأى من نفسه الشك و ما شك، و إنما سأل ليجاب فيزداد قربا.

" وَ ما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ"

 (1) هذه الآية بعد ذكر قصص الأنبياء عليهم السلام و هلاك أممهم بمخالفتهم، قال في المجمع: أي ما وجدنا لأكثر المهلكين من عهد، أي من وفاء بعهد كما يقال فلان لا عهد له، أي لا وفاء له بالعهد، و يجوز أن يكون‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 182

المراد بهذا العهد ما أودع الله العقول من وجوب شكر المنعم و طاعة المالك المحسن و اجتناب القبائح، و يجوز أن يراد به ما أخذ على المكلفين على ألسنة الأنبياء أن يعبدوه و لا يشركوا به شيئا" وَ إِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ" اللام و إن للتأكيد، و المعنى و إنا وجدنا أكثرهم ناقضين للعهد، مخلفين للوعد، انتهى.

و لعل تأويله عليه السلام يرجع إلى أن الله تعالى أخذ عليهم العهد بما أعطاهم من العقل أن يستعملوا العقل فيما أتاهم مما يوجب اليقين فتركوا ذلك و شكوا بعد مشاهدة المعجزات الباهرة و الحجج الظاهرة الواضحة، فصاروا فاسقين خارجين عن الإيمان، و قيل: أشار عليه السلام بذلك إلى أن الأكثر تقضوا عهد الله و عهد رسوله في الولاية و شكوا فيها و أن الآية نزلت في شكهم و أن كل شاك فاسق.

 (الحديث الثاني)

 (1): ضعيف.

و كأنه مرسل لأن أبا إسحاق من أصحاب الرضا عليه السلام أو الصادق عليه السلام و يحتمل أن يكون مضمرا بأن يكون ضمير قال راجعا إلى أحد الإمامين عليهما السلام،

و الارتياب‏

 (2) الشك و التهمة، و لعل المراد هنا الخوض في الشبهات التي توجب الشك أو عدم الرضا بقضاء الله و اتهامه في قضائه أو التردد الذي هو مبدء الريب و الشك، أو المعنى لا ترخصوا لأنفسكم في الريب في بعض الأمور، و لا تعتادوها، فإنه ينتهي إلى الشك في الدين.

 (الحديث الثالث)

 (3): صحيح.

و يدل على أن الشك في الله و في الرسول كفر، و

قوله عليه السلام لزرارة" إنما

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 183

يكفر إذا جحد"

 (1) يحتمل وجوها:

الأول: أن غرضه عليه السلام الرد على زرارة فيما كان بينه و بينه عليه السلام من الواسطة بين الإيمان و الكفر، لئلا يتوهم زرارة من حكمه عليه السلام بكفر الشاك في الله و الرسول كفر الشاك في الإمام أيضا، بل ما لم يجحد الإمام لا يكفر، و يؤيده الخبر الأول من الباب الآتي.

الثاني: أن يكون المراد أن الشك في أصول الدين مطلقا إنما يصير سببا للكفر بعد البيان و إقامة الدليل، و من لم تتم عليه الحجة ليس كذلك فالمستضعف الذي لا يمكنه التمييز بين الحق و الباطل و لم تتم عليه الحجة ليس بكافر كما زعمه زرارة، و قيل: إنما ذلك في الشك في الرسول و أما الشاك في الله فهو كافر، لأن الدلائل الدالة على وجوده أوضح من أن يشك فيها و لا ينكره إلا معاند مباهت.

الثالث: ما قيل: المراد بالشاك المقر تارة و الجاحد أخرى، و أنه كلما أقر فهو مؤمن، و كلما جحد فهو كافر.

الرابع: أن المعنى أن الشك إنما يصير سببا للكفر إذا كان مقرونا لجحود الظاهري و إلا فهو منافق يجري عليه أحكام الإسلام ظاهرا.

 (الحديث الرابع)

 (2): صحيح.

" الَّذِينَ آمَنُوا"

 (3) في المجمع معناه الذين عرفوا الله تعالى و صدقوا به و بما أوجبه‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 184

عليهم و لم يخلطوا ذلك بظلم، و الظلم هو الشرك عن أكثر المفسرين لقوله تعالى:

" إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ" و روي عن ابن مسعود لما نزلت هذه الآية شق على الناس و قالوا: يا رسول الله و أينا لم يظلم نفسه؟ فقال عليه السلام: إنه ليس الذي تعنون أ لم تسمعوا إلى ما قال العبد الصالح:" يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ" و قال الجبائي: و البلخي يدخل في الظلم كل كبيرة تحبط ثواب الطاعة، و تتمة الآية:

" أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَ هُمْ مُهْتَدُونَ".

و أقول: روى العياشي عن الصادق عليه السلام في هذه الآية قال: الظلم الضلال فما فوقه، و في رواية قال: أولئك الخوارج و أصحابهم و في رواية أخرى قال: آمنوا بما جاء به محمد صلى الله عليه و آله و سلم من الولاية و لم يخلطوها بولاية فلان و فلان، و أقول: لا تنافي بين هذه الأخبار و الأقوال، لأن الظلم وضع الشي‏ء في غير محله، فالعاصي ظالم لأنه وضع المعصية موضع الطاعة و أيضا ظلم نفسه بارتكابها، و المشرك ظالم لأنه وضع الكفر موضع الإيمان، و الشاك ظالم لأنه وضع الشك موضع اليقين، و أيضا في جميع ذلك ظلم نفسه و نقص حظه.

قيل: كان السائل سأل عن العام هل هو باق بعمومه أو مختص ببعض أفراده؟

فأجاب عليه السلام بأن المراد به ظلم الشك و الكفر، و قيل: فيه دلالة على أنهم كانوا يقولون بالعموم و على جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة، و اعترض بأنه لا دلالة فيه على شي‏ء منهما أما الأول فلان السائل حمل الظلم على ظلم المخالفة، و شق عليه ذلك لما ترتب عليه من عدم الأمن و عدم الاهتداء فسأل عن ذلك فأجاب عليه السلام بحمله على ظلم الشك، و أما الثاني فلان الآية ليس فيها تكليف بعمل و إنما فيها تكليف باعتقاد صدق الخبر بأن للمؤمنين الأمن و الاهتداء فأين الحاجة التي تأخر البيان إليها.

و أجيب عن الأول بأن ظلم المخالفة يتنوع إلى كبائر و صغائر لا تنحصر، و إنما

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 185

شق. عليه حمله على ظلم المخالفة إذا عم جميع صورها فأخذ العموم لازم، سواء جعل من تعميم الجنس في أنواعه، أو من تعميم النوع في أفراده. و عن الثاني بأن الآية و إن كانت خبرا فهو في معنى النهي عن ليس الإيمان بالظلم، فهي عملية من هذا الوجه على أن الفرق في تأخير البيان بين المسائل العلمية و العملية غير ظاهر، و الدليل في المسألة مشترك.

 (الحديث الخامس)

 (1): صحيح.

 (الحديث السادس)

 (2): مرسل.

" لم يفي‏ء إلى خير"

 (3) هو من الفي‏ء بمعنى الرجوع أما بإثبات الهمزة أو بالقلب و الحذف تخفيفا، و ظاهره عدم قبول توبة المرتد الفطري كما هو المشهور، قال الشهيد الثاني قدس الله روحه: لا تقبل توبته ظاهرا و في قبولها باطنا قول قوي حذرا من تكليف ما لا يطاق لو كان مكلفا بالإسلام أو خروجه عن التكليف ما دام حيا كامل العقل و هو باطل بالإجماع، و قال في المهذب: لو تاب المرتد عن فطرة لم تقبل بالنسبة إلى إسقاط الحد و ملك المال و بقاء النكاح و ابتداء النكاح مطلقا، و تقبل بالنسبة إلى الطهارة و صحة العبادات و إسقاط عقوبة الآخرة و استحقاق الثواب، و لا ينافي ذلك وجوب قتله كما لو تاب المحصن بعد قيام البينة.

 (الحديث السابع)

 (4): مرفوع.

" لا ينفع مع الشك و الجحود عمل"

 (5) يدل على أن قبول الأعمال مشروط باليقين‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 186

في جميع أصول الدين التي منها الإمامة.

 (الحديث الثامن)

 (1): مرسل أيضا.

" أو ظن"

 (2) أي في خلاف الحق أو في الحق فإنه لا بد في الأصول من العلم و اليقين‏

" أحبط الله عمله"

 (3) أي إذا طرأ أحدهما بعد اليقين بناء على إمكانه، و سيأتي القول فيه إنشاء الله أو المراد بالإحباط الرد و عدم القبول.

" إن حجة الله هي الحجة الواضحة"

 (4) أي حجة الله في أصول الدين واضحة توجب اليقين فليس الشك و الظن مما يعذر المرء فيه، و إنما نشأ ذلك من تقصيره، أو الأعم من الأصول و الفروع، فإن الظن المعتبر شرعا في قوة اليقين فإن ظنية الطريق لا ينافي قطعية الحكم.

ثم اعلم أن هذه الأخبار مما يدل على اعتبار العلم اليقيني في الإيمان، و أن الشاك في العقائد الإيمانية كافر، بل الظان أيضا فإن الشك يطلق في الأخبار على مطلق التردد و تجويز النقيض و إن كان أحد الطرفين راجحا، بل في اللغة أيضا كذلك، و قد قال تعالى:" إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا" و الآيات الناهية عن الظن كثيرة و غاية ما يمكن أن يقال فيها أن تخص بأصول الدين و قد مر بعض القول في ذلك في صدر هذا المجلد.

 (الحديث التاسع)

 (5): موثق.

" فهل ينفعه ذلك شيئا"

 (6) قوله: شيئا قائم مقام المفعول المطلق أي نفعا قليلا كذا قيل،

" إن مثل أهل البيت"

 (7) كان فيه تقدير مضاف أي مثل أصحاب أهل‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 187

البيت أو المراد بأهل البيت الموالون لهم واقعا، و قيل: مثل في الموضعين بكسر الميم و سكون المثلثة و الأول خبر مبتدإ محذوف، أي هو مثل، و الثاني بدل الأول كما في قوله تعالى:" بِالنَّاصِيَةِ ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ" و الأول أظهر، و

الاجتهاد

 (1) المبالغة و الاهتمام في الطاعات و الاجتناب عن المنهيات، و الإخلاص في الأعمال كما ورد: من أخلص لله أربعين صباحا فتح الله ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه، و يدل على أن لخصوص الأربعين في ذلك تأثيرا، و يؤيده أن بعد الأربعين أنزل الله على موسى الكتاب المبين، و استجاب دعاءه، و فتح عليه أبواب علوم الدين و يدل على عدم قبول العمل مع الشك في النبي أو الإمام عليهما السلام، و أن التوبة بعده مقبولة، و يمكن حمله على أنه من خصائص تلك الشريعة، أو على أنه كان مليا أو مستضعفا، أو على أن عدم قبول التوبة مع الجحد و الإنكار.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 188

باب الضلال‏

 (1)

 (الحديث الأول)

 (2): مجهول.

و قال في النهاية:

البريد

 (3) كلمة فارسية يراد بها في الأصل البغل، و أصلها" بريدة دم" أي محذوف الذنب، لأن بغال البريد كانت كالعلامة لها، فأعربت و خففت ثم سمي الرسول الذي يركبه بريدا، و المسافة التي بين السكتين بريدا، و السكة موضع كان يسكنه الفيوج المرتبون من بيت أو قبة أو رباط، و كان يرتب في كل سكة بغال، و بعد ما بين السكتين فرسخان و قيل: أربعة، انتهى.

و كأنه لقب بذلك لأنه كان موكلا بتلك البغال أو الرجال‏

" فقال: لنا"

 (4) و في بعض النسخ له فالضمير لمحمد

" فقلت من لم يعرف"

 (5) الفرق بين الأقوال الثلاثة أنه ذهب صاحب البريد إلى أن غير العارف كافر سواء قامت عليه الحجة أم لم تقم، و سواء جحد أم لم يجحد، و على هذا فلا واسطة بين المؤمن و الكافر، و ذهب أبو الخطاب إلى أنه كافر إن قامت عليه الحجة جحد أم لم يجحد، فبينهما واسطة و هي غير العارف قبل قيام الحجة، و ذهب محمد بن مسلم إلى أنه كافر إذا جحد و إذا لم يجحد فليس بكافر، و على هذا أيضا بينهما واسطة و هي من لم يعرف و لم يجحد و يسمى مستضعفا و ضالا و قيل:

كان المراد بالضال في هذا الباب هذا المعنى و إن كان يطلق كثيرا على الأعم منه، و هو

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 189

من لم يتمسك بالحق من فرق المسلمين، و كان المراد بالكافر هنا من يجري عليه أحكام الكفر في الدنيا مثل النجاسة و عدم جواز المباشرة و المناكحة و غيرها كما هو مذهب بعض الأصحاب و إلا فلا خلاف في استحقاق العقوبة و خلود بعضهم في النار، و لو قيل بخلافه و تحقق القول به فهو نادر سخيف كما ستعرفه.

" فإنك قد حضرت و غابا"

 (1) لعل تأخيره عليه السلام بيان الحكم لتبيين مرادهم أو ليعلموا أيضا الحكم، قيل: و يدل على أنه ينبغي للحاكم أن يترك الحكومة و التكلم فيها حتى يحضر الخصوم جميعا و من ثم قال بعض الأكابر: إذا جاءك الحكم و قد فقئت عينه فلا تحكم له، فلعله يأتيك خصمه و قد فقئت عيناه.

قوله: و أبو الخطاب‏

 (2) عطف على ضمير اجتمعنا، و عدم الإتيان بالمنفصل للفاصلة

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 190

" و أهليكم"

 (1) أي أولادكم‏

" هذا قول الخوارج"

 (2) فإنهم يقولون كل من فعل كبيرة أو صغيرة و أصر عليها فهو كافر خارج عن الإسلام، مستحق للقتل، و لذا حكموا بكفر أمير المؤمنين عليه السلام للتحكيم مع أنهم جبروه عليه السلام على التحكيم، و على الحكم الجائر الأحمق الحائر البائر الذي كان من أعداء أمير المؤمنين عليه السلام و أيضا أنه عليه السلام لم يرض بحكمهما مطلقا بل بحكمهما إذا حكما بالكتاب و السنة، و هما لعنة الله عليهما حكما على خلاف الكتاب و السنة، و ما فعله عليه السلام لم يكن معصية، و بسط القول في ذلك موكول إلى كتابنا الكبير.

و الحاصل أن للكفر معان شتى، و لكل منها أحكام يترتب عليها كالإيمان، و الخوارج لما سمعوا إطلاق الكفر و سلب الإيمان على أصحاب الكبائر بل الصغائر أيضا و لم يفرقوا بين معانيه و أحكامه أجروا جميع أحكام الكفر في الدنيا و الآخرة على الفساق و ضيقوا الأمر على المسلمين و حكموا بأن أصحاب الكبائر بل الصغائر أيضا كفار بالمعنى الذي يطلق على من لم يشهد الشهادتين، و ليس كذلك بل الكفر ببعض معانيه يجتمع مع الإسلام ببعض معانيه، و ليس كل من أطلق عليه الكفر في الأخبار يستحق القتل و تحرم مناكحته و معاشرته، و ليس كل من سلب عنه الإيمان في الآيات و الأخبار يجب خلوده في النار، فالكفر يطلق على من أنكر شيئا من ضروريات دين الإسلام ظاهرا و باطنا كالشهادتين أو المعاد، فهو يجري عليه أحكام الكفار في الدنيا و يخلد في النار في الآخرة إلا أن أهل الكتاب اختلف الأصحاب في نجاستهم و عدم جواز مناكحتهم على التفصيل الذي سيأتي في محله إن شاء الله.

و يطلق على من أخل بشي‏ء من العقائد الإيمانية و إن لم يكن ضروريا لدين‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 191

الإسلام كالإمامة، و المشهور أنهم في الآخرة بحكم الكفار و هم مخلدون في النار كالمخالفين و سائر فرق الشيعة سوى الإمامية، و قد دلت عليه أخبار كثيرة أوردناها في كتابنا الكبير، لكن قد عرفت أنه يظهر من كثير من الأخبار أنه يمكن نجاة بعض المخالفين من النار كالمستضعفين و المرجون لأمر الله، و قد ذكر العلامة و غيره قولا بعدم خلود المخالفين في النار، و هو في غير المستضعفين و أشباههم في غاية الضعف لأن الإمامة عند الشيعة من أصول الدين، و قد ورد متواترا عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم من مات و لم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية، و الأخبار في ذلك أكثر من أن تحصى.

و أما الأحكام الدنيوية أيضا كالطهارة و التناكح و التوارث فالمشهور أنهم في جميع ذلك بحكم المسلمين، و ذهب السيد المرتضى رضي الله عنه و جماعة إلى أنهم في الأمور الدنيوية أيضا بحكم الكفار، و الذي يظهر من بعض الأخبار أنهم واقعا في جميع الأحكام بحكم الكفار لكن الله تعالى لما علم أن للمخالفين دولة و غلبة على الشيعة و لا بد لهم من معاشرتهم رخص لهم في جميع ذلك و أجرى على المخالفين في زمان الهدنة و التقية أحكام المسلمين و في زمن القائم عليه السلام لا فرق بينهم و بين الكفار، و به يمكن الجمع بين الأخبار.

و قد يطلق على مرتكبي الكبائر من غير توبة و أثره احتمال العقاب الطويل لا الخلود، و لا جريان حكم الكفار عليهم في الدنيا، بل يمكن سقوط بعض الحقوق التي تكون للمؤمنين، و قد يطلق على مطلق مرتكبي المعاصي.

و بالجملة له معان كثيرة و أحكام متباينة كما يظهر بالتتبع قال الشهيد الثاني (ره) في رسالة حقائق الإيمان: اعلم أن جمعا من علماء الإمامية حكموا بكفر أهل الخلاف و الأكثر علي الحكم بإسلامهم، فإن أرادوا بذلك كونهم كافرين في نفس الأمر لا في الظاهر، فالظاهر أن النزاع لفظي إذ القائلون بإسلامهم يريدون ما ذكرناه من الحكم بصحة جريان أكثر أحكام المسلمين عليهم في الظاهر، لا أنهم مسلمون في‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 192

نفس الأمر، فلذا نقلوا الإجماع على دخولهم في النار، و إن أرادوا بذلك كونهم كافرين باطنا و ظاهرا فهو ممنوع، و لا دليل عليه بل الدليل قائم على إسلامهم ظاهرا كقوله عليه السلام: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله.

 (الحديث الثاني)

 (1): مرسل.

" أخشى أن لا تحل لي مناكحتهم"

 (2) منشأ الخشية ما عرفت من إصرار زرارة علي نفي الواسطة بين الإيمان و الكفر، و أن المخالفين كلهم و لو كانوا من فرق الشيعة غير الإمامية كفار عنده يجري عليهم جميع أحكام الكفار في الدنيا و الآخرة.

" قال: فهات الآن"

 (3) هات اسم فعل بمعنى أعطني، و الحاصل أن وطي الكافرة حرام لا سيما من غير أهل الكتاب، كما أن نكاح الكافرة حرام فبما تفرق بينهما

" إن رابتني بشي‏ء بعتها"

 (4) يقال: رابه و أرابه أي شككه و أوهمه، و لعله توهم الفرق بين الحرة و الأمة، بأن الحرة إذا لم توافقه و ظهرت منه أمارات المخالفة و طلقها ذهبت بطلاقة، و ربما شهرته بالتشيع و فيه قباحة أيضا عرفا بخلاف الأمة، فإنه يمكن بيعها و لا يقبل منها ما يقبل من الحرة و ليس فيه عار.

و قوله عليه السلام: بما استحللتها،

 (5) إثبات الألف مع حرف الجر شاذ، أي أنك قبل أن تدخلها في دينك و تكلمها في ذلك كيف جاز لك وطيها على زعمك، و قيل: لما لم يكن الجواب مطابقا للسؤال عاد عليه السلام السؤال بعينه للتنبيه على خطائه،

قوله‏

                                                مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 193

تقول لست أبالي‏

 (1)، لعله أحال الوجه الآخر على الظهور فأجاب عليه السلام باختيار الوجه المتروك ضمنا و كناية و كأنه سقط الشق الآخر من النساخ، و يؤيده أنه ذكر هذا الحديث أبو عمرو الكشي في ترجمة زرارة بأدنى تغيير في اللفظ، و قال فيه يعني زرارة فتأمرني أن أتزوج قال له ذاك إليك" قال: فقال زرارة" هذا الكلام ينصرف على ضربين إما أن لا تبالي أن أعصي الله إذا لم تأمرني بذلك، و الوجه الآخر أن يكون مطلقا لي قال فقال عليك بالبلهاء إلى آخر الخبر.

" تزوج"

 (2) أي بعائشة و حفصة مع أنهما فعلتا ما فعلتا من إيذائه صلى الله عليه و آله و سلم و الخيانة معه و إفشاء سره و ما ظهر له من نفاقهما كما ذكره الله تعالى في القرآن، و مثل حالهما بحال امرأة نوح و امرأة لوط في أنهما بالنفاق و استبطان الكفر و عدم الإخلاص كفرتا و خرجتا من الإيمان فلم يغن نوح و لوط عنهما من عذاب الله شيئا من الإغناء بحق الزواج حتى يقال لهما عند الموت أو في القيامة: أدخلا النار مع سائر الداخلين من الكفرة الذين لا وصلة بينهم و بين الأنبياء.

و ذكر امرأة نوح و امرأة لوط

 (3) يحتمل وجهين: أحدهما الاستدلال بفعل النبيين على الجواز، و فيه أن شريعة من قبلنا ليست بحجة علينا، و الثاني الاستدلال على نفاق امرأتي الرسول صلى الله عليه و آله و سلم و كفرهما بالتمثيل المذكور في الآية و هو أظهر، فالمعنى أن الله مثل حالهما بحال المرأتين و خيانتهما بخيانتهما، و خيانة امرأتي الرسولين لم تكن فجورا بل إنما كانت نفاقها و إبطانهما الكفر و تظاهرهما على الرسولين و لذا خلدتا في النار و لم ينفعهما شفاعة الرسولين على الله تعالى، و قد قال المفسرون‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 194

امرأة نوح قالت لقومه إنه مجنون، و امرأة لوط دلت قومه على ضيفانه، و لما كانت المرأتان مع نفاقهما تحت الرسول صلى الله عليه و آله و سلم لإظهارهما الإسلام فيجوز نكاح المخالفات لذلك، و قوله عليه السلام: إنهما قد كانتا، نقل للآية بالمعنى.

قوله عليه السلام: ما يعني بذلك إلا الفاحشة،

 (1) يحتمل وجهين: الأول أن يكون استفهاما إنكاريا فالمراد بالفاحشة الزنا كما هو الشائع في استعمالها، و الثاني أن يكون نفيا و يكون المراد بالفاحشة الذنب العظيم و هو الشرك و الكفر، كما قال المفسرون في قوله تعالى:" وَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَ اللَّهُ أَمَرَنا بِها" و هو أظهر و فيه رد لقول زرارة و هي مقرة بحكمه و دينه إذ علاقة الزوجية لا تستلزم ذلك، لظهور الفاحشة منهما.

" و قد زوج رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم فلانا"

 (2) أي عثمان، هذا أيضا رد لما توهمه فإن الأمر هناك كان بالعكس، إذا لمرأة تحت يد الزوج، و هو مسلط عليها، و ظاهره جواز تزويج المؤمنة بالمخالف كما ذهب إليه المفيد و المحقق و المشهور المنع لأخبار كثيرة حملاها على الكراهة جمعا و الإجماع الذي ادعوه على المنع غير ثابت، و الأحوط الترك و سيأتي القول فيه و في عكسه في محلهما إن شاء الله.

ثم لما استشعر زرارة من الكلام المذكور الرخصة في تزويجهن أراد أن‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 195

يصرح بذلك فقال: ما تأمرني؟ إلخ،

فقال عليه السلام: إن كنت فاعلا فعليك بالبلهاء من النساء،

 (1) أي المستضعفة الكريمة الأخلاق القريبة من قبول الحق، قال الجوهري:

رجل أبله بين البله و البلاهة، و هو الذي غلبت عليه سلامة الصدر، و قد بله بالكسر و تبله و المرأة بلهاء، و في الحديث أكثر: أهل الجنة البله، يعني البلة في أمر الدنيا لقلة اهتمامهم بها و هم أكياس في أمر الآخرة، و في القاموس:

رجل أبله أي غافل أو عن الشر أو أحمق لا تمييز له، و الميت الداء أي من شره ميت، و الحسن الخلق القليل الفطنة لمداق الأمور أو من غلبته سلامة الصدر، و البلهاء المرأة الكريمة المريرة العزيزة المغفلة، و في المصباح: بله بلها من باب تعب ضعف عقله فهو أبله و الأنثى بلهاء، و الجمع بله مثل أحمر و حمراء و حمر، و من كلام العرب خير أولادنا الأبله الغفول، المعنى أنه لشدة حيائه كالأبله فيتغافل فيتجاوز، فشبه ذلك بالبله، انتهى.

و ما فسره عليه السلام بيان لحاصل المعنى بذكر بعض صفاتها، و في النهاية:

الخدر

 (2) بالكسر ناحية في البيت يترك عليها ستر فتكون فيه الجارية البكر خدرت فهي مخدرة و جمع الخدر الخدور، و

العفائف‏

 (3) جمع العفيفة و هي المرأة الممتنعة من القبائح حياءا من عف عن الشي‏ء يعف من باب ضرب عفة بالكسر و عفافا بالفتح امتنع منه، و الجواري إذا كن كذلك لم يسمعن شبه المخالفين، و لم تستقر في أنفسهن فهن أقرب إلى قبول الحق و دين الأزواج، و هن من المستضعفات اللواتي لا ينصبن الحق و أهله، و أبعد من سوء الأخلاق و نصب أهل البيت عليهم السلام و لما كان نفي الواسطة مستقرا في نفس زرارة عاد في السؤال، و قال: أ يجوز لي أن أتزوج من كان على دين‏

سالم بن أبي حفصة

 (4)، و هو كان من رؤساء الزيدية.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 196

و روى الكشي روايات كثيرة تدل على أن الصادق عليه السلام لعنه و كذبه و كفره، و

ربيعة الرأي‏

 (1) من فقهاء العامة، قال الشيخ في الرجال: ربيعة بن أبي عبد الرحمن فروخ المعروف بربيعة الرأي المدني الفقيه عامي روى عن السجاد و الباقر عليهما السلام.

و قال المطرزي في المغرب: الرأي ما ارتآه الإنسان و اعتقده، و منه ربيعة الرأي بالإضافة فقيه أهل المدينة، و في القاموس: هو شيخ مالك و كأنه عليه السلام إنما نفي من كان على رأيهما لأنه علم أن مراده المتعصبات منهن لا المستضعفات لأن ظاهر سياق كلامه أنه قال ذلك على سبيل التشنيع و الإلزام.

و في النهاية:

العاتق‏

 (2) الشابة أول ما تدرك، و قيل: هي التي لم تبن من والديها و لم تتزوج و قد أدركت و شبت، و يجمع على العتق و العواتق.

" فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَ مِنْكُمْ مُؤْمِنٌ"

 (3) استدل زرارة بهذه الآية على انحصار الناس في المؤمن و الكافر و هي ليست صريحة في ذلك، و ليس فيها ما يدل على الحصر، و لو كانت ظاهرة فيه فلا بد من تأويلها لوجود المعارض، و أيضا قد عرفت أن للكفر إطلاقات كثيرة، فيمكن أن يكون الكفر في هذه الآية بمعنى عدم الإيمان، و في الآيات الدالة على الخلود و النهي عن المناكحة و غيرها بمعنى الجحود فلا تنافي بينهما، و لعله عليه السلام لم يتعرض لجوابه لظهوره، و ذكر ما يدل على أن المراد بالآية غير ما فهمه زرارة و إلا لزم التنافي بين الآيات، و قد بينا ذلك في الأخبار السابقة.

و أشار عليه السلام إلى هذا

بقوله: قول الله أصدق من قولك‏

 (4)، فنسب ما فهمه من الآية إلى قوله إيذانا بأنه ليس ما فهمته مرادا من الآية.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 197

" فلما قال عسى فقلت"

 (1) الظاهر أن مراده أنه لم يصبر زرارة حتى يتم عليه السلام الآية، و بادر بالجواب بإعادة مطلوبه مرة أخرى، و قيل: المراد أنه لما استدل عليه السلام بقوله عسى على أنه ليس بمؤمن لأن المؤمن يدخل الجنة قطعا، و لا بكافر لأنه معذب البتة قلت: إن يرحمه الله فهو في علم الله مؤمن، و إن يعذبه فهو في علم الله كافر

" إن دخلوا الجنة فهم مؤمنون"

 (2) و ذلك لما تقرر عنده أن الجنة لا يدخلها إلا مؤمن‏

" و إن دخلوا النار فهم كافرون"

 (3) لما تقرر عنده أن النار لا يدخلها إلا كافر، و المقدمتان ممنوعتان لأن الجنة قد يدخلها غير المؤمن برحمة الله، و النار قد يدخلها غير الكافر بذنب غير الكفر.

قوله عليه السلام: لدخلوا الجنة،

 (4) أي ابتداء من غير توقف أو بسبب الإيمان كما دخلها المؤمنون كذلك، و هذا لا ينافي دخولهم فيها بالرحمة

" لدخلوا النار"

 (5) أي ابتداء أو بسبب الكفر كما دخلها الكافرون كذلك، و هذا لا ينافي دخولهم فيها بذنوب غير الكفر، إما مع الخلود أو بدونها

" استوت حسناتهم و سيئاتهم"

 (6) قيل: كان المراد بهما الإقرار و الإنكار و باستوائهما عدم رجحان أحدهما على الآخر أو الأعم‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 198

منهما و من الأعمال الصالحة و الذنوب.

" فقصرت بهم الأعمال"

 (1) أي لم تبلغ بهم الأعمال الحسنة إلى مقصدهم و هو الجنة، قال في المصباح: قصرت بنا النفقة أي لم تبلغ بنا إلى مقصدنا، فالباء للتعدية

" لكما قال الله عز و جل":

 (2) أقول: ظاهر الخبر أن أصحاب الأعراف يوقفون ابتداء فيها ثم يساقون إما إلى الجنة أو إلى النار، و لا يبقون فيها كما قال بعض المفسرين إن في الدرجة الأدنى من الأعراف قوم تساوت حسناتهم و سيئاتهم، أوقفهم الله عليها لأنها درجة متوسطة بين الجنة و النار، ثم تؤول عاقبة أمرهم إلى الجنة برحمة الله و فضله، كما قال عز و جل:" لَمْ يَدْخُلُوها وَ هُمْ يَطْمَعُونَ" أي لا يطمعون دخولها بعملهم، بل بفضل الله و إحسانه أن ينقلهم من ذلك الموضع إلى الجنة.

" فقلت: من أهل الجنة هم أم من أهل النار"

 (3) كان غرضه الإلزام بأنهم إن كانوا من أهل الجنة فهم مؤمنون، و إن كانوا من أهل النار فهم كافرون‏

" فقال: اتركهم حيث تركهم الله"

 (4) أي يحتمل فيهم الأمران، و لا ينافي عدم كونهم مؤمنين و لا كافرين‏

" قلت أ فترجئهم"

 (5) كان مراده أن هذا مذهب المرجئة و هو باطل، لأن مذهب المرجئة عدم الحكم بإيمان أحد و كفر أحد مطلقا و هذا الإرجاء ليس في المذهب، و إنما هو إرجاء في الثواب و العقاب، و بالنسبة إلى جماعة مخصوصة، و قيل: أي أ فتوقعهم في الرجاء و الطمع للمغفرة و لا تحكم بكفرهم‏

" برحمته"

 (6) أي لا بإيمانهم لعدمه‏

" بذنوبهم"

 (7) أي لا بكفرهم لعدمه‏

" و لم يظلمهم"

 (8) إذ لا ظلم في العقوبة مع الاستحقاق بالذنوب.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 199

" هل يدخل الجنة كافر؟ قال: لا"

 (1) إنما لم يستثن عليه السلام فيه لأنه لا يحتاج إلى استثناء، نعم لو قال مكان كافر غير مؤمن لاحتاج إلى الاستثناء، و أما المقدمة الثانية فتحتاج إلى الاستثناء لأنه يمكن أن يدخل النار غير الكافر من الفساق و المستضعفين.

" رجعت و تحللت عنك عقدك"

 (2) في القاموس: تحلل في يمينه استثنى، و حل العقد نقضها فانحلت، و قال: عقد الحبل و البيع و العهد يعقده شده، و العقد الضمان، و العهد و العقد بالكسر القلادة، و العقدة بالضم الولاية على البلد، و الجمع كصرد و الضيعة و العقار الذي اعتقده صاحبه ملكا، و موضع العقد و هو ما عقد عليه، و البيعة المعقودة لهم، و تحللت عقده سكن غضبه، و في المصباح: عقدت الحبل عقدا من باب ضرب فانعقد، و العقدة ما يمسكه و يوثقه، و منه قيل: عقدت البيع و اليمين، و عقدة النكاح و غيره إحكامه و إبرامه.

فإذا عرفت هذا فهذا الكلام يحتمل وجوها" الأول": أن يكون العقد بضم العين و فتح القاف جمع العقدة بالضم و المراد أنك إن كبر سنك رجعت عن هذا المذهب الباطل الذي استقر في نفسك و انحلت عنك العقد التي في قلبك من الشكوك و الشبهات في ذلك، استعار العقد للشبهات و هي شائعة في المحاورات بين الناس، و هذا أظهر الوجوه، و من قرأ تحللت بصيغة المتكلم فهو تصحيف إذ لم أجده في اللغة متعديا.

الثاني: أن يكون المراد بتحلل العقد سكون غضبه على المخالفين كما مر في القاموس.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 200

الثالث: ما ذكره الكشي بعد إيراد هذه الرواية، حيث قال: و أصحاب زرارة يقولون رجعت عن هذا الكلام و تحللت عنك عقد الإيمان، انتهى.

و لعل المراد بأصحاب زرارة القائلون بهذا القول الذي كان زرارة عليه أولا فإنهم لما لم يرجعوا عن هذا القول ظنوا أن الإمام عليه السلام كان يصوب رأي زرارة باطنا و يتكلم معه ظاهرا للتقية، فأخبر بأنه يرجع بعد كبره عن هذا القول، و يرجع بذلك من الإيمان، أو يضعف إيمانه و لا يخفى ركاكة هذا التأويل إلا أن يكون مرادهم تحلل العقد في مسألة الإيمان، فيرجع إلى ما ذكرنا أولا.

الرابع: ما قيل: إن المعنى رجعت عن هذا القول الباطل و تحللت عنك هذه القلادة أو هذا الرأي.

الخامس: رجعت عن دين الحق و تحللت عنك هذا العهد و البيعة.

و أقول: لا يخفى اشتمال هذا الخبر على قدح عظيم لزرارة، و لم يجعله و أمثاله الأصحاب قادحة فيه، لإجماع العصابة على عدالته و جلالته و فضله و ثقته، و ورد الأخبار الكثيرة في فضله و علو شأنه، و الحق أن علو شأن هؤلاء الأجلاء و كثرة حاسديهم صار سببا للقدح فيهم، و أيضا قدحوا في هذه الرواية بالإرسال، و بمحمد ابن عيسى اليقطيني، و إن كان له مدح و توثيق من بعض الأصحاب، فإنه جزم السيد الجليل ابن طاوس بضعفة، و الصدوق محمد بن بابويه و شيخه ابن الوليد، و قال الشهيد الثاني قدس سره: فقد ظهر اشتراك جميع الأخبار القادحة في استنادها إلى محمد بن عيسى و هو قرينة عظيمة على ميل و انحراف منه على زرارة مضافا إلى ضعفه في نفسه، و قال السيد جمال الدين بن طاوس و نعم ما قال: و لقد أكثر محمد بن عيسى من القول في زرارة حتى لو كان بمقام عدالة كادت الظنون تسرع إليه بالتهمة فكيف و هو مقدوح فيه.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 201

باب المستضعف‏

 (1)

 (الحديث الأول)

 (2): مرسل.

" عن المستضعف"

 (3) كأنه سأل عن المستضعف الذي استثناه الله عز و جل في قوله:

" إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ ساءَتْ مَصِيراً، إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ وَ الْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَ لا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا، فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَ كانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً" و قد مر تفسير الآية مجملا، و قال بعض المفسرين: توفيهم، إما ماض فيكون إخبارا عن حال قوم انقرضوا، و كانوا قوما من المسلمين فخرجوا في قوم من المشركين في قتال فقتلوا معهم، و إما مستقبل بحذف إحدى التائين فيكون الوعيد عاما في كل من كان بهذه الصفة" ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ" حال عن ضمير الموصول، و الظلم قد يراد به الشرك و النفاق، فالمراد أنهم ظالمون أنفسهم بنفاقهم و كفرهم و تركهم الهجرة و قد يراد به المعصية، فالمراد الذين أسلموا في دار الكفر و بقوا هناك غير مهاجرين إلى دار الإسلام حين كانت الهجرة فريضة.

و ذكروا في خبر إن وجوها" الأول" قالوا فيم كنتم، و العائد محذوف، أي قالوا لهم فيم كنتم؟ أي في أي شي‏ء كنتم من أمر دينكم و المراد التوبيخ بأنكم لم تكونوا مؤمنين من الدين في شي‏ء.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 202

و الثاني:" فأولئك" و يكون قالوا حالا من الملائكة بتقدير قد.

و الثالث: أن الخبر محذوف و هو هلكوا، يفسره فيم كنتم و هم أجابوا اعتذارا بقولهم: كنا مستضعفين في الأرض غير قادرين على إظهار شعائر الدين و المهاجرة، ثم الملائكة لم يقبلوا عنهم هذا العذر فبكتوهم بقولهم أ لم تكن أرض الله واسعة، و أرادوا أنكم كنتم قادرين على المهاجرة، ثم استثنى من الموصول المستضعفين في نفس الأمر و الاستثناء منقطع، و في ذكر العفو و كلمة الأطماع و هي عسى تنبيه على أن أمر الهجرة خطير مضيق لا توسعة فيه، حتى أن المضطر من حقه أن يترقب العفو و لا يأمن، و ينبغي أن يغلق قلبه بها.

و لعل المراد بالولدان الأطفال و الصبيان، كما في هذه الرواية و غيرها، و إنما ذكرهم مع أنهم لم يبلغوا حد التكليف أصلا لأن السبب في سقوط التكليف هو العجز و أنه حاصل فيهم، فحسن استثناؤهم بهذا الوجه، و قيل: المراد بهم المراهقون الذين عقلوا ما يعقل الرجال و النساء، حتى يتوجه التكليف فيما بينهم و بين الله، و قيل: استثناؤهم للمبالغة في الأمر، و الإشعار بأنهم على صدد وجوب الهجرة فإنهم إذا بلغوا و قدروا عليها فلا محيص لهم منها، و إن قوامهم يجب عليهم أن يهاجروا بهم متى أمكنت، و قال أرباب التأويل: الموصول هم الذين رفضوا الحق و اتبعوا الباطل، فظلموا أنفسهم فيقول الملائكة: فيم كنتم أي في أي غفلة كنتم تضيعون أعماركم و تبطلون استعدادكم الفطري؟ و في أي واد من أودية الهوى تهيمون؟ فيقولون: كنا مستضعفين عاجزين لاستيلاء النفس الأمارة، و غلبة الهوى، فيقول الملائكة: أ لم تكن أرض الله، أي أرض القلوب واسعة فتخرجوا عن مضيق ما كنتم فيه.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 203

ثم استثنى ضعفاء العقول الذين رفع عنهم قلم التكليف بالمعارف و هم الذين لا يستطيعون حيلة في الخروج عن الدنيا لضعف الرأي و لا يهتدون سبيلا إلى صاحب الولاية.

قيل: و قول الباقر عليه السلام في تفسير المستضعف يمكن تطبيقه على تفسير الآية الكريمة، و على تأويلها، و إنما قال عليه السلام في الكفر حيلة و في الإيمان سبيلا للتنبيه على أنه لا سبيل إلى الكفر، و لا دليل عليه، و لو فرض شي‏ء يفضي إليه فإنما هو حيلة نفسانية و شبهة شيطانية، و قال في الخبر الآخر: لا يستطيع حيلة إلى الإيمان للإشعار بأن الحيلة كافية للخروج من الكفر إلى الإيمان، أو لإرادة السبيل بها مجازا لاشتراكهما في الإفضاء و الإيصال.

و أقول: الحاصل أنهم لضعف عقولهم و قلة فطانتهم لم تعرض لهم شبهة قوية فيستقروا في الكفر و الجحود، و لا داع قوي من الأغراض الدنيوية 8 الحق لذلك، و احتالوا في إبطال الدين و براهين الأنبياء بإلقاء الشكوك و الشبه، و ليس لهم قدرة على فهم الحق و دلائله فيرسخوا في الدين فهم لذلك معذورون في الجملة، و يحتمل نجاتهم لذلك.

و أما ذكر الصبيان فقد عرفت في تفسير الآية توجيهه بوجوه، و قيل: المراد بالصبيان الشباب في أوائل بلوغهم قبل الكمال المعرفة، و أقول: يمكن تفريع هذا الكلام على الخلاف في وقت وجوب المعرفة، و أن وجوبها عقلي أو سمعي فمن قال أن وجوب المعرفة عقلي و أنه يتعلق. بالمراهق قبل البلوغ، فيمكن حمل الصبي في تلك الأخبار على معناه المصطلح، و من قال غير ذلك لا بد من حمله على أوائل البلوغ مجازا، قال الشهيد الثاني رفع الله درجته: اعلم أن المتكلمين حددوا وقت التكليف بالمعرفة بالتمكن من العلم بالمسائل الأصولية حيث قالوا في باب التكليف أن المكلف يشترط كونه قادرا على ما كلف به، إذ التكليف بدون ذلك محال،

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 204

و ظاهر أن هذا لا يتوقف على تحقق البلوغ الشرعي بإحدى العلامات المذكورة في كتب الفروع، بل قد يكون قبل ذلك بسنين أو بعده، كذلك بحسب مراتب الإدراك قوة و ضعفا.

و ذكر بعض فقهائنا أن وقت التكليف بالمعارف الإلهية هو وقت التكليف بالأعمال الشرعية إلا أنه يجب أولا بعد تحقق البلوغ و العقل المسارعة إلى تحصيل المعارف قبل الإتيان بالأعمال.

أقول: هذا غير جيد لأنه يلزم منه أن يكون الإناث أكمل من الذكور، لأن الأنثى تخاطب بالعبادات عند كمال التسع، إذا كانت عاقلة فتخاطب بالمعرفة أيضا عند ذلك، و الصبي لا يبلغ عند كمال التسع بالاحتلام و لا بالإنبات على ما جرت به العادة، فلا يخاطب بالمعرفة و إن كان مميزا عاقلا، لعدم خطابه بالعبادات، فتكون أكمل منه استعدادا للمعارف و هو بعيد عن مدارك العقل و النقل، و من ثم ذهب بعض العلماء إلى وجوب المعرفة على من بلغ عشرا عاقلا، و نسب ذلك إلى الشيخ أبي جعفر الطوسي قدس سره، و أيضا هذا لا يوافق ما هو الحق من أن معرفة الله تعالى واجبة عقلا لا سمعا، لأنا لو قلنا أن المعرفة لا تجب إلا بعد تحقق البلوغ الشرعي الذي هو مناط وجوب العبادات الشرعية لكنا قد أوجبنا المعرفة بالشرع لا بالعقل، لأن البلوغ المذكور إنما علم من الشرع و ليس في العقل ما يدل على أن وجوب المعرفة إنما يكون عند البلوغ المذكور، فلو وجبت عنده لكان الوجوب معلوما من الشرع لا من العقل.

لا يقال: العقل إنما دل على وجوب المعرفة في الجملة دون تحديد وقته، و الشرع إنما دل على تحديد وقت الوجوب و هو غير الوجوب فلا يلزم كون الوجوب شرعيا.

لأنا نقول: لا نسلم أن في الشرع ما يدل على تحديد وقت وجوب المعرفة

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 205

أيضا بل إنما دل على تحديد وقت العبادات فقط، نعم دل الشرع على تقدم المعرفة على العبادات في الجملة، و هو أعم من تعيين وقت التقدم فلا يدل عليه و أيضا لا معنى لكون العقل يدل على وجوب المعرفة في الجملة من دون اطلاعه على وقت الوجوب، إذ لا ريب أنه يلزم من الحكم بوجوبها كونها واجبة في وقت الحكم.

و الحاصل أنه لا يمكن العلم بوجوبها إلا بعد العلم بوقت وجوبها، و الوقت كما أنه ظرف لها فهو ظرف للوجوب أيضا، و توضيحه أن العبد إذا لاحظ هذه النعم عليه، و علم أن هناك منعما أنعم بها عليه أوجب على نفسه شكره عليها في ذلك الوقت خوفا أن يسلبه إياها لو لم يشكره، و حيث أنه لم يعرفه بعد و يوجب على نفسه النظر في معرفته في ذلك الوقت ليمكنه شكره، فقد علم أنه يلزم من وجوب المعرفة بالعقل معرفة وقتها أيضا، نعم ما ذكروه إنما يتم على مذهب الأشاعرة حيث أن وجوب المعرفة عندهم سمعي.

فإن قلت: قوله صلى الله عليه و آله و سلم: رفع القلم عن الصبي حتى يبلغ، فيه دلالة على تحديد وقت وجوب المعرفة بالبلوغ الشرعي لأن رفع القلم كناية عن رفع التكليف، و عدم جريانه عليه إلى الغاية المذكورة، فقبلها لا يكون مكلفا بشي‏ء سواء كان قد عقل أم لا.

قلت: لا نسلم دلالته على ذلك بل إن دل فإنما يدل على أن البلوغ الشرعي غاية لرفع التكليف مطلقا و إن كان عقليا فيبقى الدليل الدال على كون التكليف بالمعرفة عقليا سالما عن المعارض، فإنه يستلزم تحديد وقت وجوب المعرفة بكمال العقل، كما تقدمت الإشارة إليه.

و الحاصل أن عموم رفع القلم مخصص بالدليل العقلي، و قد عرف العقل الذي هو مناط التكاليف الشرعية بأنه قوة للنفس بها تستعد للمعلوم و الإدراكات، و هو المعنى بقولهم غريزة يتبعها العلم بالضروريات عند سلامة الآلات، و هذا

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 206

التفسير اختاره المحقق الطوسي (ره) و جماعة، و الغريزة هي الطبيعة التي جبل عليها الإنسان، و الآلات هي الحواس الظاهرة و الباطنة و إنما اعتبر سلامتها لأن العلم إنما يتبع العقل عند سلامتها، أ لا ترى أن النائم عاقل و لا علم له لتعطل حواسه.

و قيل: إنه ما يعرف به حسن الحسن و قبح القبيح، و هذا التفسير اختاره القائلون بأن الحسن و القبح ذاتيان للعقل، و قيل: إنه العلم ببعض الضروريات المسمى بالعقل بالملكة و اختاره العلامة التفتازاني، و قريب من هذا التفسير ما قيل أنه العلم بوجوب الواجبات و استحالة المستحيلات في مجاري العادات، انتهى.

ثم اعلم أن إطلاق الصبيان يشمل صبيان الكفار أيضا، و لا ريب في أن أطفال المؤمنين ملحقة بآبائهم في الجنة، و أما أولاد الكفار فاختلف فيهم علماؤنا و المخالفون قال النووي في شرح صحيح مسلم: اختلف العلماء فيمن مات من أولاد المشركين، فمنهم من يقول: هم تبع لآبائهم في النار، و منهم من يتوقف فيهم، و الثالث و هو الصحيح الذي ذهب إليه المحققون أنهم من أهل الجنة، و قال البغوي في شرح السنة: أطفال المشركين لا يحكم لهم بجنة و لا نار، بل أمرهم موكول إلى علم الله فيهم، كما أفتى به الرسول صلى الله عليه و آله و سلم و جملة الأمر أن مرجع العباد في المعاد إلى ما سيق لهم في علم الله من السعادة و الشقاوة.

و قيل: حكم أطفال المؤمنين و المشركين حكم آبائهم و هو المراد بقوله:

الله أعلم بما كانوا عاملين، يدل عليه ما روي مفسرا عن عائشة أنها قالت: قلت:

يا رسول الله ذراري المؤمنين؟ قال: من آبائهم، فقلت: يا رسول الله بلا عمل؟ قال:

الله أعلم بما كانوا عاملين، قلت: فذراري المشركين؟ قال: من آبائهم، قلت: بلا عمل؟ قال: الله أعلم بما كانوا عاملين، و قال معمر عن قتادة عن الحسن أن سلمان قال: أولاد المشركين خدم أهل الجنة، قال الحسن: أ تعجبون أكرمهم الله و أكرمهم‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 207

به، و انتهى.

و ذهب المتكلمون منا إلى أن أطفال الكفار لا يدخلون النار فهم إما يدخلون الجنة أو يسكنون الأعراف، و ذهب أكثر المحدثين منا إلى ما دلت عليه الأخبار الصحيحة من تكليفهم في القيامة بدخول النار المؤججة لهم، قال المحقق الطوسي قدس سره في التجريد: و تعذيب غير المكلف قبيح و كلام نوح عليه السلام مجاز، و الخدمة ليست عقوبة له، و التبعية في بعض الأحكام جائزة. و قال العلامة الحلي نور الله ضريحه في شرحه: ذهب بعض الحشوية إلى أن الله تعالى يعذب أطفال المشركين، و يلزم الأشاعرة تجويزه و العدلية كافة على منعه، و الدليل عليه أنه قبيح عقلا فلا يصدر منه تعالى.

احتجوا بوجوه:" الأول" قول نوح عليه السلام" وَ لا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً" و الجواب أنه مجاز، و التقدير إنهم يصيرون كذلك لا بآجال طفوليتهم، الثاني:

قالوا إنا نستخدمه لأجل كفر أبيه فقد فعلنا فيه ألما و عقوبة، فلا يكون قبيحا، و الجواب أن الخدمة ليست عقوبة للطفل و ليس كل ألم عقوبة فإن الفصد و الحجامة ألمان، و ليسا عقوبة، نعم استخدامه عقوبة لأبيه و امتحان له يعوض عليه كما يعوض على أمراضه، الثالث: قالوا إن حكم الطفل يتبع حكم أبيه في الدفن و منع التوارث و الصلاة عليه و منع التزويج، و الجواب أن المنكر عقابه لأجل جرم أبيه، و ليس بمنكر أن يتبع حكم أبيه في بعض الأشياء إذا لم يجعل له بها ألم و عقوبة، و لا ألم له في منعه من الدفن و التوارث و ترك الصلاة عليه.

و أقول: رأيت في بعض كتب أصحابنا في تفسير قوله تعالى:" يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ" روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: الولدان أولاد أهل الدنيا

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 208

لم يكن لهم حسنات فيثابون عليها، و لا سيئات فيعاقبون عليها، فأنزلوا هذه المنزلة، و عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنه سئل عن أطفال المشركين؟ فقال: خدم أهل الجنة على صورة الولدان، خلقوا لخدمة أهل الجنة.

و روى الصدوق رضي الله عنه في كتاب الخصال بسند صحيح أو قريب منه عن أبي جعفر عليه السلام قال: إذا كان يوم القيامة احتج الله عز و جل على خمسة: على الطفل و الذي مات بين النبيين، و الذي أدرك النبي و هو لا يعقل، و الأصم و الأبكم فكل واحد منهم يحتج على الله عز و جل، قال: فيبعث الله إليهم رسولا فيؤجج لهم نارا فيقول لهم: ربكم يأمركم أن تثبوا فيها، فمن وثب فيها كانت عليه بردا و سلاما، و من عصى سيق إلى النار.

ثم قال الصدوق (ره): إن قوما من أصحاب الكلام ينكرون ذلك و يقولون أنه لا يجوز أن يكون في دار الجزاء التكليف، و دار الجزاء للمؤمنين إنما هي الجنة و دار الجزاء للكافرين إنما هي النار، و إنما يكون هذا التكليف من الله عز و جل في غير الجنة و النار، فلا يكون كلفهم في دار الجزاء، ثم يصيرهم إلى الدار التي يستحقونها بطاعتهم أو معصيتهم فلا وجه لإنكار ذلك، و لا قوة إلا بالله.

و أقول: قد ورد في بعض الأخبار أنهم مع آبائهم في النار، و كأنها محمولة على التقية، و في بعض الأخبار أن معنى قول رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم الله أعلم بما كانوا عاملين أن كفوا عنهم و لا تقولوا فيهم شيئا، و ردوا علمهم إلى الله، و هذا أحسن الأمور في هذا الباب، و يكفينا القول بأن الله تعالى لا يظلمهم و لا يجور عليهم و لا يدخلهم النار بغير حجة، و ستأتي الأخبار في كتاب الجنائز و سنتكلم فيه هناك أيضا إنشاء الله تعالى. و قد بسطنا القول في ذلك في كتابنا الكبير في أبواب العدل.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 209

 (الحديث الثاني)

 (1): حسن كالصحيح.

و قد مر الكلام فيه‏

" و أشباه عقول الصبيان"

 (2) أي أشباه الصبيان في العقول.

 (الحديث الثالث)

 (3): ضعيف على المشهور معتبر عندي.

" يدفع بها عنه الكفر"

 (4) أي شبه الكفر أو احتماله فيصير شاكا

" و لا يهتدى بها"

 (5) الضمير للحيلة

" و لا يكفر"

 (6) بالنصب أي و لا أن يكفر.

 (الحديث الرابع)

 (7): مجهول.

و بجيلة

 (8) قبيلة من اليمن و النسبة إليها بفتحتين كالحنفي بالنسبة إلى بني حنيفة، و بجلة مثال تمرة قبيلة أيضا و النسبة إليها على لفظها.

" شبيها بالفزع"

 (9) بكسر الزاي أي الخائف المضطرب، و كان ذلك غيظا و إنكارا على أهل الإذاعة من الشيعة، فإنهم لتركهم التقية أفشوا هذا الأمر حتى عرف الناس كلهم مذهب الشيعة حتى الجواري الباكرات المخدرات مع عدم خروجهن من الخدور، و النساء السقايات اللواتي ليس شأنهن تفحص المذاهب،

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 210

و السقايات‏

 (1) بالياء جمع سقاءة بالهمزة، و هذه الإذاعة صارت سببا للضرر على الأئمة و شيعتهم و لم ينفع لهداية الخلق، و صارت سببا لصيرورة المستضعفين نواصب غير معذورين‏

" و تركتم"

 (2) استفهام للإنكار، و كذا أين.

ثم اعلم أن‏

المستضعف‏

 (3) عند أكثر الأصحاب من لا يعرف الإمام و لا ينكره، و لا يوالي أحدا بعينه كما ذكره الشهيد قدس سره في الذكرى، و حكي عن المفيد في الغرية أنه عرفه بأنه الذي يعرف بالولاء و يتوقف عن البراءة، و قال ابن إدريس: هو من لا يعرف اختلاف الناس في المذاهب، و لا يبغض أهل الحق على اعتقادهم، و هذا أوفق بأخبار هذا الباب.

 (الحديث الخامس)

 (4): صحيح.

" قال: هم أهل الولاية"

 (5) لما كانت الولاية مجملة، و كانت تحتمل ولاية أهلي البيت عليهم السلام قال السائل: أي ولاية؟ فقال عليه السلام أما إنها ليست بالولاية في الدين، أي ولاية أئمة الحق و لو كانوا كذلك لكانوا مؤمنين، أو المراد بالولاية في الدين الولاية التي تكون بين المؤمنين بسبب الاتحاد في الدين كما قال سبحانه:" الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ" بل المراد أنهم قوم ليسوا بمتعصبين في مذهبهم، و لا يبغضونكم بل يناكحونكم و يوارثونكم و يخالطونكم، أو المعنى هم قوم يجوز لكم مناكحتهم و معاشرتهم يرثون منكم و ترثون منهم، فيكون السؤال عن حكمهم‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 211

لا عن وصفهم و تعيينهم، أو بين عليه السلام حكمهم ثم عرفهم بأنهم ليسوا بالمؤمنين إلى آخره، و المرجون لأمر الله هنا أعم من المستضعفين، و هذا معنى آخر غير ما مر.

 (الحديث السادس)

 (1): ضعيف على المشهور معتبر.

" الدين واسع"

 (2) أي لا يتحقق الخروج من دين الإسلام بقليل من العقائد و الأعمال كما هو مذهب الخوارج، حيث حكموا بكفر مرتكب المعاصي، و خاضوا في المسائل الدقيقة فجعلوها من أجزاء الإيمان.

قوله: و الإقرار،

 (3) كان الواو بمعنى مع، أو أشهد بتأويل أن المصدرية.

" و من ركب رقابكم"

 (4) أي استولى عليكم و ظلمكم‏

" و تأمر عليكم"

 (5) أي عد نفسه أميرا و حاكما عليكم يقال أمرته تأميرا فتأمر

" ما جهلت شيئا"

 (6) أي من الأصول الضرورية

" فهل سلم أحد"

 (7) أي من عذاب الله أو الخلود في النار، و أم أيمن مولاة رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم و هي من شهود فدك، و روى الخاصة و العامة عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنها من أهل الجنة، قال في المغرب: الأيمن خلاف الأيسر و هو جانب اليمنى أو من فيه، و به سمي أم أيمن حاضنة النبي صلى الله عليه و آله و سلم أي حافظته، و هو أخو

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 212

أسامة بن زيد لأمه، انتهى.

" و ما كانت تعرف ما أنتم عليه"

 (1) أي إمامة سائر الأئمة عليهم السلام سوى أمير المؤمنين عليه السلام و كانت معذورة في ذلك لعدم سماعها ذلك و عدم تمام الحجة عليها، فكذا المستضعف معذور لذلك أو صفات الأئمة و كمالهم، أو لم تكن تعرف ذلك بالدليل بل بالتقليد، و أما أصل معرفة إمامة أمير المؤمنين عليه السلام فعدم معرفتها ذلك بعيد جدا، و كون‏

أم أيمن‏

 (2) امرأة أخرى معروفة للمخاطب سوى الحاضنة فأبعد.

 (الحديث السابع)

 (3): صحيح.

" من عرف اختلاف الناس"

 (4) أي أصل الاختلاف فإنه يجب حينئذ طلب الحق عقلا و شرعا، أو المراد الفهم و الإدراك لا مجرد السماع، و لعله أظهر.

 (الحديث الثامن)

 (5): صحيح أيضا.

" إني ربما ذكرت"

 (6) أي نخاف أن يجعلنا الله بسبب ذنوبنا في درجة المستضعفين من المخالفين، أو يشق علينا أنهم مع كونهم مخالفين يدخلون الجنة و يكونون معنا في منازلنا، فقال عليه السلام: إن دخلوا الجنة لم يكونوا في درجاتكم و منازلكم، و الخبر الآتي يؤيد الأول.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 213

 (الحديث التاسع)

 (1): سنده الأول موثق و الثاني حسن كالصحيح.

 (الحديث العاشر)

 (2): حسن كالصحيح.

 (الحديث الحادي عشر)

 (3): ضعيف على المشهور.

 (الحديث الثاني عشر)

 (4): مجهول:

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 214

باب المرجون لأمر الله‏

 (1) في القاموس: أرجأ الأمر أخره و ترك الهمز لغة

" وَ آخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ"

 (2) مؤخرون حتى ينزل الله فيهم ما يريد، و منه سميت المرجئة و إذا لم تهمز فرجل مرجي بالتشديد و إذا همزت رجل مرجى‏ء كمرجع، و هم المرجئة بالهمز و المرجئة بالياء مخففة لا مشددة.

 (الحديث الأول)

 (3): ضعيف كالموثق.

" فقتلوا مثل حمزة و جعفر"

 (4) لعل ذكر ذلك للإشعار بأن هذه الأعمال الشنيعة صارت أسبابا لعدم استقرار الإيمان في قلوبهم، و عدم توفيقهم للإيمان الكامل، أو هذا دليل على عدم رسوخ الإيمان فيهم إما لأن من كانت شقاوته و تعصبه بحيث اجترأ على قتل أمثال هؤلاء معلوم أنه لو آمن لم يكن إيمانه عن يقين كامل و إذعان قوي أو لأن من كان الله فيه لطف لا يتركه حتى يصدر منه مثل هذا العمل الشنيع، و من لم يكن لله معه لطف لا يوفقه للإيمان الكامل كما أنا لا نجوز صدور التوبة و الإيمان عن قتلة الأنبياء و الأئمة صلوات الله عليهم، و هذا قريب من الوجه الأول و في غاية المتانة.

و قيل: لعل ذكر هذا القسم على سبيل التمثيل و يدل الحبر على أن قاتل حمزة لم تقبل توبته على الجزم و القطع، و المشهور بين العامة أنه قبل توبته و أمره‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 215

بالخروج عن المدينة، و قال: لا أستطيع أن أرى قاتل عمي، ثم بقي حتى قتل مسيلمة الكذاب.

 (الحديث الثاني)

 (1): ضعيف، و هو مثل الأول متنا.

و قيل: لعل المراد

بالإيمان‏

 (2) الإيمان المقتضي لدخول الجنة كما يشعر به التفريع، و هو الإيمان الكامل المستقر الموجب للأمن، و

بالكفر

 (3) الجحود الموجب لدخول النار، و على هذا يصدق المرجون على جميع الأقسام المذكورة سابقا.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 216

باب أصحاب الأعراف‏

 (1)

 (الحديث الأول)

 (2): موثق كالصحيح، و هو جزء من الحديث الثاني من باب الضلال.

 (الحديث الثاني)

 (3): ضعيف، و هو تتمة الحديث الثاني من الباب السابق و ذكره هنا يشعر بأن هذا الصنف عند المصنف من أهل الأعراف فهذه الأقسام عنده متداخلة.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 217

باب في صنوف أهل الخلاف‏

 (1)

 (الحديث الأول)

 (2): مرسل.

و قد عرفت أن القدرية تطلق على الجبرية و على التفويضية و كان المراد هنا الثاني، قال علي بن إبراهيم في تفسيره:

القدرية

 (3) المعتزلة، و الرد من القرآن عليهم كثير، لأن المعتزلة قالوا: نحن نخلق أفعالنا و ليس لله فيها صنع و لا مشية و لا إرادة، فيكون ما شاء إبليس و لا يكون ما شاء الله، انتهى.

و المراد

بالمرجئة

 (4) الذين يقولون الإيمان محض العقائد، و ليس للأعمال فيها مدخل أصلا، و لا يضر مع الإيمان معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، و لا تفاوت في إيمان الناس، قال صاحب الملل و النحل: الإرجاء على معنيين: أحدهما التأخير" قالُوا أَرْجِهْ وَ أَخاهُ" أي أمهله و أخره، و الثاني إعطاء الرجاء، أما إطلاق اسم المرجئة على الجماعة بالمعنى الأول صحيح، لأنهم كانوا يؤخرون العمل عن النية و العقد، و أما المعنى الثاني فظاهر فإنهم كانوا يقولون لا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة، و قيل: الإرجاء تأخير حكم صاحب الكبيرة إلى الآخرة فلا يقضي عليه بحكم في الدنيا من كونه من أهل الجنة أو من أهل النار، فعلى هذا المرجئة و الوعيدية فرقتان متقابلتان، و قيل: الإرجاء تأخير علي عليه السلام‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 218

عن الدرجة الأولى إلى الدرجة الرابعة، فعلى هذا المرجئة و الشيعة فرقتان متقابلتان، و المرجئة أربعة أصناف: مرجئة الخوارج و مرجئة القدرية، و مرجئة الجبرية، و المرجئة الخالصة، انتهى.

و قد مر بعض القول فيهم سابقا. و المراد هنا ما ذكرنا أولا فإنهم يحكمون بإيمان من آمن بالله و رسوله و إن قتلوا الأئمة و خيار المؤمنين، فهم راضون بذلك و لا يبالون به، و يحكمون بأن الله لا يعذب هؤلاء بفعلهم، و لذا سموا مرجئة لإرجاء تعذيبهم على المعاصي، و يمكن أن يكون المراد هنا مطلق المخالفين، فإنهم على أصولهم الفاسدة يصوبون قتل من خرج على خلفاء الجور، و لو كانوا من أئمة الدين و ذرية سيد المرسلين، فهم راضون بذلك، و ذكر الآية استشهاد بأن الراضي بالقتل و المصوب له حكمه حكم القاتل في الشقاوة و العقوبة.

ثم اعلم أن ذكر الآية نقل بالمعنى، و الآية في آل عمران هكذا:" الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ" و قال البيضاوي: هم كعب بن الأشرف و مالك و حيي و فنحاص و وهب بن يهودا، قالوا: إن الله أمرنا في التوراة و أوصانا بأن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بهذه المعجزة الخاصة التي كانت لأنبياء بني إسرائيل، و هو أن يقرب بقربان فيقوم النبي فيدعو فتنزل نار سماوية فتأكله، و هذا من مفترياتهم و أباطيلهم، لأن أكل النار القربان لم يوجب الإيمان إلا لكونه معجزة و سائر المعجزات شرع في ذلك‏

" قل قد جاءكم"

 (1) تكذيب و إلزام بأن رسلا جاءوهم بمثله قبله كزكريا و يحيى بمعجزات أخر موجبة للتصديق، و بما اقترحوه‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 219

فقتلوهم، فلو كان الموجب للتصديق هو الإتيان به و كان توقفهم و امتناعهم عن الإيمان لأجله، فما لهم لم يؤمنوا بمن جاء به في معجزات أخر و اجترءوا على قتله.

 (الحديث الثاني)

 (1): حسن.

و قد مر في باب الكفر، و

الملل‏

 (2) جمع الملة و هي الدين، و وصفها بالكفر و الشرك و عدم العبادة وصف مجازي لأن هذه الأوصاف لصاحب الملل حقيقة نسبت إلى الملل التي هي سبب لاتصاف صاحبها بها مبالغة في السببية، كما أن لعن تلك الملل مبالغة في لعن صاحبها أيضا، فالمراد

بلعنها

 (3) طردها عن طريق الحق و ساحة القبول و نيل الرحمة و دخول الجنة.

 (الحديث الثالث)

 (4): موثق.

و يحتمل أن يكون هذا الكلام في زمن بني أمية و أهل الشام من بني أمية و أتباعهم كانوا منافقين، يظهرون الإسلام، و يبطنون الكفر، و المنافقون شر من الكفار و هم في الدرك الأسفل من النار، و هم كانوا يسبون أمير المؤمنين عليه السلام و هو الكفر بالله العظيم، و النصارى لم يكونوا يفعلون ذلك، و يحتمل أن يكون هذا مبنيا على أن المخالفين غير المستضعفين مطلقا شر من سائر الكفار كما يظهر من كثير من الأخبار، و التفاوت بين أهل تلك البلدان باعتبار اختلاف رسوخهم في مذهبهم الباطل، أو على أن أكثر المخالفين في تلك الأزمنة كانوا نواصب منحرفين عن أهل البيت عليهم السلام، لا سيما أهل تلك البلدان الثلاثة، و اختلافهم في‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 220

الشقاوة باعتبار اختلافهم في شدة النصب و ضعفه، و لا ريب في أن النواصب أخبث الكفار و كفر أهل مكة جهرة هو إظهارهم عداوة أهل البيت عليهم السلام، و قد بقي بينهم إلى الآن، و يعدون يوم عاشوراء عيدا لهم بل من أعظم أعيادهم لعنة الله عليهم و على أسلافهم الذين أسسوا ذلك لهم.

و قيل: إنما نسب أهل مكة إلى الكفر لأنهم إذا عصوا أو عبدوا غير الله أو تولوا غير أولياء الله فقد ألحدوا و أشركوا، لقوله تعالى:" وَ مَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ" و روي في الصحيح عن أبي عبد الله عليه السلام في تفسير هذه الآية قال: من عبد فيه غير الله أو تولى فيه غير أولياء الله فهو ملحد بظلم، و على الله أن يذيقه من عذاب أليم.

 (الحديث الرابع)

 (1): كالسابق.

 (الحديث الخامس)

 (2): حسن.

 (الحديث السادس)

 (3): مجهول.

و كون المراد

بالمرجئة

 (4) هنا مطلق المخالفين أنسب لجمعية الملل، فإنهم‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 221

الذين في مللهم كثرة

" على شي‏ء من الأشياء"

 (1) أي على عبادة من العبادات أو على ملة من الملل.

باب المؤلفة قلوبهم‏

 (2)

 (الحديث الأول)

 (3): مرسل.

و قوله: أن محمدا

 (4)، متعلق بالمعرفة أي معرفة أن محمدا رسول الله، و يمكن أن يكون هذا أحد أقسام المؤلفة، و القسم الآخر أن يقروا بالرسالة و يشكوا في بعض ما جاء به كالولاية و قسمة الأموال و أمثال ذلك، و يحتمل أن يكون هذا الخبر شاملا للقسمين، أي لم يقروا بالرسالة كما هو حقها إما بنفيها رأسا أو بإثباتها مجملا، و الشك في بعض ما جاء به النبي من عند الله، فلا تنافي بين الأخبار.

" و يعرفهم"

 (5) أي رسالته بالبراهين و المعجزات‏

" لكيما يعرفوا"

 (6) و يعلمهم شرائع الدين، أو يعرفهم أصل الرسالة و يعلمهم أن ما أتى به هو من عند الله أو هو تأكيد، و قد يقرأ يعلمهم على بناء المعلوم أي و الحال أنه يعلمهم و يعرفهم، و قيل‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 222

الظاهر أن يعلمهم عطف على يعرفهم، و أن الضمير فيهما راجع إلى المؤلفة، و أن قوله لكيما يعرفوا على صيغة المجهول علة لهما، و المقصود أن إعطاءهم لأمرين أحدهما تأليف قلوبهم بالمال ليثبت إسلامهم و يستقر في قلوبهم، و ثانيهما أن يعرفهم و يعلمهم بأعيانهم لأصحابه حتى يعرفوهم بأنهم من الذين لم يثبت إيمانهم في قلوبهم، و أنهم مؤلفة، و لا يخفى ما فيه.

و اعلم أن المؤلفة قلوبهم صنف من أصناف مستحقي الزكاة قال تعالى:" إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ الْمَساكِينِ وَ الْعامِلِينَ عَلَيْها وَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ" و يظهر من هذه الأخبار أنهم قوم أظهروا الإسلام و لم يستقروا فيه، فهم إما منافقون أو شكاك جعل الله لهم حصة من الزكاة و الغنائم تأليفا لقلوبهم ليستقروا في الدين و يستعين بهم على جهاد المشركين، قال ابن الأثير في النهاية: في حديث حنين: إني أعطي رجالا حديثي عهد بكفر أتألفهم، التآلف المداراة و الإيناس ليثبتوا على الإسلام رغبة فيما يصل إليهم من المال، انتهى.

و المشهور بين أصحابنا أنهم كفار يستمالون للجهاد، و قال المفيد: المؤلفة قسمان مسلمون و مشركون، و قال العلامة في القواعد: المؤلفة قسمان كفار يستمالون إلى الجهاد أو إلى الإسلام، و مسلمون إما من ساداتهم لهم نظراء من المشركين إذا أعطوا رغب النظراء في الإسلام، و إما سادات مطاعون ترجى بعطائهم قوة إيمانهم، و مساعدة قومهم في الجهاد، و إما مسلمون في الأطراف إذا أعطوا منعوا الكفار من الدخول، و إما مسلمون إذا أعطوا أخذوا الزكاة من مانعيها، و قيل: المؤلفة الكفار خاصة.

و نقل الشهيد في الدروس عن أبي الجنيد أنه قال: المؤلفة هم المنافقون، و في مؤلفة الإسلام قولان أقربها أنهم يأخذون من سهم سبيل الله، و قال بعض‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 223

الأصحاب: للإمام أن يتألف هؤلاء إن شاء من سهم المؤلفة، و إن شاء من سهم المصالح، و سيأتي تمام القول فيه في كتاب الزكاة إن شاء الله تعالى.

 (الحديث الثاني)

 (1): حسن كالصحيح.

" و هم في ذلك"

 (2) أي مع ذلك، و قال في المصباح:

حنين‏

 (3) مصغرا واد بين مكة و الطائف، و هو مذكر منصرف، و قد يؤنث على معنى البقعة، و قصة حنين أن النبي صلى الله عليه و آله و سلم فتح مكة في رمضان سنة ثمان، ثم خرج منها- و قد بقيت من شهر رمضان أيام- لقتال هوازن و ثقيف، فسار إلى حنين، فلما التقى الجمعان انكشف المسلمون، ثم أمدهم الله بنصره فعطفوا و انهزم المشركون إلى أوطاس و غنم المسلمون، أموالهم و أهليهم ثم منهم من سار على نخلة اليمامة، و منهم من سلك الثنايا، و تبعت خيل رسول الله من سلك نخلة و يقال إنه صلى الله عليه و آله و سلم أقام عليها يوما و ليلة، ثم سار إلى أوطاس فاقتتلوا و انهزم المشركون إلى الطائف، و غنم المسلمون منها أيضا أموالهم و أولادهم، ثم سار إلى الطائف فقاتلهم بقية شوال، فلما أهل ذو القعدة رحل عنها راجعا فنزل الجعرانة و قسم بها غنائم أوطاس و حنين،

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 224

و قيل: كانت ستة آلاف سبي، انتهى.

و مضر

 (1) كزفر أبو قبيلة عظيمة، قريش شعبة منها، و في القاموس:

الجعرانة

 (2) و قد تكسر العين و تشدد الراء، و قال الشافعي: التشديد خطأ موضع بين مكة و الطائف، و في المصباح على سبعة أميال من مكة، و كان سبب غضب الأنصار أن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم فضل بعض قريش عليهم في العطاء تأليفا لقلوبهم‏

" فحط الله نورهم"

 (3) أي نور إيمانهم، و جعل درجة إيمانهم نازلة ناقصة فصاروا بحيث قالوا في السقيفة منا أمير و منكم أمير،

و فرض للمؤلفة قلوبهم سهما في القرآن‏

 (4) رغما لهم أو دفعا لاعتراضهم.

 (الحديث الثالث)

 (5): مرسل.

و المراد

بكثرتهم‏

 (6) أن أصناف المسلمين لما كثروا و تضاعف أطماعهم و قل الديانون منهم، كان هذا الصنف الذين كان يتألفهم رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم أكثر لا أن حكم التأليف جار في هذا الزمان، و يحتمل أن يكون المراد أن إمام الحق أيضا بحسب قدرته و بسط يده يفعل ذلك بهم، لأنهم عليهم السلام كان يعطون بعض المخالفين و المستضعفين لتأليف قلوبهم و دفع الضرر عنهم و عن شيعتهم، و أما أمير المؤمنين عليه السلام فالمعروف من سيرته أنه لم يكن مأمورا بذلك، بل كان يقسم‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 225

بالسوية، نعم كان يعطي الولايات بعض المنافقين كزياد بن أبيه و أمثاله بظاهر الإسلام، و يظهر من الأخبار أن القائم عليه السلام يسير بسيرة أمير المؤمنين عليه السلام و يعمل بمر الحق، فما ذكرنا أولا أظهر.

و اعلم أن الأصحاب اختلفوا في بقاء سهم المؤلفة في زمن الغيبة، و المشهور بينهم سقوطه، قال العلامة في النهاية: لو فرضت الحاجة إلى المؤلفة في يومنا بأن ينزل بالمسلمين نازلة و احتاجوا إلى الاستعانة بالكفار، فالأقوى عندي جواز صرف السهم إليهم، و فيه رد على بعض العامة، حيث قال: سهم المؤلفة لتكثير سواد الإسلام فلما أعزه الله و كثر أهله سقط، و لذلك لما تولى أبو بكر منع المؤلفة لكثرة المسلمين و عدم الحاجة إليهم، و لم يعلم أن إعطاءهم ليس لمحض الجهاد بل قد يكون لرسوخهم في الإسلام، أو لرغبة نظرائهم أو غير ذلك كما مر.

 (الحديث الرابع)

 (1): حسن كالموثق.

" فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا"

 (2) قيل: لما قسم رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم غنائم حنين و ألف قلوب المؤلفة بتوفير العطاء عليهم قال بعض المنافقين: اعدل يا رسول الله، قال: ويلك إن لم أعدل فمن يعدل؟ فنزل قوله تعالى" وَ مِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا" الآية أي منهم من يعيبك و ينسبك إلى الجور في تقسيمها، و قد أشار عليه السلام إلى أن المعترضين على الإمام لو ملك الأرض و قسم الغنائم على ما فرضه الله أكثر بكثير من المعترضين على النبي صلى الله عليه و آله و سلم، أو المعنى أن هؤلاء لو كانوا في ذلك الزمان كانوا من المعترضين، أو أن كل من تولى قسمة حق من الحقوق يرى ذلك فيهم، سواء كان من أئمة الحق أو نوابهم من علماء الدين يجدون ذلك في أكثر الناس،

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 226

و لا يخفى ذلك على من تصدى بشي‏ء من ذلك.

 (الحديث الخامس)

 (1): ضعيف.

و ظاهره بقاء سهم المؤلفة في سائر الأزمنة، و إن احتمل أن يكون المراد بالمؤمنين الأئمة عليهم السلام، و لا يبعد شموله لنوابهم عليهم السلام في زمن الغيبة، بناء على التعليل الوارد في تلك الأخبار، فإنه غير ما ذكره الأصحاب و الله يعلم.

باب في ذكر المنافقين و الضلال و إبليس في الدعوة

 (2)

 (الحديث الأول)

 (3): حسن كالصحيح.

" و إنما أمرت الملائكة"

 (4) الحصر ممنوع و إنما يتم لو قال الله تعالى: يا ملائكتي اسجدوا أو نحو ذلك، و ذلك غير معلوم لجواز أن يكون الخطاب اسجدوا مخاطبا لهم مشافهة بدون ذكر الملائكة، نعم في قوله تعالى:" وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ" تجوز لما ذكره عليه السلام أو تغليب، و المنافقون هم المقرون بالنبي ظاهرا و المنكرون‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 227

له باطنا، و

الضلال‏

 (1) هم المقرون به ظاهرا و باطنا إلا أنهم أخطأوا سبيل الحق و لم يعرفوا الحجة، فضلوا.

إذا عرفت هذا فنقول: لما علم الطيار أن المنافقين غير مؤمنين حقيقة لعدم اتصافهم بالإيمان و هو الإقرار باطنا، و كذا إبليس لم يكن من الملائكة و إن شاركهم في الصورة الظاهرة و المخالفة و الكون معهم، أحسن في المسألة و استفهم عن دخولهم في خطاب المؤمنين و عدمه ليجعله ذريعة إلى ما هو مقصوده، و لم يكن موهما للاعتراض على الله تعالى، أو إن أجاب عليه السلام بعدم الدخول كانت شبهته أقوى، و الأول أقرب إلى الأدب، فأجاب عليه السلام بأنهم داخلون في خطاب المؤمنين باعتبار أن المراد بالمؤمنين المؤمنون بحسب الظاهر.

ثم إنه عليه السلام لما علم بالإعجاز مقصوده من هذا السؤال صرح به و بين أن إبليس كان داخلا في خطاب الملائكة، باعتبار أن المراد بالملائكة من هو بصورتهم الظاهرة، فيشمل إبليس لأنه كان معهم و في صورتهم بحسب الظاهر، و الحاصل أن الأمر بالسجود من الله تعالى إنما توجه إلى من كان ظاهرا من الملائكة و مخلوطا بهم، و إن لم يكن منهم، و كان إبليس لا طاعته ظاهرا و إقراره بالدعوة الظاهرة مخلوطا معهم و معدودا منهم، كما أن المنافقين و إن لم يكونوا مؤمنين واقعا شملهم خطاب المؤمنين لكونهم ظاهرا في عدادهم.

و أقول: إن المخالفين اختلفوا في كون إبليس من الملائكة أو الجن، و المشهور بين أصحابنا الإمامية كونه من الجن، و ذهب الشيخ في التبيان إلى أنه كان من‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 228

الملائكة و ظاهر الآية و الأخبار المعتبرة كهذا الخبر هو الأول، و قد بسطنا القول في ذلك في كتابنا الكبير.

باب في قوله تعالى وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى‏ حَرْفٍ‏

 (1)

 (الحديث الأول)

 (2): حسن كالصحيح.

" وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى‏ حَرْفٍ"

 (3) في القاموس أي وجه واحد و هو أن يعبده على السراء و الضراء أو على شك أو على غير طمأنينة على أمره، أي لا يدخل في الدين متمكنا.

و قال البيضاوي: أي على طرف من الدين لإثبات له فيه، كالذي يكون على طرف الجيش إن أحس بظفر قر و إلا فر، روي أنها نزلت في أعاريب قدموا إلى المدينة فكان أحدهم إذا صح بدنه و نتجت فرسه مهرا سريا و ولدت امرأته غلاما سويا و كثر ماله و ماشيته، قال: ما أصبت منذ دخلت في ديني هذا إلا خيرا و اطمأن، و إن كان الأمر بخلافه قال: ما أصبت إلا شرا و انقلب.

و عن أبي سعيد أن يهوديا أسلم فأصابته مصائب فتشأم بالإسلام فأتى النبي‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 229

عليه السلام فقال: أقلني. فقال: إن الإسلام لا يقال، فنزلت.

قوله:" و شهدوا"

 (1) أي باللسان لا بالجنان بقرينة نسبة الشك إليهم في موضعين، و قال الجوهري:

تطيرت‏

 (2) من الشي‏ء و بالشي‏ء و الاسم منه الطيرة كالغيبة، و هو ما يتشأم به من الفال‏

" إلى الوقوف"

 (3) أي على الكفر أو التوقف في أمر الدين.

 (الحديث الثاني)

 (4): ضعيف كالموثق و سنده الثاني مرسل.

و الشكاك‏

 (5) بضم الشين و تشديد الكاف جمع شاك‏

" و قالوا ننظر"

 (6) جعلوا حصول المعافاة و كثرة الأموال و الأولاد دليلا على صدق الرسول و حقيته لزعمهم أن كل ما يورث ذلك فهو مبارك و كل ما هو بخلافه فهو شؤم، و لم يعلموا أن نزول البلايا و المصائب على المؤمنين من لدن آدم عليه السلام إلى آخر الدهر كان أكثر من نزولها على غيرهم، و أن بناءه كأصل التكليف على الاختيار و الامتحان، و قد

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 230

أشار إليه عز و جل بقوله:" وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْ‏ءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَ الْجُوعِ وَ نَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَ الْأَنْفُسِ وَ الثَّمَراتِ وَ بَشِّرِ الصَّابِرِينَ" إلى قوله:" وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ".

" انقلب على وجهه"

 (1) كأنه عليه السلام فسر الوجه بالحالة التي هو عليها أي رجع من حالة الشك إلى الشرك، أو بسبب تلك الحالة إلى الشرك، أو يكون بيانا لحاصل المعنى أي رجع إلى الجهة التي أتى منه، و الحاصل أنه ينتقل من شكه في رسول الله بعد نزول البلايا إلى الشرك بالله.

" خَسِرَ الدُّنْيا وَ الْآخِرَةَ"

 (2) أما خسرانه في الدنيا فلورود البلايا عليه و ذهاب عصمته، و أما خسرانه في الآخرة فلحبوط عمله بالارتداد، و

ذلك هو الخسران المبين‏

 (3) لخسرانه في منافع الدارين جميعا

" يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَ ما لا يَنْفَعُهُ"

 (4) أي يعبد جمادا لا يضر بنفسه و لا ينفع‏

" فمنهم من يعرف"

 (5) قسم عليه السلام من خرج عن الشرك و شك في محمد صلى الله عليه و آله و سلم و ما جاء به على ثلاثة أقسام، فمنهم من يعرف رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم و يقربه ظاهرا و باطنا و يزول عنه الشك بمشاهدة الآيات و المعجزات و الهدايات الخاصة،

و منهم من يثبت على شكه‏

 (6) فيه و يقيم عليه،

و منهم من ينتقل‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 231

 (1) من الشك إلى الشرك.

باب نادر

 (2) و في بعض النسخ: باب أدنى ما يكون به العبد مؤمنا أو كافرا أو ضالا.

 (الحديث الأول)

 (3): مختلف فيه معتبر عندي.

و مفعول‏

يقول‏

 (4) محذوف يدل عليه، فقال له قد سألت، إلى آخر الكلام.

" أن يعرفه الله تعالى نفسه"

 (5) تعريف الرب يتحقق بما أظهر من آيات وجوده و قدرته و علمه و حكمته و سائر صفاته الكمالية و الفعلية في الآفاق و الأنفس، و يتحقق تعريف النبي بما خصه من المعجزات البينات و الأفعال الخارقة للعادات، و يتحقق تعريف الحجة بالنصوص النبوية و العلوم الدينية و المعجزات الجلية و الكرامات العلية، و المراد بالإقرار الإقرار بالجنان أو الأعم منه و من الإقرار باللسان، و ظاهره أن الإيمان هو التصديق و الإذعان مع الإقرار الظاهري و قد مر أنه يشترط فيه عدم فعل ما يتضمن الإنكار، و أما اشتراط الأعمال الصالحة

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 232

و ترك المعاصي فالمشهور أنها شرط لكمال الإيمان و قد مر الكلام فيه مفصلا.

" من زعم"

 (1) أي حال من زعم أن الله أمر به، ظاهره أن الابتداع في الدين يوجب الكفر، فلو كان في أصول الدين أو متضمنا لإنكار بعض ضرورياته فلا ريب فيه، و منه إنكار إمامة أحد من الأئمة عليهم السلام، و أما إذا كان في الفروع و لم يكن ضروريا للدين فالكفر بالمعنى الذي يطلق على أصحاب الكبائر

" و يزعم أنه يعبد الذي أمره به"

 (2) أي يزعمه و هو الرب تعالى و إلا فالآمر و المعبود واحد و هو الشيطان‏

" أن لا يعرف حجة الله"

 (3) عدم معرفة الحجة و إن كان أعم من الاعتقاد بعدم كونه حجة و من عدم الاعتقاد مطلقا، لكن المراد هنا هو الثاني لأن الأول كفر، و من قدم الطاغوت على الحجة فهو داخل في الأول، و في الكلام السابق إشعار به.

" أطيعوا الله" إلخ‏

 (4) حذف مفعول الإطاعة للدلالة على التعميم، فوجب إطاعة أولي الأمر في جميع الأمور كما وجب إطاعة الله و إطاعة رسوله فيها، فلا يجوز أن يراد بأولى الأمر السلطان الجائر، بل غير المعصوم مطلقا، إذ لا يجوز إطاعته في أكثر الأمور، و قد مر تفصيله في باب ما نص الله و رسوله على الأئمة عليهم السلام.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 233

" إني قد تركت فيكم أمرين"

 (1) لو كان لهذه الأمة متمسك غيرهما لذكره، و الحديث متفق عليه بين الخاصة و العامة، و عدم الافتراق باعتبار أن الكتاب يدل على إمامتهم، و هم يشهدون بحقية الكتاب و يثبتونه، أو أن تمام القرآن لفظا و تفسيره و تأويله معنى عندهم فهما لا يفترقان، أو هما متساوقان في الشرف و الفضل و الحجية، و كونهما وسيلة لنجاة الأمة، أو أنهما متحدان حقيقة، و قد قال أمير المؤمنين عليه السلام أنا كلام الله الناطق و سيأتي تحقيق ذلك في كتاب القرآن إنشاء الله.

و قيل: أي لن يفترقا في وجوب التمسك و الحجية فلو كان علي عليه السلام حجة بعد الثلاث و قد كان القرآن حجة بعد النبي بلا فصل لزم الافتراق و أنه باطل.

" و لا تقدموهم"

 (2) أي لا تتقدموهم، و الضمير للعترة و قد يقال أنه من باب التفعيل و الضمير للغاصبين الثلاثة، و لا يخفى بعده.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 234

باب أي نادر

 (1)

 (الحديث الأول)

 (2): ضعيف.

" أطلقوا للناس"

 (3) قال والد شيخنا البهائي قدس سره: قيل: في معناه أن المراد أطلقوهم و لم يكلفوهم تعليم الإيمان، و جعلوهم فارغين من ذلك لأنهم لو حملوهم و كلفوهم تعليم الإيمان لما عرفوه، و ذلك إنما هو أهل البيت عليهم السلام و هم أعداء أهل البيت، فكيف يكلفون الناس تعليم شي‏ء يكون سببا لزوال دولتهم و حكمهم و زيادتهم بخلاف الشرك، و لا يخفى بعده، بل الظاهر أن المراد أنهم لم يعلموهم ما يخرجهم من الإسلام من إنكار نص النبي و الخروج على أمير المؤمنين عليه السلام و سبه و إظهار عداوة النبي و أهل بيته و غير ذلك، لئلا يأبوا عنها إذا حملوهم عليها، و لم يعرفوا أنها شرك و كفر.

و بعبارة أخرى يعني أنهم لحرصهم على إطاعة الناس إياهم اقتصروا لهم على تعريف الإيمان و لا يعرفوهم معنى الشرك لكي إذا حملوهم على إطاعتهم إياهم لم يعرفوا أنها من الشرك فإنهم إذا عرفوا أن إطاعتهم شرك لم يطيعوهم.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 235

باب ثبوت الإيمان و هل يجوز أن ينقله الله‏

 (1)

 (الحديث الأول)

 (2): صحيح.

" لم ينقله الله"

 (3) لعل المراد أن الله لم ينقله بل ينتقل هو بنفسه، أو المعنى أن ما ينقله الله يظهر أنه لم يكن مؤمنا باطنا عند الله و تفصيله أنه سأل عن سبب نقل ثابت الإيمان منه إلى الكفر إلا أنه نسب النقل إلى الله عز و جل مجازا باعتبار خذلانه له و سلب لطفه و توفيقه منه، أو عن سبب نقله عز و جل إياه حقيقة لزعمه أن الكفر و الإيمان من فعله عز و جل.

و الجواب على الأول أن الله عادل و من عدله أنه دعا الناس إلى الإيمان لا إلى الكفر، فمن آمن به و ثبت إيمانه في علمه لم ينقله من الإيمان إلى الكفر، و لم يسلب عنه لطفه و توفيقه أبدا و هو يخرج من الدنيا مؤمنا، و ما قد يتفق من نقل المؤمن إلى الكفر فإنما هو إذا كان الإيمان مستودعا غير ثابت.

و على الثاني أنه تعالى عادل لا يجور، و لو كان الإيمان و الكفر و النقل من الأول إلى الثاني من فعله تعالى لزم الجور و الظلم، و إنما فعله دعاء الناس إلى الإيمان لا إلى الكفر و هدايتهم إلى منافع الأول و مضار الثاني، فمن آمن به و ثبت له‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 236

الإيمان و استقر في قلبه لم ينقله إلى الكفر، و لم يسلب عنه توفيقه.

" و قلت له: فيكون الرجل كافرا"

 (1) يحتمل الخبر و الاستفهام، أما الأول فظاهر، و أما الثاني فلان السائل لما علم بالجواب المذكور أن من ثبت إيمانه لم ينقله الله إلى الكفر بسلب التوفيق عنه، سأل عن حال من ثبت كفره هل ينقله الله من الكفر إلى الإيمان بهذا التوفيق و اللطف أم لا؟ و انطباق الجواب على الأول ظاهر، لإشعاره بأنه ممن هداه لعدم إبطاله الفطرة الأصلية بالكلية، فلذلك تداركته العناية الإلهية، و أما انطباقه على الثاني ففيه خفاء إذ لم يصرح عليه السلام بما سأله عنه إلا أنه أشار إلى تقرير قاعدة كلية للتنبيه على أن المقصود الأهم هو معرفتها و التصديق بها.

و هي أن الله تعالى خلق الناس على نحو من الفطرة، و هي كونهم قابلين للخير و الشر و هداهم إليها ببعث الرسل، و هم يدعونها إلى الإيمان و إلى سبيل الخير، و ينهونهم عن سبيل الكفر و الشر، فمنهم من هداه الله عز و جل بالهدايات الخاصة لعدم إبطاله الفطرة الأصلية و تفكره في أنه من أين جاء و إلى أين نزل، و أي شي‏ء يطلب منه، و استماعه إلى نداء الحق، فإنه عند ذلك يتلقاه اللطف و التوفيق و الرحمة، كما قال عز و جل:" وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا".

و منهم من لم يهده الله عز و جل‏

 (2) لإبطاله فطرته و عدم تفكره فيما ذكر و إعراضه عن سماع نداء الحق، فيسلب عنه الرحمة و اللطف و التوفيق، و هو المراد من عدم هدايته له.

و قد أشار عليه السلام بتقرير هذه المقدمة إلى أن الواجب عليكم أن تعلموا و تصدقوا بأن كل من آمن به فإنما آمن لأجل هدايته الخاصة، و كل من‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 237

لم يؤمن به فلفقد استحقاقه تلك الهداية كذا قيل.

و أقول: الظاهر أن كلام السائل استفهام، و حاصل الجواب أن الله تعالى خلق العباد على الفطرة قابلة للإيمان، و أتم على جميعهم الحجة بإرسال الرسل و إقامة الحجج، فليس لأحد منهم حجة على الله في القيامة و لم يكن أحد منهم مجبورا على الكفر لا بحسب الخلقة و لا من تقصير في الهداية، و إقامة الحجة، لكن بعضهم استحق الهدايات الخاصة منه تعالى، فصارت مؤيدة لإيمانهم و بعضهم لم يستحق ذلك لسوء اختياره، فمنعهم تلك الألطاف فكفروا و مع ذلك لم يكونوا مجبورين و لا مجبولين على الكفر، و هذا معنى الأمر بين الأمرين كما عرفت مرارا.

و يحتمل أن يكون المراد بقوله: فمنهم من هدى الله، منهم من اهتدى بتلك الهداية العامة، و منهم من لم يهده الله أي لم يهتد بتلك الهداية، و هذا أوفق بمسلك المتكلمين، و الأول أنسب بسائر الأخبار و الله أعلم بحقيقة الأسرار.

ثم اعلم أنه اختلف أصحابنا في أنه هل يمكن زوال الإيمان بعد تحققه حقيقة أم لا، قال الشهيد الثاني قدس سره في رسالة حقائق الإيمان: المؤمن بعد اتصافه بالإيمان الحقيقي في نفس الأمر هل يمكن أن يكفر أم لا؟ و لا خلاف أنه لا يمكن ما دام الوصف، و إنما النزاع في إمكان زواله بضد أو غيره، فذهب أكثر الأصوليين إلى جواز ذلك بل إلى وقوعه، و ذلك لأن زوال الضد بطريان ضده أو مثله على القول بعدم اجتماع الأمثال أمر ممكن، لأنه لا يلزم من فرض وقوعه محال.

لا يقال: نمنع عدم لزوم المحال من فرض وقوعه و ذلك لأن زوال الضد

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 238

بطريان الآخر يلزم منه الترجيح من غير مرجح، بل ترجيح المرجوح لأن الضد الموجود راجح الوجود لوجوده، و المعدوم مرجوح فكيف يترجح على الراجح و كلاهما محال؟ و كذا الحكم في الأمثال.

لأنا نقول: المرجح موجود و هو الفاعل المختار القادر على الإيجاد و الإعدام، حتى في الحقائق الوجودية فكيف بالحقائق الاعتبارية و لا ريب أن الإيمان و الكفر حقيقتان اعتباريتان للشارع، فاعتبر الاتصاف بالإيمان عند حصول عقائد مخصوصة، و انتفائه عند انتفائها، و كلاهما مقدوران للمعتقد، و ظاهر كثير من الآيات الكريمة دال عليه، كقوله تعالى:" إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً" و قوله تعالى:" يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ".

و ذهب بعضهم إلى عدم جواز زوال الإيمان الحقيقي بضد أو غيره، و نسب ذلك إلى السيد المرتضى رضي الله عنه مستدلا بأن ثواب الإيمان دائم و الإحباط و الموافاة عنده باطلان.

أما الإحباط فلاستلزام أن يكون الجامع بين الإحسان و الإساءة بمنزلة من لم يفعلهما مع تساويهما، أو بمنزلة من لم يحسن إن زادت الإساءة و بمنزلة من لم يفعلهما مع تساويهما، أو بمنزلة من لم يحسن إن زادت الإساءة و بمنزلة من لم يسي‏ء مع العكس، و اللازم بقسميه باطل قطعا فالملزوم مثله.

و أما الموافاة فليست عندنا شرطا في استحقاق الثواب بالإيمان لأن وجوه الأفعال و شروطها التي يستحق بها ما يستحق لا يجوز أن يكون منفصلة عنها و لا متأخرة عن وقت حدوثها، و الموافاة منفصلة عن وقت حدوث الإيمان، فلا يكون‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 239

وجها و لا شرطا في استحقاق الثواب، لا يقال: الثواب إنما يستحقه العبد على الفعل كما هو مذهب العدلية، و الإيمان ليس فعلا للعبد و إلا لما صح الشكر عليه، لكن التالي باطل إذ الأمة مجتمعة على وجوب شكر الله تعالى على نعمة الإيمان، فيكون الإيمان من فعل الله تعالى إذ لا يشكر على فعل غيره، و إذا لم يكن من فعل العبد فلا يستحق عليه ثوابا فلا يتم دليله على أنه لا يتعقبه كفر لأن مبناه على استحقاق الثواب على الإيمان، لأنا نقول: هو من فعل العبد و نلتزم عدم صحة الشكر عليه، و نمنع بطلانه.

قولك في إثباته: الأمة مجتمعة" إلخ" قلنا: الشكر إنما هو على مقدمات الإيمان و هي تمكين العبد من فعله و أقداره عليه، و توفيقه على تحصيل أسبابه، و توفيق ذلك له لا على نفس الإيمان الذي هو فعل العبد، فإن ادعى الإجماع على ذلك سلمناه و لا يضرنا، و إن ادعى الإجماع على غيره منعناه فلا ينفعهم.

و الاعتراض عليه رحمه الله من وجوه:" أحدها" توجه المنع إلى المقدمة القائلة بأن الموافاة ليست شرطا في استحقاق الثواب و ما ذكره في إثباتها من أن وجوه الأفعال و شروطها التي يستحق بها ما يستحق لا يجوز أن يكون منفصلة عنها، و الموافاة منفصلة عن وقت الحدوث فلا يكون وجها، لا دلالة له على ذلك بل إن دل فإنما يدل على أن الموافاة ليست من وجوه الأفعال، لكن لا يلزم من ذلك أن لا يكون شرطا لاستحقاق الثواب، فلم لا يجوز أن يكون استحقاق الثواب مشروطا بوجوه الأفعال مع الموافاة أيضا، لا بد لنفي ذلك من دليل.

ثانيها: الآيات الكريمة التي مر بعضها فإنها تدل على إمكان عروض الكفر بعد الإيمان، بل بعضها على وقوعه، و أجاب السيد عن ذلك بأن المراد و الله أعلم من وصفهم بالإيمان الإيمان اللساني دون القلبي، و قد وقع مثله كثيرا في القرآن‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 240

العزيز، كقوله تعالى:" آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ" و حيث أمكن صحة هذا الإطلاق و لو مجازا سقط الاستدلال بها.

ثالثها: أن الشارع جعل للمرتد أحكاما خاصة به لا يشاركه فيها الكافر الأصلي كما هو مذكور في كتب الفروع و هذا أمر لا يمكن دفعه، و لا مدخل للطعن فيه، فإن الكتاب العزيز و السنة المطهرة ناطقان بذلك، و الإجماع واقع عليه كذلك، و لا ريب أن الارتداد هو الكفر المتعقب للإيمان، كما دل عليه قوله تعالى:" مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَ هُوَ كافِرٌ" الآية، فقد دل على ما ذكرناه من أن المؤمن يمكن أن يكفر.

أقول: و للسيد رحمه الله أن يجيب عن ذلك بأن ما ذكرناه إنما يدل على أن من اتصف في ظاهر الشرع بالارتداد فحكمه كذا و كذا، و لا يدل على أنه صار مرتدا بذلك في نفس الأمر، فلعله كان كافرا في الأصل، و حكمنا بأنه ظاهرا للإقرار بما يوجب الإيمان مع بقائه على كفره عند الله تعالى، و بفعله ما يوجب الارتداد ظاهرا حكمنا بارتداده، أو كان مؤمنا في الأصل و هو باق على إيمانه عند الله تعالى، لكن لاقتحامه حرمات الشارع و تعديه هذه الحدود العظيمة جعل الشارع الحكم بالارتداد عليه عقوبة له لتنحسم بذلك مادة الاقتحام و التعدي من المكلفين فيتم نظام النواميس الإلهية.

و أقول: الحق أن المعلومات التي يتحقق الإيمان بالعلم بها أمور متحققة ثابتة لا تقبل التغير و التبدل، إذ لا يخفى أن وحدة الصانع تعالى و وجوده و أزليته و أبديته و علمه و قدرته و حياته إلى غير ذلك من الصفات أمور تستحيل تغيرها، و كذا كونه تعالى عدلا لا يفعل قبيحا و لا يخل بواجب، و كذا النبوة و المعاد،

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 241

فإذا علمها الشخص على وجه اليقين و الثبات بحيث صار علمه بها كعلمه بوجود نفسه غير أن الأولى نظري و الثاني بديهي لكن لما كان النظري إنما يصير يقينيا بانتهائه إلى البديهي و لم يبق فرق بين العلمين امتنع تغير ذلك العلم و تبدله كما يمتنع تغير علمه بوجود نفسه.

و الحاصل أن العلم إذا انطبق على المعلوم الحقيقي الذي لا يتغير أصلا فمحال تغيره، و إلا لما كان منطبقا، فعلم أن ما يحصل لبعض الناس تغيير عقيدة الإيمان لم يكن بعد اتصاف أنفسهم بما ذكرناه من العلم، بل كان الحاصل لهم ظنا غالبا بتلك المعلومات لا العلم بها، و الظن يمكن تبدله و تغيره و إن كان المظنون لا يمكن تبدله لأن الانطباق غير حاصل، و إلا لصار علما.

إن قلت: يتصور زوال الإيمان بصدور بعض الأفعال الموجبة للكفر كما تقدم، و إن بقي التصديق اليقيني بالمعارف المذكورة فقد صح أن المؤمن قد يكفر بعد اتصافه بالإيمان.

قلت: لا نسلم إمكان صدور فعل يوجب الكفر ممن اتصف بالعلم المذكور، بل صار ذلك الفعل ممتنعا بالغير الذي هو العلم اليقيني و إن أمكن بالذات و حينئذ فصدور بعض الأفعال المذكورة إنما كان لعدم حصول العلم المذكور، و بالجملة فكلام علم الهدى و مذهبه هنا رضي الله عنه في غاية القوة و المتانة بعد تدقيق النظر.

و قد ظهر مما حررناه أن القائلين بإمكان زوال الإيمان لعروض الكفر إن أرادوا به إمكان زوال العلم بالأمور المذكورة فظاهر أنه ممتنع بالذات، كانقلاب الحقائق، و إن أرادوا به إمكان انتفاء الإيمان لعروض شي‏ء من الأفعال و إن بقي العلم فقد بينا أنه ممتنع بالغير، فإن أرادوا بالإمكان على هذا التقدير الإمكان الذاتي فلا نزاع لأحد فيه، و إن أرادوا به عدم الامتناع و لو بالغير فقد بينا منعه و امتناعه.

و بالجملة فظواهر كثير من الآيات الكريمة و السنة المطهرة تدل على‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 242

إمكان طرو الكفر على الإيمان، و على هذا بناء أحكام المرتدين و هو مذهب أكثر المسلمين، نعم في الاعتبار ما يدل على عدم جواز طروه عليه كما أشرنا إليه إن جعلنا الإيمان عبارة عن التصديق مع الإقرار أو حكمه، لكن الأول هو الأرجح في النفس، انتهى كلامه رفع الله مقامه.

و أقول: الحق أن الإيمان إذا بلغ حد اليقين فلا يمكن زواله، و لكن بلوغه إلى هذا الحد نادر، و تكليف عامة الخلق بها في حرج، بل الظاهر أنه يكفي في أيمان أكثر الخلق الظن القوي الذي يطمئن به النفس، و زوال مثل ذلك ممكن، و درجات الإيمان كثيرة كما عرفت، ففي بعضها يمكن الزوال و العود إلى الشك، بل إلى الإنكار، و هو إيمان المعاد، و في بعضها لا يمكن الزوال لا بالقول و لا بالعقيدة و لا بالفعل، و في بعضها يمكن الزوال بالقول و الفعل مع عدم زوال الاعتقاد كقوم من الكفرة كانوا يعتقدون صدق الرسول صلى الله عليه و آله و سلم و كانوا يعاندون و ينكرون أشد الإنكار للأغراض الفاسدة و المطالب الدنيوية كأبي جهل و أضرابه، و كثير من الصحابة رأوا نصب علي عليه السلام في يوم الغدير، و سمعوا النص عليه في سائر المواطن، و غلبت عليهم الشقاوة و حب الدنيا، و أنكروا ذلك.

فلو قيل باشتراط الجزم في الإيمان و عدم إمكان زوال اليقين فلا ريب في أنه مشروط بعدم الإنكار ظاهرا كما قال تعالى:" وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ" فيمكن حصول الارتداد و زوال الإيمان بالإنكار الظاهري أو فعل ما حكم الشارع بحصول الكفر عنده كسجود الصنم، و قتل النبي أو الإمام و إلقاء المصحف في القاذورات و الاستخفاف بالمصحف أو الكعبة، و أمثال ذلك.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 243

باب المعارين‏

 (1)

 (الحديث الأول)

 (2): صحيح.

" خلق خلقا للإيمان"

 (3) قيل: اللام لام العاقبة أي خلق خلقا عاقبتهم الإيمان في العلم الأزلي لا زوال لإيمانهم و هم الأنبياء و الأوصياء و التابعون لهم من المؤمنين الثابتين على الإيمان، و خلق خلقا عاقبتهم الكفر في علمه عز و جل، و خلق خلقا مترددين بين الإيمان و الكفر، مستضعفين في علمه، فمن آمن منهم كان إيمانه مستودعا فإن يشأ الله أن يتم لهم بحسن استعدادهم و إقبالهم إلى الله عز و جل أتمه بفضله و توفيقه، و جعله ثابتا مستقرا فيهم و إن يشأ أن يسلبهم إياه لزوال استعدادهم الفطري و فساد استعدادهم الكسبي سلبهم و رفع عنهم توفيقهم، و يفهم بالمقايسة حال من كفر منهم.

و أقول: من علم أنهم يموتون على الإيمان كان ينبغي أن يدخلهم في القسم الأول على هذا الوجه، و من علم أنهم يموتون على الكفر في القسم الثاني، بل الأحسن أن يقال: لما علم الله سبحانه استعدادتهم و قابلياتهم و ما يؤول إليه أمرهم و مراتب إيمانهم و كفرهم، فمن علم أنهم يكونون راسخين في الإيمان كاملين فيه و خلقهم فكأنه خلقهم للإيمان الكامل الراسخ، و كذا الكفر، و من علم أنهم يكونون متزلزلين مترددين بين الإيمان و الكفر، فكأنه خلقهم كذلك فهم مستعدون لإيمان ضعيف، فمنهم من يختم له بالإيمان، و منهم من يختم له بالكفر فهم المعارون،

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 244

و الظاهر أن المراد بفلان أبو الخطاب و كنى عنه بفلان لمصلحة، فإن أصحابه كانوا جماعة كثيرة كان يحتمل ترتب مفسدة على التصريح باسمه.

و يحتمل أن يكون كناية عن ابن عباس فإنه قد انحرف عن أمير المؤمنين عليه السلام و ذهب بأموال البصرة إلى الحجاز، و وقع بينه عليه السلام و بينه مكاتبات تدل على شقاوته و ارتداده كما ذكرته في الكتاب الكبير، و التقية فيه أظهر، لكن سيأتي التصريح بأبي الخطاب في خبر شلقان، و على التقديرين‏

" منهم"

 (1) خبر كان، و ضمير الجمع للخلق بين ذلك، و

معارا

 (2) خبر بعد خبر، و قيل: فلان كناية عن عثمان، و الضمير للخلفاء الثلاثة، و الظرف حال عن فلان، و معارا خبر كان، و لا يخفى بعده لفظا و معنى، فإن الثلاثة كانوا كفرة لم يؤمنوا قط.

 (الحديث الثاني)

 (3): صحيح.

" ثم يسلبونه"

 (4) يدل على أن السلب متعد إلى مفعولين بخلاف ما يظهر من كتب اللغة، و يومئ إليه أيضا تمثيلهم لبدل الاشتمال بقولهم سلب زيد ثوبه، إذ لو كان متعديا إلى مفعولين لما احتاج إلى البدلية لكن لا عبرة بقولهم بعد وروده في كلام أفصح الفصحاء.

 (الحديث الثالث)

 (5): حسن كالصحيح.

و في المصباح‏

البهمة

 (6) ولد الضأن، يطلق على الذكر و الأنثى و الجمع بهم، مثل‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 245

تمرة و تمر، و جمع البهم بهام مثل سهم و سهام، و تطلق البهام على أولاد الضأن و المعز إذا اجتمعت تغليبا، فإذا انفردت قيل: لأولاد الضأن بهام و لأولاد المعز سخال، و قال ابن فارس: البهم صغار الغنم، و قال أبو زيد: يقال لأولاد الغنم ساعة تضعها الضأن أو المعز، ذكرا كان الولد أو أنثى سخلة، ثم هي بهمة و الجمع بهم، و قال: الغلام الابن الصغير.

و أبو الخطاب‏

 (1) هو محمد بن مقلاص الأسدي الكوفي و كان في أول الحال ظاهرا من أجلاء أصحاب الصادق عليه السلام ثم ارتد و ابتدع مذاهب باطلة، و لعنه الصادق عليه السلام و تبرأ منه.

و روى الكشي روايات كثيرة تدل على كفره و لعنه، فمنها ما رواه عن الصادق عليه السلام أنه قال: اللهم العن أبا الخطاب فإنه خوفني قائما و قاعدا و على فراشي، اللهم أذقه حر الحديد.

و روى بإسناده عن حنان بن سدير قال: كنت جالسا عند أبي عبد الله عليه السلام و ميسر عنده فقال له ميسر: جعلت فداك عجبت لقوم كانوا يأتون معنا إلى هذا الموضع فانقطعت آثارهم و فنيت آجالهم، قال: و من هم؟ قال: أبو الخطاب و أصحابه و كان متكئا فجلس فرفع إصبعيه إلى السماء ثم قال: على أبي الخطاب لعنة الله و الملائكة و الناس أجمعين، فأشهد بالله أنه كافر فاسق مشرك، و أنه يحشر مع فرعون في أشد العذاب غدوا و عشيا ثم قال: أما و الله إني لأنفس على أجساد أصبت معه.

و عنه عليه السلام قال: تراءى و الله إبليس لأبي الخطاب على سور المدينة و المسجد و كأني أنظر إليه و هو يقول: أيها تظفر الآن، أيها تظفر الآن، انتهى.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 246

و روي أنه كان يدعي ألوهية الصادق عليه السلام و يدعي أنه نبي من قبله على أهل الكوفة، و به يتأول قوله تعالى:" وَ هُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَ فِي الْأَرْضِ إِلهٌ" و اختلف الأصحاب فيما رواه في حال استقامته و الأكثر على جواز العمل بها، و كأنه متفرع على المسألة السابقة فمن ادعى جواز تحقق الإيمان و زواله يجوز العمل بروايته، لأنه حينئذ كان مؤمنا و من زعم أنه كاشف عن عدم كونه مؤمنا لا يجوز العمل بها.

" أنه نبعة نبوة"

 (1) أي عمله من ينبوع النبوة أو هو غصن من شجرة النبوة و الرسالة، في القاموس: نبع الماء ينبع مثلثة نبعا و نبوعا خرج من العين، و النبع شجر للقسي و السهام ينبت في قلة الجبل.

و أقول: روى الكشي بسند صحيح عن شلقان قال: قلت لأبي الحسن عليه السلام و هو يومئذ غلام قبل أوان بلوغه: جعلت فداك ما هذا الذي نسمع من أبيك أنه أمرنا بولاية أبي الخطاب ثم أمرنا بالبراءة منه؟ قال: فقال أبو الحسن عليه السلام من تلقاء نفسه: إن الله خلق الأنبياء على النبوة فلا يكونون إلا أنبياء، و خلق المؤمنين على الإيمان فلا يكونون إلا مؤمنين، و استودع قوما إيمانا فإن شاء أتمه و إن شاء سلبهم إياه و إن أبا الخطاب كان ممن أعاره الله الإيمان، فلما كذب على أبي، سلبه الله الإيمان، قال: فعرضت هذا الكلام على أبي عبد الله عليه السلام قال: فقال:

لو سألتنا عن ذلك ما كان يكون عندنا غير ما قال.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 247

 (الحديث الرابع)

 (1): مجهول.

و قال تعالى:" وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَ مُسْتَوْدَعٌ" قال البيضاوي: أي فلكم استقرار في الأصحاب أو فوق الأرض، و استيداع في الأرحام أو تحت الأرض، أو موضع الاستقرار و الاستيداع، و قرأ ابن كثير و البصريان بكسر القاف على أنه اسم فاعل، و المستودع مفعول أي فمنكم قار و منكم مستودع، لأن الاستقرار منا دون الاستيداع، انتهى.

و لعل تأويله عليه السلام أنسب بالقراءة الأخيرة، أي فمنكم إيمانه مستقر أي ثابت، و بعضكم إيمانه مستودع، أو بعضكم مستقر في الإيمان و بعضكم غير مستقر بل مستودع اسم مفعول أو اسم مكان، و على القراءة الأولى اسم مكان، أي بعضكم محل استقرار الإيمان، و المستودع يحتمل الوجهين.

قوله: سلب إيمانه‏

 (2)، يحتمل بناء المفعول و الفاعل، و على الثاني ذلك إشارة إلى الكذب.

 (الحديث الخامس)

 (3): مجهول.

و في القاموس:

جبلهم‏

 (4) الله يجبل خلقهم، و على الشي‏ء طبعه و جبره كأجبله،

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 248

" فإذا هو دعا"

 (1) فيه حث على الدعاء لحسن العاقبة و عدم الزيغ، كما كان دأب الصالحين قبلنا، و فيه دلالة أيضا على أن الإيمان و السلب مسببان عن فعل الإنسان، لأنه يصير بذلك مستحقا للتوفيق و الخذلان.

و جملة القول في ذلك أن كل واحد من الإيمان و الكفر قد يكون ثابتا و قد يكون متزلزلا يزول بحدوث ضده لأن القلب إذا اشتد ضياؤه و كمل صفاؤه استقر الإيمان و كل ما هو حق فيه، و إذا اشتدت ظلمته و كملت كدورته استقر الكفر و كل ما هو باطل فيه، و إذا كان بين ذلك باختلاط الضياء و الظلمة فيه كان مترددا بين الإقبال و الأدبار، و مذبذبا بين الإيمان و الكفر، فإن غلب الأول دخل الإيمان فيه من غير استقرار، و إن غلب الثاني دخل الكفر فيه كذلك، و ربما يصير الغالب مغلوبا فيعود من الإيمان إلى الكفر، و من الكفر إلى الإيمان فلا بد للعبد من مراعاة قلبه فإن رآه مقبلا إلى الله عز و جل شكره و بذل جهده و طلب منه الزيادة لئلا يستدبر و ينقلب و يزيغ عن الحق، كما ذكره سبحانه عن قوم صالحين:" رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَ هَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ" و إن رآه مدبرا زائغا عن الحق تاب و استدرك ما فرط فيه، و توكل على الله و توسل إليه بالدعاء و التضرع، لتدركه العناية الربانية فتخرجه من الظلمات إلى النور، و إن لم يفعل ربما سلط عليه عدوه الشيطان، و استحق من ربه الخذلان، فيموت مسلوب الإيمان كما قال سبحانه:" فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ" أعاذنا الله من ذلك و سائر أهل الإيمان.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 249

باب في علامة المعار

 (1)

 (الحديث الأول)

 (2): ضعيف على المشهور.

" إن الحسرة و الندامة و الويل"

 (3) الحسرة اسم من حسرت الشي‏ء حسرا من باب تعب، و هي التلهف و التأسف على فوات أمر مرغوب، و الندامة الحزن على شي‏ء مكروه، و الويل العذاب و واد في جهنم، يعني هذا كله لمن لم ينتفع بما أبصره، و علمه من العقائد و الأحكام و الأعمال و الأخلاق و الآداب، و عدم الانتفاع بها بأن لا يعمل بمقتضى علمه بها

" و لم يدر ما الأمر الذي هو عليه مقيم"

 (4) من العقائد و الأحكام و الأعمال و الأخلاق و الآداب و

" أنفع"

 (5) بصيغة المصدر أي نافع، و يحتمل الماضي و كذا

" أم ضر"

 (6) يحتملهما و الأول أظهر فيهما، و فيه حث على مراقبة النفس في جميع الحالات و محاسبتها في جميع الحركات و السكنات، ليعلم ما ينفعها فيجلبها و يزيد منها و ما يضرها فيجتنبها.

" فبم يعرف الناجي من هؤلاء"

 (7) أي من يكون أمره آئلا إلى النجاة من المهالك و عقوبات الآخرة؟ فقال:

" من كان فعله لقوله موافقا"

 (8) أي لقوله الحق و هو ما يأمر الناس به من الخيرات و الطاعات و ترك المنكرات، أو لما يدعيه من الإيمان بالله و اليوم الآخر و الأنبياء و الأوصياء عليهم السلام، فإن مقتضى ذلك العمل بما يأمره الله تعالى، و يوجب الوصول إلى مثوباته و النجاة من عقوباته و متابعة أئمة الذين في أقوالهم و أفعالهم أو لما يدعي لنفسه من الكمالات و ما نصب نفسه له من الحالات‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 250

و الدرجات أو الجميع.

" فأثبتت له الشهادة"

 (1) على صيغة المجهول أي يشهد الله تعالى و ملائكته و حججه عليهم السلام و كل المؤمنين بأنه من الناجين لاتصافه بكمال الحكمة النظرية لقوله الحق، و كمال الحكمة العملية لعمله بأقواله الحقة، و في بعض النسخ" فأتت"

" و من لم يكن فعله لقوله موافقا"

 (2) أي بأن يكون قوله حقا و فعله باطلا كما هو شأن أكثر الخلق‏

" فإنما ذلك مستودع"

 (3) إيمانه غير ثابت فيه، فيحتمل أن يبقى على الحق و يثبت له الإيمان و تحصل له النجاة، و أن يزول عن الحق و يعود إلى الشقاوة و يستحق الويل و الحسرة و الندامة.

باب سهو القلب‏

 (4)

 (الحديث الأول)

 (5): مجهول أو حسن موثق لاشتراك عثمان، و سنده الثاني ضعيف.

" إن القلب ليكون"

 (6) المشهور أن المراد بالقلب النفس الناطقة الإنسانية التي هي محل الإيمان و الكفر، لا العضو الصنوبري المودع في الجانب الأيسر من الصدر، و إنما سميت بالقلب لتقلب أحواله، أو لأن تعلق النفس الإنسانية ابتداء إنما هو بالروح الحيواني و هو البخار اللطيف المنبعث من القلب الذي هو محل القوي الإدراكية، و قد مر بعض الكلام في تحقيق القلب في باب أن للقلب أذنين، و المراد

بالساعة

 (7) ساعة الغفلة عن الحق و الاشتغال بما سواه.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 251

" ما فيه كفر و لا إيمان"

 (1) أي ليس متذكرا لشي‏ء منهما، أو في حال لا يمكن الحكم بكفره لكن ليس فيه الإقبال على الحق و التوجه إلى عالم القدس، قيل:

و فيه إشعار بأن الكفر وجودي إذ لو كان عبارة عن عدم الإيمان كما زعم لما انتفيا معا و الخلق محركة البالي للمذكر و المؤنث، و التشبيه إما للكثافة و الرثاثة و عدم الاعتناء بشأنه، و إما لأنه ليس باطلا بالمرة و لا كاملا في الجملة، أو لأنه في معرض الانخراق و الفساد و لا طراوة و لا نضارة له، و يمكن أن ينتفع به و يرجع إلى الثاني.

" أ ما تجد"

 (2) استفهام إنكاري و قيل: و ذلك إذا وسوس إليه الشيطان بأن قال له لعل ما تقول الزنادقة في إنكار الصانع أو منكروا النبوة أو الإمامة في إنكارهما حق و أمثال ذلك، و ذلك محض تصور، و إلا كان شركا.

و أقول: من تفكر في تارات القلب و عرف حالاته علم أنه أعم من ذلك و له شؤون غريبة و حالات عجيبة في القرب و البعد من ربه تعالى، و في الشوق و التيقظ و الغفلة و الكسل و الرغبة في الدنيا و الزهد فيها، و مراتب حبه تعالى و الأشواق العارضة له مما يوجب قربه و بعده و غير ذلك مما يطول ذكره، و قال في النهاية في حديث الجمعة: فإذا فيها نكتة سوداء أي أثر قليل كالنقطة شبه الوسخ في المرآة و السيف و نحوهما، و في القاموس:

النكت‏

 (3) أن تضرب في الأرض بقضيب فتؤثر فيها، و النكتة بالضم النقطة و شبه الوسخ في المرآة، انتهى.

و كون نكتة الإيمان و الكفر من الله سبحانه باعتبار توفيقه و خذلانه المسببان من سوء اختيار العبد و حسن اختياره، و قيل: يحتمل أن يكون باعتبار أنه وكل‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 252

على القلب ملكا يهديه إلى الخير و شيطانا يرشده إلى الشر كما مر، و بهذا الاعتبار كان النكتتان منه تعالى، و معنى مشيته للإيمان و الكفر المشية باعتبار الأقدار عليهما دون المشية على سبيل الإجبار، فإنه تعالى لما جعل فيه آلة الكفر و آلة الإيمان، فقد شاء منه الكفر و الإيمان لكن لا بحيث يكون مجبورا و تكون المشية مشية حتم.

 (الحديث الثاني)

 (1): موثق.

و المضغة

 (2) بالضم القطعة من اللحم قدر ما يمضغ.

 (الحديث الثالث)

 (3): صحيح.

" خلق قلوب المؤمنين مطوية"

 (4) استعار الطي هنا لكمون الإيمان فيها كناية عن استعدادها لكمال الإيمان و أنه لا يعلم ذلك غير خالقها كالثوب المطوي أو الكتاب المطوي لا يعلم ما فيهما غير من طواهما، و في القاموس: الأبهم الأعجم و استبهم عليه استعجم فلم يقدر على الكلام، و أبهم الأمر اشتبه، و المبهم كمكرم المغلق من الأبواب و الأصمت كالأبهم، فالمراد

بالمبهمة

 (5) هنا المغلقة و المقفلة على التشبيه بالبيت، فلا يعلم ما فيها إلا هو، أو المعضلة التي لا يعلم حالها و وضعها إلا هو، من أبهم الأمر فهو مبهم إذا لم يجعل عليه دليلا أو الخالصة الصحيحة التي ليس فيها شي‏ء من العاهات و الأمراض، و منه فرس بهيم و هو الذي له لون واحد لا يخالطه‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 253

لون سواه.

و قوله: على الإيمان‏

 (1)، متعلق بمطوية أو بمبهمة أو بهما على التنازع، و قيل:

حال عن القلوب أي خلقها كائنة على الإيمان، و في ذكر المطوية و المبهمة إشعار بأن إيمانها مغفول عنه، و هو عبارة عن سهو القلب فلذا ذكره في هذا الباب، قيل:

و لما كان الخلق تابعا للعلم و كان علم الله عز و جل بالشي‏ء قبل خلقه كعلمه به بعده، و كان قلب المؤمن متصفا بالإيمان باختياره إياه، صدق أنه تعالى خلقه على هذا الوصف، فلا يلزم الجبر.

" فإذا أراد استثارة ما فيها"

 (2) أي تهييجها و سطوح أنوار ما كان كامنا فيها، و في بعض النسخ: استشارة ما فيها، بالشين، تشبيها لما في قلوب المؤمنين بالعسل في رغبة النفوس الصحيحة إليها، في القاموس: الثور الهيجان و الوثب و السطوح، و أثاره و ثورة و استثاره غيره، و قال: شار العسل شورا استخرجه من الوقبة أي الموضع الذي اجتمع فيه كأشاره و اشتاره و استشاره، و

النضح‏

 (3) الرش و كان المراد

بالحكمة

 (4) العلوم اللدنية و الإفاضات الربانية، و بالعلم ما يكتسبه الإنسان بالتفكر و النظر و الأخذ من الكتاب و السنة فأشار عليه السلام إلى أن الكسب و النظر لا ينفع و لا يثمر بدون الإفاضات السبحانية و أن الكسب أيضا لا يتم إلا بالتوفيقات الربانية فشبه عليه السلام العلم بالبذر و الحكمة التي هي الإفاضات الربانية بالمطر، فمن يطرح البذر في الأرض لا ينبت و لا ينمو إلا بالمطر الذي هو من فضله تعالى، و بعد ذلك الإنبات من فعله سبحانه لا من فعل العبد، كما قال عز و جل" أَ فَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ أَ أَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ" حيث نسب الحرث إليهم لكونه فعلا لهم، و نسب‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 254

الزرع إلى ذاته المقدسة لكونه من فعله، و كذلك العلم لا يحصل إلا بإفاضته و إصلاح أرض القلب عما يضر بالزرع، من الشكوك و الشبه و الرغبات الدنية و الوساوس الشيطانية، و أفاض عليها ماء الحكمة أثمر ما يوجب الحياة الأبدية في النشأة الباقية كما أن إنبات الزرع في الدنيا يوجب بقاء الأبدان في النشأة الفانية، فكم بينهما من المباينة، و يحتمل أن يكون المراد بالحكمة ما يجريه على لسان الأنبياء و الأوصياء عليهم السلام بالوحي و الإلهام، كما قال تعالى:" وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ".

و قيل: الحكمة الدين الحق و على التقادير ظهر أن زارع القلوب و محييها و القيم عليها و القائم بما يصلحها هو رب العالمين الذي بيده إيجاد العالم بأنواعه المختلفة و تربيتها و إخراج كل منها من حد النقص إلى ما يستحقه من الكمال، فظهر أنه تعالى مقلب القلوب و المتصرف فيها و الحاكم عليها كما روي: قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء، و ورد في الدعاء يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، بل هو عرشه و محل معرفته و محبته و مستقر عظمته و جلاله كما روي: قلب المؤمن عرش الرحمن، فلا بد للعبد أن يتوسل بربه سبحانه في تصفية قلبه و تزكيته، و يسعى في إخلائه عن محبة غيره ليصير محل معرفته سبحانه و مظهر أنواره و مهبط إسراره، رزقنا الله و سائر المؤمنين ذلك بفضله و رحمته.

 (الحديث الرابع)

 (1): ضعيف على المشهور.

و في المصباح:

رججت‏

 (2) الشي‏ء رجا من باب قتل حركته فأرتج هو، و ارتج البحر اضطرب، و في القاموس: الرج التحريك و التحرك و الاهتزاز و الحبس و الرجرجة الاضطراب كالارتجاج و الترجرج، و الحنجرة الحلقوم، يعني أن قلب من علم الله إيمانه يتحرك و يضطرب فيما بين الصدر و الحنجرة طلبا للحق‏

حتى‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 255

يعقد عليه‏

 (1) أي يعتقده و يعقد قلبه عليه، فإذا اعتقده و تيقن سقط عنه الاضطراب و استقر لحصول مطلوبه و زوال الشك عنه، و في المصباح: اعتقدت كذا عقدت عليه القلب و الضمير حتى قيل: العقيدة ما يدين الإنسان به، و أما الاستشهاد بالآية فكأنه كان في قراءتهم عليهم السلام‏

يهدأ

 (2) قلبه بفتح الدال و الهمز و رفع‏

" قلبه"

 (3) أو بفتح الدال بغير همز بالقلب و الحذف، و قد قرأ بالأول في الشواذ.

قال البيضاوي: يهد قلبه للثبات و الاسترجاع عند حلول المصيبة و قرأ يهد قلبه بالرفع على إقامته مقام الفاعل و بالنصب على طريق سفه نفسه، و يهدأ بالهمز أي يسكن.

و قال الطبرسي: قرأ عكرمة و عمرو بن دينار يهدأ قلبه أي يطمئن قلبه كما قال سبحانه:" وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ" انتهى.

و يؤيده أنه روى البرقي في المحاسن هذه الرواية و زاد في آخره، قال:

يسكن و على القراءة المشهورة يمكن أن يكون المعنى أن من كان من شأنه أن يؤمن بالله يهدي الله قلبه للإيمان و يرشده إليه و يوفقه له فيستقر عليه.

 (الحديث الخامس)

 (4): ضعيف.

" ليتجلجل"

 (5) في القاموس التجلجل التحرك و التضعضع، و الجلجلة التحريك و شدة الصوت و في النهاية: الجلجلة حركة مع صوت‏

" فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ"

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 256

 (1) أي يعرفه طريق الحق و يوفقه للإيمان‏

" يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ"

 (2) فيتسع له و يفسح فيه مجالة" وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً" بحيث ينبو عن قبول الحق فلا يدخله الإيمان‏

" كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ"

 (3) شبهه مبالغة في ضيق الصدر بمن يزاول ما لا يقدر عليه، فإن الصعود إلى السماء مثل فيما يبعد عن الاستطاعة، انتهى.

و قد مر بعض القول في هداية الله و إضلاله، و قيل: لعل المراد بالآية أن من يرد الله أن يهديه إلى الإسلام لعلمه أزلا بإسلامه و حسن رعايته للفطرة الأصلية يشرح صدره للإسلام و قبول أحكامه، فيصرف زمام قلبه إليه باللطف و التوفيق فإذا أصابه قر و اطمأن به" وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ" بسبب اللطف و التوفيق لعلمه بأنه لا يؤمن" يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً" في قبول الإيمان" حَرَجاً" في الاتصاف به كأنما يصعد إلى السماء، و هو كناية عن شدة قلبه و صعوبته و نهاية بعده و تأمله في قبول الإيمان و لوازمه.

 (الحديث السادس)

 (4): صحيح.

و قد مر عن أبي بصير باختلاف يسير في المتن و السند.

 (الحديث السابع)

 (5): ضعيف، و قد مر بسند آخر عن الكاظم عليه السلام.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 257

باب في ظلمة قلب المنافق و إن أعطي اللسان و نور قلب المؤمن و إن قصر به لسانه‏

 (1)

 (الحديث الأول)

 (2): مجهول لاشتراك عمرو الظاهر صحته، و

المسقع‏

 (3) كمنبر بالسين و الصاد: البليغ أو العالي الصوت، أو من لا يرتج عليه في كلامه، و لا يتعتع ذكره الفيروزآبادي و يدل على أن حسن الظاهر و طلاقة اللسان و فصاحة البيان لا عبرة بها بدون تنور القلب و صفائه و استقامته، و إنما العبرة بصفاء الباطن و نورانيته و إن لم يكن معه صفاء الظاهر، و الله الناظر الرقيب لا ينظر إلى صوركم و أجسادكم و لكن ينظر إلى قلوبكم و نياتكم.

 (الحديث الثاني)

 (4): مختلف فيه.

و الظاهر أن‏

المفضل‏

 (5) هو أبو جميلة لروايته عن سعد و هو ابن طريف‏

" إن القلوب أربعة"

 (6) قيل: وجه الحصر أن القلب إما متصف بالإيمان أو لا، و الأول إما متصف بالإيمان بجميع ما جاء به النبي أو ببعضه دون بعض، و الأول قلب‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 258

المؤمن و الثاني‏

قلب فيه إيمان و نفاق،

 (1) و الثاني إما أن يصرح بالإيمان ظاهرا أو لا، و الأول قلب المنافق، و الثاني قلب المشرك.

و أقول: يمكن أن يكون المراد هنا بالنفاق التزلزل في الإيمان أو الرياء أو عدم العمل بمقتضى الإيمان، فيشمل إرادة المعاصي و الإصرار عليها، و في النهاية

الأزهر

 (2) الأبيض المستنير، و قال:

الأجرد

 (3): الذي ليس على بدنه شعر و فيه: القلوب أربعة قلب أجرد فيه مثل السراج يزهر أي ليس فيه غل و لا غش، فهو على أصل الفطرة فنور الإيمان فيه يزهر، و القاموس: الأجرد فضاء لا نبات فيه، و يوم أجرد تام، انتهى.

فشبه عليه السلام قلب المؤمن بأرض صافية بيضاء قابلة لزرع الإيمان و الحكمة و خالية عن شوك الشكوك و الشبهات و ذمائم الأخلاق، و قال فيه: كهيأة السراج، الهيئة الحالة و الصورة، شبه ما في القلب من نور الإيمان و المعارف بنور السراج للإيضاح لأنه أشهر و إن كان في المشبه أكمل، لأن بنور القلب يرى ما في عالم الملك و الملكوت، و بنور السراج يرى بعض ما حوله من المبصرات.

" فأما المطبوع فقلب المنافق"

 (4) الطبع الختم، و ختم القلب كناية عن منع الله عز و جل ألطافه الخاصة لإعراضه عن الحق، و إنما نسب ذلك إلى قلب المنافق لأن عدم دخول الإيمان فيه مع تعرضه له بإظهاره باللسان إنما هو لمانع و هو الطبع المسبب عن إبطاله لاستعداده الفطري، و في النهاية فيه: من ترك ثلاث جمع من غير عذر طبع الله على قلبه، أي ختم عليه و غشاه و منعه ألطافه، و الطبع بالسكون الختم بالتحريك الدنس، و أصله من الدنس و الوسخ يغشيان السيف، يقال:

طبع السيف يطبع طبعا ثم استعمل فيما يشبه ذلك من الأوزار و الآثام و غيرهما من القبائح.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 259

" إن أعطاه شكر"

 (1) ذكر من صفات المؤمن الصبر و الشكر لأنهما من أمهات صفات الكمال مستوعبان لجميع الأحوال و إنما وصف قلب المشرك بالنكس لأنه كالظرف المقلوب المكبوب لا يستقر فيه شي‏ء، و خصه بالمشرك لأن قلب المنافق يمر فيه شي‏ء من الحق و الإيمان، و لا يعتقد به بخلاف قلب المشرك، فإنه لا يمر فيه شي‏ء من الحق، و لا ينافي ذلك كون عقوبة المنافق أشد لأن إنكار الحق مع العلم به أشنع و أقبح.

و قيل: القلب‏

المنكوس‏

 (2) هو القلب الناظر إلى الدنيا المتوجهة إليها لأن الدنيا تحت الآخرة و أنه لما صرف نظره و همته عن الدرجات العالية التي هي فوقه و قصر نظره و همه إلى الدنيا الدنية فكأنه نكس و انقلب، أو أنه لما خلقه الله تعالى على الفطرة القويمة و هيأ له أسباب الترقي و الطيران إلى الدرجات العالية فإن توجه إلى الشهوات البهيمية و ضيع فطرته الأصلية فقد تنزل عما كان عليه و توجه إلى الجهة السفلى، فصار منكوسا كالطير الذي يطير إلى جهة السفل.

و الاستشهاد بالآية إما لمناسبة التشبيهات أو لأن المكب على وجهه يصير قلبه أيضا منكوسا أو لأن المراد بالإكباب في الآية إكباب قلبه، و قيل: الاستشهاد باعتبار أن المشرك يمشي مكبا على وجهه لكون قلبه مكبوبا مقلوبا، و المؤمن يمشي سويا لكون قلبه على وجه الفطرة مستقيما عارفا بالحق كما يرشد إليه قوله تعالى" عَلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ" و قال البيضاوي معنى مكبا أنه يعثر كل ساعة و يخر على وجهه لو عورة طريقه و اختلاف أجزائه، و لذلك قابله‏

بقوله أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا

 (3) قائما سالما من العثار

عَلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ‏

 (4) مستوي الأجزاء أو الجهة، و المراد تمثيل المشرك و الموحد

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 260

بالسالكين و الدينين بالمسلكين، و قيل: المراد بالمكب الأعمى فإنه يعتسف فينكب و بالسوى البصير و قيل: من يمشي مكبا هو الذي يحشر على وجهه إلى النار، و من يمشي سويا الذي يحشر على قدميه إلى الجنة" فهم قوم" أي هم و أمثالهم، و ذكرهم على التمثيل و المراد بهم الشكاك و من يعبد الله على حرف.

 (الحديث الثالث)

 (1): ضعيف على المشهور.

" القلوب ثلاثة"

 (2) هذا لا ينافي ما مر أن القلوب أربعة، فإن قوله و قلب فيه نكتة سوداء يشمل قسمين منها، و هما قلب فيه نفاق و إيمان، و قلب المنافق، و في القاموس:

وعاه يعيه‏

 (3) حفظه و جمعه كأوعاه، و قال:

اعتلجوا

 (4) اتخذوا صراعا و قتالا و الأمواج التطمت.

" و قلب مفتوح"

 (5) و هو الذي يقبل الإيمان و المعارف و الأسرار، و كلها نور ينور القلب في عالم الأبدان و الأرواح، و

قوله: لا يطفأ نوره إلى يوم القيامة،

 (6) إشارة إلى أن القلب المنور بنور الإيمان و المعارف منور بعد الفراق من البدن في عالم البرزخ و بعده، فإن هذه الأنوار باقية لا تزول منه أبدا.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 261

باب في تنقل أحوال القلب‏

 (1)

 (الحديث الأول)

 (2): مجهول.

" و تسلو أنفسنا عن الدنيا"

 (3) في القاموس سلاه و عنه كدعاه و رضيه سلوا و سلوا نسيه، و أسلاه عنه فتسلى‏

" إنما هي القلوب"

 (4) أي إنما سمي بالقلب لتقلب أحواله‏

" مرة تصعب"

 (5) أي عن الإقبال على عالم القدس و رفض الدنيا

" و مرة تسهل"

 (6) و تلين و تطيع العقل و تترك الشهوات بسهولة، و وجه ذلك أن سنة الله في عالم الإنسان أن يكون متوسطا بين عالم الملائكة و عالم الشياطين.

فالملائكة ثابتون في مقام القدس كما قالوا:" وَ ما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ"" وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ" و" يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ لا يَفْتُرُونَ" و الشياطين منهمكون في الشرور و الخطيئات داعون إلى المعاصي و السيئات و كذلك البهائم‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 262

شأنهم الميل إلى الشهوات و الرغبة في اللذات، و الإنسان عالم بين العالمين مركب من النشأتين، فإن له روحا قدسيا و جسدا بهيميا فهو مختلف الشؤون منتقل الأحوال، و لو لم يكن كذلك لم يتيسر له الترقي إلى أعلى مدارج الكمال و أقوى الدواعي إلى الصعود على أحسن الأحوال، و أنفع الجنود لدفع وساوس الشياطين و التخلص عن الأهوال بمجالسة الصالحين و معاشرتهم و متابعتهم في الأقوال و الأفعال كما يرشد إليه هذا الحديث.

و الشمم‏

 (1) القرب و الدنو، و كان المراد هنا الالتذاذ بقربهم و النظر إليهم تشبيها لهم بالرياحين، و

الأهل‏

 (2): الزوجة و ذكرها تخصيص بعد تعميم‏

" كانا لم نكن على شي‏ء"

 (3) أي من الحالة الأولى.

" إن هذه خطوات الشيطان"

 (4) إشارة إلى قوله تعالى:" يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَ مَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ ما زَكى‏ مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً، وَ لكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ" و في القاموس: الخطوة و يفتح ما بين القدمين و الجمع خطا و خطوات، و بالفتح المرة و الجمع خطوات، و المعنى أن ذلك بسبب وساوس‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 263

الشيطان و أتباعه، فإن وفق الله للتوبة لا يضر ذلك و لا ينتهي إلى النفاق أي باطنكم مؤمن موقن و قد تعرض لكم الغفلة بسبب وساوس الشيطان، حيث أنه لم يكن له تصرف في أيمان المؤمن يتوسل بما يوجب نقص إيمانه، و المنافق باطنه غير مؤمن و هو في الغفلة دائما فبينهما بون بعيد.

و قيل: ينبغي أن يعلم أن قلب المؤمن في الحقيقة عرش الرحمن يطوف به قوافل و إرادات من الحق و إلهاماته، و يشرق فيه لوامع أنواره و طوالع إسراره، و لذلك يجب تطهيره عن أدناس التعلقات و أرجاس الشهوات، و قد قيل: له بابان باب شرقي أيمن مفتوح إلى مشرق نور الحق. و حظيرة القدس، يطلع من ذلك الباب شوارق ألطاف الربوبية و المواعظ اللاهوتية، و باب غربي أيسر إلى مغرب الجسد و الأعضاء و منه يظهر آثار تلك الشوارق و المواعظ إلى الأعضاء فتخضع بالأعمال الصالحة تواضعا و يسهل القلب عند ذلك و تتم النعمة ظاهرة و باطنة و كثيرا ما يتصرف فيه الشيطان و يلقي إليه من الباب الغربي كذبا و زورا، و يوحى إليه زخرف القول غرورا فيميله إلى الدنيا و يحدث فيه صداء و رينا، فإن استيقظ من نداء الغيب و دعوة أهل الحق و استغفر زال عنه، و إن استمر يسري ذلك من الباب الشرقي إلى عالم القدس و يمنع الواردات اللاهوتية و أنوار الربوبية فيسود لوح القلب و يصدر من الجوارح أعمال قبيحة مظلمة، و تنعكس ظلمتها إليه، فينطمس نوره بريح الشهوات، و تراكم الظلمات، ظلمات بعضها فوق بعض، فلا يقبل الحق أبدا.

ثم أشار صلى الله عليه و آله و سلم إلى أن الحالة الأولى حالة حسنة شريفة، و الدوام عليها يوجب التشبيه بالملائكة، و الوصول إلى مقامات عالية، و إلى أن الحالة الثانية و التعرض للذنب و الاستغفار بعده لا تخلو من حكمة إلهية و مصلحة ربانية،

بقوله:

" و الله لو تدومون" إلخ.

 (1) لأن المانع من ظهور تلك الآثار هو الكدورات الجسمانية، و التعلقات‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 264

البشرية و الوساوس الشيطانية، و الميل إلى الزهرات الدنيوية، فإذا زالت عن العبد تلك الموانع دائما يصير نورا صرفا و روحا محضا، و يتصف بصفات الملائكة، و يلتحق بالروحانيين و يصافحهم، و يكون معهم و يمشي على الماء مثلهم.

و إن شئت توضيح ذلك فنقول: أن للروح الإنساني منازل في السير إلى الله، أولها المحسوسات، و ثانيها المتخيلات، و ثالثها الموهومات، و رابعها المعقولات، و هو في هذا المنزل يمتاز عن سائر الحيوانات، و يرى فيه ما هو خارج عن عالم الحس و الخيال و الوهم، و يعلم روح الأشياء و حقائقها، و له عرض عريض أوله أول عالم الإنسان، و آخره عالم الملائكة بل فوقه، و هو معراج الإنسان و أعلى عليين له، كما أن الثلاثة الأول أسفل السافلين له، و أعظم أسباب معراجه قطع التعلق عن الدنيا و الإعراض عنها بالكلية، ثم الدوام على هذه الحالة فإنه يوجب الوصول إلى حالة شريفة هي مرتبة عين اليقين، و له في تلك المرتبة قدرة على أفعال غريبة و آثار عجيبة بإذن الله تعالى، كمصافحة الملائكة و المشي على الماء و الهواء و غيرها، و منه يعلم أن الكرامات غير منكرة من الأولياء كما زعمه بعض العلماء.

" و لو لا أنكم تذنبون."

 (1) أقول: يدل على أن لله تعالى مصلحة عظيمة في هذا النوع من الخلق، لتظهر غفاريته و لطفه و رحمته، بل الظاهر أن هذا سبب لرفعة درجاتهم و تضاعف كمالاتهم، و لا ينافي ذلك عدم صدور تلك الأفعال و ظهور تلك الآثار منهم، كما أن أكثر أفراد المؤمنين أفضل من كثير من الملائكة مع ظهور تلك الأمور من الملائكة دونهم، و لا يبعد أن يكون التلوث بالخطيئات سببا للتذلل و الخضوع و رفع الدرجات، حتى أن أكثر الأنبياء و الأوصياء عليهم السلام ابتلوا بارتكاب ترك الأولى و المكروهات، فارتقوا بعد ذلك إلى أعالي الدرجات، كما يومئ إليه قوله‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 265

سبحانه:" وَ عَصى‏ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى‏، ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَ هَدى‏" و قال سبحانه:" وَ ظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَ خَرَّ راكِعاً وَ أَنابَ، فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَ إِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى‏ وَ حُسْنَ مَآبٍ" و مثله كثير في الكتاب، و القصار يلوث الثوب بأشياء ثم يغسله ليصير أحسن و ألطف و أشد بياضا مما كان، كما أن آدم عليه السلام قبل ارتكاب ترك الأولى في الجنة كان في عداد الملائكة و شبيها بهم، و إن كان أفضل منهم و مسجودا لهم، و لما ارتكب ترك الأولى و هبط إلى الأرض و استغفر و بكى على ما صدر عنه سنين متطاولة كملت محبته، و صفى و زكى و صار نبيا مصطفى و عمر الله به و بأولاده الأرض، و تمت حكمة الله البالغة، و ظهرت رحمته السابغة و هذا سر من أسرار القدر و القضاء يتحير فيه ألباب الحكماء.

" إن المؤمن"

 (1) كأنه كلام الباقر عليه السلام و في النهاية في الحديث: المؤمن خلق مفتنا أي ممتحنا يمتحنه الله بالذنب ثم يتوب، ثم يعود ثم يتوب يقال:

فتنته‏

 (2) افتنه فتونا إذا امتحنته، و يقال فيها افتتنته أيضا و هو قليل، و قد كثر استعمالها فيما أخرجه الاختيار للمكروه، ثم كثر حتى استعمل بمعنى الإثم و الكفر و القتال و الإحراق و الإزالة، و الصرف عن الشي‏ء، و منه أنه يحب المفتن التواب، أي الممتحن بالذنب ثم يتوب، انتهى.

" أ ما سمعت"

 (3) يمكن أن يكون الاستشهاد باعتبار تقديم التوابين و حبهم بناء على أن المراد

بالمتطهرين‏

 (4) المتطهرون من الذنوب، لكن ورد في بعض الأخبار أن المراد بهم المتطهرون بالماء، فالاستشهاد بمحض حبهم.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 266

باب الوسوسة و حديث النفس‏

 (1)

 (الحديث الأول)

 (2): ضعيف على المشهور.

" و إن كثرت"

 (3) بالكسر، و ربما يقرأ بالفتح على أنها مخففة من المثقلة عطفا على الوسوسة، و

الوسوسة

 (4) حديث النفس مثل من خلق الله؟ و أين هو؟ و كيف هو؟ و متى هو؟ و الوساوس في أحوال الخلق و نسبة المعاصي إليهم كما هو أحد معاني التفكر في الوسوسة في الخلق، أو إرادة المعاصي أو الأعم و هو إذا خطر ذلك في القلب من غير قصد و لا عقد و لا تكلم به لقصد التشهير و التزويج، و ربما يفرق بين الوسوسة و حديث النفس بأن الوسوسة آكد، مثلا إن خطر ببالك النظر إلى امرأة فهو حديث النفس و إن حصلت الرغبة و حركتك الشهوة فهو الوسوسة و لا شي‏ء فيهما.

و من أراد دفع كراهة ذلك و طرد الخبيث عن نفسه فليقل: لا إله إلا الله، أو ليقل آمنا بالله و برسوله لا حول و لا قوة إلا بالله، أو ليذكر الله وحده.

قيل: أمره بالتوحيد لوجوه: الأول: أن لا يأتيه الموت و هو على تلك الحال.

الثاني: نفي ما ألقى في نفسه من أن للإله إلها آخر، حيث صرح بأن الإله واحد ليس إلا هو.

الثالث: أن تلك الكلمة تطرد الخبيث و تدفعه عن قائلها، و لذلك يلقن‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 267

المحتضر بها.

الرابع: إفادتها أن سلسلة الممكنات منتهية إليه فلا يكون له موجد.

الخامس: أن من اتصف بجميع صفات الكمال لا يتصف بالمخلوقية و الاحتياج.

السادس: أنه لو كان له إله لزم الدور أو التسلسل، فوجب حصر الألوهية في واحد، و روى العامة عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال: إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسهم ما لم يتكلم به أو يعمل به، قال بعضهم قال صلى الله عليه و آله و سلم هذا بعد نزول النسخ أو التخفيف، لقوله تعالى:" إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ" فقال بعض الصحابة: من يطيق هذا؟ فقال: أ تريدون أن تقولوا ما قال بنو إسرائيل سمعنا و عصينا، قولوا سمعنا و أطعنا فقالوا، فأنزل الله التخفيف بقوله:" لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها" الآية، فقال عليه السلام كالمبين و المفصل لجملتها: إن الله تعالى تجاوز لي، إلى آخره.

فبين لهم ما رفع عنهم مما لا يطيقونه، و هو حديث النفوس فأعلمهم أن له سبحانه أن يكلفهم ما يعلم أنه يشق عليهم معاناته بمقتضى عدله، و عدله حسن ثم خفف عنهم برفع ما يعجزون عنه إظهارا لفضله، و الفضل عليهم أحسن، و المراد بحديث النفس المعفو عنه ما لا يدخل تحت كسب العبد من الخواطر أولا، و الفكر فيما يخطر للنفس ثانيا، فيتأمله و يتحدث هل يعمله أم لا، فهذا معفو إلى أن يترجح في القلب الفعل أو الترك فيهتم به، فإن كان خيرا كتب له حسنة، و إن كان شرا لم يكتب، فإذا قوي العزم صار نية فيعزم القلب و ينوي، فمن هناك يتحقق كسبه و فعله، فتقع المؤاخذة و المحاسبة لقوله تعالى:" وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ"

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 268

ثم استدرك عليه السلام بعد ذكر ما عفي عنه ما يحاسب عليه فقال: ما لم تتكلم به و هو عمل اللسان، أو تعمل به، و هو عمل القلب و كسبه و هو عزمه و نيته و أفعال الجوارح و الأركان، فهذا ما لم يعف عنه و إن جاز العفو عنه بعد إثباته و المحاسبة عليه فضلا، كما روي: أن الله تعالى يقول للمحافظين: فإذا هم عبدي بسيئة فلا تكتبوها عليه فإن عملها فاكتبوها و آخذه أو أغفر.

و قوله عليه السلام: إن الله تجاوز لي، يشعر بفضيلته فإن الله تعالى خصه في حق أمته بهذا العفو دون من قبله من الأنبياء، كما خصه بقوله: نصرت بالرعب، و أحلت لي الغنائم و لم يحل لأحد قبلي، و نصرت بالصبا، إلى غير ذلك و أكرمه، انتهى كلامه.

و أقول: قد مر بعض القول في ذلك في باب أن الإيمان مبثوث بجوارح البدن.

 (الحديث الثاني)

 (1): حسن كالصحيح و هو مثل السابق.

و الأمر العظيم‏

 (2) أما شي‏ء من الخواطر لو تكلم به أو اعتقده يكون كفرا موجبا للقتل و الارتداد، أو إرادة ذنب من الكبائر كما عرفت.

 (الحديث الثالث)

 (3): حسن كالصحيح.

" ذلك و الله محض الإيمان"

 (4) قيل فيه وجوه: أحسنها ما رواه عبد الرحمن بأن يكون ذلك إشارة إلى خوفه من الهلاك، فإن الكافر لا يخاف من هذه و لا من‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 269

أعظم منها.

الثاني: أن تلك الخطورات لإبطال الاحتمالات الباطلة، ليصير في الحق على يقين، فإن من أراد إقامة الدليل على مطلب يتفكر في الاحتمالات المضادة له ليبطلها و يتم برهانه على الحق.

الثالث: أن الشيطان لما يئس من الخلل في إيمان العبد يتعرض له بتلك الخواطر كما يرشد إليه حديث آخر الباب.

 (الحديث الرابع)

 (1): صحيح.

و قال في النهاية في حديث ابن مسعود: لابن آدم لمتان لمة من الملك و لمة من الشيطان،

اللمة

 (2) الهمة و الخطرة تقع في القلب، أراد إلمام الملك و الشيطان به و القرب منه، فما كان من خطرات الخير فهو من الملك، و ما كان من خطرات الشر فهو من الشيطان، و في القاموس: اللمم محركة الجنون و صغار الذنوب و أصابته من الجن لمة، أي مس أو قليل، و قيل: إنما جعل الوسوسة لمما أي ذنبا صغيرا لزعمه أنها من صغائر الذنوب أو لأنها قد تؤول إلى الذنب، و إلا فهي ليست من الذنوب و لا يخفى أنه لا حاجة إلى هذا التكلف كما عرفت، و

الهوى‏

 (3) السقوط من أعلى إلى أسفل، و فعله من باب ضرب، و منه قوله تعالى:" أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 270

مَكانٍ سَحِيقٍ" أي بعيد، و الباء في بهم للتعدية و هم جعلوا التكلم باللمم و إظهاره أشد عليهم من أن يسقطهم الريح إلى مكان بعيد عميق، أو من أن تقطع أعضاؤهم استقباحا لشأنه و استعظاما لأمره.

و الاستفهام في‏

قوله: أ تجدون ذلك؟

 (1) على حقيقته أو للتعجب أو للتقرير، و لفظة" ذلك" إشارة إلى كون الهوى و التقطيع أحب إليهم من التكلم به أو أصل اللمم و الأول أظهر و الإشارة الثانية أيضا تحتمل الوجهين كما عرفت.

و قد روي مثل ذلك في طرق العامة قال في النهاية في حديث الوسوسة:

ذلك صريح الإيمان‏

 (2) أي كراهتكم له و تفاديكم منه صريح الإيمان، و الصريح الخالص من كل شي‏ء و هو ضد الكناية يعني أن صريح الإيمان هو الذي يمنعكم لقبول ما يلقيه الشيطان في أنفسكم حتى يصير ذلك وسوسة لا يتمكن في قلوبكم و لا تطمئن إليه نفوسكم، و ليس معناه أن الوسوسة نفسها صريح الإيمان لأنها تتولد من فعل الشيطان و تسويله فكيف يكون إيمانا صريحا.

و قال النووي في شرح صحيح مسلم: أي استعظامكم التكلم به فإن شدة خوفكم منه فضلا عن اعتقاده إنما يكون لمن استكمل الإيمان، و في الرواية الثانية و إن لم يذكر الاستعظام لكنه مراد، و قيل: سبب الوسوسة علامة محض الإيمان فإن الشيطان إنما يوسوس لمن آيس عن إغوائه.

 (الحديث الخامس)

 (3): مجهول، و قد مضى الكلام فيه.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 271

تحقيق‏

قال بعض المحققين في بيان ما يؤاخذ العبد به من الوساوس و ما يعفى عنه:

اعلم أن هذا أمر غامض و قد وردت فيه آيات و أخبار متعارضة يلتبس طريق الجمع بينها إلا علي سماسرة العلماء فقد روي عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنه قال: عفي عن أمتي ما حدثت به نفوسها، و عنه صلى الله عليه و آله و سلم قال: يقول الله للحفظة: إذا هم عبدي بسيئة فلا تكتبوها عليه، فإن عملها فاكتبوها سيئة، و إن هم بحسنة و لم يعملها فاكتبوها حسنة، فإن عملها فاكتبوها عشرا، و هو دليل على العفو عن عمل القلب و همه بالسيئة.

فأما ما يدل على المؤاخذة فقوله سبحانه:" وَ إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ" و قال تعالى:" وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا" فدل على أن عمل الفؤاد كعمل السمع و البصر فلا يعفى عنه، و قال تعالى:" وَ لا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَ مَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ" و قال سبحانه:" لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 272

فِي أَيْمانِكُمْ وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ".

فالحق في هذه المسألة عندنا أنه لا يوقف عليه ما لم يقع الإحاطة بتفصيل أعمال القلوب من مبدء ظهورها إلى أن يظهر العمل على الجوارح فنقول: أول ما يرد على القلب الخاطر كما لو خطر له مثلا صورة امرأة و أنها وراء ظهره في الطريق لو التفت إليها لرآها، و الثاني: هيجان الرغبة و هو حركة الشهوة التي في الطبع و هذا يتولد في الخاطر الأول و نسميه ميل الطبع، و الأول يسمى حديث النفس، و الثالث: حكم القلب بأن هذا ينبغي أن يفعل أي ينبغي أن ينظر إليها، فإن الطبع إذا مال لم تنبعث الهمة و النية ما لم تندفع الصوارف، فإنه قد يمنعه حياء أو خوف من الالتفات، و عدم هذه الصوارف ربما يكون بتأمل و هو على كل حال حكم من جهة العقل و يسمى هذا اعتقادا و هو يتبع الخاطر، و الميل الرابع تصميم العزم على الالتفات و جزم النية فيه، و هذا نسميه هما بالفعل و نية و قصدا.

و هذه الهمة قد يكون لها مبدء ضعيف و لكن إذا أصغى القلب إلى الخاطر الأول حتى طالت مجاذبته للنفس تأكدت هذه الهمة و صارت إرادة مجزومة، فإن انجزمت الإرادة فربما يندم بعدم الجزم فيترك العمل، و ربما يغفل بعارض فلا يعمل بها و لا يلتفت إليه، و ربما يعوقه عائق فيعتذر عليه العمل.

و هيهنا أحوال للقلب قبل العمل بالجارحة، و الخاطر و هو حديث النفس، ثم الميل، ثم الاعتقاد، ثم الهم، فنقول: أما الخاطر فلا تؤاخذ به لأنه لا يدخل تحت الاختيار، و كذلك الميل و هيجان الشهوة لأنهما أيضا لا يدخلان تحت الاختيار و هما المرادان بقوله صلى الله عليه و آله و سلم: عفي عن أمتي ما حدثت به نفوسها، فحديث النفس عبارة عن الخواطر التي تهجس في النفس، و لا يتبعها عزم على الفعل، فأما العزم و الهم فلا يسمى حديث النفس، بل حديث النفس كما روي عن عثمان بن مظعون‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 273

حيث قال لرسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: إن نفسي تحدثني أن أطلق خولة؟ قال: مهلا إن من سنتي النكاح، قال: نفسي تحدثني أن أجب نفسي؟ قال: مهلا إخصاء أمتي دؤب الصيام، قال: نفسي تحدثني أن أترهب؟ قال: مهلا رهبانية أمتي الجهاد و الحج قال: نفسي تحدثني أن أترك اللحم؟ قال: مهلا فإني أحبه و لو أصبته في كل يوم لأكلته و لو سألت الله لأطعمنيه.

فهذه الخواطر التي ليس معها عزم على الفعل هي حديث النفس، و لذلك شاور فيها رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم إذ لم يكن معها عزم و هم بالفعل، و أما الثالث و هو الاعتقاد و حكم القلب بأنه ينبغي أن يفعل فهذا مردد بين أن يكون اضطرارا أو اختيارا و الأحوال تختلف فيه، فالاختياري منه يؤاخذ به، و الاضطراري لا يؤاخذ به، و أما الرابع و هو الهم بالفعل فإنه يؤاخذ به إلا أنه إن لم يفعل نظر فإن تركه خوفا من الله تعالى و ندم على همه كتبت له حسنة، لأن همه سيئة و امتناعه و مجاهدته نفسه حسنة، و الهم على وفق الطبع لا يدل على تمام الغفلة عن الله، و الامتناع بالمجاهدة على خلاف الطبع يحتاج إلى قوة عظيمة فجده في مخالفة الطبع و هو العمل لله سبحانه أشد من جده في موافقة الشيطان بموافقة الطبع، فكتبت له حسنة لأنه رجح جهده في الامتناع، و همه به على همه بالفعل، و إن تعوق الفعل لعائق أو تركه لعذر لا خوفا من الله تعالى كتبت عليه سيئة فإن همه فعل اختياري من القلب.

و الدليل على هذا التفصيل ما ورد في الصحيح قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: قالت الملائكة رب ذاك عبدك يريد أن يعمل سيئة و هو أبصر فقال: ارقبوه فإن عملها فاكتبوها عليه بمثلها، و إن تركها فاكتبوها له حسنة، إنما تركها لأجلي، و حيث قال: لم يعملها أراد به تركها لله، فأما إذا عزم على فاحشة و تعذرت عليه بسبب أو غفلة فكيف يكتب له حسنة، و قد قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: إنما يحشر الناس على‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 274

نياتهم، و نحن نعلم أن من عزم ليلا على أن يصبح و يقتل مسلما أو يزني بامرأة فمات تلك الليلة مات مصرا و يحشر على نيته و قد هم بسيئة و لم يعملها، و الدليل القاطع فيه ما روي عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنه قال: إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل و المقتول في النار، قيل: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: لأنه أراد قتل صاحبه، و هذا نص في أنه صار من أهل النار بمجرد الإرادة، مع أنه قتل مظلوما فكيف تظن أن الله لا يؤاخذ بالنية و الهم، بل كل ما دخل تحت اختيار العبد فهو مأخوذ به، إلا أن يكفره بحسنة، و نقض العزم بالندم حسنة فلذلك كتب حسنة، و أما فوات المراد بعائق فليس بحسنة.

و أما الخواطر و حديث النفس و هيجان الرغبة فكل ذلك لا يؤاخذ به لأنه لا يدخل تحت الاختيار، و المؤاخذة به تكليف لما لا يطاق، و لذلك لما نزل قوله تعالى:" وَ إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ" جاء ناس من الصحابة إلى رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم و قالوا: كلفنا ما لا نطيق إن أحدنا ليتحدث نفسه بما لا يحب أن يثبت في قلبه ثم يحاسب بذلك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: لعلكم تقولون كما قالت بنو إسرائيل سمعنا و عصينا قولوا سمعنا و أطعنا، فأنزل الله تعالى الفرج بقوله تعالى" لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها" فظهر به أن كل ما لا يدخل تحت الوسع من أعمال القلب هو الذي لا يؤاخذ به، و كل من يظن أن كل ما يجري على القلب يسمى حديث النفس، و من لم يفرق بين هذه الأقسام الثلاثة فلا بد و أن يغلط و كيف لا يؤاخذ بأعمال القلوب و الكبر و العجب و الرياء و النفاق و الحسد و جملة الخبائث من أعمال القلب، بل السمع و البصر و الفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا، أي مما يدخل تحت الاختيار، فلو وقع البصر بغير اختياره‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 275

على غير محرم لم يؤاخذ بها فإن أتبعها نظرة ثانية كان مؤاخذا بها، لأنه لا محالة مختار.

و كذا خواطر القلب تجري هذا المجرى، بل القلب أولى بمؤاخذته لأنه الأصل قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم التقوى هيهنا و أشار إلى القلب، و قال الله عز و جل:

" لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَ لا دِماؤُها وَ لكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى‏ مِنْكُمْ" و التقوى في القلب، و قال صلى الله عليه و آله و سلم: البر ما اطمأن إليه القلب و إن أفتوك و أفتوك.

حتى أنا نقول: إذا حكم قلب الفتى بإيجاب شي‏ء و كان مخطئا صار مثابا على فعله، بل من ظن أنه متطهر فعليه أن يصلي و إن صلى ثم ذكر كان له ثواب بفعله، فإن ترك ثم تذكر كان معاقبا، و من وجد على فراشه امرأة فظن أنها زوجته لم يعص بوطئها و إن كانت أجنبية، و إن ظن أنها أجنبية عصى بوطئها، و إن كانت امرأته، كل ذلك نظر إلى القلب دون الجوارح.

ثم قال: الوسواس ثلاثة أصناف الصنف الأول أن يكون من جهة التلبيس للحق، فإن الشيطان قد يلبس فيقول للإنسان: لا تترك التنعم و اللذات، فإن العمر طويل و الصبر عن الشهوات طول العمر ألمه عظيم، فعند هذا إذا ذكر العبد عظيم حق الله تعالى و عظيم ثوابه و عقابه و قال: الصبر عن الشهوات شديد و لكن الصبر على النار أشد منه و لا بد من أحدهما، فإذا ذكر العبد وعد الله و وعيده و جدد إيمانه و يقينه خنس الشيطان و هرب، إذ لا يستطيع أن يقول: ليس النار أشد من الصبر على المعاصي، و لا يمكنه أن يقول: المعصية لا تقضي إلى النار، فإن إيمانه بكتاب الله يدفعه عن ذلك، فينقطع وسواسه.

و كذلك يوسوس إليه بالعجب في علمه و عمله، فيفكر العبد أن معرفته و قدرته و قلبه و أعضاءه التي بها علمه و عمله كل ذلك من خلق الله فيخنس الشيطان، فهذا

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 276

نوع من الوسوسة تنقطع بالكلية عن العارفين المستبصرين بنور الإيمان و المعرفة.

الصنف الثاني: أن يكون وسواسه بتحريك الشهوة و تهييجها، و هذا ينقسم إلى ما يعرف العبد يقينا أنه معصية و إلى ما يظنه بغالب الظن فإن علم يقينا خنس الشيطان عن تهييج يؤثر في التحريك، و لم يخنس عن التهييج، و إن كان مظنونا ربما يبقى مؤثرا بحيث يحتاج إلى مجاهدة في دفعه، فيكون الوسوسة موجودة، و لكنها مدفوعة غير غالبة.

الصنف الثالث: أن يكون وسواسه بمجرد الخواطر و تذكر الأحوال الغائبة و التفكر في الصلاة في غير أمر الصلاة مثلا، فإذا أقبل على الذكر تصور أن يندفع و يعود و يعاقب الذكر و الوسوسة، و تصور أن يتساوقا جميعا حتى يكون الفهم مشتملا على فهم معنى القراءة، و على تلك الخواطر كأنهما في موضعين من القلب و بعيد جدا أن يندفع هذا الخنس بالكلية بحيث لا يخطر، و لكنه ليس محالا إذ قال صلى الله عليه و آله و سلم: من صلى ركعتين لم يحدث فيهما بشي‏ء من الدنيا غفر له ما تقدم من ذنبه و ما تأخر، فلو لا أنه متصور لما ذكره، إلا أنه لا يتصور ذلك إلا في قلب استولى عليه الحب حتى صار كالمستهتر و لكن ذلك عزيز.

ثم قال: اعلم أن القلب كما ذكرناه مكتنفة بالصفات التي ذكرناها و تنصب إليه الآثار و الأحوال من الأبواب التي وصفناها فكأنه هدف يصاب على الدوام من كل جانب، فإذا أصابه شي‏ء و تأثر به أصابه من جانب آخر ما يضاده فيغير وصفه، فإن نزل الشيطان به و دعاه إلى الهوي و التفت القلب إليه نزل الملك به و صرفه عنه، و إن جذبه شيطان إلى شر جذبه شيطان آخر إلى غيره، و إن جذبه ملك إلى خير جذبه ملك آخر إلى غيره، فتارة يكون متنازعا بين ملكين، و تارة بين شيطانين و تارة بين ملك و شيطان، و لا يكون قط مهملا، و إليه الإشارة بقوله‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 277

تعالى:" وَ نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَ أَبْصارَهُمْ".

و لاطلاع رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم على عظيم صنع الله في عجائب القلب و تقلبه كان يحلف به و كان يقول: و لا مقلب القلوب، و كان كثيرا ما يقول صلى الله عليه و آله و سلم: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، قالوا: أو تخاف يا رسول الله؟ فقال: و ما يؤمنني و القلب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء، و في لفظ آخر: إن شاء أن يقيمه أقامه و إن شاء أن يزيغه أزاغه، و ضرب له رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم ثلاثة أمثلة فقال: مثل القلب مثل العصفور تنقلب في كل ساعة، و قال: مثل القلب في تقلبه كالقدر إذا استحمت غليانا و قال صلى الله عليه و آله و سلم: مثل القلب كمثل ريشة في أرض فلاة تقلبها الرياح ظهر البطن، و هذه التقلبات من عظيم صنع الله في تقليبه من حيث لا يهتدى إليه، لا يعرفه إلا المراقبون لقلوبهم، و المراعون لأحوالهم مع الله تعالى، و القلوب في الثبات على الخير و الشر و التردد بينهما ثلاثة، قلب عمر بالتقوى و زكى بالرياضة، و طهر من خبائث الأخلاق، فينقدح فيه خواطر الخير من خزائن الغيب، و مداخل الملكوت، فيتصرف العقل إلى التفكر فيما خطر ليعرف دقائق الخير فيه، و يطلع على أسرار فوائده، فينكشف له بنور البصيرة وجهه، فيحكم بأنه لا بد من فعله، و يستحث عليه، و يدعو إلى العمل به، فينظر الملك إلى القلب فيجده طيبا في جوهره، طاهرا بتقواه مشيرا بضياء العقل، معمورا بأنوار المعرفة، و يراه صالحا لأن يكون مستقرا له، فعند ذلك يمده بجنود لا ترى و يهديه إلى خيرات أخرى حتى ينجر الخير إلى الخير.

و كذلك على الدوام لا يتناهى إمداده بالترغيب في الخير و يتيسر الأمر عليه و إليه الإشارة بقوله تعالى:" فَأَمَّا مَنْ أَعْطى‏ وَ اتَّقى‏ وَ صَدَّقَ بِالْحُسْنى‏ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى‏" و في مثل هذا القلب يشرق نور المصباح من مشكاة الربوبية حتى لا

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 278

يخفى فيه الشرك الخفي الذي هو أخفى من دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء، و لا تخفى على هذا النور خافية، و لا يروج عليه شي‏ء من مكائد الشيطان، بل يقف عليه الشيطان و يوحي زخرف القول غرورا، و لا يلتفت إليه.

و هذا القلب بعد طهارته من المهلكات يصير على القرب معمورا بالمنجيات من الشكر و الصبر و الخوف و الرجاء و الزهد و المحبة و الرضا و التوكل و التفكر و المحاسبة و المراقبة و أمثالها.

و هو القلب الذي أقبل الله تعالى عليه بوجهه، و هو القلب المطمئن المراد بقوله تعالى:" أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ" و بقوله عز و جل:" يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ".

القلب الثاني: القلب المخذول المشحون بالهوى، المدنس بالخبائث الملوث بالأخلاق الذميمة، المفتحة فيه أبواب الشياطين، المسدودة عنه أبواب الملائكة و مبدء الشر فيه أن ينقدح فيه خاطر من الهوى و يهجس فيه، فينظر القلب إلى حاكم العقل ليستغني عنه، و يستكشف وجه الصواب فيه فيكون العقل قد ألف خدمة الهوى فأنس به، و استمر على استنباط الحيل له في موافقة الهوى و مساعدته، فيسول النفس له و يساعده عليه، فينشرح الصدر بالهوى و ينبسط فيه ظلماته لانخناس جند العقل عن مدافعته فيقوي سلطان الشيطان لاتساع مكانه بسبب انتشار الهوى، فيقبل عليه بالتزيين و الغرور و الأماني، و يوحى بذلك زخرف القول غرورا، فيضعف سلطان الإيمان بالوعد و الوعيد، و يخبو نور اليقين بخوف الآخرة أن يتصاعد من الهوى دخان مظلم إلى القلب يملأ حواسه حتى تنطفي أنواره فيصير العقل كالعين التي ملأ الدخان أجفانها، فلا يقدر على أن تنظر و هكذا تفعل غلبة

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 279

الشهوة في القلب حتى لا يبقى للقلب إمكان التوقف و الاستبصار، و لو بصره واعظ و أسمعه ما هو الحق فيه عمى عن الفهم، و صم عن السمع، و هاجت الشهوة و نشط الشيطان و تحركت الجوارح على وفق الهوى، و ظهرت المعصية إلى عالم الشهادة من خزائن الغيب بقضاء من الله و قدره.

و إلى مثل هذا القلب الإشارة بقوله تعالى:" أَ رَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَ فَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا، أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا" و بقوله عز و جل:" لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى‏ أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ" إلى قوله:" أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ" و رب قلب هذا حاله بالإضافة إلى جميع الشهوات، و رب قلب هذا حاله بالإضافة إلى بعض الشهوات، كالذي يتورع عن بعض الأشياء و لكنه إذا رأى وجها حسنا لا يملك عينه و قلبه و طاش عقله و سقط مساك قلبه، أو كالذي لا يملك لنفسه عند الغضب مهما استحقر و أذكر عيب من عيوبه، أو كالذي لا يملك نفسه عند القدرة على أخذ درهم أو دينار بل يتهالك عليه تهالك الواله المستهتر فتنسرح منه المروة و التقوى.

و كل ذلك لتصاعد دخان الهوي إلى القلب حتى يظلم و ينطفئ منه أنوار البصيرة، فينطفي منه نور الحياة و المروة و الإيمان، و يسعى في تحصيل مراد الشيطان.

القلب الثالث: قلب يبتدأ فيه خواطر الهوى، فيدعوه إلى الشر فيلحقه خاطر الإيمان، فيدعوه إلى الخير فتنبعث النفس بشهواتها إلى نصرة خاطر الشر و تحس التمتع و التنعم فينبعث العقل إلى خاطر الخير، و يدفع في وجه الشهوة و يقبح فعلها و ينسبها إلى الجهل، و يشبهها بالبهيمة و السبع في تهجمها على الشر، و قلة اكتراثها بالعواقب.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 280

فتميل النفس إلى نصح العقل، فيحمل الشيطان حملة على العقل و يقوي داعية الهوى و يقول ما هذا التحرج البارد، و لم تمتنع عن هواك فتؤذى نفسك، و هل ترى أحدا من أهل عصرك يخالف هواه أو يترك غرضه؟ أ فتترك ملاذ الدنيا لهم فيتمتعون فيها، و تحجر على نفسك فتبقى محروما شقيا متعوبا يضحك عليك أهل الزمان، أ تريد أن يزيد منصبك على فلان و فلان و قد فعلوا مثل ما اشتهيت و لم يمتنعوا، أ ما ترى العالم الفلاني ليس يحترز عن فعل ذلك و لو كان شرا لامتنع عنه فتميل النفس إلى الشيطان و تنقلب إليه فيحمل الملك حملة على الشيطان فيقول هل هلك إلا من اتبع لذة الحال و نسي العاقبة أ فتقنع بلذة يسيرة و تترك لذة الجنة و نعيمها أبد الآباد؟ أم تستثقل ألم الصبر عن شهوة و لا تستثقل ألم النار؟ أ تغتر بغفلة الناس عن أنفسهم و اتباعهم هواهم و مساعدتهم الشيطان؟ مع أن عذاب النار لا يخفف عنك بمعصية غيرك؟ أ رأيت لو كنت في صيف و وقف الناس كلهم في الشمس و كان لك بيت بارد أ كنت تساعد الناس أم تطلب لنفسك الخلاص فكيف تخالف الناس خوفا من حر الشمس و لا تخالفهم خوفا من حر النار.

فعند ذلك تميل النفس إلى قول الملك، فلا يزال القلب يتردد بين الجندين متجاذبا بين الحزبين إلى أن يغلب على القلب من هو أولى به فإن كانت الصفات التي في القلب الغالب عليها الصفات الشيطانية التي ذكرناها غلبه الشيطان و مال القلب إلى جنسه من أحزاب الشياطين، معرضا عن حزب الله تعالى و أوليائه و مساعدا لحزب الشيطان و أوليائه، و جرى على جوارحه بسابق القدر ما هو سبب بعده عن الله تعالى.

و إن كان الغالب على القلب الصفات الملكية لم يصغ القلب إلى إغواء الشيطان و تحريضه إياه على العاجلة و تهوينه أمر الآجلة، بل مال إلى حزب الله تعالى و ظهرت الطاعة بموجب ما سبق من القضاء على جوارحه.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 281

و قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن، أي بين تجاذب هذين الحزبين و هو الغالب على القلوب أعني التقلب و الانتقال من حزب إلى حزب، أما الثبات على الدوام مع حزب الملائكة أو حزب الشيطان فنادر من الجانبين، و هذه الطاعات و المعاصي تظهر من خزائن العلم إلى عالم الشهادة بواسطة خزائن القلب، فإنه من خزائن الملكوت و هي إذا ظهرت كانت علامات تعرف أرباب القلوب سابق القضاء، فمن خلق للجنة يسرت له الطاعة و أسبابها، و من خلق للنار يسرت له أسباب المعصية و سلط عليه أقران السوء و ألقي في قلبه حكم الشيطان.

فإنه بأنواع الحكم يغره الحمقى كقوله: الله تعالى رحيم فلا تبال، و إن الناس كلهم ما يخافون الله فلا تخالفهم فإن العمر طويل فاصبر حتى تتوب غدا يعدهم بالتوبة و يمنيهم بالمغفرة فيهلكهم، و بهذه الحيل و ما يجري مجراها يوسع قلبه لقبول الغرور و يضيقه عن قبول الحق، إلى آخر ما ذكره مما يوافق مذهب الأشاعرة، و لسنا نقول به و الله يحق الحق و هو يهدي إلى السبيل.

و أما ما ذكره من المؤاخذة على حكم القلب إذا كان اختياريا، و على الهم و العزم إذا كان الصارف غير خوف الله تعالى فهما مخالفان للأخبار المعتبرة فإنها تدل على عدم المؤاخذة مع ترك الفعل مطلقا، و ما استدل به على الأخير فهي أخبار عامية لا تعارض الأخبار المعتبرة، و يمكن حمل الخبر الأول على أن كتابة الحسنة موقوفة على أن يكون الترك لله و أخبارنا إنما تدل على عدم كتابة السيئة و ليس فيها كتابة الحسنة فلا تنافي، و الخبر الثاني غير صريح في المقصود، و التمثيل الذي ذكره في محل المنع، و الخبر الثالث يمكن أن يكون المراد به الإرادة مع سل السيف و التوجه إلى القاتل و الحملة عليه، بل الإعانة على نفسه، و سيأتي بعض القول في أصل المطلب آنفا إن شاء الله تعالى.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 282

باب الاعتراف بالذنوب و الندم عليها

 (1)

 (الحديث الأول)

 (2): مجهول.

" ما ينجو من الذنب"

 (3) أي من أصل الذنب في الدنيا أو من عقوبته في الدارين‏

إلا من أقر

 (4) بأنه ذنب فإن من أنكر كونه ذنبا و كان مستحلا له فهو كافر لا يتوب، و لا يستحق العفو، و لو كان المراد بالإقرار التوبة فيمكن أن يحمل على النجاة الكاملة أو النجاة قطعا و استحقاقا، لأنه مع عدم التوبة هو في مشية الله إن شاء عذبه و إن شاء عفا عنه، فلا ينافي الحصر و يمكن حمله على ما دل عليه الخبر الخامس:

و كفى بالندم توبة، ظاهره الاكتفاء بالندم في التوبة، و لا يشترط فيه العزم على الترك في المستقبل، و هو خلاف المشهور و سائر الأخبار إلا أن يحمل على الندم الكامل، و هو مستلزم للعزم المذكور.

و قيل: إن الله تعالى خلق القلب قابلا للمخاطرات الحسنة و المخاطرات القبيحة و الأولى من الملك و الثانية من الشيطان، ثم الثانية إذا أثرت في القلب حصل فيه شوق إلى الذنب و هو يوجب العزم و العزم يوجب تحرك القدرة و القوة إليه، و تحرك القدرة يوجب تحرك الأعضاء إليه فيصدر منه الذنب، و إذا أخذت بيده العناية الأزلية و أثرت فيه المخاطرات الحسنة و تحرك حصل له علم بأن الذنوب سموم مهلكة حصل له شوق إلى قرب المبدأ و الرجوع إليه، و زال عنه الشوق إلى الذنب، فتحصل له ندامة عما كان فيه، و هو المسمى بالتوبة، فإذا زال الشوق إلى‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 283

الذنب و حصلت له الندامة زال العزم عليه، و متى زال العزم زال تحرك القوة فيزول تحرك الأعضاء لأن المسببات تزول بزوال أسبابها، كما يشعر به قول أمير المؤمنين عليه السلام في هذا الباب: أن الندم على الذنب يدعو إلى تركه، فمعنى قوله عليه السلام: كفى بالندم توبة، أنه إذا حصل الندم حصلت التوبة و الرجوع إلى الله تعالى بالإقلاع عن الذنوب و الخروج منه لأنه أصل له، و سبب مؤد إليه، و لم يرد أن مجرد الندم من دون كف النفس عن الذنوب كاف في الرجوع إليه إذ ليس مجرد ذلك توبة و ندامة، بل هو شبيه بالاستهزاء، نعم الندامة المفضية إلى ترك الذنوب توبة و إن لم يستغفر منه.

 (الحديث الثاني)

 (1): مرسل، و المراد

بالإقرار

 (2) بالنعم معرفة المنعم و قدر نعمته و أنها منه تفضلا، و هو شكر و الشكر يوجب الزيادة لقوله تعالى:" لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ" و بالإقرار بالذنوب الإقرار بها مجملا و مفصلا، و هو ندامة منها، و الندامة توبة، و التوبة توجب غفران الذنوب، و يمكن أن يكون الحصر حقيقيا إذ يمكن إدخال كلما أراد الله فيهما، و قوله: لا و الله، رد على المدعين للصلاح المغترين بأعمالهم الذاهلين عن شرائط القبول و أسباب الوصول.

 (الحديث الثالث)

 (3): كالسابق سندا و مؤيدا له متنا، و يدل على أن الذنب‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 284

الذي يوجب الخضوع و التذلل خير من الطاعة التي توجب العجب و التدلل.

 (الحديث الرابع)

 (1): ضعيف على المشهور صحيح عندي.

" من ذنب"

 (2) أي من أثره و استحقاق العقوبة بسببه‏

" بإصرار"

 (3) الباء للملابسة و الظرف صفة للذنب، و الباء في‏

قوله: بإقرار

 (4)، للملابسة أو السببية، و على الأول تقديره إلا ذنب بإقرار، و على الثاني بشي‏ء إلا بإقرار، و الإصرار إما فعلي و هو المواظبة على نوع ذلك الذنب أو مطلقا، أو حكمي و هو العزم على فعله ثانيا و إن لم يفعل كما صرح به بعض الأصحاب، و سيأتي تحقيقه إن شاء الله، و هو محمول على الخروج على سبيل القطع و الاستحقاق كما مر.

 (الحديث الخامس)

 (5): مجهول.

" فعلم أن الله مطلع عليه"

 (6) لعل المراد الذي يؤثر في النفس و يثمر العمل، و إلا فكل مسلم يقر بهذه الأمور، و من أنكر شيئا من ذلك فهو كافر، و من داوم على مراقبة هذه الأمور و تفكر فيها تفكرا صحيحا لا يصدر منه ذنب إلا نادرا و لو صدر منه يكون بعده نادما خائفا فهو تائب حقيقة و إن لم يستغفر باللسان، و لو عاد إلى الذنب مكررا لغلبة الشهوة عليه، ثم يصير خائفا مشفقا لائما نفسه فهو مفتن تواب.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 285

 (الحديث السادس)

 (1): ضعيف.

" أن يطلب"

 (2) أي بأن يطلب أو هو بدل اشتمال للعبد، و تعدية الطلب بإلى لتضمين معنى التوجه و نحوه.

 (الحديث السابع)

 (3): ضعيف.

" إن الندم على الشر"

 (4) أي الندامة بعد الفعل و إن لم يكن مع العزم على الترك يدعو إلى التوبة و العزم على الترك بالكلية.

 (الحديث الثامن)

 (5): مجهول.

" إلا غفر الله له قبل أن يحمده"

 (6) الأنسب بالجزء الثاني إلا زاد الله له أو حكم له بالزيادة له.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 286

باب ستر الذنب‏

 (1)

 (الحديث الأول)

 (2): ضعيف.

" مولى الرضا عليه السلام"

 (3) أي كان من شيعته أو ممن أعتقه و يقال المولى أيضا لمن التحق بقبيلة و لم يكن منهم و

" المستتر"

 (4) على بناء الفاعل، و الباء للتعدية و

" يعدل"

 (5) على بناء المجرد، و في الأول تقدير أي فعل المستتر و سيأتي في كتاب الزكاة تعدل سبعين حجة، و قيل: الباء للمصاحبة مثل" اهْبِطْ بِسَلامٍ"" وَ قَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ"" فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ" و يعدل على بناء التفعيل أي يسوي و يحصل‏

" و المذيع بالسيئة"

 (6) لعدم المبالاة بالشرع و لقلة الحياء

" مخذول"

 (7) يسلب عنه التوفيق‏

" و المستتر بها"

 (8) أي بالسيئة حياءا لا نفاقا

" مغفور له"

 (9) و يدل الخبر على أن إخفاء الطاعات أحسن من إظهارها لبعدها من الرياء و السمعة، و قيل: إظهارها أفضل و قيل: بالتفصيل بأن في الواجبات الإظهار أفضل لعدم التهمة، و في المستحبات الإخفاء أفضل، و قد يفصل بوجه آخر و هو أنه إن كان مأمونا من الرياء و السمعة، فالإظهار أفضل لأنه يصير سببا لتأسي الغير به و عدم التهمة، و إلا فالإخفاء أفضل و قد مر القول فيه.

 (الحديث الثاني)

 (10): مجهول.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 287

باب من يهم بالحسنة أو السيئة

 (1)

 (الحديث الأول)

 (2): ضعيف.

و يدل على أنه لا مؤاخذة على قصد المعاصي إذا لم يعمل بها، و هو يحتمل وجهين، الأول: أن تكون سيئة ضعيفة يكفرها تركها، الثاني: أن لا يكون القصد متصفا بالحسن و القبح أصلا كما ذهب إليه جماعة، و الأول أظهر، نعم لو كان بمحض الخطور بدون اختياره لا يتعلق به التكليف و قد مر تفصيل ذلك في باب أن الإيمان مبثوث لجوارح البدن، و في باب الوسوسة.

و قال المحقق الطوسي قدس سره في التجريد: إرادة القبيح قبيحة و تفصيله أن ما في النفس ثلاثة أقسام: الأول: الخطرات التي لا تقصد و لا تستقر و قد مر أن لا مؤاخذة بها و لا خلاف فيه بين الأمة ظاهرا، و الثاني: الهم و هو حديث النفس اختيارا أن تفعل شيئا أو أن لا تفعل فإن كان ذلك حسنة كتبت له حسنة واحدة، فإن فعلها كتبت له عشر حسنات، و إن كانت سيئة لم تكتب عليه، فإن فعلها كتبت عليه سيئة واحدة، كل ذلك مقتضى أحاديث هذا الباب، و كأنه لا خلاف فيه أيضا بين الأمة إلا أن بعض العامة صرح بأن هذه الكرامة مختصة بهذه الأمة، و ظاهر هذا الخبر أنها كانت في الأمم السابقة أيضا.

الثالث: العزم و هو التصميم و توطين النفس على الفعل أو الترك، و قد اختلفوا فيه، فقال أكثر الأصحاب: أنه لا يؤاخذ به لظاهر هذه الأخبار، و قال أكثر العامة

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 288

و المتكلمين و المحدثين أنه يؤاخذ به لكن بسيئة العزم لا بسيئة المعزوم عليه، لأنها لم تفعل فإن فعلت كتبت سيئة ثانية لقوله تعالى:" إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ" و قوله:" اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ".

و لكثرة الأخبار الدالة على حرمة الحسد و احتقار الناس و إرادة المكروه بهم، و حملوا الأحاديث الدالة على عدم المؤاخذة على الهم.

و المنكرون أجابوا عن الآيتين بأنهما مخصصات بإظهار الفاحشة و المظنون كما هو الظاهر من سياقهما، و عن الثالث أن العزم المختلف فيه ماله صورة في الخارج كالزنا و شرب الخمر، و أما ما لا صورة له في الخارج كالاعتقاديات و خبائث النفس مثل الحسد و غيره فليس من صور محل الخلاف، فلا حجة فيه على ما نحن فيه، و أما احتقار الناس و إرادة المكروه بهم فإظهارهما حرام يؤاخذه به و لا نزاع فيه، و بدونه أول المسألة.

ثم الظاهر أنه لا فرق في‏

قوله: و من هم بسيئة و لم يعملها لم يكتب عليه‏

 (1) بين أن يعملها خوفا من الله أو خوفا من الناس و صونا لعرضه.

ثم إن عشر أمثال الحسنة مضمونة البتة لدلالة نص القرآن عليه، و إن الله قد يضاعف لمن يشاء إلى سبعمائة ضعف، كما جاء في بعض الأخبار، و إلى ما لا حساب له كما قال سبحانه:" إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ".

ثم اعلم أن الظاهر أن عدم المؤاخذة بإرادة المعصية إنما هو للمؤمنين فلا ينافي ما مر مرويا عن الصادق عليه السلام أنه إنما خلد أهل النار في النار لأن نياتهم‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 289

كانت في الدنيا أن لو خلدوا فيها أن يعصوا الله أبدا، و لو سلم العموم فإنما يعفى عنه إذا بقي زمانا عزم على فعله في ذلك الزمان و لم يفعل، و في الكافر ليس كذلك لأنه لم يبق الزمان الذي عزم على الفعل فيه.

فإن قيل: لعله كان لو بقي في أزمنة الأبد عاد و لم يفعل؟

قلنا: يعلم الله خلاف ذلك منهم، لقوله سبحانه:" وَ لَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ" و قد يجاب بأنه لا منافاة بينهما، إذ دل أحدهما على عدم المؤاخذة بنية المعصية إذا لم يفعلها، و دل الآخر على المؤاخذة بنية المعصية إذا فعلها، فإن المنوي كالكفر و استمراره مثلا موجود في الخارج، فهذه النية ليست داخلة في النية بالسيئة التي لم يعملها، و اعترض عليه بأن المعصية ليست سببا للخلود على ما يفهم من الحديث المذكور، لكونها في زمان منقطع محصور هو مدة العمر، كذلك نيتها لأنها تنقطع أيضا عند انقطاع العمر لدلالة الآيات و الروايات على ندامة العاصي عند الموت، و مشاهدة أحوال الآخرة فينبغي أن يكون ناويها في النار بقدر كونها في الدنيا لا مخلدا.

فأجيب أولا: بأن هذه النية موجبة للخلود لدلالة الحديث عليه بلا معارض، فوجب التسليم و القبول، و ثانيا: بأن صاحبها في هذه الدنيا التي هي دار التكليف لم يفعل شيئا يوجب نجاته من النار، و ندامته بعد الموت لا تنفع لانقطاع زمان التكليف، و ثالثا: أن سبب الخلود ليس ذات المعصية و نيتها من حيث هي بل هو المعصية و نيتها على فرض البقاء أبدا، و لا ريب في أنها معصية أبدية موجبة للخلود أبدا انتهى.

و أقول: لا يخفى ما في الجميع من الوهن و الضعف، و قد مر بعض القول منا فيه في باب النية، و قال الشهيد رفع الله درجته في القواعد: لا يؤثر نية المعصية

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 290

عقابا و لا ذما ما لم يتلبس بها، و هو مما ثبت في الأخبار العفو عنه، و لو نوى المعصية و تلبس بما يراه معصية، فظهر خلافها ففي تأثير هذه النية نظر من حيث إنها لم تصادف المعصية فقد صارت كنية مجردة و هي غير مؤاخذ بها، و من دلالتها على انتهاكه الحرمة و جرأته على المعاصي، و قد ذكر بعض الأصحاب أنه لو شرب المباح مشتبها بشراب المسكر فعل حراما، و لعله ليس لمجرد النية بل بانضمام فعل الجوارح إليها. و يتصور محل النظر في صور: منها: ما لو وجد امرأته في منزل غيره فظنها أجنبية فأصابها فتيقن أنها زوجته أو أمته، و منها: ما لو وطئ زوجته فظنها حائضا فبان طاهرا، و منها: لو هجم على طعام بيد غيره فأكل منه فتبين ملك الآكل و منها: لو ذبح شاة فظنها للغير بقصد العدوان فظهرت ملكه، و منها: إذا قتل نفسا بظنها معصومة فبانت مهدورة.

و قد قال بعض العامة: يحكم بفسق متعاطي الملك لدلالته على عدم المبالاة بالمعاصي و يعاقب في الآخرة ما لم يتب عقابا متوسطا بين عقاب الكبيرة و الصغيرة، و كل منهما تحكم و تخرص على الغيب، انتهى.

و قال شيخنا البهائي قدس سره في بعض تعليقاته على الكتاب المذكور: قوله لا يؤثر نية المعصية عقابا و لا ذما إلى آخره، و غرضه طاب ثراه أن نية المعصية و إن كانت معصية إلا أنه لما وردت الأخبار بالعفو عنها لم يترتب على فعلها عقاب و لا ذم و إن ترتب استحقاقهما، و لم يرد أن قصد المعصية و العزم على فعلها غير محرم كما يتبادر إلى بعض الأوهام، حتى لو قصد الإفطار مثلا في شهر رمضان و لم يفطر لم يكن آثما، كيف و المصنف مصرح في كتب الفروع بتأثيمه.

و الحاصل أن تحريم العزم على المعصية مما لا ريب فيه عندنا و كذا عند العامة و كتب الفريقين من التفاسير و غيرها مشحونة بذلك، بل هو من ضروريات الدين‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 291

و لا بأس بنقل شي‏ء من كلام الخاصة و العامة في هذا الباب ليرتفع به جلباب الارتياب:

في الجوامع عند تفسير قوله تعالى:" إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا" يقال: للإنسان لم سمعت ما لا يحل لك سماعه؟ و لم نظرت إلى ما لا يحل لك النظر إليه؟ و لم عزمت على ما لا يحل لك العزم عليه؟ انتهى.

و كلامه رحمه الله في مجمع البيان قريب من كلامه هذا.

و قال البيضاوي و غيره من علماء العامة عند تفسير هذه الآية: فيها دليل على أن العبد مؤاخذ بعزمه على المعصية، انتهى.

و عبارة الكشاف موافقة لعبارة الطبرسي، و كذا عبارة التفسير الكبير للفخر و قال السيد المرتضى علم الهدى أنار الله برهانه في كتاب تنزيه الأنبياء عند ذكر قوله تعالى:" إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَ اللَّهُ وَلِيُّهُما" إنما أراد تعالى أن الفشل خطر ببالهم و لو كان الهم في هذا المكان عزما لما كان وليهما، ثم قال:

و إرادة المعصية و العزم عليها معصية، و قد تجاوز قوم حتى قالوا العزم على الكبيرة كبيرة و على الكفر كفرا، انتهى كلامه نور الله مرقده.

و كلام صاحب الكشاف في تفسير هذه الآية مطابق لكلامه طاب ثراه، و كذا كلام البيضاوي و غيره، و أيضا فقد صرح الفقهاء بأن الإصرار على الصغائر الذي هو معدود من الكبائر إما فعلي و هو المداومة على الصغائر بلا توبة، و إما حكمي و هو العزم على فعل الصغائر متى تمكن منها، و بالجملة فتصريحات المفسرين و الفقهاء و الأصوليين بهذا المطلب أزيد من أن يحصى، و الخوض فيه من قبيل توضيح الواضحات و من تصفح كتب الخاصة و العامة لا يعتريه ريب فيما تلوناه.

فإن قلت: قد ورد عن أئمتنا عليهم السلام أخبار كثيرة و تشعر بأن العزم على المعصية

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 292

ليس معصية ثم ذكر هذا الخبر و الذي بعده ثم قال: و الأحاديث الواردة في الكافي و غيره بهذا المضمون كثيرة؟

قلت: لا دلالة في تلك الأحاديث على ما ظننت من أن العزم على المعصية ليس معصية، و إنما دلت على أن من عزم على معصية كشرب الخمر أو الزنا مثلا و لم يعملها لم يكتب عليه تلك المعصية التي عزم عليها و أين هذا عن المعنى الذي ظننته؟

قوله: فهو غير مؤاخذ بها، أي غير معاقب عليها لأنها معفو عنها، قوله:

منها لو وجد امرأته" إلخ" عد بعضهم من هذه الصور ما لو صلى في ثوب يظن أنه حرير أو مغصوب عالما بالحكم فظهر بعد الصلاة أنه ممزوج أو مباح، و فرع على ذلك التردد في بطلان صلاته، و الأولى عدم التردد في بطلانها، نعم يتمشى صحتها عند القائل بعدم دلالة النهي في العبادة على الفساد.

قوله: و كلاهما، أي الحكم بفسق متعاطي ذلك و بعقابه عقابا متوسطا قول بلا دليل، و فيه: أن دليل الأول مذكور و سيما على القول بأن العزم على الكبيرة كبيرة فتأمل.

قوله: و تخرص بالخاء المعجمة و الصاد المهملة، أي كذب و تخمين باطل، انتهى.

 (الحديث الثاني)

 (1): موثق.

 (الحديث الثالث)

 (2): مجهول.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 293

و الطيب‏

 (1) بفتح الطاء و تشديد الياء أو بكسر الطاء، و كان هذان ريحان معنويان يجدهما الملائكة لصاحب الشمال‏

" قم"

 (2) أي أبعد عنه ليس لك شغل به، أو كناية عن التوقف و عدم الكتابة كما أن في بعض النسخ قف، و قول صاحب الشمال قف بهذا المعنى، أو إشارة إلى أن صاحب اليمين يكتب له في كل نفس حسنة ما لم يفعل السيئة أو يهم بها و عدم ذكر كتابة الحسنة مع عدم الفعل على الأول لا يدل على العدم و لا ينافي سائر الأخبار، و يدل على أن الملك جسم كما اتفق عليه المسلمون.

 (الحديث الرابع)

 (3): صحيح.

و أربع‏

 (4) مبتدأ و الموصول بصلته خبر، و تأنيث الأربع باعتبار الخصال أو الكلمات، و قد يكون المبتدأ نكرة إذا كان مفيدا و قيل: في قول الشاعر:

         ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتها             شمس الضحى و أبو إسحاق و القمر

 ثلاثة خبر و شمس مبتدأ، و لا يخفى أنه لا يناسب هذا المقام، و قيل في الشعر:

ثلاثة مبتدأ و خبره محذوف أي لنا ثلاثة و شمس بدل ثلاثة و من اسم موصول‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 294

مبتدأ فله عائدان الأول ضمير فيه، و الثاني المستتر في لم يهلك، و هذا المستتر منه لقوله: إلا هالك، لأن مرجعه من ألفاظ العموم، و ليس إلا هالك استثناء مفرغا و المراد بمن كن فيه أن يكون مؤمنا مستحقا لهذه الخصال، فإن هذه الخصال ليست في غير المؤمن كما عرفت، و قيل: معنى كن فيه أن يكون معلوما له، و ما ذكرنا أظهر.

و اعلم أن الهلاك في‏

قوله: يهلك‏

 (1) بمعنى الخسران و استحقاق العقاب و في‏

قوله: هالك‏

 (2) بمعنى الضلال و الشقاوة الجبلية، و تعديته بكلمة على إما بتضمين معنى الورود، أي لم يهلك حين وروده على الله، أو معنى الاجتراء أي مجترئا على الله، أو معنى العلو و الرفعة كان من يعصيه تعالى يترفع عليه و يخاصمه، و يحتمل أن يكون على بمعنى في، نحوه في قوله تعالى:" عَلى‏ حِينِ غَفْلَةٍ" أي في معرفته و أوامره و نواهيه، أو بمعنى من بتضمين معنى الخبيثة كما في قوله تعالى:" إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ" أو بمعنى عن بتضمين معنى المجاوزة، أو بمعنى مع أي حالكونه معه و مع ما هو عليه من اللطف و العناية كما قيل في قوله سبحانه:

" وَ لَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى‏ عِلْمٍ" و جملة بهم إلى آخره استيناف بياني.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 295

و قوله: فيعملها

 (1) بالفاء السببية لتضمن ما قبله معنى الترجي،

و قوله: أن يعملها

 (2) بدل اشتمال للسيئة، أو هو بتقدير لأن يعملها

و قوله: فإن الله‏

 (3)، كلام الرسول صلى الله عليه و آله و سلم أو من تتمة كلام الملك أو الاستغفار مجرور معطوف على قوله حسنة،

و قوله: فإن قال‏

 (4) بيان لأفضل أفراد الاستغفار و ليس الغرض الانحصار.

باب التوبة

 (5)

 (الحديث الأول)

 (6): صحيح.

و قال في النهاية في حديث أبي: سألت النبي صلى الله عليه و آله و سلم عن التوبة النصوح فقال:

هي الخالصة التي لا يعاود بعدها الذنب، و فعول من أبنية المبالغة يقع على الذكر و الأنثى، فكأن الإنسان بالغ في نصح نفسه بها.

و قال الشيخ البهائي قدس سره: قد ذكر المفسرون في معنى‏

التوبة النصوح‏

 (7) وجوها: منها: أن المراد توبة تنصح الناس أي تدعوهم إلى أن يأتوا بمثلها لظهور آثارها الجميلة في صاحبها أو تنصح صاحبها فيقلع عن الذنوب ثم لا يعود إليها أبدا.

و منها: أن النصوح ما كانت خالصة لوجه الله سبحانه من قولهم عسل نصوح إذا كان خالصا من الشمع بأن يندم على الذنوب لقبحها أو كونها خلاف رضا الله سبحانه لا لخوف النار مثلا، و قد حكم المحقق الطوسي طاب ثراه في التجريد بأن الندم على الذنوب خوفا من النار ليس توبة.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 296

و منها: أن النصوح من النصاحة و هي الخياطة لأنها تنصح من الدين ما مزقته الذنوب أو يجمع بين التائب و بين أولياء الله و أحبائه كما تجمع الخياطة بين قطع الثوب.

و منها: أن النصوح وصف للتائب و إسناده إلى التوبة من قبيل الإسناد المجازي أي توبة ينصحون بها أنفسهم بأن يأتوا بها على أكمل ما ينبغي أن تكون عليه حتى تكون قالعة لآثار الذنوب من القلوب بالكلية، و ذلك بإذابة النفس بالحسرات، و محو ظلمة السيئات بنور الحسنات.

روى الشيخ الطبرسي عند تفسير هذه الآية عن أمير المؤمنين عليه السلام أن التوبة تجمعها ستة أشياء، على الماضي من الذنوب الندامة، و للفرائض الإعادة، و رد المظالم، و استحلال الخصوم، و أن تعزم على أن لا تعود، و أن تذيب نفسك في طاعة الله كما ربيتها في المعصية، و أن تذيقها مرارة الطاعات كما أذقتها حلاوة المعاصي.

و أورد السيد الرضي رضي الله عنه في كتاب نهج البلاغة أن قائلا قال بحضرته:

أستغفر الله، فقال له: ثكلتك أمك أ تدري ما الاستغفار؟ إن الاستغفار درجة العليين، و هو اسم واقع على ستة معان أولها: الندم على ما مضى، الثاني: العزم على ترك العود إليه أبدا، الثالث: أن يؤدي إلى المخلوقين حقوقهم حتى تلقى الله سبحانه أملس ليس عليك تبعة، الرابع: أن تعمد إلى كل فريضة عليك ضيعتها فتؤدي حقها، الخامس: أن تعمد إلى اللحم الذي نبت على السحت فتذيبه بالأحزان حتى يلصق الجلد باللحم، و ينشأ بينهما لحم جديد، السادس: أن تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية.

و في كلام بعض الأكابر أنه لا يكفي في جلاء المرآة قطع الأنفاس و الأبخرة المسودة لوجهها، بل لا بد من تصقيلها و إزالة ما حصل في جرمها من السواد،

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 297

كذلك لا يكفي في جلاء القلب من ظلمات المعاصي و كدوراتها، مجرد تركها و عدم العود إليها، بل يجب محو آثار تلك الظلمات بأنوار الطاعات فإنه كما يرتفع إلى القلب من كل معصية ظلمة و كدورة كذلك يرتفع إليه من كل طاعة نور و ضياء، فالأولى محو ظلمة كل معصية بنور طاعة تضادها بأن ينظر التائب إلى سيئاته مفصلة، و يطلب لكل سيئة منها حسنة تقابلها، فيأتي بتلك الحسنة على قدر ما أتى بتلك السيئة.

فيكفر استماع الملاهي مثلا باستماع القرآن و الحديث و المسائل الدينية، و يكفر مس خط المصحف محدثا بإكرامه و كثرة تقبيله و تلاوته، و يكفر المكث في المسجد جنبا بالاعتكاف فيه و كثرة التعبد في زواياه و أمثال ذلك.

و أما في حقوق الناس فيخرج من مظالمهم أولا بردها عليهم، و الاستحلال منهم، ثم يقابل إيذاءه لهم بالإحسان إليهم، و غصب أموالهم بالتصدق بماله الحلال، و غيبتهم بالثناء على أصل الدين و إشاعة أوصافهم الحميدة، و على هذا القياس يمحو كل سيئة من حقوق الله أو حقوق الناس بحسنة تقابلها من جنسها، كما يعالج الطبيب الأمراض بأضدادها، نسأل الله سبحانه أن يوفقنا لذلك بمنه و كرمه." ما كتبا عليه" كان النسبة إليهما على التغليب أو لكون كتابة صاحب الشمال بأمر صاحب اليمين كما مر، و قيل: الوحي إلى الجوارح و البقاع كناية عن محو الآثار التي تدل على المعصية عنهما، و قيل: المراد بكتمان الجوارح و بقاع الأرض ذنوبه إما نسيانهما كما في الملكين، أو عدم الشهادة بها، و الأول أظهر، و يؤيده ما روي من طرق العامة أنه تعالى ينسى أيضا جوارحه و بقاع الأرض ذنوبه، بل ربما يقال أنه يمحوها عن لوح نفسه أيضا ليكمل استعداده لإفاضة الفيض و الرحمة عليه، و يرتفع عنه الانفعال عند لقاء الرب.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 298

 (الحديث الثاني)

 (1): حسن كالصحيح.

" فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ"

 (2) أي في الربا قال البيضاوي: أي فمن بلغه وعظ من الله و زجر عن الربا

" فَانْتَهى‏"

 (3) أي فاتعظ و تبع النهي‏

" فَلَهُ ما سَلَفَ"

 (4) أي تقدم أخذه قبل نزول التحريم و لا يسترد منه، قال: الموعظة التوبة، أي ما تدعو إلى التوبة و هي الموعظة المؤثرة التي تترتب عليها التوبة، أو المراد بالموعظة أثرها، فالمراد بقوله: فانتهى الاستمرار على التوبة و عدم العود، و يحتمل أن يكون التوبة تفسيرا للجزءين معا.

 (الحديث الثالث)

 (5): ضعيف.

قوله عليه السلام: و أحب العباد

 (6)، كان المراد أن الله تعالى أمر بالتوبة النصوح، لكن إذا أذنب ثم تاب يحبه الله أيضا فالأحبية إضافية أو المعنى أنه يتوب من ذنب توبة نصوحا ثم يعود في ذنب آخر أو المراد بعدم العود العزم على عدم العود، و قيل: لعل المراد

بالمفتون التواب‏

 (7) من لا يعود إلى الذنب بعد التوبة، فيكون تأكيدا لما قبله، و كونه أحب بالنظر إلى من يتوب ثم يعود ثم يتوب و هكذا، لا بالنظر إلى من لم يذنب أبدا.

و يحتمل أن يراد بها كثير التوبة بأن يتوب ثم يذنب ثم يتوب و هكذا

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 299

و هو أحب ممن يتوب عن الذنوب كلها توبة واحدة، و ممن يذنب ذنوبا ثم يتوب منها ثم يذنب ذنوبا ثم يتوب منها، و قيل: اللام في العباد للعهد، و المفضل عليه من مات بلا توبة.

 (الحديث الرابع)

 (1): حسن كالصحيح و هو كالسابق.

قوله: هو الذنب‏

 (2) أي التوبة من الذنب، و قد مر معنى المفتن في باب تنقل أحوال القلب.

 (الحديث الخامس)

 (3): مرفوع كالحسن.

" ثلاث خصال"

 (4) الأولى أنه يحبهم، و الثانية أن الملائكة يستغفرون لهم.

و الثالثة أنه عز و جل وعدهم الأمن و الرحمة، و قال تعالى في سورة البقرة:

" يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَ لا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ" ثم قال:

" إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ"

 (5) فقيل: إن المعنى يحب التوابين عن النجاسات‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 300

الباطنة و هي الذنوب، و يحب المتطهرين من النجاسات الظاهرة بالماء، و قيل:

يحب التوابين من الذنوب و المتطهرين الذين لم يذنبوا، و قيل: التوابين من الكبائر و المتطهرين من الصغائر، و قيل: التائبين من المحرمات و المتطهرين من المكروهات كالوطي بعد الحيض و قيل: الغسل، و ورد في الحديث أنها وردت في المتطهرين بالماء في الاستنجاء.

" الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَ مَنْ حَوْلَهُ"

 (1) و قال البيضاوي: الكروبيون أعلى طبقات الملائكة و أولهم وجودا و حملهم إياه و حفيفهم حوله مجاز عن حفظهم و تدبيرهم له، أو كناية عن قربهم من ذي العرش و مكانتهم عنده و توسيطهم في نفاذ أمره‏

" يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ"

 (2) يذكرون الله بجوامع الثناء من صفات الجلال و الإكرام، و جعل التسبيح أصلا و الحمد حالا، لأن الحمد مقتضى حالهم دون التسبيح.

" وَ يُؤْمِنُونَ بِهِ" أخبر عنهم بالإيمان إظهارا لفضله و تعظيما لأهله، و مساق الآية لذلك كما صرح به‏

بقوله:" وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا"

 (3) و إشعارا بأن حملة العرش و سكان الفرش في معرفته سواء ردا على المجسمة و استغفارهم شفاعتهم و حملهم على التوبة، و إلهامهم بما يوجب المغفرة.

و فيه تنبيه على أن المشاركة في الإيمان توجب النصح و الشفقة، و إن تخالفت الأجناس لأنها أقوى المناسبات كما قال:" إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ".

" رَبَّنا"

 (4) أي يقولون ربنا و هو بيان ليستغفرون أو حال‏

" وَسِعْتَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ رَحْمَةً وَ عِلْماً"

 (5) أي وسعت رحمته و علمه فأزيل عن أصله للإغراق في وصفه بالرحمة

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 301

و العلم و المبالغة في عمومهما، و تقديم الرحمة لأنها المقصود بالذات هيهنا

" فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَ اتَّبَعُوا سَبِيلَكَ"

 (1) أي للذين علمت منهم التوبة و اتباع سبيل الحق‏

" وَ قِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ"

 (2) أي و احفظهم عنه و هو تصريح بعد إشعار للتأكيد، و الدلالة على شدة العذاب‏

" الَّتِي وَعَدْتَهُمْ"

 (3) أي إياها

" وَ مَنْ صَلَحَ"

 (4) عطف على هم الأول، أي أدخلهم و معهم هؤلاء ليتم سرورهم أو الثاني لبيان عموم الوعد

" إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ"

 (5) الذي لا يمتنع عليه مقدور

" الْحَكِيمُ"

 (6) الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه حكمته، و من ذلك الوفاء بالوعد.

" وَ قِهِمُ السَّيِّئاتِ"

 (7) و هو تعميم بعد تخصيص أو مخصوص بمن صلح أو المعاصي في الدنيا

لقوله:" وَ مَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ"

 (8) أي و من تقها في الدنيا فقد رحمته في الآخرة كأنهم سألوا السبب بعد ما سألوا المسبب‏

" وَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ"

 (9) يعني الرحمة أو الوقاية أو مجموعهما.

" فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ"

 (10) قيل: بأن يمحو سوابق معاصيهم بالتوبة و يثبت مكانهم لواحق طاعاتهم أو يبدل ملكة المعصية في النفس بملكة الطاعة، و قيل:

بأن يوفقه لأضداد ما سلف منه أو بأن يثبت له بدل كل عقاب ثوابا كما ورد في الخبر.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 302

 (الحديث السادس)

 (1): صحيح.

" أ ترى العبد"

 (2) الهمزة للإنكار، و فيه دلالة على أن التوبة مقرونة بالقبول البتة، و يدل عليه أيضا قول أمير المؤمنين عليه السلام: ما كان الله يفتح على عبد باب التوبة و يغلق عنه باب المغفرة، و يدل عليه أيضا ظاهر الآيات، و قال محيي الدين البغوي: التوبة من الكافر مقطوع بقبولها، و اختلف في قبولها من المعاصي فقيل كذلك، و قيل: لا ينتهي إلى القطع لأن الظواهر التي جاءت بقبولها ليست بنص و إنما هي نصوصات معرضة للتأويل، و قال عياض: قبولها ليس بواجب على الله تعالى عقلا، و إنما علمناه بالشرع و الإجماع خلافا للمعتزلة في إيجابهم ذلك عقلا على أصلهم في التحسين و التقبيح، و يدل على تحريم تقنيط المؤمنين من رحمة الله الواسعة، بل لا بد أن يكون الواعظ متوسطا بين الترغيب و الترهيب.

و أما إذا كان الاغترار و الرجاء غالبين على المستمعين فينبغي أن يزيد في الترهيب و إذا كان القنوط و الخوف غالبين عليهم ينبغي أن يبالغ في الترغيب كما هو مقتضى البلاغة.

 (الحديث السابع)

 (3): موثق.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 303

" إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ"

 (1) قال البيضاوي: أي لمة منه و هو اسم فاعل من طاف يطيف كأنها طافت بهم و دارت حولهم، فلم يقدر أن يؤثر فيهم، أو من طاف به الخيال يطيف طيفا تذكروا ما أمر الله به و نهى عنه‏

" فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ"

 (2) بسبب التذكر مواقع الخطإ و مكائد الشيطان فيتحرزون عنها و لا يتبعونه فيها.

و قال في النهاية: طيف من الجن أي عرض منهم، و أصل الطيف الجنون ثم استعمل في الغضب و مس الشيطان و وسوسته، و يقال له طائف أيضا و قد قرأ بهما قوله تعالى:" إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا" الآية يقال: طاف يطيف و يطوف طيفا و طوفا فهو طائف، ثم سمي بالمصدر، انتهى.

" يهم"

 (3) بالضم أي يقصد و قيل: بالكسر من الهميم و هو الذهاب في طريق، فالباء للملابسة أو بناء المجهول من الأفعال و الباء للآلة من الإهمام و هو الإزعاج، و لا يخفى بعدهما.

 (الحديث الثامن)

 (4): حسن كالصحيح.

" و زاده"

 (5) و في بعض النسخ و مزاده و الأول أصوب، في المصباح: زاد المسافر طعامه المتخذ لسفره، و الجمع أزواد و المزادة بكسر الميم وعاء التمر، و المزادة مفعلة من الزاد لأنه يتزود فيها الماء، و مثل هذا الحديث رواه مسلم في صحيحه بطرق متعددة عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال: لله أشد فرحا بتوبة عبده من رجل في أرض‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 304

دوية مهلكة معه راحلته عليها طعامه و شرابه فنام فاستيقظ و قد ذهبت فطلبها حتى أدركه العطش، ثم قال: ارجع إلى مكاني الذي كنت فيه فأنام حتى أموت فوضع رأسه على ساعده ليموت فاستيقظ و عنده راحلته و عليها زاده و طعامه و شرابه، فالله أشد فرحا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته و زاده.

و قال في النهاية: الدو الصحراء التي لا نبات بها، و الدوية منسوبة إليها، و قد يبدل من إحدى الواوين ألف فيقال: داوية على غير قياس، نحو طائي في النسب إلى طيئ، و قال في حديث التوبة: لله أشد فرحا بتوبة عبده، الفرح هيهنا و في أمثاله كناية عن الرضا و سرعة القبول و حسن الجزاء، لتعذر إطلاق ظاهر الفرح على الله تعالى.

 (الحديث التاسع)

 (1): ضعيف.

و يدل على أن التارك للذنب أفضل من التواب، و لعله محمول على ما إذا لم يصر سببا لعجبه أو على ما إذا عرض له بترك المندوبات و فعل المكروهات مثل تلك الحالة كما كان للأنبياء عليهم السلام و قد مر تحقيق ذلك.

 (الحديث العاشر)

 (2): ضعيف على المشهور.

" كمن لا ذنب له"

 (3) أي في عدم العقوبة لا التساوي في الدرجة و إن كان غير مستبعد في بعض أفرادهما كما عرفت‏

" كالمستهزء"

 (4) أي بنفسه أو بشرائع الدين أو برب العالمين أي شبيه به لأنه يظهر الندم و ليس بنادم حقيقة إذ الندامة الحقيقية تستتبع الترك كما عرفت، و يظهر الخوف و ليس كذلك و لو كان مستهزئا

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 305

حقيقة لكان كافرا بالله العظيم، و قيل: الظاهر أن الذنب أعم من أن يكون من نوع واحد أو من أنواع متعددة، ففيه دلالة على ما ذهب إليه بعض المحققين من أن التوبة إنما يتحقق بالندم من جميع الذنوب و الإقلاع عنها، و فيه نظر.

 (الحديث الحادي عشر)

 (1): حسن كالصحيح.

و العصيان‏

 (2) محمول على ترك الأولى، لأن دانيال عليه السلام كان من الأنبياء و هم معصومون من الكبائر و الصغائر عندنا كما مر

" لئن لم تعصمني لأعصينك"

 (3) فيه مع الإقرار بالتقصير اعتراف بالعجز عن مقاومة النفس و أهوائها، و حث على التوسل بذيل الألطاف الربانية و الاستعاذة من التسويلات النفسانية و الوساوس الشيطانية.

 (الحديث الثاني عشر)

 (4): ضعيف، و قد مر عن معاوية بسند آخر.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 306

 (الحديث الثالث عشر)

 (1): ضعيف، و قد مر مضمونه.

باب الاستغفار من الذنوب‏

 (2)

 (الحديث الأول)

 (3): مجهول.

" من غدوة إلى الليل"

 (4) أي من مثل ذلك الزمان، و يمكن أن يكون زمان التأجيل متفاوتا بحسب تفاوت الأشخاص و الأحوال و الذنوب، أو يكون المراد بالغدوة قبل الزوال أو بالليل ما قرب منه، فلا ينافي أخبار السبع ساعات، و قيل:

لم يحسب فيه ساعات النوم، و يحتمل أن يكون المراد بالاستغفار التوبة بشرائطها و أن يكون محض طلب المغفرة و هو أظهر، و قد يقال: الفرق بين التوبة و الاستغفار أن التوبة ترفع عقوبة الذنوب، و

الاستغفار

 (5) طلب الغفر و الستر عن الأغيار كيلا يعلمه أحد و لا يكون عليه شاهد.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 307

 (الحديث الثاني)

 (1): صحيح.

و الحي‏

 (2) إما منصوب صفة للجلالة أو مرفوع ببدلية الضمير أو كونه خبر مبتدإ محذوف، و كان هذا بيان الفرد الأكمل لإطلاق سائر الأخبار.

 (الحديث الثالث)

 (3): مجهول.

" كتبت عليه سيئة"

 (4) بالرفع‏

" ليذكر"

 (5) على بناء المفعول من التفعيل، و يحتمل المعلوم من المجرد لكنه بعيد

" لينساه"

 (6) على بناء المجهول أو المعلوم، و ذكر المؤمن من لطفه سبحانه و نسيان الكافر من سلب لطفه تعالى عنه ليؤاخذه بالكفر و الذنب جميعا، و حمل الكفر على كفر النعمة و كفر المخالفة بناء على أن كفر الجحود لا ينفع معه التوبة عن الذنب و الاستغفار إلا عن الكفر بعيد، لأن الكفر بالمعنيين الأولين يجامع الإيمان أيضا إلا أن يحمل الإيمان على الكامل.

 (الحديث الرابع)

 (7): مرسل كالموثق.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 308

" و لكن كان يقول أتوب إلى الله"

 (1) أي بدون أستغفر الله أو معه، و على الأول كان المراد أن الاستغفار لم يكن داخلا في هذا العمل و إن كان يستغفر بوجه آخر، و يؤيد الأخير ما سيأتي في كتاب الدعاء في باب الاستغفار بإسناده عن الحارث ابن المغيرة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كان رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم يستغفر الله عز و جل كل غداة يوم سبعين مرة، و يتوب إلى الله عز و جل سبعين مرة، قال: قلت: كان يقول: أستغفر الله و أتوب إليه؟ قال: كان يقول أستغفر الله أستغفر الله سبعين مرة، و يقول: أتوب إلى الله أتوب إلى الله سبعين مرة.

ثم اعلم أن استغفاره عليه السلام و الأئمة لم يكن عن ذنب لاتفاق الإمامية على عصمتهم، و قد مر الكلام في ذلك.

و قال الإربلي في كشف الغمة و غيره: أن الأنبياء لما كانت قلوبهم مستغرقة بذكر الله و متعلقة بجلال الله و متوجهة إلى كمال الله، و كانت أتم القلوب صفاء و أكثرها ضياء و أغرقها عرفانا و أعرفها إذعانا و أكملها إيقانا، كانوا إذا انحطوا عن تلك المرتبة العلية، و نزلوا عن تلك الدرجة الرفيعة إلى الاشتغال بالمأكل و المشرب و التناكح و الصحبة مع بني نوعه، و غير ذلك من المباحات أسرعت كدورة ما إليها لكمال رقتها و فرط نورانيتها، فإن الشي‏ء كلما كان أرق و أنضر كان تأثره بالكدورات أبين و أظهر، فعدوا ذلك ذنبا و خطيئة فتابوا و استغفروا كما روي عنه: حسنات الأبرار سيئات المقربين، و إليه يشير قوله صلى الله عليه و آله و سلم: ليران على قلبي و أنا أستغفر بالنهار سبعين مرة.

و قيل: أراد به تعليم الناس كيفية التوبة و الاستغفار من الذنوب، و قيل:

هو محمول على الاعتراف بالعبودية و أن البشر في مظنة التقصير و العجز، على أن رفع ذلك عن توبته ظاهر، لأن التوبة في اللغة الرجوع إلى الحق عز شأنه و

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 309

إن لم تكن من ذنب، يقال: تاب و آب و أناب إذا رجع إلى الحق.

" كان يتوب و لا يعود"

 (1) كأنه توهم أن التوبة عن ذنب أو غرضه عدم العود إلى ترك الأولى، أو المراد بالعود أصل الفعل على المشاكلة، بناء على تجويز التقديم.

 (الحديث الخامس)

 (2): صحيح و قد مر، و حمل على ما إذا كان مع الندم كما سيأتي.

 (الحديث السادس)

 (3): موثق و قد مر مثله.

 (الحديث السابع)

 (4): مرسل.

و يشعر بأن الكبائر أكثر من‏

أربعين‏

 (5)، لكن يحتمل تكرار كبيرة واحدة و التقييد بالندم لئلا يشبه استغفار المستهزئين‏

" في يومه"

 (6) أي مع ليلته بقرينة ما مر.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 310

 (الحديث الثامن)

 (1): مرفوع.

و الظاهر أن ضمير

قال‏

 (2) للصادق أو الباقر عليهما السلام، شبه عليه السلام الذنوب بالمرض المهلك، و أثبت لها الدواء على سبيل المكنية و التخييلية و حمل الاستغفار على الدواء من باب حمل المشبه على المشبه به للدلالة على الاتحاد و التعريف للحصر.

 (الحديث التاسع)

 (3): مجهول.

و قال الشيخ البهائي قدس سره:

عبد الله بن سنان‏

 (4) أكثر ما يرويه عن الصادق عليه السلام بدون واسطة، و قد يروي عنه بواسطة كما رواه في كيفية الصلاة و صفتها من التهذيب بتوسط حفص الأعور تارة و بتوسط عمر بن يزيد أخرى، و يدل على أن التأجيل مخصوص بالمؤمن لا الكافر و المخالف.

 (الحديث العاشر)

 (5): ضعيف على المشهور.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 311

" غفر الله له سبعمائة ذنب"

 (1) أي مما فعله في ذلك اليوم ثم قال عليه السلام:

و لا خير" إلخ"

 (2) لئلا يغتر العبد بذلك فيذنب كل يوم سبعمائة ذنب، فإن مثله لا خير فيه، و لا يوفق للاستغفار و التوبة، و الذنب يشمل الصغيرة و الكبيرة و الملفق منهما، و ليس كل في بعض النسخ في الموضعين، فيمكن أن يكون المراد سبعمائة ذنب في عمره، و يكون قوله عليه السلام: الأخير لبيان رفع توهم شموله لهذا الاحتمال.

باب فيما أعطى الله عز و جل آدم وقت التوبة

 (3) قيل: ما مصدرية، و وقت مفعول ثان لأعطى، أي من سعة زمان التوبة، و المراد إما أبو البشر عليه السلام أو ذريته كما يقال قريش و يراد أولاده، و يحتمل أن تكون ما موصولة و وقت التوبة ظرفا بأن يكون إعطاء ذلك في وقت توبته و الأول أظهر.

 (الحديث الأول)

 (4): حسن.

" سلطت على"

 (5) أي على و على أولادي‏

" و أجريته مني"

 (6) روى العامة أيضا أن الشيطان يجري من ابن آدم‏

مجرى الدم‏

 (7)، و قال بعضهم: ذهب قوم ممن ينتمي‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 312

إلى ظاهر العلم إلى أن المراد به أن الشيطان لا يفارق ابن آدم ما دام حيا كما لا يفارقه دمه، و حكي هذا عن الأزهري و قال: هذا طريق ضرب المثل، و الجمهور من علماء الأمة أجروا ذلك على ظاهره و قالوا: إن الشيطان جعل له هذا القدر من التطرق إلى باطن الآدمي بلطافة هيئته، لمحنة الابتلاء و يجري في العروق التي هي مجاري الدم من الآدمي إلى أن يصل إلى قلبه فيوسوسه على حسب ضعف إيمان العبد و قلة ذكره و كثرة غفلته، و يبعد عنه و يقل تسلطه و سلوكه إلى باطنه بمقدار قوة إيمانه و يقظته، و دوام ذكره و إخلاص توحيده.

و ما رواه المفسرون عن ابن عباس قال: إن الله جعل الشياطين من بني آدم مجرى الدم، و صدور بني آدم مساكن لهم مؤيد لما ذهب إليه الجمهور و هم يسمون وسوسته لمة الشيطان، و من ألطافه تعالى أنه هيأ ذوات الملائكة على ذلك الوصف من أجل لطافتهم و أعطاهم قوة الحفظ لبني آدم، و قوة الإلمام في بواطنهم، و تلقين الخير لهم في مقابلة لمة الشيطان، كما روي أن للملك لمة بابن آدم، و للشيطان لمة، لمة الملك إيعاد بالخير و تصديق بالحق و لمة الشيطان، إيعاده بالشر و تكذيب بالحق، فمن وجد من ذلك فليستعذ بالله من الشيطان، و قالوا: إنما ينكر مثل هذا عقول أسراء العادات الذين استولت عليهم المألوفات، فما لم يجدوا في مستقر عاداتهم أنكروه كما أنكر الكفار إحياء العظام النخرة و إعادة الأجسام البالية و الذي يجب هو التسليم بما نطق به الخبر الصحيح و لا يأباه العقل السليم.

" أو بسطت"

 (1) الترديد من الراوي‏

" حتى تبلغ النفس"

 (2) النفس بالتحريك ما يخرج من الحي عند التنفس، و بالسكون الروح و الأخير هنا أظهر، و المقصود أن‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 313

باب التوبة مفتوح إلى أن يبلغ النفس الحلقوم و تتحقق الغرغرة، فإذا بلغت هذه فلا توبة، لأنه وقت المعاينة، و التوبة إنما يكون في حال الغيب، و روي من طريق العامة أن إبليس بعد ما صار ملعونا و أنظر قال: بعزتك لا أخرج عن قلب ابن آدم ما دام الروح في بدنه، فقال الله تبارك و تعالى: بعزتي لا أسد باب التوبة عليه ما دام الروح في بدنه.

 (الحديث الثاني)

 (1): مرسل.

" من تاب قبل موته بسنة"

 (2) قال الشيخ البهائي قدس سره في الأربعين: المراد بقبول التوبة إسقاط العقاب المترتب على الذنب الذي تاب منه، و سقوط العقاب بالتوبة مما أجمع عليه أهل الإسلام، و إنما الخلاف في أنه هل يجب على الله حتى لو عاقب بعد التوبة كان ظلما أو هو تفضل بفعله سبحانه كرما منه و رحمة بعباده؟

المعتزلة على الأول و الأشاعرة على الثاني، و إليه ذهب الشيخ أبو جعفر الطوسي قدس سره في كتاب الاقتصاد، و العلامة جمال الملة و الدين رحمه الله في بعض كتبه الكلامية، و توقف المحقق الطوسي رحمه الله في التجريد، و مختار الشيخين هو الظاهر، و دليل الوجوب مدخول.

و قال رحمه الله في‏

قوله: من تاب قبل أن يعاين،

 (3) أي يرى ملك الموت، كما روي عن ابن عباس، و يمكن أن يراد بالمعاينة علمه بحلول الموت و قطعه الطمع من الحياة و تيقنه ذلك كأنه يعاينه و أن يراد معاينة رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم و أمير المؤمنين عليه السلام كما روي في الأخبار، انتهى.

و اعلم أنه استدل بهذا الخبر على جواز النسخ قبل الفعل، فإن الأصوليين‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 314

اختلفوا فيه، و فيه نظر لأنه ليس تنافيها إلا بالمفهوم، فيمكن أن يكون هذا التدريج لبيان اختلاف مراتب التوبة في القبول و الكمال، فإن التوبة الكاملة المشتملة على تدارك ما فات و تطهير النفس عن كدورات السيئات، و تحليتها بأنوار التضرعات و الحسنات لا يتأتى غالبا في أقل من سنة، فإن لم يتيسر ذلك فلا أقل من شهر لتحصيل بعض تلك الأمور و هكذا.

 (الحديث الثالث)

 (1): حسن كالصحيح.

و قد مر بعينه في باب لزوم الحجة على العالم، إلا أنه زاد في آخره ثم قرأ" إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ".

" لم يكن للعالم توبة"

 (2) كان المراد بالعالم من شاهد أحوال الآخرة،

و بالجاهل‏

 (3) من لم يشاهدها فإن مع بلوغ النفس إلى الحلق أيضا يحتمل عدم المشاهدة، فالمراد بالعلم العلم اليقيني الحاصل بالمشاهدة، و يحتمل أن يكون كلاهما محمولين على ما قبل المشاهدة، و يكون المراد بالعالم و الجاهل معناهما المتبادر، و فيحمل إما على عدم قبول التوبة و كمالها للعالم، أو عدم توفيقه للتوبة إن صح الإجماع، و إلا فالخبر موافق لظاهر قوله تعالى:" إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً، وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَ لَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَ هُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً".

و قد قيل: في تأويل الآية وجوه: أحدها أن كل معصية يفعلها العبد جهالة

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 315

و إن كانت على سبيل العمد لأنه يدعو إليها الجهل و هو المروي عن أبي عبد الله عليه السلام، و ثانيها: إن معنى قوله: بجهالة أنهم لا يعلمون كنه ما فيه من العقوبة، و ثالثها: أنهم يجهلون أنها ذنوب و معاصي، و ضعف الأخير بأنها خلاف الإجماع مفهوما، و فسروا القريب بما قبل الموت و يمكن تأويل الآية بأن التوبة من الذنب الذي ليس بجهالة لا يجب على الله قبولها، و إن قبلها بلطفه و وعده.

 (الحديث الرابع)

 (1): ضعيف على المشهور.

و التأله‏

 (2) التعبد و التنسك‏

" يتم الصلاة"

 (3) تأييد لعدم كونه شيعيا لأنه من فعل أهل السنة

" مسلم"

 (4) أي مؤمن أو بتشديد اللام، أي منقاد للحق‏

" لو عرضت"

 (5) لو للتمني‏

" فقال كلهم"

 (6) أي الحاضرون و لعلهم كانوا من المخالفين أو المستضعفين‏

" فإنه حسن الهيئة"

 (7) الهيئة صورة الشي‏ء و حاله و شكله أي كان متعبدا صالحا لا يضره الموت على تلك الحالة أو كان دينه حقا بناء على كونهم من المخالفين، و قيل: فإنه، كلام معاوية و تعليل‏

لقوله: لعل الله أن يخلصه‏

 (8)، و توسط كلام الغير لا ينافي الاتصال، و لا يخفى بعده.

و" تنفس"

 (9) أدخل النفس إلى باطنه و أخرجه و

" شهق"

 (10) كمنع و ضرب‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 316

و سمع شهيقا تردد البكاء في صدره، و قيل: ردد نفسه مع سماع صوته من حلقه، و قيل: فتريدون استفهام و ما ذا اسم جنس بمعنى أي شي‏ء كما قال الفارسي في قول الشاعر:

         دعي ما ذا علمت سأتقيه             و لكن بالمغيب تنبئيني‏

 

باب اللمم‏

 (1)

 (الحديث الأول)

 (2): حسن كالصحيح.

و في المصباح:

اللمم‏

 (3) بفتحتين مقاربة الذنب و قيل: هو الصغائر و قيل: هو فعل الصغيرة ثم لا يعاوده كالقبلة، و اللمم أيضا طرف من جنون يلم به الإنسان من باب قتل، فهو ملموم و به لمم، و ألم الرجل بالقوم إلماما أتاهم فنزل بهم، و ألم بالذنب فعله، و ألم الشي‏ء قرب، انتهى.

و قال سبحانه في سورة النجم:" لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَ يَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى" ثم قال تعالى:" الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ" قال البيضاوي أي ما يكبر عقابه من الذنوب، و هو ما رتب الوعيد عليه بخصوصه، أي إلا ما قل و صغر فإنه مغفور من مجتنبي الكبائر، و الاستثناء منقطع، و أقول: قد مر

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 317

الكلام في ذلك في باب الكبائر.

 (الحديث الثاني)

 (1): صحيح.

و قال الجوهري:

" هن"

 (2) على وزن أخ كلمة كناية، و معناه شي‏ء و أصله هنو تقول هذا هنك أي شيئك، و تقول للمرأة: هنة و هنت، و تصغيرها هنية و قد تبدل من الياء الثانية هاء، فيقال: هنيهة، و يقال: في فلان هنأت أي خصلات شر، و لا يقال ذلك في الخير، و في النهاية فيه: ستكون هناة و هناة، أي شرور و فساد يقال: في فلان هناة أي خصال شر و لا يقال في الخير، و واحدها هنت و قد يجمع على هنوات، و قيل: واحدها هنة تأنيث هن، و هو كناية عن كل اسم جنس، و منه الحديث، و ذكر هنة من جيرانه أي حاجة و يعبر بها عن كل شي‏ء، و قال في المصباح: الهن خفيفة النون كناية عن كل اسم جنس، و الأنثى هنة، و لأمها محذوفة و كنى بهذا الاسم عن الفرج، و يعرب بالحروف، فيقال: هنوها و هناها و هنيها، مثل أخوها و أخاها و أخيها، انتهى.

و عبر هنا عن الذنب بالهنة لقبحه أو لحقارته و قلته كناية عن عدم الإصرار عليه‏

" يلم به العبد"

 (3) أي ينزل به بعد تركه.

 (الحديث الثالث)

 (4): موثق.

" يهجره"

 (5) كينصر أي يتركه، و قيل: العموم في هذا الكلام عموم عرفي كناية عن الكثرة، و قد مر آخر الحديث في باب الكبائر، و كان السؤال كان‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 318

في وقت آخر، أو كان السؤال لتفسير مجموع الآية.

 (الحديث الرابع)

 (1): ضعيف.

" يلتمس الفقه"

 (2) أي مسائل الدين و القرآن أي ألفاظه‏

" يبدي عورة"

 (3) العورة القبيح و كل ما يستحيي منه، و الظاهر أن المراد إبداء عورة نفسه من الإقرار بذنب يوجب حدا أو تعزيرا

" فنحوه"

 (4) أي أبعدوه حتى لا يعترف به عندنا بل يتوب بيته و بين الله، و يحتمل أن يكون المراد عيوب غيره التي لم يشتهر بها، سواء كان للغيبة أو لإقامة الشهادة فإن إخفاء العيوب أحسن، لكن الأول أظهر، و سيأتي ما يؤيده في كتاب الحدود إن شاء الله.

و قيل: قد أمر عليه السلام أصحابه الذين من أهل التفرس أن يمنعوا من الدخول عليه من هو من أهل الإذاعة و الإبداء، لأنه أصلح له و لهم، و يندرج فيه إبداء أحاديثهم لغير أهلها و إذاعة أمرهم إلى أهل الجور و إظهار سرهم الذي ستره الله تعالى و أمر باستتاره حفظا له و لشيعته من أعدائهم لشدة الخوف و التقية منهم.

" إن كنت صادقا فإن الله يحبك"

 (5) محبة الله لعبده عبارة عن علمه باستحقاق اللطف و إيصال الخير و إرادته، فإذا علم الله تعالى أن عبدا من عباده لا يغتر بترك الذنوب و يبتلي بالعجب بكثرة الطاعة، و يخرج نفسه عن حد التقصير و الخوف منه يبتليه ببعض الذنوب، و ذلك لطف منه و رحمة على عبده لكي يخافه و يرجع‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 319

إليه و يعترف بتقصيره، و هذا من أحسن الأحوال للإنسان كما أن العجب أسوأ الحالات له، و لو لا ذلك لم يذنب مؤمن قط كما مر

" إلا لكي تخافه"

 (1) استثناء من مدلول الكلام السابق، فإن‏

قوله ما يمنعه أن ينقلك‏

 (2) في قوة ما يترك نقلك لشي‏ء.

 (الحديث الخامس)

 (3): حسن موثق.

و في القاموس: الطبع و الطبيعة و الطباع بالكسر السجية جبل الإنسان عليها أو الطباع ككتاب ما ركب فينا من المطعم و المشرب و غير ذلك من الأخلاق التي لا تزايلنا و

" طبع عليه"

 (4) كمنع ختم، و الطبع بالتحريك الوسخ الشديد الصداء، و الشين و العيب، و طبع على الشي‏ء بالضم جبل، و فلان دنس و شين، و فلان تطبع إذا لم تكن له نفاذ في مكارم الأمور كما يطبع السيف إذا كثر الصداء عليه، و هو طبع طمع ككتف، و في الخلق لئيمه دنس لا يستحيي من سوءة، و التطبيع التنجيس و تطبع بطباعه تخلق بأخلاقه، و

السليقة

 (5) كسفينة الطبيعة.

و الخبر يحتمل وجوها: الأول: أن يكون المراد بالطبع أولا حصول الشوق له إلى فعله لعارض عرض له و يمكن زواله عنه، و لذا يهجره زمانا و لو كان ذاته، و إنما هو بأن يسلب عنه التوفيق فيستولي عليه الشيطان فيدعوه إلى فعله، ثم تدركه الألطاف الربانية فتصرفه عنه، و كل ذلك لصلاح حاله، فليس ممن يقتضي ذاته الشر و الفساد، و لا ممن أعرض الله عنه، و لم يعلم فيه خيرا، بل هو ممن يحبه الله و يبتليه بذلك لإصلاح أحواله، و ينتهي إلى العاقبة المحمودة.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 320

الثاني: أن يكون من الطبع بمعنى الدنس و الرين، إما على بناء المجهول أيضا أو على بناء المعلوم كما قيل، أي ليس ذنب إلا و قد تنجس و تدنس به عبد مؤمن، فلا ينافي عدم كونه من سليقته.

الثالث: ما قيل: إنه من الطبع بمعنى الختم، و هو مستلزم لمنع دخول الشي‏ء فيه، و المعنى أن المؤمن ممنوع من الدخول في الذنب زمانا على سبيل الكناية، ثم يلم به لمصلحة و هو بعيد و الأول أظهر.

 (الحديث السادس)

 (1): حسن كالصحيح.

و السجية

 (2) الخلق و الطبيعة

" و لكن لا يولد له من تلك النطفة"

 (3) فإن قيل:

قد نرى أنه يتولد من زناء المؤمن الولد؟ قلنا: للمؤمن معان كثيرة كما عرفت، فلعله لا يكون مؤمنا بأحد تلك المعاني، مع أن الخواتم لا يعلمها إلا الله تعالى، و يحتمل أن يكون محمولا على الغالب، و قيل: لعل المراد أن المتولد من تلك النطفة لا يكون ولدا له و لا يلحق به شرعا، أو أنه لا يولد للمؤمن من تلك النطفة لأنه ليس مؤمن حين يزني فيكون إشارة إلى سلب الإيمان عنه حين الزنا و لا يخفى بعدهما.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 321

باب في أن الذنوب ثلاثة

 (1)

 (الحديث الأول)

 (2): مرفوع.

" إن الذنوب ثلاثة"

 (3) أي غير الشرك و الكفر، أو ذنوب المؤمنين و قيل: وجه الحصر أن الذنب إما للتقصير في حق الله أو في حق الناس، و الأول إما أن يرفع العبد العقوبة الدنيوية بالتوبة أولا، فهذه ثلاثة، و أما الذنب الذي لا عقوبة عليه في الدنيا و لم يتب منه فالظاهر أنه داخل في القسم الثالث، و حكمه حكمه، و إن كان الخوف منه أشد، و في النهاية:

البهر

 (4) بالضم ما يعتري الإنسان عند السعي الشديد، و العدو من التهيج، و تتابع النفس، و في القاموس: البهر بالضم انقطاع النفس من الإعياء.

" فعبد"

 (5) أي فذنب عبد

" عاقبة الله على ذنبه في الدنيا"

 (6) إما بالحدود و التعزيرات أو بالبلايا و المصائب‏

" فالله أحلم"

 (7) الفاء للبيان‏

" فمظالم العباد بعضهم"

 (8) بالجر بدل‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 322

اشتمال أو بعض، و المراد به الظالم‏

" لبعض"

 (1) المراد به المظلوم، و المظالم جمع المظلمة بالكسر و هي ما يظلمه الرجل إذا برز لخلقه، البروز الظهور بعد الخفاء، و لعله كناية عن ظهور أحكامه و ثوابه و عقابه و حسابه، و قيل: كناية عن أنه سبحانه يتكلم مع جميع الخلائق بنفسه و يحاسبهم مشافهة كما ورد في الأخبار.

" على نفسه"

 (2) أي ملزما على نفسه‏

" فقال"

 (3) الفاء للبيان، و يقال:

جازه‏

 (4) يجوزه إذا تعداه‏

" و لو كف بكف"

 (5) لعل المراد بالكف أو لا المنع و الزجر، و بالثاني اليد أي تضرر كف إنسان بكف آخر بغمز و شبهه، أو تلذذ كف بكف أو يقدر مضاف أي يجازى ضرب كف بضرب كف، و قيل: أي ضربة كف بكف، و المراد

بالمسحة

 (6) بالكف ما يشتمل على إهانة و تحقير أو تلذذ، و يمكن حمل التلذذ في الموضعين على ما إذا كان من امرأة ذات بعل أو قهرا بدون رضاء الممسوح، ليكون من حق الناس.

و الجماء

 (7) التي لا قرن لها، قال في النهاية: فيه أن الله ليدين الجماء من ذوات القرون الجماء التي لا قرن لها، و يدين أي يجزي، انتهى.

و يدل على حشر الحيوانات أيضا في القيامة كما يدل عليه قوله تعالى:" وَ إِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ" و غيره من الآيات و الأخبار، و به قال أكثر المتكلمين من الخاصة و العامة و إن اختلفوا في خصوصياته من بقائها بعد الحشر أو تفرقها و صيرورتها ترابا و غير ذلك.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 323

و منهم من أول القرناء بالإنسان القوي القادر على الظلم، و الجماء بالمظلوم الضعيف و هو تكلف مستغنى عنه، و لا يبعد أن يكون المراد مؤاخذة المكلف بتمكين القرناء من إضرار الجماء، و في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال: لتردن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلجاء من الشاة القرناء، و الجلجاء أيضا التي لا قرن لها، و صرح جماعة من المفسرين في تفسير الآية المتقدمة ببعثها، و قيل أي جمعت من أطراف الأرض و قيل: أميتت.

و قال الطبرسي (ره) في قوله تعالى:" وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ‏ءٍ ثُمَّ إِلى‏ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ أي يحشرون إلى الله بعد موتهم يوم القيامة كما يحشر العباد، فيعوض الله ما يستحق العوض منها و ينتصف لبعضها من بعض، و فيما رووه عن أبي هريرة أنه قال: يحشر الله الخلق يوم القيامة البهائم و الدواب و الطير، و كل شي‏ء، فيبلغ من عدل الله يومئذ أن يأخذ للجماء من القرناء ثم يقول: كوني ترابا فلذلك يقول الكافر: يا ليتني كنت ترابا.

و عن أبي ذر قال: بينا أنا عند رسول الله إذا انتطحت عنزان فقال النبي صلى الله عليه و آله و سلم أ تدرون فيم انتطحا؟ فقالوا: لا ندري، قال: لكن الله يدري سيقضي بينهما.

و قال الرازي: قال قتادة: يحشر كل شي‏ء حتى الذباب للقصاص، و قالت المعتزلة: إن الله يحشر الحيوانات كلها في ذلك اليوم ليعوضها آلامها التي وصلت إليها في الدنيا بالموت و القتل و غير ذلك، فإذا عوضت عن تلك الآلام فإن شاء الله أن يبقى بعضها في الجنة إذا كان مستحسنا فعل و إن شاء أن يفنيه أفناه على ما جاء به الخبر، و أما أصحابنا فعندهم أنه لا يجب على الله شي‏ء بحكم الاستحقاق، و لكنه تعالى يحشر الوحوش كلها فيقتص للجماء من القرناء، ثم يقال لها: موتي فتموت‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 324

انتهى.

و قال بعض شراح صحيح مسلم: اضطرب العلماء في بعث البهائم، و أقوى ما تعلق به من يقول ببعثها قوله تعالى:" وَ إِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ" و أجاب الآخر بأن معنى حشرت ماتت، قال: و الأحاديث الواردة ببعثها آحاد تفيد الظن و المطلوب في المسألة القطع، و حمل البعض العود المذكور في الحديث على أنه ليس حقيقة و إنما هو ضرب مثل إعلاما للخلق بأنها دار جزاء لا يبقى فيها حق عند أحد، ثم قال:

و يصح عندي أن يخلق الله تعالى هذه الحركة للبهائم يوم القيامة ليشعر أهل المحشر بما هم صائرون إليه من العدل، و سمي ذلك قصاصا لا أنه قصاص تكليف و مجازاة، و من توقف في بعثها إنما توقف في القطع بذلك كما يقطع ببعث المكلفين و الأحاديث الواردة ليست نصوصا و لا متواترة، و ليست المسألة عملية حتى يكتفي فيها بالظن و الأظهر حشر المخلوقات كلها بمجموع ظواهر الآي و الأحاديث، و ليس من شرط الإعادة المجازاة بعقاب أو ثواب للإجماع على أن أولاد الأنبياء عليهم السلام في الجنة و لا مجازاة على الأطفال، و اختلف في أولاد من سواهم اختلافا كثيرا انتهى.

و قال القرطبي: حمل بعضهم الحديث على ظاهره لأنه قال: يؤتى يوم القيامة بالبهائم فيقال لها: كوني ترابا بعد ما يقاد للجماء من القرناء، و حينئذ يقول الكافر يا ليتني كنت ترابا، و يدل على أنها ضرب مثل ما جاء في بعض الروايات من الزيادة في هذا الحديث، يريد الحديث الذي نقله مسلم قال: حتى يقاد للجلجاء من القرناء و للحجر لم ركب على حجر، و للعود لم خدش العود، لأن الجمادات لا تعقل كلاما فلا ثواب و لا عقاب لها، و هو في التمثيل مثل قوله تعالى:" وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً" الآية.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 325

و قوله تعالى:" لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى‏ جَبَلٍ".

و قال الآبي: المسائل العلمية التي لا يرجع للذات و لا للصفات كهذه يصح التمسك فيها بالآحاد، و الاستدلال بمجموع ظواهر الآي و الأحاديث يرجع إلى التواتر المعنوي و الاختلاف فيمن سوى أولاد الأنبياء عليهم السلام إنما هو في محلهم بعد البعث لا في بعثهم كذا أظنه توقف الأشعري في بعث المجانين و من لم يبلغه الدعوة فجوز أن يبعثوا و جوز أن لا يبعثوا، و لم يرد عنه قاطع في ذلك ثم قال: لا معنى لتوقفه لأن ظاهر الآي و الأحاديث بعث الجميع، و المسألة علمية لا ترجع للذات و لا للصفات، فيصح التمسك فيها بالآحاد كما تقدم، أو يقال مجموع الآي و الأحاديث يفيد التواتر المعنوي كما تقدم، انتهى.

و أقول: تمام الكلام في ذلك موكول إلى كتابنا الكبير.

و أما الذنب الثالث فالخوف بعد التوبة، لاحتمال عدم حصول شرائط التوبة و عدم القطع بقوله فينبغي أن يكون التائب أيضا بين الخوف و الرجاء.

و لنذكر هنا بعض الفوائد التي لا بد من التعرض لها.

الأولى: في معنى التوبة و هي لغة الرجوع و تنسب إلى العبد و إلى الله سبحانه و معناها على الأول الرجوع عن المعصية إلى الطاعة و على الثاني الرجوع عن العقوبة إلى اللطف و التفضل، و في الاصطلاح قيل: هي الندم عن الذنب لكونه ذنبا فخرج الندم على شرب الخمر مثلا لإضراره بالجسم، و قد يزاد مع العزم على ترك المعاودة أبدا، و الظاهر أن هذا لازم لذلك الندم غير منفك عنه كما مرت الإشارة إليه.

و قال الشيخ البهائي قدس سره: و الكلام الجامع في هذا الباب ما قاله بعض ذوي الألباب: من أن التوبة لا تحصل إلا بحصول أمور ثلاثة: أولها معرفة ضرر

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 326

الذنوب و كونها حجابا بين العبد و محبوبة، و سموما قاتلة لمن يباشرها، فإذا عرف ذلك و تيقنه حصل له من ذلك حالة ثانية هي التألم لفوات المحبوب، و التأسف من فعل الذنوب و هذا التألم و التأسف هو المعبر عنه بالندم، و إذا غلب هذا الألم حصل حالة ثالثة هي القصد إلى أمور ثلاثة لها تعلق بالحال و الاستقبال و المضي، فالمتعلق بالحال هو ترك ما هو مقيم عليه من الذنوب، و المتعلق بالاستقبال هو العزم على عدم العود إليها إلى آخر العمر و المتعلق بالماضي تلافى ما يمكن تلافيه من قضاء الفوائت و الخروج من المظالم، فهذه الثلاثة أعني المعرفة و الندم و القصد إلى المذكورات أمور مترتبة في الحصول، و قد يطلق على مجموعها اسم التوبة، و كثيرا ما يطلق على الثاني أعني الندم وحده، و تجعل المعرفة مقدمة لها، و ذلك القصد ثمرة متأخرة عنها، و قد يطلق على مجموع الندم و العزم هذا، و قد عرفها بعض أصحاب القلوب برجوع الآبق عن الجرم السابق، و بعضهم بإذابة الأحشاء لما سلف من الفحشاء، و بعضهم بأنها خلع لباس الجفاء و بسط بساط الوفاء، انتهى.

و أقول: إذا عرفت أن عدم العود إلى الذنب فيما بقي من العمر لا بد منه في التوبة، فهل إمكان صدوره منه في بقية العمر شرط، حتى لو زنا ثم جب و عزم على أن لا يعود إلى الزنا على تقدير قدرته عليه لم تصح توبته، أم ليس بشرط فتصح؟ الأكثر على الثاني، بل نقل بعض المتكلمين إجماع السلف عليه، و أولى من هذا بصحة التوبة من تاب في مرض مخوف غلب على ظنه الموت فيه.

أما التوبة عند حضور الموت و تيقن الفوت و هو المعبر عنه بالمعاينة فقد انعقد الإجماع على عدم صحتها و نطق بذلك القرآن العظيم، قال سبحانه:" وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَ لَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَ هُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً" و في الحديث عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 327

إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر، و الغرغرة تردد الماء و غيره من الأجسام المائعة في الحلق، و المراد هنا تردد الروح عند النزع.

و الأخبار عن أئمتنا عليهم السلام كثيرة في أنه لا تقبل التوبة عند حضور الموت و ظهور علاماته و مشاهدة أهواله، كتوبة فرعون و سائر الكفرة الذين نزل عليهم العذاب، و قد مر بعضها، و علل ذلك بأن الإيمان برهان، و مشاهدة تلك العلامات و الأهوال في ذلك الوقت تصير الأمر عيانا فيسقط التكليف كما أن أهل الآخرة لما صارت معارفهم ضرورية سقطت التكاليف عنهم، قال بعض المفسرين: و من لطف الله بالعباد أن أمر قابض الأرواح بالابتداء في نزعها من أصابع الرجلين ثم يصعد شيئا فشيئا إلى أن تصل إلى الصدر، ثم تنتهي إلى الحلق ليتمكن في هذه المهلة من الإقبال بالقلب على الله تعالى، و الوصية و التوبة ما لم يعاين و الاستحلال، و ذكر الله على لسانه فيرجى بذلك حسن خاتمته، رزقنا الله ذلك بفضله و كرمه.

الثانية: لا خلاف في وجوب التوبة في الجملة و الأظهر أنها إنما تجب لما لم يكفر من الذنوب كالكبائر و الصغائر التي أصرت عليها، فإنها ملحقة بالكبائر و الصغائر التي لم يجتنب معها الكبائر، فأما مع اجتناب الكبائر فهي مكفرة إذا لم يصر عليها، و لا يحتاج إلى التوبة منها، لقوله تعالى:" إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ" قال المحقق الطوسي قدس سره في التجريد:

التوبة واجبة لدفعها الضرر، و لوجوب الندم على كل قبيح أو إخلال بواجب، و قال العلامة (ره) في شرحه: التوبة هي الندم على المعصية لكونها معصية، و العزم على ترك المعاودة في المستقبل: لأن ترك العزم يكشف عن نفي الندم، و هي واجبة بالإجماع، لكن اختلفوا.

فذهب جماعة من المعتزلة إلى أنها تجب من الكبائر المعلوم كونها كبائر أو

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 328

المظنون فيها ذلك، و لا يجب من الصغائر المعلوم أنها صغائر.

و قال آخرون: إنها لا تجب من ذنوب تاب عنها من قبل، و قال آخرون:

إنها تجب من كل كبير و صغير من المعاصي أو الإخلال بالواجب، سواء تاب منها قبل أو لم يتب، و قد استدل المصنف على وجوبها بأمرين: الأول: أنها دافعة للضرر الذي هو العقاب أو الخوف فيه، و دفع الضرر واجب، الثاني: أنا نعلم قطعا وجوب الندم على فعل القبيح أو الإخلال بالواجب.

إذا عرفت هذا فنقول: إنها تجب من كل ذنب لأنها تجب من المعصية لكونها معصية، و من الإخلال بواجب لكونه كذلك، و هذا عام في كل ذنب و إخلال بواجب، انتهى.

أقول: ظاهر كلامه وجوب التوبة من الذنب الذي تاب منه، و كأنه نظر إلى أن الندم على القبيح واجب في كل حال، و كذا ترك العزم على الحرام واجب دائما، و فيه أن العزم على الحرام ما لم يأت به لا يترتب عليه إثم، إلا أن يقول:

أن العفو عنه تفضلا لا ينافي كونه منهيا عنه كما مر، و أما الندم على ما صدر عنه سابقا فلا نسلم وجوبه بعد تحقق الندم مرة، و سقوط العقاب به، و إن كان القول بالوجوب لا يخلو من قوة، و قال الشيخ البهائي: دفع ضرر العقاب لا يدل على وجوب التوبة عن الصغائر ممن يجتنب الكبائر لكونها مكفرة، و لهذا ذهبت البهشمية إلى وجوبها عن الصغائر سمعا لا عقلا.

نعم الاستدلال بأن الندم على القبيح من مقتضيات العقل الصحيح يعم القسمين، و أما فورية الوجوب فقد صرح به المعتزلة فقالوا يلزم بتأخيرها ساعة إثم آخر تجب التوبة منه أيضا، حتى أن من أخر التوبة عن الكبيرة ساعة واحدة فقد فعل كبيرتين و ساعتين أربع كبائر، الأولتان و ترك التوبة عن كل منهما، و ثلاث ساعات ثمان كبائر و هكذا، و أصحابنا يوافقونهم على الفورية لكنهم لم يذكروا

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 329

هذا التفصيل فيما رأيته من كتبهم الكلامية.

و قال رحمه الله: لا ريب في وجوب التوبة على الفور فإن الذنوب بمنزلة السموم المضرة بالبدن و كما يجب على شارب السم المبادرة إلى الاستفراغ تلافيا لبدنه المشرف على الهلاك، كذلك يجب على صاحب الذنوب المبادرة إلى تركها و التوبة منها تلافيا لدينه المشرف على التهافت و الاضمحلال، و من أهمل المبادرة إلى التوبة و سوفها من وقت إلى وقت فهو بين خطرين عظيمين إن سلم من واحد فلعله لا يسلم من الآخر.

أحدهما: أن يعاجله الأجل فلا يتنبه من غفلته إلا و قد حضره الموت و فات وقت التدارك، و انسدت أبواب التلافي، و جاء الوقت الذي أشار إليه سبحانه بقوله:" وَ حِيلَ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ ما يَشْتَهُونَ" و صار يطلب المهلة و التأخير يوما أو ساعة، فيقال: لا مهلة لك كما قال سبحانه:" مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى‏ أَجَلٍ قَرِيبٍ" قال بعض المفسرين في تفسير هذه الآية إن المحتضر يقول عند كشف الغطاء: يا ملك الموت أخرني يوما أعتذر فيه إلى ربي و أتوب إليه و أتزود عملا صالحا فيقول فنيت الأيام فيقول أخرني ساعة فيقول:

فنيت الساعات فيغلق عنه باب التوبة و يغرغر بروحه إلى النار و يجرع غصة اليأس و حسرة الندامة على تضييع العمر، و ربما اضطرب أصل إيمانه في صدمات تلك الأهوال نعوذ بالله من ذلك.

و ثانيهما أن تتراكم ظلمة المعاصي على قلبه إلى أن تصير رينا و طبعا فلا تقبل المحو فإن كل معصية يفعلها الإنسان يحصل منها ظلمه في قلبه كما تحصل من نفس الإنسان ظلمه في المرآة فإذا تراكمت ظلمة الذنوب صارت رينا كما تصير بخار النفس عند تراكمه على المرآة، و إذا تراكم الرين صار طبعا تطبع على قلبه‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 330

كالخبث على وجه المرآة إذا تراكم بعضه فوق بعض، و طال مكثه و غاص في جرمها، و أفسدها فصار لا تقبل الصيقل أبدا.

و قد يعبر عن هذا القلب بالقلب المنكوس و القلب الأسود كما مر في الخبر.

أنه يصير أعلاه أسفله، و في خبر آخر إن تمادى في الذنوب زاد السواد حتى يغطى البياض فإذا غطى البياض لم يرجع صاحبه إلى خير أبدا و هو قول الله عز و جل:

" كَلَّا بَلْ رانَ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ" فقوله: لم يرجع صاحبه إلى خير أبدا يدل على أن صاحب هذا القلب لا يرجع عن المعاصي و لا يتوب منها أبدا، و لو قال بلسانه تبت إلى الله يكون هذا القول مجرد تحريك اللسان من دون موافقة القلب، فلا أثر له أصلا كما أن قول القصار: غسلت الثوب لا يصير الثوب نقيا من الأوساخ.

و ربما يؤول حال صاحب هذا القلب إلى عدم المبالاة بأوامر الشريعة و نواهيها فيسهل أمر الدين في نظره و يزول وقع الأحكام الإلهية من قلبه، و ينفر عن قبولها طبعه، و ينجر ذلك إلى اختلاف عقيدته و زوال إيمانه، فيموت على غير الملة و هو المعبر عنه بسوء الخاتمة نعوذ بالله من شرور أنفسنا و من سيئات أعمالنا.

الثالثة: سقوط العقاب بالتوبة مما أجمع عليه أهل الإسلام، و إنما الخلاف في أنه هل يجب علي الله حتى لو عاقب بعد التوبة كان ظلما أو هو تفضل يفعله سبحانه كرما منه و رحمة بعبادة؟ المعتزلة على الأول، و الأشاعرة على الثاني و إليه ذهب الشيخ أبو جعفر الطوسي قدس سره في كتاب الاقتصاد، و العلامة رحمه الله في بعض كتبه الكلامية، و توقف المحقق الطوسي طاب ثراه في التجريد.

و قال الطبرسي (ره) في مجمع البيان في تفسير قوله تعالى:" فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَ اتَّبَعُوا سَبِيلَكَ" في هذه الآية دلالة على أن إسقاط العقاب عند التوبة

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 331

تفضل من الله تعالى إذ لو كان واجبا لكان لا يحتاج إلى مسألتهم، بل كان يفعله سبحانه لا محالة، و اعترض عليه بأنه يحتمل أن يكون من قبيل قوله تعالى:

" رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا"، و الحق ما اختاره الشيخ كما يظهر من كثير من الأخبار و أدعية الصحيفة الكاملة و غيرها، و دليل الوجوب ضعيف.

الرابعة: الذنب إن لم يستتبع أمر آخر يلزم الإتيان به شرعا كلبس الحرير مثلا، كفى الندم عليه و العزم على عدم العود إليه، و لا يجب شي‏ء آخر سوى ذلك، و إن استتبع أمر آخر من حقوق الله تعالى أو من حقوق الناس ماليا أو غير مالي وجب مع التوبة الإتيان به، و ربما كان المكلف مخيرا بين الإتيان بذلك الأمر و بين الاكتفاء بالتوبة من الذنب المستتبع له.

فحقوق الله المالية كالعتق في الكفارة مثلا يجب الإتيان بها مع القدرة، و غير المالية إن كان غير حد كقضاء الفوائت و صوم الكفارة فكذلك، و إن كان حدا فالمكلف مخير إن شاء أقر بالذنب عند الحاكم ليقام عليه الحد، و إن شاء ستره و اكتفى بالتوبة منه فلا حد عليه حينئذ إن تاب قبل قيام البينة به عند الحاكم.

و أما حقوق الناس المالية فتجب تبرئة الذمة منها بقدر الإمكان، فإن مات صاحب الحق فورثته في كل طبقة قائمون مقامه، فمتى دفعه إليهم هو أو ورثته أو أجنبي متبرع برئت ذمته و إن بقي إلى يوم القيامة فلفقهائنا رضوان الله عليهم في مستحقه وجوه.

الأول: أنه لصاحبه الأول، الثاني: أنه لآخر وارث و لو بالعموم كالإمام، الثالث: أنه ينتقل إلى الله سبحانه و الأول هو الأصح، و قد دلت عليه الرواية الصحيحة عن الصادق عليه السلام.

و أما حقوقهم الغير المالية فإن كان إضلالا وجب الإرشاد بل قد ورد في بعض‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 332

الأخبار أنه لا تقبل توبته إلا بأن يحيي من مات على تلك الضلالة و يرده عنها، و إن كان قصاصا وجب إعلام المستحق له و تمكينه من استيفائه، فيقول: أنا الذي قتلت أباك مثلا، فإن شئت فاقتص مني، و إن شئت فاعف عني، و إن كان حدا كما في القذف فإن كان المستحق له عالما بصدور ما يوجبه وجب التمكين أيضا و إن كان جاهلا به فهل يجب إعلامه به وجهان، من كونه حق آدمي فلا يسقط إلا بإسقاطه، و من كون الإعلام تجديدا للأذى و تنبيها على ما يوجب البغضاء، و مثل هذا يجري في الغيبة أيضا.

و كلام المحقق الطوسي و تلميذه العلامة طاب ثراهما يعطي عدم الإعلام بها، و قد مر في باب الغيبة أن الأقوى أنه إذا علم بها يجب الاستحلال منه، و إن لم يعلم فكفارته الاستغفار له.

ثم المشهور بين المتكلمين أن الإتيان بما يستتبعه الذنوب من فضاء الفوائت و أداء الحقوق و التمكين من القصاص و الحد و نحو ذلك ليس شرطا في صحة التوبة، بل هذه واجبات برأسها، و التوبة صحيحة بدونها، و بها تصير أكمل و أتم.

الخامسة: اختلفوا في التوبة المبعضة و الموقتة و المجملة، و الأصح صحة المبعضة، و إلا لما صحت عن الكفر مع الإصرار على صغيرة، و أما الموقتة كان يتوب عن الذنوب سنة فاشتراط العزم على عدم العود أبدا يقتضي بطلانها، و أما المجملة كان يتوب عن الذنوب على الإجمال من دون ذكر تفصيلها و هو ذاكر للتفصيل فقد توقف فيها المحقق الطوسي قدس سره، و القول بصحتها غير بعيد، إذ لا دليل على اشتراط التفصيل، و قد بسطنا القول في أكثر تلك المباحث في كتابنا الكبير.

 (الحديث الثاني)

 (1): حسن موثق كالصحيح.

و ظاهره أن من أقيم عليه الحد يسقط عنه العقاب و إن لم يتب كما هو

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 333

ظاهر الأصحاب، و يشكل القول بسقوط وجوب التوبة عنه إلا أن يقال: يعفى عنه تفضلا، و إن استحقه كما يومئ إليه الخبر، أو يقال: يسقط عنه عقاب ما يوجب الحد كالزنا مثلا، و إن بقي عليه عقاب ترك التوبة، و الخبر لا يأتي عنه بل يشعر به أيضا.

باب تعجيل عقوبة الذنب‏

 (1)

 (الحديث الأول)

 (2): مجهول.

" من أمره"

 (3) أي من شأنه و تدبيره‏

" أن يكرم عبدا"

 (4) أي في الآخرة بإيمانه بأن لا يعذبه فيها

" فإن لم يفعل"

 (5) أي الرب أو الذنب‏

" ذلك"

 (6) أي السقم أو الابتلاء به، أو المعنى إن لم يفعل السقم ذلك أي تكفير الذنب أو استحقاق الإكرام به أي بالعبد، و الاحتمالات جارية في سائر الفقرات و الأول في الكل أظهر، و في رواية: إن بقي عليه ذنب يكافيه بضغطة القبر، و ظاهره أن المؤمن لا يعذب في الآخرة، و قد يخص بحقوق الله‏

" أن يهين عبدا"

 (7) أي بنفاقه فإنه لا يستحق ثواب‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 334

الآخرة فيعطيه عوضه في الدنيا كإبليس، و ذلك من فضل الله سبحانه لأنه لا يستحق الجزاء لإخلاله بأعظم الشرائط و هو الإيمان، و يمكن تعميمه بحيث يشمل بعض الظلمة و الفساق أيضا.

 (الحديث الثاني)

 (1): ضعيف.

" إن العبد"

 (2) أي المؤمن‏

" و لم يكن عنده"

 (3) أي عند العبد أو الرب و الأول أظهر

" بالحزن"

 (4) أي بسبب ظاهر أو بغيره.

 (الحديث الثالث)

 (5): ضعيف.

" و أنا أريد أن أرحمه"

 (6) أي استحق رحمتي.

 (الحديث الرابع)

 (7): صحيح.

" ليهول"

 (8) على بناء المجهول من التفعيل، في القاموس: هاله هولا أفزعه كهوله فاهتاله، و الهول مخافة لا يدري ما هجم عليه، و قال:

مهنة

 (9) كمنعه و نصره‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 335

و خدمه و ضربه و جهده، و امتهنه استعمله فامتهن هو لازم متعد، و المهين الحقير و الضعيف، و في النهاية: امتهنوني أي ابتذلوني في الخدمة، و ربما يقرأ ليمهن و هو تصحيف، و في الصحاح امتهنت الشي‏ء ابتذلته و أمهنته أضعفته.

و الحاصل أنه تبتليه في بدنه بالبلايا و الأمراض و الأحزان و الذل كأنه استخدمه أو ابتذله و استعمله كثوب البذلة، و في الصحيفة السجادية و امتهنك بالزيادة و النقصان.

 (الحديث الخامس)

 (1): مجهول.

" أمسك عليه ذنوبه"

 (2) أي لم يكفرها بالعقوبة في الدنيا.

 (الحديث السادس)

 (3): ضعيف.

" وَ ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ"

 (4) قال في مجمع البيان: أي من بلوى في نفس أو مال‏

" فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ"

 (5) من المعاصي‏

" وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ"

 (6) منها فلا يعاقب بها، قال الحسن: الآية خاصة بالحدود التي يستحق على وجه العقوبة، و قال قتادة: هي عامة، و روي عن علي عليه السلام أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: خير آية في كتاب الله هذه الآية، يا علي ما من خدش عود و لا نكبة قدم إلا بذنب، و ما عفا الله عنه في الدنيا فهو أكرم من أن يعود فيه، و ما عاقب عليه في الدنيا فهو أعدل من أن يثني‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 336

على عبده، و قال أهل التحقيق: أن ذلك خاص و إن خرج مخرج العموم لما يلحق من مصائب الأطفال و المجانين، و من لا ذنب له من المؤمنين، و لأن الأنبياء و الأئمة يمتحنون بالمصائب و إن كانوا معصومين من الذنوب لما يحصل لهم في الصبر عليها من الثواب، انتهى.

و أقول: سيأتي استثناء المعصومين عليهم السلام منها، و الالتواء الانفتال و الانعطاف، في القاموس: لواه يلويه ليا فتله و ثناه فالتوى و تلوى، و برأسه أمال، و النباقة بذنبها حركت، و

التوى‏

 (1) القدح اعوج و تلوى انعطف، و قال:

نكب‏

 (2) الحجارة رجله لتمتها أو أصابتها فهو منكوب، و في النهاية: و قد نكب بالحرة أي نالته حجارتها و أصابته، و منه النكبة و هي ما يصيب الإنسان من الحوادث، و منه الحديث أنه نكبت إصبعه أي نالتها الحجارة، و

الخدش‏

 (3) جراحة في ظاهر الجلد سواء دمي الجلد أو لا.

" و لما يعفو الله"

 (4) بفتح اللام و تخفيف الميم.

 (الحديث السابع)

 (5): مجهول.

و الهم و الغم‏

 (6) إما مترادفان أو الغم ما يعلم سببه، و الهم ما لم يعلم سببه، أو الهم الحزن الذي يذيب الجسد فهو أخص، أو الهم ما كان لفقد محبوب، و الغم لوجود مكروه.

و في الدعاء: أعوذ بك من الهم و الغم و الحزن، قيل: الفرق بين الثلاثة هو أن الهم قبل نزول الأمر و يطرد النوم، و الغم بعد نزول الأمر و يجلب النوم، و الحزن الأسف على ما فات و خشونة في النفس لما يحصل فيها من الغم، و قال الكرماني‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 337

الغم هو ما يلحقه بحيث يضمه كأنه يضيق عليه، و يقرب أن يغمى عليه، فهو أخص من الحزن، و هو شامل لجميع أنواع المكروهات، و الهم بحسب ما يقصده، و الحزن ما يلحقه بسبب مكروه في الماضي، و الغم على المستقبل.

و قيل: الهم و الحزن بمعنى و قيل: الهم لما يتصور من المكروه الحالي و الحزن لما في الماضي.

و قال الطيبي: الحزن خشونة في النفس لحصول غم، و الهم حزن يذيب الإنسان فهو أخص من الحزن، و قيل: هو بالآتي و الحزن بالماضي.

 (الحديث الثامن)

 (1): ضعيف.

" ليهتم"

 (2) أي يصيبه الهم و الحزن كثيرا، في القاموس: الهم الحزن، و همه الأمر هما و مهمة حزنه كأهمه فاهتم، و في بعض النسخ: ليهم على بناء المفعول.

 (الحديث التاسع)

 (3): مجهول، و قد مر.

 (الحديث العاشر)

 (4): صحيح.

" أريد أن أدخله الجنة"

 (5) أي لإيمانه و قد عمل بالمعاصي، و ليست له حسنة

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 338

تكفرها و لم يعف عنها

" فإن كان"

 (1) الجزاء مقدر أي فاكتفى به أو مثله‏

" تماما"

 (2) أي متمما، في القاموس: تم يتم تما و تماما مثلثتين، و تمام الشي‏ء ما يتم به.

 (الحديث الحادي عشر)

 (3): ضعيف.

و التشعيث‏

 (4) التفريق، و في المصباح‏

مزقت‏

 (5) الشي‏ء أمزقه و مزقته خرقته، و مزقهم الله كل ممزق، فرقهم في كل وجه من البلاد

" فرفعت"

 (6) على بناء المفعول أي ظهرت، قال الكرماني في شرح البخاري: فيه فرفع لي البيت المعمور أي قرب و كشف و عرض.

و في القاموس:

تسجية الميت‏

 (7) تغطيته، و في المصباح:

الديباج‏

 (8) ثوب سداه و لحمته إبريسم، و يقال هو معرب ثم كثر حتى اشتقت العرب منه فقالوا دبج الغيث الأرض دبجا من باب ضرب إذا سقاها فأنبتت أزهارا مختلفة، لأنه عندهم اسم للمنقش، و اختلف في الياء فقيل زائدة و وزنه فيعال، و لهذا يجمع بالياء فيقال دبابيج، و قيل:

هي أصل و الأصل دباج بالتضعيف فأبدل من إحدى المضعفين حرف العلة، و لهذا يرد

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 339

في الجمع إلى أصله، فيقال دبابيج بباء موحدة بعد الدال.

" أشهد أنك حكم"

 (1) بالتحريك و هو منفذ الحكم أي أعلم مجملا أن هذا من عدلك لأنك حاكم عادل، لكن لا أعلم بخصوص السبب‏

" أو ذنب"

 (2) الترديد من الراوي.

 (الحديث الثاني عشر)

 (3): صحيح.

" دولة"

 (4) بالفتح أي غلبة أو نوبة، قال الجوهري: الدولة في الحرب أن تداول إحدى الفئتين على الأخرى، و الدولة بالضم في المال يقال: صار الفي‏ء دولة بينهم يتداولونه يكون مرة لهذا و مرة لهذا، و قال أبو عبيد: الدولة بالضم اسم الشي‏ء الذي يتداول به بعينه، و الدولة بالفتح الفعل، و قيل: بالضم في المال و بالفتح في الحرب، و أدالنا الله من عدونا، من الدولة و الإدالة الغلبة، و دالت الأيام أي دارت، و الله يداولها بين الناس، و تداولته الأيدي أي أخذته هذه مرة و هذه مرة.

و قال: رجل رأفة

 (5) أي و ادع و هو في رفاهة من العيش، أي سعة و رفاهية على فعالية، انتهى.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 340

و المراد به إما مطلق الرفاهية أو الرفاهية بالباطل، و لعل الأخير أظهر، و على الأول الابتلاء في رفاهية الحلال ليفوز بثواب الصابرين، و لحصول الرفاهية له في دولة الحق و لو في الرجعة، و للتشبيه بأولياء الله في دولة الباطل.

باب تفسير عقوبات الذنوب‏

 (1)

 (الحديث الأول)

 (2): ضعيف.

و حمل البغي على الذنوب باعتبار كثرة أفراده، و كذا نظائره، و

البغي‏

 (3) في اللغة تجاوز الحد و يطلق غالبا على التكبر و التطاول، و على الظلم قال تعالى:" يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ" و قال:" إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى‏ أَنْفُسِكُمْ"" و بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ"" إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى‏ فَبَغى‏ عَلَيْهِمْ"" فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى‏ فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي" و قد روي أن الحسن عليه السلام طلب المبارز في صفين فنهاه أمير المؤمنين عن ذلك و قال: إنه بغى و لو بغى جبل على جبل لهد الله الباغي،

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 341

و لما كان الظلم مذكورا بعد ذلك، فالمراد به التطاول و التكبر فإنهما موجبان لرفع النعمة، و سلب العزة كما خسف الله بقارون.

و قد مر أن التواضع سبب للرفعة، و التكبر يوجب المذلة أو المراد به البغي على الإمام أو الفساد في الأرض.

و الذنوب التي تورث الندم القتل‏

 (1) فإنه يورث الندامة في الدنيا و الآخرة، كما قال تعالى في قابيل حين قتل أخاه" فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ‏

" و التي تنزل النقم الظلم‏

 (2) كما يشاهد من أحوال الظالمين و خراب ديارهم و استئصال أولادهم و أموالهم كما هو معلوم من أحوال فرعون و هامان و بني أمية و بني العباس و أضرابهم، و قد قال تعالى:

" فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا".

و هتك الستور بشرب الخمر

 (3) ظاهر، و

حبس الرزق بالزنا

 (4) مجرب فإن الزناة و إن كانوا أكثر الناس أموالا عما قليل يصيرون أسوأ الناس حالا، و قد يقرأ هنا الربا بالراء المهملة و الباء الموحدة، و هي تحبس الرزق لقوله تعالى:" يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَ يُرْبِي الصَّدَقاتِ".

و إظلام الهواء

 (5) إما كناية عن التحير في الأمور أو شدة البلية أو ظهور آثار غضب الله في الجو.

 (الحديث الثاني)

 (6): حسن موثق.

قوله: و هي قطعية الرحم،

 (7) الظاهر أنه من كلام الباقر و قيل: هو كلام الصادق‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 342

عليهما السلام و هو بعيد، و الظاهر أن الجميع يترتب على كل واحد، لأن تعجيل الفناء و تقريب الآجال متساوقان، فيكون الثاني تأكيدا للأول أو إشعارا بأن تعيين الآجال لا ينافي ذلك، فإن الله يمحو ما يشاء و يثبت و عنده أم الكتاب، و يحتمل أن يكون النشر على ترتيب اللف، و لا ينافي تقارب المعنيين الأولين مع أنه يمكن أن يكون المراد

بالفناء

 (1) فناء الأموال و إن كان بعيدا، و

البر

 (2) بر الوالدين أو الأعم.

 (الحديث الثالث)

 (3): مرسل.

و الخفر و الإخفار

 (4) الغدر و نقض العهد، و الإدالة الغلبة، و في الدعاء: أدل لنا و لا تدل منا، و ذلك لأنهم ينقضون الأيمان و يخالفون الله في ذلك للغلبة، فيورد الله عليهم نقيض مقصودهم، كما أنهم يمنعون الزكاة لحصول الغناء مع أنها سبب لنمو أموالهم، فيذهب الله ببركتها و يحوجهم و كون المراد حاجة الفقراء كما قيل بعيد، نعم يحتمل الأعم.

و أقول: روى الصدوق (ره) في كتاب معاني الأخبار خبرا مبسوطا في ذلك ناسب إيراده هنا، روى بإسناده عن أبي خالد الكابلي قال: سمعت علي بن الحسين عليه السلام يقول:

الذنوب التي تغير النعم البغي على الناس، و الزوال عن العادة في الخير، و اصطناع المعروف و كفران النعم، و ترك الشكر، قال الله تعالى:" إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ".

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 343

و الذنوب التي تورث الندم قتل النفس التي حرم الله قال الله تعالى في قصة قابيل حين قتل أخاه هابيل، فعجز عن دفنه:" فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ" و ترك صلة القرابة حتى يستغنوا، و ترك الصلاة حتى يخرج وقتها، و ترك الوصية و رد المظالم و منع الزكاة حتى يحضر الموت و ينغلق اللسان.

و الذنوب التي تنزل النقم عصيان المعارف بالبغي، و التطاول على الناس، و الاستهزاء بهم و السخرية منهم.

و الذنوب التي تدفع القسم إظهار الافتقار، و النوم عن العتمة عن صلاة الغداة و استحقار النعم، و شكوى المعبود عز و جل. و الذنوب التي تهتك العصم شرب الخمر و اللعب بالقمار و تعاطي ما يضحك الناس من اللغو و المزاح، و ذكر عيوب الناس و مجالسة أهل الريب.

و الذنوب التي تنزل البلاء ترك إغاثة الملهوف، و ترك معاونة المظلوم، و تضييع الأمر بالمعروف، و النهي عن المنكر. و الذنوب التي تدل الأعداء المجاهرة بالظلم، و إعلان الفجور، و إباحة المحظور و عصيان الأخيار و الانطباع للأشرار.

و الذنوب التي تعجل الفناء قطيعة الرحم، و اليمين الفاجرة، و الأقوال الكاذبة و الزنا و سد طريق المسلمين، و ادعاء الإمامة بغير حق.

و الذنوب التي تقطع الرجاء اليأس من روح الله، و القنوط من رحمة الله، و الثقة بغير الله، و التكذيب بوعد الله.

و الذنوب التي تظلم الهواء السحر و الكهانة، و الإيمان بالنجوم، و التكذيب بالقدر، و عقوق الوالدين.

و الذنوب التي تكشف الغطاء الاستدانة بغير نية الأداء، و الإسراف في النفقة على الباطل، و البخل على الأهل و الولد، و ذوي الأرحام، و سوء الخلق، و قلة الصبر

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 344

و استعمال الضجر و الكسل، و الاستهانة بأهل الدين.

و الذنوب التي ترد الدعاء سوء النية، و خبث السريرة، و النفاق مع الإخوان و ترك التصديق بالإجابة، و تأخير الصلوات المفروضات حتى تذهب أوقاتها، و ترك التقرب إلى الله عز و جل بالبر و الصدقة و استعمال البذاء و الفحش في القول.

و الذنوب التي تحبس غيث السماء جور الحكام في القضاء و شهادة الزور، و كتمان الشهادة و منع الزكاة، و القرض و الماعون و قساوة القلب على أهل الفقر و الفاقة و ظلم اليتيم و الأرملة و انتهار السائل و رده بالليل.

باب نادر

 (1) إنما أفرده عن الأبواب السابقة لاشتماله على زيادة و لم يجد له من جنسه حتى يشركه معه مع غرابة مضمونه، و يمكن أن يقرأ بالتوصيف و الإضافة معا.

 (الحديث الأول)

 (2): ضعيف.

" مما يستوجب"

 (3) على بناء المعلوم، و يحتمل المجهول‏

" و الآخرة"

 (4) الواو بمعنى أو

" فأنظر له"

 (5) أي أدبر له، و

قوله: و أقدر

 (6) عطف تفسير لقوله فأعجل و قيل: يعني ربما أعجل، و ربما أقدر، فالواو بمعنى أو، و على الأول المراد بالتعجيل جعل تقدير العقوبة في الدنيا و صرفها عن الآخرة صادف الإمضاء أو لم يصادفه، و التقدير الكتابة في لوح المحو و الإثبات، و القضاء الشروع في تحصيل أسباب ذلك، و الإمضاء تكميل‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 345

الأسباب المقارن للحصول و ضمير أتركه للعقوبة و التذكير لكونها مصدرا.

" فأتردد في ذلك"

 (1) أي في العقوبة

مرارا

 (2) أي مرات كثيرة

على إمضائه‏

 (3) أي لإمضائه أو عازما أو أعزم على إمضائه أو على بمعنى في و هو بدل اشتمال لقوله في ذلك، و التردد هنا مجاز كما مر في قوله تعالى:" ما ترددت في شي‏ء أنا فاعله" و لعله كناية عن إيجاد بعض أسبابها، ثم صرفها و عدم إكمالها، و في القاموس،

حاد

 (4) عنه يحيد حيدا مال،

و قوله: محبة

 (5) مفعول له لقول فأتطول.

و قوله: لمكافاته‏

 (6) متعلق بالمحبة، و

قوله: لكثير

 (7) متعلق بالمكافاة أي لأني أحب أي أكافيه و أجازيه بكثير نوافله، و قيل: لمكافاته صفة لمحبة، و لكثير بدل لمكافاته أي لتلافيه ذلك الذنب بكثير من النوافل و ما ذكرنا أظهر كما لا يخفى.

" ثم اكتب له"

 (8) قيل: ثم للتعجب كما أنه في‏

قوله ثم أمسك‏

 (9) أيضا كذلك، و إنما سماه‏

أجرا

 (10) مع أن ما يعطى للبلايا يسمى عوضا لأنه يعطى حقيقة للنوافل التي صارت سببا لرفع البلاء

فقوله: و لم يشعر به‏

 (11) للتعجب على ترتب الأجر على فعل مقارن لغفلة محله، و

قوله: و لم يصل إليه‏

 (12) للتعجب عن إعطاء العوض على أمر لم يصل إليه، انتهى.

و أقول: لما جعله أجرا و ثوابا أثبت له ما هو من خواصه و هو المضاعفة بعشرة أمثاله و أكثر، حيث قال: و أوفر له أجره، و في النهاية في أسماء الله تعالى‏

الكريم‏

 (13) هو الجواد المعطي الذي لا ينفد عطاؤه، و هو الكريم المطلق، و الكريم الجامع‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 346

لأنواع الخير و الشرف و الفضائل، و

الرؤوف‏

 (1) هو الرحيم بعباده، العطوف عليهم بألطافه و الرأفة أرق من الرحمة، و لا تكاد تقع في الكراهة، و الرحمة قد تقع في الكراهة للمصلحة، انتهى.

و الرحيم‏

 (2) إما في الآخرة أو بالنعم الخاصة.

باب نادر أيضا

 (3)

 (الحديث الأول)

 (4): موثق كالصحيح.

" في قول الله"

 (5) كان في بمعنى عن أو هنا تقدير أي سألت عن شي‏ء في هذه الآية

" فقال هو:"

 (6) أي أبو عبد الله عليه السلام و لعله لما اكتفى ببعض الآية كان موهما لأن يكون نسي تتمة الآية فقرأها عليه السلام أو موهما لأنه توهم أن كل ذنب لا بد أن يبتلي الإنسان عنده ببلية فقرأ عليه السلام تتمة الآية لرفع هذا التوهم، و على الأول معنى ليس هذا أردت، أنه إنما لم أقرأ التتمة لأنها لم تكن لها مدخل في سؤالي و على الثاني أن سؤالي ليس هذا الذي يتوهم.

و يحتمل أن يكون قرأ تتمة الآية لبيان سعة رحمة الله، و لم يكن مبنيا على توهم لكن السائل توهم ذلك‏

" أ رأيت"

 (7) أي أخبرني، و جوابه عليه السلام يحتمل وجهين‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 347

الأول: أن استغفار النبي صلى الله عليه و آله و سلم كما أنه لم يكن لحط الذنوب بل لرفع الدرجات فكذا ابتلاؤهم عليهم السلام ليست لكفارة الذنوب بل لكثرة المثوبات و علو الدرجات، فالخطاب في الآية متوجه إلى غير المعصومين بقرينة" فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ" كما عرفت.

و الثاني: أن المعنى أن استغفار النبي صلى الله عليه و آله و سلم كان لترك الأولى أو ترك العبادة الأفضل إلى الأدنى و أمثال ذلك، فكذا ابتلاؤهم كان لتدارك ذلك، و الأول أظهر كما يدل عليه الخبر الآتي و غيره، قال في النهاية: فيه أنه ليغان على قلبي حتى أستغفر الله في اليوم سبعين مرة، الغين الغيم، و غينت السماء تغان إذا أطبق عليها الغيم و قيل: الغين شجر ملتف أراد ما يغشاه من السهو الذي لا يخلو منه البشر، لأن قلبه أبدا كان مشغولا بالله تعالى، فإن عرض له وقتا ما عارض بشرى يشغله عن أمور الأمة و الملة و مصالحهما عد ذلك تقصيرا و ذنبا فيفزع إلى الاستغفار.

 (الحديث الثاني)

 (1): حسن كالصحيح بل أعلى من الصحيح.

و الجمع بين‏

المائة

 (2) و السبعين أنه قد كان يفعل هكذا و قد كان يفعل هكذا و قيل: المراد بالسبعين العدد الكثير كما قيل في قوله تعالى:" إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 348

مَرَّةً" أو كان يفعل الثلاثين في الليل.

 (الحديث الثالث)

 (1): مرفوع.

" ليست هذه الآية فينا"

 (2) قد مر بيانه، و يؤيده أن قبل تلك الآية بآيات:

" قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى‏" و معلوم أن هذا الخطاب لغيرهم عليهم السلام.

" ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ"

 (3) قال الطبرسي (ره): مثل قحط المطر و قلة النبات، و نقص الثمرات‏

" وَ لا فِي أَنْفُسِكُمْ"

 (4) من الأمراض و الثكل بالأولاد

" إِلَّا فِي كِتابٍ"

 (5) أي إلا و هو مثبت مذكور في اللوح المحفوظ

" مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها"

 (6) أي من قبل أن يخلق الأنفس، و إنما أثبتها ليستدل ملائكته به على أنه عالم لذاته، يعلم الأشياء بحقائقها

" إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ"

 (7) أي إثبات ذلك على الله يسير سهل غير عسير.

ثم بين سبحانه لم فعل ذلك فقال:" لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى‏ ما فاتَكُمْ" أي فعلنا ذلك لكيلا تحزنوا على ما يفوتكم من نعم الدنيا" وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ" أي بما أعطاكم الله منها، و الذي يوجب نفي الأسى و الفرح من هذا أن الإنسان إذا علم أن ما فات منها ضمن الله تعالى العوض عليه في الآخرة فلا ينبغي أن يحزن لذلك، و إذا علم أن ما ناله منها كلف الشكر عليه و الحقوق الواجبة فيه، فلا ينبغي أن‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 349

يفرح به، و أيضا فإذا علم أن شيئا منها لا يبقى فلا ينبغي أن يهتم له بل يجب أن يهتم لأمر الآخرة التي تدوم و لا تبيد، انتهى.

و لا يخفى أن ما ذكره قدس سره لا يتفرع على الكتابة في اللوح، و لا مدخل لها في ذلك، و قال البيضاوي: ضمير يخلقها للمصيبة أو للأرض أو للأنفس، و قال في قوله:" لِكَيْلا تَأْسَوْا" فإن من علم أن الكل مقدر هان عليه الأمر، و المراد منه نفي الأسي المانع من التسليم لأمر الله، و الفرح الموجب للبطر و الاختيال و لذلك عقبه بقوله:" وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ" إذ قل من يثبت نفسه في حال الضراء و السراء، انتهى.

و أقول: الظاهر أن التعليل مبني على أن الإنسان إذا علم أن الله سبحانه قدر الخير و الشر له قبل أن يخلقه، و علم أن الله تعالى فياض جواد حكيما، لا يفعل إلا الأصلح بعباده، لا يأسى على المصائب كثيرا لعلمه بأن صلاحه فيه، و أن الله تعالى لجودة و حكمته يعوضه عن ذلك، و أيضا إنما يأسف الإنسان غالبا لظنه أنه كان يمكنه السعي في رفع ذلك فقصر فيه، و إذا علم أن ذلك بتقديره سبحانه و كان يقع لا محالة لا يأسف من تلك الجهة، و كذا إذا أعطاه الله نعمة و علم أنها بتقدير الله تعالى و ليس من سعيه حثه ذلك على الشكر و التذلل لله سبحانه، و لا يطغى و لا يختال و يخاف سلب النعمة كما حكى الله تعالى عن قارون حيث قال:" إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى‏ عِلْمٍ عِنْدِي" و زعم أنه إنما حصل له ما أعطاه الله لسعيه لا بتقديره سبحانه و فضله، و لذلك طغى و بغى.

و إذا عرفت ذلك‏

فقوله عليه السلام: إن فينا قول الله،

 (1) يحتمل أن يكون المراد به إنا داخلون في حكم هذه الآية و لا تشملنا الآية الأخرى، فلا يكون المعنى اختصاصها بهم و إذا حملنا على الاختصاص فيحتمل وجهين‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 350

الأول: أن يكون وجه التخصيص أنهم العاملون و المنتفعون بها، فصارت لهم خلقا و سجية، و يؤيده أنه روى علي بن إبراهيم لهذا الخبر تتمة، و هي قوله:

" إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى‏ ما فاتَكُمْ وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ" فنحن الذين لا ناسي على ما فاتنا من أمر الدنيا، و لا نفرح بما أوتينا، و هذا الاختصار المخل من المصنف (ره) غريب إلا أن يقال رواه علي بن إبراهيم على الوجهين.

الثاني: أن يكون وجه الاختصاص علمهم بما كتب لهم في اللوح المحفوظ، و الدرجات التي حصلت لهم بإزائها كما مر في باب الصبر عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إنا صبر و شيعتنا أصبر منا، لأنا نصبر على ما نعلم، و شيعتنا يصبرون على ما لا يعملون، و قد مر تأويل غريب لهذه الآية في باب شأن إنا أنزلناه في ليلة القدر يظهر منه الاختصاص بهم على وجه الكمال.

باب (1)

 (1)

 (الحديث الأول)

 (2): ضعيف.

و المراد

بالهلاك‏

 (3) نزول عذاب الاستئصال، و ظاهره أن المراد بالآية عن بعضهم بسبب بعض،

فيكون الناس‏

 (4) و

بعضهم‏

 (5) منصوبين بنزع الخافض، أو يقال: المراد دفع‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 351

بعض الناس أي الظالمين أو المشركين عن بعض ببركة بعض، فيكون المدفوع عنه متروكا في الكلام‏

" فو الله ما نزلت"

 (1) أي الآية و دفع الله العذاب عن بعضهم بسبب بعض مخصوصة بالشيعة لا يشركهم غيرهم.

باب (2)

 (2)

 (الحديث الأول)

 (3): مرسل.

" أيسر من طلب التوبة"

 (4) إشارة إلى أن شرائط قبول التوبة كثيرة كما مرت الإشارة إليه في قول أمير المؤمنين عليه السلام فأصبح خائفا من ذنبه راجيا لربه، و أيضا بعد إدراك لذة الذنب و التدنس به ربما لم تطاوع نفسه في التوبة لا سيما إذا بلغ حد الطبع و الرين‏

" حزنا طويلا"

 (5) بعد الموت أو الأعم‏

" و الموت فضح الدنيا"

 (6) لكشفه عن مساويها و غرورها و عدم وفائه لأهلها، و قيل: يعني أن بعد الموت يظهر عيوب الدنيا و لا يخفى بعده، و على التقديرين فيه حث على ذكر الموت فإنه هادم‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 352

اللذات و المنبه عن الغفلات.

باب الاستدراج‏

 (1) قال في القاموس: استدراج الله تعالى العبد أنه كلما جدد خطيئة جدد له نعمة و أنساه الاستغفار و أن يأخذه قليلا و لا يباغته.

 (الحديث الأول)

 (2): مجهول.

" لينسئه"

 (3) أي الرب تعالى، و في بعض النسخ بالتاء أي النعمة و على التقديرين اللام لام العاقبة

" سَنَسْتَدْرِجُهُمْ"

 (4) بإيصال النعم إليهم عند اشتغالهم بالمعاصي، و الاستدراج قيل: هو الأخذ على الغرة من حيث لا يعلم و قيل: هو أن يتابع على عبده النعم إبلاغا للحجة، و العبد مقيم على الإساءة، مصر على المعصية، فيزداد بتواتر النعم عليه غفلة و معصية، و ذهابا إلى الدرجة القصوى منها فيأخذه الله بغتة على شدة حين لا عذر له، كما ترى الراقي في الدرجة، فيتدرج شيئا فشيئا حتى يبلغ إلى العلو فيسقط منه.

و فيه تخويف للمنعم عليه بالاغترار و النسيان، و حمل ذلك على اللطف و الإحسان و تذكير" له" باحتمال أن يكون ذلك استدراجا ليأخذه على العزة و الشدة، و قد قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه: ليركم الله من النعمة وجلين، و قال عليه السلام: إنه من‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 353

وسع عليه في ذات يده فلم ير ذلك إدراجا فقد آمن مخوفا.

 (الحديث الثاني)

 (1): مرسل.

" هو العبد"

 (2) أي حال العبد، و الإملاء الإمهال قال تعالى:" وَ أُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ" و قال في مجمع البيان في قوله تعالى:" سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ" أي إلى الهلكة حتى يقعوا فيه بغتة، و قيل: يجوز أن يريد عذاب الآخرة أي نقربهم إليه درجة درجة حتى يقعوا فيه، و قيل: هو من المدرجة و هي الطريق و درج أي مشى سريعا أي سنأخذهم من حيث لا يعلمون أي طريق سلكوا، فإن الطرق كلها علي و مرجع الجميع إلى، و لا يغلبني غالب، و لا يستبقني سابق، و لا يفوتني هارب، و قيل: إنه من الدرج أي سنطويهم في الهلاك و نرفهم عن وجه الأرض، يقال: طويت أمر فلان إذا تركته و هجرته، و قيل: معناه كلما جددوا خطيئة جددنا لهم نعمة، و لا يصح قول من قال: أن معناه يستدرجهم إلى الكفر و الضلال، لأن الآية وردت في الكفار، و تضمنت أنه يستدرجهم في المستقبل، لأن السين يختص المستقبل، و لأنه جعل الاستدراج جزاء على كفرهم و عقوبة، فلا بد أن يريد معنى آخر غير الكفر.

و قال:" وَ أُمْلِي لَهُمْ" معناه و أمهلهم و لا أعاجلهم بالعقوبة فإنهم لا يفوتوني و لا يفوتني عذابهم" إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ" أي عذابي قوي منيع لا يدفعه دافع، و سماه كيدا

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 354

لنزوله بهم من حيث لا يشعرون، و قيل: أراد أن جزاء كيدهم متين.

 (الحديث الثالث)

 (1): ضعيف.

" كم من مغرور"

 (2) كم خبرية مرفوعة محلا بالابتداء و خبرها محذوف إن كان الظرف في‏

قوله" بما"

 (3) لغوا و متعلقا بمغرور بتقدير كم من مغرور بما أنعم الله عليه كائن، و خبرها الظرف إن كان مستقرا، أو كم منصوبة محلا على طريقة ما أضمر عامله على شريطة التفسير باشتغال فعل بضمير متعلق به، مثل زيدا مررت بغلامه، و هكذا في سائر المواضع، أي كم غافل عن مال حاله، و عقوبات الله في الدنيا و الآخرة بما أنعم الله عليه فظن أنه لكرامته على الله أنعم عليه، و كم من رجل ستر الله عيوبه عن الناس أو عن نفسه أيضا استدراجا فظن كماله و قربه عند الله، و كم رجل افتتن و وقع في مهاوي العجب بثناء الناس عليه، فغفل عن عيوب نفسه، و ظن مدح الناس حقا.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 355

باب أي نادر أيضا (1)

 (1)

 (الحديث الأول)

 (2): حسن كالصحيح.

" ثلاثة أيام"

 (3) أحدها اليوم الذي هو فيه ينبغي أن يعمل فيه، و الثاني: اليوم الذي قبل هذا اليوم و هو يشمل كل يوم قبله و هو المراد بالأمس الماضي لا خصوص يوم واحد قبله، الثالث: اليوم الآتي بعد هذا اليوم، و هو كذلك يشمل جميع الأيام الآتية و هو المراد بالغد

" بما استقبلته منه"

 (4) أي بعمل صالح استقبلته و لاقيته بسبب ذلك اليوم، أو الثواب الذي تستقبله و تنتظره في الآخرة بسبب ذلك العمل، و لعله أظهر" من غد" أي بسببه أو بالنسبة إليه كقوله: أنت مني بمنزلة هارون من موسى، أو متعلق بغرة.

و الغرة

 (5) بالكسر الغفلة أي اغتررت بالغد و سوفت العمل إليه غافلا عن أنك لا تعلم وصولك إليه، و عدم تفريطك فيه‏

" و إنما هو يومك"

 (6) الضمير راجع إلى ما بيده‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 356

من الأيام و ما يمكنه العمل فيه بقرينة المقام، و قيل: إلى الباقي من الثلاثة، و قيل:

إلى الدهر، و قيل: إلى اليوم.

" و قد ينبغي لك إن عملت"

 (1) هذا الكلام يحتمل وجوها: الأول: أن يكون بفتح أن فهو فاعل ينبغي، الثاني: أن يكون الفاعل مقدرا بقرينة فاعمل، الثالث:

أن يكون مضمون جملة الشرط و هو

" إن عقلت"

 (2) و الجزاء و هو

" فاعمل"

 (3) فاعل ينبغي و لا يخلو شي‏ء منها من التكلف و لعل الأول أظهر.

و" مما فاتك"

 (4) الظاهر أن من لبيان الموصول، و قيل: من للتبعيض، و ما عبارة عن الزمان، و فيه متعلق بفرطت، و الضمير فيه راجع إلى ما في قوله: ما فرطت و من في قوله: من حسنات، لتبيين ما في فرطت و ألا في الموضعين مركب من أن الناصبة و لا النافية أدغمت النون في اللام، و بدل اشتمال للموصول فيما فرطت، و تكون زائدة لعدم صحة إدخال لا النافية على الماضي بلا إرادة التكرار، و الواو في قوله: و أنت حالية، و العامل في الحال لا تكون في الموضعين على التنازع.

و أنت إلى‏

قوله: استدبرت‏

 (5) داخل في المفكر فيه و لذا كرر مع ذكره سابقا،

و أنت‏

 (6) مبتدأ و

" مع هذا"

 (7) حال عن فاعل الظرف في‏

قوله: مع استقبال‏

 (8)، الذي هو خبر المبتدأ، و

المرتدع‏

 (9) بفتح الدال مصدر ميمي و

الإحباط

 (10) إبطال العمل الصالحة الماضية.

" على مثل يومك"

 (11) أي على مثل ما أنت من يومك الذي استدبرت، و قال في‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 357

الوافي: إن عقلت بفتح الهمزة إن أثبت الواو بعده، و إلا فبالكسر، و في بعض النسخ وددت بدل فكرت من دون واو، و عليها فالكسر متعين و أ لا في الموضعين للتحضيض انتهى.

و قوله: و ليلته‏

 (1) كأنه إشارة إلى أن ما ذكرنا من اليوم المراد به اليوم و الليلة فإنه لم يذكر الليالي و هو من العمر، أو إلى أن اليوم المراد به مقدار من الزمان اختص بوصف أو واقعة كما هو الشائع بين العرب، كيوم القيامة و يوم الأحزاب فقد يطلق على السنين و الشهور، و الساعة من اليوم أو الليلة، كما أطلق اليوم هنا على ما مضى من العمر، و على ما بقي منه، فاليوم الذي هو فيه هو الساعة التي هو فيها سواء كان من اليوم أو الليلة.

قال في المصباح: و العرب قد تطلق اليوم و يريد الوقت و الحين نهارا كان أو ليلا، فنقول: ذخرتك لهذا اليوم، أي لهذا الوقت الذي افتقرت فيه إليك، و لا يكادون يفرقون بين قولهم يومئذ و حينئذ و ساعتئذ، انتهى.

و قيل: الواو في قوله و ليلته للتقسيم، إشارة إلى أن هذا الوعظ قد ينتفع به في اليوم و قد ينتفع به في الليلة، و فيه اختصار لأن التقدير و عمل رجل ليس يأمل من الليالي إلا ليلته التي أمسى فيها، انتهى.

و ما ذكرنا أظهر، و تكرير

فاعمل‏

 (2) للتأكيد أي بينت لك هذه الموعظة و أوضحت لك ما يوجب نجاتك فإن شئت فاعمل و إن شئت دع فهو قريب من التهديد، مثل قوله تعالى:" اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ" و قوله صلى الله عليه و آله و سلم: اعمل ما شئت فإنك ميت‏

" و الله المعين على ذلك"

 (3) أي على العمل، و ما قيل: إن فاعمل ثانيا على بناء الأفعال، و أودع على أفعل التفضيل مفعوله فهو في غاية البعد و الركاكة.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 358

 (الحديث الثاني)

 (1): حسن.

" ليس منا"

 (2) أي من شيعتنا أو محبينا أو محبوبينا.

و اعلم أن أفضل الأعوان على طاعة الله و الاجتناب عن معاصيه و التزود ليوم المعاد محاسبة النفس، أي يتفكر عند انتهاء كل يوم و ليلة بل كل ساعة فيما عمل فيه من خير أو شر، كما قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، و زنوها قبل أن توزنوا و تجهزوا للعرض الأكبر، و عن الحسن بن علي عليهما السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: لا يكون العبد مؤمنا حتى يحاسب نفسه أشد من محاسبة الشريك شريكه، و السيد عبده، و فيما أوصى به أمير المؤمنين ابنه الحسن صلوات الله عليهما: يا بني للمؤمن ثلاث ساعات ساعة يناجي فيها ربه و ساعة يحاسب فيها نفسه، و ساعة يخلو فيها بين نفسه و لذتها فيما يحل و يحمد.

و في تفسير الإمام قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: أ لا أخبركم بأكيس الكيسين و أحمق الحمقاء؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: أكيس الكيسين من حاسب نفسه و عمل لما بعد الموت، و أحمق الحمقاء من اتبع نفسه هواها، و تمنى على الله الأماني، فقال الرجل:

يا أمير المؤمنين و كيف يحاسب الرجل نفسه؟ قال: إذا أصبح ثم أمسى رجع إلى نفسه و قال:

يا نفس إن هذا يوم مضى عليك لا يعود إليك أبدا و الله يسائلك عنه فيما أفنيته؟ و ما الذي عملت فيه أ ذكرت الله أم حمدتيه؟ أ قضيت حق أخ مؤمن؟ أ نفست عنه كربته‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 359

أ حفظتيه يظهر الغيب في أهله و ولده؟! أ حفظتيه بعد الموت في مخلفيه؟ أ كففت عن غيبة أخ مؤمن بفضل جاهك أ أعنت مسلما؟ ما الذي صنعت فيه؟ فيذكر ما كان منه، فإن ذكر أنه جرى منه خير حمد الله عز و جل و كبره على توفيقه، و إن ذكر معصية أو تقصيرا استغفر الله عز و جل و عزم على ترك معاودته، و محا ذلك عن نفسه بتجديد الصلاة على محمد و آله الطيبين، و عرض بيعة أمير المؤمنين على نفسه و قبولها، و إعادة لعن شانئيه و أعدائه و دافعيه عن حقوقه، فإذا فعل ذلك قال الله تعالى: لست أناقشك في شي‏ء من الذنوب مع موالاتك أوليائي و معاداتك أعدائي.

 (الحديث الثالث)

 (1): مجهول بسنديه.

" لا يغرنك الناس من نفسك"

 (2) المراد بالناس المادحون الذين لم يطلعوا على عيوبه، و الواعظون الذين يبالغون في ذكر الرحمة، و يعرضون عن ذكر العقوبات تقربا عند الملوك و الأمراء و الأغنياء

" فإن الأمر"

 (3) أي الجزاء و الحساب و العقوبات المتعلقة بأعمالك‏

" تصل إليك"

 (4) لا إليهم و إن وصل إليهم عقاب هذا الإضلال‏

" بكذا و كذا"

 (5) أي بقول اللغو و الباطل.

فإن معك من يحفظ عليك عملك‏

 (6) فإن القول من جملة العمل، كما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام من عد كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه، و قال عليه السلام لمن يتكلم بالباطل: يا هذا إنك تملي على كاتبيك كتابا، و يحتمل أن يكون كذا و كذا أعم من القول و الفعل‏

" و أحسن"

 (7) أي أفعل الحسنات، أو أحسن إلى نفسك و إلى غيرك، و الأول هنا أظهر، قال الراغب: الإحسان يقال على وجهين أحدهما الإنعام على الغير، يقال: أحسن إلى‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 360

فلان، و الثاني إحسان في فعله، و ذلك إذا علم علما حسنا أو عمل عملا حسنا، و على هذا قول أمير المؤمنين عليه السلام الناس أبناء ما يحسنون أي ما يعلمونه و ما يعملونه من الأفعال الحسنة، و في المصباح: أدركته إذا طلبته فلحقته و الدرك بفتحتين و سكون الراء لغة من أدركت الشي‏ء، و في القاموس:

الدرك‏

 (1) محركة اللحاق أدركه لحقه، انتهى.

أي تدرك الحسنة الذنب القديم فتكفره، و قيل: إنما أخر سرعة الطلب عن حسن الدرك مع أنه مقدم في الحدوث لأن الترقي في النفي بتأخير المقدم في الحدوث، و في الإثبات بالعكس.

و أقول: قد ينظر إلى الترتيب في الوجود فيهما، كقوله تعالى:" لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَ لا نَوْمٌ".

 (الحديث الرابع)

 (2): مرسل.

" فإنما هي"

 (3) أي الدنيا، و المراد ما بيدك منها أو مدة الصبر أو المصابرة

ساعة

 (4)، يدل على أن اليوم في الخبر الأول هو الساعة كما مر

" فلا تجد له ألما"

 (5) لينضم إلى ألم تلك الساعة فيتضاعف‏

" و لا سرورا"

 (6) حتى تقيس تلك الساعة بها، فيصير سببا لترك الصبر

" و ما لم يجي‏ء فلا تدري ما هو"

 (7) أي لا تدري تصل إليه‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 361

أم لا، و مع الوصول لا تعلم حالك فيه‏

" و إنما هي"

 (1) أي الدنيا التي يلزمك الصبر فيها.

 (الحديث الخامس)

 (2): مرفوع.

و ضمير

عنه‏

 (3) هنا و فيما بعده راجع إلى أحمد بن محمد

" احمل نفسك"

 (4) أي عن مواضع المذلة و الهوان في الدنيا و الآخرة

لنفسك‏

 (5) للوصول إلى الجنة و الدرجات العالية على مركوب الطاعات، و الأعمال الصالحة، و الوجهان متقاربان، و ما يعمله الغير إن كان بالوصية فهو من أعماله و إن لم يكن بالوصية فلا ينفع كثيرا و لا يعتمد على وقوعه.

 (الحديث السادس)

 (6): كالسابق، و

الداء

 (7) الأخلاق الذميمة و الذنوب المهلكة،

و آية الصحة

 (8) العلامات التي بينها الله و بين رسوله و العترة الهادية صلوات الله عليه و عليهم كقوله تعالى:" قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ.، الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ" إلى آخر الآيات، و سائر ما ورد في صفات المؤمنين و الموقنين و المتقين و المفلحين، و قد مر كثير منها في باب صفات المؤمن و غيره، و

الدواء

 (9) التوبة و الاستغفار و مجالسة الأخيار، و مجانبة الأشرار و الزهد في الدنيا، و التضرع إلى الله و التوسل به و التوكل عليه، و تتبع علل النفس و عيوبها و أمراضها، و معالجة كل منها بضدها.

و قد أشار أمير المؤمنين عليه السلام إلى ذلك بقوله:

         دواؤك فيك و ما تشعر             و داؤك منك و ما تبصر

 

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 362

         و تحسب أنك جرم صغير             و فيك انطوى العالم الأكبر

             و أنت الكتاب المبين الذي             بأحرفه يظهر المضمر

             فلا حاجة لك في خارج             يخبر عنك بما سطروا

 فانظر كيف قيامك على نفسك في معالجة أدوائها و إن قصرت في ذلك فقد قتلت نفسك، و من قتل نفسه فجزاؤه جهنم خالدا.

 (الحديث السابع)

 (1): كالسابق.

و القرين: البار

 (2) المصاحب الصالح المشفق الذي يهديك إلى ما ينفعك و يمنعك عما يضرك، و

الولد الواصل‏

 (3) هو الذي ينفعك و يعينك في دنياك و آخرتك، فشبه القلب أي العقل المتعلق بهما للمشاركة بينه و بينهما في هذا المعنى.

" و اجعل عملك"

 (4) في بعض النسخ بتقديم الميم على اللام و في بعضها بالعكس و لعله أنسب، و على الأول المراد به العمل الصالح، و المراد

بالنفس‏

 (5) النفس الأمارة بالسوء كما روي أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك، و قد مر تحقيقها، و شبه المال بالعارية في مشقة ضبطها، و عدم الانتفاع بها غالبا، و الانتقال بغيره بعد الموت، أي ينبغي أن لا يتعلق قلبك به كما لا يتعلق القلب بالعارية.

و قال في المصباح: تعاوروا الشي‏ء و اعتوروه تداولوه، و

العارية

 (6) من ذلك و الأصل فعلية بفتح العين و هو اسم من الإعارة و عارة مثل أطعته إطاعة و طاعة، و أجبته إجابة و جابة.

و قال الليث: سميت العارية لأنها عار على طالبها، و قال الجوهري مثله، و بعضهم يقول مأخوذة من عار الفرس إذا ذهب من صاحبه لخروجها و هما غلط، لأن العارية من الواو لأن العرب تقول هم يتعاورون العواري و يتعورونها بالواو و إذا

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 363

أعار بعضهم بعضا، و العار و عار الفرس من الياء فالصحيح ما قال الأزهري، و العارية بتشديد الياء و قد تخفف في الشعر.

 (الحديث الثامن)

 (1): كالسابق أيضا.

" أقصر"

 (2) على بناء الأفعال‏

" من قبل أن تفارقك"

 (3) أي النفس، فإن الخطاب ظاهرا إلى البدن أي قبل الموت الذي يسلب الاختيار عنك و اسع في فكاكها عن العذاب و الارتهان به، و قال الراغب:

الرهن‏

 (4) ما يوضع وثيقة للدين و الرهان مثله و أصلهما مصدر، يقال: رهنت الشي‏ء و أرهنته رهانا فهو رهين و مرهون، و قيل في قوله:" كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ" أنه فعيل بمعنى فاعل أي ثابتة مقيمة، و قيل: بمعنى مفعول أي كل نفس مقامة في جزاء ما قدم من عمله و لما كان الرهن يتصور منه حبسه أستعير ذلك للمحتبس أي شي‏ء كان قال: كل نفس بما كسبت رهينة.

 (الحديث التاسع)

 (5): كالسابق.

" كم من طالب"

 (6) كم خبرية للتكثير، و مرفوعة محلا بالابتداء و

قوله: لم يدركها

 (7) خبره، و حاصله أن طالب الدنيا مردد بين أمرين إما أن لا يدركها فيضل سعيه و يبطل عمله، و إما أن يدركها و يتعلق قلبه بها ثم يفارقها فتبقى عليه حسرتها فينتفع به غيره، و الحساب و العقاب عليه‏

" قد صرعته"

 (8) أي قتلته و ألقته على الأرض أو ألقته من أوج العز على حضيض المذلة و الهوان، يقال: صارعته فصرعته و الصريع القتيل، و المسجون الحقيقي في سجن الأبد من حبسته دنياه عن طلب آخرته فهو

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 364

مسجون عن القيام بمصالح نفسه أبدا.

 (الحديث العاشر)

 (1): كالسابق أيضا.

" قيل له"

 (2) أي بلسان الحال أو يناديه ملك، و تظهر الفائدة بعد أخبار الأنبياء و الأوصياء عليهم السلام‏

" خذ حذرك"

 (3) في القاموس: الحذر بالكسر و يحرك الاحتراز، و قال الراغب: الحذر احتراز عن مخيف، يقال: حذر حذرا و حذرته قال عز و جل:

" يَحْذَرُ الْآخِرَةَ"" وَ يُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ" و قال:" خُذُوا حِذْرَكُمْ" أي ما فيه الحذر من السلاح و غيره.

" فإنك غير معذور"

 (4) أي لا يقبل عذرك بغلبة الشهوة، فإنها تنكسر بعد الأربعين، و لا بقلة التجربة و ضعف العقل فإنهما يكملان في الأربعين، في المصباح: عذرته فيما صنع عذرا من باب ضرب دفعت عنه اللؤم فهو معذور، أي غير ملوم.

ثم أشار عليه السلام إلى عدم المعذورية قبل ذلك و قلة التفاوت في الإنسان لئلا يجترئ الإنسان قبل الأربعين في المعاصي‏

بقوله: و ليس ابن الأربعين بأحق بالحذر من ابن العشرين،

 (5) أي مثلا و ذلك لأن الأحقية إما باعتبار أن طالبهما متعدد، فيمكن أن يتفاوت الطلب و يتفاوت بتفاوته الحذر بالشدة و الضعف، أو باعتبار أن طالبهما واحد لكنه صالح للرقاد و الغفلة فيغفل عن الثاني دون الأول، أو باعتبار أن طلب الموت لأحدهما أقرب من طلبه للآخر، و ليس شي‏ء من هذه الاعتبارات هنا فانتفت الأحقية كثيرا، فظهر أن هذا من ألطافه سبحانه حيث يوسع الأمر

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 365

قليلا قبل الأربعين، فلا ينبغي أن يغتر الإنسان بذلك.

و المراد

بترك فضول القول‏

 (1) عدم التكلم و عدم استماعه، لأن ذلك مفسد للسان و السمع و القلب، و مانع عن إدراك الحق و عن ذكر الله، و كأنه من باب التشبيه بالأدنى على الأعلى أي فكيف الاشتغال بالمحرمات بهما و بسائر الجوارح، و يمكن أن يراد به الاغترار و التسويف في العمل بأن يقول: الله كريم يغفر الذنوب أو سأفعل بعد ذلك عند المشيب، و أمثال ذلك مما يوجب ترك العمل.

 (الحديث الحادي عشر)

 (2): صحيح.

و لما كان كل من السقم و الضعف بكبر السن و الموت مانعا من الأعمال الحسنة و كانت القدرة في أضدادها أمر عليه السلام بالمبادرة إلى تلك الأعمال في حال الاقتدار عليها، فإن الفرصة غنيمة.

 (الحديث الثاني عشر)

 (3): مرسل.

و القول إما بلسان الحال و هو قول الملك الموكل باليوم، و قد يقال أن للأيام و الساعات و الشهور و السنين شعورا لكنه بعيد من طور العقل.

 (الحديث الثالث عشر)

 (4): ضعيف.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 366

" استمع"

 (1) أي ما يلقى عليك من الكتاب و السنة أو ما ألقيه عليك في هذا الوقت و الأمور الأربعة مترتبة فإن العمل موقوف على اليقين، و اليقين موقوف على الفهم، و الفهم موقوف على الاستماع من أهل العلم.

" و اعلم أن الناس ثلاثة"

 (2) وجه الحصر أن الإنسان إما أن يخرج حب الدنيا من قلبه أو لا، و الثاني إما أن يمنع نفسه عن تحصيلها أو لا، فالأول زاهد و الثاني صابر، و الثالث راغب.

فقد خرجت الأفراح و الأحزان،

 (3) أي الدنيوية من قلبه و

الأسي‏

 (4) بالفتح و القصر الحزن، أسي يأسى من باب علم أسي فهو آس و هو إشارة إلى ما مر عن علي بن الحسين عليه السلام حيث قال: ألا و إن الزهد في آية من كتاب الله عز و جل:

" لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى‏ ما فاتَكُمْ وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ".

و الحاصل أن قلب الزاهد متعلق بالله و يأمر الآخرة لا بالدنيا، فلا يفرح بشي‏ء منها يأتيه و لا يحزن على شي‏ء منها فاته، لأن الفرح بحصول محبوب و الحزن بفواته، و شي‏ء من الدنيا ليس بمحبوب عند الزاهد.

" فهو مستريح"

 (5) أي في الدنيا و الآخرة أما الدنيا فلفراغه من مشاق الكسب و شدائد الصبر على فواته، و أما الآخرة فلنجاته من الحساب و العقاب، و

الشناءة

 (6) كالشناعة: البغض، و المراد هنا قباحتها في نظر عقله و إن مال طبعه إليها، و

الحزم‏

 (7) الأخذ بالثقة، و النظر في العاقبة و قال الفيروزآبادي:

العرض‏

 (8) بالكسر النفس، و جانب الرجل يصونه من نفسه و حسبه أن ينتقص و يثلب أو سواء كان في نفسه أو

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 367

سلفه أو من يلزمه أمره أو موضع المدح و الذم منه أو ما يفتخر به من حسب و شرف.

" و أهلك"

 (1) عطف على دنس أو لا يبالي، و المروة آداب نفسانية تحمل مراعاتها الإنسان على الوقوف عند محاسن الأخلاق و جميل العادات، و الغمرة الرحمة و الشدة و الانهماك في الباطل، و معظم البحر، و كأنه عليه السلام شبهه بمن غرق في البحر يضطرب و لا يمكنه الخروج منه.

 (الحديث الرابع عشر)

 (2): ضعيف على المشهور.

و صغر

 (3) ككرم و فرح صار صغيرا و يمكن أن يقرأ على المجهول من بناء التفعيل أي لا يعد صغيرا كمن عاين هو مرتبة عين اليقين كما مر.

 (الحديث الخامس عشر):

 (4)

" إن قدرت إن لا تعرف فافعل"

 (5) هذا مما يدل على أن العزلة أفضل من‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 368

المعاشرة، و اختلف العلماء في ذلك، و الآيات و الأخبار أيضا متعارضة فمن قال العزلة أحسن نظر إلى آفات المعاشرة من الحسد و العداوة و البغضاء و الغيبة و النميمة و الرياء و حب الدنيا و عدم فراغ القلب للذكر و الفكر و تضييع العمر، و عدم الانتفاع بمعاشرة أكثر الخلق و أشباه ذلك، و من قال المعاشرة أفضل نظر إلى فوائد المعاشرة من التعليم و التعلم و الاهتداء بسيرة العلماء و أخلاقهم، و تحصيل المثوبات العظيمة من زيارة الإخوان و عيادتهم و تشييع جنائزهم و السعي في قضاء حوائجهم و هداية الخلق و إحياء مراسم الدين و الحضور في الجماعات و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و أمثال ذلك، و كل ذلك يفوت بالعزلة.

فالحق القول بالتفصيل في الأشغال و الأحوال و الأزمان و الأشخاص فالعزلة المطلوبة عن شرار الخلق إذا يئس عن هدايتهم كما قال إبراهيم عليه السلام عند اليأس عن هدايتهم:" وَ أَعْتَزِلُكُمْ وَ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ" لا العزلة التامة بحيث يترك الأمور الواجبة كالتعليم و التعلم و حضور الجمعات و الجماعات و سائر ما أشرنا إليه سابقا، و المعاشرة إنما تكون مطلوبة إذا كانت متضمنة لمنفعة دينية خالية عن المفاسد المذكورة و غيرها.

و أيضا ذلك يختلف باختلاف الأشخاص، فالعلماء و الفقهاء إذا اعتزلوا صار سببا لضلالة الخلق و حيرتهم و استيلاء شياطين الجن و الإنس عليهم، و كثير من سائر الخلق لا ضرورة في معاشرتهم.

و أيضا الأزمنة مختلفة، فقد ورد في الخبر: سيأتي على الناس زمان لا ينجو فيه إلا النومة كما أن سيد الساجدين صلوات الله عليه اعتزل الخلق لفساد الزمان و استيلاء بني أمية على الخلق و الباقر و الصادق عليهما السلام عملا بخلاف ذلك لتمكنهم من‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 369

هداية الخلق.

و بالجملة ينبغي أن يكون الإنسان طبيب نفسه، فإنه أعرف بأدوائها و عارفا بزمانه و أهله، فإذا عرف أن صلاحه في العزلة اعتزل اعتزالا لا يضر بحاله، و إذا علم أن صلاحه في المعاشرة اختارها على وجه لا يضر بنياته و أعماله و ينبغي أن ينظر في أحوال أهل زمانه فيختار للأخوة و المصاحبة من كان مصلحا لأحواله و لا يكون مضيعا لعمره كما سيأتي تحقيقه في كتاب العشرة إن شاء الله، و قد بسطنا الكلام في ذلك بعض البسط في كتاب عين الحياة و الله الموفق.

و أما هذا الخبر فالظاهر أن الراوي و هو حفص بن غياث لما كان عاميا قاضيا من قبل هارون طالبا للشهرة عند الولاة و خلفاء الجور، و لذا عدل عن الحق و اتبع أهل الضلال، و كان المناسب بحاله ترك الشهرة و الاعتزال أمره عليه السلام بذلك.

" لا خير في العيش"

 (1) أي عيش الدنيا و يحتمل الأعم من عيش الدنيا و الآخرة و المراد

بالرجل‏

 (2) الأول من لم يذنب أصلا أو إلا نادرا و بالثاني من يبتلي بالمعاصي ثم يتوب و هو المفتن التواب كما مر.

ثم بين عليه السلام إن قبول التوبة مشروط بحسن الاعتقاد لئلا يغتر السامع بذلك فإنه كان من أهل الضلال، و ألا بالتخفيف حرف تنبيه‏

" و رجا الثواب"

 (3) كان خبر الموصول مقدر و قيل: استفهام للتقليل‏

" و نصف"

 (4) مجرور بالبدلية

" لقوته"

 (5) أو منصوب بالحالية أو تميز مثل قولهم: رضيت بالله ربا، و

" في كل يوم"

 (6) صفة نصف مد،

" و ما ستر"

 (7) عطف على قوته و الواو في قوله و هم للحالية، و قيل: للاستئناف، و الضمير في‏

قوله: و هم‏

 (8) راجع إلى أصحاب الرسول صلى الله عليه و آله و سلم الذين لم يرتدوا بعده و هو بعيد،

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 370

و الجمع بين الخوف و الوجل للإشارة إلى الآيات الواردة في ذلك.

" ودوا أنه حظهم"

 (1) أي هم راضون بما قدر لهم من الدنيا لا يريدون أكثر من ذلك لئلا يطغوا

" وَ الَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا"

 (2) قال في مجمع البيان: أي يعطون ما أعطوا من الزكاة و الصدقة و قيل: أعمال البر كلها

" وَ قُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ"

 (3) أي خائفة عن قتادة، و قال الحسن: المؤمن جمع إحسانا و شفقة، و المنافق جمع إساءة و أمتا، و قال أبو عبد الله عليه السلام: معناه خائفة أن لا يقبل منهم، و في رواية أخرى يؤتى ما آتى و هو خائف راج، و قيل: إن في الكلام حذفا و إضمارا، و تأويله وجلة أن لا يقبل منهم لعلمهم أنهم إلى ربهم راجعون، أي لأنهم يوقنون بأنهم يرجعون إلى الله تعالى يخافون أن لا يقبل منهم، و إنما يخافون ذلك لأنهم لا يأمنون التفريط.

 (الحديث السادس عشر)

 (4): مجهول بالحكم و هو غير مذكور في كتب الرجال و إبراهيم الراوي عنه من أصحاب الصادق عليه السلام و الكاظم عليه السلام فالمروي عنه في الخبر يحتمل الصادق و الباقر عليهما السلام و احتمال الكاظم عليه السلام بعيد، و المعنى أن في القرآن المجيد أحوال الجنة و درجاتها و ما فيها و أوصاف النار و دركاتها و ما فيها، و الله سبحانه أصدق الصادقين، فمن صدق بالكتاب كان كمن عاينهما و ما فيهما و من عاينهما ترك المعصية قطعا فمن ادعى التصديق بالكتاب و عصى ربه فهو كاذب في دعواه، و تصديقه ليس في درجة اليقين.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 371

 (الحديث السابع عشر)

 (1): موثق.

و قد مضى صدره في باب استصغار الذنب‏

" لا تستكثروا كثير الخير"

 (2) فإنه يوجب العجب و الفخر و الإدلال و الاعتقاد لخروج النفس عن حد التقصير، و كل ذلك مهلك كما مر

" و خافوا الله في السر"

 (3) إنما خص السر بالذكر لأن الناس يتسامحون في السر ما لا يتسامحون في العلانية، و أيضا هو يستلزم الخوف في العلانية بدون العكس، و هو أشد على النفس أيضا

" حتى تعطوا من أنفسكم النصف"

 (4) أي الإنصاف بأنكم خفتم الله أو تنصفوا من أنفسكم و لم تحتاجوا إلى حاكم يحكم بينكم.

" فإنما ذلك لكم"

 (5) كان المراد لا ينفعكم إلا ذلك، و كذا قوله عليكم، أو للإشعار بأنهم لما لم يعلموا بهذا العلم فكأنهم لا يعلمونه، و قيل: هذا و إن كان بينا لكن ذكره للتنبيه عن الغفلة.

 (الحديث الثامن عشر)

 (6): حسن كالصحيح.

" و ما أحسن الحسنات"

 (7) إلى آخره، قيل: هذا كلام موجز يندرج فيه التوبة بعد المعصية، و المعصية بعد التوبة، و كل خير بعد شر، و كل شر بعد خير سواء كانا ضدين كالإحسان و الإساءة أم لا كالصلاة و الزنا.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 372

 (الحديث التاسع عشر)

 (1): مرسل.

" في آجال"

 (2) أي أعمار

" مقبوضة"

 (3) أي يقبض منها آنا فآنا و ساعة فساعة، و هي في النقص دائما أو لقلتها و سرعة نفادها كأنها قبضت و الأول أظهر،

" و أيام معدودة"

 (4) أي عدت و قدرت لا تزيد و لا تنقص‏

" و الموت يأتي بغتة"

 (5) أي لا يعلم وقت نزوله و تتسبب أسبابه من غير علم منكم بها، أو قد يأتي فجأة، و البغتة بالفتح و التحريك الفجأة، و الغبطة بالكسر حسن الحال و المسرة، و أن يتمنى غيره حاله، و في الكلام تمثيل أو استعارة تبعية، و الحصاد ترشيح، و التنكير في غبطة و ندامة للتعظيم‏

" و لكل زارع ما زرع"

 (6) أي لا يحصل له إلا ما زرعه إشارة إلى قوله تعالى:" وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى‏".

" لا يسبق البطي‏ء منكم حظه"

 (7) الفعل على بناء الفاعل، و حظه مرفوع بالفاعلية و البطي‏ء منصوب بالمفعولية أي لا يصير بطوءه سببا لأن يفوته حظه، أي ما قدر له من الرزق.

و أقول: يمكن أن يقرأ على بناء المفعول، فالبطي‏ء مرفوع و حظه منصوب بنزع الخافض، أي لا يسبقه غيره إلى حظه و لا يدرك حريص ما لم يقدر له، و ما يتوهم أنه زاد بسعيه باطل، إذ لعله مع عدم هذا السعي أيضا يصل إليه، أو يقال: أن السعي إنما ينفع في الزيادة إذا كانت مقدرة فلا يترك التوسل إلى الله و التوكل عليه، و لا يعتمد على سعيه فإنا نرى من يسعى أكثر من سعيه، و لا يحصل له شي‏ء.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 373

و الحاصل أنه ليس مستقلا في التحصيل، بل هو داخل تحت قضاء الرب الجليل، و لذا قال بعده: من أعطى خيرا فالله أعطاه، و قيل: لا ينافيه وجدان الحريص زيادة، لأن تلك الزيادة ليست من قوته المفتقرة هو إليه في البقاء بل هو لغيره و الحساب عليه و ما ذكرنا أظهر.

 (الحديث العشرون)

 (1): ضعيف سندا و متنه يدل على صحته.

" عمرتم الدنيا"

 (2) من باب قتل أو التفعيل أي سعيتم في عمارتها و هو ضد أخربتم‏

و العمران‏

 (3) بضم العين المعمور.

" يرد"

 (4) بالتخفيف على بناء المعلوم من الورود، أو بالتشديد على بناء المجهول من الرد و هو أنسب‏

" رحمة الله قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ"

 (5) أي لا بد في الرحمة من استحقاقها و لو بصحة المذهب و حسن العقيدة، و في المصباح:

الطرفة

 (6) ما يستطرف أي يستملح‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 374

و الجمع طرف مثل غرفة و غرف، و أطرف إطرافا جاء بطرفة و قال الجوهري:

الطارف و الطريف من المال المستحدث و الاسم الطرفة و أطرف فلان إذا جاء بطرفة.

 (الحديث الحادي و العشرون)

 (1): موثق.

" اصبروا على طاعة الله"

 (2) لما كانت اللذة في فعل المعصية أكثر منها في ترك الطاعة كان الصبر على المعصية أشق على النفس من الصبر على فعل الطاعة، فلذا قال في الطاعة اصبروا في المعصية

تصبروا

 (3) و هو تكلف الصبر و حمل النفس عليه كما هو مقتضى البابين و إن لم يفرق اللغويون بينهما، قال الفيروزآبادي: الصبر نقيض الجزع صبر يصبر فهو صابر و تصبر و اصطبروا صبر.

و قال الراغب: الصبر حبس النفس على ما يقتضيه العقل أو الشرع أو عما يقتضيان حبسها عنه، فالصبر لفظ عام و ربما خولف بين أسمائه بحسب اختلاف مواقعه فإن كان حبس النفس لمصيبة سمي صبرا لا غير، و يضاده الجزع و إن كان في محاربة سمي شجاعا و يضاده الجبن و إن كان في نائبه مضجرة سمي رحب الصدر و يضاده التضجر، و إن كان في إمساك الكلام سمي كتمانا.

و قد سمى الله تعالى كل ذلك صبرا و نبه عليه بقوله:" وَ الصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَ الضَّرَّاءِ وَ حِينَ الْبَأْسِ" و ساق الكلام إلى قوله:" اصْبِرُوا وَ صابِرُوا" أي احبسوا أنفسكم على العبادة و جاهدوا أهواءكم و قوله: عز و جل" وَ اصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ" أي تحمل الصبر بجهدك، و قوله تعالى:" أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا" أي تحملوه من الصبر

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 375

في الوصول إلى مرضات الله، انتهى.

" فليس تعرفه"

 (1) أي لا تعرف حالك فيه تبلغ إليه أم لا، و مع البلوغ لا تعلم أنك فيه على حزن أو سرور، على طاعة أو معصية

" فكأنك قد اغتبطت"

 (2) على بناء المعلوم أي عن قريب تصير بعد الموت في حالة حسنة يغبطك الناس لها و يتمنون حالك و لا تبقى عليك مرارة صبرك، في القاموس: الغبطة بالكسر حسن الحال و المسرة و قد اغتبط، و الحسد، و تمنى نعمة على أن لا تتحول عن صاحبها.

و أقول: لا يبعد أن يكون بالعين المهملة على بناء المفعول أي اغتنم الفرصة و لا تعتمد على العمر فكأنك قدمت فجأة على غفلة بلا عمل و لا توبة، قال في النهاية:

كل من مات بغير عمله فقد اغتبط، و مات فلان غبطة أي شابا صحيحا، و في بالي إني وجدت في بعض نسخ الحديث هكذا.

 (الحديث الثاني و العشرون)

 (3): مرسل.

" أن أصلح يوميك"

 (4) المراد باليوم ما مر أنه مقدار من الزمان اختص بواقعة و المراد هنا يوم الدنيا و يوم الآخرة، و اليوم الذي أمامه الآخرة، و كونه أصلح المراد به أنه أحرى و أولى بأن يراعى و يسعى في إصلاحه، و يتوقع النفع منه، فإنه أبدي و الدنيا فان، و منافع الأول و لذاته أشد و أخلص و أقوى من لذات الآخر.

" فانظر أي يوم هو"

 (5) أي يوم راحة أو يوم تعب و مشقة، أو المراد باليوم الثاني يوم القيامة، و بقوله: فانظر أي يوم هو، أي تذكر أحوال هذا اليوم و أهواله‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 376

و صعوبته و السؤال و الحساب فيه،

فأعد له الجواب‏

 (1) و حاسب نفسك قبل ذلك، و خذ موعظتك من الدهر و أهله بالتفكر في فنائها و سرعة انقضائها، و كون لذاتها فانية مشوبة بالآلام الكثيرة، و النظر في عواقب السعداء و الأشقياء.

" فإن الدهر طويل قصير"

 (2) هذه الفقرة تحتمل وجوها: الأول: أن دهر الموعظة طويل لأنه يمكنه أن يعتبر و يتفكر في أحوال السعداء و الأشقياء من أول الدهر إلى زمانه فكأنه قد عاش معهم جميعا كما قال أمير المؤمنين في وصية للحسن عليهما السلام: و دهر العمل و اللذات التي فيها قصير.

الثاني: أن الدهر من جهة الموعظة طويل يمكنه الاتعاظ بأقل زمان لأن الدهر دائما في الانقلاب، و من جهة العمل قصير ينبغي اغتنام الفرصة فيه.

الثالث: أنه للمحسنين طويل لأنه يمكنهم اكتساب السعادات العظيمة في أقل زمان، فهم في أعمارهم القليلة يعملون أعمالا كثيرة، و تبقى منهم آثار جليلة، و للمسيئين قصير لأنه تفني لذاتهم و تبقى عليهم تبعاتهم و لا ينتفعون بشي‏ء من أعمارهم.

الرابع: أن المعنى أن تمام العمر و إن كان طويلا لكن ما بيده منها قصير، و هو الساعة التي هو فيها لأن ما مضى قد خرج من يده، و ما يأتي لا يعلم حاله فيه كما مر مرارا، و قيل: المعنى أنه و إن كان طويلا لكن نظرا إلى انقطاعه قصير.

و أقول: هذه الفقرات سيأتي أمثالها في مناجاة الله تعالى لموسى عليه السلام في الروضة حيث قال: يا موسى ما أريد به وجهي فكثير قليله، و ما أريد به غيري فقليل كثيره و إن أصلح أيامك الذي هو أمامك فانظر أي يوم هو، فأعد له الجواب فإنك موقوف به و مسئول، و خذ موعظتك من الدهر و أهله فإن الدهر طويله قصير و قصيره طويل‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 377

و كل شي‏ء فان فاعمل كأنك ترى ثواب عملك، لكي يكون أطمع لك في الآخرة لا محالة، فإن ما بقي من الدنيا كما ولي منها، و كل عامل يعمل على بصيرة و مثال فكن مرتادا لنفسك يا بن عمران.

فالظاهر منه أن طويله قصير لفنائه و سرعة انقضائه، و قصيره طويل لإمكان تحصيل السعادات العظيمة في القليل منه، و إن احتمل بعض الوجوه الأخر.

" فاعمل كأنك ترى ثواب عملك"

 (1) أي إذا أخذت موعظتك من الدهر، و عرفت فناءها و سرعة انقضائها ينبغي أن تقبل على عملك الموجب لتحصيل المثوبات الأخروية لك مع اليقين بترتب الثواب كأنك تراه فإن من كان كذلك يكون قلبه فارغا عن حب الدنيا، و الميل إلى شهواتها، فيكون عمله مع حضور القلب و رعاية آدابها فيكون أطمع له في الأجر، و اللام للتعدية.

و الحاصل أنه يكون عمله في درجة الكمال و مظنة القبول، و إن كان الأولى بالنسبة إليه أن يعد نفسه مقصرا، و لا يعتمد على عمله، أو المعنى أنك إذا كنت في اليقين بحيث كأنك ترى بعينك ثواب عملك تكون تلك الحالة ادعى لك على العمل الذي هو موجب لحصول الأجر، فأشار إلى الحرص على العمل بذكر لازمه، و هو الطمع في الأجر، و على التقادير يدل على أن قصد الثواب لا ينافي الإخلاص، بل كماله، فإن ما هو آت من الدنيا كما قد ولى منها أي في سرعة الانقضاء و عدم الاعتماد عليه في البقاء، فهو تعليل لأخذ الموعظة أو له و لما يترتب عليه من العمل الخالص و الحرص عليه، أو لرؤية ثواب الآخرة و قرب حصوله فإن بقية العمر في عدم الوثوق عليه كالماضي، فالآخرة قريبة منك كأنك تراه و تسعى إليه، أو للأمر بالعمل الخالص في الحال لمرور الماضي بالتقصير و عدم الوثوق على الآتي كما مر، و قيل: أي لا تكن في تدبير ما يأتي من العمر بتحصيل المال كما أنك لا تتفكر فيما مضى.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 378

 (الحديث الثالث و العشرون)

 (1): ضعيف على المشهور.

" حلالها حساب"

 (2) الحمل على المبالغة، و ظاهره أنه تعالى يحاسب العبد بما كسب من الحلال، و صرف فيه.

و ينافيه بعض الأخبار كما سيأتي في كتاب الأطعمة عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ثلاثة أشياء لا يحاسب عليهن المؤمن طعام يأكله، و ثوب يلبسه، و زوجة صالحة تعاونه و يحصن بها فرجه، و عن أبي حمزة عنه عليه السلام قال: الله أكرم و أجل من أن يطعمكم طعاما فيسوغكموه ثم يسألكم عنه، و لكن يسألكم عما أنعم عليكم بمحمد و آل محمد، و روى العياشي بإسناده في حديث طويل قال سأل أبو حنيفة أبا عبد الله عليه السلام عن قوله تعالى:" ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ" فقال له: ما النعيم عندك يا نعمان؟ قال: القوت من الطعام، و الماء البارد، فقال: لئن أوقفك الله بين يديه يوم القيامة حتى يسألك عن كل أكلة أكلتها، أو شربة شربتها ليطولن وقوفك بين يديه؟ قال: فما النعيم جعلت فداك؟ قال: نحن أهل البيت الذي أنعم الله بنا على العباد، و بنا ائتلفوا بعد ما كانوا مختلفين و بنا ألف الله بين قلوبهم، فجعلهم إخوانا بعد أن كانوا أعداء و بنا هداهم الله للإسلام و هو النعمة التي لا تنقطع، و الله مسائلهم عن حق النعيم الذي أنعم به عليهم، و هو النبي صلى الله عليه و آله و سلم و عترته عليهم السلام.

و اختلفت العامة في ذلك فقال الحسن: لا يسأل عن النعيم إلا أهل النار، و قال أكثرهم: يسأل الكل عن كل نعيم، و قيل: النعيم المسؤول عنه الصحة و الفراغ و قيل: الأمن و الصحة، روي ذلك عن ابن مسعود و مجاهد، و روي ذلك في أخبارنا

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 379

أيضا، و قيل: يسأل عن كل نعيم إلا ما خصه الحديث و هو قوله صلى الله عليه و آله و سلم: ثلاثة لا يسأل عنها العبد، خرقة يواري بها عورته، أو كسرة يسد بها جوعته، أو بيت يكنه من الحر و البرد.

و أقول: يمكن الجمع بين الأخبار بحمل أخبار عدم الحساب على المؤمنين، و أخبار الحساب على غيرهم و هو الظاهر من أكثر الأخبار، أو الأولى على ما يصرف في الأمور الضرورية كالمأكل و المشرب و الملبس و المسكن و المنكح، و الأخرى على ما زاد على الضرورة كجمع الأموال زائدا على ما يحتاج إليه، أو صرفها فيما لا يدعوه إليه ضرورة، و لا يستحسن شرعا، كما يومئ إليه بعض الأخبار.

و يمكن حمل أخبار الحساب على التقية و الأولى الأيمان بالحساب مجملا، فإنه من ضروريات الدين، و السكوت عما لا يعلم من التفاصيل.

و المراد

بالروح‏

 (1) الراحة و الخلاص من أهوال القيامة و بسنة النبي طريقته في ترك الدنيا و الزهد فيها، و ترك طلب الفضول، كما قال صلى الله عليه و آله و سلم: اللهم ارزق محمدا و آل محمد العفاف و الكفاف، أو الأعم منها فإن من صرف عمره في طلب فضول الدنيا لا يمكنه الإتيان بها.

" تطلبون ما يطغيكم"

 (2) إشارة إلى قوله تعالى:" إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى‏ أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى‏".

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 380

باب من يعيب الناس‏

 (1) يرجع حاصل أخبار هذا الباب إلى المنع من تتبع عيوب الناس و تعييرهم و ذمهم.

 (الحديث الأول)

 (2): حسن كالصحيح.

و الظاهر أن المراد

بالبر

 (3) الإحسان إلى الغير، و قد يطلق على مطلق أعمال الخير، و

بالبغي‏

 (4) الظلم و التطاول على الناس، و قد يطلق على الزنا، و الظاهر هنا الأول، و يحتمل أن يكون المراد الخروج على الإمام، و سرعة الثواب و العقاب فيهما باعتبار أن نفع الأول و ضرر الثاني يلحقهم في الدنيا، و عيبا تميز و تعدية العمى بعن كأنه لتضمين معنى التغافل و الإعراض، و التعدية بعلى كما في سائر الأخبار أظهر و أشهر كقوله تعالى:" فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ" و على ما هنا المستتر في يعمى راجع إلى المرء، و البارز في‏

عنه‏

 (5) إلى الموصول، و على ما في سائر الروايات بالعكس، و كان نسبة العمى إلى الأمر و النبإ من قبيل المجاز في الإسناد.

و قال الجوهري:

العمى‏

 (6) ذهاب البصر، و قد عمي فهو أعمى، و تعامي الرجل أرى من نفسه ذلك، و عمي عليه الأمر إذا التبس، و منه قوله:" فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ" و رجل عمي القلب أي جاهل، انتهى.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 381

" أو يعير الناس"

 (1) اعلم أن تعبير الغير من أعظم العيوب، و يوجب ابتلاءه بذلك العيب كما مر في الأخبار، فينبغي أن يرجع إلى نفسه، فإن وجد فيها عيبا اشتغل به و بإصلاحه و رفعه، و لا يترك نفسه و يذم غيره، و إن عجز عن إصلاحه فينبغي أن يعذر غيره، و إن لم يجد في نفسه عيبا فهو من أعظم عيوبه، فإن تبرئة النفس من العيب جهل، و هو ينشأ من عمى القلب قال تعالى حاكيا عن يوسف الصديق:

" وَ ما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي".

ثم الظاهر أن المراد

بما يعمى عنه من نفسه و ما لا يستطيع تركه‏

 (2) أعم من أن يكون من جنس ما في الغير أو لم يكن، مع احتمال المماثلة و على التقديرين لا ينبغي أن يعيب صاحبه لأن عيبه إما أن يكون مثل عيب صاحبه أو أكبر منه أو أصغر، فإن كان أحد الأولين فينبغي أن يكون له في عيبه لنفسه شغل عن عيب صاحبه، و إن كان الأخير فيضيف إلى عيبه الأصغر عيبا آخر أكبر و هو التعيير و الغيبة، و ما كان المراد بعدم الاستطاعة هنا ما يصعب عليه تركه، و لذلك لا يتركه لا أنه ليس له قدرة على الترك أصلا، فإنه حينئذ لا يكون مكلفا به.

" أو يؤذي جليسه بما لا يعنيه"

 (3) أي لا يهمه و لا ينفعه و الضمير المنصوب إما راجع إلى المرء أو الجليس، و الأول أظهر أي يؤذيه بشي‏ء لا فائدة له فيه، فإن هذا أشد و أقبح أو لا فائدة للجليس فيه، فإنه إن كان لنفعه كالنهي عن المنكر أو الأمر بالخيرات فهو حسن، و يحتمل أن يكون المراد كثيرة الكلام بما ليس فيه طائل فإن ذلك يؤذي الجليس العاقل.

قال في النهاية: يقال هذا الأمر لا يعنيني أي لا يشغلني و يهمني، و منه الحديث من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه أي ما لا يهمه.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 382

 (الحديث الثاني)

 (1): صحيح.

 (الحديث الثالث)

 (2): مرسل.

 (الحديث الرابع)

 (3): صحيح و راويه هو راوي الحديثين الأولين.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 383

باب أنه لا يؤاخذ المسلم بما عمل في الجاهلية

 (1)

 (الحديث الأول)

 (2): صحيح.

و المراد

بالإسلام الحسن‏

 (3) أن يكون مقرونا بالإقرار بجميع أصول الدين، ليخرج المخالفون و أضرابهم، و

بصحة يقين الإيمان‏

 (4) أن لا يكون مشوبا بشك و نفاق، و قال في المغرب: رجل‏

سخف‏

 (5) و فيه سخف، و هو رقة العقل من قولهم: ثوب سخيف إذا كان قليل الغزل، و قد سخف سخافة، انتهى.

و كان المراد هنا ما كان مشوبا بشك و نفاق، قال في النهاية: الجب القطع و منه الحديث: إن الإسلام يجب ما قبله، و التوبة تجب ما قبلها، أي يقطعان و يمحو أن ما كان قبلهما من الكفر و المعاصي و الذنوب، انتهى.

فالإسلام الحسن يجب جميع ما وقع في أيام الكفر من حق الله و حق البشر إلا ما خرج بدليل، مثل مال المسلم الموجود في يده، و قيل: الظاهر أن هذا حال الحربي الذي أسلم، و أما الذمي فلا يسقط إسلامه ما وجب من دم أو مال أو غيره لأن حكم الإسلام جار عليه على الظاهر، و الإسلام السخيف لا يجب ما قبله، لأنه ليس بإسلام حقيقة فيؤخذ بالكفر الأول و الآخر، و العمل فيهما.

و فيه دلالة على أن الكافر مكلف بالفروع كما أنه مكلف بالأصول، و يمكن‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 384

أن يراد بالإسلام الحسن الإسلام الثابت الذي لا يعقبه ارتداد، و بالإسلام السخيف ما يعقبه ارتداد، فإذا ارتد يؤخذ بكفره الأول و الآخر.

ثم قال: و هذا التفسير لا يخلو من مناقشة، لأن الإسلام قد جب الأول فكيف يؤخذ بعد الارتداد بالأول و يحكم بعود الزائل من غير سبب، و يمكن أن يدفع بأن السبب هو الارتداد لأنه إذا ارتد حبطت أعماله، و من جملة أعماله إسلامه السابق فإذا أبطل إسلامه السابق بطل جبه، و إذا بطل جبه يؤخذ بالكفر الأول أيضا، ضرورة أن المسبب ينتفي بانتفاء سببه.

على أنه يمكن أن يقال: الذي يجب ما قبله هو الإسلام بشرط الاستمرار فإذا قطع الاستمرار بالارتداد، علم أن هذا الإسلام لم يجب ما قبله، فلا يلزم عود الزائل، بل اللازم ظهور عدم زواله بذلك الإسلام.

و منهم من فسر حسن الإسلام بالطاعة بأن يكون معه أعمال صالحة، و الإسلام السخيف ما كان مع المخالفة، و جعل قوله: و صح يقين إيمانه وصفا آخر للإسلام، و لا يخفى ضعفه، لأنه يوجب أن يكون جب الإسلام ما قبله موقوفا على الطاعة و العمل، و ليس الأمر كذلك إذ لا دليل عليه و لم يقل به أحد.

 (الحديث الثاني)

 (1): ضعيف و مضمونه قريب من الأول.

و كان المراد

بالإساءة

 (2) الإساءة المخرجة من الإيمان كما عرفت.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 385

باب أن الكفر مع التوبة لا يبطل العمل‏

 (1)

 (الحديث الأول)

 (2): حسن كالصحيح.

و إطلاقه يدل على أن توبة المرتد مقبولة و إن كان فطريا، و على المشهور مخصوصة بالملي لبعض الروايات الدالة على أن توبة الفطري غير مقبولة و قد مر تحقيقه.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 386

باب (1)

 (1)

 (الحديث الأول)

 (2): حسن كالصحيح.

و قال الشيخ البهائي (ره) في رواية الحسن بن محبوب عن أبي حمزة الثمالي نظر لا يخفى، و قال الجزري: في النهاية فيه أن لله ضنائن من خلقه يحييهم في عافية، و يميتهم في عافية،

الضنائن‏

 (3) الخصائص واحدهم ضنينة، فعيلة بمعنى مفعولة، من الضن و هو ما تختصه و تضن به أي تبخل، لمكانة منك و موقعه عندك، يقال: فلان ضني من بين إخواني و ضنتي أي اختص به و أضن بمودته، و قال الجوهري: ضننت بالشي‏ء أضن به ضنا و ضنانة إذا بخلت و هو ضنين به. و قال الغراء: و ضننت بالفتح أضن لغة، و فلان ضني من بين إخواني و هو شبه الاختصاص، و في الحديث: إن الله ضنا من خلقه، الخبر، و قال الفيروزآبادي: الضنين البخيل يضن بالفتح و الكسر ضنانة و ضنا بالكسر، و هو ضني بالكسر أي خاص بي، و ضنائن الله خواص خلقه، انتهى.

و قيل: المعنى يضن بالبلاء عنهم، فإن البلاء نعمة كأنه يضن بها عنهم و لا يخفى بعده.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 387

 (الحديث الثاني)

 (1): موثق.

 (الحديث الثالث)

 (2): مجهول.

و في القاموس‏

حبا

 (3) فلانا أعطاه بلا جزاء و لا من، و الاسم الحباء ككتاب و الحياة مثلثة.

باب (ما رفع عن الأمة) (1)

 (4) و هو مشتمل على ما لا يؤاخذ الله هذه الأمة به‏

 (الحديث الأول)

 (5): ضعيف على المشهور.

" رفع عن أمتي"

 (6) لعل المراد رفع المؤاخذة و العقاب، و يحتمل أن يكون المراد في بعضها رفع أصله أو تأثيره أو حكمه التكليفي و لعل مفهوم قوله: عن أمتي‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 388

غير مراد في بعضها، فالمراد اختصاص المجموع بهذه الأمة و إن اشترك البعض بينها و بين غيرها،

فالخطأ

 (1) كما إذا أراد رمي صيد فأصاب إنسانا، و كخطإ المفتي و الطبيب و المراد هنا رفع الإثم، فلا ينافي الضمان في الدنيا، و إن كان ظاهره عدم الضمان أيضا، و كذا رفع الإثم‏

بالنسيان‏

 (2) لا ينافي وجوب الإعادة عند نسيان الركن و سجدة السهو، و التدارك عند نسيان بعض الأفعال.

و قيل: يفهم من الرفع أنهما يورثان الإثم و العقوبة، و لكنه تعالى تجاوز عنهما رحمة و تفضلا، و

الإكراه‏

 (3) أعم من أن يكون في أصول الدين أو فروعه مما يجوز فيه التقية، لا فيما لا تقية فيه كالقتل.

" و ما لم يطيقوا"

 (4) أي التكاليف الشاقة التي رفعت عن هذه الأمة.

ثم استشهد للخصال الأربع و عدم المؤاخذة بها بالآيات و هي قوله تعالى:

" رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا"

 (5) قال في مجمع البيان: قيل فيه وجوه:

الأول: أن المراد بنسينا تركنا كقوله تعالى:" نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ" أي تركوا إطاعة الله فتركهم من ثوابه، و المراد بأخطأنا أذنبنا لأن المعاصي توصف بالخطاء من حيث إنها ضد للصواب.

و الثاني: أن معنى قوله: إن نسينا إن تعرضنا لأسباب يقع عندها النسيان عن الأمر أو الغفلة عن الواجب، أو أخطأنا أي تعرضنا لأسباب يقع عندها الخطأ و يحسن الدعاء بذلك كما يحسن الاعتذار منه.

و الثالث: أن معناه لا تؤاخذنا إن نسينا أي إن لم نفعل فعلا يجب فله على سبيل السهو و الغفلة" أَوْ أَخْطَأْنا" أي فعلنا فعلا يجب تركه من غير قصد، و يحسن هذا في الدعاء على سبيل الانقطاع إلى الله سبحانه، و إظهار الفقر إلى مسائلته‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 389

و الاستعانة به، و إن كان مأمونا منه المؤاخذة بمثله، و يجري ذلك مجرى قوله فيما بعد:

" وَ لا تُحَمِّلْنا"

 (1) على أحد الأجوبة.

و الرابع: ما روي عن ابن عباس و عطاء أن معناه لا تعاقبنا إن عصيناك جاهلين أو متعمدين.

و قوله:" رَبَّنا وَ لا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً"

 (2) قيل فيه وجهان: الأول: أن معناه لا تحمل علينا عملا نعجز عن القيام به، و تعذبنا يتركه و نقضه عن ابن عباس و غيره و الثاني: أن معناه لا تحمل علينا ثقلا يعني لا تشدد الأمر علينا

" كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا"

 (3) أي على الأمم الماضية و القرون الخالية، لأنهم كانوا إذا ارتكبوا خطيئة عجلت عليهم عقوبتها، و حرم عليهم بسببها ما أحل لهم من الطعام كما قال تعالى:" فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ" و أخذ عليهم العهود و المواثيق و كلفوا من أنواع التكاليف ما لم تكلف هذه الأمة تخفيفا عنها.

" رَبَّنا وَ لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ"

 (4) قيل فيه وجوه: الأول: أن معناه ما يثقل علينا تحمله من أنواع التكاليف و الامتحان، مثل قتل النفس عند التوبة، و قد يقول الرجل لأمر يصعب عليه: إني لا أطيقه، و الثاني: أن معناه ما لا طاقة لنا به من العذاب عاجلا و آجلا.

و الثالث: أنه على سبيل التعبد و إن كان سبحانه لا يكلف و لا يحمل أحدا ما لا يطيقه، انتهى.

و قال بعضهم: فإن قلت: الآية دلت على المؤاخذة و الإثم بالخطإ و النسيان، و إلا فلا فائدة للدعاء بعدم المؤاخذة، فكيف تكون دليلا على الرفع المذكور؟

قلت: أولا قال بعض المحققين السؤال و الدعاء قد يكون للواقع و الغرض منه بسط

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 390

الكلام مع المحبوب، و عرض الافتقار لديه، كما قال خليل الرحمن و ابنه إسماعيل عليهما السلام:" رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا" مع أنهما لا يفعلان غير المقبول، و ثانيا أنه قد صرح بعض المفسرين بأن الآية دلت على أن الخطأ و النسيان سببان للإثم و العقوبة، و لا يمتنع عقلا المؤاخذة بهما إذ الذنب كالسم، فكما أن السم يؤدي إلى الهلاك و إن تناوله خطأ كذلك الذنب، و لكنه عز و جل وعد بالتجاوز عنه رحمة و تفضلا و هو المراد من الرفع، فيجوز أن يدعو الإنسان به استدامة لها و امتدادا بها.

و قال بعضهم معنى الآية: ربنا لا تؤاخذنا بما أدى بنا إلى خطاء أو نسيان من تقصير، و قلة مبالاة، فإن الخطأ و النسيان أغلب ما يكونان من عدم الاعتناء بالشي‏ء و هذا و إن كان رافعا للإيراد المذكور لكن فيه شي‏ء لا يخفى على المتأمل.

و الأصر الذنب و العقوبة و أصله من الضيق و الحبس، يقال أصره يأصره إذا حبسه و ضيق عليه، و قيل: المراد به الحمل الثقيل الذي يحبس صاحبه في مكانه، و التكاليف الشاقة مثل ما كلف به بنو إسرائيل من قتل الأنفس و قطع موضع النجاسة من الجلد و الثوب، و خمسين صلاة في اليوم و الليلة، و صرف ربع المال للزكاة أو ما أصابهم من الشدائد و المحن.

و قوله:" رَبَّنا وَ لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ" تأكيد لما قبله، و طلب للإعفاء من التكاليف الشاقة التي كلف بها الأمم السابقة، لا طلب للإعفاء عن تكليف ما لا يتعلق به قدرة البشر أصلا، فلا دلالة فيه على جواز التكليف بما لا يطاق، الذي أنكره العدلية و جوزه الأشاعرة باعتبار أنه لو لم يجز لم يطلبوا الإعفاء عنه.

و قوله: إلا من أكره و قلبه مطمئن بالإيمان،

 (1) معناه إلا من أكره على قبيح مثل كلمة الكفر و غيرها" وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ" غير متغير عن اعتقاد الحق، و فيه دلالة على أنه لا إثم على المكره.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 391

لا يقال: الاستثناء من قوله تعالى" مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ" و من شرطية محذوفة الجزاء، أي فهو مفتر للكذب لا على أنه غير آثم؟

لأنا نقول: المستثنى منه في معرض الذم و الوعيد، و هما منفيان عن المكره بحكم الاستثناء، فلا يكون المكره من أهل الذم و الوعيد، فلا يكون آثما.

 (الحديث الثاني)

 (1): مرفوع.

" و ما لا يعلمون"

 (2) ظاهره معذورية الجاهل مطلقا، و يدل عليه فحاوي كثير من الآيات و الأخبار، و لا يبعد العمل به إلا فيما أخرجه الدليل لكن أكثر الأصحاب اقتصروا في العمل به على مواضع مخصوصة، ذكروها في كتب الفروع كالصلاة مع نجاسة الثوب و البدن، أو موضع السجود، أو في الثوب و المكان المغصوبين، أو ترك الجهر و الإخفات في موضعهما، و النكاح في العدة و أمثالها، و لو قيل: المراد عدم المؤاخذة لا عدم ترتب الأحكام، فمع عدم التقصير في التفحص ظاهره العموم في جميع الموارد، لكن ظاهر الوضع و الرفع عدم ترتب الأحكام أيضا.

" و ما اضطروا إليه"

 (3) سواء كان سبب الاضطرار من قبل الله تعالى كما في أكل الميتة في المخمصة، و شرب الماء النجس عند الاضطرار، و التداوي بالحرام للمريض عند انحصار الدواء، أو من قبل نفسه أو من الغير كمن جرح نفسه أو جرحه غيره في شهر رمضان، و اضطر إلى الإفطار و لكن في التداوي بالحرام لا سيما الخمر أخبار كثيرة بالمنع، و كذا في شرب النبيذ و الخمر عند الإكراه، و سيأتي القول فيها في محله إن شاء الله.

و قد عرفت اختلاف الأخبار في التقية في البراءة عن أهل البيت عليهم السلام و وجه الجمع بينها، و أما

الطيرة

 (4) فقال الجوهري: الطيرة مثال العنبة هي ما يتشأم به من الفال الردي‏ء، و في الحديث أنه كان يحب الفال و يكره الطيرة و قال في النهاية فيه‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 392

لا عدوى و لا طيرة بكسر الطاء و فتح الياء، و قد تسكن هي التشؤم بالشي‏ء و هو مصدر تطير يقال تطير طيرة و تخير خيرة، و لم يجي‏ء من المصادر هكذا غيرها، و أصله فيما يقال التطير بالسوانح و البوارح من الطير و الظباء، و كان ذلك يصدهم عن مقاصدهم فنفاه الشرع و أبطله و نهى عنه، و أخبر أنه ليس له تأثير في جلب نفع و دفع ضر.

و قد تكرر ذكرها في الحديث اسما و فعلا، و منه الحديث: ثلاث لا يسلم منها أحد الطيرة و الحسد و الظن، قيل: فما نصنع؟ قال: إذا تطيرت فامض، و إذا حسدت فلا تبغ، و إذا ظننت فلا تحقق، و منه الحديث الآخر: الطيرة شرك و ما منا إلا و لكن الله يذهبه بالتوكل.

هكذا جاء الحديث مقطوعا و لم يذكر المستثنى أي إلا و قد يعتريه التطير و تسبق قلبه الكراهة، فحذف اختصارا و اعتمادا على فهم السامع و إنما جعل الطيرة من الشرك لأنهم كانوا يعتقدون أن التطير يجلب لهم نفعا أو يدفع عنهم ضرا إذا عملوا بموجبه، فكأنهم أشركوه مع الله تعالى في ذلك.

و قوله: و لكن الله يذهبه بالتوكل معناه أنه إذا خطر له عارض التطير فتوكل على الله تعالى و سلم إليه و لم بعمل بذلك الخاطر غفره الله تعالى، و لم يؤاخذه به.

و قال في المصباح: تطير من الشي‏ء و أطير منه و الاسم الطيرة و زان عنبة و هي التشاؤم، و كانت العرب إذا أرادت المضي لمهم مرت بمجاثم الطير و إثارتها لتستفيد هل تمضي أو ترجع، فنهى الشارع عن ذلك و قال: لا هام و لا طيرة، انتهى.

و أقول: إذا عرفت هذا فكون الطيرة موضوعة يحتمل وجوها:

الأول: وضع المؤاخذة و العقاب عن هذا الخطور، فإنه لا يكاد يمكن رفعها عن النفس و كفارته أن لا يعمل بمقتضاها و يتوكل على الله تعالى، و لذا قال صلى الله عليه و آله و سلم‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 393

إذا تطيرت فامض.

الثاني: رفع تأثيرها عن هذه الأمة ببركة ما وصل إليهم عن الرسول و الأئمة عليهم السلام من عدم الاعتناء به، و التوكل على الله و الأدعية و الأذكار الدافعة لذلك.

الثالث: أن المراد بوضعها رفعها و المنع عن العمل بها، و الرجز عنها كما فهمه صاحب النهاية و غيره، فلا يكون على سياق سائر الفقرات، و الأظهر في هذا الخبر المعنى الأول.

و أما تأثيرها فالأخبار مختلفة في ذلك، و الذي يقتضيه الجمع بينها أن مع تأثر النفس بها قد يكون لها تأثير و مع عدم الاعتناء بها و التوكل على الله فلا تأثير لها.

" و الوسوسة في التفكر"

 (1) سيأتي إن شاء الله عن أبي عبد الله عليه السلام: ثلاث لم ينج منها نبي فمن دونه: التفكر في الوسوسة في الخلق، و الطيرة و الحسد إلا أن المؤمن لا يستعمل حسده.

و على التقديرين يحتمل هذه الفقرة وجوها:

الأول: أن يكون المراد وساوس الشيطان بسبب التفكر في أحوال الخلق، و سوء الظن بهم بما يشاهد منهم، فإن هذا شي‏ء لا يمكن دفعه عن النفس، لكن يجب عليه أن لا يحكم بهذا الظن، و لا يظهره و لا يعمل بموجبه بالقدح فيهم، و رد شهادتهم و نحو ذلك، و يؤيده الخبر الذي رواه في النهاية، حيث ذكر مكانها: الظن و قال: و إذا ظننت فلا تحقق أي لا تجزم.

و قال في النهاية أيضا فيه: إياكم و الظن، فإن الظن أكذب الحديث، أراد الشك يعرض لك في شي‏ء فتحققه و تحكم به، و قيل: أراد إياكم و سوء الظن و تحقيقه دون مبادئ الظنون التي لا تملك و خواطر القلوب التي لا تدفع و منه الحديث‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 394

و إذا ظننت فلا تحقق.

الثاني: التفكر في الوساوس التي تحدث في النفس في مبدء خلق الأشياء، و أن الله سبحانه من خلقه و كيف وجد و أين هو؟ مما لو تفوه به لكان كفرا و شركا و يؤيده الأخبار الكثيرة التي مضت في باب الوسوسة، و حديث النفس، و قد روت العامة في صحاحهم أنه سئل النبي صلى الله عليه و آله و سلم عن الوسوسة؟ فقال: تلك محض الإيمان و في رواية أخرى يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا و كذا حتى يقول:

من خلق ربك؟ فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله و لينته.

الثالث: أن يتفكر في القضاء و القدر، و خلق أعمال العباد و الحكمة في خلق بعض الشرور في العالم، كخلق إبليس و المؤذيات، و في تمكين الأشرار على الأخيار و خلق الكفار و خلق جهنم و تأبيد الكفار فيها و غير ذلك مما لا يخلو أحد عنها و ذلك كله معفو إذا لم يستقر في النفس، و لم يحصل بسببه شك في حكمة الخالق و عدله، و كون العباد غير مجبورين فيما كلفوا به أو بتركه و لعل الأول هنا أظهر و إن كان للثاني شواهد كثيرة.

و روى الصدوق (ره) في الخصال و التوحيد بسند صحيح عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: رفع عن أمتي تسعة: الخطأ و النسيان و ما أكرهوا عليه و ما لا يعلمون و ما لا يطيقون و ما اضطروا إليه و الحسد و الطيرة و التفكر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة، و القيد بعدم النطق بالشفة لا ينافي شيئا من المعاني، و الحسد ما لم يظهر بلسان أو يد بدل على أن الحسد ليس معصية مع عدم الإظهار و هو خلاف المشهور، و يؤيده قوله عليه السلام في خبر الروضة: لم يخل منها نبي فمن دونه و هو أنسب بسعة رحمة الله، و نفي الحرج في الدين، فإنه قل من يخلو عن ذلك، فما ورد في ذم الحسد و عقوباته يمكن حمله على ما إذا كان مع الإظهار، و يمكن أن يكون متعلقا بالوسوسة أيضا بل بالطيرة أيضا، و يؤيده رواية الصدوق، بل في‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 395

رواية الصدوق أيضا يمكن تعلقه بالثلاثة.

ثم اعلم أن التسع المذكورة في هذا الخبر لا ينافي الأربع في الخبر السابق فإنه عليه السلام اكتفى فيه بالأهم أو المراد بالأول ما ورد في ظواهر الآيات رفعها، مع أنه يمكن إدخال ما لم يذكر فيه فيما لا يطيقون على ما فسر به، فإن التحرز عنها في غاية العسر و الشدة.

باب أن الإيمان لا يضر معه سيئة و الكفر لا ينفع معه حسنة (1)

 (1)

 (الحديث الأول)

 (2): صحيح.

" على الله بوجوب"

 (3) كذا في أكثر النسخ، و الوجوب بمعنى اللزوم لازم، و الأظهر" موجب" كما ينسب إلى بعض النسخ، إلا أن يكون المفعول بمعنى الفاعل كما قيل في قوله تعالى:" حِجاباً مَسْتُوراً" قيل: أي ساترا نعم قال الفيروزآبادي:

وجب عياله و فرسه عودهم أكلة واحدة، و هو لا يناسب المقام إلا بتكليف شديد، لكنه في كلام السائل، و الحاصل أنه هل أوجب الله ثوابا على نفسه بمقتضى وعده إلا للمؤمنين فإنه لا يجب على الله ثواب مع قطع النظر عن الوعد كما مر تحقيقه خلافا للمعتزلة و نادر من الإمامية.

فقال عليه السلام لا

 (4)، لأن الله تعالى وعد على العمل بشرائطه التي ثوابا فإذا

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 396

تحقق العمل مع شرائطه التي من جملتها الإيمان لزم الثواب و ثبت، و هذا معنى الوجوب على الله لأن خلف الوعد منه قبيح خلافا للأشاعرة، فإنهم ذهبوا إلى أنه لا يجب على الله شي‏ء، و قالوا يجوز أن يعاقب المطيع و يثبت العاصي، و هذا القول يبطل الوعد و الوعيد.

 (الحديث الثاني)

 (1): مرسل.

و ضمير

عنه‏

 (2) راجع إلى محمد بن عيسى، و كذا في الخبر الآتي‏

" قد تحرمت بصحبتك"

 (3) أي اكتسبت حرمة، و حصلت لي بسبب مصاحبتك حرمة فلا تردني عن جواب ما أسألك عنه، و لا تمنعني نصيحتك.

في القاموس: تحرم منه بحرمة تمنع و تحمى بذمة، و في الصحاح: الحرمة ما لا يحل انتهاكه و قد تحرم بصحبته.

" ألزم ما لا يضرك معه شي‏ء"

 (4) أي من المعاصي و هو الإيمان، فالمراد بالضرر ما يصير سببا لدخول النار أو الخلود فيها

" كما لا ينفعك"

 (5) أي النفع الموجب لدخول الجنة، و المراد

بالشي‏ء

 (6) هيهنا العمل الصالح فلا ينافي ما ورد في الأخبار من معاقبة المؤمنين بالأعمال القبيحة و أثابه الكافرين في الدنيا بالعمل الصالح، و يمكن تعميم نفي الضرر بحمل الإيمان على ما كان مع الإتيان بالفرائض و ترك الكبائر، فالمراد بعدم النفع عدم النفع الكامل.

 (الحديث الثالث)

 (7): موثق كالصحيح.

" وَ ما مَنَعَهُمْ"

 (8) الآية، و ما قبلها في سورة التوبة هكذا:" قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ، وَ ما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 397

إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَ بِرَسُولِهِ وَ لا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَ هُمْ كُسالى‏ وَ لا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَ هُمْ كارِهُونَ، فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ تَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَ هُمْ كافِرُونَ" و قال بعد آيات كثيرة:" وَ أَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَ ماتُوا وَ هُمْ كافِرُونَ" فلعلها كانت في قراءتهم هكذا و نقل عليه السلام بالمعنى لكون الآيات في وصف جماعة واحدة، و لعل فيما ذكره عليه السلام إشعارا بأنهم لو ماتوا على الإيمان تقبل منهم نفقاتهم في حال الكفر.

 (الحديث الرابع)

 (1): مجهول و أبو سعيد إن كان القماط فالخبر موثق، و قد مر الكلام فيه.

 (الحديث الخامس)

 (2): مرسل.

و قوله: حديث‏

 (3)، مبتدأ و

" روي"

 (4) خبره، و

أنك‏

 (5) بالفتح خبر محذوف أي هو أنك‏

" و إن زانوا"

 (6) إن وصلية بتقدير الاستفهام‏

" إنا لله"

 (7) إشارة إلى أن هذا الافتراء علينا بفهم هذا المعنى مصيبة عظيمة

" أن نكون"

 (8) أي في أن نكون، و الحاصل أن التكليف لم يوضع عنا فكيف وضع عنهم بسببنا أو إنا نخاف العقاب و نتوب و نتضرع إلى الله تعالى و هم آملون بسبب ولايتنا أن هذا ليس بإنصاف.

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 398

ثم أفاد عليه السلام إن غرضي من هذا الكلام اشتراط قبول العمل بالولاية لا سقوط التكليف أو العقاب رأسا عنهم.

 (الحديث السادس)

 (1): مرفوع.

" دينكم"

 (2) نصب على الإغراء أي ألزموا دينكم و احفظوه أو أكملوه و التكرير للتأكيد أو باعتبار اختلاف العامل‏

" فإن السيئة فيه خير"

 (3) لعل الخيرية باعتبار أن في السيئة التذاذا دنيويا مع الغفران، و في الحسنة تعبا دنيويا مع الخسران، أو باعتبار أن الحسنة التي لا تقبل يعاقب عليها كالصلاة بغير وضوء، و قيل: كلمة في في قوله‏

" فيه" و في غيره‏

 (4) بمعنى مع، أي المركب من السيئة و دين الحق خير من المركب من الحسنة و دين أهل الضلال، و

قوله: و السيئة فيه تغفر

 (5)، للترقي و للإشارة إلى أن السيئة في دين الحق لو لم تكن مغفورة و كانت الحسنة في دين الباطل مقبولة لكان المركب من السيئة و الدين الصحيح أفضل من المركب من الحسنة و الدين الباطل لأنه لا سيئة مثل الدين الباطل في العقاب و لا حسنة مثل الدين الحق في الثواب، فكيف و السيئة في الدين القويم مغفورة، و الحسنة في الدين الفاسد غير مقبولة، و قيل: فيه إشارة إلى أن السيئة من حيث هي سيئة ليست خيرا من الحسنة من حيث هي حسنة، بل الخيرية و عدمها باعتبار المغفرة و عدم القبول و ما ذكرنا لعله أظهر.

و اتفق الفراغ من جمع هذه التعليقات مع كثرة الأشغال و هجوم الأمراض و تشتت‏

                        مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏11، ص: 399

الأحوال بفضل الله تعالى في الثالث و العشرين من شهر صفر المظفر سنة 1109 و الحمد لله أولا و آخرا، و الصلاة على سيد المرسلين محمد و عترته الأطهرين.

و قد اتفق الفراغ من تصحيحه و التعليق عليه في شهر ذي حجة الحرام في ليلة العرفة من سنة 1398 و يليه الجزء الثاني عشر إن شاء الله تعالى و أوله" كتاب الدعاء" و الحمد لله أولا و آخرا.