نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين

أو

أنيس الوحيد في شرح التوحيد

 

للعلامة المحدث الجليل السيد نعمة الله الموسوي الجزائري (1050 - 1112 ه‍ . ق)

 

الجزء الثاني

 

مؤسسة النشر الاسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المقدسة

 

 

v            باب معنى بسم الله الرحمن الرحيم|3

v            باب تفسير حروف المعجم|8

v            باب تفسير حروف الجمل|13

v            باب تفسير حروف الأذان والإقامة|17

v            باب تفسير الهدى والضلالة والتوفيق والخذلان من الله تعالى|21

v            تحقيق حول الهداية والضلالة|22

v            باب الرد على الثنوية والزنادقة|29

v            شرح حديث هشام حول حديث الزنديق|31

v            شرح حديث الرضا عليه السلام في الرد على الزنادقة|49

v            شرح حديث ابن أبي العوجاء|53

v            شرح حديث الامام علي عليه السلام في الرد على شبه الملحدين|56

v            باب الرد على الذين قالوا: ان الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد|86

v            باب ذكر عظمة الله جل جلاله|94

v            شرح خطبة الامام علي بن أبي طالب عليه السلام في قدرة الله تعالى|99

v            باب لطف الله تبارك وتعالى|109

v            باب أدنى ما يجزئ من معرفة التوحيد|110

v            باب أنه عز وجل لا يعرف إلا به|112

v            باب إثبات حدوث العالم|122

v            شرح حديث مناظرة الامام الصادق عليه السلام مع الزنديق|125

v            باب حديث ذعلب|144

v            شرح كلام الامام علي عليه السلام: هذا ما زقني رسول الله صلى الله عليه وآله|145

v            تحقيق حول المحو والإثبات|148

v            تواتر حديث أنا مدينة العلم وعلي بابها وما يستفاد منه|155

v            باب حديث سبخت اليهودي|161

v            تحقيق حول شعور الجمادات|162

v            باب معنى سبحان الله|165

v            باب معنى الله أكبر|167

v            باب معنى الأول والآخر|168

v            باب معنى قول الله عز وجل (الرحمن على العرش استوى)|170

v            باب معنى قوله عز وجل (وكان عرشه على الماء)|179

v            تحقيق حول الأشباح وعالم الذر والميثاق|185

v            باب العرش وصفاته|200

v            تفسير آية (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون)|205

v            باب أن العرش خلق أرباعا|207

v            باب معنى قول الله عز وجل (وسع كرسيه السماوات والأرض)|209

v            باب فطرة الله عز وجل الخلق على التوحيد|211

v            تحقيق حول حديث الفطرة|215

v            باب البداء|221

v            تحقيق حول حديث البداء|225

v            تحقيق حول كلام الصدوق في مسألة البداء|228

v            كلام الأصحاب في معنى البداء|231

v            وجه الجمع بين الروايات النافية والمثبتة للبداء|236

v            باب المشيئة والإرادة|240

v            تحقيق حول الحديث الوارد في المشيئة|243

v            تحقيق حول الإرادة والمشيئة|248

v            شرح الحديث الوارد في المشيئة|251

v            باب الاستطاعة|256

v            تحقيق في حل الخبر الوارد في الاستطاعة|257

v            شرح حديث الاستطاعة|261

v            أقسام الاستطاعة|265

v            تقدم القدرة على الفعل|267

v            إبطال مذهب الأشاعرة في الاستطاعة|270

v            إبطال مذهب القدرية وذمهم|272

v            شرح حديث رفع عن أمتي تسعة|276

v            باب الابتلاء والاختيار|280

v            باب السعادة والشقاوة|281

v            تحقيق حول أخبار الطينة|284

v            تحقيق حول الخبر الوارد في السعادة والشقاوة|286

v            تحقيق حول أفعال العباد|288

v            تفسير آية (واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه)|290

v            باب نفي الجبر والتفويض|292

v            تحقيق شاف حول الجبر والتفويض|295

v            فرق الغلاة وآرائهم|307

v            باب القضاء والقدر والفتنة والأرزاق والأسعار والآجال|311

v            تحقيق في الخبر الوارد في القضاء والقدر|317

v            تحقيق حول الأخبار الواردة في الرزق|323

v            شرح حديث النبي صلى الله عليه وآله في مكارم الأخلاق|328

v            تحقيق حول الآجال|334

v            شرح الحديث الوارد في قدرية هذه الأمة|343

v            تحقيق حول الحديث الوارد في الرقي|350

v            شرح كلام الامام علي بن أبي طالب عليه السلام في القدر|353

v            تحقيق حول القضاء والقدر|354

v            تحقيق حول الأخبار الواردة في العين|360

v            تحقيق حول الأسعار وأسبابها|368

v            باب الأطفال وعدل الله عز وجل فيهم|371

v            تحقيق لطيف حول عنوان الباب|373

v            باب أن الله تعالى لا يفعل بعباده إلا الأصلح لهم|392

v            تحقيق حول حقيقة الروح|400

v            تفسير آية (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة)|403

v            باب الأمر والنهي والوعد والوعيد|409

v            تحقيق حول الأخبار الواردة في العفو|414

v            تحقيق حول التكفير والاحباط|417

v            ثبوت الشفاعة لأهل الذنوب من المؤمنين|420

v            شرح الحديث الوارد في تضاعف الحسنات|424

v            تفسير آية (ان الله لا يغفر أن يشرك به)|428

v            باب التعريف والبيان والحجة والهداية|432

v            شرح الحديث الوارد في التعريف|434

v            تحقيق حول حديث ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم|437

v            تفسير آية (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للاسلام)|444

v            باب ذكر مجلس الرضا عليه السلام مع أهل الأديان|447

v            شرح كلمات الحديث وبيان مشاكله|448

v            باب ذكر مجلس الرضا عليه السلام مع سليمان المروزي|484

v            شرح كلمات الحديث وبيان معضلاته|486

v            باب النهي عن الكلام والجدال والمراء في الله عز وجل|506

v            تحقيق حول الأخبار المانعة عن المناظرة مع المخالفين|509

 

 

____________________________________________________

صفحة 1

نور البراهين

أو

أنيس الوحيد في شرح التوحيد

للعلامة المحدث

السيد نعمة الله الموسوي الجزائري

1050 - 1112 ه‍

الجزء الثاني

مؤسسة النشر الاسلامي

التابعة لجماعة المدرسين بقم المقدسة

____________________________________________________

صفحة 3 - 2

بسم الله الرحمن الرحيم

31 - باب معنى بسم الله الرحمن الرحيم 1)

1 - حدثنا محمد بن إبراهيم بن إسحاق الطالقاني رضي الله عنه، قال: أخبرنا

أحمد بن محمد بن سعيد مولى بني هاشم، عن علي بن الحسن بن علي

ابن فضال، عن أبيه، قال: سألت الرضا علي بن موسى عليهما السلام عن بسم الله،

قال: معنى قول القائل بسم الله أي أسم على نفسي سمة من سمات الله عز

وجل وهي العبادة قال: فقلت له: ما السمة ؟ فقال: العلامة .

2 - حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثنا سعد بن عبد الله، عن أحمد بن محمد،

عن القاسم بن يحيى، عن جده الحسن بن راشد، عن عبد الله بن سنان،

قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن بسم الله الرحمن الرحيم، فقال: الباء

____________________________________________________

صفحة 4

بهاء الله، والسين سناء الله والميم مجد الله 1) . وروى بعضهم: ملك الله، والله

إله كل شئ، الرحمن بجميع خلقه، والرحيم بالمؤمنين خاصة .

3 - حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رحمه الله، قال: حدثنا محمد

_____________________________

(1) تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان 1: 68 .

(2) في (س): القرآن .

____________________________________________________

صفحة 5

ابن الحسن الصفار، عن العباس بن معروف، عن صفوان بن يحيى، عمن

حدثه، عن أبي عبد الله عليه السلام أنه سئل عن بسم الله الرحمن الرحيم فقال:

الباء بهاء الله، والسين سناء الله، والميم ملك الله، قال: قلت: الله ؟ قال: الألف

آلاء الله على خلقه من النعيم بولايتنا، واللام إلزام الله خلقه ولايتنا، قلت:

فالهاء ؟ قال: هوان لمن خالف محمدا وآل محمد صلوات الله عليهم، قال:

قلت: الرحمن ؟ قال: بجميع العالم، قلت: الرحيم ؟ قال: بالمؤمنين خاصة .

4 - حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثنا سعد بن عبد الله، عن سلمة بن الخطاب،

عن القاسم بن يحيى، عن جده الحسن بن راشد، عن أبي الحسن موسى

ابن جعفر عليهما السلام، قال: سألته عن معنى الله، قال: استولى على ما دق وجل 1) .

5 - حدثنا محمد بن القاسم الجرجاني المفسر رحمه الله قال: حدثنا أبو

يعقوب يوسف بن محمد بن زياد، وأبو الحسن علي بن محمد بن سيار

وكانا من الشيعة الإمامية عن أبويهما عن الحسن بن علي بن محمد عليهم السلام

في قول الله عز وجل: " بسم الله الرحمن الرحيم " ؟ فقال: الله هو الذي

يتأله إليه عند الحوائج والشدائد كل مخلوق عند انقطاع الرجاء من كل

من هو دونه، وتقطع الأسباب من جميع ما سواه، يقول: بسم الله أي

أستعين على أموري كلها بالله الذي لا تحق العبادة إلا له، المغيث إذا

_____________________________

(1) طه: 5 .

____________________________________________________

صفحة 6

استغيث، والمجيب إذا دعي، وهو ما قال رجل للصادق عليه السلام: يا ابن رسول

الله دلني على الله ما هو ؟ فقد أكثر علي المجادلون وحيروني، فقال له: يا

عبد الله هل ركبت سفينة قط ؟ قال: نعم، قال: فهل كسر بك حيث لا سفينة

تنجيك ولا سباحة تغنيك ؟ قال: نعم، قال: فهل تعلق قلبك هنالك أن شيئا

من الأشياء قادر على أن يخلصك من ورطتك ؟ فقال: نعم، قال

الصادق عليه السلام: فذلك الشئ هو الله القادر على الانجاء حيث لا منجي،

وعلى الإغاثة حيث لا مغيث، ثم قال الصادق عليه السلام: ولربما ترك بعض

شيعتنا في افتتاح أمره بسم الله الرحمن الرحيم فيمتحنه الله بمكروه

لينبهه 1) على شكر الله تبارك وتعالى والثناء عليه ويمحق عنه وصمة

تقصيره عند تركه قول بسم الله الرحمن الرحيم .

قال: وقام رجل إلى علي بن الحسين عليهما السلام فقال: أخبرني عن معنى

بسم الله الرحمن الرحيم، فقال علي بن الحسين عليهما السلام: حدثني أبي، عن

أخيه الحسن، عن أبيه أمير المؤمنين عليهم السلام أن رجلا قام إليه: فقال: يا أمير

المؤمنين أخبرني عن بسم الله الرحمن الرحيم ما معناه ؟ فقال: إن قولك:

____________________________________________________

صفحة 7

(الله) أعظم اسم من أسماء الله عز وجل وهو الاسم الذي لا ينبغي أن

يسمى به غير الله ولم يتسم به مخلوق، فقال الرجل فما تفسير قوله:

(الله) ؟ قال: هو الذي يتأله إليه عند الحوائج والشدائد كل مخلوق عند

انقطاع الرجاء من جميع من هو دونه، وتقطع الأسباب من كل من سواه

وذلك أن كل مترئس في هذه الدنيا ومتعظم فيها وإن عظم غناؤه وطغيانه

وكثرت حوائج من دونه إليه فإنهم سيحتاجون حوائج لا يقدر عليها هذا

المتعاظم، وكذلك هذا المتعاظم يحتاج حوائج لا يقدر عليها، فينقطع إلى

الله عند ضرورته وفاقته حتى إذا كفى همه عاد إلى شركه، أما تسمع الله

عز وجل يقول: قل أرأيتكم إن أتيكم عذاب الله 1) أو أتتكم الساعة أغير

الله تدعون إن كنتم صادقين * بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن

شاء وتنسون ما تشركون (1) فقال الله عز وجل لعباده: أيها الفقراء إلى

رحمتي إني قد ألزمتكم الحاجة إلي في كل حال، وذلة العبودية في كل

وقت، فإلي فافزعوا في كل أمر تأخذون فيه وترجون تمامه وبلوغ غايته

_____________________________

(1) الانعام: 41 .

____________________________________________________

صفحة 8

فإني إن أردت أن أعطيكم لم يقدر غيري على منعكم وإن أردت أن

أمنعكم لم يقدر غيري على إعطائكم، فأنا أحق من سئل، وأولى من

تضرع إليه، فقولوا عند افتتاح كل أمر صغير أو عظيم: بسم الله الرحمن

الرحيم أي أستعين على هذا الامر بالله الذي لا يحق العبادة لغيره، المغيث

إذا استغيث، المجيب إذا دعي، الرحمن الذي يرحم ببسط الرزق علينا،

الرحيم بنا في أدياننا ودنيانا وآخرتنا، خفف علينا الدين وجعله سهلا

خفيفا، وهو يرحمنا بتميزنا من أعدائه ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: من

حزنه أمر تعاطاه فقال: (بسم الله الرحمن الرحيم) وهو مخلص لله يقبل

بقلبه إليه لم ينفك من إحدى اثنتين: إما بلوغ حاجته في الدنيا وإما يعد له

عند ربه ويدخر لديه، وما عند الله خير وأبقى للمؤمنين .

32 - باب تفسير حروف المعجم

1 - حدثنا محمد بن بكران النقاش رحمه الله، بالكوفة، قال: حدثنا أحمد بن

محمد الهمداني، قال: حدثنا علي بن الحسين بن علي بن فضال، عن أبيه،

____________________________________________________

صفحة 9

عن أبي الحسن علي بن موسى الرضا عليهما السلام قال: إن أول ما خلق الله عز

وجل ليعرف به خلقه الكتابة حروف المعجم وإن الرجل إذا ضرب على

رأسه بعصا فزعم أنه لا يفصح ببعض الكلام فالحكم فيه أن يعرض عليه

حروف المعجم، ثم يعطى الدية بقدر ما لم يفصح منها 1) .

ولقد حدثني أبي، عن أبيه، عن جده، عن أمير المؤمنين عليهم السلام في (ا

ب ت ث) أنه قال: الألف آلاء الله، والباء بهجة الله [والباقي وبديع

السماوات والأرض] . والتاء تمام الامر بقائم آل محمد صلى الله عليه وآله والثاء ثواب

المؤمنين على أعمالهم الصالحة .

ج ح خ فالجيم جمال الله وجلال الله، والحاء حلم الله، [حي حق

حليم] عن المذنبين، والخاء خمول ذكر أهل المعاصي عند الله عز وجل .

د ذ فالدال دين الله [الذي ارتضاه لعباده]، والذال من ذي الجلال

والاكرام .

.

_____________________________

(1) مجمع البيان 2: 300 .

____________________________________________________

صفحة 10

رز فالراء من الرؤوف الرحيم، والزاي زلازل يوم القيامة .

س ش فالسين سناء الله [وسرمديته]، والشين شاء الله ما شاء،

وأراد ما أراد وما تشاؤون إلا أن يشاء الله .

ص ض فالصاد من صادق الوعد في حمل الناس على الصراط،

وحبس الظالمين عند المرصاد، والضاد ضل من خالف محمدا وآل محمد .

ط ظ فالطاء طوبى للمؤمنين وحسن مآب، والظاء ظن المؤمنين

بالله خيرا وظن الكافرين به سوءا .

ع غ فالعين من العالم، والغين من الغني الذي لا يجوز عليه

الحاجة على الاطلاق .

ف ق فالفاء [فالق الحب والنوى، و] فوج من أفواج النار، والقاف

قرآن على الله جمعه وقرآنه .

ك ل فالكاف من الكافي، واللام لغو الكافرين في افترائهم على

الله الكذب .

م ن فالميم ملك الله يوم الدين يوم لا مالك غيره ويقول الله عز

وجل (لمن الملك اليوم) ثم تنطق أرواح أنبيائه ورسله وحججه فيقولون:

(لله الواحد القهار) فيقول جل جلاله: اليوم تجزى كل نفس بما كسبت

لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب (1) والنون نوال الله للمؤمنين، ونكاله

للكافرين .

وه‍ فالواو ويل لمن عصى الله من عذاب يوم عظيم، والهاء هان

_____________________________

(1) المؤمن: 17 .

____________________________________________________

صفحة 11

على الله من عصاه .

لا فلام ألف لا إله إلا الله وهي كلمة الاخلاص . ما من عبد قالها

مخلصا إلا وجبت له الجنة .

ى يد الله فوق خلقه باسطة بالرزق، سبحانه وتعالى عما

يشركون .

ثم قال عليه السلام: إن الله تبارك وتعالى أنزل هذا القرآن بهذه الحروف التي

يتداولها جميع العرب ثم قال: قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن

يأتوا بمثل هذا القرآن 1) لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا (1) .

2 - حدثنا أحمد بن محمد بن عبد الرحمن المقرئ الحاكم، قال:

حدثنا أبو عمرو محمد بن جعفر المقرئ الجرجاني، قال: حدثنا أبو بكر

محمد بن الحسن الموصلي ببغداد، قال: حدثنا محمد بن عاصم الطريفي،

قال: حدثنا أبو زيد عياش بن يزيد بن الحسن بن علي الكحال مولى زيد

ابن علي، قال: أخبرني أبي يزيد بن الحسن قال: حدثني موسى بن

جعفر، عن أبيه جعفر بن محمد، عن أبيه محمد بن علي، عن أبيه علي بن

_____________________________

(1) الاسراء: 88 .

____________________________________________________

صفحة 12

الحسين، عن أبيه الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، قال: جاء يهودي

إلى النبي صلى الله عليه وآله وعنده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام فقال له:

ما الفائدة في حروف الهجاء ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله لعلي عليه السلام: أجبه، وقال:

اللهم وفقه وسدده، فقال علي بن أبي طالب عليه السلام: ما من حرف إلا

وهو اسم من أسماء الله عز وجل، ثم قال: أما الألف فالله لا إله إلا هو

الحي القيوم، وأما الباء فالباقي بعد فناء خلقه، وأما التاء فالتواب

يقبل التوبة عن عباده، وأما الثاء فالثابت الكائن يثبت الله الذين

آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا 1) الآية (1) وأما الجيم فجل

ثناؤه وتقدست أسماؤه، وأما الحاء فحق، حي، حليم، وأما الخاء

فخبير بما يعمل العباد، وأما الدال فديان يوم الدين، وأما الذال فذو

الجلال والاكرام، وأما الراء فرؤوف بعباده، وأما الزاي فزين المعبودين،

وأما السين فالسميع البصير، وأما الشين فالشاكر لعباده المؤمنين،

وأما الصاد فصادق في وعده ووعيده، وأما الضاد فالضار

_____________________________

(1) إبراهيم عليه السلام: 27 .

(2) مجمع البيان 3: 314 .

____________________________________________________

صفحة 13

النافع 1)، وأما الطاء فالطاهر المطهر، وأما الظاء فالظاهر المظهر لآياته،

وأما العين فعالم بعباده، وأما الغين فغياث المستغيثين من جميع خلقه،

وأما الفاء ففالق الحب والنوى، وأما القاف فقادر على جميع خلقه، وأما

الكاف فالكافي الذي لم يكن له كفوا أحد ولم يلد ولم يولد، وأما اللام

فلطيف بعباده، وأما الميم فمالك الملك، وأما النون فنور السماوات من نور

عرشه، وأما الواو فواحد أحد صمد لم يلد ولم يولد، وأما الهاء فهاد لخلقه،

وأما اللام ألف فلا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأما الياء فيد الله باسطة

على خلقه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: هذا هو القول الذي رضي الله عز وجل

لنفسه من جميع خلقه، فأسلم اليهودي .

33 - باب تفسير حروف الجمل

1 - حدثنا محمد بن إبراهيم بن إسحاق رضي الله عنه، قال: حدثنا أحمد بن

محمد الهمداني مولى بني هاشم، قال: حدثنا جعفر بن عبد الله بن جعفر بن

عبد الله بن جعفر بن محمد بن علي بن أبي طالب عليه السلام، قال: حدثنا كثير بن

عياش القطان، عن أبي الجارود زياد بن المنذر، عن أبي جعفر محمد بن

علي الباقر عليهم السلام، قال: لما ولد عيسى بن مريم عليه السلام كان ابن يوم

_____________________________

(1) في س: أو لبيان أن .

____________________________________________________

صفحة 14

كأنه ابن شهرين، فلما كان ابن سبعة أشهر أخذت والدته بيده وجاءت به

إلى الكتاب 1) وأقعدته يدي المؤدب فقال له المؤدب: قل: بسم الله

الرحمن الرحيم، فقال عيسى عليه السلام: بسم الله الرحمن الرحيم، فقال له

المؤدب: قل: أبجد، فرفع عيسى عليه السلام رأسه فقال: هل تدري ما أبجد ؟ فعلاه

بالدرة ليضربه، فقال: يا مؤدب لا تضربني، إن كنت تدري وإلا فاسألني

حتى أفسر لك، قال: فسره لي، فقال عيسى عليه السلام: الألف آلاء الله، والباء

بهجة الله، والجيم جمال الله، والدال دين الله . (هوز) الهاء هول جهنم، والواو

ويل لأهل النار، والزاي زفير جهنم . (حطي) حطت الخطايا عن

المستغفرين . (كلمن) كلام الله لا مبدل لكلماته . (سعفص) صاع بصاع

_____________________________

(1) القاموس المحيط 1: 121 .

____________________________________________________

صفحة 15

والجزاء بالجزاء . (قرشت) قرشهم 1) فحشرهم، فقال المؤدب: أيتها المرأة

خذي بيد ابنك فقد علم ولا حاجة له في المؤدب .

2 - حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رضي الله عنه، قال: حدثنا

محمد بن الحسن الصفار، قال: حدثنا محمد بن الحسين بن أبي الخطاب،

وأحمد بن الحسن بن علي بن فضال، عن علي بن أسباط، عن الحسن بن

زيد قال: حدثني محمد بن سالم، عن الأصبغ بن نباتة، قال: قال أمير

المؤمنين عليه السلام: سأل عثمان بن عفان رسول الله صلى الله عليه وآله عن تفسير أبجد، فقال

رسول الله صلى الله عليه وآله: تعلموا تفسير أبجد فإن فيه الأعاجيب كلها، ويل لعالم

جهل تفسيره، فقيل: يا رسول الله: ما تفسير أبجد ؟ فقال صلى الله عليه وآله: أما الألف

فآلاء الله حرف من حروف أسمائه . وأما الباء فبهجة الله، وأما الجيم فجنة

الله وجلال الله وجماله، وأما الدال فدين الله، وأما (هوز) فالهاء هاء الهاوية

فويل لمن هوى في النار، وأما الواو فويل لأهل النار، وأما الزاي فزاوية

في النار فنعوذ بالله مما في الزاوية يعني زوايا جهنم، وأما (حطي) فالحاء

حطوط الخطايا عن المستغفرين في ليلة القدر وما نزل به جبرئيل مع

الملائكة إلى مطلع الفجر، وأما الطاء فطوبى لهم وحسن مآب وهي شجرة

غرسها الله عز وجل ونفخ فيها من روحه وإن أغصانها لترى من وراء سور

الجنة تنبت بالحلي والحلل، متدلية على أفواههم، وأما الياء فيد الله فوق

خلقه سبحانه وتعالى عما يشركون، وأما (كلمن) فالكاف كلام الله لا

تبديل لكلمات الله 2) ولن تجد من دونه ملتحدا، وأما اللام فإلمام

____________________________________________________

صفحة 16

أهل الجنة 1) بينهم في الزيارة والتحية والسلام، وتلاوم أهل النار فيما

بينهم، وأما الميم فملك الله الذي لا يزول ودوام الله الذي لا يفنى، وأما

النون فنون والقلم وما يسطرون 2)، فالقلم قلم من نور وكتاب من نور في

لوح محفوظ يشهده المقربون وكفى بالله شهيدا، وأما (سعفص) فالصاد

____________________________________________________

صفحة 17

صاع بصاع وفص بفص 1) يعني الجزاء بالجزاء، وكما تدين تدان، إن الله لا

يريد ظلما للعباد، وأما (قرشت) يعني قرشهم الله فحشرهم ونشرهم إلى

يوم القيامة فقضى بينهم بالحق وهم لا يظلمون .

34 - باب تفسير حروف الأذان والإقامة

1 - حدثنا أحمد بن محمد بن عبد الرحمن المروزي الحاكم المقرئ،

قال: حدثنا أبو عمرو محمد بن جعفر المقرئ الجرجاني، قال: حدثنا أبو

بكر محمد بن الحسن الموصلي ببغداد، قال: حدثنا محمد بن عاصم

الطريفي، قال: حدثنا أبو زيد عياش بن يزيد بن الحسن بن علي الكحال

مولى زيد بن علي، قال: أخبرني أبي يزيد بن الحسن، قال: حدثني موسى

ابن جعفر، عن أبيه جعفر بن محمد، عن أبيه محمد بن علي، عن أبيه علي

ابن الحسين، عن أبيه الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، قال: كنا

جلوسا في المسجد إذا صعد المؤذن المنارة فقال: الله أكبر الله أكبر، فبكى

أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وبكينا ببكائه، فلما فرغ المؤذن

قال: أتدرون ما يقول المؤذن ؟ ! قلنا: الله ورسوله ووصيه أعلم، فقال: لو

تعلمون ما يقول لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا، فلقوله: (الله أكبر) معان

كثيرة: منها أن قول المؤذن: (الله أكبر) يقع على قدمه وأزليته وأبديته

وعلمه وقوته وقدرته وحلمه وكرمه وجوده وعطائه وكبريائه، فإذا قال

_____________________________

(1) مجمع البيان 5: 332 .

____________________________________________________

صفحة 18

المؤذن (الله أكبر) فإنه يقول: الله الذي له الخلق والامر، وبمشيته

كان الخلق، ومنه كان كل شئ للخلق، وإليه يرجع الخلق، وهو الأول قبل

كل شئ لم يزل، والآخر بعد كل شئ لا يزال، والظاهر فوق كل شئ لا

يدرك، والباطن دون كل شئ لا يحد، فهو الباقي وكل شئ دونه

فان، والمعنى الثاني (الله أكبر) أي العليم الخبير علم ما كان وما يكون قبل

أن يكون، والثالث (الله أكبر) أي القادر على كل شئ، يقدر على ما

يشاء، القوي لقدرته، المقتدر على خلقه، القوي لذاته، قدرته قائمة على

الأشياء كلها، إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون، والرابع (الله أكبر)

على معنى حلمه وكرمه يحلم كأنه لا يعلم ويصفح كأنه لا يرى ويستر

كأنه لا يعصى، لا يعجل بالعقوبة كرما وصفحا وحلما، والوجه الآخر في

معنى (الله أكبر) أي الجواد جزيل العطاء كريم الفعال، والوجه الآخر (الله

أكبر) فيه نفي كيفيته كأنه يقول: الله أجل من أن يدرك الواصفون قدر

صفته التي هو موصوف بها وإنما يصفه الواصفون على قدرهم لا على قدر

عظمته وجلاله، تعالى الله عن أن يدرك الواصفون صفته علوا كبيرا،

والوجه الآخر (الله أكبر) كأنه يقول: الله أعلى وأجل وهو الغني عن عباده

لا حاجة به إلى أعمال خلقه، وأما قوله: (أشهد أن لا إله إلا الله) فإعلام

بأن الشهادة لا تجوز إلا بمعرفة من القلب، كأنه يقول: اعلم أنه لا معبود

إلا الله عز وجل وأن كل معبود باطل سوى الله عز وجل وأقر بلساني بما

في قلبي من العلم بأنه لا إله إلا الله، وأشهد أنه لا ملجأ من الله إلا إليه ولا

منجى من شر كل ذي شر وفتنة كل ذي فتنة إلا بالله، وفي المرة الثانية

(أشهد أن لا إله إلا الله) معناه أشهد أن لا هادي إلا الله، ولا دليل لي إلا

____________________________________________________

صفحة 19

الله، واشهد الله بأني أشهد أن لا إله إلا الله، واشهد سكان السماوات وسكان

الأرضين وما فيهن من الملائكة والناس أجمعين، وما فيهن من الجبال

والأشجار والدواب والوحوش وكل رطب ويابس بأني أشهد أن لا خالق

إلا الله، ولا رازق ولا معبود ولا ضار ولا نافع ولا قابض ولا باسط ولا

معطي ولا مانع ولا دافع ولا ناصح ولا كافي ولا شافي ولا مقدم ولا

مؤخر إلا الله، له الخلق والامر وبيده الخير كله، تبارك الله رب العالمين،

وأما قوله: (أشهد أن محمدا رسول الله) يقول: اشهد الله أني أشهد أن لا إله

إلا هو، وأن محمدا عبده ورسوله ونبيه وصفيه ونجيه أرسله إلى كافة

الناس أجمعين بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره

المشركون، واشهد من في السماوات والأرض من النبيين والمرسلين

والملائكة والناس أجمعين أني أشهد أن محمدا صلى الله عليه وآله سيد الأولين

والآخرين، وفي المرة الثانية (أشهد أن محمدا رسول الله) يقول: أشهد أن

لا حاجة لاحد إلى أحد إلا إلى الله الواحد القهار مفتقرة إليه سبحانه وأنه

الغني عن عباده والخلائق أجمعين، وأنه أرسل محمدا إلى الناس بشيرا

ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، فمن أنكره وجحده ولم يؤمن

به أدخله الله عز وجل نار جهنم خالدا مخلدا لا ينفك عنها أبدا، وأما قوله:

(حي على الصلاة) أي هلموا إلى خير أعمالكم ودعوة ربكم، وسارعوا

إلى مغفرة من ربكم وإطفاء ناركم التي أوقدتموها على ظهوركم، وفكاك

رقابكم التي رهنتموها بذنوبكم ليكفر الله عنكم سيئاتكم، ويغفر لكم

ذنوبكم، ويبدل سيئاتكم حسنات، فإنه ملك كريم ذو الفضل العظيم، وقد

أذن لنا معاشر المسلمين بالدخول في خدمته والتقدم إلى بين يديه، وفي

____________________________________________________

صفحة 20

المرة الثانية (حي على الصلاة) أي قوموا إلى مناجاة ربكم وعرض

حاجاتكم على ربكم وتوسلوا إليه بكلامه وتشفعوا به وأكثروا الذكر

والقنوت والركوع والسجود والخضوع والخشوع، وارفعوا إليه حوائجكم

فقد أذن لنا في ذلك، وأما قوله: (حي على الفلاح) فإنه يقول: أقبلوا إلى

بقاء لا فناء معه ونجاة لا هلاك معها، وتعالوا إلى حياة لا موت معها، وإلى

نعيم لا نفاذ له، وإلى ملك لا زوال عنه، وإلى سرور لا حزن معه، وإلى

انس لا وحشة معه، وإلى نور لا ظلمة معه، وإلى سعة لا ضيق معها، وإلى

بهجة لا انقطاع لها، وإلى غنى لا فاقة معه، وإلى صحة لا سقم معها، وإلى

عز لا ذل معه، وإلى قوة لا ضعف معها، وإلى كرامة يا لها من كرامة،

وعجلوا إلى سرور الدنيا والعقبى ونجاة الآخرة والأولى، وفي المرة الثانية

(حي على الفلاح) فإنه يقول: سابقوا إلى ما دعوتكم إليه، وإلى جزيل

الكرامة وعظيم المنة وسني النعمة والفوز العظيم ونعيم الأبد في جوار

محمد صلى الله عليه وآله في مقعد صدق عند مليك مقتدر . وأما قوله: (الله أكبر) فإنه

يقول: الله أعلى وأجل من أن يعلم أحد من خلقه ما عنده من الكرامة لعبد

أجابه وأطاعه وأطاع ولاة أمره وعرفه وعبده واشتغل به وبذكره وأحبه

وأنس به واطمأن إليه ووثق به وخافه ورجاه واشتاق إليه ووافقه في

حكمه وقضائه ورضي به، وفي المرة الثانية (الله أكبر) فإنه يقول: الله أكبر

وأعلى وأجل من أن يعلم أحد مبلغ كرامته لأوليائه وعقوبته لأعدائه،

ومبلغ عفوه وغفرانه ونعمته لمن أجابه وأجاب رسوله، ومبلغ عذابه

ونكاله وهوانه لمن أنكره وجحده، وأما قوله: (لا إله إلا الله) معناه: لله

الحجة البالغة عليهم بالرسل والرسالة والبيان والدعوة وهو أجل من أن

____________________________________________________

صفحة 21

يكون لاحد منهم عليه حجة، فمن أجابه فله النور والكرامة ومن أنكره

فإن الله غني عن العالمين، وهو أسرع الحاسبين، ومعنى (قد قامت

الصلاة) في الإقامة أي حان وقت الزيارة والمناجاة وقضاء الحوائج ودرك

المنى، والوصول إلى الله عز وجل، وإلى كرامته وغفرانه وعفوه ورضوانه .

قال مصنف هذا الكتاب: إنما ترك الراوي لهذا الحديث ذكر (حي على

خير العمل) للتقية 1) .

2 - وقد روي في خبر آخر أن الصادق عليه السلام سئل عن معنى (حي على

خير العمل) فقال: خير العمل الولاية . وفي خبر آخر خير العمل بر فاطمة

وولدها عليهم السلام .

35 - باب تفسير الهدى والضلالة

والتوفيق والخذلان من الله تعالى

1 - حدثنا علي بن عبد الله الوراق، ومحمد بن أحمد السناني، وعلي بن

أحمد بن محمد بن عمران الدقاق رحمهم الله قالوا: حدثنا أبو العباس أحمد

ابن يحيى بن زكريا القطان، قال: حدثنا بكر بن عبد الله بن حبيب، قال:

حدثنا تميم بن بهلول، عن أبيه، عن جعفر بن سليمان البصري، عن عبد الله

____________________________________________________

صفحة 22

ابن الفضل الهاشمي قال: سألت أبا عبد الله جعفر بن محمد عليهما السلام عن قول الله

عز وجل: من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا 1) (1) .

فقال: إن الله تبارك وتعالى يضل الظالمين يوم القيامة عن دار كرامته،

ويهدي أهل الايمان والعمل الصالح إلى جنته، كما قال عز وجل:

_____________________________

(1) الكهف: 17 .

____________________________________________________

صفحة 23 - 26

ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء (1) وقال عز وجل إن الذين

آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار

في جنات النعيم (2) قال: فقلت: قوله عز وجل: وما توفيقي إلا

_____________________________

(1) إبراهيم عليه السلام: 27 .

(2) يونس: 9 .

(3) يونس: 9 .

(4) الاسراء: 97 .

(5) راجع بحار الأنوار 5: 168 - 172 .

____________________________________________________

صفحة 27

بالله 1) (1) وقوله عز وجل: إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم

فمن ذا الذي ينصركم من بعده (2) فقال: إذا فعل العبد ما أمره الله عز

وجل به من الطاعة كان فعله وفقا لامر الله عز وجل وسمي العبد به موفقا،

وإذا أراد العبد أن يدخل في شئ من معاصي الله فحال الله تبارك وتعالى

بينه وبين تلك المعصية فتركها كان تركه لها بتوفيق الله تعالى ذكره، ومتى

خلى بينه وبين تلك المعصية فلم يحل بينه وبينها حتى يرتكبها فقد خذله

ولم ينصره ولم يوفقه .

2 - حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رضي الله عنه، قال: حدثنا

الحسين بن الحسن بن أبان، عن الحسين بن سعيد، عن محمد بن أبي

عمير، عن أبي عبد الله الفراء، عن محمد بن مسلم ومحمد بن مروان، عن

أبي عبد الله عليه السلام، قال: ما علم رسول الله صلى الله عليه وآله أن جبرئيل من قبل الله عز

وجل إلا بالتوفيق .

3 - حدثنا أحمد بن الحسن القطان، قال: حدثنا الحسن بن علي

السكري، قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن زكريا البصري، قال: حدثنا

جعفر بن محمد بن عمارة، عن أبيه، عن جابر بن يزيد الجعفي، عن أبي

جعفر محمد بن علي الباقر عليهما السلام قال: سألته عن معنى (لا حول ولا قوة إلا

بالله) فقال: معناه لا حول لنا عن معصية الله 2) إلا بعون الله، ولا قوة لنا

_____________________________

(1) هود: 88 .

(2) آل عمران: 160 .

____________________________________________________

صفحة 28

على طاعة الله إلا بتوفيق الله عز وجل .

4 - حدثنا عبد الواحد بن محمد بن عبدوس العطار رضي الله عنه بنيسابور سنة

اثنتين وخمسين وثلاثمائة، قال: حدثنا علي بن محمد بن قتيبة، عن

حمدان بن سليمان النيسابوري، قال: سألت أبا الحسن علي بن موسى

الرضا عليهما السلام [بنيسابور] عن قول الله عز وجل: فمن يرد الله أن يهديه

يشرح صدره للاسلام 1) (1) قال: من يرد الله أن يهديه بإيمانه في الدنيا

إلى جنته ودار كرامته في الآخرة يشرح صدره للتسليم لله والثقة به

والسكون إلى ما وعده من ثوابه حتى يطمئن إليه، ومن يرد أن يضله عن

جنته ودار كرامته في الآخرة لكفره به وعصيانه له في الدنيا يجعل صدره

ضيقا حرجا حتى يشك في كفره، ويضطرب من اعتقاده قلبه حتى يصير

كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون .

_____________________________

(1) الانعام: 125 .

____________________________________________________

صفحة 29

36 - باب الرد على الثنوية والزنادقة 1)

وثانيها: أن معناه فمن يرد الله أن يثبته على الهدى يشرح صدره من الوجه

الذي ذكرناه جزاء له على ايمانه واهتدائه، وقد يطلق الهدى ويراد به الاستدامة

(ومن يرد أن يضله) أي: يخذله ويخلي بينه وبين ما يريده لاختياره الكفر

وتركه الايمان (يجعل صدره ضيقا حرجا) بأن يمنعه الألطاف التي ينشرح لها

صدره لخروجه من قبولها بإقامته على كفره .

وثالثها: أن معناه من يرد الله أن يهديه زيادة الهدى التي وعدها المؤمن

يشرح صدره لتلك الزيادة، لان من حقها أن تزيد المؤمن بصيرة، ومن يرد أن

يضله عن تلك الزيادة، بمعنى يذهبه عنها من حيث أخرج هو نفسه من أن يصح

عليه يجعل صدره ضيقا حرجا لمكان فقد تلك الزيادة، لأنها إذا اقتضت في

المؤمن ما قلناه أوجب في الكافر ما يضاده (1) .

والرجس: العذاب .

باب الرد على الثنوية والزنادقة

1) المشهور من الثنوية أنهم ثلاث فرق، فلابد هنا من تحقيق مذاهبهم ليتضح

هذه الأخبار الناعية عليهم، فنقول:

الفرقة الأولى: الديصانية، وهم أصحاب ديصان، أثبتوا أصلين نورا وظلاما،

وقالوا: أن النور يفعل الخير قصدا واختيارا، والظلام يفعل الشر طبعا واضطرارا،

فزعموا أن النور حي عالم قادر، ومنه يكون الحركة والحياة، والظلام ميت

جاهل عاجز جماد لا فعل لها ولا تمييز، لكن الشر يقع منه طبعا، وزعموا أن

المزاج إنما حصل من ملاقاة النور والظلمة وامتزاج بعض أجزائهما، وذكروا كيفية

_____________________________

(1) مجمع البيان 2: 363 .

____________________________________________________

صفحة 30 - 31

1 - حدثنا علي بن أحمد بن محمد بن عمران الدقاق رحمه الله، قال: حدثنا

أبو القاسم العلوي، قال: حدثنا محمد بن إسماعيل البرمكي، قال: حدثنا

الحسين بن الحسن، قال: حدثني إبراهيم بن هاشم القمي، قال: حدثنا

العباس بن عمرو الفقيمي، عن هشام بن الحكم في حديث الزنديق الذي

أتى أبا عبد الله عليه السلام فكان من قول أبي عبد الله عليه السلام له: لا يخلو قولك: إنهما

اثنان، من أن يكونا قديمين 1) قويين أو يكونا ضعيفين أو يكون أحدهما

قويا والآخر ضعيفا، فإن كانا قويين فلم لا يدفع كل واحد منهما صاحبه

ويتفرد بالتدبير، وإن زعمت أن أحدهما قوي والاخر ضعيف ثبت أنه

واحد كما نقول، للعجز الظاهر في الثاني، وإن قلت: إنهما اثنان لم يخل من

أن يكونا متفقين من كل جهة أو مفترقين من كل جهة فلما رأينا الخلق

_____________________________

(1) راجع تفصيل ذلك إلى بحار الأنوار 3: 211 - 216 .

____________________________________________________

صفحة 32 - 39

منتظما والفلك جاريا واختلاف الليل والنهار، والشمس والقمر دل صحة

الامر والتدبير وائتلاف الامر على أن المدبر واحد 1) ثم يلزمك إن ادعيت

اثنين فلا بد من فرجة بينهما حتى يكونا اثنين فصارت الفرجة ثالثا

بينهما، قديما معهما، فيلزمك ثلاثة، فإن ادعيت ثلاثة لزمك ما قلنا في

الاثنين حتى يكون بينهم فرجتان فيكون خمسا، ثم يتناهى في العدد إلى

ما لا نهاية في الكثرة .

قال هشام: فكان من سؤال الزنديق أن قال: فما الدليل عليه ؟ قال أبو

عبد الله عليه السلام: وجود الأفاعيل التي دلت على أن صانعا صنعها، ألا ترى أنك

إذا نظرت إلى بناء مشيد مبني علمت أن له بانيا وإن كنت لم تر الباني ولم

تشاهده، قال: فما هو ؟ قال: هو شئ بخلاف الأشياء 2)، ارجع بقولي:

____________________________________________________

صفحة 40

شئ إلى إثبات معنى، وأنه شئ بحقيقة الشيئية 1) غير أنه لا جسم ولا

صورة ولا يحس ولا يجس ولا يدرك بالحواس الخمس، ولا تدركه

الأوهام 2)، ولا تنقصه الدهور، ولا تغيره الزمان 3) .

_____________________________

(1) آل عمران: 52 .

____________________________________________________

صفحة 41

قال السائل: فتقول: إنه سميع بصير ؟ ! قال: هو سميع بصير، سميع بغير

جارحة وبصير بغير آلة، بل يسمع بنفسه، ويبصر بنفسه، ليس قولي: إنه

يسمع بنفسه ويبصر بنفسه أنه شئ والنفس شئ آخر، ولكن أردت

عبارة عن نفسي إذ كنت مسؤولا وإفهاما لك إذ كنت سائلا، وأقول: يسمع

بكله لا أن الكل منه له بعض 1)، ولكني أردت إفهاما لك والتعبير عن

نفسي، وليس مرجعي في ذلك إلا إلى أنه السميع البصير 2) العالم الخبير بلا

اختلاف الذات ولا اختلاف المعنى 3) .

قال السائل: فما هو 4) ؟ قال أبو عبد الله عليه السلام: هو الرب وهو المعبود 5)

وهو الله وليس قولي: (الله) إثبات هذه الحروف ألف، لام، هاء، ولكن

أرجع إلى معنى 6) هو شئ خالق الأشياء وصانعها وقعت عليه هذه

_____________________________

(1) في (س): السمع والبصر .

____________________________________________________

صفحة 42

الحروف، وهو المعنى الذي سمي به 1) الله والرحمن والرحيم والعزيز

وأشباه ذلك من أسمائه وهو المعبود عز وجل .

قال السائل: فإنا لم نجد موهوما إلا مخلوقا 2)، قال أبو عبد الله عليه السلام:

لو كان ذلك كما تقول لكان التوحيد عنا مرتفعا لأنا لم نكلف أن نعتقد غير

موهوم ولكنا نقول: كل موهوم بالحواس مدرك، فما تجده الحواس

وتمثله فهو مخلوق 3) ولابد من إثبات صانع الأشياء 4) خارج من الجهتين

المذمومتين إحديهما النفي إذ كان النفي هو الابطال والعدم، والجهة

____________________________________________________

صفحة 43

الثانية التشبيه إذ كان التشبيه من صفة المخلوق الظاهر التركيب والتأليف،

فلم يكن بد من إثبات الصانع لوجود المصنوعين 1)، والاضطرار منهم إليه

أثبت أنهم مصنوعون 2) وأن صانعهم غيرهم وليس مثلهم إذ كان مثلهم

شبيها بهم في ظاهر التركيب والتأليف وفيما يجري عليهم من حدوثهم

____________________________________________________

صفحة 44

بعد أن لم يكونوا، وتنقلهم من صغر إلى كبر، وسواد إلى بياض، وقوة إلى

ضعف، وأحوال موجودة لا حاجة لنا إلى تفسيرها لثباتها ووجودها .

قال السائل: فقد حددته إذ أثبت وجوده 1)، قال أبو عبد الله عليه السلام: لم

أحده ولكن أثبته إذ لم يكن بين الاثبات والنفي منزلة .

قال السائل: فله إنية ومائية 2) ؟ قال: نعم، لا يثبت الشئ إلا بإنية

ومائية .

قال السائل: فله كيفية ؟ قال: لا لان الكيفية جهة الصفة والإحاطة 3)

____________________________________________________

صفحة 45

ولكن لابد من الخروج من جهة التعطيل والتشبيه 1)، لان من نفاه أنكره

ورفع ربوبيته وأبطله ومن شبهه بغيره فقد أثبته بصفة المخلوقين

المصنوعين الذين لا يستحقون الربوبية، ولكن لابد من إثبات ذات بلا

كيفية لا يستحقها غيره 2) ولا يشارك فيها ولا يحاط بها 3) ولا يعلمها غيره .

_____________________________

(1) أصول الكافي 1: 85 ذيل ح 6 .

(2) في (س): أي يمكن .

____________________________________________________

صفحة 46

قال السائل: فيعاني الأشياء بنفسه ؟ قال أبو عبد الله عليه السلام: هو أجل من

أن يعاني الأشياء 1) بمباشرة ومعالجة لان ذلك صفة المخلوق الذي لا

يجئ الأشياء له إلا بالمباشرة والمعالجة، وهو تعالى نافذ الإرادة والمشية

فعال لما يشاء .

قال السائل: فله رضى وسخط ؟ قال أبو عبد الله عليه السلام: نعم، وليس ذلك

على ما يوجد في المخلوقين، وذلك أن الرضا والسخط 2) دخال يدخل

عليه فينقله من حال إلى حال، وذلك صفة المخلوقين العاجزين

المحتاجين، وهو تبارك وتعالى العزيز الرحيم لا حاجة به إلى شئ مما

خلق، وخلقه جميعا محتاجون إليه، وإنما خلق الأشياء من غير حاجة ولا

سبب اختراعا وابتداعا .

قال السائل: فقوله: الرحمن على العرش استوى (1) قال أبو

_____________________________

(1) طه: 5 .

(2) نهج البلاغة ص 274، رقم الخطبة: 186 .

____________________________________________________

صفحة 47

عبد الله عليه السلام: بذلك وصف نفسه وكذلك هو مستول على العرش 1) بائن

من خلقه من غير أن يكون العرش حاملا له ولا أن يكون العرش حاويا

له ولا أن العرش محتاز له، ولكنا نقول: هو حامل العرش وممسك

العرش، ونقول من ذلك ما قال: وسع كرسيه السماوات والأرض 2) (1)

فثبتنا من العرش والكرسي ما ثبته، ونفينا أن يكون العرش والكرسي

حاويا له أو يكون عز وجل محتاجا إلى مكان أو إلى شئ مما خلق، بل

خلقه محتاجون إليه .

قال السائل: فما الفرق بين أن ترفعوا أيديكم إلى السماء وبين أن

تخفضوها نحو الأرض ؟ قال أبو عبد الله عليه السلام: ذلك في علمه وإحاطته

_____________________________

(1) البقرة: 255 .

____________________________________________________

صفحة 48

وقدرته سواء، ولكنه عز وجل أمر أولياءه وعباده برفع أيديهم إلى السماء

نحو العرش لأنه جعله معدن الرزق، فثبتنا ما ثبته القرآن 1) والاخبار عن

الرسول صلى الله عليه وآله حين قال: ارفعوا أيديكم إلى الله عز وجل، وهذا يجمع عليه

فرق الأمة كلها .

قال السائل: فمن أين أثبت أنبياء ورسلا ؟ قال أبو عبد الله عليه السلام: إنا لما

أثبتنا أن لنا خالقا صانعا متعاليا عنا وعن جميع ما خلق وكان ذلك الصانع

حكيما لم يجز أن يشاهده خلقه ولا يلامسهم ولا يلامسوه ولا يباشرهم

ولا يباشروه ولا يحاجهم ولا يحاجوه فثبت أن له سفراء في خلقه وعباده

يدلونهم على مصالحهم ومنافعهم وما به بقاؤهم وفي تركه فناؤهم، فثبت

الآمرون والناهون عن الحكيم العليم في خلقه وثبت عند ذلك أن له

معبرين وهم الأنبياء وصفوته من خلقه حكماء مؤدبين بالحكمة مبعوثين

بها غير مشاركين للناس في أحوالهم على مشاركتهم لهم في الخلق

والتركيب، مؤيدين من عند الله الحكيم العليم بالحكمة والدلائل والبراهين

والشواهد من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، فلا تخلو أرض الله

من حجة يكون معه علم يدل على صدق مقال الرسول ووجوب عدالته .

2 - حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رحمه الله قال: حدثنا محمد

_____________________________

(1) الذاريات: 22 .

____________________________________________________

صفحة 49

ابن الحسن الصفار، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن أبي

عمير، عن هشام بن الحكم، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: ما الدليل على أن

الله واحد ؟ قال: اتصال التدبير وتمام الصنع 1) كما قال عز وجل: لو كان

فيهما آلهة إلا الله لفسدتا (1) .

3 - حدثنا محمد بن علي ماجيلويه رضي الله عنه، عن عمه محمد بن أبي

القاسم، قال: حدثني أبو سمينة محمد بن علي الصيرفي، عن محمد بن

عبد الله الخراساني خادم الرضا عليه السلام، قال: دخل رجل من الزنادقة على

الرضا عليه السلام وعنده جماعة، فقال له أبو الحسن عليه السلام: أيها الرجل أرأيت إ ن

كان القول قولكم - وليس هو كما تقولون - ألسنا وإياكم شرعا سواء ولا

يضرنا ما صلينا وصمنا وزكينا وأقررنا ؟ فسكت، فقال أبو الحسن عليه السلام:

وإن يكن القول قولنا - وهو كما نقول - ألستم قد هلكتم ونجونا ؟ .

فقال: رحمك الله فأوجدني كيف هو وأين هو 2) قال: ويلك إن الذي

ذهبت إليه غلط، هو أين الأين 3) وكان ولا أين، وهو كيف الكيف وكان

_____________________________

(1) الأنبياء: 22 .

(2) الأنبياء: 22 .

____________________________________________________

صفحة 50

ولا كيف، ولا يعرف بكيفوفية 1) ولا بأينونية ولا يدرك بحاسة ولا يقاس

بشئ .

قال الرجل: فإذا إنه لا شئ 2) إذ لم يدرك بحاسة من الحواس فقال

أبو الحسن عليه السلام: ويلك لما عجزت حواسك عن إدراكه أنكرت ربوبيته،

ونحن إذا عجزت حواسنا عن إدراكه أيقنا أنه ربنا خلاف الأشياء .

_____________________________

(1) في (ن): فعله .

____________________________________________________

صفحة 51

قال الرجل: فأخبرني متى كان 1) ؟ فقال أبو الحسن عليه السلام: أخبرني متى

لم يكن فأخبرك متى كان .

قال الرجل: فما الدليل عليه ؟ قال أبو الحسن عليه السلام إني لما نظرت إلى

جسدي فلم يمكني فيه زيادة ولا نقصان في العرض والطول ودفع

المكاره عنه وجر المنفعة إليه علمت أن لهذا البنيان بانيا فأقررت به، مع

ما أرى من دوران الفلك بقدرته وإنشاء السحاب وتصريف الرياح ومجرى

الشمس والقمر والنجوم وغير ذلك من الآيات العجيبات المتقنات علمت

أن لهذا مقدرا ومنشئا .

قال الرجل: فلم احتجب 2) ؟ فقال أبو الحسن عليه السلام: إن الاحتجاب عن

الخلق لكثرة ذنوبهم، فأما هو فلا يخفى عليه خافية في آناء الليل والنهار .

قال: فلم لا تدركه حاسة البصر 3) ؟ قال: للفرق بينه وبين خلقه الذين

____________________________________________________

صفحة 52

تدركهم حاسة الابصار منهم ومن غيرهم، ثم هو أجل من أن يدركه

بصر 1) أو يحيط به وهم أو يضبطه عقل .

قال: فحده لي 2)، قال: لا حد له .

قال: ولم ؟ قال: لان كل محدود متناه إلى حد، وإذا احتمل التحديد

احتمل الزيادة وإذا احتمل الزيادة احتمل النقصان، فهو غير محدود، ولا

متزايد، ولا متناقص، ولا متجزء، ولا متوهم .

قال الرجل: فأخبرني عن قولكم: إنه لطيف سميع بصير عليم حكيم

____________________________________________________

صفحة 53

أيكون السميع إلا بالاذن، والبصير إلا بالعين واللطيف إلا بعمل اليدين

والحكيم إلا بالصنعة ؟ فقال أبو الحسن عليه السلام: إن اللطيف منا على حد اتخاذ

الصنعة، أوما رأيت الرجل منا يتخذ شيئا يلطف في اتخاذه فيقال: ما

ألطف فلانا، فكيف لا يقال للخالق الجليل: لطيف إذ خلق خلقا لطيفا

وجليلا وركب في الحيوان أرواحا وخلق كل جنس متبائنا عن جنسه في

الصورة لا يشبه بعضه بعضا، فكل له لطف من الخالق اللطيف الخبير في

تركيب صورته، ثم نظرنا إلى الأشجار وحملها أطائبها المأكولة منها وغير

المأكولة فقلنا عند ذلك: إن خالقنا لطيف لا كلطف خلقه في صنعتهم،

وقلنا: إنه سميع لا يخفى عليه أصوات خلقه ما بين العرش إلى الثرى من

الذرة إلى أكبر منها في برها وبحرها ولا تشتبه عليه لغاتها فقلنا عند ذلك:

إنه سميع لا باذن وقلنا: إنه بصير لا ببصر لأنه يرى أثر الذرة السحماء 2) في

الليلة الظلماء على الصخرة السوداء، ويرى دبيب النمل في الليلة الدجية

ويرى مضارها ومنافعها وأثر سفادها وفراخها ونسلها فقلنا عند ذلك إنه

بصير لا كبصر خلقه، قال: فما برح حتى أسلم وفيه كلام غير هذا 1) .

4 - حدثنا علي بن أحمد بن محمد بن عمران الدقاق رحمه الله، قال: حدثنا

أبو القاسم حمزة بن القاسم العلوي، قال: حدثنا محمد بن إسماعيل، قال:

حدثنا أبو سليمان داود بن عبد الله، قال: حدثني عمرو بن محمد، قال:

حدثني عيسى بن يونس، قال: كان ابن أبي العوجاء من تلامذة الحسن

____________________________________________________

صفحة 54

البصري فانحرف عن التوحيد، فقيل له: تركت مذهب صاحبك ودخلت

فيما لا أصل له ولا حقيقة، فقال: إن صاحبي كان مخلطا، كان يقول طورا

بالقدر وطورا بالجبر 1) وما أعلمه اعتقد مذهبا دام عليه، فقدم مكة تمردا

وإنكارا على من يحج، وكان يكره العلماء مساءلته إياهم ومجالسته لهم

لخبث لسانه وفساد ضميره، فأتى أبا عبد الله عليه السلام ليسأله، فجلس إليه في

جماعة من نظرائه .

فقال: يا أبا عبد الله إن المجالس بالأمانات ولابد لمن كان به سعال أن

يسعل أفتأذن لي في الكلام ؟ فقال عليه السلام: تكلم بما شئت، فقال: إلى كم تدوسون

هذا البيدر، وتلوذون بهذا الحجر 2)، وتعبدون هذا البيت المرفوع بالطوب 3)

والمدر، وتهرولون حوله هرولة البعير إذا نفر ؟ ! إن من فكر في هذا وقدر

علم أن هذا فعل أسسه غير حكيم ولا ذي نظر فقل فإنك رأس هذا الامر

وسنامه وأبوك اسه ونظامه، فقال أبو عبد الله عليه السلام: إن من أضله الله وأعمى

قلبه استوخم الحق فلم يستعذبه، وصار الشيطان وليه يورده مناهل الهلكة،

ثم لا يصدره، وهذا بيت استعبد الله به خلقه ليختبر طاعتهم في إتيانه،

فحثهم على تعظيمه وزيارته، وجعله محل أنبيائه وقبلة للمصلين له، فهو

____________________________________________________

صفحة 55

شعبة من رضوانه وطريق يؤدي إلى غفرانه، منصوب على استواء الكمال

ومجتمع العظمة والجلال، خلقه الله قبل دحو الأرض بألفي عام، وأحق

من أطيع فيما أمر وانتهي عما نهى عنه وزجر، الله المنشئ للأرواح والصور .

فقال ابن أبي العوجاء: ذكرت يا أبا عبد الله فأحلت على غائب، فقال

أبو عبد الله عليه السلام: ويلك كيف يكون غائبا من هو مع خلقه شاهد وإليهم

أقرب من حبل الوريد، يسمع كلامهم، ويرى أشخاصهم، ويعلم أسرارهم .

فقال ابن أبي العوجاء: فهو في كل مكان ؟ أليس إذا كان في السماء

كيف يكون في الأرض، وإذا كان في الأرض كيف يكون في السماء ؟ !

فقال أبو عبد الله عليه السلام: إنما وصفت المخلوق الذي إذا انتقل عن مكان

واشتغل به مكان وخلا منه مكان فلا يدري في المكان الذي صار إليه

ما حدث في المكان الذي كان فيه، فأما الله العظيم الشأن الملك الديان فلا

يخلو منه مكان، ولا يشتغل به مكان، ولا يكون إلى مكان أقرب منه إلى

مكان، والذي بعثه بالآيات المحكمة، والبراهين الواضحة، وأيده بنصره،

واختاره لتبليغ رسالته صدقنا قوله بأن ربه بعثه وكلمه، فقام عنه ابن أبي

العوجاء وقال لأصحابه: من ألقاني في بحر هذا ؟ !

وفي رواية محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رحمه الله: من ألقاني في

بحر هذا، سألتكم أن تلتمسوا لي خمرة 1) فألقيتموني على جمرة قالوا: ما

كنت في مجلسه إلا حقيرا، قال: إنه ابن من حلق رؤوس من ترون 2) .

____________________________________________________

صفحة 56

5 - حدثنا أحمد بن الحسن القطان قال: حدثنا أحمد بن يحيى، عن بكر

ابن عبد الله بن حبيب، قال: حدثني أحمد بن يعقوب بن مطر قال: حدثنا

محمد بن الحسن بن عبد العزيز الأحدب الجند بنيسابور، قال: وجدت في

كتاب أبي بخطه: حدثنا طلحة بن يزيد، عن عبيد الله بن عبيد، عن أبي

معمر السعداني أن رجلا أتى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام فقال:

يا أمير المؤمنين إني قد شككت في كتاب الله المنزل، قال له عليه السلام: ثكلتك

أمك وكيف شككت في كتاب الله المنزل ؟ ! قال: لأني وجدت الكتاب

يكذب بعضه بعضا فكيف لا أشك فيه .

فقال علي بن أبي طالب عليه السلام: إن كتاب الله ليصدق بعضه بعضا ولا

يكذب بعضه بعضا، ولكنك لم ترزق عقلا تنتفع به، فهات ما شككت فيه

من كتاب الله عز وجل، قال له الرجل: إني وجدت الله يقول: فاليوم ننسيهم

كما نسوا لقاء يومهم هذا 1) (1) وقال أيضا: نسوا الله فنسيهم 2) (2)

_____________________________

(1) الأعراف: 51 .

(2) التوبة: 67 .

____________________________________________________

صفحة 57

وقال: وما كان ربك نسيا 1) (1) فمرة يخبر أنه ينسى، ومرة يخبر

أنه لا ينسى، فأنى ذلك يا أمير المؤمنين .

قال: هات ما شككت فيه أيضا، قال: وأجد الله يقول: يوم يقوم الروح

والملائكة صفا 2) لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا (2) وقال

واستنطقوا فقالوا والله ربنا ما كنا مشركين 3) (3) . وقال: يوم القيمة

_____________________________

(1) مريم: 64 .

(2) النبأ: 38 .

(3) الانعام: 23 .

(4) مجمع البيان 3: 48 .

(5) مجمع البيان 3: 521 .

(6) مجمع البيان 5: 427 .

____________________________________________________

صفحة 58

يكفر بعضكم ببعض 1) ويلعن بعضكم بعضا (1) .

وقال: إن ذلك لحق تخاصم أهل النار 2) (2) وقال: لا تختصموا لدي

_____________________________

(1) العنكبوت: 25 .

(2) ص: 64 .

(3) مجمع البيان 2: 284 - 285 .

(4) مجمع البيان 4: 279 .

(5) ما بين المعقوفتين من المجمع .

____________________________________________________

صفحة 59

وقد قدمت إليكم بالوعيد 1) (1) وقال: نختم على أفواههم 2) وتكلمنا

أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون (2) فمرة يخبر أنهم يتكلمون

ومرة يخبر أنهم لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا، ومرة يخبر

أن الخلق لا ينطقون ويقول عن مقالتهم والله ربنا ما كنا مشركين ومرة

يخبر أنهم يختصمون، فأنى ذلك يا أمير المؤمنين وكيف لا أشك فيما تسمع .

قال: هات ويحك ما شككت فيه، قال: وأجد الله عز وجل يقول:

_____________________________

(1) ق: 28 .

(2) يس: 65 .

(3) مجمع البيان 4: 484 .

(4) مجمع البيان 5: 147 .

(5) مجمع البيان 4: 430 - 431 .

____________________________________________________

صفحة 60

وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة 1) (1) ويقول: لا تدركه

الابصار وهو يدرك الابصار 2) وهو اللطيف الخبير (2) ويقول: ولقد رآه

نزلة أخرى * عند سدرة المنتهى 3) (3) ويقول: يومئذ لا تنفع الشفاعة

_____________________________

(1) القيامة: 23 .

(2) الانعام: 103 .

(3) النجم: 14 .

(4) مجمع البيان 5: 398 .

(5) مجمع البيان 2: 344 .

____________________________________________________

صفحة 61

إلا من أذن له الرحمن 1) ورضي له قولا * يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم

ولا يحيطون به علما (1) ومن أدركه الابصار فقد أحاط به العلم، فأنى

ذلك يا أمير المؤمنين وكيف لا أشك فيما تسمع .

قال: هات أيضا ويحك ما شككت فيه، قال: وأجد الله تبارك وتعالى

يقول: وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل

رسولا 2) فيوحي باذنه ما يشاء (2) وقال: وكلم الله موسى تكليما 3) (3)

_____________________________

(1) طه: 110 .

(2) الشورى: 51 .

(3) النساء: 164 .

(4) مجمع البيان 5: 175 .

(5) مجمع البيان 4: 31 .

(6) مجمع البيان 5: 37 .

____________________________________________________

صفحة 62

وقال: وناداهما ربهما 1) (1) وقال: يا أيها النبي قل لأزواجك

وبناتك (2) وقال: يا أيها الرسول بلغ ما انزل إليك من ربك 2) (3) فأنى

ذلك يا أمير المؤمنين وكيف لا أشك فيما تسمع .

قال: هات ويحك ما شككت فيه، قال: وأجد الله جل ثناؤه يقول:

هل تعلم له سميا 3) (4) وقد يسمي الانسان سميعا بصيرا وملكا وربا،

فمرة يخبر بأن له أسامي كثيرة مشتركة، ومرة يقول: هل تعلم له سميا

فأنى ذلك يا أمير المؤمنين وكيف لا أشك فيما تسمع .

قال: هات ويحك ما شككت فيه، قال: وجدت الله تبارك وتعالى يقول:

وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء 4) (5) .

_____________________________

(1) الأعراف: 22 .

(2) الأحزاب: 59 .

(3) المائدة: 67 .

(4) مريم: 65 .

(5) يونس: 61 .

(6) مجمع البيان 2: 141 .

(7) مجمع البيان 3: 521 .

____________________________________________________

صفحة 63

ويقول: ولا ينظر إليهم يوم القيمة ولا يزكيهم 1) (1) . ويقول: كلا إنهم

عن ربهم يومئذ لمحجوبون 2) (2) . كيف ينظر إليهم من يحجب عنهم،

وأنى ذلك يا أمير المؤمنين وكيف لا أشك فيما تسمع .

قال: هات أيضا ويحك ما شككت فيه، قال: وأجد الله عز وجل يقول:

أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور 3) (3)

وقال: الرحمن على العرش استوى 4) (4) وقال: وهو الله في السماوات

_____________________________

(1) آل عمران: 77 .

(2) المطففين: 15 .

(3) الملك: 16 .

(4) طه: 5 .

(5) مجمع البيان 5: 327 .

____________________________________________________

صفحة 64

وفي الأرض يعلم سركم وجهركم 1) (1) وقال: الظاهر والباطن 2) (2)

وقال: وهو معكم أين ما كنتم (3) وقال: ونحن أقرب إليه من حبل

الوريد 3) (4) فأنى ذلك يا أمير المؤمنين وكيف لا أشك فيما تسمع .

قال: هات أيضا ويحك ما شككت فيه، قال: وأجد الله جل ثناؤه يقول:

وجاء ربك والملك صفا صفا 4) (5) وقال: ولقد جئتمونا فرادى كما

_____________________________

(1) الانعام: 3 .

(2) الحديد: 3 .

(3) الحديد: 4 .

(4) ق: 16 .

(5) الفجر: 22 .

____________________________________________________

صفحة 65 - 66

خلقناكم أول مرة 1) (1) وقال: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في

ظلل من الغمام والملائكة 2) (2) وقال: هل ينظرون إلا أن تأتيهم

الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك 3) يوم يأتي بعض آيات

‹ صفحه 66 ›

_____________________________

(1) الانعام: 94 .

(2) البقرة: 210 .

(3) مجمع البيان 5: 488 - 489 .

(4) مجمع البيان 2: 337 .

(5) مجمع البيان 1: 303 .

(6) مجمع البيان 2: 387 - 388 .

 

(1) الانعام: 158 .

(2) السجدة: 10 .

(3) البقرة: 46 .

(4) الأحزاب: 44 .

(5) مجمع البيان 1: 101 - 102 .

(6) مجمع البيان 4: 363 .

____________________________________________________

صفحة 66

ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها

خيرا (1) فمرة يقول: يوم يأتي ربك ومرة يقول يوم يأتي بعض

آيات ربك فأنى ذلك يا أمير المؤمنين وكيف لا أشك فيما تسمع .

قال: هات ويحك ما شككت فيه، قال: وأجد الله جل جلاله يقول:

بل هم بلقاء ربهم كافرون 1) (2) وذكر المؤمنين فقال: الذين يظنون

أنهم ملاقوا ربهم 2) وأنهم إليه راجعون (3) وقال: تحيتهم يوم

يلقونه سلام 3) (4) وقال: من كان يرجوا لقاء الله فإن أجل الله

_____________________________

(1) الانعام: 158 .

(2) السجدة: 10 .

(3) البقرة: 46 .

(4) الأحزاب: 44 .

(5) مجمع البيان 1: 101 - 102 .

(6) مجمع البيان 4: 363 .

____________________________________________________

صفحة 67

لآت 1) (1) وقال: فمن كان يرجوا لقاء ربه 2) فليعمل عملا صالحا (2)

فمرة يخبر أنهم يلقونه، ومرة أنه لا تدركه الابصار وهو يدرك الابصار،

ومرة يقول: ولا يحيطون به علما فأني ذلك يا أمير المؤمنين وكيف لا

أشك فيما تسمع .

قال: ويحك ما شككت فيه، قال: وأجد الله تبارك وتعالى يقول:

ورأي المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها 3) (3) . وقال: يومئذ

يوفيهم الله دينهم الحق 4) ويعلمون أن الله هو الحق المبين (4) وقال:

وتظنون بالله الظنونا 5) (5) فمرة يخبر أنهم يظنون ومرة يخبر أنهم

يعلمون، والظن شك فأنى ذلك يا أمير المؤمنين وكيف لا أشك فيما تسمع .

_____________________________

(1) العنكبوت: 5 .

(2) الكهف: 110 .

(3) الكهف: 53 .

(4) النور: 25 .

(5) الأحزاب: 10 .

(6) مجمع البيان 4: 134 .

____________________________________________________

صفحة 68

قال: هات ما شككت فيه، قال: وأجد الله تعالى يقول ونضع

الموازين القسط ليوم القيمة فلا تظلم نفس شيئا (1) وقال: فلا نقيم لهم

يوم القيمة وزنا (2) وقال: فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير

حساب (3) وقال: والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم

المفلحون × ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا

بآياتنا يظلمون (4) فأنى ذلك يا أمير المؤمنين وكيف لا أشك فيما تسمع .

قال: هات ويحك ما شككت فيه، قال: وأجد الله تعالى يقول: قل

يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم 1) ثم إلى ربكم ترجعون (5) وقال:

الله يتوفى الأنفس حين موتها 2) (6) وقال: توفته رسلنا وهم لا

يفرطون 3) (7) وقال: الذين تتوفاهم الملائكة طيبين 4) (8) وقال:

_____________________________

(1) الأنبياء: 47 .

(2) الكهف: 105 .

(3) المؤمن: 40 .

(4) الأعراف: 9 .

(5) السجدة: 11 .

(6) الزمر: 42 .

(7) الانعام: 61 .

(8) النحل: 32 .

(9) مجمع البيان 4: 329 .

____________________________________________________

صفحة 69

الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم 1) (1) فأنى ذلك يا أمير المؤمنين

وكيف لا أشك فيما تسمع، وقد هلكت إن لم ترحمني وتشرح لي صدري

فيما عسى أن يجري ذلك على يديك، فإن كان الرب تبارك وتعالى حقا

والكتاب حقا والرسل حقا فقد هلكت وخسرت، وإن تكن الرسل باطلا

فما علي بأس وقد نجوت .

فقال علي عليه السلام: قدوس ربنا قدوس تبارك وتعالى علوا كبيرا، نشهد

أنه هو الدائم الذي لا يزول، ولا نشك فيه، وليس كمثله شئ وهو السميع

البصير، وأن الكتاب حق والرسل حق، وأن الثواب والعقاب حق، فإن

رزقت زيادة إيمان أو حرمته فإن ذلك بيد الله، إن شاء رزقك وإن شاء

حرمك ذلك، ولكن سأعلمك ما شككت فيه، ولا قوة إلا بالله، فإن أراد الله

بك خيرا أعلمك بعلمه وثبتك، وإن يكن شرا ضللت وهلكت .

أما قوله: نسوا الله فنسيهم إنما يعني نسوا الله في دار الدنيا، لم

يعملوا بطاعته فنسيهم في الآخرة أي لم يجعل لهم في ثوابه شيئا فصاروا

منسيين من الخير وكذلك تفسير قوله عز وجل: فاليوم ننسيهم كما نسوا

_____________________________

(1) النحل: 28 .

(2) مجمع البيان 3: 358 .

____________________________________________________

صفحة 70

لقاء يومهم هذا يعني بالنسيان أنه لم يثبهم كما يثيب أولياءه الذين كانوا

في دار الدنيا مطيعين ذاكرين حين آمنوا به وبرسله وخافوه بالغيب، وأما

قوله: وما كان ربك نسيا فإن ربنا تبارك وتعالى علوا كبيرا ليس بالذي

ينسى ولا يغفل بل هو الحفيظ العليم، وقد يقول العرب في باب النسيان:

قد نسينا فلان فلا يذكرنا أي أنه لا يأمر لنا بخير ولا يذكرنا به، فهل

فهمت ما ذكر الله عز وجل، قال: نعم، فرجت عني فرج الله عنك وحللت

عني عقدة فعظم الله أجرك .

فقال عليه السلام: وأما قوله: يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون

إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا وقوله: والله ربنا ما كنا مشركين

وقوله: (يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا) وقوله: إن

ذلك لحق تخاصم أهل النار وقوله: لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم

بالوعيد وقوله اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم

بما كانوا يكسبون فان ذلك في مواطن غير واحد من مواطن ذلك اليوم

الذي كان مقداره خمسين ألف سنة 1)، يجمع الله عز وجل الخلائق يومئذ

في مواطن يتفرقون، ويكلم بعضهم بعضا ويستغفر بعضهم لبعض أولئك

_____________________________

(1) المعارج: 4 .

____________________________________________________

صفحة 71

الذين كان منهم الطاعة في دار الدنيا للرؤساء والاتباع ويلعن أهل

المعاصي الذين بدت منهم البغضاء وتعاونوا على الظلم والعدوان في دار

الدنيا، المستكبرين والمستضعفين يكفر بعضهم ببعض ويلعن بعضهم بعضا

والكفر في هذه الآية البراءة، يقول: يبرأ بعضهم من بعض، ونظيرها في

سورة إبراهيم قول الشيطان إني كفرت بما أشركتمون من قبل 1) (1)

وقول إبراهيم خليل الرحمن: كفرنا بكم (2) يعني تبرأنا منكم، ثم

_____________________________

(1) إبراهيم: 23 .

(2) الممتحنة: 4 .

(3) مجمع البيان 5: 353 .

____________________________________________________

صفحة 72

يجتمعون في موطن آخر يبكون فيه فلو أن تلك الأصوات بدت لأهل

الدنيا لأذهلت جميع الخلق عن معائشهم، ولتصدعت قلوبهم إلا ما شاء

الله، فلا يزالون يبكون الدم، ثم يجتمعون في موطن آخر فيستنطقون فيه

فيقولون: والله ربنا ما كنا مشركين فيختم الله تبارك وتعالى على

أفواههم ويستنطق الأيدي والأرجل والجلود فتشهد بكل معصية كانت

منهم، ثم يرفع عن ألسنتهم الختم فيقولون لجلودهم: لم شهدتم علينا

قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شئ (1) ثم يجتمعون في موطن آخر

فيستنطقون فيفر بعضهم من بعض، فذلك قوله عز وجل: يوم يفر المرء

من أخيه * وأمه وأبيه * وصاحبته وبنيه (2) فيستنطقون فلا يتكلمون

إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا، فيقوم الرسل صلى الله عليهم

فيشهدون في هذا الموطن فذلك قوله: فكيف إذا جئنا من كل أمة

بشهيد 1) وجئنا بك على هؤلاء شهيدا (3) ثم يجتمعون في موطن آخر

يكون فيه مقام محمد صلى الله عليه وآله وهو المقام المحمود، فيثني على الله تبارك

_____________________________

(1) فصلت: 21 .

(2) عبس: 36 .

(3) النساء: 41 .

(4) مجمع البيان 3: 311 .

____________________________________________________

صفحة 73

وتعالى بما لم يثن عليه أحد قبله ثم يثني على الملائكة كلهم فلا يبقى

ملك إلا أثنى عليه محمد صلى الله عليه وآله، ثم يثني على الرسل بما لم يثن عليهم أحد

قبله، ثم يثني على كل مؤمن ومؤمنة يبدأ بالصديقين والشهداء ثم

بالصالحين، فيحمده أهل السماوات والأرض، فذلك قوله: عسى أن

يبعثك ربك مقاما محمودا 1) (1) فطوبى لمن كان له في ذلك المقام حظ،

وويل لمن لم يكن له في ذلك المقام حظ ولا نصيب، ثم يجتمعون في

موطن آخر ويدال بعضهم من بعض وهذا كله قبل الحساب، فإذا اخذ في

الحساب شغل كل إنسان بما لديه، نسأل الله بركة ذلك اليوم، قال: فرجت

عني فرج الله عنك يا أمير المؤمنين، وحللت عني عقدة فعظم الله أجرك .

_____________________________

(1) الاسراء: 79 .

(2) مجمع البيان 2: 49 .

(3) مجمع البيان 3: 434 - 435 .

____________________________________________________

صفحة 74

فقال عليه السلام: وأما قوله عز وجل: وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة

وقوله: لا تدركه الابصار وهو يدرك الابصار وقوله: ولقد رآه نزلة

أخرى عند سدرة المنتهى وقوله يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له

الرحمن ورضي له قولا يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به

علما فأما قوله: وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة فإن ذلك في

موضع ينتهي فيه أولياء الله عز وجل بعد ما يفرغ من الحساب إلى نهر

يسمى الحيوان فيغتسلون فيه ويشربون منه فتنضر وجوههم إشراقا

فيذهب عنهم كل قذى ووعث، ثم يؤمرون بدخول الجنة، فمن هذا المقام

ينظرون إلى ربهم كيف يثيبهم، ومنه يدخلون الجنة، فذلك قوله عز وجل

من تسليم الملائكة عليهم: سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين (1)

فعند ذلك أيقنوا بدخول الجنة والنظر إلى ما وعدهم ربهم فذلك قوله:

إلى ربها ناظرة وإنما يعني بالنظر إليه النظر إلى ثوابه تبارك وتعالى .

وأما قوله: لا تدركه الابصار وهو يدرك الابصار فهو كما قال: لا

تدركه الابصار يعني لا تحيط به الأوهام وهو يدرك الابصار يعني

يحيط بها وهو اللطيف الخبير، وذلك مدح امتدح به ربنا نفسه تبارك

وتعالى وتقدس علوا كبيرا، وقد سأل موسى عليه السلام وجرى على لسانه من

حمد الله عز وجل رب أرني أنظر إليك (2) فكانت مسألته تلك أمرا

عظيما وسأل أمرا جسيما فعوقب، فقال الله تبارك وتعالى: لن تراني في

الدنيا حتى تموت فتراني في الآخرة 1) ولكن إن أردت أن تراني في الدنيا

_____________________________

(1) الزمر: 73 .

(2) الأعراف: 143 .

____________________________________________________

صفحة 75

فانظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فأبدى الله سبحانه

بعض آياته وتجلى ربنا للجبل فتقطع الجبل فصار رميما وخر موسى

صعقا، يعني ميتا فكان عقوبته الموت ثم أحياه الله وبعثه وتاب عليه،

فقال: سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين يعني أول مؤمن آمن بك

منهم أنه لن يراك، وأما قوله: ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى

يعني محمدا صلى الله عليه وآله كان عند سدرة المنتهى حيث لا يتجاوزها خلق من

خلق الله وقوله في آخر الآية: ما زاغ البصر وما طغى لقد رأى من آيات

ربه الكبرى رأى جبرئيل عليه السلام في صورته مرتين هذه المرة ومرة أخرى

وذلك أن خلق جبرئيل عظيم فهو من الروحانيين الذين لا يدرك خلقهم

وصفتهم إلا الله رب العالمين .

وأما قوله: يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له

قولا يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما لا يحيط

الخلائق بالله عز وجل علما إذ هو تبارك وتعالى جعل على أبصار القلوب

الغطاء، فلا فهم يناله بالكيف، ولا قلب يثبته بالحدود، فلا يصفه إلا كما

وصف نفسه ليس كمثله شئ وهو السميع البصير، الأول والآخر والظاهر

والباطن، الخالق البارئ المصور، خلق الأشياء فليس من الأشياء شئ

مثله تبارك وتعالى، فقال: فرجت عني فرج الله عنك، وحللت عني عقدة

فأعظم الله أجرك يا أمير المؤمنين .

فقال عليه السلام: وأما قوله: وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من

وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء وقوله وكلم الله

____________________________________________________

صفحة 76

موسى تكليما وقوله: وناداهما ربهما وقوله: يا آدم أسكن أنت

وزوجك الجنة فأما قوله ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من

وراء حجاب فإنه ما ينبغي لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا وليس بكائن 1)

إلا من وراء حجاب، أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء، كذلك قال الله

تبارك وتعالى علوا كبيرا، قد كان الرسول يوحى إليه من رسل السماء

فيبلغ رسل السماء رسل الأرض 2)، وقد كان الكلام بين رسل أهل

الأرض وبينه من غير أن يرسل بالكلام مع رسل أهل السماء، وقد قال

رسول الله صلى الله عليه وآله: يا جبرئيل هل رأيت ربك، فقال جبرئيل: إن ربي لا يرى،

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: فمن أين تأخذ الوحي ؟ فقال: آخذه من إسرافيل

فقال: ومن أين يأخذه إسرافيل ؟ قال: يأخذه من ملك فوقه من

الروحانيين، قال: فمن أين يأخذه ذلك الملك ؟ قال: يقذف في قلبه قذفا،

فهذا وحي، وهو كلام الله عز وجل، وكلام الله ليس بنحو واحد، منه ما كلم

الله به الرسل، ومنه ما قذفه في قلوبهم، ومنه رؤيا يريها الرسل، ومنه وحي

وتنزيل يتلى ويقرأ، فهو كلام الله، فاكتف بما وصفت لك من كلام الله، فإن

معنى كلام الله ليس بنحو واحد فإن منه ما يبلغ به رسل السماء رسل

الأرض، قال: فرجت عني فرج الله عنك، وحللت عني عقدة فعظم الله

أجرك يا أمير المؤمنين .

____________________________________________________

صفحة 77

فقال عليه السلام: وأما قوله: هل تعلم له سميا فإن تأويله هل تعلم أحدا

اسمه الله غير الله تبارك وتعالى، فإياك أن تفسر القرآن برأيك حتى تفقهه

عن العلماء، فإنه رب تنزيل يشبه كلام البشر وهو كلام الله، وتأويله لا

يشبه كلام البشر، كما ليس شئ من خلقه يشبهه، كذلك لا يشبه فعله

تبارك وتعالى شيئا من أفعال البشر، ولا يشبه شئ من كلامه كلام البشر،

فكلام الله تبارك وتعالى صفته وكلام البشر أفعالهم، فلا تشبه كلام الله

بكلام البشر فتهلك وتضل، قال: فرجت عني فرج الله عنك، وحللت عني

عقدة فعظم الله أجرك يا أمير المؤمنين .

فقال عليه السلام: وأما قوله: وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض

ولا في السماء كذلك ربنا لا يعزب عنه شئ، وكيف يكون من خلق

الأشياء لا يعلم ما خلق وهو الخلاق العليم . وأما قوله: لا ينظر إليهم يوم

القيمة يخبر أنه لا يصيبهم بخير، وقد تقول العرب: والله ما ينظر إلينا فلان،

وإنما يعنون بذلك أنه لا يصيبنا منه بخير، فذلك النظر ها هنا من الله تعالى

إلى خلقه، فنظره إليهم رحمة منه لهم، وأما قوله: كلا إنهم عن ربهم يومئذ

لمحجوبون فإنما يعني بذلك يوم القيامة أنهم عن ثواب ربهم محجوبون .

قال: فرجت عني فرج الله عنك، وحللت عني عقدة فعظم الله أجرك .

فقال عليه السلام: وأما قوله: أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض

فإذا هي تمور وقوله وهو الله في السماوات وفي الأرض وقوله:

الرحمن على العرش استوى وقوله: وهو معكم أينما كنتم وقوله:

ونحن أقرب إليه من حبل الوريد فكذلك الله تبارك وتعالى سبوحا

قدوسا، تعالى أن يجري منه ما يجري من المخلوقين وهو اللطيف الخبير،

____________________________________________________

صفحة 78

وأجل وأكبر أن ينزل به شئ مما ينزل بخلقه وهو على العرش استوى

علمه، شاهد لكل نجوى، وهو الوكيل على كل شئ، والميسر لكل شئ،

والمدبر للأشياء كلها، تعالى الله عن أن يكون على عرشه علوا كبيرا .

فقال عليه السلام: وأما قوله: وجاء ربك والملك صفا صفا وقوله: ولقد

جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة، وقوله: هل ينظرون إلا أن

يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقوله: هل ينظرون إلا أن

تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك فإن ذلك حق

كما قال الله عز وجل، وليس له جيئة كجيئة الخلق، وقد أعلمتك أن رب

شئ من كتاب الله تأويله على غير تنزيله ولا يشبه كلام البشر، وسأنبئك

بطرف منه فتكتفي إن شاء الله، من ذلك قول إبراهيم عليه السلام: إني ذاهب إلى

ربي سيهدين 1) (1) فذهابه إلى ربه توجهه إليه عبادة واجتهادا وقربة إلى

الله عز وجل، ألا ترى أن تأويله غير تنزيله، وقال وأنزلنا الحديد فيه

بأس شديد 2) (2) يعني السلاح وغير ذلك، وقوله: هل ينظرون إلا أن

_____________________________

(1) الصافات: 99 .

(2) الحديد: 25 .

(3) مجمع البيان 4: 451 .

(4) مجمع البيان 5: 241 .

____________________________________________________

صفحة 79

تأتيهم الملائكة يخبر محمدا صلى الله عليه وآله عن المشركين والمنافقين الذين لم

يستجيبوا لله وللرسول، فقال: هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة حيث

لم يستجيبوا لله ولرسوله أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك يعني

بذلك العذاب يأتيهم في دار الدنيا كما عذب القرون الأولى، فهذا خبر

يخبر به النبي صلى الله عليه وآله عنهم، ثم قال: يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا

إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا يعني من قبل

أن يجئ هذه الآية، وهذه الآية طلوع الشمس من مغربها 1)، وإنما

يكتفي أولوا الألباب والحجى وأولوا النهى أن يعلموا أنه إذا انكشف الغطاء

رأوا ما يوعدون، وقال في آية أخرى: فأتاهم الله من حيث لم

يحتسبوا (1) يعني أرسل عليهم عذابا، وكذلك إتيانه بنيانهم قال الله عز

وجل: فأتى الله بنيانهم من القواعد (2) فإتيانه بنيانهم من القواعد إرسال

_____________________________

(1) الحشر: 2 .

(2) النحل: 26 .

(3) الحشر: 14 .

____________________________________________________

صفحة 80

العذاب عليهم، وكذلك ما وصف من أمر الآخرة تبارك اسمه وتعالى علوا

كبيرا أنه يجري أموره في ذلك اليوم الذي كان مقداره خمسين ألف سنة

كما يجري أموره في الدنيا لا يغيب ولا يأفل مع الآفلين، فاكتف

بما وصفت لك من ذلك مما جال في صدرك مما وصف الله عز وجل في

كتابه، ولا تجعل كلامه ككلام البشر، هو أعظم وأجل وأكرم وأعز تبارك

وتعالى من أن يصفه الواصفون إلا بما وصف به نفسه في قوله عز

وجل: ليس كمثله شئ وهو السميع البصير (1) قال: فرجت عني يا

أمير المؤمنين فرج الله عنك، وحللت عني عقدة .

فقال عليه السلام: وأما قوله: بل هم بلقاء ربهم كافرون وذكر الله المؤمنين

الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وقوله لغيرهم: إلى يوم يلقونه بما

أخلفوا الله ما وعدوه (2) وقوله: فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا

صالحا فأما قوله: بل هم بلقاء ربهم كافرون يعني البعث فسماه الله

عز وجل لقاءه، وكذلك ذكر المؤمنين الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم

يعني يوقنون أنهم يبعثون ويحشرون ويحاسبون ويجزون بالثواب

والعقاب، فالظن ها هنا اليقين خاصة، وكذلك قوله: فمن كان يرجوا لقاء

ربه فليعمل عملا صالحا وقوله: من كان يرجوا لقاء الله فإن أجل الله

لآت يعني: من كان يؤمن بأنه مبعوث فإن وعد الله لآت من الثواب

والعقاب، فاللقاء ههنا ليس بالرؤية، واللقاء هو البعث، فافهم جميع ما في

كتاب الله من لقائه فإنه يعني بذلك البعث، وكذلك قوله: تحيتهم يوم

يلقونه سلام يعني أنه لا يزول الايمان عن قلوبهم يوم يبعثون، قال:

_____________________________

(1) الشورى: 11 .

(2) التوبة: 77 .

____________________________________________________

صفحة 81

فرجت عني يا أمير المؤمنين فرج الله عنك، فقد حللت عني عقدة .

فقال عليه السلام: وأما قوله: ورأي المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها

يعني أيقنوا أنهم داخلوها وكذلك قوله إني ظننت أني ملاق حسابيه

يقول إني أيقنت أني أبعث فأحاسب، وكذلك قوله: يومئذ يوفيهم الله

دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين وأما قوله للمنافقين:

وتظنون بالله الظنونا فهذا الظن ظن شك وليس ظن يقين، والظن ظنان:

ظن شك وظن يقين، فما كان من أمر معاد من الظن فهو ظن يقين، وما

كان من أمر الدنيا فهو ظن شك فافهم ما فسرت لك، قال: فرجت عني يا

أمير المؤمنين فرج الله عنك .

فقال عليه السلام: وأما قوله تبارك وتعالى: ونضع الموازين القسط ليوم

القيمة فلا تظلم نفس شيئا 1) فهو ميزان العدل يؤخذ به الخلائق يوم

القيامة، يدين الله تبارك وتعالى الخلق بعضهم من بعض بالموازين .

وفي غير هذا الحديث الموازين هم الأنبياء والأوصياء عليهم السلام .

_____________________________

(1) مجمع البيان 4: 51 .

____________________________________________________

صفحة 82

وأما قوله عز وجل: فلا نقيم لهم يوم القيمة وزنا 1) فإن ذلك

خاصة . وأما قوله: فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب 2)

فإن رسول الله صلى الله عليه وآله قال قال الله عز وجل لقد حقت كرامتي أو قال:

مودتي - لمن يراقبني ويتحاب بجلالي إن وجوههم يوم القيامة من نور

على منابر من نور عليهم ثياب خضر، قيل: من هم يا رسول الله ؟ قال: قوم

ليسوا بأنبياء ولا شهداء، ولكنهم تحابوا بجلال الله ويدخلون الجنة بغير

حساب، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم برحمته . وأما قوله: فمن ثقلت

موازينه وخفت موازينه فإنما يعني الحساب، توزن الحسنات والسيئات،

والحسنات ثقل الميزان والسيئات خفة الميزان .

فقال عليه السلام: وأما قوله: قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى

_____________________________

(1) مجمع البيان 2: 399 .

____________________________________________________

صفحة 83

ربكم ترجعون وقوله: الله يتوفى الأنفس حين موتها وقوله: توفته

رسلنا وهم لا يفرطون وقوله: الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم

وقوله تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم فإن الله تبارك

وتعالى يدبر الأمور كيف يشاء، ويوكل من خلقه من يشاء بما يشاء، أما

ملك الموت فإن الله يوكله بخاصة من يشاء من خلقه، والملائكة الذين

سماهم الله عز ذكره وكلهم بخاصة من يشاء من خلقه، ويوكل رسله من

الملائكة خاصة بمن يشاء من خلقه، إنه تبارك وتعالى يدبر الأمور كيف

يشاء، وليس كل العلم يستطيع صاحب العلم أن يفسره لكل الناس لان

منهم القوي والضعيف، ولان منه ما يطاق حمله ومنه مالا يطاق حمله إلا

من يسهل الله له حمله وأعانه عليه من خاصة أوليائه، وإنما يكفيك أن

تعلم أن الله هو المحيي المميت وأنه يتوفى الأنفس على يدي من يشاء من

خلقه من ملائكته وغيرهم، قال: فرجت عني فرج الله عنك يا أمير

المؤمنين ونفع الله المسلمين بك .

فقال علي عليه السلام للرجل: إن كنت قد شرح الله صدرك بما قد تبينت لك

فأنت والذي فلق الحبة وبرأ النسمة من المؤمنين حقا، فقال الرجل: يا

أمير المؤمنين كيف لي أن أعلم بأني من المؤمنين حقا ؟ قال عليه السلام: لا يعلم

ذلك إلا من أعلمه الله على لسان نبيه صلى الله عليه وآله وشهد له رسول الله صلى الله عليه وآله بالجنة

أو شرح الله صدره ليعلم ما في الكتب التي أنزلها الله عز وجل على رسله

وأنبيائه، قال: يا أمير المؤمنين ومن يطيق ذلك ؟ قال: من شرح الله صدره

ووفقه له، فعليك بالعمل لله في سر أمرك وعلانيتك فلا شئ يعدل العمل .

قال مصنف هذا الكتاب: الدليل على أن الصانع 1) واحد لا أكثر من

____________________________________________________

صفحة 84

ذلك أنهما لو كانا اثنين لم يخل الامر فيهما من أن يكون كل واحد منهما

قادرا على منع صاحبه مما يريد أو غير قادر، فإن كان كذلك فقد جاز

عليهما المنع ومن جاز عليه ذلك فمحدث كما أن المصنوع محدث، وإن

لم يكونا قادرين لزمهما العجز والنقص وهما من دلالات الحدث، فصح

أن القديم واحد .

ودليل آخر وهو أن كل واحد منهما لا يخلو من أن يكون قادرا على

أن يكتم الاخر شيئا، فإن كان كذلك فالذي جاز الكتمان عليه حادث، وإن

لم يكن قادرا فهو عاجز والعاجز حادث لما بيناه، وهذا الكلام يحتج به

في إبطال قديمين صفة كل واحد منهما صفة القديم الذي أثبتناه، فأما ما

ذهب إليه ماني وابن ديصان من خرافاتهما في الامتزاج 1) ودانت به

_____________________________

(1) في الملل والنحل: فبعثت .

(2) في الملل: أجناس .

____________________________________________________

صفحة 85

المجوس من حماقاتها في أهرمن ففاسد 1) بما يفسد به قدم الأجسام،

ولدخولهما في تلك الجملة اقتصرت على هذا الكلام فيهما ولم افرد كلا

منهما بما يسأل عنه منه .

6 - حدثنا عبد الواحد بن محمد بن عبدوس النيسابوري العطار رضي الله عنه،

بنيسابور سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة، قال: حدثنا علي بن محمد بن

قتيبة النيسابوري قال: سمعت الفضل بن شاذان يقول: سأل رجل من

الثنوية أبا الحسن علي بن موسى الرضا عليهما السلام وأنا حاضر فقال له: إني

أقول: إن صانع العالم اثنان، فما الدليل على أنه واحد ؟ فقال: قولك: إنه

اثنان دليل على أنه واحد لأنك لم تدع الثاني إلا بعد إثباتك الواحد،

فالواحد مجمع عليه وأكثر من واحد مختلف فيه .

_____________________________

(1) الملل والنحل 1: 247 - 248 .

____________________________________________________

صفحة 86

37 - باب الرد

على الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة: وما من اله الا اله واحد

1 - أبي رحمه الله، قال: حدثنا أحمد بن إدريس ومحمد بن يحيى العطار،

عن محمد بن أحمد، عن إبراهيم بن هاشم، عن محمد بن حماد، عن

الحسن ابن إبراهيم، عن يونس بن عبد الرحمن، عن هشام بن الحكم، عن

جاثليق من جثالقة النصارى 1) يقال له: بريهة، قد مكث جاثليق النصرانية

سبعين سنة وكان يطلب الاسلام ويطلب من يحتج عليه ممن يقرأ كتبه

ويعرف المسيح بصفاته ودلائله وآياته، قال: وعرف بذلك حتى اشتهر في

النصارى والمسلمين واليهود والمجوس حتى افتخرت به النصارى وقالت:

لو لم يكن في دين النصرانية إلا بريهة لأجزأنا، وكان طالبا للحق

والاسلام مع ذلك وكانت معه امرأة تخدمه، طال مكثها معه، وكان يسر

إليها ضعف النصرانية وضعف حجتها، قال: فعرفت ذلك منه، فضرب بريهة

الامر ظهرا لبطن وأقبل يسأل فرق المسلمين والمختلفين في الاسلام من

أعلمكم ؟ وأقبل يسأل عن أئمة المسلمين وعن صلحائهم وعلمائهم وأهل

_____________________________

(1) القاموس المحيط 3: 217 .

____________________________________________________

صفحة 87

الحجى منهم، وكان يستقرئ فرقة فرقة لا يجد عند القوم شيئا، وقال:

لو كانت أئمتكم أئمة على الحق لكان عندكم بعض الحق، فوصفت له

الشيعة، ووصف له هشام بن الحكم .

فقال يونس بن عبد الرحمن: فقال لي هشام: بينما أنا على دكاني

على باب الكرخ 1) جالس وعندي قوم يقرأون علي القرآن فإذا أنا بفوج

النصارى معه ما بين القسيسين إلى غيرهم نحو من مائة رجل عليهم السواد

والبرانس، والجاثليق الأكبر فيهم بريهة حتى نزلوا حول دكاني وجعل لبريهة

كرسي يجلس عليه فقامت الأساقفة والرهابنة على عصيهم، وعلى رؤوسهم

برانسهم، فقال بريهة: ما بقي من المسلمين أحد ممن يذكر بالعلم بالكلام

إلا وقد ناظرته في النصرانية فما عندهم شئ وقد جئت أناظرك في

الاسلام، قال: فضحك هشام فقال: يا بريهة إن كنت تريد مني آيات كآيات

المسيح فليس أنا بالمسيح ولا مثله ولا أدانيه، ذاك روح طيبة خميصة 2)

مرتفعة، آياته ظاهرة، وعلاماته قائمة، قال بريهة: فأعجبني الكلام والوصف .

قال هشام: إن أردت الحجاح فهاهنا 3)، قال بريهة: نعم فإني أسألك

ما نسبة نبيكم هذا من المسيح نسبة الأبدان ؟ قال هشام: ابن عم جده

لامه لأنه من ولد إسحاق ومحمد من ولد إسماعيل قال

____________________________________________________

صفحة 88

بريهة، وكيف تنسبه إلى أبيه 1) ؟ قال هشام: إن أردت نسبه عندكم أخبرتك،

وإن أردت نسبه عندنا أخبرتك، قال بريهة: أريد نسبه عندنا، وظننت أنه

إذا نسبه نسبتنا أغلبه، قلت: فانسبه بالنسبة التي ننسبه بها، قال هشام: نعم،

تقولون: إنه قديم من قديم فأيهما الأب وأيهما الابن قال بريهة: الذي نزل

إلى الأرض الابن، قال هشام: الذي نزل إلى الأرض الأب 2) قال بريهة:

الابن رسول الأب، قال هشام: إن الأب أحكم من الابن لان الخلق خلق

الأب، قال بريهة: إن الخلق خلق الأب وخلق الابن، قال هشام: ما منعهما

أن ينزلا جميعا كما خلقا إذا اشتركا ؟ ! قال بريهة: كيف يشتركان وهما

شئ واحد إنما يفترقان بالاسم، قال هشام: إنما يجتمعان بالاسم 3)، قال

بريهة: جهل هذا الكلام 4)، قال هشام: عرف هذا الكلام 5)، قال بريهة: إن

____________________________________________________

صفحة 89

الابن متصل بالأب 1)، قال هشام: إن الابن منفصل من الأب 2)، قال بريهة:

هذا خلاف ما يعقله الناس 3)، قال هشام: إن كان ما يعقله الناس شاهدا

لنا 4) وعلينا فقد غلبتك لان الأب كان ولم يكن الابن فتقول: هكذا يا

بريهة ؟ قال: ما أقول: هكذا، قال: فلم استشهدت قوما لا تقبل شهادتهم

لنفسك، قال بريهة . إن الأب اسم والابن اسم بقدرة القديم 5) قال هشام:

الاسمان قديمان كقدم الأب والابن ؟ قال بريهة: لا ولكن الأسماء محدثة

قال: فقد جعلت الأب ابنا والابن أبا 6)، إن كان الابن أحدث هذه الأسماء

دون الأب فهو الأب، وإن كان الأب أحدث هذه الأسماء دون الابن فهو

الأب والابن أب وليس هاهنا ابن قال بريهة: إن الابن اسم للروح حين

____________________________________________________

صفحة 90

نزلت إلى الأرض، قال هشام: فحين لم تنزل إلى الأرض فاسمها ما هو ؟

قال بريهة: فاسمها ابن نزلت أو لم تنزل، قال هشام: فقبل النزول هذه

الروح كلها واحدة 1) واسمها اثنان، قال بريهة: هي كلها واحدة روح

واحدة، قال: قد رضيت أن تجعل بعضها ابنا وبعضها أبا، قال بريهة لا لان

اسم الأب هو اسم الابن واحد، قال هشام: فالابن أبو الأب، والأب أبو

الابن، والابن واحد 2)، قالت الأساقفة بلسانها لبريهة: ما مر بك مثل ذا قط

تقوم، فتحير بريهة وذهب ليقوم فتعلق به هشام، قال: ما يمنعك من

الاسلام ؟ أفي قلبك حزازة ؟ فقلها وإلا سألتك عن النصرانية مسألة واحدة

تبيت عليها ليلك هذا فتصبح وليس لك همة غيري، قالت الأساقفة: لا ترد

هذه المسألة لعلها تشككك قال بريهة: قلها يا أبا الحكم .

قال هشام: أفرأيتك الابن يعلم ما عند الأب ؟ قال: نعم، قال: أفرأيتك

الأب يعلم كل ما عند الابن ؟ قال: نعم، قال: أفرأيتك تخبر عن الابن أيقدر

على حمل كل ما يقدر عليه الأب ؟ قال: نعم، قال: أفرأيتك تخبر عن الأب

____________________________________________________

صفحة 91

أيقدر على كل ما يقدر عليه الابن ؟ قال: نعم، قال هشام: فكيف يكون

واحد منهما ابن صاحبه وهما متساويان 1) وكيف يظلم كل واحد منهما

صاحبه ؟ قال بريهة: ليس منهما ظلم، قال هشام: من الحق بينهما أن يكون

الابن أب الأب والأب ابن الابن، بت عليها يا بريهة، وافترق النصارى

وهم يتمنون أن لا يكونوا رأوا هشاما ولا أصحابه .

قال: فرجع بريهة مغتما مهتما حتى صار إلى منزله فقالت امرأته التي

تخدمه: مالي أراك مهتما مغتما ؟ فحكى لها الكلام الذي كان بينه وبين

هشام، فقالت لبريهة: ويحك أتريد أن تكون على حق أو على باطل ؟ !

فقال بريهة: بل على الحق، فقالت له: أينما وجدت الحق فمل إليه، وإياك

واللجاجة فان اللجاجة شك والشك شؤم وأهله في النار، قال: فصوب

قولها وعزم على الغدو على هشام .

قال: فغدا عليه وليس معه أحد من أصحابه، فقال: يا هشام ألك من

تصدر عن رأيه وترجع إلى قوله وتدين بطاعته ؟ قال هشام: نعم يا بريهة،

قال: وما صفته ؟ قال هشام: في نسبه أو في دينه ؟ قال: فيهما جميعا صفة

نسبه وصفة دينه، قال هشام: أما النسب خير الأنساب: رأس العرب

وصفوة قريش، وفاضل بني هاشم كل من نازعه في نسبه وجده أفضل

منه لان قريشا أفضل العرب وبني هاشم أفضل قريش وأفضل بني هاشم

خاصهم ودينهم وسيدهم، وكذلك ولد السيد أفضل من ولد غيره وهذا من

____________________________________________________

صفحة 92

ولد السيد، قال: فصف دينه، قال هشام: شرائعه أو صفة بدنه وطهارته ؟

قال: صفة بدنه وطهارته، قال هشام: معصوم فلا يعصي، وسخي فلا يبخل،

شجاع فلا يجبن، وما استودع من العلم فلا يجهل، حافظ للدين قائم بما

فرض عليه، من عترة الأنبياء، وجامع علم الأنبياء، يحلم عند الغضب،

وينصف عند الظلم، ويعين عند الرضا، وينصف من الولي والعدو، ولا

يسأل شططا في عدوه 1) ولا يمنع إفادة وليه، يعمل بالكتاب ويحدث

بالأعجوبات، من أهل الطهارات، يحكي قول الأئمة الأصفياء، لم تنقض له

حجة، ولم يجهل مسألة، يفتي في كل سنة، ويجلو كل مدلهمة .

قال بريهة: وصفت المسيح في صفاته وأثبته بحججه وآياته، إلا أن

الشخص بائن عن شخصه والوصف قائم بوصفه، فإن يصدق الوصف

نؤمن بالشخص، قال هشام: إن تؤمن ترشد وإن تتبع الحق لا تؤنب 2) .

ثم قال هشام: يا بريهة ما من حجة أقامها الله على أول خلقه إلا

أقامها على وسط خلقه وآخر خلقه فلا تبطل الحجج، ولا تذهب الملل،

____________________________________________________

صفحة 93

ولا تذهب السنن . قال بريهة: ما أشبه هذا بالحق وأقربه من الصدق، وهذه

صفة الحكماء يقيمون من الحجة ما ينفون به الشبهة، قال هشام: نعم،

فارتحلا حتى أتيا المدينة والمرأة معهما وهما يريدان أبا عبد الله عليه السلام فلقيا

موسى بن جعفر عليهما السلام فحكى له هشام الحكاية، فلما فرغ قال موسى بن

جعفر عليهما السلام: يا بريهة كيف علمك بكتابك ؟ قال: أنا به عالم، قال: كيف

ثقتك بتأويله ؟ قال: ما أوثقني بعلمي فيه قال: فابتدأ موسى بن جعفر عليهما السلام

بقراءة الإنجيل قال بريهة: والمسيح لقد كان يقرأ هكذا وما قرأ هذه

القراءة إلا المسيح، ثم قال بريهة: إياك كنت أطلب منذ خمسين سنة أو

مثلك، قال: فآمن وحسن إيمانه وآمنت المرأة وحسن إيمانها .

قال: فدخل هشام وبريهة والمرأة على أبي عبد الله عليه السلام، وحكى هشام

الحكاية والكلام الذي جرى بين موسى عليه السلام وبريهة، فقال أبو عبد

الله عليه السلام: ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم (1) فقال بريهة: جعلت

فداك أنى لكم التوراة والإنجيل وكتب الأنبياء ؟ قال: هي عندنا وراثة من

عندهم نقرؤها كما قرؤوها ونقولها كما قالوها، إن الله لا يجعل حجة في

أرضه يسأل عن شئ فيقول: لا أدري فلزم بريهة أبا عبد الله عليه السلام حتى

مات أبو عبد الله عليه السلام، ثم لزم موسى بن جعفر عليهما السلام حتى مات في زمانه

فغسله بيده وكفنه بيده ولحده بيده، وقال: هذا حواري من حواريي

المسيح يعرف حق الله عليه، قال: فتمنى أكثر أصحابه أن يكونوا مثله .

_____________________________

(1) آل عمران: 34 .

____________________________________________________

صفحة 94

38 - باب ذكر عظمة الله جل جلاله

1 - أبي رحمه الله، قال: حدثنا سعد بن عبد الله، قال: حدثنا إبراهيم بن هاشم

وغيره، عن خلف بن حماد، عن الحسين بن زيد الهاشمي عن أبي عبد

الله عليه السلام، قال: جاءت زينب العطارة الحولاء إلى نساء رسول الله صلى الله عليه وآله

وبناته وكانت تبيع منهن العطر فدخل رسول الله صلى الله عليه وآله وهي عندهن فقال

لها: إذا أتيتنا طابت بيوتنا، فقالت: بيوتك بريحك أطيب يا رسول الله، قال:

إذا بعت فأحسني ولا تغشي فإنه أتقى وأبقى 1) للمال، فقالت: ما جئت

بشئ من بيعي، وإنما جئتك أسألك عن عظمة الله، فقال: جل جلال الله،

سأحدثك عن بعض ذلك .

قال: ثم قال: إن هذه الأرض بمن فيها ومن عليها عند التي تحتها

كحلقة في فلاة قي وهاتان ومن فيهما ومن عليهما عند التي تحتها كحلقة

في فلاة قي 2) والثالثة حتى انتهى إلى السابعة، ثم تلا هذه الآية خلق

سبع سماوات ومن الأرض مثلهن (1) والسبع ومن فيهن ومن عليهن على

_____________________________

(1) الطلاق: 12 .

____________________________________________________

صفحة 95 - 96

ظهر الديك كحلقة في فلاة قي، والديك له جناحان جناح بالمشرق

وجناح بالمغرب ورجلاه في التخوم، والسبع والديك بمن فيه ومن

عليه على الصخرة كحلقة في فلاه قي، والسبع والديك والصخرة بمن فيها

ومن عليها على ظهر الحوت كحلقة في فلاة قي، والسبع والديك والصخرة

والحوت عند البحر المظلم كحلقة في فلاة قي، والسبع والديك والصخرة

والحوت والبحر المظلم عند الهواء كحلقة في فلاة قي والسبع والديك

والصخرة والحوت والبحر المظلم والهواء عند الثرى كحلقة في فلاة قي،

ثم تلا هذه الآية له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت

الثرى 1) (1) ثم انقطع الخبر 2) . والسبع والديك والصخرة والحوت

والبحر المظلم والهواء والثرى بمن فيه ومن عليه عند السماء كحلقة في

فلاة قي، وهذا والسماء الدنيا ومن فيها ومن عليها عند التي فوقها كحلقة

_____________________________

(1) طه: 6 .

(2) تفسير القمي 2: 328 - 329 .

(3) مجمع البيان 4: 2 .

____________________________________________________

صفحة 97

في فلاة قي، وهذا وهاتان السماءان عند الثالثة كحلقة في فلاة قي، وهذه

الثالثة ومن فيهن ومن عليهن عند الرابعة كحلقة في فلاة قي، حتى انتهى

إلى السابعة، وهذه السبع ومن فيهن ومن عليهن عند البحر المكفوف 1) عن

أهل الأرض كحلقة في فلاة قي، والسبع والبحر المكفوف عند جبال البرد

كحلقة في فلاة قي، ثم تلا هذه الآية وينزل من السماء من جبال فيها من

برد 2) (1) وهذه السبع والبحر المكفوف وجبال البرد عند حجب النور

كحلقة في فلاة قي، وهي سبعون ألف حجاب يذهب نورها بالابصار،

وهذه السبع والبحر المكفوف وجبال البرد والحجب عند الهواء الذي تحار

فيه القلوب كحلقة في فلاة قي، والسبع والبحر المكفوف وجبال البرد

والحجب والهواء في الكرسي كحلقة في فلاة قي، ثم تلا هذه الآية: وسع

كرسيه السماوات والأرض ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم (2) وهذه

السبع والبحر المكفوف وجبال البرد والحجب والهواء والكرسي عند العرش

_____________________________

(1) النور: 43 .

(2) البقرة: 255 .

(3) مجمع البيان 4: 148 .

____________________________________________________

صفحة 98

كحلقة في فلاة قي، ثم تلا هذه الآية الرحمن على العرش استوى 1) (1)

ما تحمله الاملاك إلا يقول لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله .

2 - أبي رحمه الله، قال: حدثنا سعد بن عبد الله، قال: حدثنا محمد بن عيسى

عن الحسن بن محبوب، عن عمرو بن شمر، عن جابر بن يزيد، قال:

سألت أبا جعفر عليه السلام عن قوله عز وجل: أفعيينا بالخلق الأول 2) بل هم

في لبس من خلق جديد (2) قال: يا جابر تأويل ذلك أن الله عز وجل إذا

أفنى هذا الخلق وهذا العالم وسكن أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار جدد

الله عالما غير هذا العالم وجدد خلقا من غير فحولة ولا إناث يعبدونه

ويوحدونه، وخلق لهم أرضا غير هذه الأرض تحملهم، وسماء غير هذه

السماء تظلهم، لعلك ترى أن الله إنما خلق هذا العالم الواحد، وترى أن الله

لم يخلق بشرا غيركم، بلى والله لقد خلق الله ألف ألف عالم، وألف ألف

آدم أنت في آخر تلك العوالم وأولئك الآدميين .

_____________________________

(1) طه: 5 .

(2) ق: 15 .

____________________________________________________

صفحة 99

3 - حدثنا أحمد بن الحسن القطان، قال: حدثنا أحمد بن يحيى بن

زكريا قال: حدثنا بكر بن عبد الله بن حبيب، عن تميم بن بهلول، عن نصر

ابن مزاحم المنقري، عن عمرو بن سعد، عن أبي مخنف لوط بن يحيى،

عن أبي منصور، عن زيد بن وهب، قال: سئل أمير المؤمنين علي بن

أبي طالب عليه السلام عن قدرة الله تعالى جلت عظمته، فقام خطيبا فحمد الله

وأثنى عليه، ثم قال: إن لله تبارك وتعالى ملائكة لو أن ملكا منهم هبط

إلى الأرض ما وسعته لعظم خلقه وكثرة أجنحته، ومنهم من لو كلفت

الجن والإنس أن يصفوه ما وصفوه لبعد ما بين مفاصله وحسن تركيب

صورته، وكيف يوصف من ملائكته من سبعمائة عام ما بين منكبيه

وشحمة اذنيه، ومنهم من يسد الأفق بجناح من أجنحته دون عظم

بدنه، ومنهم من السماوات إلى حجزته 1)، ومنهم من قدمه على غير

____________________________________________________

صفحة 101

قرار 1) في جو الهواء الأسفل والأرضون إلى ركبتيه، ومنهم من لو القي في

نقرة إبهامه جميع المياه لوسعتها، ومنهم من لو ألقيت السفن في دموع

عينيه لجرت دهر الداهرين، فتبارك الله أحسن الخالقين .

_____________________________

(1) شرح نهج البلاغة لابن ميثم البحراني 1: 160 - 162 .

(2) سورة فاطر: 1 .

____________________________________________________

صفحة 102

وسئل عليه السلام عن الحجب، فقال: أول الحجب سبعة، غلظ كل حجاب

مسيرة خمسمائة عام، بين كل حجا بين منها مسيرة خمسمائة عام،

والحجاب الثالث سبعون حجابا، بين كل حجا بين منها مسيرة خمسمائة

عام، وطوله خمسمائة عام، حجبة كل حجاب منها سبعون ألف ملك، قوة

كل ملك منهم قوة الثقلين، منها ظلمة، ومنها نور، ومنها نار، ومنها دخان،

ومنها سحاب، ومنها برق، ومنها مطر، ومنها رعد، ومنها ضوء، ومنها رمل،

ومنها جبل، ومنها عجاج، ومنها ماء، ومنها أنهار، وهي حجب مختلفة،

غلظ كل حجاب مسيرة سبعين ألف عام ثم سرادقات الجلال، وهي

سبعون سرادقا، في كل سرادق سبعون ألف ملك، بين كل سرادق وسرادق

مسيرة خمسمائة عام، ثم سرادق العز، ثم سرادق الكبرياء، ثم سرادق

العظمة، ثم سرادق القدس، ثم سرادق الجبروت، ثم سرادق الفخر ثم النور

الأبيض، ثم سرادق الوحدانية وهو مسيرة سبعين ألف عام في سبعين ألف

عام، ثم الحجاب الاعلى، وانقضى كلامه عليه السلام وسكت، فقال له عمر: لا

بقيت ليوم لا أراك فيه يا أبا الحسن .

4 - حدثنا أبو الحسن علي بن عبد الله بن أحمد الأسواري، قال:

حدثنا مكي بن أحمد بن سعدويه البرذعي، قال: أخبرنا عدي بن أحمد

ابن عبد الباقي أبو عمير بأذنة قال: حدثنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن

البراء، قال: حدثنا عبد المنعم بن إدريس، قال: حدثني أبي، عن وهب،

عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وآله، إن لله تبارك وتعالى ديكا رجلاه في تخوم

الأرض السابعة السفلى، ورأسه عند العرش، ثاني عنقه تحت العرش،

وملك من ملائكة الله عز وجل خلقه الله تبارك وتعالى ورجلاه في تخوم

____________________________________________________

صفحة 103

الأرض السابعة السفلى مضى مصعدا فيها مد الأرضين حتى خرج منها

إلى أفق السماء، ثم مضى فيها مصعدا حتى انتهى قرنه إلى العرش، وهو

يقول: سبحانك ربي، وإن لذلك الديك جناحين إذا نشرهما جاوزا المشرق

والمغرب، فإذا كان في آخر الليل نشر جناحيه وخفق بهما وصرخ

بالتسبيح يقول: سبحان الله الملك القدوس، سبحان الكبير المتعال

القدوس، لا إله إلا هو الحي القيوم، فإذا فعل ذلك سبحت ديكة الأرض

كلها وخفقت بأجنحتها وأخذت في الصراخ، فإذا سكن ذلك الديك في

السماء سكنت الديكة في الأرض، فإذا كان في بعض السحر نشر جناحيه

فجاوزا المشرق والمغرب وخفق بهما وصرخ بالتسبيح سبحان الله العظيم

سبحان الله العزيز القهار سبحان الله ذي العرش المجيد سبحان الله رب

العرش الرفيع فإذا فعل ذلك سبحت ديكة الأرض، فإذا هاج الديكة في

الأرض تجاوبه بالتسبيح والتقديس لله عز وجل، ولذلك الديك ريش

أبيض كأشد بياض ما رأيته قط، وله زغب أخضر تحت ريشه الأبيض

كأشد خضرة ما رأيتها قط فما زلت مشتاقا إلى أن أنظر إلى ريش ذلك

الديك . .

5 - وبهذا الاسناد عن النبي صلى الله عليه وآله، قال: إن لله تبارك وتعالى ملكا من

الملائكة نصف جسده الاعلى نار ونصفه الأسفل ثلج 1)، فلا النار تذيب

الثلج، ولا الثلج يطفئ النار، وهو قائم ينادي بصوت له رفيع: سبحان الله

____________________________________________________

صفحة 104

الذي كف حر هذه النار فلا تذيب هذا الثلج، وكف برد هذا الثلج فلا يطفئ

حر هذه النار، اللهم يا مؤلفا بين الثلج والنار ألف بين قلوب عبادك

المؤمنين على طاعتك .

6 - وبهذا الاسناد عن النبي صلى الله عليه وآله، قال: إن لله تبارك وتعالى ملائكة

ليس شئ من أطباق أجسادهم إلا وهو يسبح الله عز وجل 1) ويحمده من

ناحية بأصوات مختلفة، لا يرفعون رؤوسهم إلى السماء ولا يخفضونها إلى

أقدامهم من البكاء والخشية لله عز وجل .

7 - حدثنا محمد بن موسى بن المتوكل رضي الله عنه، قال: حدثنا محمد بن

أبي عبد الله الكوفي، عن موسى بن عمران النخعي، عن عمه الحسين بن

يزيد، عن إسماعيل بن مسلم، قال: حدثنا أبو نعيم البلخي، عن مقاتل بن

حيان، عن عبد الرحمن بن أبي ذر، عن أبي ذر الغفاري رحمة الله عليه،

قال: كنت آخذا بيد النبي صلى الله عليه وآله ونحن نتماشى جميعا، فما زلنا ننظر إلى

_____________________________

(1) بحار الأنوار 18: 323

____________________________________________________

صفحة 105

الشمس حتى غابت، فقلت: يا رسول الله أين تغيب، قال: في السماء ثم

ترفع من سماء إلى سماء حتى ترفع إلى السماء السابعة العليا حتى تكون

تحت العرش، فتخر ساجدة فتسجد معها الملائكة الموكلون بها، ثم تقول:

يا رب من أين تأمرني أن أطلع أمن مغربي أم من مطلعي ؟ فذلك قوله

تعالى: والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم 1) (1) يعني

بذلك صنع الرب العزيز في ملكه، العليم بخلقه . قال: فيأتيها جبرئيل بحلة

ضوء من نور العرش على مقادير ساعات النهار في طوله في الصيف أو

قصره في الشتاء أو ما بين ذلك في الخريف والربيع، قال: فتلبس تلك

_____________________________

(1) يس: 38 .

(2) سورة الأنبياء: 28 .

____________________________________________________

صفحة 106

الحلة كما يلبس أحدكم ثيابه، ثم تنطلق بها في جو السماء حتى تطلع من

مطلعها، قال النبي صلى الله عليه وآله: فكأني بها قد حبست مقدار ثلاث ليال ثم لا

تكسى ضوءا وتؤمر أن تطلع من مغربها، فذلك قوله عز وجل: إذا

الشمس كورت 1) * وإذا النجوم انكدرت . (1) والقمر كذلك من مطلعه

ومجراه في أفق السماء ومغربه وارتفاعه إلى السماء السابعة، ويسجد

تحت العرش ثم يأتيه جبرئيل بالحلة من نور الكرسي فذلك قوله عز

وجل: جعل الشمس ضياء * والقمر نورا 2) (2) قال أبو ذر رحمه الله: ثم

اعتزلت مع رسول الله صلى الله عليه وآله فصلينا المغرب .

8 - حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى العطار رحمه الله، قال: حدثنا أبي، قال:

حدثنا الحسين بن الحسن بن أبان، عن محمد بن أورمة، عن زياد القندي،

عن درست، عن رجل، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: إن لله تبارك وتعالى

ملكا بعد ما بين شحمة اذنه إلى عنقه مسيرة خمسمائة عام خفقان الطير .

_____________________________

(1) التكوير: 2 .

(2) يونس: 5 .

(3) مجمع البيان: 424 .

(4) مجمع البيان 5: 443 .

____________________________________________________

صفحة 107

9 - حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رحمه الله، قال: حدثنا أحمد

ابن إدريس، عن محمد بن أحمد، عن السياري، عن عبد الله بن حماد، عن

جميل بن دراج قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام هل في السماء بحار ؟ قال، نعم،

أخبرني أبي، عن أبيه، عن جده عليهم السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إن في

السماوات السبع لبحارا عمق أحدها مسيرة خمسمائة عام، فيها ملائكة

قيام منذ خلقهم الله عز وجل، والماء إلى ركبهم، ليس فيهم ملك إلا وله

ألف وأربعمائة جناح، في كل جناح أربعة وجوه، في كل وجه أربعة

ألسن، ليس فيها جناح ولا وجه ولا لسان ولا فم إلا وهو يسبح الله عز

وجل بتسبيح لا يشبه نوع منه صاحبه .

10 - حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رحمه الله، قال: حدثنا

محمد بن يحيى العطار، عن الحسين بن الحسن بن أبان، عن محمد بن

أورمة، عن أحمد بن الحسن الميثمي عن أبي الحسن الشعيري عن سعد

ابن طريف، عن الأصبغ بن نباتة، قال: جاء ابن الكواء إلى أمير

المؤمنين عليه السلام فقال: يا أمير المؤمنين والله إن في كتاب الله عز وجل لآية

قد أفسدت علي قلبي وشككتني في ديني، فقال له علي عليه السلام: ثكلتك أمك

وعدمتك وما تلك الآية ؟ قال: قول الله تعالى: والطير صافات كل قد علم

صلاته وتسبيحه 1) (1) فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: يا ابن الكواء إن الله

_____________________________

(1) النور: 41 .

____________________________________________________

صفحة 108

تبارك وتعالى خلق الملائكة في صور شتى إلا أن لله تبارك وتعالى ملكا

في صورة ديك أبح أشهب، براثنه 1) في الأرض السابعة السفلى وعرفه

مثنى تحت العرش له جناحان جناح في المشرق وجناح في المغرب

واحد من نار وآخر من ثلج، فإذا حضر وقت الصلاة قام على براثنه ثم

رفع عنقه من تحت العرش، ثم صفق بجناحيه كما تصفق الديوك في

منازلكم، فلا الذي من النار يذيب الثلج ولا الذي من الثلج يطفئ النار،

فينادي أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا سيد

النبيين وأن وصيه سيد الوصيين وأن الله سبوح قدوس رب الملائكة

والروح، قال: فتخفق الديكة بأجنحتها في منازلكم فتجيبه عن قوله وهو

قوله تعالى والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه من الديكة في

الأرض .

_____________________________

(1) مجمع البيان 4: 148 .

____________________________________________________

صفحة 109

11 - حدثنا أبي رحمه الله قال: حدثنا سعد بن عبد الله، عن أحمد بن محمد

ابن عيسى، عن الحسن بن علي، عن يونس بن يعقوب، عن عمرو بن

مروان، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن لله تبارك وتعالى ملائكة أنصافهم من

برد وأنصافهم من نار يقولون: يا مؤلفا بين البرد والنار ثبت قلوبنا على

طاعتك .

وسأخرج الاخبار التي رويتها في ذكر عظمة الله تبارك وتعالى في

كتاب العظمة إن شاء الله .

39 - باب لطف الله تبارك وتعالى

1 - حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رحمه الله، قال: حدثنا

محمد بن الحسن الصفار، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن أبيه، عن

سعيد بن جناح، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: ما خلق

الله خلقا أصغر من البعوض، والجرجس أصغر من البعوض، والذي

تسمونه الولغ 1) أصغر من الجرجس وما في الفيل شئ إلا وفيه مثله،

_____________________________

(1) صحاح اللغة 4: 1329، والقاموس المحيط 3: 115 .

____________________________________________________

صفحة 110

وفضل على الفيل بالجناحين .

40 - باب أدنى ما يجزئ من معرفة التوحيد

1 - حدثنا محمد بن علي ماجيلويه رحمه الله، قال: حدثنا علي بن إبراهيم

ابن هاشم، عن مختار بن محمد بن مختار الهمداني، عن الفتح بن يزيد

الجرجاني عن أبي الحسن عليه السلام، قال: سألته عن أدنى المعرفة، فقال:

الاقرار بأنه لا إله غيره ولا شبه له ولا نظير وأنه قديم مثبت موجود غير

فقيد 1) وأنه ليس كمثله شئ .

2 - حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رضي الله عنه، قال: حدثنا سعد

ابن عبد الله، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسين بن سعيد، عن

النضر بن سويد، عن عاصم بن حميد رفعه، قال: سئل علي بن

الحسين عليهما السلام عن التوحيد فقال: إن الله عز وجل علم أنه يكون في آخر

الزمان أقوام متعمقون فأنزل الله عز وجل قل هو الله أحد 2) * الله

الصمد والآيات من سورة الحديد - إلى قوله: وهو عليم بذات

الصدور فمن رام ما وراء هنالك هلك .

____________________________________________________

صفحة 111

3 - حدثنا علي بن أحمد بن محمد بن عمران الدقاق رحمه الله، قال: حدثنا

محمد بن أبي عبد الله الكوفي، قال: حدثنا محمد بن إسماعيل البرمكي، قال: حدثني الحسين بن الحسن، قال: حدثني بكر بن زياد، عن عبد

العزيز بن المهتدي، قال سألت الرضا عليه السلام عن التوحيد، فقال: كل من قرأ

قل هو الله أحد وآمن بها فقد عرف التوحيد، قلت: كيف يقرأها ؟ قال: كما

يقرأ الناس، وزاد فيه (كذلك الله ربي 1)، كذلك الله ربي، كذلك الله ربي) .

4 - أبي ومحمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد قالا: حدثنا محمد

ابن يحيى العطار، وأحمد بن إدريس جميعا، عن محمد بن أحمد، عن

بعض أصحابنا، عن محمد بن علي الطاحي عن طاهر بن حاتم بن ماهويه

قال: كتبت إلى الطيب يعني أبا الحسن موسى عليه السلام: ما الذي لا تجزئ

معرفة الخالق بدونه فكتب: ليس كمثله شئ ولم يزل سميعا وعليما

وبصيرا، وهو الفعال لما يريد .

5 - حدثنا محمد بن علي ماجيلويه رضي الله عنه، عن عمه محمد بن أبي

القاسم، عن محمد بن علي القرشي، قال: حدثنا محمد بن سنان، عن

محمد بن يعلى الكوفي، عن جويبر عن الضحاك، عن ابن عباس، قال:

____________________________________________________

صفحة 112

جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وآله فقال: يا رسول الله علمني من غرائب العلم،

قال: ما صنعت في رأس العلم حتى تسأل عن غرائبه ؟ ! قال الرجل: ما

رأس العلم يا رسول الله ؟ قال: معرفة الله حق معرفته، قال الاعرابي: وما

معرفة الله حق معرفته ؟ قال: تعرفه بلا مثل ولا شبه ولا ند 1) وأنه واحد

أحد ظاهر باطن أول آخر لا كفو له ولا نظير فذلك حق معرفته .

41 - باب أنه عز وجل لا يعرف إلا به

1 - حدثنا علي بن أحمد بن محمد بن عمران الدقاق رحمه الله، قال: حدثنا

محمد بن يعقوب الكليني، قال: حدثنا محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن

شاذان، عن صفوان بن يحيى، عن منصور بن حازم، قال: قلت لأبي عبد

الله عليه السلام: إني ناظرت قوما فقلت لهم: إن الله أجل وأكرم من أن يعرف

بخلقه، بل العباد يعرفون بالله 2) فقال: رحمك الله .

____________________________________________________

صفحة 113

2 - حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رحمه الله، قال: حدثنا محمد

ابن الحسن الصفار، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن بعض أصحابنا، عن

علي بن عقبة بن قيس بن سمعان بن أبي ربيحة مولى رسول الله صلى الله عليه وآله

رفعه قال: سئل أمير المؤمنين عليه السلام بم عرفت ربك ؟ فقال: بما عرفني نفسه،

قيل: وكيف عرفك نفسه ؟ فقال: لا تشبهه صورة، ولا يحس بالحواس، ولا

____________________________________________________

صفحة 114

يقاس بالناس 1)، قريب في بعده 2)، بعيد في قربه 3)، فوق كل شئ 4) ولا

يقال: شئ فوقه، أمام كل شئ 5) ولا يقال: له أمام، داخل في الأشياء 6)

لا كشئ في شئ داخل، وخارج من الأشياء لا كشئ من شئ خارج،

سبحان من هو هكذا ولا هكذا غيره، ولكل شئ مبتدئ 7) .

3 - حدثني أبي رحمه الله، قال: حدثنا سعد بن عبد الله، عن أحمد بن محمد

_____________________________

(1) أصول الكافي 1: 85 .

____________________________________________________

صفحة 115

ابن عيسى، عن محمد بن أبي عمير، عن محمد بن حمران عن الفضل بن

السكن، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: اعرفوا الله بالله

والرسول بالرسالة وأولي الأمر بالمعروف والعدل والاحسان 1) .

____________________________________________________

صفحة 117

4 - حدثنا أبو الحسين محمد بن إبراهيم بن إسحاق الفارسي، قال:

حدثنا أحمد بن محمد أبو سعيد النسوي، قال: حدثنا أبو نصر أحمد بن

محمد بن عبد الله الصغدي بمرو قال: حدثنا محمد بن يعقوب بن الحكم

العسكري وأخوه معاذ بن يعقوب قالا: حدثنا محمد بن سنان الحنظلي،

قال: حدثنا عبد الله بن عاصم، قال: حدثنا عبد الرحمن بن قيس، عن أبي

هاشم الرماني، عن زاذان، عن سلمان الفارسي في حديث طويل يذكر فيه

قدوم الجاثليق المدينة مع مائة من النصارى وما سأل عنه أبا بكر فلم

يجبه ثم أرشد إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام فسأله عن مسائل

فأجابه عنها، وكان فيما سأله أن قال له: أخبرني عرفت الله بمحمد أم

عرفت محمدا بالله عز وجل ؟ فقال علي بن أبي طالب عليه السلام: ما عرفت الله

بمحمد صلى الله عليه وآله، ولكن عرفت محمدا بالله عز وجل حين خلقه وأحدث فيه

الحدود من طول وعرض، فعرفت أنه مدبر مصنوع باستدلال وإلهام منه

وإرادة كما ألهم الملائكة طاعته وعرفهم نفسه بلا شبه ولا كيف .

والحديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة، وقد أخرجته بتمامه في

آخر أجزاء كتاب النبوة .

5 - حدثنا علي بن أحمد بن محمد بن عمران الدقاق رحمه الله، قال:

سمعت محمد بن يعقوب يقول: معنى قوله (اعرفوا الله بالله) يعني: أن الله

عز وجل خلق الأشخاص والألوان والجواهر، فالأعيان الأبدان، والجواهر

الأرواح، وهو عز وجل لا يشبه جسما ولا روحا، وليس لاحد في خلق

الروح الحساس الدراك أثر ولا سبب، هو المتفرد بخلق الأرواح

والأجسام، فمن نفى عنه الشبهين: شبه الأبدان وشبه الأرواح فقد عرف الله

____________________________________________________

صفحة 118

بالله ومن شبهه بالروح أو البدن أو النور فلم يعرف الله بالله .

6 - حدثنا أحمد بن زياد بن جعفر الهمداني رحمه الله، قال: حدثنا علي بن

إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن محمد بن سنان، عن زياد بن المنذر، عن

أبي جعفر محمد بن علي الباقر، عن أبيه، عن جده عليهم السلام أنه قال: إن رجلا

قام إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال: يا أمير المؤمنين بماذا عرفت ربك ؟ قال:

بفسخ العزم ونقض الهم، لما هممت فحيل بيني وبين همي، وعزمت

فخالف القضاء عزمي علمت أن المدبر غيري، قال: فبماذا شكرت نعماءه ؟

قال: نظرت إلى بلاء قد صرفه عني وأبلى به غيري فعلمت أنه قد أنعم

علي فشكرته، قال: فلماذا أحببت لقاءه، قال: لما رأيته قد اختار لي دين

ملائكته ورسله وأنبيائه علمت أن الذي أكرمني بهذا ليس ينساني

فأحببت لقاءه .

7 - حدثنا أحمد بن محمد بن عبد الرحمن المروزي المقري، قال:

حدثنا أبو عمرو محمد بن جعفر المقري، قال: حدثنا محمد بن الحسن

الموصلي ببغداد قال: حدثنا محمد بن عاصم الطريفي، قال: حدثنا عياش

ابن يزيد بن الحسن بن علي الكحال مولى زيد بن علي قال: حدثني أبي،

قال: حدثني موسى بن جعفر عليهما السلام قال: قال قوم للصادق عليه السلام: ندعو فلا

يستجاب لنا، قال: لأنكم تدعون من لا تعرفونه 1) .

8 - حدثنا الحسين بن أحمد بن إدريس رحمه الله، قال: حدثنا أبي قال:

____________________________________________________

صفحة 119

حدثنا إبراهيم بن هاشم، عن محمد بن أبي عمير، عن هشام بن سالم،

قال: سئل أبو عبد الله عليه السلام فقيل له: بما عرفت ربك ؟ قال: بفسخ العزم

ونقض الهم عزمت ففسخ عزمي، وهممت فنقض همي .

9 - حدثنا الحسين بن إبراهيم بن أحمد بن هشام المؤدب رضي الله عنه، قال:

حدثنا محمد بن أبي عبد الله الكوفي، قال: حدثنا محمد بن إسماعيل

البرمكي قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن الخزاز الكوفي، قال: حدثنا

سليمان بن جعفر قال: حدثنا علي بن الحكم، قال: حدثنا هشام بن سالم،

قال: حضرت محمد بن النعمان الأحول، فقام إليه رجل فقال له: بم عرفت

ربك ؟ قال بتوفيقه وإرشاده وتعريفه وهدايته، قال: فخرجت من عنده،

فلقيت هشام بن الحكم فقلت له: ما أقول لمن يسألني فيقول لي بم عرفت

ربك ؟ فقال: إن سأل سائل فقال: بم عرفت ربك ؟ قلت: عرفت الله جل

جلاله بنفسي لأنها أقرب الأشياء إلي، وذلك أني أجدها أبعاضا مجتمعة

وأجزاء مؤتلفة، ظاهرة التركيب، متبينة الصنعة، مبنية على ضروب من

التخطيط والتصوير، زائدة من بعد نقصان، وناقصة من بعد زيادة، قد أنشأ

لها حواس مختلفة، وجوارح متباينة - من بصر وسمع وشام وذائق ولا

مس - مجبولة على الضعف والنقص والمهانة، لا تدرك واحدة منها مدرك

صاحبتها ولا تقوى على ذلك، عاجزة عند اجتلاب المنافع إليها، ودفع

المضار عنها، واستحال في العقول وجود تأليف لا مؤلف له، وثبات صورة

لا مصور لها، فعلمت أن لها خالقا خلقها، ومصورا صورها، مخالفا لها

على جميع جهاتها قال الله عز وجل وفي أنفسكم أفلا تبصرون (1) .

_____________________________

(1) الذارايات: 21 .

____________________________________________________

صفحة 120

10 - حدثنا علي بن أحمد بن محمد بن عمران الدقاق رحمه الله، قال:

حدثنا محمد بن جعفر أبو الحسين الأسدي، قال: حدثنا الحسين بن

المأمون القرشي عن عمر بن عبد العزيز، عن هشام بن الحكم، قال: قال

لي أبو شاكر الديصاني: إن لي مسألة تستأذن لي على صاحبك، فإني قد

سألت عنها جماعة من العلماء فما أجابوني بجواب مشبع، فقلت: هل لك

أن تخبرني بها فلعل عندي جوابا ترتضيه فقال: إني أحب أن ألقى بها أبا

عبد الله عليه السلام، فاستأذنت له فدخل فقال له: أتأذن لي في السؤال ؟ فقال له:

سل عما بدا لك، فقال له: ما الدليل على أن لك صانعا ؟ فقال: وجدت

نفسي لا تخلو من إحدى جهتين: إما أن أكون صنعتها أنا أو صنعها غيري،

فإن كنت صنعتها أنا فلا أخلو من أحد معنيين: إما أن أكون صنعتها وكانت

موجودة، أو صنعتها وكانت معدومة، فإن كنت صنعتها وكانت موجودة

فقد استغنت بوجودها عن صنعتها، وإن كانت معدومة فإنك تعلم أن

المعدوم لا يحدث شيئا، فقد ثبت المعنى الثالث أن لي صانعا وهو الله رب

العالمين فقام وما أحار جوابا .

قال مصنف هذا الكتاب: القول الصواب في هذا الباب 1) هو أن يقال:

عرفنا الله بالله لأنا إن عرفناه بعقولنا فهو عز وجل واهبها، وإن عرفناه عز

وجل بأنبيائه ورسله وحججه عليهم السلام فهو عز وجل باعثهم ومرسلهم

____________________________________________________

صفحة 121

ومتخذهم حججا، وإن عرفناه بأنفسنا فهو عز وجل محدثها، فبه عرفناه،

وقد قال الصادق عليه السلام: (لولا الله ما عرفنا ولولا نحن ما عرف الله) ومعناه

لولا الحجج ما عرف الله حق معرفته، ولولا الله ما عرف الحجج، وقد

سمعت بعض أهل الكلام يقول: لو أن رجلا ولد في فلاة من الأرض ولم

ير أحدا يهديه ويرشده حتى كبر وعقل ونظر إلى السماء والأرض لدله

ذلك على أن لهما صانعا ومحدثا، فقلت: إن هذا شئ لم يكن 1)، وهو

إخبار بما لم يكن أن لو كان كيف كان يكون، ولو كان ذلك لكان لا يكون

ذلك الرجل إلا حجة الله تعالى ذكره على نفسه، كما في الأنبياء عليهم السلام منهم

من بعث إلى نفسه، ومنهم من بعث إلى أهله وولده، ومنهم من بعث إلى

أهل محلته، ومنهم من بعث إلى أهل بلده، ومنهم من بعث إلى الناس كافة .

وأما استدلال إبراهيم الخليل عليه السلام بنظره إلى الزهرة ثم إلى القمر ثم إلى

الشمس، وقوله لما أفلت: يا قوم إني برئ مما تشركون فإنه عليه السلام كان

نبيا ملهما مبعوثا مرسلا وكان جميع قوله بإلهام الله عز وجل إياه، وذلك

قوله عز وجل: وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه (1) وليس كل

_____________________________

(1) الانعام: 83 .

____________________________________________________

صفحة 122

أحد كإبراهيم عليه السلام، ولو استغنى في معرفة التوحيد بالنظر عن تعليم الله عز

وجل وتعريفه لما أنزل الله عز وجل ما أنزل من قوله: فاعلم أنه لا إله إلا

الله (1) ومن قوله: قل هو الله أحد - إلى آخرها ومن قوله: بديع

السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة - إلى قوله - وهو

اللطيف الخبير (2) وآخر الحشر، وغيرها من آيات التوحيد .

42 - باب إثبات حدوث العالم

1 - حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رحمه الله، قال: حدثنا محمد

ابن الحسن الصفار، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسين بن سعيد،

قال حدثني علي بن منصور، قال: سمعت هشام بن الحكم يقول: دخل أبو

شاكر الديصاني على أبي عبد الله عليه السلام فقال له: إنك أحد النجوم الزواهر،

وكان آباؤك بدورا بواهر 1)، وأمهاتك عقيلات عباهر 2)، وعنصرك من

_____________________________

(1) محمد: 19 .

(2) الانعام: 103 .

____________________________________________________

صفحة 123

أكرم العناصر، وإذا ذكر العلماء فبك تثنى الخناصر 1) فخبرني أيها البحر

الخضم 2) الزاخر ما الدليل على حدوث العالم ؟ فقال: أبو عبد الله عليه السلام:

نستدل عليه بأقرب الأشياء قال: وما هو ؟ قال: فدعا أبو عبد الله عليه السلام

ببيضة فوضعها على راحته فقال: هذا حصن ملموم 3) داخله غرقى 4)

رقيق لطيف به فضة سائلة وذهبة مائعة ثم تنفلق، عن مثل الطاووس،

أدخلها شئ ؟ فقال: لا، قال: فهذا الدليل على حدوث العالم، قال:

أخبرت فأوجزت، وقلت فأحسنت، وقد علمت أنا لا نقبل إلا ما أدركناه

بأبصارنا، أو سمعناه بآذاننا، أو شممناه بمناخرنا أو ذقناه بأفواهنا أو

لمسناه بأكفنا أو تصور في القلوب بيانا أو استنبطه الرويات إيقانا، قال أبو

عبد الله: ذكرت الحواس الخمس وهي لا تنفع شيئا بغير دليل 5) كما لا

يقطع الظلمة بغير مصباح .

_____________________________

(1) نهاية ابن الأثير 3: 281 .

(2) صحاح اللغة 2: 669 .

____________________________________________________

صفحة 124

2 - حدثنا أحمد بن زياد بن جعفر الهمداني رضي الله عنه، قال: حدثنا علي بن

إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن العباس بن عمرو الفقيمي، عن هشام بن

الحكم أن ابن أبي العوجاء دخل على الصادق عليه السلام فقال له: يا ابن أبي

العوجاء أمصنوع أنت أم غير مصنوع ؟ ! فقال: لا، لست بمصنوع 1)، فقال

له الصادق عليه السلام: فلو كنت مصنوعا كيف كنت تكون فلم يحر ابن أبي

العوجاء جوابا 2)، وقام وخرج .

3 - حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى العطار رحمه الله قال: حدثنا سعد بن

عبد الله، قال: حدثنا إبراهيم بن هاشم، عن علي بن معبد، عن الحسين بن

خالد، عن أبي الحسن علي بن موسى الرضا عليهما السلام أنه دخل عليه رجل

فقال له: يا ابن رسول الله ما الدليل على حدث العالم ؟ قال: أنت لم تكن

ثم كنت، وقد علمت أنك لم تكون نفسك ولا كونك من هو مثلك .

4 - حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رحمه الله، قال: حدثنا

محمد بن الحسن الصفار، عن إبراهيم بن هاشم، عن محمد بن حماد، عن

_____________________________

(1) الارشاد 2: 203 .

____________________________________________________

صفحة 125

الحسن بن إبراهيم عن يونس بن عبد الرحمن، عن يونس بن يعقوب،

قال: قال لي علي بن منصور: قال لي هشام بن الحكم: كان زنديق بمصر

يبلغه عن أبي عبد الله عليه السلام علم فخرج إلى المدينة ليناظره فلم يصادفه بها،

فقيل له: هو بمكة فخرج الزنديق إلى مكة، ونحن مع أبي عبد الله عليه السلام،

فقاربنا الزنديق ونحن مع أبي عبد الله عليه السلام في الطواف فضرب كتفه كتف

أبي عبد الله عليه السلام، فقال له أبو عبد الله جعفر عليه السلام: ما اسمك ؟ قال: اسمي

عبد الملك، قال: فما كنيتك 1) ؟ قال: أبو عبد الله، قال: فمن الملك الذي

أنت له عبد، أمن ملوك السماء أم من ملوك الأرض ؟ ! وأخبرني عن ابنك

أعبد إله السماء ؟ أم عبد إله الأرض ؟ ! فسكت، فقال أبو عبد الله عليه السلام: قل

ما شئت تخصم 2)، قال هشام بن الحكم: قلت للزنديق: أما ترد عليه ؟ !

_____________________________

(1) سورة النمل: 14 .

____________________________________________________

صفحة 126

فقبح قولي: فقال له أبو عبد الله عليه السلام: إذا فرغت من الطواف فأتنا، فلما فرغ

أبو عبد الله عليه السلام أتاه الزنديق، فقعد بين يديه، ونحن مجتمعون عنده، فقال

للزنديق: أتعلم أن للأرض تحتا وفوقا ؟ ! قال: نعم 1)، قال فدخلت تحتها ؟ !

قال: لا، قال: فما يدريك بما تحتها ؟ ! قال: لا أدري إلا أني أظن أن ليس

تحتها شئ، قال أبو عبد الله عليه السلام: فالظن عجز ما لم تستيقن، قال أبو عبد

الله: فصعدت السماء ؟ ! قال: لا، قال: فتدري ما فيها ؟ ! قال: لا، قال: فأتيت

المشرق والمغرب فنظرت ما خلفهما ؟ ! قال: لا، قال: فعجبا لك، لم تبلغ

المشرق ولم تبلغ المغرب ولم تنزل تحت الأرض ولم تصعد السماء ولم

تخبر هنالك فتعرف ما خلفهن وأنت جاحد ما فيهن، وهل يجحد العاقل

____________________________________________________

صفحة 127

ما لا يعرف ؟ ! فقال الزنديق: ما كلمني بهذا أحد غيرك، قال أبو عبد

الله عليه السلام: فأنت في شك من ذلك، فلعل هو أو لعل ليس هو، قال الزنديق:

ولعل ذاك، فقال أبو عبد الله عليه السلام: أيها الرجل ليس لمن لا يعلم حجة على

من يعلم، فلا حجة للجاهل على العالم، يا أخا أهل مصر تفهم عني، فإنا لا

نشك في الله أبدا، أما ترى الشمس والقمر والليل والنهار يلجان

ولا يشتبهان 1)، يذهبان ويرجعان، قد اضطرا، ليس لهما مكان إلا

____________________________________________________

صفحة 128

مكانهما 1)، فإن كانا يقدران 2) على أن يذهبا فلا يرجعان فلم يرجعان ؟ !

وإن لم يكونا مضطرين فلم لا يصير الليل نهارا والنهار ليلا، اضطرا والله 3)

يا أخا أهل مصر إلى داومهما، والذي اضطرهما أحكم منهما وأكبر منهما،

قال الزنديق: صدقت .

ثم قال أبو عبد الله عليه السلام: يا أخا أهل مصر ! الذي تذهبون إليه وتظنونه

____________________________________________________

صفحة 129

بالوهم فإن كان الدهر يذهب بهم لم لا يردهم 1)، وإن كان يردهم لم لا

يذهب بهم، القوم مضطرون 2)، يا أخا أهل مصر السماء مرفوعة والأرض

موضوعة، لم لا تسقط السماء على الأرض 3)، ولم لا تنحدر الأرض فوق

طباقها 4) ؟ فلا يتماسكان ولا يتماسك من عليهما، فقال الزنديق: أمسكهما

والله ربهما وسيدهما فآمن الزنديق على يدي أبي عبد الله عليه السلام فقال له

حمران بن أعين: جعلت فداك إن آمنت الزنادقة على يديك فقد آمنت

الكفار على يدي أبيك، فقال المؤمن الذي آمن على يدي أبي عبد الله عليه السلام:

اجعلني من تلامذتك، فقال أبو عبد الله عليه السلام لهشام بن الحكم: خذه إليك

فعلمه، فعلمه هشام، فكان معلم أهل مصر 5) وأهل شام، وحسنت طهارته

حتى رضي بها أبو عبد الله عليه السلام .

____________________________________________________

صفحة 130

5 - حدثنا أبي ومحمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد، قالا: حدثنا

أحمد بن إدريس، ومحمد بن يحيى العطار، عن محمد بن أحمد، عن سهل

ابن زياد، عن محمد بن الحسين، عن علي بن يعقوب الهاشمي، عن مروان

ابن مسلم، قال: دخل ابن أبي العوجاء على أبي عبد الله عليه السلام فقال: أليس

تزعم أن الله خالق كل شئ ؟ فقال أبو عبد الله عليه السلام: بلى، فقال: أنا أخلق،

فقال عليه السلام له: كيف تخلق ؟ ! فقال: أحدث في الموضع ثم ألبث عنه فيصير

دواب 1)، فأكون أنا الذي خلقتها، فقال أبو عبد الله عليه السلام: أليس خالق

الشئ يعرف كم خلقه ؟ قال: بلى، قال: فتعرف الذكر منها من الأنثى،

وتعرف كم عمرها ؟ ! فسكت .

6 - حدثنا علي بن أحمد بن محمد بن عمران الدقاق رحمه الله قال: حدثنا

محمد بن يعقوب الكليني بإسناده رفع الحديث أن ابن أبي العوجاء حين

كلمه أبو عبد الله عليه السلام عاد إليه في اليوم الثاني فجلس وهو ساكت لا ينطق،

فقال أبو عبد الله عليه السلام: كأنك جئت تعيد بعض ما كنا فيه، فقال: أردت ذاك

يا ابن رسول الله فقال أبو عبد الله عليه السلام: ما أعجب هذا، تنكر الله وتشهد أني

ابن رسول الله، فقال: العادة تحملني على ذلك، فقال له العالم عليه السلام: فما

يمنعك من الكلام ؟ قال: إجلالا لك ومهابة ما ينطلق لساني بين يديك

فإني شاهدت العلماء وناظرت المتكلمين فما تداخلني هيبة قط مثل ما

_____________________________

(1) في (س): التكوين .

____________________________________________________

صفحة 131

تداخلني من هيبتك، قال: يكون ذلك، ولكن أفتح عليك بسؤال وأقبل

عليه، فقال له: أمصنوع أنت أم غير مصنوع ؟ ! فقال عبد الكريم بن أبي

العوجاء انا غير مصنوع فقال له العالم عليه السلام: فصف لي لو كنت مصنوعا كيف

كنت تكون فبقي عبد الكريم مليا لا يحير جوابا، وولع بخشبة كانت بين

يديه وهو يقول: طويل عريض عميق قصير متحرك ساكن 1)، كل ذلك

صفة خلقه 2) فقال له العالم عليه السلام: فإن كنت لم تعلم صفة الصنعة غيرها فاجعل

نفسك مصنوعا 3) لما تجد في نفسك مما يحدث من هذه الأمور، فقال له

عبد الكريم: سألتني عن مسألة لم يسألني أحد عنها قبلك ولا يسألني

أحد بعدك عن مثلها، فقال له أبو عبد الله عليه السلام: هبك علمت 4) أنك لم تسأل

_____________________________

(1) القاموس المحيط 1: 138 .

____________________________________________________

صفحة 132

فيما مضى فما علمك أنك لا تسأل فيما بعد، على أنك يا عبد الكريم نقضت

قولك لأنك تزعم أن الأشياء من الأول 1) سواء فكيف قدمت وأخرت .

ثم قال: يا عبد الكريم أزيدك وضوحا أرأيت لو كان معك كيس فيه

جواهر فقال لك قائل: هل في الكيس دينار ؟ فنفيت كون الدينار في

الكيس، فقال لك قائل: صف لي الدينار وكنت غير عالم بصفته، هل كان

لك أن تنفي كون الدينار في الكيس وأنت لا تعلم ؟ قال: لا، فقال أبو عبد

الله عليه السلام: فالعالم أكبر وأطول وأعرض من الكيس، فلعل في العالم صنعة لا

تعلم صفة الصنعة من غير الصنعة فانقطع عبد الكريم، وأجاب إلى الاسلام

بعض أصحابه، وبقي معه بعض .

____________________________________________________

صفحة 133

فعاد في اليوم الثالث فقال: أقلب السؤال ؟ فقال له أبو عبد الله عليه السلام:

سل عما شئت فقال: ما الدليل على حدث الأجسام ؟ فقال: إني ما وجدت

شيئا صغيرا ولا كبيرا إلا إذا ضم إليه مثله صار أكبر، وفي ذلك زوال

وانتقال عن الحالة الأولى 1) ولو كان قديما ما زال ولا حال لان الذي

يزول ويحول يجوز أن يوجد ويبطل، فيكون بوجوده بعد عدمه دخول

في الحدث، وفي كونه في الأولى دخوله في العدم، ولن يجتمع صفة الأزل

والعدم في شئ واحد فقال عبد الكريم: هبك علمت في جري الحالتين

والزمانين على ما ذكرت واستدللت على حدوثها، فلو بقيت الأشياء على

_____________________________

(1) بحار الأنوار 3: 48 .

(2) بحار الأنوار 3: 48 - 49

____________________________________________________

صفحة 134

صغرها من أين كان لك أن تستدل على حدوثها 1) ؟ فقال العالم عليه السلام: إنما

نتكلم على هذا العالم الموضوع، فلو رفعناه وعالما آخر كان لا

شئ أدل على الحدث من رفعنا إياه ووضعنا غيره ولكن أجيبك من

حيث قدرت أنك تلزمنا 2)، ونقول: إن الأشياء لو دامت على صغرها

لكان في الوهم أنه متى ما ضم شئ منه إلى مثله كان أكبر، وفي جواز

التغير عليه خروجه من القدم كما بان في تغيره دخوله في الحدث، ليس

لك وراءه شئ يا عبد الكريم، فانقطع وخزي .

فلما كان من العام القابل التقى معه في الحرم، فقال له بعض شيعته: إن

ابن أبي العوجاء قد أسلم، فقال العالم عليه السلام: هو أعمى من ذلك لا يسلم،

فلما بصر بالعالم عليه السلام قال: سيدي ومولاي، فقال له العالم عليه السلام: ما جاء بك

إلى هذا الموضع ؟ فقال: عادة الجسد وسنة البلد ولنبصر ما الناس فيه من

الجنون والحلق ورمي الحجارة، فقال العالم عليه السلام: أنت بعد على عتوك

وضلالك يا عبد الكريم، فذهب يتكلم، فقال له: لا جدال في الحج ونفض

_____________________________

(1) بحار الأنوار 3: 49 .

____________________________________________________

صفحة 135

رداءه من يده، وقال: إن يكن الامر كما تقول - وليس كما تقول - نجونا

ونجوت، وإن يكن الامر كما نقول - وهو كما نقول - نجونا وهلكت،

فأقبل عبد الكريم على من معه فقال: وجدت في قلبي حزازة فردوني،

فردوه ومات لا رحمه الله .

قال مصنف هذا الكتاب رحمه الله: من الدليل على حدث الأجسام أنا

وجدنا أنفسنا وسائر الأجسام لا تنفك مما يحدث من الزيادة والنقصان

وتجري عليها من الصنعة والتدبير ويعتورها من الصور والهيئات، وقد

علمنا ضرورة أنا لم نصنعها ولا من هو من جنسنا وفي مثل حالنا صنعها،

وليس يجوز في عقل، ولا يتصور في وهم أن يكون ما لم ينفك من

الحوادث ولم يسبقها قديما، ولا أن توجد هذه الأشياء على ما نشاهدها

عليه من التدبير ونعاينه فيها من اختلاف التقدير، لا من صانع، أو تحدث

لا بمدبر، ولو جاز أن يكون العالم بما فيه من إتقان الصنعة وتعلق بعضه

ببعض وحاجة بعضه إلى بعض، لا بصانع صنعه، ويحدث لا بموجد أوجده

لكان ما هو دونه من الاحكام والاتقان أحق بالجواز وأولى بالتصور

والامكان، وكان يجوز على هذا الوضع وجود كتابة لا كاتب لها، ودار

مبنية لا باني لها، وصورة محكمة لا مصور لها، ولا يمكن في القياس أن

تأتلف سفينة على أحكم نظم وتجتمع على أتقن صنع لا بصانع صنعها، أو

جامع جمعها، فلما كان ركوب هذا وإجازته خروجا عن النهاية والعقول

كان الأول مثله، بل غير ما ذكرناه في العالم وما فيه من ذكر أفلاكه

واختلاف أوقاته وشمسه وقمره وطلوعهما وغروبهما ومجئ برده وقيظه

____________________________________________________

صفحة 136

في أوقاتهما واختلاف ثماره وتنوع أشجاره ومجئ ما يحتاج إليه منها

في إبانه ووقته أشد مكابرة وأوضح معاندة . وهذا واضح والحمد لله .

وسألت بعض أهل التوحيد والمعرفة عن الدليل على حدث

الأجسام، فقال: الدليل على حدث الأجسام أنها لا تخلو في وجودها من

كون وجودها مضمن بوجوده، والكون هو المحاذاة في مكان دون مكان،

ومتى وجد الجسم في محاذاة دون محاذاة مع جواز وجوده في محاذاة

أخرى علم أنه لم يكن في تلك المحاذاة المخصوصة إلا لمعنى، وذلك

المعنى محدث، فالجسم إذا محدث إذ لا ينفك من المحدث ولا يتقدمه .

ومن الدليل على أن الله تبارك وتعالى ليس بجسم أنه لا جسم إلا وله

شبه إما موجود أو موهوم، وماله شبه من جهة من الجهات فمحدث بما

دل على حدوث الأجسام، فلما كان الله عز وجل قديما ثبت أنه ليس

بجسم . وشئ آخر: وهو أن قول القائل جسم سمة في حقيقة اللغة لما

كان طويلا عريضا ذا أجزاء وأبعاض محتملا للزيادة فإن كان القائل

يقول: إن الله عز وجل جسم، يحقق هذا القول ويوفيه معناه لزمه أن يثبته

سبحانه بجميع هذه الحقائق والصفات، ولزمه أن يكون حادثا بما به يثبت

حدوث الأجسام أو تكون الأجسام قديمة، وإن لم يرجع منه إلا إلى

التسمية فقط كان واضعا للاسم في غير موضعه، وكان كمن سمى الله عز

وجل إنسانا ولحما ودما، ثم لم يثبت معناها وجعل خلافه إيانا على

الاسم دون المعنى، وأسماء الله تبارك وتعالى لا تؤخذ إلا عنه أو عن

رسول الله صلى الله عليه وآله أو عن الأئمة الهداة عليهم السلام .

____________________________________________________

صفحة 137

7 - حدثنا أحمد بن الحسن القطان، قال: حدثنا الحسن بن علي

السكري قال: حدثنا محمد بن زكريا، عن جعفر بن محمد بن عمارة، عن

أبيه، عن جعفر بن محمد، عن أبيه محمد بن علي، عن أبيه علي بن

الحسين، عن أبيه الحسين عليهم السلام، قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: إن للجسم

ستة أحوال: الصحة والمرض والموت والحياة والنوم واليقظة، وكذلك

الروح فحياتها علمها، وموتها جهلها، ومرضها شكها، وصحتها يقينها،

ونومها غفلتها، ويقظتها حفظها .

ومن الدليل على أن الأجسام محدثة أن الأجسام لا تخلو من أن

تكون مجتمعة أو مفترقة، ومتحركة أو ساكنة، والاجتماع والافتراق

والحركة والسكون محدثة، فعلمنا أن الجسم محدث لحدوث ما لا ينفك

منه ولا يتقدمه 1) .

فإن قال قائل: ولم قلتم: إن الاجتماع والافتراق معنيان 2) وكذلك

الحركة والسكون حتى زعمتم أن الجسم لا يخلو منهما ؟ قيل له: الدليل

_____________________________

(1) بحار الأنوار 3: 49 .

____________________________________________________

صفحة 138

على ذلك أنا نجد الجسم يجتمع بعد أن كان مفترقا 1)، وقد كان يجوز أن

يبقى مفترقا، فلو لم يكن قد حدث معنى كان لا يكون بأن يصير مجتمعا

أولى من أن يبقى مفترقا 2) على ما كان عليه، لأنه لم يحدث نفسه في هذا

الوقت فيكون بحدوث نفسه ما صار مجتمعا ولا بطلت في هذا الوقت

فيكون لبطلانها، ولا يجوز أن يكون لبطلان معنى ما صار مجتمعا، ألا

ترى أنه لو كان إنما يصير مجتمعا لبطلان معنى ومفترقا لبطلان معنى

____________________________________________________

صفحة 139

لوجب أن يصير مجتمعا لبطلان معنى ومفترقا لبطلان معنى لوجب أن

يصير مجتمعا ومفترقا في حالة واحدة لبطلان المعنيين جميعا وأن يكون

كل شئ خلا من أن يكون فيه معنى مجتمعا مفترقا 1)، حتى كان يجب

أن يكون الاعراض مجتمعة متفرقة لأنها قد خلت من المعاني وقد تبين

بطلان ذلك، وفي بطلان ذلك دليل على أنه إنما كان مجتمعا لحدوث معنى

ومتفرقا لحدوث معنى، وكذلك القول في الحركة والسكون 2) وسائر

الاعراض .

فان قال قائل: فإذا قلتم: إن المجتمع إنما يصير مجتمعا لوجود

الاجتماع 3) ومفترقا لوجود الافتراق فما أنكرتم من أن يصير مجتمعا

____________________________________________________

صفحة 140

مفترقا لوجودهما فيه كما ألزمتم ذلك من يقول: إن المجتمع إنما يصير

مجتمعا لانتفاء الافتراق ومفترقا لانتفاء الاجتماع، قيل له: إن الاجتماع

والافتراق هما ضدان والأضداد تتضاد في الوجود فليس يجوز وجودهما

في حال لتضادهما، وليس هذا حكمهما في النفي لأنه لا ينكر انتفاء

الأضداد في حالة واحدة كما ينكر وجودها، فلهذا ما قلنا إن الجسم لو

كان مجتمعا لانتفاء الافتراق ومفترقا لانتفاء الاجتماع لوجب أن يصير

مجتمعا مفترقا لانتفائهما، ألا ترى أنه قد ينتفي عن الأحمر السواد

والبياض مع تضادهما وأنه لا يجوز وجودهما واجتماعهما في حال

واحدة، فثبت أن انتفاء الأضداد لا ينكر في حالة واحدة كما ينكر

وجودها، وأيضا فإن القائل بهذا القول قد أثبت الاجتماع والافتراق

والحركة والسكون وأوجب أن لا يجوز خلو الجسم منها لأنه إذا خلا منها

يجب أن يكون مجتمعا مفترقا ومتحركا ساكنا إذ كان لخلوه منها ما

يوصف بهذا الحكم، وإذا كان ذلك كذلك، وكان الجسم لم يخل من هذه

الحوادث يجب أن يكون محدثا، ويدل على ذلك أيضا أن الانسان قد

يؤمر بالاجتماع والافتراق والحركة والسكون ويفعل ذلك ويحمد به

ويشكر عليه ويذم عليه إذ كان قبيحا، وقد علمنا أنه لا يجوز أن يؤمر

بالجسم ولا أن ينهى عنه ولا أن يمدح من أجله ولا يذم له، فواجب أن

يكون الذي امر به ونهي عنه واستحق من أجله المدح والذم غير الذي لا

يجوز أن يؤمر به، ولا أن ينهى عنه، ولا أن يستحق به المدح والذم،

فوجب بذلك إثبات الاعراض .

فان قال: فلم قلتم: إن الجسم لا يخلو من الاجتماع والافتراق

____________________________________________________

صفحة 141

والحركة والسكون ولم أنكرتم أن يكون قد خلا فيما لم يزل من ذلك ؟ فلا

يدل ذلك على حدوثه . قيل له: لو جاز أن يكون قد خلا فيما مضى من

الاجتماع والافتراق والحركة والسكون لجاز أن يخلو منها الان ونحن

نشاهده، فلما لم يجز أن يوجد أجسام غير مجتمعة ولا مفترقة علمنا أنها

لم تخل فيما مضى .

فان قال: ولم أنكرتم أن يكون قد خلا من ذلك فيما مضى وإن كان لا

يجوز أن يخلو الان منه ؟ قيل له: إن الأزمنة والأمكنة لا تؤثران في هذا

الباب، ألا ترى لو كان قائل قال: كنت أخلو من ذلك عام أول أو منذ

عشرين سنة وإن ذلك سيمكنني بعد هذا الوقت أو يمكنني بالشام دون

العراق أو بالعراق دون الحجاز لكان عند أهل العقل مخبلا جاهلا،

والمصدق له جاهل، فعلمنا أن الأزمنة والأمكنة لا تؤثران في ذلك، وإذا

لم يكن لها حكم ولا تأثير في هذا الباب فواجب أن يكون حكم الجسم

فيما مضى وفيما يستقبل حكمه الان، وإذا كان لا يجوز أن يخلو الجسم

في هذا الوقت من الاجتماع والافتراق والحركة والسكون علمنا أنه لم

يخل من ذلك قط، وأنه لو خلا من ذلك فيما مضى كان لا ينكر أن يبقى

على ما كان عليه إلى هذا الوقت، فكان لو أخبرنا مخبر عن بعض البلدان

الغائبة أن فيها أجساما غير مجتمعة ولا مفترقة ولا متحركة ولا ساكنة أن

نشك في ذلك ولا نأمن أن يكون صادقا، وفي بطلان ذلك دليل على

بطلان هذا القول، وأيضا فإن من أثبت الأجسام غير مجتمعة ولا مفترقة

فقد أثبتها غير متقاربة بعضها عن بعض، ولا متباعدة بعضها عن بعض،

وهذه صفة لا تعقل لان الجسمين لابد من أن يكون بينهما مسافة وبعد، أو

____________________________________________________

صفحة 142

لا يكون بينهما مسافة ولا بعد ولا سبيل إلى ثالث، فلو كان بينهما مسافة

وبعد لكانا مفترقين ولو كان لا مسافة بينهما ولا بعد لوجب أن يكونا

مجتمعين لان هذا هو حد الاجتماع والافتراق، وإذا كان ذلك كذلك فمن

أثبت الأجسام غير مجتمعة ولا مفترقة فقد أثبتها على صفة لا تعقل، ومن

خرج بقوله عن المعقول كان مبطلا .

فإن قال قائل: ولم قلتم: ان الاعراض محدثة ولم أنكرتم أن تكون

قديمة مع الجسم لم تزل ؟ قيل له: لأنا وجدنا المجتمع إذا فرق بطل منه

الاجتماع وحدث له الافتراق، وكذلك المفترق إذا جمع بطل منه الافتراق

وحدث له الاجتماع والقديم هو قديم لنفسه ولا يجوز عليه الحدوث

والبطلان، فثبت أن الاجتماع والافتراق محدثان، وكذلك القول في سائر

الاعراض، ألا ترى أنها تبطل بأضدادها ثم تحدث بعد ذلك، وما جاز

عليه الحدوث والبطلان لا يكون إلا محدثا، وأيضا فإن الموجود القديم

الذي لم يزل لا يحتاج في وجوده إلى موجد، فيعلم أن الوجود أولى به

من العدم لأنه لو لم يكن الوجود أولى به من العدم لم يوجد إلا بموجد،

وإذا كان ذلك كذلك علمنا أن القديم لا يجوز عليه البطلان إذا كان الوجود

أولى به من العدم، وأن ما جاز عليه أن يبطل لا يكون قديما .

فإن قال: ولم قلتم: إن ما لم يتقدم المحدث يجب أن يكون محدثا ؟

قيل له: لان المحدث هو ما كان بعد أن لم يكن، والقديم هو الموجود لم

يزل، والموجود لم يزل يجب أن يكون متقدما لما قد كان بعد أن لم يكن،

وما لم يتقدم المحدث فحظه في الوجود حظ المحدث لأنه ليس له من

التقدم إلا ما للمحدث، وإذا كان ذلك كذلك وكان المحدث بما له من الحظ

____________________________________________________

صفحة 143

في الوجود والتقدم لا يكون قديما بل يكون محدثا، فذلك ما شاركه في

علته وساواه في الوجود ولم يتقدمه فواجب أن يكون محدثا .

فإن قال: أوليس الجسم لا يخلو من الاعراض ولا يجب أن يكون

عرضا فما أنكرتم أن لا يخلو من الحوادث ولا يجب أن يكون محدثا ؟

قيل له: إن وصفنا العرض بأنه عرض ليس هو من صفات التقدم والتأخر،

إنما هو إخبار عن أجناسها والجسم إذا لم يتقدمها فليس يجب أن يصير

من جنسها، فلهذا لا يجب أن يكون الجسم وإن لم يتقدم الاعراض عرضا

إذا لم يشاركها فيما له كانت الاعراض أعراضا، ووصفنا القديم بأنه قديم

هو إخبار عن تقدمه ووجوده لا إلى أول، ووصفنا المحدث بأنه محدث

هو إخبار عن كونه إلى غاية ونهاية وابتداء وأول: وإذا كان ذلك كذلك فما

لم يتقدمه من الأجسام فواجب أن يكون موجودا إلى غاية ونهاية، لأنه لا

يجوز أن يكون الموجود لا إلى أول لم يتقدم الموجود إلى أول وابتداء،

وإذا كان ذلك كذلك فقد شارك المحدث فيما كان له محدثا وهو وجوده

إلى غاية، فلذلك وجب أن يكون محدثا لوجوده إلى غاية ونهاية، وكذلك

الجواب في سائر ما تسأل في هذا الباب من هذه المسألة .

فإن قال قائل: فإذا ثبت أن الجسم محدث فما الدليل على أن له

محدثا ؟ قيل له: لأنا وجدنا الحوادث كلها متعلقة بالمحدث . فإن قال: ولم

قلتم: إن المحدثات إنما كانت متعلقة بالمحدث من حيث كانت محدثة ؟

قيل: لأنها لو لم تكن محدثة لم تحتج إلى محدث، ألا ترى أنها لو كانت

موجودة غير محدثة أو كانت معدومة لم يجز أن تكون متعلقة بالمحدث،

وإذا كان ذلك كذلك فقد ثبت أن تعلقها بالمحدث إنما هو من حيث كانت

____________________________________________________

صفحة 144

محدثة، فوجب أن يكون حكم كل محدث حكمها في أنه يجب أن يكون

له محدث، وهذه أدلة أهل التوحيد الموافقة للكتاب والآثار الصحيحة عن

النبي صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام .

43 - باب

* (حديث ذعلب) *

1 - حدثنا أحمد بن الحسن القطان وعلي بن أحمد بن محمد بن

عمران الدقاق رحمه الله قالا: حدثنا أحمد بن يحيى بن زكريا القطان، قال:

حدثنا محمد بن العباس قال: حدثني محمد بن أبي السري، قال: حدثنا

أحمد بن عبد الله بن يونس، عن سعد الكناني، عن الأصبغ بن نباتة، قال:

لما جلس علي عليه السلام في الخلافة وبايعه الناس خرج إلى المسجد متعمما

بعمامة رسول الله صلى الله عليه وآله لابسا بردة رسول الله صلى الله عليه وآله، متنعلا نعل رسول

الله صلى الله عليه وآله، متقلدا سيف رسول الله صلى الله عليه وآله فصعد المنبر فجلس عليه السلام عليه

متمكنا، ثم شبك بين أصابعه فوضعها أسفل بطنه، ثم قال: يا معشر الناس

____________________________________________________

صفحة 145

سلوني قبل أن تفقدوني 1)، هذا سفط العلم، هذا لعاب رسول الله صلى الله عليه وآله، هذا

ما زقني رسول الله صلى الله عليه وآله 2) زقا زقا، سلوني فإن عندي علم الأولين

____________________________________________________

صفحة 146 - 147

والآخرين، أما والله لو ثنيت لي الوسادة فجلست عليها 1) لأفتيت أهل

التوراة بتوراتهم حتى تنطق التوراة فتقول: صدق علي ما كذب، لقد أفتاكم

بما أنزل الله في، وأفتيت أهل الإنجيل بإنجيلهم حتى ينطق الإنجيل

فيقول: صدق علي ما كذب، لقد أفتاكم بما أنزل الله في، وأفتيت أهل

القرآن بقرآنهم حتى ينطق القرآن فيقول: صدق علي ما كذب، لقد أفتاكم

بما أنزل الله في، وأنتم تتلون القرآن ليلا ونهارا فهل فيكم أحد يعلم ما نزل

فيه، ولولا آية في كتاب الله لأخبرتكم بما كان وبما يكون وما هو كائن

____________________________________________________

صفحة 148

إلى يوم القيامة وهي هذه الآية يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم

الكتاب 1) (1) .

ثم قال: سلوني قبل أن تفقدوني، فوالله الذي فلق الحبة وبرأ النسمة لو

سألتموني عن آية آية في ليل أنزلت أو في نهار أنزلت مكيها ومدنيها،

سفريها وحضريها، ناسخها ومنسوخها، محكمها ومتشابهها، وتأويلها

_____________________________

(1) الرعد: 39 .

____________________________________________________

صفحة 150

وتنزيلها 1) لأخبرتكم، فقال إليه رجل يقال له: ذعلب وكان ذرب اللسان،

بليغا في الخطب، شجاع القلب فقال: لقد ارتقى ابن أبي طالب مرقاة صعبة

لأخجلنه اليوم لكم في مسألتي إياه، فقال: يا أمير المؤمنين هل رأيت

ربك ؟ قال: ويلك يا ذعلب لم أكن بالذي أعبد ربا لم أره، قال: فكيف

رأيته ؟ صفه لنا ؟ قال: ويلك لم تره العيون بمشاهدة الابصار، ولكن رأته

القلوب بحقائق الايمان، ويلك يا ذعلب إن ربي لا يوصف بالبعد، ولا

____________________________________________________

صفحة 151

بالحركة، ولا بالسكون، ولا بالقيام قيام انتصاب، ولا بجيئة ولا بذهاب،

لطيف اللطافة لا يوصف باللطف 1)، عظيم العظمة لا يوصف بالعظم، كبير

الكبرياء لا يوصف بالكبر، جليل الجلالة لا يوصف بالغلظ، رؤوف

الرحمة لا يوصف بالرقة مؤمن لا بعبادة 2)، مدرك لا بمجسة، قائل لا

باللفظ 3)، هو في الأشياء على غير ممازجة، خارج منها على غير مباينة،

فوق كل شئ فلا يقال: شئ فوقه، وأمام كل شئ فلا يقال: له أمام،

داخل في الأشياء لا كشئ في شئ داخل، وخارج منها لا كشئ من

شئ خارج، فخر ذعلب مغشيا عليه، ثم قال: تالله ما سمعت بمثل هذا

الجواب، والله لا عدت إلى مثلها .

ثم قال: سلوني قبل أن تفقدوني، فقام إليه الأشعث بن قيس، فقال: يا

____________________________________________________

صفحة 152

أمير المؤمنين كيف يؤخذ من المجوس الجزية ولم ينزل عليهم كتاب ولم

يبعث إليهم نبي ؟ قال: بلى يا أشعث قد أنزل الله عليهم كتابا 1) وبعث إليهم

رسولا، حتى كان لهم ملك سكر ذات ليلة فدعا بابنته إلى فراشه فارتكبها،

فلما أصبح تسامع به قومه فاجتمعوا إلى بابه، فقالوا: أيها الملك دنست

علينا ديننا وأهلكته فاخرج نطهرك ونقم عليك الحد، فقال لهم: اجتمعوا

واسمعوا كلامي فإن يكن لي مخرج مما ارتكبت، وإلا فشأنكم، فاجتمعوا

فقال لهم، هل علمتم أن الله لم يخلق خلقا أكرم عليه من أبينا آدم وامنا

حواء ؟ قالوا: صدقت أيها الملك، قال: أفليس قد زوج بنيه من بناته 2)

وبناته من بنيه ؟ قالوا: صدقت هذا هو الدين فتعاقدوا على ذلك، فمحا الله

_____________________________

(1) بحار الأنوار 14: 463 ح 29 عن الفقيه .

____________________________________________________

صفحة 153

ما في صدورهم من العلم، ورفع عنهم الكتاب 1)، فهم الكفرة يدخلون

النار بلا حساب، والمنافقون أشد حالا منهم، قال الأشعث: والله ما سمعت

بمثل هذا الجواب، والله لا عدت إلى مثلها أبدا .

_____________________________

(1) بحار الأنوار 11: 224 - 225 .

(2) بحار الأنوار 11: 236 ح 18 .

____________________________________________________

صفحة 154

ثم قال: سلوني قبل أن تفقدوني، فقام إليه رجل من أقصى المسجد متوكئا

على عصاه، فلم يزل يتخطى الناس حتى دنا منه فقال: يا أمير المؤمنين

دلني على عمل أنا إذا عملته نجاني الله من النار، قال له: اسمع يا هذا ثم

افهم ثم استيقن، قامت الدنيا بثلاثة: بعالم ناطق مستعمل لعلمه، وبغني لا

يبخل بماله على أهل دين الله، وبفقير صابر، فإذا كتم العالم علمه، وبخل

الغني، ولم يصبر الفقير فعندها الويل والثبور، وعندها يعرف العارفون بالله

أن الدار قد رجعت إلى بدئها 1) أي الكفر بعد الايمان، أيها السائل فلا

تغترن بكثرة المساجد وجماعة أقوام أجسادهم مجتمعة وقلوبهم شتى،

أيها السائل إنما الناس ثلاثة: زاهد وراغب وصابر، فأما الزاهد فلا يفرح

بشئ من الدنيا أتاه ولا يحزن على شئ منها فاته، وأما الصابر فيتمناها

بقلبه، فإن أدرك منها شيئا صرف عنها نفسه لما يعلم من سوء عاقبتها،

وأما الراغب فلا يبالي من حل أصابها أم من حرام، قال له: يا أمير

المؤمنين فما علامة المؤمن في ذلك الزمان ؟ قال: ينظر إلى ما أوجب الله

عليه من حق فيتولاه وينظر إلى ما خالفه فيتبرء منه وإن كان حميما

قريبا، قال: صدقت والله يا أمير المؤمنين ثم غاب الرجل فلم نره، فطلبه

____________________________________________________

صفحة 155

الناس فلم يجدوه، فتبسم علي عليه السلام على المنبر ثم قال: ما لكم هذا أخي

الخضر عليه السلام .

ثم قال: سلوني قبل أن تفقدوني فلم يقم إليه أحد، فحمد الله وأثنى

عليه وصلى على نبيه صلى الله عليه وآله، ثم قال للحسن عليه السلام: يا حسن قم فاصعد المنبر

فتكلم بكلام لا تجهلك قريش من بعدي فيقولون: إن الحسن بن علي لا

يحسن شيئا، قال الحسن عليه السلام: يا أبت كيف أصعد وأتكلم وأنت في الناس

تسمع وترى، قال له: بأبي وأمي أواري نفسي عنك وأسمع وأرى 1) وأنت

لا تراني، فصعد الحسن عليه السلام المنبر فحمد الله بمحامد بليغة شريفة وصلى

على النبي صلى الله عليه وآله صلاة موجزة: ثم قال: أيها الناس سمعت جدي رسول

الله صلى الله عليه وآله يقول: أنا مدينة العلم وعلي بابها 2) وهل تدخل المدينة إلا من

بابها، ثم نزل فوثب إليه علي عليه السلام فحمله وضمه إلى صدره، ثم قال

للحسين عليه السلام: يا بني قم فاصعد المنبر وتكلم بكلام لا تجهلك قريش من

بعدي فيقولون: إن الحسين بن علي لا يبصر شيئا، وليكن كلامك تبعا

_____________________________

(1) تاريخ بغداد 11: 204 ط مصر، ولسان الميزان 5: 19، وينابيع المودة ص 38 .

____________________________________________________

صفحة 156

لكلام أخيك، فصعد الحسين عليه السلام المنبر فحمد الله وأثنى عليه وصلى على

نبيه صلى الله عليه وآله صلاة موجزة، ثم قال: معاشر الناس سمعت جدي رسول الله صلى الله عليه وآله

وهو يقول: إن عليا هو مدينة هدى فمن دخلها نجا ومن تخلف عنها

هلك، فوثب إليه علي فضمه إلى صدره وقبله، ثم قال: معاشر الناس

اشهدوا أنهما فرخا رسول الله صلى الله عليه وآله ووديعته التي استودعنيها وأنا

أستودعكموها، معاشر الناس ورسول الله صلى الله عليه وآله سائلكم عنهما .

2 - حدثنا علي بن أحمد بن محمد بن عمران الدقاق رحمه الله قال: حدثنا

محمد بن أبي عبد الله الكوفي، قال: حدثنا محمد بن إسماعيل البرمكي،

قال: حدثني الحسين بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن داهر قال: حدثني

الحسين بن يحيى الكوفي، قال: حدثني قثم بن قتادة، عن عبد الله بن

يونس، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: بينا أمير المؤمنين عليه السلام يخطب على منبر

الكوفة إذ قام إليه رجل يقال له: ذعلب ذرب اللسان، بليغ في الخطاب

شجاع القلب، فقال: يا أمير المؤمنين هل رأيت ربك ؟ فقال: ويلك يا

ذعلب ما كنت أعبد ربا لم أره، قال: يا أمير المؤمنين كيف رأيته ؟ قال:

ويلك يا ذعلب لم تره العيون بمشاهدة الابصار ولكن رأته القلوب بحقائق

الايمان ويلك يا ذعلب إن ربي لطيف اللطافة فلا يوصف باللطف، عظيم

العظمة لا يوصف بالعظم، كبير الكبرياء لا يوصف بالكبر، جليل الجلالة لا

يوصف بالغلظ، قبل كل شئ فلا يقال: شئ قبله، وبعد كل شئ فلا

يقال: شئ بعده شائي الأشياء لا بهمة، دراك لا بخديعة، هو في الأشياء

كلها غير متمازج بها ولا بائن عنها، ظاهر لا بتأويل المباشرة، متجل لا

_____________________________

(1) المناقب لابن المغازلي ص 84، برقم: 125 .

____________________________________________________

صفحة 157

باستهلال رؤية، بائن لا بسمافة، قريب لا بمداناة، لطيف لا بتجسم،

موجود لا بعد عدم، فاعل لا باضطرار، مقدر لا بحركة، مريد لا بهمامة،

سميع لا بالة، بصير لا بأداة، لا تحويه الأماكن، ولا تصحبه الأوقات، ولا

تحده الصفات، ولا تأخذه السنات، سبق الأوقات كونه، والعدم وجوده،

والابتداء أزله، بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له، وبتجهيره الجواهر

عرف أن لا جوهر له، وبمضادته بين الأشياء عرف أن لا ضد له،

وبمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرين له، ضاد النور بالظلمة، والجسو

بالبلل، والصرد بالحرور، مؤلف بين متعادياتها، مفرق بين متدانياتها، دالة

بتفريقها على مفرقها وبتأليفها على مؤلفها، وذلك قوله عز وجل: ومن

كل شئ خلقنا زوجين لعلكم تذكرون (1) ففرق بها بين قبل وبعد ليعلم

أن لا قبل له ولا بعد، شاهدة بغرائزها على أن لا غريزة لمغرزها، مخبرة

بتوقيتها أن لا وقت لموقتها، حجب بعضها عن بعض ليعلم أن لا حجاب

بينه وبين خلقه غير خلقه، كان ربا إذ لا مربوب، وإلها إذ لا مألوه، وعالما

إذ لا معلوم، وسميعا إذ لا مسموع .

_____________________________

(1) الذاريات: 49 .

(2) المناقب لابن المغازلي ص 86، برقم: 127 .

____________________________________________________

صفحة 158 - 160

ثم أنشأ يقول:

ولم يزل سيدي بالحمد معروفا * ولم يزل سيدي بالجود موصوفا

وكنت إذ ليس نور يستضاء به * ولا ظلام على الآفاق معكوفا 1)

وربنا بخلاف الخلق كلهم * وكل ما كان في الأوهام موصوفا

فمن يرده على التشبيه ممتثلا * يرجع أخا حصر بالعجز مكتوفا 2)

_____________________________

(1) سورة البقرة: 189 .

(2) في (ن): مكتنفا .

____________________________________________________

صفحة 161

وفي المعارج يلقى موج قدرته * موجا يعارض طرف الروح مكفوفا 1)

فاترك أخا جدل في الدين منعمقا * قد باشر الشك فيه الرأي مأووفا 2)

واصحب أخا ثقة حبا لسيده 3) * وبالكرامات من مولاه محفوفا

أمسى دليل الهدى في الأرض منتشرا * وفي السماء جميل الحال معروفا

قال: فخر ذعلب مغشيا عليه، ثم أفاق، وقال: ما سمعت بهذا الكلام،

ولا أعود إلى شئ من ذلك .

قال مصنف هذا الكتاب: في هذا الخبر ألفاظ قد ذكرها الرضا عليه السلام في

خطبته وهذا تصديق قولنا في الأئمة عليهم السلام إن علم كل واحد منهم مأخوذ

عن أبيه حتى يتصل ذلك بالنبي صلى الله عليه وآله .

44 - باب حديث سبخت اليهودي

1 - أبي رحمه الله، قال: حدثنا سعد بن عبد الله، قال: حدثنا أحمد بن محمد

ابن عيسى وإبراهيم بن هاشم، عن الحسن بن علي، عن داود بن علي

اليعقوبي، عن بعض أصحابنا، عن عبد الاعلى مولى آل سام، عن أبي عبد

الله عليه السلام، قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وآله يهودي يقال له: سبخت فقال له: يا

محمد جئت أسألك عن ربك فإن أجبتني عما أسألك عنه اتبعتك وإلا

____________________________________________________

صفحة 162

رجعت، فقال له: سل عما شئت، فقال: أين ربك ؟ فقال: هو في كل مكان

وليس هو في شئ من المكان بمحدود، قال: فكيف هو ؟ فقال: وكيف

أصف ربي بالكيف والكيف مخلوق الله، والله لا يوصف بخلقه، قال: فمن

يعلم أنك نبي ؟ قال: فما بقي حوله حجر ولا مدر ولا غير ذلك إلا تكلم

بلسان عربي مبين: يا سبخ إنه رسول الله 1)، فقال سبخت: تالله ما رأيت

كاليوم أبين ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله .

_____________________________

(1) سورة الإسراء: 44 .

____________________________________________________

صفحة 164

2 - حدثنا أبو الحسين محمد بن إبراهيم بن إسحاق الفارسي، قال:

حدثنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن رميح النسوي، قال: حدثني أحمد بن

جعفر العقيلي بقهستان، قال: حدثني أحمد بن علي البلخي، قال: حدثنا

أبو جعفر محمد بن علي الخزاعي، قال: حدثنا عبد الله بن جعفر الأزهري،

عن أبيه، عن جعفر بن محمد عن أبيه محمد بن علي، عن أبيه علي بن

الحسين، عن أبيه الحسين عليهم السلام، قال: قال أمير المؤمنين علي بن أبي

طالب عليه السلام في بعض خطبه: من الذي حضر سبخت الفارسي وهو يكلم

رسول الله صلى الله عليه وآله ؟ فقال القوم: ما حضره منا أحد، فقال علي عليه السلام: لكني

كنت معه عليه السلام وقد جاءه سبخت وكان رجلا من ملوك فارس وكان ذربا،

فقال: يا محمد إلى ما تدعو ؟ قال: أدعو إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده

لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله، فقال سبخت: وأين الله يا محمد ؟

قال: هو في كل مكان موجود بآياته، قال: فكيف هو ؟ فقال: لا كيف له

ولا أين لأنه عز وجل كيف الكيف وأين الأين، قال: فمن أين جاء ؟ قال:

لا يقال له: جاء، وإنما يقال: جاء للزائل من مكان إلى مكان، وربنا لا

يوصف بمكان ولا بزوال، بل لم يزل بلا مكان ولا يزال، فقال: يا محمد

إنك لتصف ربا عظيما بلا كيف، فكيف لي أن أعلم أنه أرسلك ؟ فلم يبق

بحضرتنا ذلك اليوم حجر ولا مدر ولا جبل ولا شجر ولا حيوان إلا قال

مكانه: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وقلت أنا أيضا:

____________________________________________________

صفحة 165

أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، فقال: يا محمد من هذا ؟

فقال: هذا خير أهلي وأقرب الخلق مني، لحمه من لحمي، ودمه من دمي،

وروحه من روحي، وهو الوزير مني في حياتي والخليفة بعد وفاتي، كما

كان هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي، فاسمع له وأطع فإنه على

الحق، ثم سماه عبد الله .

45 - باب معنى (سبحان الله)

1 - حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب السجزي بنيسابور، قال:

أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن عبد الله بن حمزة الشعراني العماري

من ولد عمار بن ياسر رحمه الله قال: حدثنا أبو محمد عبيد الله بن يحيى بن عبد

الباقي الاذني بأذنة قال: حدثنا علي بن الحسن المعاني قال: حدثنا عبد الله

ابن يزيد، عن يحيى بن عقبة بن أبي العيزار قال: حدثنا محمد بن حجار،

عن يزيد بن الأصم، قال: سأل رجل عمر بن الخطاب فقال: يا أمير

المؤمنين ما تفسير سبحان الله ؟ قال: إن في هذا الحائط رجلا كان إذا سئل

أنبأ، وإذا سكت ابتدأ، فدخل الرجل فإذا هو علي بن أبي طالب عليه السلام فقال:

يا أبا الحسن ما تفسير سبحان الله ؟ قال: هو تعظيم جلال الله عز وجل

وتنزيهه 1) عما قال فيه كل مشرك، فإذا قالها العبد صلى عليه كل ملك .

____________________________________________________

صفحة 166

2 - حدثنا أبي رضي الله عنه، قال: حدثنا علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى

ابن عبيد، عن يونس بن عبد الرحمن، عن هشام بن الحكم، قال:

سألت أبا عبد الله عليه السلام عن سبحان الله، فقال عليه السلام: أنفة لله عز وجل 1) .

_____________________________

(1) نهاية ابن الأثير 1: 76 .

____________________________________________________

صفحة 167

3 - حدثنا محمد بن موسى بن المتوكل رحمه الله قال: حدثنا علي بن

الحسين السعد آبادي، عن أحمد بن أبي عبد الله البرقي، عن عبد العظيم

ابن عبد الله الحسني عن علي بن أسباط، عن سليمان مولى طربال عن

هشام الجواليقي، قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عز وجل

(سبحان الله) ما يعني به ؟ قال: تنزيهه .

46 - باب معنى (الله أكبر)

1 - حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى العطار رحمه الله، قال: حدثنا أبي، عن

سهل بن زياد الادمي، عن ابن محبوب، عمن ذكره، عن أبي عبد الله عليه السلام،

قال: قال رجل عنده . (الله أكبر) فقال: الله أكبر من أي شئ ؟ فقال: من كل

شئ فقال أبو عبد الله عليه السلام: حددته 1)، فقال الرجل: كيف أقول ؟ فقال: قل:

الله أكبر من أن يوصف .

2 - حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رضي الله عنه، قال: حدثنا

محمد ابن يحيى العطار، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن أبيه، عن

مروك بن عبيد عن جميع بن عمرو قال: قال لي أبو عبد الله عليه السلام: أي شئ

(الله أكبر) ؟ ! فقلت: الله أكبر من كل شئ، فقال: وكان ثم شئ فيكون

أكبر منه ؟ ! فقلت: فما هو ؟ قال: الله أكبر من أن يوصف .

____________________________________________________

صفحة 168

47 - باب معنى (الأول والآخر)

1 - حدثنا محمد بن موسى بن المتوكل رحمه الله قال: حدثنا علي بن

____________________________________________________

صفحة 169

إبراهيم عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن ابن أذينة، عن محمد بن حكيم،

عن الميمون البان قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام وقد سئل عن قوله عز

وجل: هو الأول والاخر، فقال عليه السلام: الأول لا عن أول كان قبله ولا عن

بدئ سبقه، والاخر لا عن نهاية كما يعقل من صفة المخلوقين، ولكن

قديم أول آخر لم يزل ولا يزال بلا بدء ولا نهاية، لا يقع عليه الحدوث 1)،

ولا يحول من حال إلى حال 2)، خالق كل شئ .

2 - حدثنا الحسين بن أحمد بن إدريس رحمه الله، عن أبيه، عن محمد بن

عبد الجبار عن صفوان بن يحيى، عن فضيل بن عثمان، عن ابن أبي

يعفور، قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عز وجل: (هو الأول

والآخر) وقلت: أما الأول فقد عرفناه، وأما الاخر فبين لنا تفسيره،

فقال: إنه ليس شئ إلا يبتدأ ويتغير أو يدخله الغير والزوال أو ينتقل من

لون إلى لون، ومن هيئة إلى هيئة، ومن صفة إلى صفة، ومن زيادة إلى

نقصان، ومن نقصان إلى زيادة إلا رب العالمين، فإنه لم يزل ولا يزال

واحدا هو الأول قبل كل شئ، وهو الاخر على ما لم يزل 3)، لا تختلف

عليه الصفات والأسماء ما يختلف على غيره مثل الانسان الذي يكون

____________________________________________________

صفحة 170

ترابا مرة، ومرة لحما، ومرة دما، ومرة رفاتا ورميما، وكالتمر الذي يكون

مرة بلحا، ومرة بسرا، ومرة رطبا، ومرة تمرا، فيتبدل عليه الأسماء

والصفات، والله عز وجل بخلاف ذلك .

48 - باب معنى قول الله عز وجل

(الرحمن على العرش استوى)

1 - حدثنا محمد بن علي ماجيلويه رحمه الله، قال: حدثنا محمد بن يحيى

العطار، عن سهل بن زياد الادمي، عن الحسن بن محبوب، عن محمد بن

مارد أن أبا عبد الله عليه السلام سئل عن قول الله عز وجل: الرحمن على

العرش استوى فقال: استوى من كل شئ، فليس شئ هو أقرب إليه

من شئ 1) .

2 - أبي رحمه الله، قال: حدثنا سعد بن عبد الله، عن محمد بن الحسين عن

صفوان بن يحيى، عن عبد الرحمن بن الحجاج، قال: سألت أبا عبد

الله عليه السلام عن قول الله عز وجل: الرحمن على العرش استوى، فقال:

استوى من كل شئ، فليس شئ أقرب إليه من شئ، لم يبعد منه بعيد،

ولم يقرب منه قريب، استوى من كل شئ .

3 - حدثنا أبو الحسين محمد بن إبراهيم بن إسحاق الفارسي، قال:

حدثنا أحمد بن محمد أبو سعيد النسوي، قال: حدثنا أبو نصر أحمد بن

____________________________________________________

صفحة 171 - 173

محمد ابن عبد الله الصغدي بمرو قال: حدثنا محمد بن يعقوب بن الحكم

العسكري وأخوه معاذ بن يعقوب، قالا: حدثنا محمد بن سنان الحنظلي،

قال: حدثنا عبد الله بن عاصم، قال: حدثنا عبد الرحمن بن قيس، عن أبي

هاشم الرماني، عن زاذان، عن سلمان الفارسي في حديث طويل يذكر فيه

قدوم الجاثليق المدينة مع مائة من النصارى بعد قبض رسول الله صلى الله عليه وآله

_____________________________

(1) بحار الأنوار 58: 7 عنه .

____________________________________________________

صفحة 174

وسؤاله أبا بكر عن مسائل لم يجبه عنها، ثم أرشد إلى أمير المؤمنين علي

ابن أبي طالب عليه السلام فسأله عنها فأجابه، وكان فيما سأله أن قال له: أخبرني

عن الرب أين هو وأين كان ؟ فقال علي عليه السلام: لا يوصف الرب جل جلاله

بمكان، هو كما كان، وكان كما هو، لم يكن في مكان، ولم يزل من مكان

إلى مكان، ولا أحاط به مكان، بل كان لم يزل بلا حد ولا كيف 1)، قال:

صدقت، فأخبرني عن الرب أفي الدنيا هو أو في الآخرة ؟ قال علي عليه السلام:

لم يزل ربنا قبل الدنيا، ولا يزال أبدا، هو مدبر الدنيا، وعالم بالآخرة، فأما

أن يحيط به الدنيا والآخرة فلا، ولكن يعلم ما في الدنيا والآخرة، قال:

صدقت يرحمك الله، ثم قال: أخبرني عن ربك أيحمل أو يحمل ؟ فقال

علي عليه السلام: إن ربنا جل جلاله يحمل ولا يحمل، قال النصراني: فكيف

ذاك ؟ ! ونحن نجد في الإنجيل ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ

ثمانية 2) فقال علي عليه السلام: إن الملائكة تحمل العرش، وليس العرش كما

تظن كهيئة السرير، ولكنه شئ محدود مخلوق مدبر، وربك عز وجل

مالكه، لا أنه عليه ككون الشئ على الشئ، وأمر الملائكة بحمله، فهم

يحملون العرش بما أقدرهم عليه، قال النصراني: صدقت رحمك الله -

والحديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة، وقد أخرجته بتمامه في آخر

كتاب النبوة - .

4 - حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رحمه الله، قال: حدثنا محمد

____________________________________________________

صفحة 175

ابن يحيى العطار، عن سهل بن زياد، عن الحسن بن موسى الخشاب، عن

بعض رجاله رفعه، عن أبي عبد الله عليه السلام أنه سئل عن قول الله عز وجل:

الرحمن على العرش استوى فقال: استوى من كل شئ، فليس شئ

أقرب إليه من شئ .

5 - حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رحمه الله قال: حدثنا الحسين

ابن الحسن بن أبان، عن الحسين بن سعيد، عن النضر بن سويد، عن

صاصم بن حميد، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: من زعم أن

الله عز وجل من شئ أو في شئ أو على شئ فقد كفر، قلت: فسر لي،

قال: أعني بالحواية من الشئ 1) له، أو بإمساك 2) له، أو من شئ

_____________________________

(1) مجمع البيان: 5: 346 . .

(2) بحار الأنوار 58: 7 .

____________________________________________________

صفحة 176

سبقه 1) .

6 - وفي رواية أخرى قال: من زعم أن الله من شئ فقد جعله

محدثا، ومن زعم أنه في شئ فقد جعله محصورا، ومن زعم أنه على

شئ فقد جعله محمولا .

7 - حدثنا محمد بن موسى بن المتوكل رحمه الله قال: حدثنا عبد الله بن

جعفر، عن أحمد بن محمد، عن الحسن بن محبوب، قال: حدثني مقاتل

ابن سليمان، قال: سألت جعفر بن محمد عليهما السلام عن قول الله عز وجل:

الرحمن على العرش استوى فقال: استوى من كل شئ، فليس شئ

أقرب إليه من شئ .

8 - وبهذا الاسناد، عن الحسن بن محبوب، عن حماد، قال: قال أبو

عبد الله عليه السلام: كذب من زعم أن الله عز وجل من شئ أو في شئ أو على

شئ .

9 - حدثنا محمد بن علي ماجيلويه رحمه الله، عن عمه محمد بن أبي

القاسم، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن أبيه، عن محمد بن سنان، عن

المفضل بن عمر، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: من زعم أن الله عز وجل من

شئ أو في شئ أو على شئ فقد أشرك 2)، ثم قال: من زعم أن الله من

شئ فقد جعله محدثا، ومن زعم أنه في شئ فقد زعم أنه محصور ومن

زعم أنه على شئ فقد جعله محمولا .

____________________________________________________

صفحة 177

قال مصنف هذا الكتاب: إن المشبهة تتعلق بقوله عز وجل إن ربكم

الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش

يغشي الليل النهار 1) يطلبه حثيثا (1) ولا حجة لها في ذلك لأنه عز وجل

عنى بقوله: ثم استوى على العرش ثم نقل العرش إلى فوق

السماوات 2) وهو مستول عليه ومالك له، وقوله عز وجل: (ثم) إنما هو

لرفع العرش إلى مكانه الذي هو فيه ونقله للاستواء فلا يجوز أن يكون

_____________________________

(1) الأعراف: 54 .

(2) مجمع البيان 2: 428 .

____________________________________________________

صفحة 178

معنى قوله (استوى) استولى لان استيلاء الله تبارك وتعالى على الملك

وعلى الأشياء ليس هو بأمر حادث، بل لم يزل مالكا لكل شئ

ومستوليا على كل شئ، وإنما ذكر عز وجل الاستواء بعد قوله: (ثم) وهو

يعني الرفع مجازا، وهو كقوله: ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم

والصابرين 1) (1) فذكر (نعلم) مع قوله: (حتى) وهو عز وجل يعني

حتى يجاهد المجاهدون ونحن نعلم ذلك لان حتى لا يقع إلا على فعل

حادث، وعلم الله عز وجل بالأشياء لا يكون حادثا، وكذلك ذكر قوله عز

وجل: استوى على العرش بعد قوله: (ثم) وهو يعني بذلك ثم رفع

العرش لاستيلائه عليه، ولم يعن بذلك الجلوس واعتدال البدن لان الله لا

يجوز أن يكون جسما ولا ذا بدن، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا .

_____________________________

(1) محمد صلى الله عليه وآله: 31 .

(2) مجمع البيان 5: 106 - 107 .

____________________________________________________

صفحة 179

49 - باب معنى قوله عز وجل:

وكان عرشه على الماء (1)

1 - حدثنا علي بن أحمد بن محمد بن عمران الدقاق رحمه الله، قال: حدثنا

محمد بن أبي عبد الله الكوفي، عن محمد بن إسماعيل البرمكي، قال:

حدثنا جذعان بن نصر أبو نصر الكندي، قال: حدثني سهل بن زياد

الآدمي، عن الحسن بن محبوب، عن عبد الرحمن بن كثير عن داود

الرقي، قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قوله عز وجل: وكان عرشه على

الماء فقال لي: ما يقولون في ذلك ؟ قلت: يقولون إن العرش كان على

الماء والرب فوقه، فقال: كذبوا، من زعم هذا فقد صير الله محمولا ووصفه

بصفة المخلوقين ولزمه أن الشئ الذي يحمله أقوى منه، قلت، بين لي

جعلت فداك، فقال: إن الله عز وجل حمل علمه ودينه الماء قبل أن تكون

أرض أو سماء أو جن 1) أو إنس أو شمس أو قمر، فلما أراد أن يخلق

الخلق نثرهم بين يديه فقال لهم: من ربكم ؟ ! فكان أول من نطق رسول

الله صلى الله عليه وآله وأمير المؤمنين عليه السلام والأئمة صلوات الله عليهم، فقالوا: أنت ربنا،

_____________________________

(1) هود: 7 .

____________________________________________________

صفحة 180

فحملهم العلم والدين 1)، ثم قال للملائكة: هؤلاء حملة علمي وديني

_____________________________

(1) سورة الحج: 5 .

(2) التعليقة على أصول الكافي ص 319 - 320 .

(3) الأنبياء: 30 .

____________________________________________________

صفحة 181

وأمنائي في خلقي وهم المسؤولون ثم قيل لبني آدم: أقروا لله بالربوبية

ولهؤلاء النفر بالطاعة، فقالوا: نعم ربنا أقررنا 1)، فقال للملائكة: اشهدوا،

فقالت الملائكة شهدنا على أن لا يقولوا إنا كنا عن هذا غافلين 2) أو يقولوا

إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل

المبطلون (1) يا داود ولايتنا مؤكدة عليهم في الميثاق .

_____________________________

(1) الأعراف: 173 .

(2) بحار الأنوار: 27: 262 ح 5 .

(3) سورة الأعراف: 172 - 173 .

____________________________________________________

صفحة 182

2 - حدثنا تميم بن عبد الله بن تميم القرشي قال: حدثنا أبي، عن

أحمد بن علي الأنصاري، عن أبي الصلت عبد السلام بن صالح الهروي

قال: سأل المأمون أبا الحسن علي بن موسى الرضا عليهما السلام عن قول الله عز

وجل: وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه

على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا فقال: إن الله تبارك وتعالى خلق

العرش والماء والملائكة قبل خلق السماوات والأرض، وكانت الملائكة

تستدل بأنفسها وبالعرش والماء على الله عز وجل، ثم جعل عرشه على

الماء ليظهر بذلك قدرته للملائكة فيعلموا أنه على كل شئ قدير، ثم رفع

____________________________________________________

صفحة 183

العرش بقدرته ونقله فجعله فوق السماوات السبع وخلق السماوات

والأرض في ستة أيام، وهو مستول على عرشه، وكان قادرا على أن

يخلقها في طرفة عين، ولكنه عز وجل خلقها في ستة أيام ليظهر للملائكة

ما يخلقه منها شيئا بعد شئ وتستدل بحدوث ما يحدث على الله تعالى

ذكره مرة بعد مرة، ولم يخلق الله العرش لحاجة به إليه لأنه غني عن

العرش وعن جميع ما خلق، لا يوصف بالكون على العرش لأنه ليس

بجسم، تعالى الله عن صفة خلقه علوا كبيرا . وأما قوله عز وجل:

ليبلوكم أيكم أحسن عملا فإنه عز وجل خلق خلقه ليبلوهم بتكليف

طاعته وعبادته لا على سبيل الامتحان والتجربة لأنه لم يزل عليما بكل

شئ، فقال المأمون: فرجت عني يا أبا الحسن فرج الله عنك .

____________________________________________________

صفحة 184 - 200

50 - باب العرش وصفاته

1 - حدثنا علي بن أحمد بن محمد بن عمران الدقاق رحمه الله قال: حدثنا

محمد بن أبي عبد الله الكوفي، قال: حدثنا محمد بن إسماعيل البرمكي،

قال: حدثنا الحسين بن الحسن، قال: حدثني أبي، عن حنان بن سدير،

قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن العرش والكرسي فقال: إن للعرش صفات

كثيرة مختلفة، له في كل سبب وضع في القرآن صفة على حدة 1) فقوله:

رب العرش العظيم يقول: الملك العظيم، وقوله:

_____________________________

(1) مجمع البيان 2: 497 - 498 .

(2) أصول الكافي 1: 133 ح 7 .

____________________________________________________

صفحة 201

الرحمن على العرش استوى يقول: على الملك احتوى، وهذا ملك

الكيفوفية في الأشياء 1)، ثم العرش في الوصل متفرد من الكرسي 2) لأنهما

بابان من أكبر أبواب الغيوب، وهما جميعا غيبان، وهما في الغيب

مقرونان 3) لان الكرسي هو الباب الظاهر من الغيب 4) الذي منه مطلع

البدع ومنه الأشياء كلها، والعرش هو الباب الباطن الذي يوجد فيه علم

الكيف والكون والقدر والحد والأين والمشية وصفة الإرادة، وعلم الألفاظ

والحركات 5) والترك، وعلم العود والبدء فهما في العلم بابان مقرونان لان

_____________________________

(1) في (س): الغيبية .

____________________________________________________

صفحة 202

ملك العرش سوى ملك الكرسي وعلمه أغيب من علم الكرسي، فمن ذلك

قال: رب العرش العظيم أي صفته أعظم من صفة الكرسي وهما في

ذلك مقرونان، قلت: جعلت فداك فلم صار في الفضل جار الكرسي ؟ قال:

إنه صار جاره لان علم الكيفوفية فيه، وفيه الظاهر من أبواب البداء 1)

وأينيتها وحد رتقها وفتقها، فهذان جاران 2) أحدهما حمل صاحبه في

الظرف 3) وبمثل صرف العلماء ويستدلوا على صدق دعواهما لأنه يختص

برحمته من يشاء وهو القوي العزيز 4) .

____________________________________________________

صفحة 203

فمن اختلاف صفات العرش 1) أنه قال تبارك وتعالى: رب العرش عما

يصفون (1) وهو وصف عرش الوحدانية لان قوما أشركوا كما قلت لك،

قال تبارك وتعالى: رب العرش رب الوحدانية عما يصفون 2)، وقوما

وصفوه بيدين فقالوا: يد الله مغلولة وقوما وصفوه بالرجلين فقالوا:

وضع رجله على صخرة بيت المقدس فمنها ارتقى إلى السماء، وقوما

وصفوه بالأنامل فقالوا: إن محمدا صلى الله عليه وآله قال: إني وجدت برد أنامله على

قلبي، فلمثل هذه الصفات قال: رب العرش عما يصفون يقول: رب

المثل الاعلى 3) عما به مثلوه ولله المثل الاعلى الذي لا يشبهه شئ ولا

_____________________________

(1) الأنبياء: 22 .

(2) سورة الأنبياء: 22 .

____________________________________________________

صفحة 204

يوصف ولا يتوهم، فذلك المثل الاعلى، ووصف الذين لم يؤتوا من الله

فوائد العلم فوصفوا ربهم بأدنى الأمثال وشبهوه بالمتشابه منهم فيما جهلوا

به فلذلك قال: وما أوتيتم من العلم إلا قليلا 1) فليس له شبه ولا مثل

ولا عدل، وله الأسماء الحسنى التي لا يسمى بها غيره، وهي التي وصفها

في الكتاب فقال: فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه (1) 2)

_____________________________

(1) الأعراف: 180 .

(2) سورة الزخرف: 81 - 82 .

(3) سورة الإسراء: 85 .

(4) سورة الأعراف: 180 .

____________________________________________________

صفحة 205

جهلا بغير علم، فالذي يلحد في أسمائه بغير علم يشرك وهو لا يعلم

ويكفر به وهو يظن أنه يحسن، فلذلك قال: وما يؤمن أكثرهم بالله إلا

وهم مشركون 1) (1) فهم الذين يلحدون في أسمائه بغير علم فيضعونها

_____________________________

(1) يوسف: 106 .

(2) مجمع البيان 2: 503 .

____________________________________________________

صفحة 206

غير مواضعها، يا حنان إن الله تبارك وتعالى أمر أن يتخذ قوم أولياء، فهم

الذين أعطاهم الله الفضل وخصهم بما لم يخص به غيرهم، فأرسل

محمدا صلى الله عليه وآله فكان الدليل على الله بإذن الله عز وجل حتى مضى دليلا

هاديا فقام من بعده وصيه عليه السلام دليلا هاديا على ما كان هو دل عليه من

أمر ربه من ظاهر علمه، ثم الأئمة الراشدون عليهم السلام .

_____________________________

(1) مجمع البيان 3: 267 - 268 .

____________________________________________________

صفحة 207

51 - باب أن العرش خلق أرباعا

1 - حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رحمه الله، قال: حدثنا

محمد بن الحسن الصفار، عن علي بن إسماعيل، عن حماد بن عيسى، عن

إبراهيم بن عمر اليماني، عن أبي الطفيل، عن أبي جعفر، عن علي بن

الحسين عليهم السلام قال: إن الله عز وجل خلق العرش أرباعا، لم يخلق قبله إلا

ثلاثة أشياء: الهواء والقلم والنور 1)، ثم خلقه من أنوار مختلفة: فمن ذلك

_____________________________

(1) مجمع البيان 5: 332 .

____________________________________________________

صفحة 208

النور نور أخضر أخضرت منه الخضرة 1) ونور أصفر اصفرت منه الصفرة،

ونور أحمر احمر ت منه الحمرة، ونور أبيض وهو نور الأنوار ومنه ضوء

النهار ثم جعله سبعين ألف طبق، غلظ كل طبق كأول العرش إلى أسفل

السافلين ليس من ذلك طبق إلا يسبح بحمد ربه ويقدسه بأصوات مختلفة

وألسنة غير مشتبهة، ولو اذن للسان منها فأسمع شيئا مما تحته لهدم

الجبال والمدائن والحصون ولخسف البحار ولأهلك ما دونه، له ثمانية

أركان على كل ركن منها من الملائكة ما لا يحصي عددهم إلا الله عز

وجل، يسبحون الليل والنهار لا يفترون، ولو حس شئ مما فوقه ما قام

لذلك طرفة عين 2) بينه وبين الاحساس الجبروت 3) والكبرياء والعظمة

____________________________________________________

صفحة 209

والقدس والرحمة ثم العلم وليس وراء هذا مقال 1) .

52 - باب معنى قول الله عز وجل:

وسع كرسيه السماوات والأرض (1)

1 - حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثنا سعد بن عبد الله، عن القاسم بن محمد،

عن سليمان بن داود المنقري، عن حفص بن غياث، قال: سألت أبا عبد

الله عليه السلام عن قول الله عز وجل: وسع كرسيه السماوات والأرض قال:

علمه 2) .

_____________________________

(1) البقرة: 255 .

____________________________________________________

صفحة 210

2 - حدثنا أبي رضي الله عنه، قال: حدثنا علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي

عمير، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عز وجل:

وسع كرسيه السماوات والأرض فقال: السماوات والأرض وما بينهما

في الكرسي، والعرش هو العلم الذي لا يقدر أحد قدره .

3 - حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رحمه الله، قال: حدثنا

محمد بن الحسن الصفار، قال: حدثنا يعقوب بن يزيد، عن حماد بن

عيسى، عن ربعي عن فضيل بن يسار، قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن

قول الله عز وجل: وسع كرسيه السماوات والأرض فقال: يا فضيل

السماوات والأرض وكل شئ في الكرسي 1) .

_____________________________

(1) مجمع البيان 1: 362 .

____________________________________________________

صفحة 211

4 - حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى العطار رحمه الله، عن أبيه، عن أحمد

ابن محمد بن عيسى، عن الحجال، عن ثعلبة بن ميمون، عن زرارة، قال:

سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عز وجل: وسع كرسيه السماوات

والأرض السماوات والأرض وسعن الكرسي، أم الكرسي وسع السماوات

والأرض ؟ فقال: بل الكرسي وسع السماوات والأرض والعرش وكل شئ

في الكرسي 1) .

5 - حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رحمه الله قال: حدثنا

الحسين بن أبان، عن الحسين بن سعيد، عن فضالة، عن عبد الله بن بكير،

عن زرارة، قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عز وجل: وسع

كرسيه السماوات والأرض السماوات والأرض وسعن الكرسي، أم

الكرسي وسع السماوات والأرض ؟ فقال: إن كل شئ في الكرسي .

53 - باب فطرة الله عز وجل الخلق على التوحيد

1 - أبي رحمه الله، قال: حدثنا سعد بن عبد الله، عن أحمد بن محمد بن

عيسى، عن محمد بن سنان، عن العلاء بن فضيل، عن أبي عبد الله عليه السلام،

قال: سألته عن قول الله عز وجل فطرة الله التي فطر الناس

____________________________________________________

صفحة 212

عليها 1) (1) قال: التوحيد .

2 - حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رحمه الله، قال: حدثنا

محمد بن الحسن الصفار، عن إبراهيم بن هاشم، عن محمد بن أبي عمير،

عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: قلت: فطرة الله التي فطر

الناس عليها ؟ قال: التوحيد .

3 - حدثنا محمد بن موسى بن المتوكل رحمه الله، قال: حدثنا علي بن

إبراهيم قال: حدثنا محمد بن عيسى بن عبيد، عن يونس بن عبد الرحمن،

عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن قول الله عز

وجل: فطرة الله التي فطر الناس عليها ما تلك الفطرة ؟ قال: هي

الاسلام، فطرهم الله حين أخذ ميثاقهم على التوحيد فقال: الست

بربكم وفيه المؤمن والكافر .

_____________________________

(1) الروم: 30 .

(2) نهاية ابن الأثير 3: 457 .

(3) سورة التغابن: 2 .

____________________________________________________

صفحة 213

4 - حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رحمه الله، قال: حدثنا محمد

ابن الحسن الصفار، عن إبراهيم بن هاشم، ويعقوب بن يزيد، عن ابن

فضال، عن بكير عن زرارة، عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله عز وجل:

فطرة الله التي فطر الناس عليها قال: فطرهم على التوحيد .

5 - أبي رحمه الله، قال: حدثنا علي بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن ابن

فضال، عن أبي جميلة، عن محمد الحلبي، عن أبي عبد الله عليه السلام في قول

الله عز وجل فطرة الله التي فطر الناس عليها قال: فطرهم على التوحيد .

6 - أبي رحمه الله قال: حدثنا سعد بن عبد الله، عن أحمد و عبد الله ابني

محمد بن عيسى، عن ابن محبوب، عن علي بن رئاب، عن زرارة، قال:

سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عز وجل: فطرة الله التي فطر الناس

عليها قال: فطرهم جميعا على التوحيد .

7 - حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رحمه الله، قال: حدثنا

محمد بن الحسن الصفار، عن علي بن حسان الواسطي، عن الحسن بن

يونس، عن عبد الرحمن بن كثير مولى أبي جعفر، عن أبي عبد الله عليه السلام في

قول الله عز وجل: فطرة الله التي فطر الناس عليها قال: التوحيد ومحمد

_____________________________

(1) نهاية ابن الأثير 1: 451 .

____________________________________________________

صفحة 214

رسول الله وعلي أمير المؤمنين 1) .

8 - أبي رحمه الله، قال: حدثنا سعد بن عبد الله، عن أحمد بن محمد، عن

أبيه، عن عبد الله بن المغيرة، عن ابن مسكان، عن زرارة قال: قلت لأبي

جعفر عليه السلام: أصلحك الله، قول الله عز وجل في كتابه فطرة الله التي فطر

الناس عليها ؟ قال: فطرهم على التوحيد عند الميثاق على معرفته 2)

أنه ربهم، قلت: وخاطبوه ؟ قال: فطأطأ رأسه، ثم قال: لولا ذلك لم يعلموا

من ربهم ولا من رازقهم .

_____________________________

(1) سورة النمل: 14 .

____________________________________________________

صفحة 215

9 - أبي رحمه الله، قال: حدثنا سعد بن عبد الله، عن إبراهيم بن هاشم

ومحمد بن الحسين بن أبي الخطاب ويعقوب بن يزيد جميعا، عن

ابن أبي عمير، عن ابن أذينة، عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام قال:

سألته عن قول الله عز وجل: حنفاء لله غير مشركين به 1) (1) وعن

الحنيفية، فقال: هي الفطرة التي فطر الله الناس عليها 2) لا تبديل لخلق

_____________________________

(1) الحج: 31 .

(2) نهاية ابن الأثير 1: 451 .

(3) سورة الذاريات: 56 .

____________________________________________________

صفحة 216 - 218

الله 1)، وقال: فطرهم الله على المعرفة، قال زرارة: وسألته عن قول الله عز

وجل: وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم - الآية قال: أخرج من

ظهر آدم ذريته إلى يوم القيامة فخرجوا كالذر، فعرفهم وأراهم صنعه،

ولولا ذلك لم يعرف أحد ربه، وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: كل مولود يولد

على الفطرة . يعني على المعرفة بأن الله عز وجل خالقه، فذلك قوله:

ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله (1) .

_____________________________

(1) لقمان: 25، والزمر: 38 .

(2) نهج البلاغة ص 92 رقم الكلام: 57 .

____________________________________________________

صفحة 219

10 - حدثنا أبو أحمد القاسم بن محمد بن أحمد السراج الهمداني،

قال: حدثنا أبو القاسم جعفر بن محمد بن إبراهيم السرنديبي، قال: حدثنا

أبو الحسن محمد بن عبد الله بن هارون الرشيد بحلب، قال: حدثنا محمد

بن آدم بن أبي إياس قال: حدثنا ابن أبي ذئب، عن نافع، عن ابن عمر، قال:

قال رسول الله صلى الله عليه وآله: (لا تضربوا أطفالكم على بكائهم فإن بكاءهم

أربعة 1) أشهر شهادة أن لا إله إلا الله، وأربعة أشهر الصلاة على النبي وآله،

وأربعة أشهر الدعاء لوالديه .

_____________________________

(1) مجمع البيان 4: 303 .

____________________________________________________

صفحة 221

54 - باب البداء .

1 - أبي رحمه الله، قال: حدثنا محمد بن يحيى العطار، عن أحمد بن محمد

ابن عيسى، عن الحجال، عن أبي إسحاق ثعلبة، عن زرارة، عن أحدهما

يعني أبا جعفر وأبا عبد الله عليهما السلام قال: ما عبد الله عز وجل بشئ مثل

البداء .

2 - حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رحمه الله قال: حدثنا محمد

ابن الحسن الصفار، عن أيوب بن نوح، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن

سالم، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: ما عظم الله عز وجل بمثل البداء 1) .

3 - حدثنا محمد بن علي ماجيلويه رضي الله عنه، قال: حدثنا علي بن

إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن محمد بن

مسلم، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: ما بعث الله عز وجل نبيا حتى يأخذ

____________________________________________________

صفحة 222

عليه ثلاث خصال: الاقرار بالعبودية، وخلع الأنداد، وأن الله يقدم ما يشاء

ويؤخر ما يشاء 1) .

4 - وبهذا الاسناد، عن هشام بن سالم وحفص بن البختري وغيرهما،

عن أبي عبد الله عليه السلام في هذه الآية يمحو الله ما يشاء ويثبت 2) (1) قال:

فقال: وهل يمحو الله إلا ما كان وهل يثبت إلا ما لم يكن ؟ ! .

5 - حدثنا حمزة بن محمد العلوي رحمه الله قال: أخبرنا علي بن إبراهيم بن

هاشم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن مرازم بن حكيم، قال: سمعت أبا

عبد الله عليه السلام يقول: ما تنبأ نبي قط حتى يقر لله عز وجل بخمس: بالبداء

_____________________________

(1) الرعد: 39 .

____________________________________________________

صفحة 223

والمشية والسجود والعبودية والطاعة 1) .

6 - حدثنا حمزة بن محمد العلوي رحمه الله، عن علي بن إبراهيم بن

هاشم، عن الريان بن الصلت، قال: سمعت الرضا عليه السلام يقول: ما بعث الله

نبيا قط إلا بتحريم الخمر 2)، وأن يقر له بالبداء .

7 - حدثنا علي بن أحمد بن محمد بن عمران الدقاق رحمه الله، قال: حدثنا

محمد بن يعقوب، قال: حدثنا علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن

يونس بن عبد الرحمن، عن مالك الجهني قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام

____________________________________________________

صفحة 224

يقول: لو يعلم الناس ما في القول بالبداء من الاجر ما فتروا عن الكلام

فيه 1) .

8 - وبهذا الاسناد، عن يونس، عن منصور بن حازم، قال: سألت أبا

عبد الله عليه السلام هل يكون اليوم شئ لم يكن في علم الله تعالى بالأمس ؟

قال: لا، من قال هذا فأخزاه الله، قلت: أرأيت ما كان وما هو كائن إلى يوم

القيامة أليس في علم الله ؟ ! قال: بلى قبل أن يخلق الخلق 2) .

9 - حدثنا علي بن أحمد بن محمد بن عمران الدقاق رحمه الله، قال: حدثنا

محمد بن يعقوب، عن الحسين بن محمد بن عامر، عن معلى بن محمد،

____________________________________________________

صفحة 225

قال: سئل العالم عليه السلام كيف علم الله ؟ قال: علم، وشاء، وأراد، وقدر،

وقضى 1)، وأبدى فأمضى ما قضى، وقضى ما قدر، وقدر ما أراد، فبعلمه

كانت المشية، وبمشيته كانت الإرادة، وبإرادته كان التقدير، وبتقديره كان

القضاء، وبقضائه كان الامضاء فالعلم متقدم المشية والمشية ثانية، والإرادة

ثالثة، والتقدير واقع على القضاء بالامضاء، فلله تبارك وتعالى البداء فيما

علم متى شاء وفيما أراد لتقدير الأشياء، فإذا وقع القضاء بالامضاء فلا

بداء، فالعلم بالمعلوم قبل كونه، والمشية في المنشأ قبل عينه، والإرادة في

المراد قبل قيامه، والتقدير لهذه المعلومات قبل تفصيلها وتوصيلها عيانا

وقياما، والقضاء بالامضاء هو المبرم من المفعولات ذوات الأجسام

____________________________________________________

صفحة 226 - 228

المدركات بالحواس من ذي لون وريح ووزن وكيل ومادب ودرج من

إنس وجن وطير وسباع وغير ذلك مما يدرك بالحواس، فلله تبارك وتعالى

فيه البداء مما لا عين له، فإذا وقع العين المفهوم المدرك فلا بداء، والله

يفعل ما يشاء، وبالعلم علم الأشياء قبل كونها، وبالمشية عرف صفاتها

وحدودها وأنشأها قبل إظهارها وبالإرادة ميز أنفسها في ألوانها وصفاتها

وحدودها، وبالتقدير قدر أوقاتها وعرف أولها وآخرها، وبالقضاء أبان

للناس أماكنها ودلهم عليها، وبالامضاء شرح عللها وأبان أمرها، وذلك

تقدير العزيز العليم .

قال محمد بن علي مؤلف هذا الكتاب أعانه الله على طاعته: ليس

البداء كما يظنه جهال الناس بأنه بداء ندامة تعالى الله عن ذلك 1)، ولكن

يجب علينا أن نقر لله عز وجل بأن له البداء، معناه أن له أن يبدأ بشئ من

خلقه فيخلقه قبل شئ ثم يعدم ذلك الشئ ويبدأ بخلق غيره، أو يأمر

بأمر ثم ينهى عن مثله أو ينهى عن شئ ثم يأمر بمثل ما نهى عنه، وذلك

____________________________________________________

صفحة 229 - 237

مثل نسخ الشرايع وتحويل القبلة وعدة المتوفى عنها زوجها 1)، ولا يأمر

الله عباده بأمر في وقت ما إلا وهو يعلم أن الصلاح لهم في ذلك الوقت في

أن يأمرهم بذلك، ويعلم أن في وقت آخر الصلاح لهم في أن ينهاهم عن

مثل ما أمرهم به، فإذا كان ذلك الوقت أمرهم بما يصلحهم، فمن أقر لله عز

وجل بأن له أن يفعل ما يشاء ويعدم ما يشاء ويخلق مكانه ما يشاء،

ويقدم ما يشاء ويؤخر ما يشاء، ويأمر بما شاء كيف شاء فقد أقر بالبداء،

وما عظم الله عز وجل بشئ أفضل من الاقرار بأن له الخلق والامر،

والتقديم، والتأخير، وإثبات ما لم يكن ومحو ما قد كان، والبداء هو رد

على اليهود لأنهم قالوا: إن الله قد فرغ من الامر فقلنا: إن الله كل يوم في

شأن، يحيي ويميت ويرزق ويفعل ما يشاء، والبداء ليس من ندامة، وإنما

هو ظهور أمر، يقول العرب: بدا لي شخص في طريقي أي ظهر، قال الله

عز وجل: وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون (1) أي ظهر لهم،

_____________________________

(1) الزمر: 47 .

____________________________________________________

صفحة 238

ومتى ظهر لله تعالى ذكره من عبد صلة لرحمه زاد في عمره، ومتى ظهر له

منه قطيعة لرحمه نقص من عمره، ومتى ظهر له من عبد إتيان الزنا نقص

من رزقه وعمره، ومتى ظهر له منه التعفف عن الزنا زاد في رزقه وعمره .

10 - ومن ذلك قول الصادق عليه السلام: ما بدا لله بداء كما بدا له في

إسماعيل ابني، يقول: ما ظهر لله أمر كما ظهر له في إسماعيل ابني إذ

اخترمه قبلي ليعلم بذلك أنه ليس بإمام بعدي .

11 - وقد روي لي من طريق أبي الحسين الأسدي رضي الله عنه في ذلك

شئ غريب، وهو أنه روى أن الصادق عليه السلام قال: ما بدا لله بداء كما بدا له

في إسماعيل أبي إذا أمر أباه إبراهيم بذبحه ثم فداه بذبح عظيم . وفي

الحديث على الوجهين جميعا عندي نظر 1)، إلا أني أوردته لمعنى لفظ

البداء، والله الموفق للصواب .

_____________________________

(1) البقرة: 234 .

____________________________________________________

صفحة 239 - 240

55 - باب المشيئة والإرادة

1 - أبي رحمه الله، قال: حدثنا سعد بن عبد الله، عن أحمد بن محمد، عن

أبيه عن محمد بن أبي عمير، عن عمر بن أذينة، عن محمد بن مسلم، عن

أبي عبد الله عليه السلام قال: المشية محدثة 1) .

_____________________________

(1) بحار الأنوار 5: 122 ح 68 .

(2) في (س): الحدث .

____________________________________________________

صفحة 241

2 - حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رحمه الله، قال: حدثنا محمد

ابن الحسن الصفار، عن جعفر بن محمد بن عبد الله، عن عبد الله بن ميمون

القداح، عن جعفر بن محمد، عن أبيه عليهما السلام، قال: قيل لعلي عليه السلام: إن رجلا

يتكلم في المشية فقال: ادعه لي، قال: فدعي له، فقال: يا عبد الله خلقك

الله لما شاء 1) أو لما شئت ؟ ! قال: لما شاء، قال: فيمرضك إذا شاء أو إذا

شئت ؟ ! قال: إذا شاء: قال: فيشفيك إذا شاء أو إذا شئت ؟ ! قال: إذا شاء،

قال: فيدخلك حيث شاء أو حيث شئت 2) ؟ ! قال: حيث شاء، قال: فقال

علي عليه السلام له: لو قلت غير هذا لضربت الذي فيه عيناك 3) .

3 - وبهذا الاسناد قال: دخل على أبي عبد الله عليه السلام أو أبي جعفر عليه السلام رجل

هاهنا، قال: بل ائذنوا له فإن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: إن الله عز وجل عند لسان

كل قائل ويد كل باسط، فهذا القائل لا يستطيع أن يقول إلا ما شاء الله 4)،

_____________________________

(1) الذاريات: 56 .

____________________________________________________

صفحة 242

وهذا الباسط لا يستطيع أن يبسط يده إلا بما شاء الله، فدخل عليه فسأله

عن أشياء وآمن بها وذهب .

4 - حدثنا أحمد بن الحسن القطان، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن

سعيد الهمداني، قال: حدثنا علي بن الحسن بن علي بن فضال، عن أبيه،

عن مروان بن مسلم، عن ثابت بن أبي صفية، عن سعد الخفاف، عن

الأصبغ ابن نباتة، قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: أوحى الله عز وجل إلى

داود عليه السلام: يا داود تريد وأريد ولا يكون إلا ما أريد 1)، فإن أسلمت لما

أريد أعطيتك ما تريد، وإن لم تسلم لما أريد أتعبتك فيما تريد، ثم لا يكون

إلا ما أريد .

____________________________________________________

صفحة 243

5 - حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رضي الله عنه، قال: حدثنا

محمد ابن الحسن الصفار، عن محمد بن عيسى بن عبيد، عن سليمان بن

جعفر الجعفري، قال: قال الرضا عليه السلام: المشية والإرادة من صفات الافعال،

فمن زعم أن الله تعالى لم يزل مريدا شائيا فليس بموحد 1) .

_____________________________

(1) بحار الأنوار 14: 132 - 133 ح 7 .

____________________________________________________

صفحة 244

6 - حدثنا أبي، ومحمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رضي الله

عنهما، قالا: حدثنا سعد بن عبد الله، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن

أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام، قال:

قلت له: إن أصحابنا بعضهم يقولون بالجبر وبعضهم بالاستطاعة، فقال لي:

_____________________________

(1) بحار الأنوار 4: 137 - 138 .

(2) بحار الأنوار 4: 137 ح 4 .

____________________________________________________

صفحة 245

اكتب قال الله تبارك وتعالى: يا ابن آدم بمشيتي كنت أنت الذي تشاء

لنفسك 1)، ما تشاء وبقوتي أديت إلي فرائضي وبنعمتي قويت على

معصيتي 2)، جعلتك سميعا بصيرا قويا 3)، ما أصابك من حسنة فمن الله،

وما أصابك من سيئة فمن نفسك 4)، وذلك أنا أولى بحسناتك منك وأنت

____________________________________________________

صفحة 246

أولى بسيئاتك مني، وذلك أني لا اسأل عما أفعل 1) وهم يسألون، قد

نظمت لك كل شئ تريد .

7 - حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثنا سعد بن عبد الله، قال: حدثنا محمد

ابن الحسين بن أبي الخطاب، عن جعفر بن بشير، عن العرزمي، عن أبي

عبد الله عليه السلام قال: كان لعلي عليه السلام غلام اسمه قنبر وكان يحب عليا عليه السلام حبا

شديدا . فإذا خرج علي عليه السلام خرج على أثره بالسيف، فرآه ذات ليلة فقال:

يا قنبر ما لك ؟ قال: جئت لامشي خلفك . فإن الناس كما تراهم يا أمير

المؤمنين فخفت عليك، قال: ويحك أمن أهل السماء تحرسني أم من أهل

الأرض ؟ ! قال: لا، بل من أهل الأرض، قال: إن أهل الأرض لا يستطيعون

_____________________________

(1) الشورى: 30 .

____________________________________________________

صفحة 247

لي شيئا إلا بإذن الله عز وجل من السماء 1)، فارجع، فرجع .

8 - حدثنا محمد بن علي ماجيلويه رحمه الله، قال: حدثنا محمد بن يحيى

العطار قال: حدثنا محمد بن أحمد بن يحيى بن عمران الأشعري، عن

موسى بن عمر عن ابن سنان، عن أبي سعيد القماط، قال: قال أبو عبد

الله عليه السلام: خلق الله المشية قبل الأشياء، ثم خلق الأشياء بالمشية .

_____________________________

(1) مفردات الراغب ص 14 .

(2) أصول الكافي 1: 149 - 150 ح 2 .

____________________________________________________

صفحة 248

9 - أبي رحمه الله، قال: حدثنا علي بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن علي

ابن معبد، عن درست بن أبي منصور، عن فضيل بن يسار، قال: سمعت أبا

عبد الله عليه السلام يقول: شاء وأراد ولم يحب ولم يرض 1)، شاء أن لا يكون

_____________________________

(1) القصص: 56 .

(2) الانسان: 30 .

(3) يونس: 99 .

____________________________________________________

صفحة 249 - 250

شئ إلا بعلمه 1) وأراد مثل ذلك، ولم يحب أن يقال له: ثالث ثلاثة ولم

يرض لعباده الكفر .

10 - حدثنا أبو الحسن علي بن عبد الله بن أحمد الأصبهاني

الأسواري، قال: حدثنا مكي بن أحمد بن سعدويه البرذعي، قال: أخبرنا

أبو منصور محمد بن القاسم بن عبد الرحمن العتكي، قال: حدثنا محمد

ابن أشرس، قال: حدثنا بشر بن الحكم، وإبراهيم بن نصر السورياني

قال: حدثنا عبد الملك بن هارون بن عنترة، قال: حدثنا غياث ابن

المجيب عن الحسن البصري، عن عبد الله بن عمر، عن النبي صلى الله عليه وآله، قال:

سبق العلم، وجف القلم 2) وتم القضاء بتحقيق الكتاب وتصديق

_____________________________

(1) تصحيح اعتقادات الامامية ص 49 - 53 ط المؤتمر .

____________________________________________________

صفحة 251

الرسالة 1) والسعادة من الله والشقاوة من الله عز وجل قال عبد الله بن عمر:

إن رسول الله صلى الله عليه وآله كان يروي حديثه عن الله عز وجل قال: قال الله عز

وجل: يا ابن آدم بمشيتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء، وبإرادتي

كنت أنت الذي تريد لنفسك ما تريد، وبفضل نعمتي عليك قويت على

معصيتي وبعصمتي وعفوي وعافيتي أديت إلي فرائضي، فأنا أولى

بإحسانك منك وأنت أولى بذنبك مني، فالخير مني إليك بما أوليت

_____________________________

(1) نهاية ابن الأثير 1: 278 - 279 .

____________________________________________________

صفحة 252

بداء 1) والشر مني إليك بما جنيت جزاء وبسوء ظنك بي قنطت من

رحمتي، فلي الحمد والحجة عليك بالبيان، ولي السبيل عليك

بالعصيان، ولك الجزاء والحسنى عندي بالاحسان لم أدع تحذيرك،

ولم آخذك عند عزتك ولم أكلفك فوق طاقتك، ولم أحملك

من الأمانة إلا ما قدرت عليه 2) رضيت منك لنفسي ما رضيت به

_____________________________

(1) الجاثية: 29 .

(2) الكشاف 4: 46 - 47 .

____________________________________________________

صفحة 253

لنفسك 1) مني . قال عبد الملك: لن أعذبك إلا بما عملت .

11 - حدثنا تميم بن عبد الله بن تميم القرشي رحمه الله قال: حدثنا أبي، عن

أحمد بن علي الأنصاري، عن أبي الصلت عبد السلام بن صالح الهروي،

قال: سأل المأمون يوما علي بن موسى الرضا عليهم السلام فقال له: يا ابن رسول

الله ما معنى قول الله عز وجل: ولو شاء ربك لامن من في الأرض كلهم

جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين * وما كان لنفس أن

تؤمن إلا بإذن الله (1) فقال الرضا عليه السلام: حدثني أبي موسى بن جعفر، عن

أبيه جعفر بن محمد، عن أبيه محمد بن علي، عن أبيه علي بن الحسين،

عن أبيه الحسين بن علي، عن أبيه علي بن أبي طالب عليهم السلام أن المسلمين

قالوا لرسول الله صلى الله عليه وآله: لو أكرهت يا رسول الله من قدرت عليه من الناس

على الاسلام لكثر عددنا وقوينا على عدونا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: ما

كنت لألقى الله عز وجل ببدعة لم يحدث إلي فيها شيئا، وما أنا من

_____________________________

(1) يونس: 100 .

(2) الأحزاب: 72 .

____________________________________________________

صفحة 254

المتكلفين، فأنزل الله تبارك وتعالى: يا محمد ولو شاء ربك لامن من في

الأرض كلهم جميعا 1) على سبيل الالجاء والاضطرار في الدنيا كما

يؤمنون عند المعاينة ورؤية البأس في الآخرة، ولو فعلت ذلك بهم لم

يستحقوا مني ثوابا ولا مدحا، لكني أريد منهم أن يؤمنوا مختارين غير

مضطرين ليستحقوا مني الزلفى والكرامة ودوام الخلود في جنة الخلد

أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين وأما قوله عز وجل: وما كان

لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله فليس ذلك على سبيل تحريم الايمان عليها

ولكن على معنى أنها ما كانت لتؤمن إلا بإذن الله، وإذنه أمره لها بالايمان

ما كانت مكلفة متعبدة . وإلجاؤه إياها إلى الايمان عند زوال التكليف

والتعبد عنها . فقال المأمون: فرجت عني يا أبا الحسن فرج الله عنك .

_____________________________

(1) الشعراء: 4 .

____________________________________________________

صفحة 255

12 - حدثنا أبي، ومحمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد قالا:

حدثنا محمد بن يحيى العطار وأحمد بن إدريس جميعا، عن محمد بن

أحمد بن يحيى بن عمران الأشعري، عن إبراهيم بن هاشم، عن علي بن

معبد، عن درست، عن فضيل بن يسار، قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول:

شاء الله أن أكون مستطيعا لما لم يشأ أن أكون فاعله 1) قال: وسمعته يقول:

شاء وأراد ولم يحب ولم يرض، شاء أن لا يكون في ملكه شئ إلا بعلمه،

وأراد مثل ذلك، ولم يحب أن يقال له: ثالث ثلاثة ولم يرض لعباده

الكفر .

13 - حدثنا أبي، ومحمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رضي الله

عنهما، قالا: حدثنا محمد بن يحيى العطار، وأحمد بن إدريس جميعا، عن

محمد بن أحمد بن يحيى بن عمران الأشعري، قال: حدثنا يعقوب بن

يزيد، عن علي بن حسان، عن إسماعيل بن أبي زياد الشعيري، عن ثور

_____________________________

(1) مجمع البيان 3: 136 - 137 .

____________________________________________________

صفحة 256

ابن يزيد، عن خالد بن سعدان عن معاذ بن جبل، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله:

سبق العلم، وجف القلم، ومضى القدر بتحقيق الكتاب وتصديق الرسل

وبالسعادة من الله عز وجل لمن آمن واتقى وبالشقاء لمن كذب وكفر

وبولاية الله المؤمنين وبراءته من المشركين، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله: عن

الله أروي حديثي إن الله تبارك وتعالى يقول: يا ابن آدم بمشيتي كنت أنت

الذي تشاء لنفسك ما تشاء، وبإرادتي كنت أنت الذي تريد لنفسك ما

تريد، وبفضل نعمتي عليك قويت على معصيتي، وبعصمتي وعوني

وعافيتي أديت إلي فرائضي، فأنا أولى بحسناتك منك، وأنت أولى

بسيئاتك مني، فالخير مني إليك بما أوليت بداء، والشر مني إليك بما جنيت

جزاء، وبإحساني إليك قويت على طاعتي، وبسوء ظنك بي قنطت من

رحمتي، فلي الحمد والحجة عليك بالبيان، ولي السبيل عليك بالعصيان،

ولك جزاء الخير عندي بالاحسان، لم أدع تحذيرك، ولم آخذك عند

عزتك، ولم أكلفك فوق طاقتك، ولم أحملك من الأمانة إلا ما أقررت به

على نفسك 1) رضيت لنفسي منك ما رضيت لنفسك مني .

56 - باب الاستطاعة

1 - أبي رحمه الله قال: حدثنا سعد بن عبد الله، عن أحمد بن محمد بن عيسى،

____________________________________________________

صفحة 257

عيسى، عن أبي عبد الله البرقي، قال: حدثني أبو شعيب صالح بن خالد

المحاملي، عن أبي سليمان الجمال، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام،

قال: سألته عن شئ من الاستطاعة، فقال: ليست الاستطاعة من كلامي

ولا كلام آبائي 1) .

_____________________________

(1) مجمع البيان: ج 2 ص 236، عند آية (112) من سورة المائدة .

(2) في الرجال: حزين .

____________________________________________________

صفحة 258

قال مصنف هذا الكتاب: يعني بذلك أنه ليس من كلامي ولا كلام

آبائي أن نقول لله عز وجل: إنه مستطيع، كما قال الذين كانوا على عهد

عيسى عليه السلام: هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء (1) .

2 - حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب بنيسابور، قال: حدثنا

أحمد بن الفضل بن المغيرة، قال: حدثنا أبو نصر منصور بن عبد الله بن

إبراهيم الاصفهاني، قال: حدثنا علي بن عبد الله، عن محمد بن الحسين بن

أبي الخطاب، عن محمد بن أبي الحسين القريظي عن سهل بن أبي محمد

المصيصي عن أبي عبد الله جعفر بن محمد عليهما السلام، قال: لا يكون العبد

_____________________________

(1) المائدة: 112 .

(2) اختيار معرفة الرجال 1: 365 - 366، برقم: 243 .

____________________________________________________

صفحة 259

فاعلا ولا متحركا إلا والاستطاعة معه من الله عز وجل 1) وإنما وقع

التكليف من الله تبارك وتعالى بعد الاستطاعة، ولا يكون مكلفا للفعل إلا

مستطيعا .

3 - حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رحمه الله، قال: حدثنا

الحسين بن الحسن بن أبان، عن الحسين بن سعيد، عن عبيد بن زرارة،

قال: حدثني حمزة بن حمران، قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الاستطاعة

فلم يجبني، فدخلت عليه دخلة أخرى فقلت: أصلحك الله إنه قد وقع في

قلبي منها شئ لا يخرجه إلا شئ أسمعه منك، قال: فإنه لا يضرك ما كان

في قلبك . قلت: أصلحك الله فإني أقول: إن الله تبارك وتعالى لم يكلف

العباد إلا ما يستطيعون وإلا ما يطيقون، فإنهم لا يصنعون شيئا من ذلك إلا

_____________________________

(1) اختيار معرفة الرجال 1: 360 - 361، برقم: 234 .

____________________________________________________

صفحة 260

بإرادة الله ومشيته 1) وقضائه وقدره، قال: هذا دين الله الذي أنا عليه وآبائي

أو كما قال .

قال مصنف هذا الكتاب: مشية الله وإرادته في الطاعات الامر بها

والرضا، وفي المعاصي النهي عنها والمنع منها بالزجر والتحذير .

4 - حدثنا أبي، ومحمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رضي الله

عنهما، قالا: حدثنا سعد بن عبد الله، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن

محمد بن خالد البرقي، عن محمد بن يحيى الصيرفي، عن صباح الحذاء،

عن أبي جعفر عليه السلام، قال: سأله زرارة وأنا حاضر فقال: أفرأيت ما افترض

الله علينا في كتابه وما نهانا عنه جعلنا مستطيعين لما افترض علينا

مستطيعين لترك ما نهانا عنه، فقال: نعم .

5 - حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى العطار رحمه الله، قال: حدثنا أبي، عن

أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن عبد الله بن بكير، عن

حمزة بن حمران، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إن لنا كلاما نتكلم به، قال:

هاته، قلت: نقول: إن الله عز وجل أمر ونهى وكتب الآجال والآثار لكل

نفس بما قدر لها وأراد، وجعل فيهم من الاستطاعة لطاعته ما يعملون به

ما أمرهم به وما نهاهم عنه فإذا تركوا ذلك إلى غيره كانوا محجوجين بما

صير فيهم من الاستطاعة والقوة لطاعته، فقال: هذا هو الحق إذا لم تعده

إلى غيره .

____________________________________________________

صفحة 261

6 - حدثنا أبي، ومحمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد، قالا:

حدثنا سعد بن عبد الله، و عبد الله بن جعفر الحميري جميعا، عن أحمد بن

محمد بن عيسى، عن الحسن بن علي بن فضال، عن أبي جميلة المفضل

ابن صالح، عن محمد بن علي الحلبي، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: ما امر

العباد إلا بدون سعتهم، فكل شئ امر الناس بأخذه فهم متسعون له، ومالا

يتسعون له فهو موضوع عنهم 1)، ولكن الناس لا خير فيهم .

7 - حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رحمه الله، قال: حدثنا

محمد بن الحسن الصفار، قال: حدثنا محمد بن الحسين بن أبي الخطاب،

عن علي بن أسباط، قال: سألت أبا الحسن الرضا عليه السلام عن الاستطاعة،

فقال: يستطيع العبد بعد أربع خصال: أن يكون مخلى السرب، صحيح

الجسم 2)، سليم الجوارح، له سبب وارد من الله عز وجل، قال: قلت:

جعلت فداك فسرها لي، قال: أن يكون العبد مخلى السرب، صحيح

الجسم، سليم الجوارح، يريد أن يزني فلا يجد امرأة ثم يجدها، فإما أن

_____________________________

(1) الطرائف ص 308 .

____________________________________________________

صفحة 262

يعصم فيمتنع كما امتنع يوسف، أو يخلى بينه وبين إرادته فيزني فيسمى

_____________________________

(1) سورة الإسراء: 70 .

(2) سورة التغابن: 16 .

(3) سورة النور: 61، والفتح: 17 .

____________________________________________________

صفحة 263

زانيا ولم يطع الله بإكراه 1) ولم يعص بغلبة .

_____________________________

(1) سورة النساء: 100 .

(2) سورة التوبة: 91 - 92 .

(3) سورة آل عمران: 167 .

(4) سورة النحل: 106 .

(5) بحار الأنوار 5: 77 - 80 .

____________________________________________________

صفحة 264

8 - حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رحمه الله، قال: حدثنا

الحسين بن الحسن بن أبان، عن الحسين بن سعيد، عن حماد بن عيسى،

عن الحسين بن المختار، عن إسماعيل بن الجابر، عن أبي عبد الله عليه السلام،

قال: إن الله عز وجل خلق الخلق فعلم ما هم صائرون إليه، وأمرهم

ونهاهم، فما أمرهم به من شئ فقد جعل لهم السبيل إلى الاخذ به، وما

نهاهم عنه فقد جعل لهم السبيل إلى تركه، ولا يكونوا آخذين ولا تاركين

إلا بإذن الله عز وجل، يعني: بعلمه .

9 - حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رحمه الله، قال: حدثنا

الحسين بن الحسن بن أبان، عن الحسين بن سعيد، عن فضالة بن أيوب،

عن أبان بن عثمان، عن حمزة بن محمد الطيار، قال: سألت أبا عبد الله

عليه السلام عن قول الله عز وجل: وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم

سالمون (1) قال: مستطيعون 1)، يستطيعون الاخذ بما أمروا به والترك لما

نهوا عنه، وبذلك ابتلوا 2)، ثم قال: ليس شئ مما أمروا به ونهوا عنه إلا

ومن الله تعالى عز وجل فيه ابتلاء وقضاء 3) .

_____________________________

(1) القلم: 43 .

____________________________________________________

صفحة 265

10 - حدثنا أبي، ومحمد بن موسى بن المتوكل قالا: حدثنا سعد

ابن عبد الله و عبد الله بن جعفر الحميري جميعا، عن أحمد بن محمد بن

عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن العلاء بن رزين، عن محمد بن مسلم،

قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عز وجل: ولله على الناس حج

البيت من استطاع إليه سبيلا قال: يكون له ما يحج به، قلت: فمن عرض

عليه الحج فاستحيا ؟ قال: هو ممن يستطيع .

11 - حدثنا أبي، ومحمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد قالا:

حدثنا سعد بن عبد الله: عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن

خالد البرقي، عن محمد بن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن أبي بصير،

قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: من عرض عليه الحج ولو على حمار

أجدع مقطوع الذنب فأبى فهو ممن يستطيع الحج 1) .

____________________________________________________

صفحة 266

12 - حدثنا أبي، ومحمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد قالا:

حدثنا سعد بن عبد الله، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن سعيد بن

جناح، عن عوف بن عبد الله الأزدي، عن عمه، قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن

_____________________________

(1) آل عمران: 97 .

(2) المجادلة: 4 .

(3) الكهف: 67 و 72 و 75 .

(4) النساء: 129 .

(5) هود: 20 .

____________________________________________________

صفحة 267

عن الاستطاعة، فقال: وقد فعلوا فقلت: نعم 1)، زعموا أنها لا تكون إلا عند

الفعل وإرادة في حال الفعل لا قبله فقال أشرك القوم .

____________________________________________________

صفحة 268

13 - حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثنا سعد بن عبد الله، عن يعقوب بن

يزيد، عن محمد بن أبي عمير، عمن رواه من أصحابنا، عن أبي عبد

الله عليه السلام قال: سمعته يقول: لا يكون العبد فاعلا إلا وهو مستطيع وقد يكون

مستطيعا غير فاعل ولا يكون فاعلا أبدا حتى يكون معه الاستطاعة .

14 - حدثنا أبي رحمه الله قال: حدثنا علي بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه

عن محمد بن أبي عمير، عن هشام بن الحكم، عن أبي عبد الله عليه السلام في

قول الله عز وجل: ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ما

يعني بذلك ؟ قال: من كان صحيحا في بدنه، مخلى سربه، له زاد وراحلة .

15 - حدثنا أبي، ومحمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد قالا:

حدثنا سعد بن عبد الله، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن عبد الله بن

محمد الحجال الأسدي، عن ثعلبة بن ميمون، عن عبد الاعلى بن أعين،

عن أبي عبد الله عليه السلام في هذه الآية لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا

لاتبعوك 1) ولكن بعدت عليهم الشقة وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا

معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون (1) أنهم كانوا

_____________________________

(1) التوبة: 42 .

____________________________________________________

صفحة 269

يستطيعون وقد كان في العلم أنه لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لفعلوا .

16 - حدثنا أبي، ومحمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد قالا:

حدثنا سعد بن عبد الله، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي

ابن عبد الله، عن أحمد بن محمد البرقي عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله

عز وجل: وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم

والله يعلم إنهم لكاذبون قال: أكذبهم الله عز وجل في قولهم: لو استطعنا

لخرجنا معكم وقد كانوا مستطيعين للخروج .

17 - حدثنا أبي، ومحمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد، قالا:

حدثنا سعد بن عبد الله، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن عبد

الله، عن محمد بن أبي عمير، عن أبي الحسن الحذاء، عن المعلى بن

خنيس، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: ما يعني بقوله عز وجل: وقد كانوا

يدعون إلى السجود وهم سالمون ؟ (1) قال: وهم مستطيعون .

_____________________________

(1) القلم: 43 .

____________________________________________________

صفحة 270

18 - حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رحمه الله، قال: حدثنا سعد

ابن عبد الله، عن أحمد بن محمد بن عيسى، ومحمد بن عبد الحميد،

ومحمد بن الحسين بن أبي الخطاب، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر،

عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لا يكون العبد فاعلا ولا

متحركا إلا والاستطاعة معه من الله عز وجل وإنما وقع التكليف من الله

بعد الاستطاعة، فلا يكون مكلفا للفعل إلا مستطيعا .

19 - حدثنا أبي رضي الله عنه، قال: حدثنا سعد بن عبد الله، عن أحمد بن

محمد بن عيسى، عن الحسين بن سعيد، عن محمد بن أبي عمير، عن

هشام بن سالم، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ما كلف الله العباد كلفة فعل ولا

نهاهم عن شئ حتى جعل لهم الاستطاعة ثم أمرهم ونهاهم، فلا يكون

العبد آخذا ولا تاركا إلا باستطاعة متقدمة 1) قبل الأمر والنهي وقبل الاخذ

_____________________________

(1) مجمع البيان 3: 33 .

____________________________________________________

صفحة 271

والترك وقبل القبض والبسط .

20 - حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رحمه الله قال: حدثنا

محمد بن الحسن الصفار، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن

الحكم، عن هشام بن سالم، عن سليمان بن خالد، قال: سمعت أبا عبد الله

عليه السلام يقول: لا يكون من العبد قبض ولا بسط إلا باستطاعة متقدمة للقبض

والبسط .

21 - حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثنا سعد بن عبد الله، عن محمد بن

الحسين، عن أبي شعيب المحاملي، وصفوان بن يحيى، عن عبد الله بن

مسكان، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: سمعته يقول وعنده

قوم يتناظرون في الأفاعيل والحركات فقال: الاستطاعة قبل الفعل، لم

يأمر الله عز وجل بقبض ولا بسط إلا والعبد لذلك مستطيع .

____________________________________________________

صفحة 272

22 - حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثنا سعد بن عبد الله، عن يعقوب بن يزيد،

عن مروك بن عبيد، عن عمرو رجل من أصحابنا عمن سأل أبا عبد الله

عليه السلام فقال له: إن لي أهل بيت قدرية يقولون: نستطيع أن نعمل كذا وكذا

ونستطيع أن لا نعمل 1)، قال: فقال أبو عبد الله عليه السلام: قل له: هل تستطيع أن

لا تذكر ما تكره وأن لا تنسى ما تحب ؟ فإن قال: لا فقد ترك قوله، وإن

قال: نعم فلا تكلمه أبدا فقد ادعى الربوبية .

____________________________________________________

صفحة 273 - 275

23 - حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثنا سعد بن عبد الله، قال: حدثنا أبو

الخير صالح بن أبي حماد، قال: حدثني أبو خالد السجستاني، عن علي بن

يقطين، عن أبي إبراهيم عليه السلام، قال: مر أمير المؤمنين عليه السلام بجماعة بالكوفة

وهم يختصمون في القدر، فقال لمتكلمهم: أبالله تستطيع أم مع الله 1) أم من

دون الله تستطيع ؟ ! فلم يدر ما يرد عليه، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: إنك إن

زعمت أنك بالله تستطيع فليس لك من الامر شئ وإن زعمت أنك مع الله

تستطيع فقد زعمت أنك شريك معه في ملكه، وإن زعمت أنك من دون الله

تستطيع فقد ادعيت الربوبية من دون الله، عز وجل، فقال: يا أمير المؤمنين

لا، بل بالله أستطيع، فقال عليه السلام: أما إنك لو قلت غير هذا لضربت عنقك .

24 - حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى العطار رحمه الله، قال: حدثنا سعد بن

_____________________________

(1) تفسير علي بن إبراهيم القمي 1: 23 - 24 .

____________________________________________________

صفحة 276

عبد الله، عن يعقوب بن يزيد، عن حماد بن عيسى، عن حريز بن عبد الله،

عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: رفع عن أمتي تسعة:

الخطأ، والنسيان، وما أكرهوا عليه، وما لا يطيقون، وما لا يعلمون، وما

اضطروا إليه، والحسد، والطيرة، والتفكر في الوسوسة في الخلق ما لم

ينطق بشفة 1) .

____________________________________________________

صفحة 280

25 - حدثنا تميم بن عبد الله بن تميم القرشي رحمه الله، بفرغانة قال: حدثنا

أبي، عن أحمد بن علي الأنصاري، عن عبد السلام بن صالح الهروي،

قال: سأل المأمون الرضا عليه السلام عن قول الله عز وجل: الذين كانت أعينهم

في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعا 1) (1) فقال عليه السلام: إن

غطاء العين لا يمنع من الذكر، والذكر لا يرى بالعيون، ولكن الله عز وجل

شبه الكافرين بولاية علي بن أبي طالب عليه السلام بالعميان لأنهم كانوا

يستثقلون قول النبي صلى الله عليه وآله فيه ولا يستطيعون سمعا، فقال المأمون: فرجت

عني فرج الله عنك .

57 - باب الابتلاء والاختبار

1 - أبي رحمه الله قال: حدثنا أحمد بن إدريس، عن محمد بن أحمد بن

يحيى بن عمران الأشعري، عن محمد بن السندي، عن علي بن الحكم،

عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ما من قبض ولا بسط إلا

_____________________________

(1) الكهف: 101 .

(2) مجمع البيان 3: 496 - 497 .

____________________________________________________

صفحة 281

ولله فيه المن والابتلاء 1) .

2 - أبي رحمه الله، قال: حدثنا علي بن إبراهيم بن هاشم، عن محمد بن

عيسى بن عبيد، عن يونس بن عبد الرحمن، عن حمزة بن محمد الطيار،

عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ما من قبض ولا بسط إلا ولله فيه مشية وقضاء

وابتلاء .

3 - أبي رحمه الله، قال: حدثنا سعد بن عبد الله، عن أحمد بن محمد بن

خالد، عن أبيه، عن فضالة بن أيوب، عن حمزة بن محمد الطيار، عن أبي

عبد الله عليه السلام قال: ليس شئ فيه قبض أو بسط مما أمر الله به أو نهى عنه

إلا وفيه من الله عز وجل ابتلاء وقضاء .

58 - باب السعادة والشقاوة

1 - حدثنا علي بن أحمد بن محمد بن عمران الدقاق رحمه الله قال: حدثنا

محمد بن يعقوب، قال: حدثنا علي بن محمد رفعه عن شعيب العقرقوفي،

عن أبي بصير، قال: كنت بين يدي أبي عبد الله عليه السلام جالسا وقد سأله سائل

فقال: جعلت فداك يا ابن رسول الله من أين لحق الشقاء أهل المعصية

حتى حكم لهم في علمه بالعذاب على عملهم، فقال أبو عبد

____________________________________________________

صفحة 282

الله عليه السلام: أيها السائل علم الله عز وجل ألا يقوم أحد من

خلقه بحقه 1)، فلما علم 2) بذلك وهب لأهل محبته القوة على

_____________________________

(1) أصول الكافي 1: 153 ح 2 .

(2) بحار الأنوار 5: 156 .

____________________________________________________

صفحة 283

معرفته 1) ووضع عنهم ثقل العمل بحقيقة ما هم أهله ووهب لأهل المعصية

القوة على معصيتهم 2) لسبق علمه فيهم، ولم يمنعهم إطاقة القبول 3) منه لان

علمه أولى بحقيقة التصديق، فوافقوا ما سبق لهم في علمه، وإن قدروا أن

يأتوا حلالا تنجيهم 4) عن معصيته وهو معنى شاء ما شاء 5)، وهو سر .

____________________________________________________

صفحة 284 - 285

2 - حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رحمه الله، قال: حدثنا محمد

ابن الحسن الصفار، قال: حدثنا محمد بن الحسين بن أبي الخطاب، عن

علي بن أسباط، عن علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام

في قول الله عز وجل: قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا 1) (1) قال:

بأعمالهم شقوا .

3 - حدثنا الشريف أبو علي محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن

الحسن بن الحسين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام قال:

حدثنا علي بن محمد بن قتيبة النيسابوري، عن الفضل بن شاذان، عن

محمد بن أبي عمير، قال: سألت أبا الحسن موسى بن جعفر عليهما السلام عن

معنى قول رسول الله صلى الله عليه وآله: (الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من

سعد في بطن أمه) فقال: الشقي من علم الله وهو في بطن أمه أنه سيعمل

أعمال الأشقياء 2) والسعيد من علم الله وهو في بطن أمه أنه سيعمل أعمال

_____________________________

(1) المؤمنون: 106 . . (1) مجمع البيان 4: 119 .

____________________________________________________

صفحة 286

السعداء، قلت له: فما معنى قوله صلى الله عليه وآله: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له) ؟

فقال: إن الله عز وجل خلق الجن والإنس ليعبدوه ولم يخلقهم ليعصوه،

وذلك قوله عز وجل: وما خلقت الجن والإنس الا ليعبدون (1) فيسر

كلا لما خلق له، فالويل لمن استحب العمى على الهدى .

4 - أبي رحمه الله قال: حدثنا سعد بن عبد الله، عن أحمد بن محمد بن

خالد، عن أبيه، عن النضر بن سويد، عن يحيى بن عمران الحلبي، عن

معلى أبي عثمان عن علي بن حنظلة، عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: يسلك

بالسعيد طريق الأشقياء حتى يقول الناس: ما أشبهه بهم 1) بل هو منهم ثم

يتداركه السعادة، وقد يسلك بالشقي طريق السعداء حتى يقول الناس: ما

_____________________________

(1) الذاريات: 56 .

____________________________________________________

صفحة 287

أشبهه بهم بل هو منهم ثم يتداركه الشقاء . إن من علمه الله تعالى سعيدا وإن

_____________________________

(1) من لا يحضره الفقيه 2: 245 برقم: 2313 .

(2) علل الشرائع ص 606 ح 81 .

____________________________________________________

صفحة 288

لم يبق من الدنيا إلا فواق ناقة 1) ختم له بالسعادة .

5 - حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رحمه الله، قال: حدثنا

محمد بن الحسن الصفار، عن يعقوب بن يزيد، عن صفوان بن يحيى، عن

منصور بن حازم، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: إن الله عز وجل خلق

السعادة والشقاوة قبل أن يخلق خلقه 2) فمن علمه الله سعيدا لم يبغضه

أبدا، وإن عمل شرا أبغض عمله ولم يبغضه، وإن كان علمه شقيا لم يحبه

أبدا، وإن عمل صالحا أحب عمله وأبغضه لما يصير إليه، فإذا أحب الله

شيئا لم يبغضه أبدا، وإذا أبغض شيئا لم يحبه أبدا .

_____________________________

(1) نهاية ابن الأثير 3: 479 .

(2) بحار الأنوار 5: 19 عن الاعتقادات ص 29 ط المؤتمر .

____________________________________________________

صفحة 290

6 - حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رحمه الله، قال: حدثنا

محمد بن الحسن الصفار، وسعد بن عبد الله جميعا، قالا: حدثنا أيوب بن

نوح، عن محمد بن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله عليه السلام في

يحول بينه 1) وبين أن يعلم أن الباطل حق .

_____________________________

(1) الأنفال: 24 .

____________________________________________________

صفحة 291

وقد قيل: إن الله تبارك وتعالى يحول بين المرء وقلبه بالموت وقال أبو

عبد الله عليه السلام: إن الله تبارك وتعالى ينقل العبد من الشقاء إلى السعادة ولا

ينقله من السعادة إلى الشقاء .

_____________________________

(1) نهج البلاغة ص 511، رقم الحديث: 250 .

(2) طه: 7 .

____________________________________________________

صفحة 292

59 - باب نفي الجبر والتفويض

1 - أبي رحمه الله، قال: حدثنا سعد بن عبد الله، عن يعقوب بن يزيد، عن

حماد بن عيسى، عن إبراهيم بن عمر اليماني، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال:

إن الله عز وجل خلق الخلق فعلم ما هم صائرون إليه، وأمرهم ونهاهم، فما

أمرهم به من شئ فقد جعل لهم السبيل إلى الاخذ به، وما نهاهم عنه من

شئ فقد جعل لهم السبيل إلى تركه، ولا يكونوا آخذين ولا تاركين إلا

بإذن الله .

____________________________________________________

صفحة 293

2 - أبي رحمه الله، قال: حدثنا علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن

يونس بن عبد الرحمن، عن حفص بن قرط، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال:

قال رسول الله صلى الله عليه وآله: من زعم أن الله تبارك وتعالى يأمر بالسوء والفحشاء

فقد كذب على الله، ومن زعم أن الخير والشر بغير مشية الله فقد أخرج من

سلطانه 1)، ومن زعم أن المعاصي بغير قوة الله فقد كذب على الله، ومن

كذب على الله أدخله الله النار . يعني بالخير والشر: الصحة والمرض،

وذلك قوله عز وجل: ونبلوكم بالشر والخير فتنة (1) .

_____________________________

(1) الأنبياء: 35 .

____________________________________________________

صفحة 294

3 - حدثنا محمد بن موسى بن المتوكل رحمه الله، قال: حدثنا علي بن

الحسين السعد آبادي، عن أحمد بن أبي عبد الله البرقي، عن أبيه، عن يونس

بن عبد الرحمن عن غير واحد، عن أبي جعفر، وأبي عبد الله عليهما السلام، قالا: إن

الله عز وجل أرحم بخلقه من أن يجبر خلقه على الذنوب ثم يعذبهم

_____________________________

(1) الأنبياء: 23 .

____________________________________________________

صفحة 295

عليها، والله أعز من أن يريد أمرا فلا يكون 1)، قال: فسئلا عليهما السلام هل بين

الجبر والقدر منزلة ثالثة ؟ قالا: نعم، أوسع مما بين السماء والأرض 2) .

_____________________________

(1) بحار الأنوار 5: 60 .

____________________________________________________

صفحة 296

4 - حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رحمه الله، قال: حدثنا

الحسن بن متيل عن أحمد بن أبي عبد الله، عن علي بن الحكم، عن هشام

ابن سالم، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: الله تبارك وتعالى أكرم من أن يكلف

الناس مالا يطيقونه والله أعز من أن يكون في سلطانه مالا يريد .

5 - حدثنا علي بن عبد الله الوراق رحمه الله، قال: حدثنا محمد بن جعفر

ابن بطة، قال: حدثنا محمد بن الحسن الصفار، ومحمد بن علي بن

محبوب، ومحمد بن الحسين بن عبد العزيز، عن أحمد بن محمد بن

عيسى، عن الحسين بن سعيد، عن حماد بن عيسى الجهني، عن حريز بن

عبد الله، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: إن الناس في القدر على ثلاثة أوجه:

رجل يزعم أن الله عز وجل أجبر الناس على المعاصي فهذا قد ظلم الله

_____________________________

(1) بحار الأنوار 5: 18 عنه .

____________________________________________________

صفحة 297

في حكمه فهو كافر، ورجل يزعم أن الامر مفوض إليهم فهذا قد أوهن الله

في سلطانه فهو كافر، ورجل يزعم أن الله كلف العباد ما يطيقون ولم

يكلفهم مالا يطيقون وإذا أحسن حمد الله، وإذا أساء استغفر الله، فهذا مسلم

بالغ .

6 - حدثنا علي بن عبد الله الورارق رحمه الله قال: حدثنا سعد بن عبد الله،

عن إسماعيل بن سهل، عن عثمان بن عيسى، عن محمد بن عجلان، قال:

قلت لأبي عبد الله عليه السلام: فوض الله الامر إلى العباد ؟ فقال: الله أكرم من أن

يفوض إليهم، قلت: فأجبر الله العباد على أفعالهم ؟ فقال: الله أعدل من أن

يجبر عبدا على فعل ثم يعذبه عليه .

____________________________________________________

صفحة 298

7 - أبي رحمه الله، قال: حدثنا سعد بن عبد الله، قال: حدثنا أحمد بن محمد

ابن خالد، عن أبيه، عن سليمان بن جعفر الجعفري، عن أبي الحسن

الرضا عليه السلام، قال: ذكر عنده الجبر والتفويض، فقال: ألا أعطيكم في هذا

أصلا لا تختلفون فيه ولا تخاصمون عليه أحدا إلا كسرتموه، قلنا: إن

_____________________________

(1) بحار الأنوار 5: 82 عنه .

____________________________________________________

صفحة 299 - 302

رأيت ذلك، فقال: إن الله عز وجل لم يطع بإكراه، ولم يعص بغلبة ولم يهمل

العباد في ملكه، هو المالك لما ملكهم، والقادر على ما أقدرهم عليه، فإن

_____________________________

(1) بحار الأنوار 5: 71 - 81 عنها .

____________________________________________________

صفحة 303

ائتمر العباد بطاعته لم يكن الله عنها صادا ولا منها مانعا وإن ائتمروا

بمعصيته فشاء أن يحول بينهم وبين 1) ذلك فعل وإن لم يحل وفعلوه فليس

هو الذي أدخلهم فيه، ثم قال عليه السلام: من يضبط حدود هذا الكلام فقد خصم

من خالفه .

____________________________________________________

صفحة 304

8 - حدثنا علي بن أحمد بن محمد بن عمران الدقاق رحمه الله، قال: حدثنا

محمد بن أبي عبد الله الكوفي، عن خنيس بن محمد، عن محمد بن يحيى

الخزاز، عن المفضل بن عمر، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: لا جبر ولا

تفويض ولكن أمر بين أمرين، قال: قلت: وما أمر بين أمرين ؟ قال: مثل

ذلك مثل رجل رأيته على معصية فنهيته فلم ينته فتركته 1) ففعل تلك

المعصية، فليس حيث لم يقبل منك فتركته أنت الذي أمرته بالمعصية .

_____________________________

(1) نهاية ابن الأثير 1: 66 .

(2) القاموس المحيط 1: 365 .

____________________________________________________

صفحة 305

9 - حدثنا محمد بن إبراهيم بن إسحاق المؤدب رحمه الله، قال: حدثنا

أحمد بن علي الأنصاري، عن عبد السلام بن صالح الهروي، قال: سمعت

أبا الحسن علي بن موسى بن جعفر عليهم السلام يقول: من قال بالجبر فلا تعطوه

من الزكاة ولا تقبلوا له شهادة، إن الله تبارك وتعالى لا يكلف نفسا إلا

وسعها، ولا يحملها فوق طاقتها ولا تكسب كل نفس إلا عليها، ولا تزر

وازرة وزر أخرى 1) .

10 - حدثنا جعفر بن محمد بن مسرور رحمه الله قال: حدثنا الحسين بن

محمد بن عامر، عن معلى بن محمد البصري، عن الحسن بن علي الوشاء،

عن أبي الحسن الرضا عليه السلام، قال: سألته فقلت له: الله فوض الامر إلى

العباد ؟ قال: الله أعز من ذلك، قلت: فأجبرهم على المعاصي ؟ قال: الله

أعدل وأحكم من ذلك، ثم قال: قال الله عز وجل: يا ابن آدم أنا أولى

بحسناتك منك، وأنت أولى بسيئاتك مني، عملت المعاصي بقوتي التي

جعلتها فيك .

____________________________________________________

صفحة 306

11 - أبي رحمه الله، قال: حدثنا أحمد بن إدريس، عن محمد بن أحمد،

قال: حدثنا أبو عبد الله الرازي، عن الحسن بن الحسين اللؤلؤي، عن ابن

سنان، عن مهزم، قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: أخبرني عما اختلف فيه من

خلفت من موالينا، قال: قلت: في الجبر والتفويض، قال: فسلني، قلت:

أجبر الله العباد على المعاصي ؟ قال: الله أقهر لهم من ذلك 1) قال: قلت: ففوض

إليهم ؟ قال: الله أقدر عليهم من ذلك، قال: قلت: فأي شئ هذا أصلحك

_____________________________

(1) مجمع البيان 2: 392 .

____________________________________________________

صفحة 307

الله ؟ قال: فقلب يده مرتين أو ثلاثا ثم قال: لو أجبتك فيه لكفرت 1) .

12 - حدثنا أحمد بن هارون الفامي رضي الله عنه، قال: حدثنا محمد بن عبد

الله بن جعفر الحميري، عن أبيه، قال: حدثنا إبراهيم بن هاشم، عن علي

ابن معبد، عن الحسين بن خالد، عن أبي الحسن علي بن موسى الرضا عليهما السلام،

قال: قلت له: يا ابن رسول الله إن الناس ينسبوننا إلى القول بالتشبيه

والجبر لما روي من الاخبار في ذلك عن آبائك الأئمة عليهم السلام، فقال: يا ابن

خالد أخبرني عن الاخبار التي رويت عن آبائي الأئمة عليهم السلام في التشبيه

والجبر أكثر أم الاخبار التي رويت عن النبي صلى الله عليه وآله في ذلك ؟ ! فقلت: بل ما

روي عن النبي صلى الله عليه وآله في ذلك أكثر، قال: فليقولوا: إن رسول الله صلى الله عليه وآله كان

يقول بالتشبيه والجبر إذا، فقلت له: إنهم يقولون: إن رسول الله صلى الله عليه وآله لم يقل

من ذلك شيئا وإنما روي عليه، قال: فليقولوا في آبائي عليهم السلام: إنهم لم

يقولوا من ذلك شيئا وإنما روي عليهم، ثم قال عليه السلام: من قال بالتشبيه

والجبر فهو كافر مشرك ونحن منه براء في الدنيا والآخرة يا ابن خالد إنما

وضع الاخبار عنا في التشبيه والجبر الغلاة 2) الذين صغروا عظمة الله، فمن

أحبهم فقد أبغضنا، ومن أبغضهم فقد أحبنا، ومن والاهم فقد عادانا، ومن

عاداهم فقد والانا، ومن وصلهم فقد قطعنا، ومن قطعهم فقد وصلنا، ومن

____________________________________________________

صفحة 308

جفاهم فقد برنا، ومن برهم فقد جفانا، ومن أكرمهم فقد أهاننا، ومن

أهانهم فقد أكرمنا، ومن قبلهم فقد ردنا، ومن ردهم فقد قبلنا، ومن أحسن

إليهم فقد أساء إلينا، ومن أساء إليهم فقد أحسن إلينا، ومن صدقهم فقد

كذبنا، ومن كذبهم فقد صدقنا، ومن أعطاهم فقد حرمنا، ومن حرمهم فقد

أعطانا، يا ابن خالد من كان من شيعتنا فلا يتخذن منهم وليا ولا نصيرا .

____________________________________________________

صفحة 309 - 311

60 - باب القضاء

والقدر والفتنة والأرزاق والأسعار والآجال

1 - أبي رحمه الله، قال: حدثنا سعد بن عبد الله، قال: حدثنا يعقوب بن

يزيد، عن ابن أبي عمير، عن جميل بن دراج، عن زرارة، عن عبد الله بن

سليمان، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: سمعته يقول: إن القضاء والقدر خلقان

من خلق الله، والله يزيد في الخلق ما يشاء 1) .

____________________________________________________

صفحة 312

2 - حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رحمه الله، قال: حدثنا محمد

ابن الحسن الصفار، عن إبراهيم بن هاشم، عن علي بن معبد، عن درست،

عن بن أذينة عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: قلت له: جلعت فداك ما تقول في

القضاء والقدر ؟ قال: أقول: إن الله تبارك وتعالى إذا جمع العباد يوم القيامة

سألهم عما عهد إليهم 1) ولم يسألهم عما قضى عليهم 2) .

3 - أبي رحمه الله، قال: حدثنا سعد بن عبد الله، قال: حدثنا أحمد بن محمد

ابن عيسى، عن محمد بن خالد البرقي، عن عبد الملك بن عنترة الشيباني،

عن أبيه، عن جده، قال: جاء رجل إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال: يا أمير

المؤمنين أخبرني عن القدر، قال عليه السلام: بحر عميق فلا تلجه، قال: يا أمير

المؤمنين أخبرني عن القدر، قال عليه السلام: طريق مظلم فلا تسلكه، قال: يا

أمير المؤمنين أخبرني عن القدر، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: أما إذا أبيت

فإني سائلك، أخبرني أكانت رحمة الله للعباد قبل أعمال العباد أم كانت

_____________________________

(1) فاطر: 1 .

____________________________________________________

صفحة 313

أعمال العباد قبل رحمة الله 1) ؟ ! قال: فقال له الرجل: بل كانت رحمة الله

للعباد قبل أعمال العباد، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: قوموا فسلموا على

أخيكم فقد أسلم وقد كان كافرا، قال، وانطلق الرجل غير بعيد، ثم انصرف

إليه فقال له، يا أمير المؤمنين أبالمشية الأولى نقوم ونقعد 2) ونقبض

ونبسط ؟ فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: وإنك لبعد في المشية أما إني سائلك

عن ثلاث لا يجعل الله لك في شئ منها مخرجا 3): أخبرني أخلق الله

_____________________________

(1) بحار الأنوار 5: 112 .

____________________________________________________

صفحة 314

العباد كما شاء أو كما شاؤوا ؟ ! فقال: كما شاء، قال عليه السلام: فخلق الله العباد

لما شاء أو لما شاؤوا ؟ ! فقال: لما شاء، قال عليه السلام: يأتونه يوم القيامة كما

شاء أو كما شاؤوا ؟ قال: يأتونه كما شاء، قال عليه السلام: قم فليس إليك من

المشية شئ 1) .

4 - أبي رحمه الله، قال: حدثنا سعد بن عبد الله، عن القاسم بن محمد

الأصبهاني عن سليمان بن داود المنقري، عن سفيان بن عيينة عن

الزهري، قال: قال رجل لعلي بن الحسين عليهما السلام: جعلني الله فداك أبقدر

يصيب الناس ما أصابهم أم بعمل ؟ فقال عليه السلام: إن القدر والعمل بمنزلة

الروح والجسد، فالروح بغير جسد 2) لا تحس، والجسد بغير روح صورة

لا حراك بها فإذا اجتمعا قويا وصلحا، كذلك العمل والقدر، فلو لم يكن

_____________________________

(1) الشورى: 30 .

____________________________________________________

صفحة 315

القدر واقعا على العمل لم يعرف الخالق 1) من المخلوق وكان القدر شيئا

لا يحس، ولو لم يكن العمل بموافقة من القدر لم يمض، ولم يتم، ولكنهما

باجتماعهما قويا، ولله فيه العون لعباده الصالحين ثم قال عليه السلام: ألا إن من

أجور الناس من رأى جوره عدلا 2) وعدل المهتدي جورا، ألا إن للعبد

أربعة أعين: عينان يبصر بهما أمر آخرته وعينان يبصر بهما أمر دنياه، فإذا

أراد الله عز وجل بعبد خيرا فتح له العينين اللتين في قلبه فأبصر بهما

العيب وإذا أراد غير ذلك ترك القلب بما فيه، ثم التفت إلى السائل عن

القدر فقال: هذا منه 3)، هذا منه .

5 - حدثنا أحمد بن الحسن القطان، قال: حدثنا أحمد بن يحيى بن

____________________________________________________

صفحة 316

زكريا القطان، قال: حدثنا بكر بن عبد الله بن حبيب، قال: حدثنا علي بن

زياد، قال: حدثنا مروان بن معاوية، عن الأعمش، عن أبي حيان التيمي،

عن أبيه - وكان مع علي عليه السلام يوم صفين وفيما بعد ذلك - قال: بينا علي بن

أبي طالب عليه السلام يعبى الكتائب يوم صفين ومعاوية مستقبله على فرس له

يتأكل تحته 1) تأكلا وعلي عليه السلام على فرس رسول الله صلى الله عليه وآله المرتجز 2)،

وبيده حربة رسول الله صلى الله عليه وآله، وهو متقلد سيفه ذو الفقار 3) فقال رجل من

أصحابه: احترس يا أمير المؤمنين فإنا نخشى أن يغتالك هذا الملعون،

فقال عليه السلام: لئن قلت ذاك إنه غير مأمون على دينه وإنه لأشقى القاسطين 4)

وألعن الخارجين على الأئمة المهتدين، ولكن كفى بالأجل حارسا، ليس

أحد من الناس إلا ومعه ملائكة حفظة يحفظونه من أن يتردى في بئر أو

يقع عليه حائط أو يصيبه سوء، فإذا حان أجله خلوا بينه وبين ما يصيبه،

_____________________________

(1) نهاية ابن الأثير 3: 464 .

____________________________________________________

صفحة 317

وكذلك أنا إذا حان أجلي انبعث أشقاها فخضب هذه من هذا - وأشار إلى

لحيته ورأسه - عهدا معهودا أو وعدا غير مكذوب 1)، والحديث طويل،

أخذنا منه موضع الحاجة، وقد أخرجته بتمامه في كتاب الدلائل

والمعجزات .

_____________________________

(1) نهاية ابن الأثير 4: 60 .

____________________________________________________

صفحة 318 - 319

6 - حدثنا أبي، ومحمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد قالا: حدثنا

محمد بن يحيى العطار، وأحمد بن إدريس جميعا، عن محمد بن أحمد بن

يحيى بن عمران الأشعري، عن إبراهيم بن هاشم، عن علي بن معبد، عن

عمر بن أذينة، عن زرارة قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: كما أن بادي

النعم من الله عز وجل وقد نحلكموه، فكذلك الشر من أنفسكم وإن جرى

به قدره 1) .

7 - أبي رحمه الله، قال: حدثنا أحمد بن إدريس، قال: حدثنا محمد بن

أحمد، عن يوسف بن الحارث، عن محمد بن عبد الرحمن العرزمي، عن

أبيه عبد الرحمن بإسناده رفعه إلى من قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول:

قدر الله المقادير قبل أن يخلق السماوات 2) والأرض بخمسين ألف سنة .

____________________________________________________

صفحة 320

8 - حدثنا علي بن عبد الله الوراق، وعلي بن محمد بن الحسن

المعروف بابن مقبرة القزويني قالا: حدثنا سعد بن عبد الله، قال: حدثنا

الهيثم بن أبي مسروق النهدي، عن الحسين بن علوان، عن عمرو بن ثابت،

عن سعد بن طريف، عن الأصبغ بن نباتة، قال: إن أمير المؤمنين عليه السلام عدل

من عند حائط مائل إلى حائط آخر، فقيل له: يا أمير المؤمنين أتفر من

قضاء الله ؟ فقال: أفر من قضاء الله إلى قدر الله 1) عز وجل .

9 - حدثنا أبو الحسن محمد بن عمرو بن علي البصري قال: حدثنا

أبو الحسن علي بن الحسن المثنى قال: حدثنا أبو الحسن علي بن مهرويه

القزويني، قال: حدثنا أبو أحمد الغازي، قال: حدثنا علي بن موسى الرضا

قال: حدثنا أبي موسى بن جعفر، قال: حدثنا أبي جعفر بن محمد، قال:

حدثنا أبي محمد بن علي، قال: حدثنا أبي علي بن الحسين، قال: حدثنا

أبي الحسين بن علي عليهم السلام، قال: سمعت أبي علي بن أبي طالب عليه السلام

يقول: الاعمال على ثلاثة أحوال: فرائض وفضائل ومعاصي وأما

الفرائض فبأمر الله عز وجل، وبرضى الله وقضاء الله وتقديره ومشيته

____________________________________________________

صفحة 321

وعلمه، وأما الفضائل فليست بأمر الله 1) ولكن برضى الله وبقضاء الله وبقدر

الله وبمشيته وبعلمه، وأما المعاصي فليست بأمر الله ولكن بقضاء الله وبقدر

الله وبمشيته وبعلمه، ثم يعاقب عليها .

قال مصنف هذا الكتاب: قضاء الله عز وجل في المعاصي حكمه فيها،

ومشيته في المعاصي نهيه عنها، وقدره فيها علمه بمقاديرها ومبالغها .

10 - وبهذا الاسناد قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: الدنيا كلها جهل إلا

مواضع العلم، والعلم كله حجة إلا ما عمل به، والعمل كله رياء إلا ما كان

مخلصا 2)، والاخلاص على خطر حتى ينظر العبد بما يختم له .

11 - حدثنا الحسين بن إبراهيم بن أحمد المؤدب رضي الله عنه، قال: حدثنا

علي بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن علي بن معبد، عن الحسين بن

خالد، عن علي بن موسى الرضا، عن أبيه موسى بن جعفر، عن أبيه جعفر

ابن محمد، عن أبيه محمد بن علي، عن أبيه علي بن الحسين، عن أبيه

الحسين بن علي، عن أبيه علي بن أبي طالب عليهم السلام، قال: سمعت رسول

الله صلى الله عليه وآله يقول: قال الله جل جلاله: من لم يرض بقضائي ولم يؤمن بقدري

فليلتمس إلها غيري 3)، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: في كل قضاء الله خيرة

للمؤمن .

____________________________________________________

صفحة 322

12 - حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رحمه الله، قال: حدثنا

محمد بن الحسن الصفار، عن محمد بن الحسين بن أبي الخطاب، عن

محمد بن إسماعيل بن بزيع، عن محمد بن عذافر، عن أبيه، عن أبي جعفر

عليه السلام، قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وآله ذات يوم في بعض أسفاره إذ لقيه ركب

فقالوا: السلام عليك يا رسول الله، فالتفت إليهم فقال: ما أنتم ؟ فقالوا:

مؤمنون، فقال: ما حقيقة إيمانكم ؟ قالوا: الرضا بقضاء الله والتسليم لامر

الله والتفويض إلى الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: علماء حكماء كادوا أن

يكونوا من الحكمة أنبياء، فإن كنتم صادقين فلا تبنوا مالا تسكنون، ولا

تجمعوا مالا تأكلون، واتقوا الله الذي إليه ترجعون .

13 - حدثنا أحمد بن الحسن القطان، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن

سعيد الهمداني، قال: حدثنا علي بن الحسن بن علي بن فضال، عن أبيه،

عن هارون بن مسلم عن ثابت بن أبي صفية، عن سعد الخفاف، عن

الأصبغ بن نباتة، قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام لرجل: إن كنت لا تطيع

خالقك فلا تأكل رزقه وإن كنت واليت عدوه فاخرج عن ملكه، وإن كنت

غير قانع بقضائه وقدره فاطلب ربا سواه .

14 - وبهذا الاسناد، قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: قال الله تبارك

وتعالى لموسى عليه السلام: يا موسى احفظ وصيتي لك بأربعة أشياء: أولهن ما

دمت لا ترى ذنوبك تغفر فلا تشغل بعيوب غيرك، والثانية ما دمت لا ترى

كنوزي قد نفدت فلا تغتم بسبب رزقك، والثالثة ما دمت لا ترى زوال

ملكي فلا ترج أحدا غيري، والرابعة ما دمت لا ترى الشيطان ميتا فلا

تأمن مكره .

____________________________________________________

صفحة 323

15 - وبهذا الاسناد عن الأصبغ بن نباتة، قال: قال أمير

المؤمنين عليه السلام: أما بعد فإن الاهتمام بالدنيا غير زائد في الموظوف وفيه

تضييع الزاد، والاقبال على الآخرة غير ناقص من المقدور وفيه إحراز

المعاد، وأنشد:

لو كان في صخرة في البحر راسية * صماء ملمومة ملس نواحيها

رزق لنفس يراها الله لانفلقت * عنه فأدت إليه كل ما فيها

أو كان بين طباق السبع مجمعه * لسهل الله في المرقى مراقيها

حتى يوافي الذي في اللوح خط له * إن هي أتته وإلا فهو يأتيها

قال مصنف هذا الكتاب: كل ما مكننا الله عز وجل من الانتفاع به ولم

يجعل لاحد منعنا منه فقد رزقناه وجعله رزقا لنا 1)، وكل ما لم يمكننا الله

عز وجل من الانتفاع به وجعل لغيرنا منعنا منه فلم يرزقناه ولا جعله

رزقا لنا .

16 - حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثنا سعد بن عبد الله، عن إبراهيم بن

هاشم، عن أحمد بن سليمان، قال: سأل رجل أبا الحسن عليه السلام وهو في

الطواف فقال له: أخبرني عن الجواد، فقال له: إن لكلامك وجهين: فإن

كنت تسأل عن المخلوق فإن الجواد الذي يؤدي ما افترض الله عز وجل

عليه، والبخيل من بخل بما افترض الله عليه، وإن كنت تعني الخالق فهو

الجواد إن أعطى وهو الجواد إن منع لأنه إن أعطى عبدا أعطاه ما ليس له

وإن منع منع ما ليس له .

____________________________________________________

صفحة 324

17 - حدثنا أبو محمد الحسن بن محمد بن يحيى بن الحسن بن جعفر

ابن عبيد الله بن الحسين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام،

قال: حدثني جدي يحيى بن الحسن، قال: حدثنا يعقوب بن يزيد، قال:

حدثني ابن أبي عمير و عبد الله بن المغيرة، عن أبي حفص الأعشى، عن

أبي حمزة، عن علي بن الحسين عليهما السلام قال: خرجت حتى انتهيت إلى هذا

الحائط فاتكيت عليه، فإذا رجل عليه ثوبان أبيضان ينظر في وجهي، ثم

قال لي: يا علي بن الحسين مالي أراك كئيبا حزينا، أعلى الدنيا حزنك ؟

فرزق الله حاضر للبر والفاجر، فقلت: ما على هذا أحزن وإنه لكما تقول،

قال: أفعلى الآخرة حزنك ؟ فهو وعد صادق يحكم فيه ملك قاهر، قلت: ما

على هذا أحزن وإنه لكما تقول، قال: فعلى ما حزنك ؟ فقلت: لما أتخوف

_____________________________

(1) فروع الكافي 5: 80 ح 1 .

____________________________________________________

صفحة 325 - 326

من فتنة ابن الزبير 1)، فضحك، ثم قال: يا علي بن الحسين هل رأيت أحدا

خاف الله تعالى فلم ينجه ؟ قلت: لا، قال: يا علي بن الحسين هل رأيت

أحدا سأل الله عز وجل فلم يعطه ؟ قلت: لا، قال عليه السلام: ثم نظرت فإذا ليس

قدامي أحد .

_____________________________

(1) الأربعين للشيخ البهائي ص 105 - 106 الحديث الثالث عشر .

____________________________________________________

صفحة 327

18 - حدثنا الحسين بن أحمد بن إدريس رحمه الله، قال: حدثنا أبي، قال:

حدثنا أحمد بن محمد بن عيسى، عن عبد الرحمن بن أبي نجران، عن

المفضل بن صالح، عن جابر بن يزيد الجعفي، عن أبي جعفر محمد بن

علي الباقر عليهما السلام قال: إن موسى بن عمران عليه السلام قال: يا رب رضيت بما

قضيت، تميت الكبير وتبقي الصغير، فقال الله جل جلاله: يا موسى أما

ترضاني لهم رازقا وكفيلا ؟ قال: بلى يا رب، فنعم الوكيل أنت ونعم

الكفيل .

19 - حدثنا حمزة بن محمد بن أحمد بن جعفر بن محمد بن زيد بن

علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، وأحمد بن الحسن القطان،

ومحمد بن إبراهيم بن أحمد المعاذي، قالوا: حدثنا أحمد بن محمد بن

سعيد الهمداني مولى بني هاشم، قال: حدثنا يحيى بن إسماعيل الجريري

قراءة، قال: حدثنا الحسين بن إسماعيل قال: حدثنا عمرو بن جميع، عن

جعفر بن محمد، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن جده عليهم السلام قال: دخل

الحسين بن علي عليهما السلام على معاوية فقال له: ما حمل أباك على أن قتل

____________________________________________________

صفحة 328

أهل البصرة ثم دار عشيا في طرقهم في ثوبين ؟ ! فقال عليه السلام: حمله على

ذلك عمله أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه،

قال: صدقت، قال: وقيل لأمير المؤمنين عليه السلام لما أراد قتال الخوارج: لو

احترزت يا أمير المؤمنين فقال عليه السلام:

أي يومي من الموت أفر * أيوم لم يقدر أم يوم قدر

يوم ما قدر لا أخشى الردى * وإذا قدر لم يغن الحذر

20 - حدثنا أبو الحسن علي بن عبد الله بن أحمد الأصبهاني، قال:

حدثنا مكي بن أحمد بن سعدويه البرذعي، قال: أخبرنا أبو منصور محمد

ابن القاسم بن عبد الرحمن العتكي، قال: حدثنا محمد بن أشرس، قال:

حدثنا إبراهيم بن نصر قال: حدثنا وهب بن وهب بن هشام أبو البختري،

قال: حدثنا جعفر بن محمد عن أبيه، عن جده، عن علي بن أبي طالب عليهم السلام

عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: يا علي إن اليقين أن لا ترضي أحدا على سخط

الله، ولا تحمدن أحدا على ما آتاك الله 1)، ولا تذمن أحدا على ما

____________________________________________________

صفحة 329

لم يؤتك الله، فإن الرزق لا يجره حرص حريص ولا يصرفه كره كاره، فإن

الله عز وجل بحكمته وفضله جعل الروح والفرح في اليقين والرضا،

وجعل الهم والحزن في الشك والسخط 1)، إنه لا فقر أشد من الجهل 2)، ولا

____________________________________________________

صفحة 330

مال أعود من العقل 1)، ولا وحدة أوحش من العجب 2)، ولا مظاهرة أوثق

من المشاورة 3)، ولا عقل كالتدبير 4)، ولا ورع كالكف عن المحارم 5)،

_____________________________

(1) العنكبوت: 13 .

(2) آل عمران: 159 .

(3) كنز العمال 7: 813 .

(4) راجع بحار الأنوار 75: 103 - 104 .

____________________________________________________

صفحة 331

ولا حسب كالأدب 1)، ولا عبادة كالتفكر 2)، وآفة الحديث الكذب 3)،

وآفة العلم النسيان 4)، وآفة العبادة الفترة 5)، وآفة الظرف الصلف 6)،

_____________________________

(1) راجع: 71: 320 - 328 .

(2) التوبة: 67 .

(3) القاموس 3: 163 .

____________________________________________________

صفحة 332

وآفة الشجاعة البغي 1)، وآفة السماحة 2) المن، وآفة الجمال الخيلاء 3)،

وآفة الحسب الفخر 4) .

21 - حدثنا الحسين بن أحمد بن إدريس رحمه الله، قال: حدثنا أبي، قال:

حدثنا محمد بن أبي الصهبان، قال: حدثنا أبو أحمد محمد بن زياد

الأزدي، قال: حدثني أبان الأحمر، عن الصادق جعفر بن محمد عليهما السلام أنه

جاء إليه رجل فقال له: بأبي أنت وأمي عظني موعظة، فقال عليه السلام: إن كان

الله تبارك وتعالى قد تكفل بالرزق فاهتمامك لماذا، وإن كان الرزق

مقسوما فالحرص لماذا، وإن كان الحساب حقا فالجمع لماذا، وإن كان

الخلف من الله عز وجل حقا فالبخل لماذا وإن كانت العقوبة من الله عز

وجل النار فالمعصية لماذا، وإن كان الموت حقا فالفرح لماذا وإن كان

العرض على الله عز وجل حقا فالمكر لماذا، وإن كان الشيطان عدوا

فالغفلة لماذا، وإن كان الممر على الصراط حقا فالعجب لماذا، وإن كان كل

شئ بقضاء وقدر فالحزن لماذا، وإن كانت الدنيا فانية فالطمأنينة إليها

لماذا ؟ ! .

_____________________________

(1) كنز العمال 3: 446 برقم: 7375 .

(2) المدثر: 6 .

____________________________________________________

صفحة 333

22 - حدثنا أبو منصور أحمد بن إبراهيم بن بكر الخوري بنيسابور،

قال: حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن هارون الخوري، قال: حدثنا

جعفر بن محمد بن زياد الفقيه الخوري، قال: حدثنا أحمد بن عبد الله

الجويباري الشيباني، عن علي بن موسى الرضا، عن أبيه، عن آبائه، عن

علي عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إن الله عز وجل قدر المقادير ودبر

التدابير قبل أن يخلق آدم بألفي عام 1) .

23 - حدثنا أبو عبد الله الحسين بن محمد الأشناني الرازي العدل

ببلخ، قال: حدثنا علي بن مهرويه القزويني قال: حدثنا علي بن موسى

الرضا، عن أبيه، عن آبائه، عن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، قال:

إن يهوديا سأل علي بن أبي طالب عليه السلام فقال: أخبرني عما ليس لله وعما

ليس عند الله وعما لا يعلمه الله، فقال عليه السلام: أما ما لا يعلمه الله عز وجل

فذلك قولكم يا معشر اليهود: إن عزيرا ابن الله والله لا يعلم له ولدا، وأما

قولك ما ليس لله فليس لله شريك، وقولك: ما ليس عند الله فليس عند الله

ظلم للعباد، فقال اليهودي، أنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول

الله .

24 - حدثنا محمد بن إبراهيم بن أحمد بن يونس الليثي، قال: حدثنا

_____________________________

(1) هود: 7 .

____________________________________________________

صفحة 334

أحمد بن محمد بن سعيد الهمداني مولى بني هاشم، قال: أخبرني الحارث

ابن أبي أسامة قراءة، عن المدائني، عن عوانة بن الحكم، و عبد الله بن

العباس بن سهل الساعدي، وأبي بكر الخراساني مولى بني هاشم، عن

الحارث بن حصيرة، عن عبد الرحمن بن جندب، عن أبيه وغيره أن

الناس أتوا الحسن بن علي بعد وفاة علي عليهما السلام ليبايعوه فقال: الحمد لله

على ما قضى من أمر، وخص من فضل، وعم من أمر، وجلل من عافية

حمدا يتمم به علينا نعمه ونستوجب به رضوانه، إن الدنيا دار بلاء وفتنة

وكل ما فيها إلى زوال، وقد نبأنا الله عنها كيما نعتبر، فقدم إلينا بالوعيد كي

لا يكون لنا حجة بعد الانذار، فازهدوا فيما يفنى، وارغبوا فيما يبقى،

وخافوا الله في السر والعلانية، إن عليا عليه السلام في المحيا والممات والمبعث

عاش بقدر ومات بأجل، وإني أبايعكم على أن تسالموا من سالمت

وتحاربوا من حاربت، فبايعوه على ذلك .

قال محمد بن علي بن الحسين مصنف هذا الكتاب: أجل موت

الانسان هو وقت موته 1)، وأجل حياته هو وقت حياته وذلك معنى قول

____________________________________________________

صفحة 335 - 338

الله عز وجل: فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا

يستقدمون 1) (1) وإن مات الانسان حتف أنفه على فراشه أو قتل فإن

أجل موته هو وقت موته، وقد يجوز أن يكون المقتول لو لم يقتل لمات

من ساعته، وقد يجوز أن يكون لو لم يقتل لبقي 2) وعلم ذلك مغيب عنا

وقد قال الله عز وجل: قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم

القتل إلى مضاجعهم 3) (2) وقال عز وجل: قل لن ينفعكم الفرار إن

فررتم من الموت أو القتل (3) ولو قتل جماعة في وقت لجاز أن يقال: إن

جميعهم ماتوا بآجالهم وإنهم لو لم يقتلوا لماتوا من ساعتهم، كما كان

_____________________________

(1) الأعراف: 34، والنحل: 61 .

(2) آل عمران: 154 .

(3) الأحزاب: 16 .

____________________________________________________

صفحة 339

يجوز أن يقع الوباء في جميعهم 1) فيميتهم في ساعة واحدة، وكان لا يجوز

أن يقال: إنهم ماتوا بغير آجالهم، وفي الجملة ان أجل الانسان هو الوقت

الذي علم الله عز وجل أنه يموت فيه أو يقتل، وقول الحسن عليه السلام في أبيه

عليه السلام (إنه عاش بقدر ومات بأجل) تصديق لما قلناه في هذا الباب، والله

الموفق للصواب بمنه .

25 - حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب السجزي بنيسابور،

قال: أخبرنا أبو نصر منصور بن عبد الله بن إبراهيم الأصبهاني، قال: حدثنا

علي بن عبد الله، قال: حدثنا الحسن بن أحمد الحراني، قال: حدثنا يحيى

ابن عبد الله بن الضحاك، عن الأوزاعي: عن يحيى بن أبي كثير، قال: قيل

لأمير المؤمنين عليه السلام: ألا نحرسك: قال: حرس كل امرئ أجله .

_____________________________

(1) مجمع البيان 1: 523 .

____________________________________________________

صفحة 340

26 - حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب قال: حدثنا منصور بن

عبد الله، قال: حدثنا علي بن عبد الله، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال:

حدثنا إسحاق بن إبراهيم، قال: حدثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن سعيد

بن وهب، قال: كنا مع سعيد بن قيس بصفين ليلا والصفان ينظر كل واحد

منهما إلى صاحبه حتى جاء أمير المؤمنين عليه السلام فنزلنا على فنائه فقال له

سعيد بن قيس: أفي هذه الساعة يا أمير المؤمنين ؟ ! أما خفت شيئا، قال:

وأي شئ أخاف ؟ ! إنه ليس من أحد إلا ومعه ملكان موكلان به أن يقع

في بئر أو تضر به دابة أو يتردى من جبل حتى يأتيه القدر، فإذا أتى القدر

خلوا بينه وبينه .

27 - حدثنا أبو نصر محمد بن أحمد بن إبراهيم بن تميم السرخسي

بسرخس قال: حدثنا أبو لبيد محمد بن إدريس الشامي، قال: حدثنا إبراهيم

ابن سعيد الجوهري، قال: حدثنا أبو ضمرة أنس بن عياض، عن أبي

حازم، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله:

لا يؤمن أحدكم حتى يؤمن بالقدر خيره وشره 1) وحلوه ومره .

28 - حدثنا علي بن أحمد بن محمد بن عمران الدقاق رضي الله عنه، قال:

حدثنا محمد بن الحسن الطائي، قال: حدثنا أبو سعيد سهل بن زياد

الآدمي الرازي عن علي بن جعفر الكوفي، قال: سمعت سيدي علي بن

____________________________________________________

صفحة 341

محمد يقول: حدثني أبي محمد بن علي، عن أبيه الرضا علي بن موسى،

عن أبيه موسى بن جعفر، عن أبيه جعفر بن محمد، عن أبيه محمد بن

علي، عن أبيه علي بن الحسين، عن أبيه الحسين بن علي عليهم السلام، وحدثنا

محمد بن عمر الحافظ البغدادي، قال: حدثني أبو القاسم إسحاق بن جعفر

العلوي، قال: حدثني أبي جعفر بن محمد بن علي، عن سليمان بن محمد

القرشي، عن إسماعيل بن أبي زياد السكوني، عن جعفر بن محمد، عن

أبيه محمد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام - واللفظ لعلي بن

أحمد بن محمد بن عمران الدقاق - قال: دخل رجل من أهل العراق على

أمير المؤمنين عليه السلام فقال: أخبرنا عن خروجنا إلى أهل الشام أبقضاء من

الله وقدر ؟ فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: أجل يا شيخ 1)، فوالله ما علوتم

____________________________________________________

صفحة 342

تلعة 1) ولا هبطتم بطن واد إلا بقضاء من الله وقدر فقال الشيخ: عند الله

أحتسب عنائي يا أمير المؤمنين، فقال: مهلا يا شيخ، لعلك تظن قضاء

حتما وقدرا لازما لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب والأمر والنهي

والزجر، ولسقط معنى الوعيد والوعد، ولم يكن على مسيئ لائمة ولا

لمحسن محمدة، ولكان المحسن أولى باللائمة من المذنب، والمذنب أولى

بالاحسان من المحسن 2) ذلك مقالة عبدة الأوثان وخصماء الرحمن

____________________________________________________

صفحة 343

وقدرية هذه الأمة ومجوسها 1) يا شيخ إن الله عز وجل كلف

_____________________________

(1) الدر المنثور 2: 37 للشيخ علي بن محمد بن الحسن بن زين الدين العاملي .

____________________________________________________

صفحة 344 - 346

تخييرا 1)، ونهى تحذيرا 2)، وأعطى على القليل كثيرا 3)، ولم يعص

مغلوبا 4)، ولم يطع مكرها، ولم يخلق السماوات والأرض وما بينهما

باطلا 5) ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار .

____________________________________________________

صفحة 347

قال: فنهض الشيخ وهو يقول:

أنت الامام الذي نرجو بطاعته * يوم النجاة من الرحمن غفرانا

أوضحت من ديننا ما كان ملتبسا * جزاك ربك عنا فيه إحسانا

فليس معذرة في فعل فاحشة * قد كنت راكبها فسقا وعصيانا

لا لا ولا قائلا ناهيه أوقعه 1) * فيها عبدت إذا يا قوم شيطانا 2)

ولا أحب ولا شاء الفسوق ولا * قتل الولي له ظلما وعدوانا 3)

أنى يحب وقد صحت عزيمته 4) * ذو العرش أعلن ذاك الله إعلانا

____________________________________________________

صفحة 348

قال مصنف هذا الكتاب: لم يذكر محمد بن عمر الحافظ في آخر هذا

الحديث إلا بيتين من هذا الشعر من أوله .

وحدثتنا بهذا الحديث أبو الحسين محمد بن إبراهيم بن إسحاق

الفارسي العزائمي، قال: حدثنا أبو سعيد أحمد بن رميح النسوي بجرجان،

قال: حدثنا عبد العزيز بن إسحاق بن جعفر ببغداد، قال: حدثني عبد

الوهاب بن عيسى المروزي، قال: حدثنا الحسن بن علي بن محمد

البلوي، قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن نجيح، عن أبيه، عن جعفر بن

محمد، عن أبيه، عن جده عليهم السلام .

وحدثنا بهذا الحديث أيضا أحمد بن الحسن القطان قال: حدثنا

الحسن بن علي السكري . قال: حدثنا محمد بن زكريا الجوهري، قال:

حدثنا العباس بن بكار الضبي، قال: حدثنا أبو بكر الهذلي، عن عكرمة، عن

ابن عباس: قال: لما انصرف أمير المؤمنين عليه السلام من صفين قام إليه شيخ ممن

شهد معه الواقعة فقال: يا أمير المؤمنين أخبرنا عن مسيرنا هذا أبقضاء من

الله وقدر ؟ وذكر الحديث مثله سواء، إلا أنه زاد فيه: فقال الشيخ: يا أمير

المؤمنين فما القضاء والقدر اللذان ساقانا 1) وما هبطنا واديا ولا علونا تلعة

____________________________________________________

صفحة 349

إلا بهما ؟ فقال أمير المؤمنين عليه السلام: الامر من الله والحكم ثم تلا هذه الآية:

وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه 1) وبالوالدين إحسانا (1) أي أمر ربك ألا

تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا .

29 - حدثنا علي بن أحمد بن محمد بن عمران الدقاق رحمه الله، قال:

حدثنا محمد بن أبي عبد الله الكوفي، قال: حدثنا موسى بن عمران

النخعي، عن عمه الحسين بن يزيد النوفلي، عن علي بن سالم، عن أبي عبد

_____________________________

(1) الاسراء: 23 .

(2) بحار الأنوار 5: 96 ح 20 .

(3) مجمع البيان 3: 409 .

____________________________________________________

صفحة 350

الله عليه السلام، قال: سألته عن الرقي أتدفع من القدر شيئا ؟ فقال: هي من القدر 1)،

____________________________________________________

صفحة 351

وقال عليه السلام: إن القدرية مجوس هذه الأمة 1) وهم الذين أرادوا أن يصفوا الله

بعدله فأخرجوه من سلطانه، وفيهم نزلت هذه الآية: يوم يسحبون في

النار على وجوههم ذوقوا مس سقر 2) * إنا كل شئ خلقناه بقدر . (1)

_____________________________

(1) القمر: 49 .

(2) نهاية ابن الأثير 2: 254 - 255 .

____________________________________________________

صفحة 352

30 - حدثنا أبو الحسين محمد بن إبراهيم بن إسحاق الفارسي

العزائمي، قال: حدثني أبو سعيد أحمد بن محمد بن رميح النسوي، قال:

حدثنا عبد العزيز بن يحيى التميمي بالبصرة، وأحمد بن إبراهيم بن معلى

بن أسد العمي، قالا: حدثنا محمد بن زكريا الغلابي قال: حدثنا أحمد بن

عيسى ابن زيد قال: حدثنا عبد الله بن موسى بن عبد الله بن حسن، عن

أبيه، عن آبائه، عن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهما السلام، أنه سئل عن قول

الله عز وجل: إنا كل شئ خلقناه بقدر، فقال: يقول عز وجل: إنا كل

شئ خلقناه لأهل النار بقدر أعمالهم .

31 - حدثنا أبي رحمه الله قال: حدثنا علي بن الحسن الكوفي، عن أبيه

الحسن بن علي بن عبد الله الكوفي، عن جده عبد الله بن المغيرة، عن

إسماعيل بن مسلم أنه سئل الصادق عليه السلام عن الصلاة خلف من يكذب بقدر

الله عز وجل، قال: فليعد كل صلاة صلاها خلفه .

____________________________________________________

صفحة 353

32 - حدثنا محمد بن موسى بن المتوكل رحمه الله، قال: حدثنا علي بن

الحسين السعد آبادي، قال: حدثنا أحمد بن أبي عبد الله البرقي، عن أبيه،

عن محمد بن سنان، عن زياد بن المنذر، عن سعد بن طريف، عن الأصبغ

ابن نباتة، قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام في القدر: ألا إن القدر سر من سر

الله، وستر من ستر الله 1)، وحرز من حرز الله، مرفوع في حجاب الله،

مطوي عن خلق الله، مختوم بخاتم الله، سابق في علم الله، وضع الله العباد

عن علمه ورفعه فوق شهاداتهم 2) ومبلغ عقولهم لأنهم لا ينالونه بحقيقة

الربانية 3) ولا بقدرة الصمدانية ولا بعظمة النورانية ولا بعزة الوحدانية،

_____________________________

(1) مجمع البيان 5: 194 .

____________________________________________________

صفحة 354

لأنه بحر زاخر خالص لله تعالى، عمقه ما بين السماء والأرض 1)، عرضه

ما بين المشرق والمغرب، أسود كالليل الدامس، كثير الحيات والحيتان 2)،

يعلو مرة ويسفل أخرى 3)، في قعره شمس تضئ 4)، لا ينبغي أن يطلع

إليها إلا الله الواحد الفرد، فمن تطلع إليها فقد ضاد الله عز وجل 5) في

____________________________________________________

صفحة 355

حكمه ونازعه في سلطانه، وكشف عن ستره وسره، وباء بغضب من الله

ومأواه جهنم وبئس المصير .

قال مصنف هذا الكتاب نقول: إن الله تبارك وتعالى قد قضى جميع

أعمال العباد وقدرها وجميع ما يكون في العالم من خير وشر، والقضاء قد

يكون بمعنى الاعلام كما قال الله عز وجل: وقضينا إلى بني إسرائيل في

_____________________________

(1) بحار الأنوار 5: 97 ح 22 عن الاعتقادات ص 34 - 35 .

____________________________________________________

صفحة 356 - 358

الكتاب 1) (1) يريد أعلمناهم، وكما قال الله عز وجل: وقضينا إليه ذلك

الامر 2) أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين (2) يريد أخبرناه وأعلمناه، فلا

ينكر أن يكون الله عز وجل يقضي أعمال العباد وسائر ما يكون من خير

وشر على هذا المعنى 3) لان الله عز وجل عالم بها أجمع . ويصح أن يعلمها

عباده ويخبرهم عنها، وقد يكون القدر أيضا في معنى الكتاب والاخبار

_____________________________

(1) الاسراء: 4 .

(2) الحجر: 66 .

(3) مجمع البيان 3: 398 .

(4) مجمع البيان 3: 342 .

____________________________________________________

صفحة 359

كما قال الله عز وجل: إلا امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين 1) (1) يعني

كتبنا وأخبرنا، وقال العجاج:

واعلم بأن ذا الجلال قد قدر في الصحف الأولى التي كان سطر

و (قدر) معناه كتب .

وقد يكون القضاء بمعنى الحكم والالزام، قال الله عز وجل وقضى

ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا (2) يريد حكم بذلك وألزمه

خلقه، فقد يجوز أن يقال: إن الله عز وجل قد قضى من أعمال العباد على

هذا المعنى ما قد ألزمه عباده وحكم به عليهم وهي الفرائض دون غيرها،

وقد يجوز أيضا أن يقدر الله أعمال العباد بأن يبين مقاديرها وأحوالها من

حسن وقبح وفرض ونافلة وغير ذلك، ويفعل من الأدلة على ذلك ما

يعرف به هذه الأحوال لهذه الأفعال فيكون عز وجل مقدرا لها في

الحقيقة، وليس يقدرها ليعرف مقدارها، ولكن ليبين لغيره ممن لا يعرف

ذلك حال ما قدره بتقديره إياه، وهذا أظهر من أن يخفى، وأبين من أن

يحتاج إلى الاستشهاد عليه، ألا ترى أنا قد نرجع إلى أهل المعرفة

بالصناعات في تقديرها لنا فلا يمنعهم علمهم بمقاديرها من أن يقدروها

_____________________________

(1) الحجر: 60 .

(2) الاسراء: 23 .

____________________________________________________

صفحة 360

لنا ليبينوا لنا مقاديرها، وإنما أنكرنا أن يكون الله عز وجل حكم بها على

عباده ومنعهم من الانصراف عنها، أو أن يكون فعلها وكونها، فأما أن

يكون الله عز وجل خلقها خلق تقدير فلا ننكره .

وسمعت بعض أهل العلم يقول: إن القضاء على عشرة أوجه: فأول

وجه منها العلم وهو قول الله عز وجل: إلا حاجة في نفس يعقوب

قضاها 1) (1) يعني علمها .

والثاني الاعلام وهو قوله عز وجل: وقضينا إلى بني إسرائيل في

الكتاب وقوله عز وجل: وقضينا إليه ذلك الامر أي أعلمناه .

والثالث الحكم وهو قوله عز وجل: والله يقضي بالحق أي يحكم

بالحق .

والرابع القول وهو قوله عز وجل: والله يقضي بالحق (2) أي يقول

الحق .

والخامس الحتم وهو قوله عز وجل: فلما قضينا عليه الموت (3)

يعني حتمنا، فهو القضاء الحتم .

والسادس الامر وهو قوله عز وجل: وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه

يعني أمر ربك .

_____________________________

(1) يوسف: 68 .

(2) المؤمن: 20 .

(3) سبأ: 14 .

(4) مجمع البيان 3: 340 .

____________________________________________________

صفحة 361 - 364

والسابع الخلق وهو قوله عز وجل: فقضيهن سبع سماوات في

يومين (1) يعني خلقهن .

والثامن الفعل وهو قوله عز وجل: فاقض ما أنت قاض (2) أي

افعل ما أنت فاعل .

والتاسع الاتمام وهو قوله عز وجل: فلما قضى موسى الأجل

وقوله عز وجل حكاية عن موسى: أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي

والله على ما نقول وكيل (3) أي أتممت .

والعاشر الفراغ من الشئ وهو قوله عز وجل: قضي الامر الذي فيه

تستفتيان (4) يعني فرغ لكما منه، وقول القائل: قد قضيت لك حاجتك،

يعني فرغت لك منها، فيجوز أن يقال: إن الأشياء كلها بقضاء الله وقدره

تبارك وتعالى بمعنى أن الله عز وجل قد علمها وعلم مقاديرها، وله عز

وجل في جميعها حكم من خير أو شر، فما كان من خير فقد قضاه بمعنى

أنه أمر به وحتمه وجعله حقا وعلم مبلغه ومقداره، وما كان من شر فلم

يأمر به ولم يرضه ولكنه عز وجل قد قضاه وقدره بمعنى أنه علمه بمقداره

ومبلغه وحكم فيه بحكمه .

_____________________________

(1) فصلت: 12 .

(2) طه: 72 .

(3) القصص: 28 .

(4) يوسف: 41 .

____________________________________________________

صفحة 365

والفتنة على عشرة أوجه فوجه منها الضلال .

والثاني الاختبار وهو قول الله عز وجل: وفتناك فتونا (1) يعني

اختبرناك اختبارا، وقوله عز وجل: ألم أحسب الناس أن يتركوا أن

يقولوا آمنا وهم لا يفتنون (2) أي لا يختبرون .

والثالث الحجة وهو قوله عز وجل: ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا

والله ربنا ما كنا مشركين (3) .

والرابع الشرك وهو قوله عز وجل: والفتنة أشد من القتل (4) .

والخامس الكفر وهو قوله عز وجل: ألا في الفتنة سقطوا (5) يعني

في الكفر .

والسادس الاحراق بالنار وهو قوله عز وجل: إن الذين فتنوا

المؤمنين والمؤمنات - الآية (6) يعني أحرقوا .

والسابع العذاب وهو قوله عز وجل: يوم هم على النار يفتنون (7)

يعني يعذبون، وقوله عز وجل: ذوقوا فتنتكم هذا الذي كنتم به

_____________________________

(1) طه: 40 .

(2) العنكبوت: 2 .

(3) الانعام: 23 .

(4) البقرة: 191 .

(5) التوبة: 49 .

(6) البروج: 10 .

(7) الذاريات: 13 .

(8) مجمع البيان 3: 249 - 250 .

(9) الجمعة: 10 .

____________________________________________________

صفحة 366

تكذبون (1) يعني عذابكم، وقوله عز وجل: ومن يرد الله فتنته (يعني

عذابه) فلن تملك له من الله شيئا (2) .

والثامن القتل وهو قوله عز وجل: إن خفتم أن يفتنكم الذين

كفروا (3) يعني إن خفتم أن يقتلوكم، وقوله عز وجل: فما آمن لموسى

إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملائهم أن يفتنهم (4) يعني أن

يقتلهم .

والتاسع الصد وهو قوله عز وجل: وإن كادوا ليفتنونك عن الذي

أوحينا إليك (5) يعني ليصدونك .

والعاشر شدة المحنة وهو قوله عز وجل: ربنا لا تجعلنا فتنة

للذين كفروا (6) وقوله عز وجل: ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين

(7) أي محنة فيفتنوا بذلك ويقولوا في أنفسهم: لم يقتلهم إلا دينهم الباطل

وديننا الحق فيكون ذلك داعيا لهم إلى النار على ما هم عليه من الكفر

والظلم .

قد زاد علي بن إبراهيم بن هاشم على هذه الوجوه العشرة وجها آخر

فقال: من وجوه الفتنة ما هو المحبة وهو قوله عز وجل: إنما أموالكم

وأولادكم فتنة (8) أي محبة، والذي عندي في ذلك أن وجوه الفتنة عشرة

وأن الفتنة في هذا الموضع أيضا المحنة - بالنون - لا المحبة - بالباء - .

_____________________________

(1) الذاريات: 14 . وفي المصحف (به تستعجلون) .

(2) المائدة: 41 .

(3) النساء: 101 .

(4) يونس: 83 .

(5) الاسراء: 73 .

(6) الممتحنة: 5 .

(7) يونس: 85 .

(8) الأنفال: 28، والتغابن: 15 .

____________________________________________________

صفحة 367

وتصديق ذلك قول النبي صلى الله عليه وآله (الولد مجهلة محنة مبخلة) 1) وقد أخرجت

هذا الحديث مسندا في كتاب مقتل الحسين بن علي صلى الله عليهما .

33 - حدثنا أحمد بن زياد بن جعفر الهمداني رضي الله عنه، قال: حدثنا علي

ابن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن غياث بن إبراهيم، عن جعفر بن محمد،

عن أبيه، عن جده عليهم السلام، قال: مر رسول الله صلى الله عليه وآله بالمحتكرين فأمر

بحكرتهم أن يخرج إلى بطون الأسواق وحيث تنظر الابصار إليها، فقيل

لرسول الله صلى الله عليه وآله: لو قومت عليهم، فغضب عليه السلام حتى عرف الغضب في

وجهه 2) وقال: أنا أقوم عليهم ؟ ! إنما السعر إلى الله عز وجل يرفعه إذا شاء

ويخفضه إذا شاء . وقيل لرسول الله صلى الله عليه وآله: لو أسعرت لنا سعرا فإن الأسعار

تزيد وتنقص، فقال عليه السلام: ما كنت لألقى الله عز وجل ببدعة لم يحدث لي

فيها شيئا فدعوا عباد الله يأكل بعضهم من بعض .

_____________________________

(1) نهاية ابن الأثير 1: 304 .

____________________________________________________

صفحة 368

34 - حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رحمه الله، قال: حدثنا

محمد بن الحسن الصفار، عن أيوب بن نوح، عن محمد بن أبي عمير، عن

أبي حمزة الثمالي، عن علي بن الحسين عليهما السلام قال: إن الله تبارك وتعالى

وكل بالسعر ملكا يدبره 1) بأمره، وقال أبو حمزة الثمالي: ذكر عند علي بن

الحسين عليهما السلام غلاء السعر فقال: وما علي من غلائه، إن غلا فهو عليه، وإن

رخص فهو عليه .

____________________________________________________

صفحة 369

قال مصنف هذا الكتاب رضي الله عنه: الغلاء هو الزيادة في أسعار الأشياء

حتى يباع الشئ بأكثر مما كان يباع في ذلك الموضع، والرخص هو

النقصان في ذلك، فما كان من الرخص والغلاء عن سعة الأشياء وقلتها فإن

ذلك من الله عز وجل ويجب الرضا بذلك والتسليم له، وما كان من الغلاء

والرخص بما يؤخذ الناس به لغير قلة الأشياء وكثرتها من غير رضى منهم

به أو كان من جهة شراء واحد من الناس جميع طعام بلد فيغلو الطعام

لذلك فذلك من المسعر والمتعدي بشرى طعام المصر كله كما فعله حكيم

بن حزام، كان إذا دخل الطعام المدينة اشتراه كله فمر عليه النبي صلى الله عليه وآله

فقال: يا حكيم ابن حزام إياك أن تحتكر .

35 - حدثنا بذلك أبي رحمه الله، قال: حدثنا سعد بن عبد الله، عن يعقوب

ابن يزيد عن صفوان بن يحيى، عن سلمة الحناط، عن أبي عبد الله عليه السلام

متى كان في المصر طعام غير ما يشتريه الواحد من الناس فجائز له أن

يلتمس بسلعته الفضل لأنه إذا كان في المصر طعام غيره يسع الناس لم

يغل الطعام لأجله، وإنما يغلو إذا اشترى الواحد من الناس جميع ما يدخل

المدينة .

____________________________________________________

صفحة 370

36 - حدثنا أبي رحمه الله قال: حدثنا سعد بن عبد الله، عن أحمد و عبد الله

ابني محمد بن عيسى، عن محمد بن أبي عمير، عن حماد بن عثمان، عن

عبد الله بن علي الحلبي، عن أبي عبد الله عليه السلام أنه سئل عن الحكرة فقال:

إنما الحكرة أن تشتري طعاما وليس في المصر غيره فتحتكره، فإن كان في

المصر طعام أو متاع غيره فلا بأس 1) أن تلتمس لسلعتك الفضل . ولو كان

الغلاء في هذا الموضع من الله عز وجل لما استحق المشتري لجميع طعام

_____________________________

(1) كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد ص 342 - 343 .

____________________________________________________

صفحة 371

المدينة الذم لان الله عز وجل لا يذم العبد على ما يفعله ولذلك قال رسول

الله صلى الله عليه وآله: (الجالب مرزوق والمحتكر ملعون 1)) ولو كان منه عز وجل

لوجب الرضى به والتسليم له، كما يجب إذا كان عن قلة الأشياء أو قلة

الريع لأنه من الله عز وجل، وما كان من الله عز وجل أو من الناس فهو

سابق في علم الله تعالى ذكره مثل خلق الخلق وهو بقضائه وقدره على ما

بينته من معنى القضاء والقدر .

61 - باب الأطفال

وعدل الله عز وجل فيهم

1 - حدثنا الحسين بن يحيى بن ضريس البجلي قال: حدثنا أبي، قال:

حدثنا أبو جعفر محمد بن عمارة السكري السرياني، قال: حدثنا إبراهيم

ابن عاصم بقزوين، قال: حدثنا عبد الله بن هارون الكرخي، قال: حدثنا أبو

جعفر أحمد بن عبد الله بن يزيد بن سلام بن عبيد الله قال: حدثني أبي

عبد الله بن يزيد، قال حدثني أبي يزيد بن سلام، عن أبيه سلام بن

_____________________________

(1) عوالي اللآلي 2: 138 .

____________________________________________________

صفحة 372

عبيد الله، عن عبد الله بن سلام مولى رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: سألت رسول

الله صلى الله عليه وآله فقلت: أخبرني أيعذب الله عز وجل خلقا بلا حجة ؟ فقال: معاذ

الله، قلت: فأولاد المشركين في الجنة أم في النار ؟ فقال: الله تبارك وتعالى

أولى بهم، إنه إذا كان يوم القيامة وجمع الله عز وجل الخلائق لفصل القضاء

يأتي بأولاد المشركين فيقول لهم: عبيدي وإمائي من ربكم وما دينكم وما

أعمالكم ؟ ! قال: فيقولون: اللهم ربنا أنت خلقتنا ولم نخلق شيئا وأنت

أمتنا ولم نمت شيئا ولم تجعل لنا ألسنة ننطق بها، ولا أسماعا نسمع بها

ولا كتابا نقرأه، ولا رسولا فنتبعه، ولا علم لنا إلا ما علمتنا، قال: فيقول

لهم عز وجل: عبيدي وإمائي إن أمرتكم بأمر أتفعلوه ؟ ! فيقولون: السمع

والطاعة لك يا ربنا، قال: فيأمر الله عز وجل نارا يقال لها: الفلق، أشد

شئ في جهنم عذابا فتخرج من مكانها سوداء مظلمة بالسلاسل

والاغلال، فيأمرها الله عز وجل أن تنفخ في وجوه الخلائق نفخة فتنفخ،

فمن شدة نفختها تنقطع السماء وتنطمس النجوم وتجمد البحار وتزول

الجبال وتظلم الابصار وتضع الحوامل حملها ويشيب الولدان من هولها

يوم القيامة، ثم يأمر الله تبارك وتعالى أطفال المشركين أن يلقوا أنفسهم

في تلك النار 1)، فمن سبق له في علم الله عز وجل أن يكون سعيدا ألقى

____________________________________________________

صفحة 373

نفسه فيها فكانت عليه بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم عليه السلام، ومن

سبق له في علم الله عز وجل أن يكون شقيا امتنع فلم يلق نفسه في النار،

فيأمر الله تبارك وتعالى النار فتلتقطه لتركه أمر الله وامتناعه من الدخول

_____________________________

(1) البقرة: 54 .

(2) تهذيب الأحكام 1: 198 ح 49 و 51 .

(3) البقرة: 286 .

____________________________________________________

صفحة 374

فيها فيكون تبعا لآبائه في جهنم، وذلك قوله عز وجل فمنهم شقي

وسعيد 1) * فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق 2) * خالدين

_____________________________

(1) الرحمن: 33 .

____________________________________________________

صفحة 375

فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك 1) إن ربك فعال لما يريد *

وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا

ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ (1) .

_____________________________

(1) هود: 108 .

(2) الأعراف: 40 .

____________________________________________________

صفحة 381

2 - حدثنا أحمد بن زياد بن جعفر الهمداني رحمه الله، قال: حدثنا علي بن

إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن عبد السلام بن صالح الهروي، عن

الرضا عليه السلام قال: قلت له: لأي علة أغرق الله عز وجل الدنيا كلها في زمن

نوح عليه السلام وفيهم الأطفال ومن لا ذنب له ؟ فقال: ما كان فيهم الأطفال لان

الله عز وجل أعقم أصلاب قوم نوح وأرحام نسائهم أربعين عاما 1) فانقطع

نسلهم فغرقوا ولا طفل فيهم، وما كان الله عز وجل ليهلك بعذابه من لا

ذنب له، وأما الباقون من قوم نوح عليه السلام فأغرقوا لتكذيبهم لنبي الله نوح عليه السلام

وسائرهم أغرقوا برضاهم بتكذيب المكذبين ومن غاب عن أمر فرضي

____________________________________________________

صفحة 382

به كان كمن شهده وأتاه 1) .

3 - حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رحمه الله، قال: حدثنا

محمد بن الحسن الصفار، عن العباس بن معروف، عن محمد بن سنان،

عن طلحة بن زيد، عن جعفر بن محمد، عن أبيه عليهما السلام قال: إن أولاد

المسلمين هم موسومون عند الله عز وجل شافع ومشفع 2) فإذا بلغوا اثنتي

عشرة سنة كتبت لهم الحسنات، وإذا بلغوا الحلم كتبت عليهم السيئات .

4 - حدثنا أبي ومحمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد، قالا:

حدثنا محمد بن يحيى العطار وأحمد بن إدريس جميعا، عن محمد بن

أحمد بن يحيى بن عمران الأشعري، عن علي بن إسماعيل، عن حماد بن

عيسى، عن حريز، عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: إذا كان يوم القيامة

احتج الله عز وجل على سبعة: على الطفل 3)، والذي مات بين النبيين،

____________________________________________________

صفحة 383

والشيخ الكبير الذي أدرك النبي وهو لا يعقل، والأبله، والمجنون الذي لا

يعقل، والأصم، والأبكم، فكل واحد منهم يحتج على الله عز وجل قال:

فيبعث الله عز وجل إليهم رسولا فيؤجج لهم نارا ويقول، إن ربكم يأمركم

أن تثبوا فيها فمن وثب فيها كانت عليه بردا وسلاما ومن عصى سيق إلى

النار .

5 - حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رحمه الله، قال: حدثنا

محمد بن الحسن الصفار، عن فضل بن عامر، عن موسى بن القاسم

البجلي، عن حماد بن عيسى، عن حريز، عن زرارة بن أعين، قال: رأيت

أبا جعفر عليه السلام صلى على ابن لجعفر عليه السلام صغير فكبر عليه، ثم قال: يا زرارة

إن هذا وشبهه لا يصلى عليه، ولولا أن يقول الناس: إن بني هاشم لا

يصلون على الصغار ما صليت عليه، قال زرارة: فقلت: فهل سئل عنهم

رسول الله صلى الله عليه وآله ؟ قال: نعم قد سئل عنهم فقال: الله أعلم بما كانوا عاملين،

_____________________________

(1) بحار الأنوار 5: 295 .

____________________________________________________

صفحة 384

ثم قال: يا زرارة أتدري ما قوله: الله أعلم بما كانوا عاملين ؟ قال: فقلت:

لا والله، فقال: لله عز وجل فيهم المشية، إنه إذا كان يوم القيامة احتج الله

تبارك وتعالى على سبعة: على الطفل، وعلى الذي مات بين النبي والنبي،

وعلى الشيخ الكبير الذي يدرك النبي وهو لا يعقل، والأبله، والمجنون

الذي لا يعقل، والأصم، والأبكم، فكل هؤلاء يحتج الله عز وجل عليهم

يوم القيامة، فيبعث الله إليهم رسولا ويخرج إليهم نارا فيقول لهم: إن ربكم

يأمركم أن تثبوا في هذه النار، فمن وثب فيها كانت عليه بردا وسلاما،

ومن عصاه سيق إلى النار .

____________________________________________________

صفحة 385

6 - حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثنا سعد بن عبد الله، عن الهيثم بن أبي

مسروق النهدي، عن الحسن بن محبوب، عن علي بن رئاب، عن الحلبي،

عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: إن الله تبارك وتعالى كفل إبراهيم عليه السلام وسارة

_____________________________

(1) الاسراء: 15 .

(2) بحار الأنوار 5: 295 - 296 عنهما .

____________________________________________________

صفحة 386

أطفال المؤمنين يغذونهم 1) من شجرة في الجنة لها أخلاف كأخلاف البقر،

في قصور من در فإذا كان يوم القيامة البسوا وطيبوا واهدوا إلى آبائهم،

فهم مع آبائهم ملوك في الجنة .

_____________________________

(1) بحار الأنوار 5: 297 عن شرح التجريد ص 318 .

____________________________________________________

صفحة 387

7 - حدثنا محمد بن موسى بن المتوكل رحمه الله، قال: حدثنا محمد بن

يحيى العطار، عن محمد بن أحمد بن يحيى بن عمران الأشعري، عن أحمد

ابن محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن سيف بن عميرة، عن أبي

بكر الحضرمي، عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عز وجل: والذين آمنوا

واتبعتهم ذريتهم بإيمان 1) ألحقنا بهم ذريتهم (1) قال: قصرت الأبناء عن

عمل الآباء فألحق الله عز وجل الأبناء بالآباء ليقر بذلك أعينهم .

8 - حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثنا أحمد بن إدريس، عن محمد بن

أحمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين بن أبي الخطاب، عن موسى بن

سعدان، عن عبد الله بن القاسم، عن أبي زكريا، عن أبي بصير، قال: قال أبو

عبد الله عليه السلام: إذا مات طفل من أطفال المؤمنين نادى مناد في ملكوت

السماوات والأرض: ألا إن فلان بن فلان قد مات، فإن كان قد مات والده

أو أحدهما أو بعض أهل بيته من المؤمنين دفع إليه يغذوه، وإلا دفع إلى

فاطمة صلوات الله عليها تغذوه حتى يقدم أبواه أو أحدهما أو بعض أهل

بيته من المؤمنين فتدفعه إليه .

_____________________________

(1) الطور: 21 .

____________________________________________________

صفحة 388

9 - حدثنا الحسين بن أحمد بن إدريس رحمه الله، عن أبيه، عن محمد بن

أحمد بن يحيى، قال: حدثنا محمد بن حسان، عن الحسين بن محمد

النوفلي من ولد نوفل بن عبد المطلب، قال: أخبرني محمد بن جعفر، عن

محمد بن علي، عن عيسى بن عبد الله العمري، عن أبيه، عن جده، عن

علي عليه السلام في المرض يصيب الصبي ؟ قال: كفارة لوالديه .

10 - حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رحمه الله، قال: حدثنا

محمد بن الحسن الصفار، عن العباس بن معروف، عن الحسن بن محبوب،

عن علي بن رئاب، عن عبد الاعلى مولى آل سام، عن أبي عبد الله عليه السلام .

قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: تزوجوا الابكار فإنهن أطيب شئ أفواها وأدر

شئ أخلافا وأفتح شئ أرحاما، أما علمتم أني أباهي بكم الأمم يوم

القيامة حتى بالسقط يظل محبنطئا على باب الجنة 1) فيقول الله عز وجل

له: ادخل الجنة، فيقول: لا حتى يدخل أبواي قبلي، فيقول الله عز وجل

_____________________________

(1) مجمع البيان 5: 165 - 166 .

____________________________________________________

صفحة 389

لملك من الملائكة: ايتني بأبويه، فيأمر بهما إلى الجنة، فيقول: هذا بفضل

رحمتي لك .

11 - حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثنا أحمد بن إدريس، عن محمد بن

أحمد بن يحيى، قال: حدثنا محمد بن الوليد، عن حماد بن عثمان، عن

جميل بن دراج، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن أطفال الأنبياء عليهم السلام

فقال: ليسوا كأطفال سائر الناس قال: وسألته عن إبراهيم ابن رسول الله

صلى الله عليه وآله لو بقي كان صديقا 1) ؟ قال: لو بقي كان على منهاج أبيه صلى الله عليه وآله 2) .

12 - وبهذا الاسناد، عن حماد بن عثمان، عن عامر بن عبد الله، قال:

سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: كان على قبر إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وآله عذق

وقال عليه السلام: مات إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وكان له ثمانية عشر شهرا

فأتم الله عز وجل رضاعه في الجنة .

قال مصنف هذا الكتاب في الأطفال وأحوالهم 3): إن الوجه في معرفة

العدل والجور والطريق إلى تميزهما ليس هو ميل الطباع إلى الشئ

ونفورها عنه وأنه استحسان العقل له واستقباحه إياه، فليس يجوز لذلك

_____________________________

(1) البحار 5: 294 ح 20 عن الفقيه .

____________________________________________________

صفحة 390

أن نقطع بقبح فعل من الافعال لجهلنا بعلله . ولا أن نعمل في إخراجه عن

حد العدل على ظاهر صورته، بل الوجه إذا أردنا أن نعرف حقيقة نوع من

أنواع الفعل قد خفي علينا وجه الحكمة فيه أن نرجع إلى الدليل الذي يدل

على حكمة فاعله ونفرغ إلى البرهان الذي يعرفنا حال محدثه، فإذا

أوجبنا له في الجملة أنه لا يفعل إلا الحكمة والصواب وما فيه الصنع

والرشاد لزمنا أن نعم بهذه القضية أفعاله كلها، جهلنا عللها أم عرفناها، إذ

ليس في العقول قصرها على نوع من الفعل دون نوع ولا خصوصها في

جنس دون جنس، ألا ترى أنا لو رأينا أبا قد ثبتت بالدلائل عندنا حكمته

وصح بالبرهان لدينا عدله يقطع جارحة من جوارح ولده أو يكوي عضوا

من أعضائه ولم نعرف السبب في ذلك ولا العلة التي لها يفعل ما يفعله به

لم يجز لجهلنا بوجه المصلحة فيه أن ننقض ما قد أثبته البرهان الصادق

في الجملة من حسن نظره له ولارادته الخير به، فكذلك أفعال الله العالم

بالعواقب والابتداء تبارك وتعالى لما أوجب الدليل في الجملة أنها لا

تكون إلا حكمة ولا تقع إلا صوابا لم يجز لجهلنا بعلل كل منها على

التفصيل أن نقف فيما عرفناه من جملة أحكامها، لا سيما وقد عرفنا عجز

أنفسنا عن معرفة علل الأشياء وقصورها عن الإحاطة بمعاني الجزئيات،

هذا إذا أردنا أن نعرف الجملة التي لا يسع جهلها من أحكام أفعاله عز

____________________________________________________

صفحة 391

وجل، فأما إذا أردنا أن نستقصي معانيها ونبحث عن عللها فلن نعدم في

العقول بحمد الله ما يعرفنا من وجه الحكمة في تفصيلاتها ما يصدق الدلالة

على جملتها، والدليل على أن أفعال الله تبارك وتعالى حكمة بعدها من

التناقض وسلامتها من التفاوت وتعلق بعضها ببعض وحاجة الشئ إلى

مثله وائتلافه بشكله واتصال كل نوع بشبهه حتى لو توهمت على خلاف

ما هي عليه من دوران أفلاكها وحركة شمسها وقمرها ومسير كواكبها

لانتقضت وفسدت، فلما استوفت أفعال الله عز وجل ما ذكرناه من شرائط

العدل وسلمت مما قدمناه من علل الجور صح أنها حكمة، والدليل على

أنه لا يقع منه عز وجل الظلم ولا يفعله أنه قد ثبت أنه تبارك وتعالى قديم

غني عالم لا يجهل والظلم لا يقع إلا من جاهل بقبحه أو محتاج إلى فعله

منتفع به، فلما كان أنه تبارك وتعالى قديما غنيا لا تجوز عليه المنافع

والمضار عالما بما كان ويكون من قبيح وحسن صح أنه لا يفعل إلا

الحكمة ولا يحدث إلا الصواب، ألا ترى أن من صحت حكمته منا لا

يتوقع منه مع غنائه عن فعل القبيح وقدرته على تركه وعلمه بقبحه وما

يستحق من الذم على فعله ارتكاب العظائم فلا يخاف عليه مواقعة

القبائح، وهذا بين، والحمد لله .

13 - حدثنا أحمد بن زياد بن جعفر الهمداني رحمه الله، قال: حدثنا علي

ابن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن عمرو بن عثمان الخزاز، عن عمرو بن

شمر، عن جابر بن يزيد الجعفي، قال: قلت لأبي جعفر محمد بن علي

الباقر عليهما السلام: يا ابن رسول الله إنا نرى من الأطفال من يولد ميتا، ومنهم من

يسقط غير تام، ومنهم من يولد أعمى أو أخرس أو أصم، ومنهم من

____________________________________________________

صفحة 392

يموت من ساعته إذا سقط على الأرض، ومنهم من يبقى إلى الاحتلام،

ومنهم من يعمر حتى يصير شيخا، فكيف ذلك وما وجهه ؟ فقال عليه السلام: إن

الله تبارك وتعالى أولى بما يدبره من أمر خلقه منهم، وهو الخالق والمالك

لهم، فمن منعه التعمير فإنما منعه ما ليس له، ومن عمره فإنما أعطاه ما

ليس له، فهو المتفضل بما أعطاه وعادل فيما منع، ولا يسأل عما يفعل

وهم يسألون، قال جابر: فقلت له: يا ابن رسول الله وكيف لا يسأل عما

يفعل ؟ قال: لأنه لا يفعل إلا ما كان حكمة وصوابا، وهو المتكبر الجبار

والواحد القهار فمن وجد في نفسه حرجا في شئ مما قضى الله فقد كفر،

ومن أنكر شيئا من أفعاله جحد .

62 - باب ان الله تعالى

لا يفعل بعباده الا الأصلح لهم

1 - أخبرني أبو الحسين طاهر بن محمد بن يونس بن حياة الفقيه

ببلخ، قال: حدثنا محمد بن عثمان الهروي، قال: حدثنا أبو محمد الحسن

ابن الحسين بن مهاجر قال: حدثنا هشام بن خالد، قال: حدثنا الحسن بن

يحيى الحنيني قال: حدثنا صدقة بن عبد الله، عن هشام، عن أنس عن

النبي صلى الله عليه وآله، عن جبرئيل، عن الله عز وجل، قال: قال الله تبارك وتعالى: من

أهان وليا لي فقد بارزني بالمحاربة 1) وما ترددت في شئ أنا فاعله مثل

____________________________________________________

صفحة 394

ما ترددت في قبض نفس المؤمن يكره الموت وأكره مساءته 1) ولا بد له

_____________________________

(1) الأربعون حديثا ص 210 - 211، ح 35 .

(2) الجمعة: 6 .

____________________________________________________

صفحة 395

منه، وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه 1)، ولا يزال

_____________________________

(1) الأربعون حديثا ص 212 .

(2) الانعام: 162 .

____________________________________________________

صفحة 396

عبدي يتنفل لي حتى أحبه 1)، ومتى أحببته كنت له سمعا وبصرا

ويدا ومؤيدا 2)، إن دعاني أجبته، وإن سألني أعطيته، وإن من عبادي

المؤمنين لمن يريد الباب من العبادة فأكفه عنه لئلا يدخله عجب فيفسده

ذلك، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا بالفقر ولو أغنيته

لأفسده ذلك، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا بالغناء ولو

أفقرته لأفسده ذلك، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا

بالسقم ولو صححت جسمه لأفسده ذلك وإن من عبادي المؤمنين لمن لا

يصلح إيمانه إلا بالصحة ولو أسقمته لأفسده ذلك، إني ادبر عبادي لعلمي

بقلوبهم، فإني عليم خبير .

____________________________________________________

صفحة 397

2 - حدثنا أبو أحمد الحسن بن عبد الله بن سعيد العسكري، قال:

حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد الكريم، قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن

البرقي، قال: حدثنا عمرو بن أبي سلمة، قال، قرأت على أبي عمر

الصنعاني عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة: أن رسول

الله صلى الله عليه وآله قال: رب أشعث أغبر ذي طمرين 1) مدفع بالأبواب لو أقسم على

الله عز وجل لأبره .

3 - حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثنا علي بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه

عن الحسن بن محبوب، عن عبد الله بن سنان، عن محمد بن المنكدر،

قال: مرض عون بن عبد الله بن مسعود فأتيته أعوده فقال: ألا أحدثك

____________________________________________________

صفحة 398

بحديث عن عبد الله بن مسعود قلت: بلى، قال: قال عبد الله: بينما نحن

عند رسول الله صلى الله عليه وآله إذ تبسم، فقلت له مالك يا رسول الله ؟ قال: عجبت من

المؤمن وجزعه من السقم، ولو يعلم ما له في السقم من الثواب لأحب أن

لا يزال سقيما حتى يلقى ربه عز وجل .

4 - حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رحمه الله، قال: حدثنا

محمد بن الحسن الصفار، عن يعقوب بن يزيد، عن محمد بن أبي عمير،

عن هشام بن سالم، قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: إن قوما أتوا نبيا فقالوا: ادع

لنا ربك يرفع عنا الموت، فدعا لهم، فرفع الله تبارك وتعالى عنهم الموت،

وكثروا حتى ضاقت بهم المنازل وكثر النسل، وكان الرجل يصبح فيحتاج

أن يطعم أباه وأمه وجده وجد جده ويرضيهم ويتعاهدهم، فشغلوا عن

طلب المعاش، فأتوه فقالوا: سل ربك أن يردنا إلى آجالنا التي كنا عليها،

فسأل ربه عز وجل فردهم إلى آجالهم .

5 - حدثنا علي بن أحمد بن عبد الله بن أحمد بن أبي عبد الله

البرقي رحمه الله قال: حدثنا أبي، عن جده أحمد بن أبي عبد الله، عن الحسن بن

علي بن فضال، عن علي بن عقبة، عن أبيه، عن سليمان بن خالد، عن أبي

عبد الله الصادق، عن أبيه، عن جده عليهم السلام قال: ضحك رسول الله صلى الله عليه وآله ذات

يوم حتى بدت نواجذه، ثم قال: ألا تسألوني مم ضحكت، قالوا: بلى يا

رسول الله، قال: عجبت للمرء المسلم أنه ليس من قضاء يقضيه الله عز

وجل إلا كان خيرا له في عاقبة أمره .

6 - حدثنا محمد بن موسى بن المتوكل رضي الله عنه، قال: حدثنا علي بن

الحسين السعد آبادي، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن أبي

____________________________________________________

صفحة 399

قتادة القمي قال: حدثنا عبد الله بن يحيى، عن أبان الأحمر، عن الصادق

جعفر بن محمد عليهما السلام قال: والذي بعث جدي صلى الله عليه وآله بالحق نبيا إن الله تبارك

وتعالى ليرزق العبد على قدر المروة، وإن المعونة لتنزل من السماء على

قدر المؤونة، وإن الصبر لينزل على قدر شدة البلاء .

7 - حدثنا الحسين بن أحمد بن إدريس رحمه الله، قال: حدثنا أبي، قال:

حدثنا أحمد بن محمد بن عيسى، عن عبد الرحمن بن أبي نجران، عن

المفضل بن صالح، عن جابر بن يزيد الجعفي، عن أبي جعفر محمد بن

علي الباقر عليهما السلام، قال: إن موسى بن عمران عليه السلام قال: يا رب رضيت بما

قضيت تميت الكبير وتبقي الصغير، فقال الله عز وجل: يا موسى أما

ترضاني لهم رازقا وكفيلا ؟ قال: بلى يا رب فنعم الوكيل أنت ونعم الكفيل .

8 - حدثنا محمد بن موسى بن المتوكل رضي الله عنه، قال: حدثنا علي بن

الحسين السعد آبادي، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن صفوان

ابن يحيى، عن محمد بن أبي الهزهاز، عن علي بن الحسن قال: سمعت أبا

عبد الله عليه السلام يقول: إن الله عز وجل جعل أرزاق المؤمنين من حيث لا

يحتسبون 1)، وذلك أن العبد إذا لم يعرف وجه رزقه كثر دعاؤه .

9 - حدثنا علي بن أحمد بن محمد بن عمران الدقاق رضي الله عنه، قال:

حدثنا محمد بن أبي عبد الله الكوفي، قال: حدثنا محمد بن إسماعيل

البرمكي، قال: حدثنا جعفر بن سليمان بن أيوب الخزاز قال: حدثنا عبد

الله بن الفضل الهاشمي، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: لأي علة جعل الله

____________________________________________________

صفحة 400

تبارك وتعالى الأرواح في الأبدان بعد كونها في ملكوته الاعلى في أرفع

محل 1) ؟ فقال عليه السلام: إن الله تبارك وتعالى علم أن الأرواح في شرفها

_____________________________

(1) الاسراء: 85 .

____________________________________________________

صفحة 402

وعلوها متى تركت على حالها نزع أكثرها إلى دعوى الربوبية 1) دونه عز

وجل، فجعلها بقدرته في الأبدان التي قدرها لها في ابتداء التقدير نظرا لها

ورحمة بها، وأحوج بعضها إلى بعض، وعلق بعضها على بعض، ورفع

بعضها فوق بعض درجات، وكفى بعضها ببعض، وبعث إليهم رسله واتخذ

عليهم حججه مبشرين ومنذرين يأمرونهم بتعاطي العبودية والتواضع

لمعبودهم بالأنواع التي تعبدهم بها ونصب لهم عقوبات في العاجل وعقوبات

في الأجل ومثوبات في العاجل ومثوبات في الأجل ليرغبهم بذلك في

الخير ويزهدهم في الشر وليذلهم بطلب المعاش والمكاسب فيعلموا بذلك

أنهم مربوبون وعباد مخلوقون ويقبلوا على عبادته فيستحقوا بذلك نعيم

الأبد وجنة الخلد ويأمنوا من النزوع إلى ما ليس لهم بحق، ثم قال عليه السلام:

يا ابن الفضل إن الله تبارك وتعالى أحسن نظرا لعباده منهم لأنفسهم، ألا

ترى أنك لا ترى فيهم إلا محبا للعلو على غيره حتى أن منهم لمن قد نزع

إلى دعوى الربوبية، ومنهم من قد نزع إلى دعوى النبوة بغير حقها ومنهم

من قد نزع إلى دعوى الإمامة بغير حقها، مع ما يرون في أنفسهم من

النقص والعجز والضعف والمهانة والحاجة والفقر والآلام المتناوبة عليهم

والموت الغالب لهم والقاهر لجميعهم، يا ابن الفضل إن الله تبارك

____________________________________________________

صفحة 403

وتعالى لا يفعل لعباده إلا الأصلح لهم، ولا يظلم الناس شيئا ولكن الناس

أنفسهم يظلمون .

10 - حدثنا محمد بن أحمد الشيباني رضي الله عنه، قال: حدثنا محمد بن أبي

عبد الله الكوفي، قال: حدثنا موسى بن عمران النخعي، عن عمه الحسين

ابن يزيد النوفلي، عن علي بن سالم، عن أبيه، عن أبي بصير، عن أبي عبد

الله جعفر الصادق عليه السلام، قال: سألته عن قول الله عز وجل: ولا يزالون

مختلفين 1) * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم (1) قال: خلقهم ليفعلوا ما

يستوجبوا به رحمته فيرحمهم .

_____________________________

(1) هود: 118 .

____________________________________________________

صفحة 406

11 - حدثنا محمد بن القاسم الأسترآبادي، قال: حدثنا يوسف بن

محمد ابن زياد وعلي بن محمد بن سيار عن أبويهما، عن الحسن بن علي،

عن أبيه علي بن محمد، عن أبيه محمد بن علي، عن أبيه علي بن موسى

الرضا، عن أبيه موسى بن جعفر، عن أبيه جعفر بن محمد، عن أبيه محمد

بن علي، عن أبيه علي بن الحسين عليهم السلام في قول الله عز وجل: الذي جعل

لكم الأرض فراشا (1) قال: جعلها ملائمة لطبائعكم موافقة لأجسادكم،

لم يجعلها شديدة الحمي والحرارة فتحرقكم، ولا شديدة البرد فتجمدكم،

ولا شديدة طيب الريح فتصدع هاماتكم، ولا شديدة النتن فتعطبكم، ولا

شديدة اللين كالماء فتغرقكم، ولا شديدة الصلابة فتمتنع عليكم في دوركم

وأبنيتكم وقبور موتاكم، ولكنه عز وجل جعل فيها من المتانة ما تنتفعون

به وتتماسكون وتتماسك عليها أبدانكم وبنيانكم، وجعل فيها ما تنقاد به

لدوركم وقبوركم وكثير من منافعكم فلذلك جعل الأرض فراشا لكم، ثم

قال عز وجل والسماء بناء أي سقفا من فوقكم محفوظا، يدير فيها

_____________________________

(1) البقرة: 22 .

____________________________________________________

صفحة 407

شمسها وقمرها ونجومها لمنافعكم، ثم قال عز وجل: وأنزل من السماء

ماء يعني المطر نزله من العلى ليبلغ قلل جبالكم وتلالكم وهضابكم

وأوهادكم، ثم فرقه رذاذا ووابلا وهطلا 1) وطلا لتنشفه أرضوكم، ولم

يجعل ذلك المطر نازلا عليكم قطعة واحدة فيفسد أرضيكم وأشجاركم

وزروعكم وثماركم، ثم قال عز وجل: فأخرج به من الثمرات رزقا لكم

فلا تجعلوا لله أندادا أي أشباها وأمثالا من الأصنام التي لا تعقل ولا

تسمع ولا تبصر ولا تقدر على شئ وأنتم تعلمون أنها لا تقدر على

شئ 2) من هذه النعم الجليلة التي أنعمها عليكم ربكم تبارك وتعالى .

12 - حدثنا أبي رضي الله عنه، قال: حدثنا سعد بن عبد الله، عن أحمد بن

محمد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن داود بن كثير الرقي، عن

أبي عبيدة الحذاء، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: قال الله

جل جلاله: إن من عبادي المؤمنين لمن يجتهد في عبادتي فيقوم من

____________________________________________________

صفحة 408

رقاده ولذيذ وساده فيتهجد في الليالي ويتعب نفسه في عبادتي فأضربه

بالنعاس الليلة والليلتين نظرا مني له وإبقاء عليه فينام حتى يصبح ويقوم

وهو ماقت لنفسه زار عليها، ولو أخلي بينه وبين ما يريد من عبادتي

لدخله من ذلك العجب فيصيره العجب إلى الفتنة بأعماله ورضاه عن نفسه

حتى يظن أنه قد فاق العابدين، وجاز في عبادته حد التقصير فيتباعد مني

عند ذلك وهو يظن أنه يتقرب إلي .

13 - حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رحمه الله، قال: حدثنا

محمد بن الحسن الصفار، عن إبراهيم بن هاشم، عن الحسن بن محبوب،

عن مالك بن عطية، عن داود بن فرقد، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كان فيما

أوحى الله عز وجل إلى موسى عليه السلام: أن يا موسى ما خلقت خلقا أحب

إلي من عبدي المؤمن، وإنما أبتليه لما هو خير له وأعافيه لما هو خير له،

وأنا أعلم بما يصلح عليه أمر عبدي، فليصبر على بلائي وليشكر نعمائي

وليرض بقضائي أكتبه في الصديقين عندي إذا عمل برضائي فأطاع

أمري .

____________________________________________________

صفحة 409

63 - باب الأمر والنهي والوعد والوعيد

1 - حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رحمه الله، قال: حدثنا

محمد بن الحسن الصفار، عن أحمد بن أبي عبد الله البرقي، عن أبيه، عن

صفوان بن يحيى، عن منصور بن حازم، قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: الناس

مأمورون منهيون، ومن كان له عذر عذره الله عز وجل .

2 - حدثنا أبي رضي الله عنه، قال: حدثنا سعد بن عبد الله، قال: حدثنا أحمد

ابن محمد بن عيسى، عن عبد الرحمن بن أبي نجران، عن هشام بن سالم،

عن حبيب السجستاني، عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: إن في التوراة

مكتوبا يا موسى إني خلقتك واصطفيتك وقويتك وأمرتك بطاعتي ونهيتك

عن معصيتي، فإن أطعتني أعنتك على طاعتي وإن عصيتني لم أعنك على

معصيتي، يا موسى ولي المنة عليك في طاعتك لي، ولي الحجة عليك في

معصيتك لي .

3 - حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رضي الله عنه، قال: حدثنا

محمد بن الحسن الصفار، عن محمد بن الحسين بن أبي الخطاب وأحمد

ابن أبي عبد الله البرقي، عن علي بن محمد القاساني، عمن ذكره، عن

_____________________________

(1) أمالي السيد المرتضى 4: 96 - 97 .

____________________________________________________

صفحة 410

عبد الله بن القاسم الجعفري، عن أبي عبد الله، عن آبائه عليهم السلام قال: قال

رسول الله صلى الله عليه وآله: من وعده الله على عمل ثوابا فهو منجزه له، ومن أوعده

على عمل عقابا فهو فيه بالخيار 1) .

_____________________________

(1) النساء: 93 .

____________________________________________________

صفحة 414

4 - حدثنا أبو علي الحسين بن أحمد البيهقي بنيسابور سنة اثنتين

وخمسين وثلاثمائة، قال: أخبرنا محمد بن يحيى الصولي، قال: حدثنا ابن

ذكوان قال: سمعت إبراهيم بن العباس يقول: كنا في مجلس الرضا عليه السلام

فتذاكروا الكبائر وقول المعتزلة فيها: إنها لا تغفر 1) فقال الرضا عليه السلام: قال

أبو عبد الله عليه السلام قد نزل القرآن بخلاف قول المعتزلة، قال الله عز وجل:

____________________________________________________

صفحة 415

وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم 1) (1) والحديث طويل أخذنا منه

موضع الحاجة .

5 - حدثنا أحمد بن محمد بن الهيثم العجلي، وأحمد بن الحسن

القطان، ومحمد بن أحمد السناني، والحسين بن إبراهيم بن أحمد بن

هشام المكتب، و عبد الله بن محمد الصائغ، وعلي بن عبد الله الوراق رضي الله عنه،

قالوا: حدثنا أبو العباس أحمد بن يحيى بن زكريا القطان، قال: حدثنا بكر

ابن عبد الله بن حبيب، قال: حدثنا تميم بن بهلول، قال: حدثنا أبو معاوية،

عن الأعمش، عن جعفر بن محمد عليهما السلام قال فيما وصف له من شرائع

الدين: إن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها ولا يكلفها فوق طاقتها، وأفعال

العباد مخلوقة خلق تقدير لا خلق تكوين، والله خالق كل شئ، ولا نقول

بالجبر، ولا بالتفويض، ولا يأخذ الله عز وجل البرئ بالسقيم، ولا يعذب

الله عز وجل الأطفال بذنوب الاباء، فإنه قال في محكم كتابه: ولا

_____________________________

(1) الرعد: 6 .

(2) بحار الأنوار 5: 236 - 237 عن شرح التجريد ص 415 - 416 .

(3) مجمع البيان 3: 278 .

____________________________________________________

صفحة 416

تزر وازرة وزر أخرى (1) وقال عز وجل: وأن ليس للانسان إلا ما

سعى 1) (2) ولله عز وجل أن يعفو ويتفضل، وليس له عز وجل أن يظلم،

ولا يفرض الله عز وجل على عباده طاعة من يعلم أنه يغويهم ويضلهم،

ولا يختار لرسالته ولا يصطفي من عباده من يعلم أنه يكفر به ويعبد

الشيطان دونه، ولا يتخذ على خلقه حجة إلا معصوما . والحديث طويل

أخذنا منه موضع الحاجة، وقد أخرجته بتمامه في كتاب الخصال .

6 - حدثنا أحمد بن زياد بن جعفر الهمداني رضي الله عنه، قال: حدثنا

علي ابن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن محمد بن أبي عمير، قال:

سمعت موسى بن جعفر عليهما السلام يقول: لا يخلد الله في النار إلا أهل

الكفر والجحود وأهل الضلال والشرك 2)، ومن أجتنب الكبائر من

المؤمنين لم يسأل عن الصغائر، قال الله تبارك وتعالى: إن تجتنبوا

كبائر ما تنهون عنه 3) نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا

_____________________________

(1) الانعام: 164، والاسراء: 15، وفاطر: 18، والزمر: 7 .

(2) النجم: 39 .

____________________________________________________

صفحة 417

كريما (1) قال: فقلت له: يا ابن رسول الله فالشفاعة لمن تجب من

المذنبين ؟ قال: حدثني أبي، عن آبائه، عن علي عليهم السلام قال: سمعت

_____________________________

(1) النساء: 31 .

(2) مجمع البيان 2: 38 .

(3) مجمع البيان 2: 39 .

____________________________________________________

صفحة 418 - 420

رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: (إنما شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي 1)، فأما

المحسنون منهم فما عليهم من سبيل) قال ابن أبي عمير: فقلت له: يا ابن

_____________________________

(1) بحار الأنوار 5: 333 - 334 . (1) الاسراء: 79 .

____________________________________________________

صفحة 422

رسول الله فكيف تكون الشفاعة لأهل الكبائر والله تعالى ذكره يقول: ولا

يشفعون الا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون (1) ومن يرتكب

الكبائر لا يكون مرتضى، فقال: يا أبا أحمد ما من مؤمن يرتكب ذنبا إلا

_____________________________

(1) الأنبياء: 28 .

(2) بحار الأنوار 8: 62 - 63 عنه .

____________________________________________________

صفحة 423

ساءه ذلك وندم عليه، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله: (كفى بالندم توبة) وقال عليه السلام:

(من سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن) فمن لم يندم على ذنب

يرتكبه فليس بمؤمن ولم تجب له الشفاعة وكان ظالما، والله تعالى ذكره

يقول: ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع (1) فقلت له: يا ابن رسول

الله وكيف لا يكون مؤمنا من لم يندم على ذنب يرتكبه ؟ فقال: يا أبا أحمد

ما من أحد يرتكب كبيرة من المعاصي وهو يعلم أنه سيعاقب عليها إلا

ندم على ما ارتكب ومتى ندم كان تائبا مستحقا للشفاعة، ومتى لم يندم

عليها كان مصرا والمصر لا يغفر له لأنه غير مؤمن بعقوبة ما ارتكب ولو

كان مؤمنا بالعقوبة لندم، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله: (لا كبيرة مع الاستغفار ولا

صغيرة مع الاصرار) وأما قول الله عز وجل: ولا يشفعون إلا لمن

ارتضى فإنهم لا يشفعون إلا لمن ارتضى الله دينه، والدين الاقرار بالجزاء

على الحسنات والسيئات، فمن ارتضى الله دينه ندم على ما ارتكبه من

الذنوب لمعرفته بعاقبته في القيامة .

7 - حدثنا محمد بن موسى بن المتوكل رضي الله عنه، قال: حدثنا علي بن

الحسين السعد آبادي، عن أحمد بن أبي عبد الله البرقي، عن أبيه، عن

محمد بن أبي عمير، عن حمزة بن حمران، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من

_____________________________

(1) المؤمن: 18 .

____________________________________________________

صفحة 424

هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة 1)، فإن عملها كتبت له عشر

_____________________________

(1) مجمع البيان 4: 44 - 45 .

(2) مجمع البيان 5: 520 .

(3) الانعام: 160 .

(4) البقرة: 261 .

(5) البقرة: 261 .

____________________________________________________

صفحة 425

أمثالها 1)، ويضاعف الله لمن يشاء إلى سبعمائة 2)، ومن هم بسيئة فلم

يعملها لم تكتب عليه حتى يعملها 3)، فإن لم يعملها كتبت له حسنة بتركه

_____________________________

(1) مجمع البيان 2: 390 .

(2) البقرة: 261 .

____________________________________________________

صفحة 426 - 427

لفعلها، وإن عملها اجل تسع ساعات 1) فإن تاب وندم عليها لم تكتب عليه

_____________________________

(1) البقرة: 284 .

(2) مجمع البيان 1: 401 .

(3) بحار الأنوار 70: 201 ح 5 و 209 ح 30 .

____________________________________________________

صفحة 428

وإن لم يتب ولم يندم عليها كتبت عليه سيئة .

8 - حدثنا محمد بن محمد بن الغالب الشافعي، قال: أخبرنا أبو محمد

مجاهد بن أعين بن داود، قال: أخبرنا عيسى بن أحمد العسقلاني، قال:

أخبرنا النضر بن شميل، قال: أخبرنا إسرافيل قال: أخبرنا ثوير، عن أبيه

أن عليا عليه السلام قال: ما في القرآن آية أحب إلي من قوله عز وجل: إن الله

لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن 1) يشاء (1) .

_____________________________

(1) النساء: 48 و 116 .

____________________________________________________

صفحة 430

9 - حدثنا أبو نصر محمد بن أحمد بن تميم السرخسي بسرخس، قال:

حدثنا أبو لبيد محمد بن إدريس الشامي، قال: حدثني إسحاق بن

إسرائيل، قال: حدثنا حريز، عن عبد العزيز عن زيد بن وهب، عن أبي

ذر رحمه الله، قال: خرجت ليلة من الليالي فإذا رسول الله صلى الله عليه وآله يمشي وحده

وليس معه إنسان، فظننت أنه يكره أن يمشي معه أحد، قال: فجعلت

أمشي في ظل القمر، فالتفت فرآني فقال: من هذا ؟ فقلت: أبو ذر جعلني

الله فداك، قال: يا أبا ذر تعال، قال: فمشيت معه ساعة، فقال: إن المكثرين

هم الأقلون يوم القيامة 1) إلا من أعطاه الله خيرا فنفح منه بيمينه وشماله

وبين يديه ووراءه وعمل فيه خيرا، قال: فمشيت معه ساعة، فقال لي:

اجلس هاهنا، وأجلسني في قاع حوله حجارة، فقال لي: اجلس حتى

أرجع إليك، قال: فانطلق في الحرة حتى لم أره وتوارى عني، فأطال

_____________________________

(1) بحار الأنوار 70: 352 .

(2) الحجر: 56 .

(3) الأعراف: 99 .

____________________________________________________

صفحة 431

اللبث، ثم إني سمعته عليه السلام وهو مقبل وهو يقول: وإن زنى وإن سرق، قال:

فلما جاء لم أصبر حتى قلت: يا نبي الله جعلني الله فداك من تكلمه في

جانب الحرة ؟ فإني ما سمعت أحدا يرد عليك من الجواب شيئا، قال: ذاك

جبرئيل عرض لي في جانب الحرة فقال: بشر أمتك أنه من مات لا يشرك

بالله عز وجل شيئا دخل الجنة، قال: قلت: يا جبرئيل وإن زنى وإن سرق ؟

قال: نعم، وإن شرب الخمر .

قال مصنف هذا الكتاب رحمه الله، يعني بذلك أنه يوفق للتوبة 1) حتى

يدخل الجنة 2) .

10 - حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثنا علي بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه،

عن محمد بن أبي عمير، عن معاذ الجوهري، عن الصادق جعفر بن محمد،

عن آبائه صلوات الله عليهم، عن رسول الله صلى الله عليه وآله، عن جبرئيل عليه السلام، قال:

____________________________________________________

صفحة 432

قال الله جل جلاله: من أذنب ذنبا صغيرا أو كبيرا وهو لا يعلم أن لي أن

أعذبه 1) به أو أعفو عنه لا غفرت له ذلك الذنب أبدا، ومن أذنب ذنبا

صغيرا كان أو كبيرا وهو يعلم أن لي أن أعذبه وأن أعفو عنه عفوت عنه .

64 - باب التعريف والبيان والحجة والهداية

1 - حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثنا محمد بن يحيى العطار، قال حدثنا

أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن أبي عمير، عن محمد بن حكيم،

قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: المعرفة صنع من هي ؟ قال: من صنع الله عز

وجل، ليس للعباد فيها صنع 2) .

_____________________________

(1) الفتح: 6 .

____________________________________________________

صفحة 433

2 - حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رضي الله عنه، قال: حدثنا

الحسين بن الحسن بن أبان، عن الحسين بن سعيد، عن ابن أبي عمير، عن

جميل بن دراج، عن ابن الطيار، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن الله عز وجل

احتج على الناس بما آتاهم وما عرفهم 1) .

3 - حدثنا محمد بن علي ماجيلويه رحمه الله، عن عمه محمد بن أبي

القاسم، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن ابن فضال، عن ثعلبة بن ميمون،

عن حمزة بن الطيار عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن الله عز وجل احتج على

الناس بما آتاهم وما عرفهم .

4 - حدثنا محمد بن علي ماجيلويه رحمه الله، عن عمه محمد بن أبي

القاسم، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن ابن فضال، عن ثعلبة بن ميمون،

_____________________________

(1) في (ن): نظرية .

____________________________________________________

صفحة 434

عن حمزة بن الطيار، عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عز وجل: وما كان

الله ليضل قوما بعد إذ هديهم حتى يبين لهم ما يتقون 1) (1) قال: حتى

يعرفهم ما يرضيه وما يسخطه، وقال: فألهمها فجورها وتقويها (2) قال:

بين لها ما تأتي وما تترك 2)، وقال: إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما

كفورا (3) قال: عرفناه 3) إما آخذا وإما تاركا وفي قوله عز وجل: وأما

ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى (4) قال: عرفناهم فاستحبوا

العمى على الهدى وهم يعرفون .

_____________________________

(1) التوبة: 115 .

(2) الشمس: 8 .

(3) الانسان: 3 .

(4) فصلت: 17 .

(5) مجمع البيان 3: 77 .

____________________________________________________

صفحة 435

5 - حدثنا أحمد بن علي بن إبراهيم بن هاشم رحمه الله، عن أبيه، عن محمد

ابن عيسى، عن يونس بن عبد الرحمن، عن ابن بكير، عن حمزة بن

محمد، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن قول الله عز وجل: وهديناه

النجدين (1) قال: نجد الخير والشر .

6 - حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى العطار رحمه الله، عن أبيه، عن محمد

ابن أحمد بن يحيى، عن موسى بن جعفر البغدادي، عن عبيد الله الدهقان،

عن درست، عمن حدثه، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ستة أشياء ليس للعباد

فيها صنع: المعرفة والجهل 1) والرضا والغضب والنوم واليقظة .

7 - حدثنا محمد بن موسى بن المتوكل رضي الله عنه، قال: حدثنا محمد بن

يحيى العطار، عن محمد بن الحسين، عن أبي شعيب المحاملي، عن

درست بن أبي منصور عن بريد بن معاوية العجلي، عن أبي عبد الله عليه السلام

_____________________________

(1) البلد: 10 .

____________________________________________________

صفحة 436

قال: ليس لله على خلقه أن يعرفوا قبل أن يعرفهم 1)، وللخلق على الله أن

يعرفهم، ولله على الخلق إذا عرفهم أن يقبلوه 2) .

8 - حدثنا أبي رحمه الله، قال: حدثنا عبد الله بن جعفر الحميري، عن أحمد

ابن محمد بن عيسى، عن الحجال، عن ثعلبة بن ميمون، عن عبد الاعلى

ابن أعين قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عمن لم يعرف شيئا هل عليه شئ ؟

قال: لا 3) .

____________________________________________________

صفحة 437

9 - حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى العطار رضي الله عنه، عن أبيه، عن أحمد

ابن محمد بن عيسى، عن ابن فضال، عن داود بن فرقد، عن أبي الحسن

زكريا ابن يحيى، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ما حجب الله علمه عن العباد

فهو موضوع عنهم 1) .

_____________________________

(1) الاسراء: 15 .

____________________________________________________

صفحة 438 - 439

10 - حدثنا علي بن أحمد بن عبد الله بن أحمد بن أبي عبد الله

البرقي رحمه الله، عن أبيه عن جده أحمد بن أبي عبد الله، عن علي بن الحكم،

عن أبان الأحمر، عن حمزة بن الطيار عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال لي:

اكتب فأملى علي: أن من قولنا ان الله عز وجل يحتج على العباد بما

آتاهم وما عرفهم 1)، ثم أرسل إليهم رسولا 2)، وأنزل عليه الكتاب، فأمر

فيه ونهى، أمر فيه بالصلاة والصوم، فأنام رسول الله صلى الله عليه وآله عن الصلاة 3)

_____________________________

(1) تهذيب الأحكام 7: 226 ح 9 . وفروع الكافي 5: 313 - 314 ح 40 .

____________________________________________________

صفحة 440

فقال: أنا أنيمك وأنا أوقظك، فاذهب فصل ليعلموا إذا أصابهم ذلك كيف

يصنعون، ليس كما يقولون: إذا نام عنها هلك، وكذلك الصيام، أنا أمرضك

وأنا أصححك فإذا شفيتك فاقضه، ثم قال أبو عبد الله عليه السلام: وكذلك إذا

نظرت إلى جميع الأشياء لم تجد أحدا في ضيق، ولم تجد أحدا إلا ولله

عليه الحجة وله فيه المشية، ولا أقول: إنهم ما شاؤوا صنعوا 1)، ثم قال: إن

الله يهدي ويضل 2)، وقال: وما أمروا إلا بدون سعتهم، وكل شئ امر

_____________________________

(1) فاطر: 8 .

____________________________________________________

صفحة 441

الناس به فهم يسعون له، وكل شئ لا يسعون له فهو موضوع عنهم، ولكن

أكثر الناس لا خير فيهم، ثم قال: ليس على الضعفاء 1) ولا على المرضى

ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله (فوضع

عنهم) ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم × ولا على الذين إذا

ما أتوك لتحملهم - الآية (1) فوضع عنهم لأنهم لا يجدون .

قال مصنف هذا الكتاب رضي الله عنه: قوله عليه السلام إن الله يهدي ويضل معناه أنه

عز وجل يهدي المؤمنين في القيامة إلى الجنة ويضل الظالمين في القيامة

عن الجنة إنما قال عز وجل: إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم

ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم (2) وقال عز

وجل: ويضل الله الظالمين (3) .

11 - حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رضي الله عنه، قال: حدثنا

محمد بن الحسن الصفار، عن إبراهيم بن هاشم، عن إسماعيل بن مرار،

عن يونس بن عبد الرحمن، عن حماد، عن عبد الاعلى قال: قلت لأبي

عبد الله عليه السلام: أصلحك الله هل جعل في الناس أداة ينالون بها المعرفة ؟

قال: فقال: لا، قلت: فهل كلفوا المعرفة ؟ قال: لا، على الله البيان لا يكلف

_____________________________

(1) التوبة: 91 .

(2) يونس: 9 .

(3) إبراهيم: 27 .

____________________________________________________

صفحة 442

الله نفسا إلا وسعها . ولا يكلف الله نفسا إلا ما آتيها قال: وسألته عن قول

الله عز وجل: وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هديهم حتى يبين لهم ما

يتقون (1) قال: حتى يعرفهم ما يرضيه وما يسخطه .

12 - وبهذا الاسناد، عن يونس بن عبد الرحمن، عن سعدان يرفعه

إلى أبي عبد الله عليه السلام قال: إن الله عز وجل لم ينعم على عبد بنعمة إلا وقد

ألزمه فيها الحجة من الله عز وجل، فمن من الله عليه فجعله قويا فحجته

عليه القيام بما كلفه واحتمال من هو دونه ممن هو أضعف منه، ومن من

الله عليه فجعله موسعا عليه فحجته ماله، يجب عليه فيه تعاهد الفقراء

بنوافله، ومن من الله عليه فجعله شريفا في نسبه جميلا في صورته،

فحجته عليه أن يحمد الله على ذلك وألا يتطاول على غيره فيمنع حقوق

الضعفاء لحال شرفه وجماله .

13 - أبي رحمه الله، قال: حدثنا عبد الله بن جعفر الحميري، عن أحمد بن

محمد عن ابن فضال، عن علي بن عقبة، عن أبيه، قال: سمعت أبا عبد

الله عليه السلام يقول: إجعلوا أمركم لله ولا تجعلوه للناس 1) فإنه ما كان لله فهو لله،

وما كان للناس فلا يصعد إلى الله، ولا تخاصموا الناس لدينكم فإن

_____________________________

(1) التوبة: 115 .

____________________________________________________

صفحة 443

المخاصمة ممرضة للقلب 1)، إن الله عز وجل قال لنبيه صلى الله عليه وآله: إنك لا

تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء (1) وقال: أفأنت تكره

الناس حتى يكونوا مؤمنين (2) ذروا الناس فإن الناس أخذوا 2) عن

الناس وإنكم أخذتم عن رسول الله صلى الله عليه وآله، إني سمعت أبي عليه السلام يقول: إن الله

عز وجل إذا كتب على عبد أن يدخل في هذا الامر كان أسرع إليه من

الطير إلى وكره .

_____________________________

(1) القصص: 56 .

(2) يونس: 99 .

____________________________________________________

صفحة 444

14 - حدثنا أبي رضي الله عنه قال: حدثنا علي بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه،

عن ابن أبي عمير، عن محمد بن حمران، عن سليمان بن خالد، عن أبي

عبد الله عليه السلام قال: قال: إن الله تبارك وتعالى إذا أراد بعبد خيرا نكت في

قلبه نكتة من نور 1) وفتح مسامع قلبه ووكل به ملكا يسدده، وإذا أراد بعبد

سوءا 2) نكت في قلبه نكتة سوداء وسد مسامع قلبه ووكل به شيطانا

يضله، ثم تلا هذه الآية فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للاسلام ومن

يرد أن يضله 3) يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء (1) .

_____________________________

(1) الانعام: 125 .

____________________________________________________

صفحة 446

قال مصنف هذا الكتاب: إن الله عز وجل إنما يريد بعبد سوءا لذنب

يرتكبه فيستوجب به أن يطبع على قلبه ويوكل به شيطانا يضله، ولا يفعل

ذلك به إلا باستحقاق وقد يوكل عز وجل بعبده ملكا يسدده باستحقاق أو

تفضل، ويختص برحمته من يشاء، وقال الله عز وجل: ومن يعش عن

ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين (1) .

15 - حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، قال: أخبرنا أحمد بن

الفضل بن المغيرة قال: حدثنا منصور بن عبد الله بن إبراهيم الأصبهاني،

قال: حدثنا علي بن عبد الله، قال: حدثنا أبو شعيب المحاملي عن عبد الله

ابن مسكان، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام أنه سئل عن المعرفة أهي

مكتسبة ؟ فقال: لا، فقيل له: فمن صنع الله عز وجل ومن عطائه هي ؟ قال:

نعم، وليس للعباد فيها صنع، ولهم اكتساب الاعمال، وقال عليه السلام: إن أفعال

العباد مخلوقة خلق تقدير لا خلق تكوين . ومعنى ذلك أن الله تبارك

وتعالى لم يزل عالما بمقاديرها قبل كونها .

16 - حدثنا عبد الواحد بن محمد بن عبدوس النيسابوري

العطار رضي الله عنه، قال: حدثنا علي بن محمد بن قتيبة النيسابوري، عن حمدان

ابن سليمان، قال: كتبت إلى الرضا عليه السلام أسأله عن أفعال العباد أمخلوقة

_____________________________

(1) الزخرف: 36 .

(2) مجمع البيان 2: 363 .

____________________________________________________

صفحة 447

هي أم غير مخلوقة ؟ فكتب عليه السلام: أفعال العباد مقدرة في علم الله عز وجل

قبل خلق العباد بألفي عام 1) .

17 - حدثنا أبي رضي الله عنه، قال: حدثنا سعد بن عبد الله، عن القاسم بن

محمد الأصبهاني، عن سليمان بن داود المنقري، عن حفص بن غياث

النخعي القاضي قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: من عمل بما علم كفي ما لم

يعلم 1) .

2) 65 - باب ذكر مجلس الرضا علي بن موسى عليهما السلام مع أهل

الأديان وأصحاب المقالات مثل الجاثليق ورأس الجالوت

ورؤساء الصابئين والهربذ الأكبر وما كلم به عمران الصابئ في

التوحيد عند المأمون

1 - حدثنا أبو محمد جعفر بن علي بن أحمد الفقيه القمي ثم

الايلاقي رضي الله عنه، قال: أخبرنا أبو محمد الحسن بن محمد بن علي بن صدقة

القمي، قال: حدثني أبو عمر محمد بن عمر بن عبد العزيز الأنصاري

الكجي، قال: حدثني من سمع الحسن بن محمد النوفلي ثم الهاشمي،

____________________________________________________

صفحة 448

يقول: لما قدم علي بن موسى الرضا عليهما السلام إلى المأمون أمر الفضل بن سهل

أن يجمع له أصحاب المقالات مثل الجاثليق ورأس الجالوت ورؤساء

الصابئين والهربذ الأكبر وأصحاب زردهشت وقسطاس الرومي

والمتكلمين ليسمع كلامه وكلامهم، فجمعهم الفضل بن سهل، ثم أعلم

المأمون باجتماعهم، فقال: أدخلهم علي، ففعل، فرحب بهم المأمون، ثم

قال لهم: إني إنما جمعتكم لخير، وأحببت أن تناظروا ابن عمي هذا المدني

القادم علي، فإذا كان بكرة فاغدوا علي ولا يتخلف منكم أحد، فقالوا:

السمع والطاعة يا أمير المؤمنين نحن مبكرون إن شاء الله .

قال الحسن بن محمد النوفلي: فبينا نحن في حديث لنا عند أبي

الحسن الرضا عليه السلام إذ دخل علينا ياسر الخادم وكان يتولى أمر أبي الحسن

عليه السلام فقال: يا سيدي إن أمير المؤمنين يقرئك السلام فيقول: فداك أخوك

إنه اجتمع إلي أصحاب المقالات وأهل الأديان والمتكلمون من جميع

الملل فرأيك في البكور علينا إن أحببت كلامهم وإن كرهت كلامهم فلا

تتجشم وإن أحببت أن نصير إليك خف ذلك علينا، فقال أبو الحسن عليه السلام:

أبلغه السلام وقل له: قد علمت ما أردت، وأنا صائر إليك بكرة إن شاء الله .

قال الحسن بن محمد النوفلي: فلما مضى ياسر التفت إلينا، ثم قال

لي: يا نوفلي أنت عراقي ورقة العراقي غير غليظة 1) فما عندك في جمع

_____________________________

(1) القاموس 1: 361 .

____________________________________________________

صفحة 449

ابن عمك علينا أهل الشرك وأصحاب المقالات ؟ فقلت: جعلت فداك يريد

الامتحان ويحب أن يعرف ما عندك، ولقد بنى على أساس غير وثيق

البنيان وبئس والله ما بنى، فقال لي: وما بناؤه في هذا الباب ؟ قلت: إن

أصحاب البدع والكلام خلاف العلماء، وذلك أن العالم لا ينكر غير

المنكر، وأصحاب المقالات والمتكلمون وأهل الشرك أصحاب إنكار

ومباهتة، وإن احتججت عليهم أن الله واحد قالوا: صحح وحدانيته، وإن

قلت: إن محمدا صلى الله عليه وآله رسول الله قالوا: أثبت رسالته، ثم يباهتون الرجل

وهو يبطل عليهم بحجته، ويغالطونه حتى يترك قوله، فاحذرهم جعلت

فداك، قال: فتبسم عليه السلام ثم قال: يا نوفلي أتخاف أن يقطعوا علي حجتي ؟

قلت: لا والله ما خفت عليك قط وإني لأرجو أن يظفرك الله بهم إن شاء

الله، فقال لي: يا نوفلي أتحب أن تعلم متى يندم المأمون، قلت: نعم، قال:

إذا سمع احتجاجي على أهل التوراة بتوراتهم وعلى أهل الإنجيل

بإنجيلهم وعلى أهل الزبور بزبورهم وعلى الصابئين بعبرانيتهم وعلى

الهرابذة بفارسيتهم وعلى أهل الروم بروميتهم وعلى أصحاب المقالات

بلغاتهم، فإذا قطعت كل صنف ودحضت حجته وترك مقالته ورجع إلى

قولي علم المأمون أن الموضع الذي هو بسبيله ليس هو بمستحق له، فعند

ذلك تكون الندامة منه، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .

____________________________________________________

صفحة 450

فلما أصبحنا أتانا الفضل بن سهل فقال له: جعلت فداك ابن عمك

ينتظرك وقد اجتمع القوم فما رأيك في إتيانه، فقال له الرضا عليه السلام: تقدمني

فإني صائر إلى ناحيتكم إن شاء الله، ثم توضأ عليه السلام وضوء الصلاة وشرب

شربة سويق وسقانا منه، ثم خرج وخرجنا معه حتى دخلنا على المأمون،

فإذا المجلس غاص بأهله ومحمد بن جعفر في جماعة الطالبيين

والهاشميين، والقواد حضور، فلما دخل الرضا عليه السلام قام المأمون وقام

محمد بن جعفر وقام جميع بني هاشم، فما زالوا وقوفا والرضا عليه السلام جالس

مع المأمون حتى أمرهم بالجلوس فجلسوا، فلم يزل المأمون مقبلا عليه

يحدثه ساعة .

ثم التفت إلى جاثليق، فقال: يا جاثليق هذا ابن عمي علي بن موسى

ابن جعفر وهو من ولد فاطمة بنت نبينا، وابن علي بن أبي طالب عليهم السلام

فأحب أن تكلمه وتحاجه وتنصفه فقال الجاثليق يا أمير المؤمنين كيف

أحاج رجلا يحتج علي بكتاب أنا منكره ونبي لا أو من به . فقال له

الرضا عليه السلام: يا نصراني فإن احتججت عليك بإنجيلك أتقر به ؟ ! قال

الجاثليق: وهل أقدر على دفع ما نطق به الإنجيل ؟ نعم والله أقر به على

رغم أنفي، فقال له الرضا عليه السلام: سل عما بدا لك وافهم الجواب، قال

الجاثليق: ما تقول في نبوة عيسى عليه السلام وكتابه هل تنكر منهما شيئا ؟ قال

الرضا عليه السلام: أنا مقر بنبوة عيسى وكتابه وما بشر به أمته وأقر به

الحواريون، وكافر بنبوة كل عيسى لم يقر بنبوة محمد 1) وبكتابه ولم يبشر

____________________________________________________

صفحة 451

به أمته، قال الجاثليق: أليس إنما تقطع الاحكام بشاهدي عدل ؟ قال بلى،

قال: فأقم شاهدين من غير أهل ملتك، على نبوة محمد ممن لا تنكره

النصرانية وسلنا مثل ذلك من غير أهل ملتنا، قال الرضا عليه السلام: الآن جئت

بالنصفة يا نصراني، ألا تقبل مني العدل المقدم عند المسيح عيسى بن

مريم، قال الجاثليق: ومن هذا العدل ؟ سمه لي، قال: ما تقول في يوحنا

الديلمي ؟ ! قال: بخ بخ ذكرت أحب الناس إلى المسيح، قال: فأقسمت

عليك هل نطق الإنجيل أن يوحنا قال: إن المسيح أخبرني بدين محمد

العربي وبشرني به أنه يكون من بعده فبشرت به الحواريين فامنوا به ؟ ! قال

الجاثليق: قد ذكر ذلك يوحنا عن المسيح وبشر بنبوة رجل وبأهل بيته

ووصيه، ولم يلخص متى يكون ذلك ولم يسم لنا القوم فنعرفهم، قال

____________________________________________________

صفحة 452

الرضا عليه السلام: فإن جئناك بمن يقرأ الإنجيل فتلا عليك ذكر محمد وأهل بيته

وأمته أتؤمن به ؟ ! قال: شديدا 1)، قال الرضا عليه السلام لقسطاس الرومي 2): كيف

حفظك للسفر الثالث من الإنجيل ؟ قال: ما أحفظني له، ثم التفت إلى رأس

الجالوت فقال له: ألست تقرأ الإنجيل ؟ ! قال: بلى لعمري، قال: فخذ على

السفر الثالث، فإن كان فيه ذكر محمد وأهل بيته وأمته سلام الله عليهم

فاشهدوا لي وإن لم يكن فيه ذكره فلا تشهدوا لي، ثم قرأ عليه السلام السفر الثالث

حتى إذا بلغ ذكر النبي صلى الله عليه وآله وقف، ثم قال يا نصراني إني أسألك بحق

المسيح وأمه أتعلم إني عالم بالإنجيل ؟ ! قال: نعم، ثم تلا علينا ذكر محمد

وأهل بيته وأمته، ثم قال: ما تقول يا نصراني هذا قول عيسى بن مريم ؟ !

فإن كذبت ما ينطق به الإنجيل فقد كذبت عيسى وموسى عليهما السلام ومتى

أنكرت هذا الذكر وجب عليك القتل لأنك تكون قد كفرت بربك ونبيك

وبكتابك، قال الجاثليق: لا انكر ما قد بان لي في الإنجيل وإني لمقر به،

قال الرضا عليه السلام: اشهدوا على إقراره .

ثم قال: يا جاثليق سل عما بدا لك، قال الجاثليق: أخبرني عن

حواري عيسى بن مريم كم كان عدتهم ؟ وعن علماء الإنجيل كم كانوا ؟

قال الرضا عليه السلام: على الخبير سقطت 3)، أما الحواريون فكانوا اثني عشر

____________________________________________________

صفحة 453

رجلا، وكان أفضلهم وأعلمهم الوقا وأما علماء النصارى فكانوا ثلاثة

رجال: يوحنا الأكبر بأج، ويوحنا بقرقيسيا، ويوحنا الديلمي بزجان

وعنده كان ذكر النبي صلى الله عليه وآله وذكر أهل بيته وأمته وهو الذي بشر أمة عيسى

وبني إسرائيل به .

ثم قال عليه السلام: يا نصراني والله إنا لنؤمن بعيسى الذي آمن بمحمد صلى الله عليه وآله

وما ننقم على عيساكم شيئا إلا ضعفه وقلة صيامه وصلاته قال الجاثليق:

أفسدت والله علمك وضعفت أمرك، وما كنت ظننت إلا أنك أعلم أهل

الاسلام، قال الرضا عليه السلام: وكيف ذلك ؟ ! قال الجاثليق: من قولك: إن

عيساكم كان ضعيفا قليل الصيام قليل الصلاة، وما أفطر عيسى يوما قط

ولا نام بليل قط . وما زال صائم الدهر، قائم الليل، قال الرضا عليه السلام: فلمن

كان يصوم ويصلي ؟ ! قال: فخرس الجاثليق وانقطع .

قال الرضا عليه السلام: يا نصراني إني أسألك عن مسألة، قال: سل فإن كان

عندي علمها أجبتك، قال الرضا عليه السلام: ما أنكرت أن عيسى كان يحيى

الموتى بإذن الله عز وجل، قال الجاثليق: أنكرت ذلك من قبل أن من أحيا

الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص فهو رب مستحق لان يعبد قال الرضا عليه السلام:

فإن اليسع قد صنع مثل ما صنع عيسى مشى على الماء وأحيا الموتى

وأبرأ الأكمه والأبرص فلم يتخذه أمته ربا ولم يعبده أحد من دون الله عز

وجل، ولقد صنع حزقيل النبي عليه السلام مثل ما صنع عيسى بن مريم 1) عليه السلام

فأحيا خمسة وثلاثين ألف رجل من بعد موتهم بستين سنة ثم التفت إلى

____________________________________________________

صفحة 454

رأس الجالوت فقال له: يا رأس الجالوت أتجد هؤلاء في شباب بني

إسرائيل 1) في التوراة ؟ اختارهم بخت نصر من سبي بني إسرائيل حين غزا

بيت المقدس ثم انصرف بهم إلى بابل فأرسله الله عز وجل إليهم فأحياهم

هذا في التوراة لا يدفعه إلا كافر منكم قال رأس الجالوت: قد سمعنا به

وعرفناه، قال: صدقت، ثم قال عليه السلام: يا يهودي خذ على هذا السفر من

التوراة فتلا عليه السلام علينا من التوراة آيات، فأقبل اليهودي يترجح

_____________________________

(1) البقرة: 243 .

(2) حزقيل بالحاء المهملة والزاي المعجمة على ما وقع ضبطه في الكتب القديمة الصحيحة،

وربما وجد في بعض النسخ من كتب الاخبار ضبطه بالخاء المعجمة والراء المهملة . والأول

أصوب (منه) عفي عنه .

(3) مجمع البيان 1: 346 - 347 .

____________________________________________________

صفحة 455

لقراءته 1) ويتعجب ثم أقبل على النصراني فقال: يا نصراني أفهؤلاء كانوا

قبل عيسى أم عيسى كان قبلهم ؟ ! قال: بل كانوا قبله: قال الرضا عليه السلام: لقد

اجتمعت قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فسألوه أن يحيي لهم موتاهم، فوجه

معهم علي بن أبي طالب عليه السلام فقال له: اذهب إلى الجبانة فناد بأسماء

هؤلاء الرهط الذين يسألون عنهم بأعلى صوتك يا فلان ويا فلان ويا

فلان يقول لكم محمد رسول الله صلى الله عليه وآله: قوموا بإذن الله عز وجل، فقاموا

ينفضون التراب عن رؤوسهم، فأقبلت قريش تسألهم عن أمورهم، ثم

أخبروهم أن محمدا قد بعث نبيا، قالوا: وددنا أنا أدركناه فنؤمن به ولقد

أبرأ الأكمه والأبرص والمجانين وكلمه البهائم والطير والجن والشياطين

ولم نتخذه ربا من دون الله عز وجل، ولم ننكر لاحد من هؤلاء فضلهم،

فمتى اتخذتم عيسى ربا جاز لكم أن تتخذوا اليسع وحزقيل ربا لأنهما قد

صنعا مثل ما صنع عيسى من إحياء الموتى، وغيره أن قوما من بني

إسرائيل هربوا من بلادهم من الطاعون وهم ألوف حذر الموت فأماتهم الله

في ساعة واحدة، فعمد أهل تلك القرية فحظروا عليهم حظيرة فلم يزالوا

فيها حتى نخرت عظامهم وصاروا رميما، فمر بهم نبي من أنبياء بني

إسرائيل فتعجب منهم ومن كثرة العظام البالية، فأوحى الله إليه أتحب أن

____________________________________________________

صفحة 456

أحييهم لك فتنذرهم ؟ قال: نعم يا رب، فأوحى الله عز وجل إليه أن نادهم،

فقال: أيتها العظام البالية قومي بإذن الله عز وجل فقاموا أحياء أجمعون

ينفضون التراب عن رؤوسهم . ثم إبراهيم عليه السلام خليل الرحمن حين أخذ

الطيور وقطعهن قطعا ثم وضع على كل جبل منهن جزءا ثم ناداهن فأقبلن

سعيا إليه، ثم موسى بن عمران وأصحابه والسبعون الذين اختارهم صاروا

معه إلى الجبل فقالوا له: إنك قد رأيت الله سبحانه فأرناه كما رأيته، فقال

لهم: إني لم أره، فقالوا: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة، فأخذتهم

الصاعقة فاحترقوا عن آخرهم وبقي موسى وحيدا، فقال: يا رب اخترت

سبعين رجلا من بني إسرائيل فجئت بهم وأرجع وحدي، فكيف يصدقني

قومي بما اخبرهم به، فلو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أفتهلكنا بما فعل

السفهاء منا، فأحياهم الله عز وجل من بعد موتهم، وكل شئ ذكرته لك

من هذا لا تقدر على دفعه لان التوراة والإنجيل والزبور والفرقان قد

نطقت به، فإن كان كل من أحيا الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص والمجانين

يتخذ ربا من دون الله فاتخذ هؤلاء كلهم أربابا، ما تقول يا نصراني ؟ ! قال

الجاثليق: القول قولك ولا إله إلا الله .

ثم التفت عليه السلام إلى رأس الجالوت فقال: يا يهودي أقبل علي أسألك

بالعشر الآيات التي أنزلت 1) على موسى بن عمران عليه السلام هل تجد في

_____________________________

(1) الاسراء: 101 .

____________________________________________________

صفحة 457

التوراة مكتوبا نبأ محمد وأمته: إذا جاءت الأمة الأخيرة أتباع راكب البعير

يسبحون الرب جدا جدا تسبيحا جديدا في الكنائس الجدد، فليفرغ بنو

إسرائيل إليهم وإلى ملكهم لتطمئن قلوبهم، فإن بأيديهم سيوفا ينتقمون بها

من الأمم الكافرة في أقطار الأرض، هكذا هو في التوراة مكتوب ؟ ! قال

رأس الجالوت: نعم إنا لنجده كذلك، ثم قال للجاثليق: يا نصراني كيف

علمك بكتاب شعيا ؟ قال: أعرفه حرفا حرفا، قال الرضا عليه السلام لهما: أتعرفان

هذا من كلامه: (يا قوم إني رأيت صورة راكب الحمار لابسا جلابيب

النور، ورأيت راكب البعير ضوؤه مثل ضوء القمر) ؟ فقالا: قد قال ذلك

شعيا، قال الرضا عليه السلام: يا نصراني هل تعرف في الإنجيل قول عيسى: إني

ذاهب إلى ربي وربكم والبارقليطا جاء 1) هو الذي يشهد لي بالحق كما

شهدت له وهو الذي يفسر لكم كل شئ، وهو الذي يبدي فضائح الأمم،

وهو الذي يكسر عمود الكفر ؟ فقال الجاثليق: ما ذكرت شيئا مما في

الإنجيل إلا ونحن مقرون به، فقال: أتجد هذا في الإنجيل ثابتا يا

جاثليق ؟ ! قال: نعم .

_____________________________

(1) مجمع البيان 3: 443 - 444 .

____________________________________________________

صفحة 458

قال الرضا عليه السلام: يا جاثليق ألا تخبرني عن الإنجيل الأول حين

افتقدتموه عند من وجدتموه ومن وضع لكم هذا الإنجيل ؟ قال له: ما

افتقدنا الإنجيل إلا يوما واحدا حتى وجدنا غضا طريا فأخرجه إلينا

يوحنا ومتى، فقال له الرضا عليه السلام: ما أقل معرفتك بسر الإنجيل وعلمائه

فإن كان كما تزعم فلم اختلفتم في الإنجيل إنما وقع الاختلاف في هذا

الإنجيل الذي في أيديكم اليوم . فلو كان على العهد الأول لم تختلفوا فيه،

ولكني مفيدك علم ذلك، إعلم أنه لما افتقد الإنجيل الأول اجتمعت

النصارى إلى علمائهم فقالوا لهم: قتل عيسى بن مريم 1) عليه السلام وافتقدنا

الإنجيل وأنتم العلماء فما عندكم ؟ فقال لهم الوقا ومر قابوس: إن الإنجيل

في صدورنا، ونحن نخرجه إليكم سفرا سفرا في كل أحد، فلا تحزنوا

عليه ولا تخلوا الكنائس، فإنا سنتلوه عليكم في كل أحد سفرا سفرا حتى

نجمعه لكم كله، فقعد الوقا ومر قابوس ويوحنا ومتى ووضعوا لهم هذا

الإنجيل بعد ما افتقدتم الإنجيل الأول، وإنما كان هؤلاء الأربعة تلاميذ

التلاميذ الأولين، أعلمت ذلك ؟ قال الجاثليق: أما هذا فلم أعلمه وقد

علمته الان، وقد بان لي من فضل علمك بالإنجيل وسمعت أشياء مما

علمته شهد قلبي أنها حق فاستزدت كثيرا من الفهم .

____________________________________________________

صفحة 459

فقال له الرضا عليه السلام: فكيف شهادة هؤلاء عندك ؟ قال: جائزة، هؤلاء

علماء الإنجيل وكل ما شهدوا به فهو حق، فقال الرضا عليه السلام للمأمون ومن

حضره من أهل بيته ومن غيرهم: اشهدوا عليه، قالوا: قد شهدنا، ثم قال

للجاثليق: بحق الابن وأمه هل تعلم أن متى قال: (إن المسيح هو ابن داود

ابن إبراهيم بن إسحاق بن يعقوب بن يهودا بن حضرون)، وقال مرقابوس

في نسبة عيسى بن مريم: (إنه كلمة الله أحلها في جسد الادمي فصارت

إنسانا) وقال الوقا: (إن عيسى بن مريم وأمه كانا إنسانين من لحم ودم

فدخل فيهما روح القدس، ؟ ثم إنك تقول من شهادة عيسى على نفسه:

حقا أقول لكم يا معشر الحواريين: إنه لا يصعد إلى السماء إلا ما نزل منها

إلا راكب البعير خاتم الأنبياء فإنه يصعد إلى السماء وينزل، فما تقول في

هذا القول ؟ قال الجاثليق: هذا قول عيسى لا ننكره قال الرضا عليه السلام فما

تقول في شهادة الوقا ومر قابوس ومتى على عيسى وما نسبوه إليه ؟ قال

الجاثليق: كذبوا على عيسى، قال الرضا عليه السلام: يا قوم أليس قد زكاهم

وشهد أنهم علماء الإنجيل وقولهم حق ؟ ! فقال الجاثليق: يا عالم المسلمين

أحب أن تعفيني من أمر هؤلاء، قال الرضا عليه السلام: فإنا قد فعلنا، سل يا

نصراني عما بدا لك، قال الجاثليق: ليسألك غيري، فلا وحق المسيح ما

ظننت أن في علماء المسلمين مثلك .

____________________________________________________

صفحة 460

فالتفت الرضا عليه السلام إلى رأس الجالوت فقال له: تسألني أو أسألك ؟ قال:

بل أسألك، ولست أقبل منك حجة إلا من التوراة أو من الإنجيل أو من

زبور داود أو مما في صحف إبراهيم وموسى فقال الرضا عليه السلام: لا تقبل مني

حجة إلا بما تنطق به التوراة على لسان موسى بن عمران والإنجيل على

لسان عيسى بن مريم والزبور على لسان داود، فقال رأس الجالوت: من

أين تثبت نبوة محمد ؟ قال الرضا عليه السلام: شهد بنبوته صلى الله عليه وآله موسى بن عمران

وعيسى بن مريم وداود خليفة الله عز وجل في الأرض، فقال له: أثبت

قول موسى بن عمران، قال الرضا عليه السلام: هل تعلم يا يهودي أن موسى

أوصى بني إسرائيل فقال لهم: إنه سيأتيكم نبي هو من إخوتكم فبه

فصدقوا، ومنه فاسمعوا، فهل تعلم أن لبني إسرائيل إخوة غير ولد إسماعيل

إن كنت تعرف قرابة إسرائيل من إسماعيل والنسب الذي بينهما من قبل

إبراهيم عليه السلام ؟ فقال رأس الجالوت: هذا قول موسى لا ندفعه، فقال له

الرضا عليه السلام: هل جاءكم من إخوة بني إسرائيل نبي غير محمد صلى الله عليه وآله ؟ قال:

لا، قال الرضا عليه السلام: أوليس قد صح هذا عندكم ؟ ! قال: نعم، ولكني أحب

أن تصححه لي من التوراة، فقال له الرضا عليه السلام: هل تنكر أن التوراة تقول

لكم: جاء النور من جبل طور سيناء، وأضاء لنا من جبل ساعير واستعلن

علينا من جبل فاران ؟ قال رأس الجالوت: أعرف هذه الكلمات وما

____________________________________________________

صفحة 461

أعرف تفسيرها، قال الرضا عليه السلام: أنا أخبرك به، أما قوله: جاء النور: جاء

النور من جبل طور سيناء فذلك وحي الله تبارك وتعالى الذي أنزله على

موسى عليه السلام على جبل طور سيناء، وأما قوله، وأضاء لنا من جبل ساعير

فهو الجبل الذي أوحى الله عز وجل إلى عيسى بن مريم عليه السلام وهو عليه، و

أما قوله: واستعلن علينا من جبل فاران فذلك جبل من جبال مكة بينه

وبينها يوم، وقال شعيا النبي عليه السلام فيما تقول أنت وأصحابك في التوراة 1):

رأيت راكبين أضاء لهما الأرض، أحدهما راكب على حمار والاخر على

جمل، فمن راكب الحمار ومن راكب الجمل ؟ ! قال رأس الجالوت: لا

أعرفهما فخبرني بهما، قال عليه السلام: أما راكب الحمار فعيسى بن مريم، وأما

راكب الجمل فمحمد صلى الله عليه وآله، أتنكر هذا من التوراة ؟ ! قال: لا ما أنكره، ثم

قال الرضا عليه السلام: هل تعرف حيقوق النبي قال: نعم إني به لعارف، قال عليه السلام:

فإنه قال وكتابكم ينطق به: جاء الله بالبيان من جبل فاران، وامتلاءت

السماوات من تسبيح أحمد وأمته، يحمل خيله في البحر كما يحمل في

البر 2)، يأتينا بكتاب جديد بعد خراب بيت المقدس - يعني بالكتاب

القرآن - أتعرف هذا وتؤمن به ؟ قال رأس الجالوت: قد قال ذلك

حيقوق عليه السلام ولا ننكر قوله، قال الرضا عليه السلام: وقد قال داود في زبوره وأنت

____________________________________________________

صفحة 462

تقرأ: اللهم ابعث مقيم السنة بعد الفترة، فهل تعرف نبيا أقام السنة بعد الفترة

غير محمد صلى الله عليه وآله ؟ ! قال رأس الجالوت: هذا قول داود نعرفه ولا ننكره،

ولكن عنى بذلك عيسى، وأيامه هي الفترة، قال الرضا عليه السلام: جهلت، إن

عيسى لم يخالف السنة وقد كان موافقا لسنة التوراة حتى رفعه الله إليه،

وفي الإنجيل مكتوب: إن ابن البرة ذاهب والفار قليطا جاء من بعده وهو

الذي يخفف الآصار، ويفسر لكم كل شئ، ويشهد لي كما شهدت له، أنا

جئتكم بالأمثال، وهو يأتيكم بالتأويل، أتؤمن بهذا في الإنجيل ؟ ! قال: نعم

لا أنكره .

فقال له الرضا عليه السلام: يا رأس الجالوت أسألك عن نبيك موسى بن

عمران، فقال: سل، قال: ما الحجة على أن موسى ثبتت نبوته ؟ قال

اليهودي إنه جاء بما لم يجئ به أحد من الأنبياء قبله، قال له: مثل ماذا ؟

قال: مثل فلق البحر، وقلبه العصا حية تسعى، وضربه الحجر فانفجرت منه

العيون، وإخراجه يده بيضاء للناظرين وعلامات لا يقدر الخلق على

مثلها، قال الرضا عليه السلام: صدقت، إذا كانت حجته على نبوته أنه جاء بما لا

يقدر الخلق على مثله أفليس كل من أدعى أنه نبي ثم جاء بما لا يقدر

الخلق على مثله وجب عليكم تصديقه ؟ قال: لا لان موسى لم يكن

____________________________________________________

صفحة 463

له نظير لمكانه من ربه وقربه منه، ولا يجب علينا الاقرار بنبوة من ادعاها

حتى يأتي من الاعلام بمثل ما جاء به، قال الرضا عليه السلام: فكيف أقررتم

بالأنبياء الذين كانوا قبل موسى عليه السلام ولم يفلقوا البحر ولم يفجروا من

الحجر اثنتي عشرة عينا ولم يخرجوا أيديهم بيضاء مثل إخراج موسى يده

بيضاء ولم يقلبوا العصا حية تسعى ؟ ! قال له اليهودي: قد خبرتك أنه متى

جاؤوا على دعوى نبوتهم من الآيات بما لا يقدر الخلق على مثله ولو

جاؤوا بما لم يجئ به موسى أو كان على غير ما جاء به موسى وجب

تصديقهم قال الرضا عليه السلام: يا رأس الجالوت فما يمنعك من الاقرار بعيسى

ابن مريم وقد كان يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص ويخلق من

الطين كهيئة الطير ثم ينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله ؟ قال رأس الجالوت:

يقال: إنه فعل ذلك ولم نشهده، قال له الرضا عليه السلام: أرأيت ما جاء به موسى

من الآيات شاهدته ؟ ! أليس إنما جاء في الاخبار به من ثقات أصحاب

موسى أنه فعل ذلك ؟ ! قال: بلى، قال: فكذلك أتتكم الأخبار المتواترة بما

فعل عيسى بن مريم فكيف صدقتم بموسى ولم تصدقوا بعيسى ؟ ! فلم يحر

جوابا، قال الرضا عليه السلام: وكذلك أمر محمد صلى الله عليه وآله وما جاء به وأمر كل نبي

بعثه الله، ومن آياته أنه كان يتيما فقيرا راعيا أجيرا لم يتعلم كتابا ولم

يختلف إلى معلم، ثم جاء بالقرآن الذي فيه قصص الأنبياء وأخبارهم

حرفا حرفا وأخبار من مضى ومن بقي إلى يوم القيامة، ثم كان يخبرهم

بأسرارهم وما يعملون في بيوتهم، وجاء بآيات كثيرة لا تحصى، قال رأس

____________________________________________________

صفحة 464

الجالوت: لم يصح عندنا خبر عيسى ولا خبر محمد، ولا يجوز لنا أن نقر

لهما بما لم يصح، قال الرضا عليه السلام: فالشاهد الذي شهد لعيسى ولمحمد صلى الله عليه وآله

شاهد زور ؟ ! فلم يحر جوابا .

ثم دعا عليه السلام بالهربذ الأكبر فقال له الرضا عليه السلام: أخبرني عن زردهشت

الذي تزعم أنه نبي ما حجتك على نبوته: قال: إنه أتى بما لم يأتنا به أحد

قبله ولم نشهد ولكن الاخبار من أسلافنا وردت علينا بأنه أحل لنا ما لم

يحله غيره فاتبعناه، قال عليه السلام: أفليس إنما أتتكم الاخبار فاتبعتموه ؟ ! قال:

بلى، قال: فكذلك سائر الأمم السالفة أتتهم الاخبار بما أتى به النبيون

وأتى به موسى وعيسى ومحمد صلوات الله عليهم فما عذركم في ترك

الاقرار لهم إذ كنتم إنما أقررتم بزردهشت من قبل الأخبار المتواترة بأنه

جاء بما لم يجئ به غيره ؟ ! فانقطع الهربذ مكانه .

فقال الرضا عليه السلام: يا قوم إن كان فيكم أحد يخالف الاسلام وأراد أن

يسأل فليسأل غير محتشم، فقام إليه عمران الصابئ وكان واحدا في

المتكلمين فقال: يا عالم الناس لولا أنك دعوت إلى مسألتك لم أقدم

عليك بالمسائل، ولقد دخلت الكوفة والبصرة والشام والجزيرة ولقيت

المتكلمين، فلم أقع على أحد يثبت لي واحدا ليس غيره قائما بوحدانيته،

أفتأذن لي أن أسألك ؟ قال الرضا عليه السلام: إن كان في الجماعة عمران الصابئ

فأنت هو، فقال: أنا هو، فقال عليه السلام: سل يا عمران وعليك بالنصفة، وإياك

والخطل والجور، قال: والله يا سيدي ما أريد إلا أن تثبت لي شيئا أتعلق به

فلا أجوزه، قال عليه السلام: سل عما بدا لك، فازدحم عليه الناس وانضم بعضهم

إلى بعض، فقال عمران الصابئ: أخبرني عن الكائن الأول وعما

____________________________________________________

صفحة 465

خلق، قال عليه السلام: سألت فافهم، أما الواحد فلم يزل واحدا كائنا لا شئ

معه بلا حدود ولا أعراض ولا يزال كذلك، ثم خلق خلقا مبتدعا مختلفا

بأعراض وحدود مختلفة لا في شئ أقامه 1) ولا في شئ حده ولا على

شئ حذاه ومثله له 2) فجعل من بعد ذلك الخلق صفوة وغير صفوة

واختلافا وائتلافا وألوانا وذوقا وطعما لا لحاجة كانت منه إلى ذلك ولا

لفضل منزلة لم يبلغها إلا به، ولا رأى لنفسه فيما خلق زيادة ولا نقصانا،

تعقل هذا يا عمران ؟ قال: نعم والله يا سيدي، قال عليه السلام: واعلم يا عمران أنه

لو كان خلق ما خلق لحاجة لم يخلق إلا من يستعين به على حاجته

ولكان ينبغي أن يخلق أضعاف ما خلق لان الأعوان كلما كثروا كان

صاحبهم أقوى، والحاجة يا عمران لا يسعها 3) لأنه لم يحدث من الخلق

شيئا إلا حدثت فيه حاجة أخرى ولذلك أقول: لم يخلق الخلق لحاجة،

ولكن نقل بالخلق الحوائج بعضهم إلى بعض وفضل بعضهم على بعض بلا

حاجة منه إلى من فضل ولا نقمة منه على من أذل، فلهذا خلق .

____________________________________________________

صفحة 466

قال عمران: يا سيدي هل كان الكائن معلوما في نفسه عند نفسه 1) ؟

قال الرضا عليه السلام: إنما تكون المعلمة بالشئ لنفي خلافه وليكون الشئ

نفسه بما نفى عنه موجودا، ولم يكن هناك شئ يخالفه فتدعوه الحاجة

إلى نفي ذلك الشئ عن نفسه بتحديد علم منها أفهمت يا عمران ؟ قال:

نعم والله يا سيدي، فأخبرني بأي شئ علم ما علم أبضمير أم بغير ذلك 2) ؟

قال الرضا عليه السلام: أرأيت إذا علم بضمير هل تجد بدا من أن تجعل لذلك

الضمير حدا ينتهي إليه المعرفة ؟ ! قال عمران: لا بد من ذلك، قال

الرضا عليه السلام: فما ذلك الضمير ؟ فانقطع ولم يحر جوابا، قال الرضا عليه السلام: لا

____________________________________________________

صفحة 467

بأس، إن سألتك عن الضمير نفسه تعرفه بضمير آخر ؟ ! فقال الرضا عليه السلام:

أفسدت عليك قولك ودعواك يا عمران، أليس ينبغي أن تعلم أن الواحد

ليس يوصف بضمير، وليس يقال له أكثر من فعل وعمل وصنع وليس

يتوهم منه مذاهب وتجزئة كمذاهب المخلوقين وتجزئتهم فاعقل ذلك

وابن عليه ما علمت صوابا .

____________________________________________________

صفحة 468

قال عمران: يا سيدي ألا تخبرني عن حدود خلقه كيف هي وما

معانيها وعلى كم نوع يتكون، قال عليه السلام: قد سألت فافهم، إن حدود خلقه

على ستة أنواع 1) ملموس وموزون ومنظور إليه . وما لا وزن له وهو

الروح، ومنها منظور إليه وليس له وزن ولا لمس ولا حس ولا لون ولا

ذوق، والتقدير، والاعراض، والصور، والعرض، والطول . ومنها العمل

والحركات التي تصنع الأشياء وتعلمها وتغيرها من حال إلى حال وتزيدها

وتنقصها، وأما الاعمال والحركات فإنها تنطلق لأنها لا وقت لها أكثر من

قدر ما يحتاج إليه، فإذا فرغ من الشئ انطلق بالحركة وبقي الأثر،

ويجري مجرى الكلام الذي يذهب ويبقى أثره .

قال له عمران: يا سيدي ألا تخبرني عن الخالق إذا كان واحدا لا

شئ غيره ولا شئ معه أليس قد تغير بخلقه الخلق ؟ قال الرضا عليه السلام: لم

يتغير عز وجل بخلق الخلق، ولكن الخلق يتغير بتغييره .

____________________________________________________

صفحة 469

قال عمران: فبأي شئ عرفناه ؟ قال عليه السلام: بغيره، قال: فأي شئ

غيره ؟ قال الرضا عليه السلام: مشيته واسمه وصفته 1) وما أشبه ذلك، وكل ذلك

محدث مخلوق مدبر .

قال عمران: يا سيدي فأي شئ هو ؟ قال عليه السلام: هو نور، بمعنى أنه

هاد لخلقه من أهل السماء وأهل الأرض، وليس لك علي أكثر من

توحيدي إياه 2) .

قال عمران: يا سيدي أليس قد كان ساكتا قبل الخلق لا ينطق ثم

نطق 3)، قال الرضا عليه السلام: لا يكون السكوت إلا عن نطق قبله والمثل في

ذلك أنه لا يقال للسراج: هو ساكت لا ينطق، ولا يقال: إن السراج ليضئ

فيما يريد أن يفعل بنا لان الضوء من السراج ليس بفعل منه ولا كون،

وإنما هو ليس شئ غيره، فلما استضاء لنا قلنا: قد أضاء لنا حتى استضأنا

به، فبهذا تستبصر أمرك .

____________________________________________________

صفحة 470

قال عمران: يا سيدي فإن الذي كان عندي أن الكائن قد تغير في فعله

عن حاله بخلقه الخلق، قال الرضا عليه السلام: أحلت يا عمران في قولك: إن الكائن

يتغير في وجه من الوجوه حتى يصيب الذات منه ما يغيره، يا عمران هل

____________________________________________________

صفحة 471

تجد النار يغيرها تغير نفسها 1)، أو هل تجد الحرارة تحرق

نفسها، أو هل رأيت بصيرا قط رأى بصره ؟ قال عمران: لم أر هذا .

_____________________________

(1) بحار الأنوار 10: 323 .

____________________________________________________

صفحة 472

ألا تخبرني يا سيدي أهو في الخلق أم الخلق فيه 1)، قال الرضا عليه السلام:

جل يا عمران عن ذلك، ليس هو في الخلق ولا الخلق فيه، تعالى عن

ذلك، وسأعلمك ما تعرفه به، ولا حول ولا قوة إلا بالله، أخبرني عن المرآة

أنت فيها أم هي فيك ؟ ! فإن كان ليس واحد منكما في صاحبه فبأي

شئ استدللت بها على نفسك ؟ ! قال عمران: بضوء بيني وبينها، فقال

الرضا عليه السلام: هل ترى من ذلك الضوء في المرآة أكثر مما تراه في عينك ؟

قال: نعم، قال الرضا عليه السلام: فأرناه، فلم يحر جوابا، قال الرضا عليه السلام: فلا

أرى النور إلا وقد دلك ودل المرآة على أنفسكما من غير أن يكون في

واحد منكما، ولهذا أمثال كثيرة غير هذا لا يجد الجاهل فيها مقالا، ولله

المثل الاعلى .

____________________________________________________

صفحة 473

ثم التفت عليه السلام إلى المأمون فقال: الصلاة قد حضرت، فقال يا عمران:

يا سيدي لا تقطع علي مسألتي فقد رق قلبي، قال الرضا عليه السلام: نصلي

ونعود، فنهض ونهض المأمون: فصلى الرضا عليه السلام داخلا، وصلى الناس

خارجا خلف محمد بن جعفر، ثم خرجا، فعاد الرضا عليه السلام إلى مجلسه

ودعا بعمران فقال: سل يا عمران، قال: يا سيدي ألا تخبرني عن الله عز

وجل هل يوحد بحقيقة 1) أو يوحد بوصف ؟ قال الرضا عليه السلام: إن الله

المبدئ الواحد الكائن الأول لم يزل واحدا لا شئ معه، فردا لا ثاني

معه، لا معلوما ولا مجهولا 2) ولا محكما ولا متشابها ولا مذكورا ولا

منسيا، ولا شيئا يقع عليه اسم شئ من الأشياء غيره، ولا من وقت كان

ولا إلى وقت يكون، ولا بشئ قام ولا إلى شئ يقوم، ولا إلى شئ

استند، ولا في شئ استكن . وذلك كله قبل الخلق إذ لا شئ غيره وما

أوقعت عليه من الكل فهي صفات محدثة وترجمة يفهم بها من فهم .

_____________________________

(1) بحار الأنوار 10: 324 - 325 .

____________________________________________________

صفحة 474

واعلم أن الابداع والمشية والإرادة معناها واحد 1) وأسماؤها ثلاثة،

وكان أول إبداعه وإرادته ومشيته الحروف 2) التي جعلها أصلا لكل شئ

ودليلا على كل مدرك وفاصلا لكل مشكل، وتلك الحروف تفريق كل

شئ من اسم حق وباطل أو فعل أو مفعول أو معنى أو غير معنى، وعليها

اجتمعت الأمور كلها، ولم يجعل للحروف في إبداعه لها معنى 3) غير

أنفسها يتناهى ولا وجود لأنها مبدعة بالابداع، والنور في هذا الموضع

أول فعل الله 4) الذي هو نور السماوات والأرض، والحروف هي المفعول

_____________________________

(1) بحار الأنوار 10: 25 3 .

____________________________________________________

صفحة 475

بذلك الفعل، وهي الحروف التي عليها الكلام والعبارات كلها من الله عز

وجل، علمها خلقه، وهي ثلاثة وثلاثون حرفا، فمنها ثمانية وعشرون

حرفا تدل على اللغات العربية، ومن الثمانية والعشرين اثنان وعشرون

حرفا تدل على اللغات السريانية والعبرانية، ومنها خمسة أحرف متحرفة

في سائر اللغات من العجم لأقاليم اللغات كلها، وهي خمسة أحرف

تحرفت من الثمانية والعشرين الحرف من اللغات فصارت الحروف ثلاثة

وثلاثين حرفا، فأما الخمسة المختلفة فبحجج 1) لا يجوز ذكرها أكثر مما

ذكرناه، ثم جعل الحروف بعد إحصائها وإحكام عدتها فعلا منه كقوله عز

وجل كن فيكون وكن منه صنع، وما يكون به المصنوع، فالخلق الأول

من الله عز وجل الابداع لا وزن له ولا حركة ولا سمع ولا لون ولا حس،

والخلق الثاني الحروف لا وزن لها ولا لون، وهي مسموعة موصوفة غير

_____________________________

(1) بحار الأنوار 10: 325 .

____________________________________________________

صفحة 476

منظور إليها، والخلق الثالث ما كان من الأنواع كلها محسوسا ملموسا ذا

ذوق منظورا إليه، والله تبارك وتعالى سابق للابداع لأنه ليس قبله عز

وجل شئ ولا كان معه شئ، والابداع سابق للحروف، والحروف لا تدل

على غير أنفسها قال المأمون: وكيف لا تدل على غير أنفسها ؟ قال

الرضا عليه السلام: لان الله تبارك وتعالى لا يجمع منها شيئا لغير معنى أبدا، فإذا

ألف منها أحرفا أربعة أو خمسة أو ستة أو أكثر من ذلك أو أقل لم يؤلفها

لغير معنى ولم يك إلا لمعنى محدث لم يكن قبل ذلك شيئا . قال عمران:

فكيف لنا بمعرفة ذلك ؟ قال الرضا عليه السلام: أما المعرفة فوجه ذلك وبابه أنك

تذكر الحروف إذا لم ترد بها غير أنفسها ذكرتها فردا فقلت: ا ب ت ث ج

ح خ حتى تأتي على آخرها فلم تجد لها معنى غير أنفسها، فإذا ألفتها

وجمعت منها أحرفا 1) وجعلتها اسما وصفة لمعنى ما طلبت ووجه ما

عنيت كانت دليلة على معانيها داعية إلى الموصوف بها، أفهمته ؟ قال: نعم .

قال الرضا عليه السلام: واعلم أنه لا يكون صفة لغير موصوف ولا اسم لغير

معنى ولا حد لغير محدود، والصفات والأسماء كلها تدل على الكمال

____________________________________________________

صفحة 477

والوجود 1)، ولا تدل على الإحاطة كما تدل 2) على الحدود التي هي

التربيع والتثليث والتسديس لان الله عز وجل وتقدس تدرك معرفته

بالصفات والأسماء، ولا تدرك بالتحديد بالطول والعرض والقلة والكثرة

واللون والوزن وما أشبه ذلك، وليس يحل بالله جل وتقدس شئ من

ذلك حتى يعرفه خلقه بمعرفتهم أنفسهم 3) بالضرورة التي ذكرنا 4)

ولكن يدل على الله عز وجل بصفاته ويدرك بأسمائه ويستدل عليه

بخلقه حتى لا يحتاج في ذلك الطالب المرتاد إلى رؤية عين ولا استماع

اذن ولا لمس كف ولا إحاطة بقلب، فلو كانت صفاته جل ثناؤه لا تدل

_____________________________

(1) بحار الأنوار 10: 326 .

(2) بحار الأنوار 10: 326 .

____________________________________________________

صفحة 478

عليه 1) وأسماؤه لا تدعو إليه والمعلمة من الخلق 2) لا تدركه لمعناه 3)

كانت العبادة من الخلق لأسمائه وصفاته دون معناه، فلولا أن ذلك كذلك

لكان المعبود الموحد غير الله تعالى لان صفاته وأسماءه غيره، أفهمت ؟

قال: نعم يا سيدي زدني .

قال الرضا عليه السلام: إياك وقول الجهال أهل العمى والضلال الذين

يزعمون أن الله عز وجل وتقدس موجود في الآخرة 4) للحساب والثواب

والعقاب، وليس بموجود في الدنيا للطاعة والرجاء، ولو كان في الوجود

لله عز وجل نقص واهتضام لم يوجد في الآخرة أبدا، ولكن القوم تاهوا

وعموا وصموا عن الحق من حيث لا يعلمون، وذلك قوله عز وجل:

ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا (1)

_____________________________

(1) الاسراء: 72 .

(2) بحار الأنوار 10: 327 .

(3) بحار الأنوار 10: 327 .

____________________________________________________

صفحة 479

يعني أعمى عن الحقائق الموجودة 1)، وقد علم ذووا الألباب أن

الاستدلال على ما هناك لا يكون إلا بما هاهنا 2)، ومن أخذ علم ذلك

برأيه وطلب وجوده وإدراكه عن نفسه دون غيرها لم يزدد من علم ذلك

إلا بعدا لان الله عز وجل جعل علم ذلك خاصة عند قوم يعقلون ويعلمون

ويفهمون .

قال عمران: يا سيدي ألا تخبرني عن الابداع 3) خلق هو أم غير

خلق ؟ قال الرضا عليه السلام: بل خلق ساكن 4) لا يدرك بالسكون 5)، وإنما صار

_____________________________

(1) بحار الأنوار 10: 327 .

(2) بحار الأنوار 10: 327 .

____________________________________________________

صفحة 480

خلقا لأنه شئ محدث، والله الذي أحدثه فصار خلقا له، وإنما هو الله عز

وجل وخلقه لا ثالث بينهما ولا ثالث غيرهما، فما خلق الله عز وجل لم

يعد أن يكون خلقه، وقد يكون الخلق ساكنا ومتحركا ومختلفا ومؤتلفا

ومعلوما ومتشابها، وكل ما وقع عليه حد 1) فهو خلق الله عز وجل .

واعلم أن كل ما أوجدتك الحواس فهو معنى مدرك للحواس وكل

حاسة تدل على ما جعل الله عز وجل لها في إدراكها، والفهم من القلب

بجميع ذلك كله .

واعلم أن الواحد الذي هو قائم بغير تقدير ولا تحديد خلق خلقا

مقدرا بتحديد وتقدير، وكان الذي خلق خلقين اثنين التقدير والمقدر 2)،

فليس في كل واحد منهما لون ولا ذوق ولا وزن، فجعل أحدهما يدرك

____________________________________________________

صفحة 481

بالآخر 1)، وجعلهما مدركين بأنفسهما 2)، ولم يخلق شيئا فردا قائما

_____________________________

(1) بحار الأنوار 10: 328 .

____________________________________________________

صفحة 482

بنفسه دون غيره 1) للذي أراد من الدلالة على نفسه وإثبات وجوده والله

تبارك وتعالى فرد واحد لا ثاني معه يقيمه ولا يعضده ولا يمسكه والخلق

يمسك بعضه بعضا بإذن الله ومشيته، وإنما اختلف الناس في هذا الباب

حتى تاهوا وتحيروا وطلبوا الخلاص من الظلمة بالظلمة في وصفهم الله

بصفة أنفسهم فازدادوا من الحق بعدا، ولو وصفوا الله عز وجل بصفاته

ووصفوا المخلوقين بصفاتهم لقالوا بالفهم واليقين ولما اختلفوا، فلما طلبوا

من ذلك ما تحيروا فيه ارتكبوا 2) والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم .

قال عمران: يا سيدي أشهد أنه كما وصفت، ولكن بقيت لي مسألة،

قال: سل عما أردت، قال: أسألك عن الحكيم في أي شئ هو، وهل

يحيط به شئ، وهل يتحول من شئ إلى شئ، أو به حاجة إلى شئ ؟

قال الرضا عليه السلام: أخبرك يا عمران فاعقل ما سألت عنه فإنه من أغمض ما

يرد على المخلوقين في مسائلهم، وليس يفهمه المتفاوت عقله 3)، العازب

علمه ولا يعجز عن فهمه أولوا العقل المنصفون، أما أول ذلك فلو كان

_____________________________

(1) صحاح اللغة 4: 1586 .

(2) راجع حول تفسير الحديث الشريف إلى بحار الأنوار 10: 318 - 328 .

____________________________________________________

صفحة 483

خلق ما خلق لحاجة منه لجاز لقائل أن يقول: يتحول إلى ما خلق

لحاجته إلى ذلك، ولكنه عز وجل لم يخلق شيئا لحاجته ولم يزل ثابتا لا

في شئ ولا على شئ إلا أن الخلق يمسك بعضه بعضا ويدخل بعضه

في بعض ويخرج منه، والله عز وجل وتقدس بقدرته يمسك ذلك كله،

وليس يدخل في شئ ولا يخرج منه ولا يؤوده حفظه ولا يعجز عن

إمساكه، ولا يعرف أحد من الخلق كيف ذلك إلا الله عز وجل ومن أطلعه

عليه من رسله وأهل سره والمستحفظين لامره وخزانه القائمين بشريعته،

وإنما أمره كلمح البصر أو هو أقرب إذا شاء شيئا فإنما يقول له: كن،

فيكون بمشيته وإرادته، وليس شئ من خلقه أقرب إليه من شئ، ولا

شئ منه هو أبعد من شئ أفهمت يا عمران ؟ قال: نعم يا سيدي قد فهمت

وأشهد أن الله على ما وصفته ووحدته، وأن محمدا عبده المبعوث بالهدى

ودين الحق، ثم خر ساجدا نحو القبلة وأسلم .

قال الحسن بن محمد النوفلي: فلما نظر المتكلمون إلى كلام عمران

الصابئ وكان جدلا لم يقطعه عن حجته أحد قط لم يدن من الرضا عليه السلام

أحد منهم ولم يسألوه عن شئ وأمسينا فنهض المأمون والرضا عليه السلام

فدخلا وانصرف الناس، وكنت مع جماعة من أصحابنا إذ بعث إلي محمد

ابن جعفر فأتيته، فقال لي: يا نوفلي أما رأيت ما جاء به صديقك، لا والله

ما ظننت أن علي بن موسى خاض في شئ من هذا قط، ولا عرفناه به

أنه كان يتكلم بالمدينة أو يجتمع إليه أصحاب الكلام، قلت، قد كان الحاج

يأتونه فيسألونه عن أشياء من حلالهم وحرامهم فيجيبهم، وكلمه من يأتيه

لحاجة فقال محمد بن جعفر: يا أبا محمد إني أخاف عليه أن يحسده هذا

____________________________________________________

صفحة 484

الرجل فيسمه أو يفعل به بلية، فأشر عليه بالامساك عن هذه الأشياء،

قلت: إذا لا يقبل مني وما أراد الرجل إلا امتحانه ليعلم هل عنده شئ من

علوم آبائه عليهم السلام، فقال لي: قل له: إن عمك قد كره هذا الباب وأحب أن

تمسك عن هذه الأشياء لخصال شتى، فلما انقلبت إلى منزل الرضا عليه السلام

أخبرته بما كان من عمه محمد بن جعفر فتبسم ثم قال: حفظ الله عمي ما

أعرفني به لم كره ذلك، يا غلام صر إلى عمران الصابئ فأتني به . فقلت:

جعلت فداك أنا أعرف موضعه هو عند بعض إخواننا من الشيعة، قال عليه السلام:

فلا بأس قربوا إليه دابة، فصرت إلى عمران فأتيته به فرحب به ودعا

بكسوة فخلعها عليه وحمله ودعا بعشرة آلاف درهم فوصله بها، فقلت:

جعلت فداك حكيت فعل جدك أمير المؤمنين عليه السلام، فقال: هكذا نحب ثم

دعا عليه السلام بالعشاء فأجلسني عن يمينه وأجلس عمران عن يساره حتى إذا

فرغنا قال لعمران: انصرف مصاحبا وبكر علينا نطعمك طعام المدينة،

فكان عمران بعد ذلك يجتمع عليه المتكلمون من أصحاب المقالات

فيبطل أمرهم حتى اجتنبوه، ووصله المأمون بعشرة آلاف درهم، وأعطاه

الفضل مالا وحمله، وولاه الرضا عليه السلام صدقات بلخ فأصاب الرغائب .

66 - باب ذكر مجلس الرضا عليه السلام

مع سليمان المروزي متكلم خراسان عند المأمون في التوحيد

1 - حدثنا أبو محمد جعفر بن علي بن أحمد الفقيه رضي الله عنه، قال: أخبرنا

أبو محمد الحسن بن محمد بن علي بن صدقة القمي، قال: حدثني أبو

عمرو محمد بن عمر بن عبد العزيز الأنصاري الكجي، قال: حدثني من

____________________________________________________

صفحة 485

سمع الحسن بن محمد النوفلي يقول: قدم سليمان المروزي متكلم

خراسان على المأمون فأكرمه ووصله ثم قال له: إن ابن عمي علي بن

موسى قدم علي من الحجاز وهو يحب الكلام وأصحابه، فلا عليك أن

تصير إلينا يوم التروية لمناظرته، فقال سليمان: يا أمير المؤمنين إني أكره أن

أسأل مثله في مجلسك في جماعة من بني هاشم فينتقص عند القوم إذا

كلمني ولا يجوز الاستقصاء عليه، قال المأمون: إنما وجهت إليك لمعرفتي

بقوتك وليس مرادي إلا أن تقطعه عن حجة واحدة فقط: فقال سليمان:

حسبك يا أمير المؤمنين . اجمع بيني وبينه وخلني وإياه وألزم فوجه

المأمون إلى الرضا عليه السلام فقال: إنه قدم علينا رجل من أهل مرو وهو واحد

خراسان من أصحاب الكلام، فإن خف عليك أن تتجشم المصير إلينا

فعلت، فنهض عليه السلام للوضوء وقال لنا: تقدموني وعمران الصابئ معنا فصرنا

إلى الباب فأخذ ياسر وخالد بيدي فأدخلاني على المأمون، فلما سلمت

قال: أين أخي أبو الحسن أبقاه الله، قلت: خلفته يلبس ثيابه وأمرنا أن

نتقدم، ثم قلت: يا أمير المؤمنين إن عمران مولاك معي وهو بالباب، فقال:

من عمران ؟ قلت: الصابئ الذي أسلم على يديك قال: فليدخل فدخل

فرحب به المأمون، ثم قال له: يا عمران لم تمت حتى صرت من بني

هاشم، قال: الحمد لله الذي شرفني بكم يا أمير المؤمنين، فقال له المأمون:

يا عمران هذا سليمان المروزي متكلم خراسان، قال عمران: يا أمير

المؤمنين إنه يزعم أنه واحد خراسان في النظر وينكر البداء، قال: فلم لا

تناظره ؟ قال عمران، ذلك إليه، فدخل الرضا عليه السلام فقال: في أي شئ كنتم ؟

قال عمران: يا ابن رسول الله هذا سليمان المروزي، فقال سليمان: أترضى

____________________________________________________

صفحة 486

بأبي الحسن وبقوله فيه ؟ قال عمران: قد رضيت بقول أبي الحسن في

البداء على أن يأتيني فيه بحجة أحتج بها على نظرائي من أهل النظر .

قال المأمون: يا أبا الحسن ما تقول فيما تشاجرا فيه ؟ قال: وما

أنكرت من البداء يا سليمان 1)، والله عز وجل يقول: أولا يذكر الانسان

أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا (1) ويقول عز وجل: وهو الذي يبدؤا

الخلق ثم يعيده (2) ويقول: بديع السماوات والأرض (3) ويقول عز

وجل: يزيد في الخلق ما يشاء (4) ويقول: وبدأ خلق الانسان من

طين 2) (5) ويقول عز وجل: وآخرون مرجون لامر الله إما يعذبهم وإما

_____________________________

(1) مريم: 67 .

(2) الروم: 27 .

(3) البقرة: 117، والانعام: 101 .

(4) فاطر: 1 .

(5) السجدة: 7 .

____________________________________________________

صفحة 487

يتوب عليهم 1) (1) ويقول عز وجل: وما يعمر من معمر ولا ينقص من

_____________________________

(1) التوبة: 106 .

(2) مجمع البيان 3: 69 - 70 .

____________________________________________________

صفحة 488

عمره إلا في كتاب 1) (1) قال سليمان: هل رويت فيه شيئا عن آبائك ؟

قال: نعم، رويت عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: (إن لله عز وجل علمين:

علما مخزونا مكنونا لا يعلمه إلا هو، من ذلك يكون البداء، وعلما علمه

ملائكته ورسله، فالعلماء من أهل بيت نبيه يعلمونه) قال سليمان: أحب

أن تنزعه لي من كتاب الله عز وجل، قال عليه السلام: قول الله عز وجل

لنبيه صلى الله عليه وآله: فتول عنهم فما أنت بملوم 2) (2) أراد هلاكهم ثم بدا لله

فقال: وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين (3) قال سليمان: زدني جعلت

فداك، قال الرضا عليه السلام: لقد أخبرني أبي عن آبائه أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال:

إن الله عز وجل أوحى إلى نبي من أنبيائه: أن أخبر فلان الملك أني متوفيه

إلى كذا وكذا، فأتاه ذلك النبي فأخبره، فدعا الله الملك وهو على سريره

حتى سقط من السرير، فقال: يا رب أجلني حتى يشب طفلي وأقضي

_____________________________

(1) فاطر: 11 .

(2) الذاريات: 54 .

(3) الذاريات: 55 .

____________________________________________________

صفحة 489

أمري، فأوحى الله عز وجل إلى ذلك النبي أن ائت فلان الملك فأعلمه أني

قد أنسيت في أجله وزدت في عمره خمس عشرة سنة، فقال ذلك النبي:

يا رب إنك لتعلم أني لم أكذب قط، فأوحى الله عز وجل إليه: إنما أنت عبد

مأمور فأبلغه ذلك، والله لا يسأل عما يفعل .

ثم التفت إلى سليمان فقال: أحسبك ضاهيت اليهود في هذا الباب،

قال: أعوذ بالله من ذلك، وما قالت اليهود ؟ قال: قالت: يد الله مغلولة

يعنون أن الله قد فرغ من الامر فليس يحدث شيئا فقال الله عز وجل

غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا (1) ولقد سمعت قوما سألوا أبي موسى

ابن جعفر عليهما السلام عن البداء فقال: وما ينكر الناس من البداء وأن يقف الله

قوما يرجيهم لامره 1) ؟ قال سليمان: ألا تخبرني عن إنا أنزلناه في ليلة

القدر في أي شئ أنزلت ؟ قال الرضا: يا سليمان ليلة القدر يقدر الله عز

وجل فيها ما يكون من السنة إلى السنة 2) من حياة أو موت أو خير أو شر

أو رزق، فما قدره من تلك الليلة فهو من المحتوم، قال سليمان: ألان قد

_____________________________

(1) المائدة: 64 .

____________________________________________________

صفحة 490

فهمت جعلت فداك فزدني، قال عليه السلام: يا سليمان إن من الأمور أمورا

موقوفة عند الله تبارك وتعالى يقدم منها ما يشاء ويؤخر ما يشاء، يا

سليمان إن عليا عليه السلام كان يقول: العلم علمان: فعلم علمه الله ملائكته

ورسله 1)، فما علمه ملائكته ورسله فإنه يكون ولا يكذب نفسه ولا

ملائكته ولا رسله، وعلم عنده مخزون لم يطلع عليه أحدا من خلقه يقدم

منه ما يشاء ويؤخر منه ما يشاء، ويمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء، قال

سليمان للمأمون: يا أمير المؤمنين لا انكر بعد يومي هذا البداء ولا اكذب

به إن شاء الله .

_____________________________

(1) تفسير العياشي 2: 215 .

____________________________________________________

صفحة 491

فقال المأمون: يا سليمان سل أبا الحسن عما بدا لك وعليك بحسن

الاستماع والانصاف، قال سليمان: يا سيدي أسألك ؟ قال الرضا عليه السلام: سل

عما بدا لك قال: ما تقول فيمن جعل الإرادة اسما وصفة مثل حي وسميع

وبصير 1) وقدير ؟ قال الرضا عليه السلام: إنما قلتم حدثت الأشياء واختلفت لأنه

شاء وأراد 2)، ولم تقولوا حدثت واختلفت لأنه سميع بصير، فهذا دليل

على أنها ليست بمثل سميع ولا بصير ولا قدير، قال سليمان: فإنه لم يزل

مريدا، قال: يا سليمان فإرادته غيره ؟ قال: نعم، قال: فقد أثبت معه شيئا

غيره لم يزل، قال سليمان: ما أثبت، قال الرضا عليه السلام: أهي محدثة ؟ قال

سليمان: لا ما هي محدثة، فصاح به المأمون وقال: يا سليمان مثله يعايا

____________________________________________________

صفحة 492

أو يكابر 1)، عليك بالانصاف أما ترى من حولك من أهل النظر، ثم قال:

كلمه يا أبا الحسن فإنه متكلم خراسان، فأعاد عليه المسألة فقال: هي

محدثة يا سليمان فإن الشئ إذا لم يكن أزليا كان محدثا وإذا لم يكن

محدثا كان أزليا، قال سليمان: إرادته منه كما أن سمعه منه وبصره منه

وعلمه منه، قال الرضا عليه السلام: فإرادته نفسه ؟ ! قال: لا، قال عليه السلام: فليس

المريد مثل السميع والبصير، قال سليمان: إنما أراد نفسه كما سمع نفسه

وابصر نفسه وعلم نفسه قال الرضا عليه السلام: ما معنى أراد نفسه أراد أن يكون

شيئا أو أراد أن يكون حيا أو سميعا أو بصيرا أو قديرا ؟ ! قال: نعم، قال

الرضا عليه السلام: أفبإرادته كان ذلك 2) ؟ ! قال سليمان: لا، قال الرضا عليه السلام: فليس

لقولك: أراد أن يكون حيا سميعا بصيرا معنى إذا لم يكن ذلك بإرادته، قال

سليمان: بلى قد كان ذلك بإرادته، فضحك المأمون ومن حوله وضحك

الرضا عليه السلام، ثم قال لهم: ارفقوا بمتكلم خراسان يا سليمان فقد حال

عندكم عن حالة وتغير عنها وهذا مما لا يوصف الله عز وجل به، فانقطع .

____________________________________________________

صفحة 493

ثم قال الرضا عليه السلام: يا سليمان أسألك مسألة، قال: سل جعلت فداك

قال: أخبرني عنك وعن أصحابك تكلمون الناس بما يفقهون ويعرفون أو

بما لا يفقهون ولا يعرفون ؟ ! قال: بل بما يفقهون ويعرفون قال الرضا عليه السلام:

فالذي يعلم الناس أن المريد غير الإرادة وأن المريد قبل الإرادة وأن

الفاعل قبل المفعول وهذا يبطل قولكم: إن الإرادة والمريد شئ واحد،

قال: جعلت فداك ليس ذاك منه على ما يعرف الناس ولا على ما يفقهون،

قال عليه السلام: فأراكم ادعيتم علم ذلك 1) بلا معرفة، وقلتم: الإرادة كالسمع

والبصر إذا كان ذلك عندكم على ما لا يعرف ولا يعقل، فلم يحر جوابا .

ثم قال الرضا عليه السلام: يا سليمان هل يعلم الله عز وجل جميع ما في

الجنة والنار ؟ ! قال سليمان: نعم، قال: أفيكون ما علم الله عز وجل أنه

يكون من ذلك ؟ ! قال: نعم، قال: فإذا كان حتى لا يبقى منه شئ 2) إلا كان

أيزيدهم أو يطويه عنهم ؟ ! قال سليمان، بل يزيدهم، قال: فأراه في قولك:

قد زادهم ما لم يكن في علمه أنه يكون قال: جعلت فداك فالمزيد لا غاية

____________________________________________________

صفحة 494

له 1) قال عليه السلام: فليس يحيط علمه عندكم بما يكون فيهما إذا لم يعرف غاية

ذلك، وإذا لم يحط علمه بما يكون فيهما لم يعلم ما يكون فيهما قبل أن

يكون، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، قال سليمان: إنما قلت: لا يعلمه لأنه

لا غاية لهذا لان الله عز وجل وصفهما بالخلود وكرهنا أن نجعل لهما

انقطاعا، قال الرضا عليه السلام: ليس علمه بذلك بموجب لانقطاعه عنهم لأنه قد

____________________________________________________

صفحة 495

يعلم ذلك ثم يزيدهم 1) ثم لا يقطعه عنهم، وكذلك قال الله عز وجل في

كتابه: كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا

العذاب 2) (1) وقال عز وجل لأهل الجنة: عطاء غير مجذوذ (2) وقال

عز وجل وفاكهة كثيرة * لا مقطوعة ولا ممنوعة (3) فهو عز وجل

يعلم ذلك ولا يقطع عنهم الزيادة، أرأيت ما أكل أهل الجنة وما شربوا

أليس يخلف مكانه ؟ ! قال: بلى، قال: أفيكون يقطع ذلك عنهم وقد أخلف

مكانه ؟ ! قال سليمان: لا، قال: فكذلك كل ما يكون فيها إذا أخلف مكانه

فليس بمقطوع عنهم، قال سليمان: بل يقطعه عنهم فلا يزيدهم قال

الرضا عليه السلام: إذا يبيد ما فيهما، وهذا يا سليمان إبطال الخلود وخلاف

الكتاب لان الله عز وجل يقول: لهم ما يشاؤون فيها ولدينا مزيد (4)

ويقول عز وجل: عطاء غير مجذوذ ويقول عز وجل: وما هم منها

بمخرجين (5) ويقول عز وجل: خالدين فيها أبدا (6) ويقول عز

وجل: وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة فلم يحر جوابا .

_____________________________

(2) النساء: 56 .

(2) هود: 108 .

(3) الواقعة: 33 .

(4) ق: 35 .

(5) الحجر: 48 .

(6) في أحد عشر موضعا من القرآن .

____________________________________________________

صفحة 496

ثم قال الرضا عليه السلام: يا سليمان ألا تخبرني عن الإرادة فعل هي أم غير

فعل ؟ قال: بل هي فعل، قال: فهي محدثة لان الفعل كله محدث، قال:

ليست بفعل، قال: فمعه غيره لم يزل، قال سليمان: الإرادة هي الانشاء 1)،

قال: يا سليمان هذا الذي ادعيتموه على ضرار وأصحابه من قولهم: إن كل

ما خلق الله عز وجل في سماء أو أرض أو بحر أو بر من كلب أو خنزير

أو قرد أو إنسان أو دابة إرادة الله عز وجل وإن إرادة الله عز وجل تحيى

وتموت وتذهب وتأكل وتشرب وتنكح وتلد وتظلم وتفعل الفواحش

وتكفر وتشرك، فتبرأ منها وتعاديها وهذا حدها .

_____________________________

(1) مجمع البيان 2: 62 .

____________________________________________________

صفحة 497

قال سليمان: إنها كالسمع والبصر والعلم، قال الرضا عليه السلام: قد رجعت

إلى هذا ثانية، فأخبرني عن السمع والبصر والعلم أمصنوع ؟ قال سليمان: لا،

قال الرضا عليه السلام: فكيف نفيتموه فمرة قلتم لم يرد ومرة قلتم أراد، وليست

بمفعول له ؟ ! قال سليمان: إنما ذلك كقولنا مرة علم ومرة لم يعلم 1) قال

الرضا عليه السلام: ليس ذلك سواء لان نفي المعلوم ليس بنفي العلم، ونفي المراد

نفي الإرادة أن تكون، لان الشئ إذا لم يرد لم يكن إرادة وقد يكون العلم

ثابتا وإن لم يكن المعلوم، بمنزلة البصر فقد يكون الانسان بصيرا وإن لم

يكن المبصر، ويكون العلم ثابتا وإن لم يكن المعلوم . قال سليمان: إنها

مصنوعة، قال عليه السلام: فهي محدثة ليست كالسمع والبصر لان السمع والبصر

ليسا بمصنوعين وهذه مصنوعة، قال سليمان: إنها صفة من صفاته لم تزل،

قال: فينبغي أن يكون الانسان لم يزل 2) لان صفته لم تزل، قال سليمان: لا

_____________________________

(1) البقرة: 143 .

(2) بحار الأنوار 10: 339 .

____________________________________________________

صفحة 498

لأنه لم يفعلها 1)، قال الرضا عليه السلام: يا خراساني ما أكثر غلطك، أفليس

بإرادته وقوله تكون الأشياء ؟ ! قال سليمان: لا، قال: فإذا لم يكن بإرادته

ولا مشيته ولا أمره ولا بالمباشرة فكيف يكون ذلك ؟ ! تعالى الله عن ذلك،

فلم يحر جوابا .

ثم قال الرضا عليه السلام: ألا تخبرني عن قول الله عز وجل: وإذا أردنا أن

نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها (1) يعني بذلك أنه يحدث إرادة ؟ !

قال له: نعم، قال: فإذا أحدث إرادة كان قولك إن الإرادة هي هو أم شئ

منه باطلا لأنه لا يكون أن يحدث نفسه ولا يتغير عن حاله، تعالى الله عن

ذلك، قال سليمان: إنه لم يكن عنى بذلك أنه يحدث إرادة، قال: فما عنى

به ؟ قال: عنى فعل الشئ 2) قال الرضا عليه السلام: ويلك كم تردد هذه المسألة،

وقد أخبرتك أن الإرادة محدثة لان فعل الشئ محدث، قال: فليس لها

_____________________________

(1) الاسراء: 16 .

(2) يس: 82 .

____________________________________________________

صفحة 499

معنى 1)، قال الرضا عليه السلام: قد وصف نفسه عندكم حتى وصفها بالإرادة بما

لا معنى له 2)، فإذا لم يكن لها معنى قديم ولا حديث بطل قولكم: إن الله

لم يزل مريدا . قال سليمان: إنما عنيت أنها فعل من الله لم يزل 3)، قال: ألا

تعلم أن ما لم يزل لا يكون مفعولا وحديثا وقديما في حالة واحدة ؟ فلم

يحر جوابا .

قال الرضا عليه السلام: لا بأس، أتمم مسألتك، قال سليمان: قلت: إن الإرادة

صفة من صفاته، قال الرضا عليه السلام: كم تردد علي أنها صفة من صفاته،

وصفته محدثة أو لم تزل ؟ ! قال سليمان: محدثة، قال الرضا عليه السلام: الله أكبر

فالإرادة محدثة 4)، وإن كانت صفة من صفاته لم تزل، فلم يرد شيئا 5) .

قال الرضا عليه السلام: إن ما لم يزل لا يكون مفعولا 6) قال سليمان: ليس

____________________________________________________

صفحة 500

الأشياء إرادة ولم يرد شيئا 1) . قال الرضا عليه السلام: وسوست يا سليمان 2) فقد

فعل وخلق ما لم يرد خلقه ولا فعله، وهذه صفة من لا يدري ما فعل،

تعالى الله عن ذلك .

قال سليمان: يا سيدي قد أخبرتك أنها كالسمع 3) والبصر والعلم، قال

المأمون: ويلك يا سليمان كم هذا الغلط والتردد اقطع هذا وخذ في غيره

إذ لست تقوى على هذا الرد، قال الرضا عليه السلام: دعه يا أمير المؤمنين، لا

تقطع عليه مسألته فيجعلها حجة، تكلم يا سليمان، قال: قد أخبرتك أنها

كالسمع والبصر والعلم، قال الرضا عليه السلام: لا بأس، أخبرني عن معنى هذه

أمعنى واحد أم معان مختلفة ؟ ! قال سليمان: بل معنى واحد، قال

الرضا عليه السلام: فمعنى الإرادات كلها معنى واحد 4) ؟ قال سليمان: نعم، قال

الرضا: فإن كان معناها معنى واحدا كانت إرادة القيام وإرادة القعود وإرادة

____________________________________________________

صفحة 501

الحياة وإرادة الموت إذا كانت إرادته واحدة لم يتقدم بعضها بعضا ولم

يخالف بعضها بعضا، وكان شيئا واحدا قال سليمان: إن معناها مختلف،

قال: عليه السلام: فأخبرني عن المريد أهو الإرادة أو غيرها ؟ ! قال سليمان: بل

هو الإرادة، قال الرضا عليه السلام: فالمريد عندكم يختلف 1) إن كان هو الإرادة ؟

قال: يا سيدي ليس الإرادة المريد، قال عليه السلام: فالإرادة محدثة، وإلا فمعه

غيره 2)، إفهم وزد في مسألتك .

قال سليمان: فإنها اسم من أسمائه، قال الرضا عليه السلام: هل سمى نفسه

بذلك ؟ قال سليمان: لا، لم يسم نفسه بذلك، قال الرضا عليه السلام: فليس لك أن

تسميه بما لم يسم به نفسه، قال: قد وصف نفسه بأنه مريد، قال الرضا عليه السلام:

ليس صفته نفسه أنه مريد إخبارا عن أنه إرادة 3) ولا إخبارا عن أن

الإرادة اسم من أسمائه، قال سليمان: لان إرادته علمه، قال الرضا عليه السلام: يا

____________________________________________________

صفحة 502

جاهل فإذا علم الشئ فقد أراده ؟ قال سليمان: أجل، قال عليه السلام: فإذا لم

يرده لم يعلمه، قال سليمان: أجل، قال عليه السلام: من أين قلت ذاك، وما الدليل

على أن إرادته علمه ؟ وقد يعلم مالا يريده أبدا، وذلك قوله عز وجل:

ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك 1) (1) فهل يعلم كيف يذهب به 2)

وهو لا يذهب به أبدا 3)، قال سليمان: لأنه قد فرغ من الامر فليس يزيد

فيه شيئا 4) قال الرضا عليه السلام: هذا قول اليهود، فكيف قال عز وجل:

ادعوني أستجب لكم (2) قال سليمان: إنما عنى بذلك أنه قادر عليه،

قال عليه السلام: أفيعد ما لا يفي به ؟ ! فكيف قال عز وجل: يزيد في الخلق ما

يشاء (3) وقال عز وجل: يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم

الكتاب (4) وقد فرغ من الامر، فلم يحر جوابا .

_____________________________

(1) الاسراء: 86 .

(2) المؤمن: 60 .

(3) فاطر: 1 .

(4) الرعد: 39 .

____________________________________________________

صفحة 503

قال الرضا عليه السلام: يا سليمان هل يعلم أن إنسانا يكون ولا يريد أن

يخلق إنسانا أبدا 1)، وأن إنسانا يموت اليوم ولا يريد أن يموت اليوم ؟ قال

سليمان: نعم 2) قال الرضا عليه السلام: فيعلم أنه يكون ما يريد أن يكون 3) أو

يعلم أنه يكون مالا يريد أن يكون ؟ ! قال: يعلم أنهما يكونان جميعا، قال

الرضا عليه السلام: إذن يعلم أن إنسانا حي ميت، قائم قاعد، أعمى بصير في حال

واحدة، وهذا هو المحال، قال: جعلت فداك فإنه يعلم أنه يكون أحدهما

دون الآخر، قال عليه السلام: لا بأس، فأيهما يكون، الذي أراد أن يكون أو الذي

لم يرد أن يكون، قال سليمان: الذي أراد أن يكون، فضحك الرضا عليه السلام 4)

والمأمون وأصحاب المقالات . قال الرضا عليه السلام: غلطت وتركت قولك: إنه

يعلم أن إنسانا يموت اليوم وهو لا يريد أن يموت اليوم وأنه يخلق خلقا

وهو لا يريد أن يخلقهم، فإذا لم يجز العلم عندكم لما لم يرد 5) أن يكون

فإنما يعلم أن يكون ما أراد أن يكون .

____________________________________________________

صفحة 504

قال سليمان: فإنما قولي: إن الإرادة ليست هو ولا غيره، قال

الرضا عليه السلام: يا جاهل إذا قلت: ليست هو فقد جعلتها غيره، وإذا قلت:

ليست هي غيره فقد جعلتها هو، قال سليمان: فهو يعلم كيف يصنع الشئ 1) ؟

قال عليه السلام: نعم، قال سليمان: فإن ذلك إثبات للشئ قال الرضا عليه السلام: أحلت

لان الرجل قد يحسن البناء وإن لم يبن ويحسن الخياطة وإن لم يخط

ويحسن صنعة الشئ وإن لم يصنعه أبدا ثم قال له: يا سليمان هل يعلم أنه

واحد لا شئ معه 2) ؟ ! قال نعم، قال: أفيكون ذلك إثباتا للشئ ؟ ! قال

سليمان: ليس يعلم أنه واحد لا شئ معه . قال الرضا عليه السلام: أفتعلم أنت

ذاك ؟ ! قال: نعم، قال: فأنت يا سليمان أعلم منه إذا، قال سليمان: المسألة

محال، قال: محال عندك أنه واحد لا شئ معه وأنه سميع بصير حكيم

عليم قادر ؟ ! قال: نعم، قال عليه السلام: فكيف أخبر الله عز وجل أنه واحد حي

____________________________________________________

صفحة 505

سميع بصير عليم خبير وهو لا يعلم ذلك ؟ ! وهذا رد ما قال 1) وتكذيبه،

تعالى الله عن ذلك، ثم قال الرضا عليه السلام: فكيف يريد صنع مالا يدري صنعه

ولا ما هو ؟ ! وإذا كان الصانع لا يدري كيف يصنع الشئ قبل أن يصنعه

فإنما هو متحير، تعالى الله عن ذلك .

قال سليمان: فإن الإرادة القدرة، قال الرضا عليه السلام: وهو عز وجل يقدر

على مالا يريده أبدا، ولا بد من ذلك لأنه قال تبارك وتعالى: ولئن شئنا

لنذهبن بالذي أوحينا إليك (1) فلو كانت الإرادة هي القدرة كان قد أراد

أن يذهب به لقدرته، فانقطع سليمان، قال المأمون عند ذلك: يا سليمان

هذا أعلم هاشمي . ثم تفرق القوم .

قال مصنف هذا الكتاب: كان المأمون يجلب على الرضا عليه السلام من

متكلمي الفرق والأهواء المضلة كل من سمع به حرصا على انقطاع

الرضا عليه السلام عن الحجة مع واحد منهم وذلك حسدا منهم له ولمنزلته من

العلم فكان عليه السلام لا يكلم أحدا إلا أقر له بالفضل والتزم الحجة له عليه لان

الله تعالى ذكره أبى إلا أن يعلي كلمته ويتم نوره وينصر حجته، وهكذا

وعد تبارك وتعالى في كتابه فقال: إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في

الحياة الدنيا (2) يعني بالذين آمنوا: الأئمة الهداة عليهم السلام وأتباعهم والعارفين

بهم والآخذين عنهم، ينصرهم بالحجة على مخالفيهم ما داموا في الدنيا،

وكذلك يفعل بهم في الآخرة، وإن الله لا يخلف وعده .

_____________________________

(1) الاسراء: 86 .

(2) المؤمن: 51 .

____________________________________________________

صفحة 506

67 - باب النهي عن الكلام والجدال والمراء

في الله عز وجل

1 - أبي رحمه الله قال: حدثنا سعد بن عبد الله، قال: حدثنا أحمد بن محمد

ابن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن علي بن رئاب، عن أبي بصير،

قال: قال أبو جعفر عليه السلام: تكلموا في خلق الله ولا تكلموا في الله 1) فإن

الكلام في الله لا يزيد إلا تحيرا .

2 - وبهذا الاسناد، عن الحسن بن محبوب، عن أبي أيوب الخزاز، عن

أبي عبيدة، عن أبي جعفر عليه السلام أنه قال: تكلموا في كل شئ ولا تكلموا

في الله .

3 - وبهذا الاسناد، عن الحسن بن محبوب، عن علي بن رئاب، عن

ضريس الكناسي، عن أبي جعفر عليه السلام قال: اذكروا من عظمة الله ما شئتم

ولا تذكروا ذاته فإنكم لا تذكرون منه شيئا إلا وهو أعظم منه .

_____________________________

(1) وراجع حول تفسير الحديث إلى بحار الأنوار 10: 8 33 - 341 .

____________________________________________________

صفحة 507

4 - وبهذا الاسناد، عن الحسن بن محبوب، عن علي بن رئاب، عن

بريد العجلي، قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: خرج رسول الله صلى الله عليه وآله على

أصحابه فقال: ما جمعكم ؟ قالوا: اجتمعنا نذكر ربنا ونتفكر في عظمته،

فقال: لن تدركوا التفكر في عظمته .

5 - وبهذا الاسناد، عن الحسن بن محبوب، عن علي بن رئاب، عن

فضيل بن يسار، قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: يا ابن آدم لو أكل قلبك

طائر لم يشبعه، وبصرك لو وضع عليه خرق إبرة لغطاه، تريد أن تعرف

بهما ملكوت السماوات والأرض، إن كنت صادقا فهذه الشمس خلق من

خلق الله فإن قدرت أن تملأ عينيك منها فهو كما تقول .

6 - وبهذا الاسناد، عن الحسن بن محبوب، عن العلاء بن رزين، عن

محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام في قول الله عز وجل: ومن كان في

هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا (1) قال: من لم يدله خلق

السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار ودوران الفلك والشمس والقمر

والآيات العجيبات على أن وراء ذلك أمرا أعظم منه فهو في الآخرة أعمى

وأضل سبيلا، قال: فهو عما لم يعاين أعمى وأضل .

7 - حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رحمه الله قال: حدثنا محمد

ابن الحسن الصفار، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن

علي بن فضال عن ثعلبة بن ميمون، عن الحسن الصيقل، عن محمد بن

_____________________________

(1) الاسراء: 72 .

____________________________________________________

صفحة 508

مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام قال: تكلموا في ما دون العرش ولا تكلموا في

ما فوق العرش 1) فإن قوما تكلموا في الله عز وجل فتاهوا حتى كان

الرجل ينادى من بين يديه فيجيب من خلفه وينادى من خلفه فيجيب من

بين يديه .

8 - أبي رحمه الله، قال: حدثنا علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير،

عن محمد بن يحيى الخثعمي، عن عبد الرحيم القصير، قال: سألت أبا

جعفر عليه السلام عن شئ من التوحيد، فرفع يديه إلى السماء وقال: تعالى الله

الجبار إن من تعاطى ما ثم هلك .

9 - وبهذا الاسناد، عن ابن أبي عمير، عن عبد الرحمن بن الحجاج،

عن سليمان بن خالد، عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عز وجل: وأن

إلى ربك المنتهى (1) قال: إذا انتهى الكلام إلى الله عز وجل فأمسكوا .

10 - وبهذا الاسناد، عن ابن أبي عمير: عن أبي أيوب الخزاز، عن

محمد بن مسلم، قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: يا محمد إن الناس لا يزال بهم

المنطق حتى يتكلموا في الله، فإذا سمعتم ذلك فقولوا: لا إله إلا الله الواحد

الذي ليس كمثله شئ .

_____________________________

(1) النجم: 42 .

____________________________________________________

صفحة 509

11 - وبهذا الاسناد، عن ابن أبي عمير، عن محمد بن حمران، عن أبي

عبيدة الحذاء، قال: قال لي أبو جعفر عليه السلام: يا زياد إياك والخصومات فإنها

تورث الشك وتحبط العمل 1) وتردي صاحبها، وعسى أن يتكلم بالشئ

فلا يغفر له، إنه كان فيما مضى قوم تركوا علم ما وكلوا به وطلبوا علم ما

كفوه حتى انتهى كلامهم إلى الله عز وجل فتحيروا، فإن كان الرجل ليدعى

من بين يديه فيجيب من خلفه ويدعى من خلفه فيجيب من بين يديه .

12 - أبي رحمه الله، قال: حدثنا سعد بن عبد الله، قال: حدثنا أحمد بن

محمد بن عيسى، عن عبد الله بن المغيرة، عن أبي اليسع، عن سليمان بن

خالد، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إنه قد كان فيمن كان قبلكم قوم تركوا

علم ما وكلوا بعلمه وطلبوا علم ما لم يوكلوا بعلمه، فلم يبرحوا حتى سألوا

عما فوق السماء فتاهت قلوبهم، فكان أحدهم يدعى من بين يديه فيجيب

من خلفه ويدعى من خلفه فيجيب من بين يديه .

_____________________________

(1) بحار الأنوار 2: 127 .

____________________________________________________

صفحة 510 - 512

13 - وبهذا الاسناد، عن أبي اليسع، عن أبي الجارود، عن أبي

جعفر عليه السلام قال: دعوا التفكر في الله فإن التفكر في الله لا يزيد إلا تيها لان

الله تبارك وتعالى لا تدركه الابصار ولا تبلغه الاخبار .

14 - وبهذا الاسناد، عن أبي اليسع، عن سليمان بن خالد، قال: قال

أبو عبد الله عليه السلام: إياكم والتفكر في الله فإن التفكر في الله لا يزيد إلا تيها

لان الله عز وجل لا تدركه الابصار ولا يوصف بمقدار .

15 - أبي رحمه الله، قال: حدثنا عبد الله بن جعفر الحميري، عن أحمد بن

محمد بن عيسى، قال: حدثنا محمد بن خالد، عن علي بن النعمان

وصفوان بن يحيى عن فضيل بن عثمان، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: دخل

عليه قوم من هؤلاء الذين يتكلمون في الربوبية، فقال: اتقوا الله وعظموا

الله ولا تقولوا مالا نقول فإنكم إن قلتم وقلنا متم ومتنا ثم بعثكم الله وبعثنا

فكنتم حيث شاء الله وكنا .

16 - حدثنا محمد بن موسى بن المتوكل رضي الله عنه قال: حدثنا عبد الله بن

جعفر، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن عيسى، قال: حدثنا الحسن بن

محبوب، عن عمرو بن أبي المقدام، عن سالم بن أبي حفصة، عن منذر

الثوري، عن محمد بن الحنفية، قال: إن هذه الأمة لن تهلك حتى تتكلم في

ربها .

_____________________________

(1) أصول الكافي 1: 171 ح 4 .

____________________________________________________

صفحة 513

17 - وبهذا الاسناد، عن الحسن بن محبوب، عن علي بن رئاب، عن

ضريس الكناسي، قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: إياكم والكلام في الله، تكلموا

في عظمته ولا تكلموا فيه فإن الكلام في الله لا يزداد إلا تيها .

18 - حدثنا علي بن أحمد بن محمد بن عمران الدقاق رضي الله عنه، قال:

حدثنا أبو الحسين محمد بن أبي عبد الله الكوفي، قال: حدثنا محمد بن

سليمان بن الحسن الكوفي، قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن خالد، عن

علي بن حسان الواسطي، عن بعض أصحابنا، عن زرارة، قال: قلت لأبي

جعفر عليه السلام: إن الناس قبلنا قد أكثروا في الصفة فما تقول ؟ فقال: مكروه 1)،

أما تسمع الله عز وجل يقول: وأن إلى ربك المنتهى (1) تكلموا فيما دون

ذلك .

19 - أبي رحمه الله، قال: حدثنا علي بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن

ابن أبي عمير، عن عبد الله بن بكير، عن زرارة: عن أبي عبد الله عليه السلام قال:

إن ملكا عظيم الشأن كان في مجلس له فتكلم في الرب تبارك وتعالى

ففقد فما يدرى أين هو .

20 - أبي رحمه الله، قال: حدثنا سعد بن عبد الله، قال: حدثنا محمد بن عبد

_____________________________

(1) النجم: 42 .

____________________________________________________

صفحة 514

الحميد، عن العلاء بن رزين، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام قال:

إياكم والتفكر في الله، ولكن إذا أردتم أن تنظروا إلى عظمة الله فانظروا إلى

عظم خلقه .

21 - أبي رضي الله عنه، قال: حدثنا أحمد بن إدريس، عن محمد بن أحمد،

عن علي بن السندي، عن حماد بن عيسى، عن الحسين بن المختار، عن

أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام، قال: سمعته يقول: الخصومة تمحق الدين

وتحبط العمل وتورث الشك .

22 - وبهذا الاسناد، عن أبي بصير، قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: يهلك

أصحاب الكلام، وينجو المسلمون إن المسلمين هم النجباء .

23 - حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رضي الله عنه، قال: حدثنا

محمد بن الحسن الصفار، قال: حدثنا العباس بن معروف، عن سعدان بن

مسلم، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: سمعته يقول: لا يخاصم

إلا رجل ليس له ورع أو رجل شاك .

24 - أبي رحمه الله، قال: حدثنا عبد الله بن جعفر الحميري، قال: حدثنا

أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن فضيل عن أبي عبيدة، عن أبي

جعفر عليه السلام قال: قال لي: يا أبا عبيدة إياك وأصحاب الخصومات والكذابين

علينا فإنهم تركوا ما أمروا بعلمه وتكلفوا علم السماء، يا أبا عبيدة خالقوا

الناس بأخلاقهم وزايلوهم بأعمالهم، إنا لا نعد الرجل فينا عاقلا حتى

يعرف لحن القول، ثم قرأ هذه الآية ولتعرفنهم في لحن القول 1) (1) .

_____________________________

(1) محمد (ص): 30 .

____________________________________________________

صفحة 515

25 - أبي رحمه الله، قال: حدثنا سعد بن عبد الله قال: حدثنا يعقوب بن

يزيد عن الغفاري، عن جعفر بن إبراهيم، عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: قال

رسول الله صلى الله عليه وآله: إياكم وجدال كل مفتون فإن كل مفتون ملقن في حجته 1)

إلى انقضاء مدته فإذا انقضت مدته أحرقته فتنته بالنار . وروي شغلته

خطيئته فأحرقته .

26 - أبي رحمه الله، قال: حدثنا سعد بن عبد الله، قال: حدثنا محمد بن

عيسى قال: قرأت في كتاب علي بن بلال أنه سأل الرجل يعني أبا

الحسن عليه السلام: أنه روي عن آبائك عليهم السلام أنهم نهوا عن الكلام في الدين .

فتأول مواليك المتكلمون بأنه إنما نهى من لا يحسن أن يتكلم فيه فأما

من يحسن أن يتكلم فيه فلم ينه، فهل ذلك كما تأولوا أو لا ؟ فكتب عليه السلام:

المحسن وغير المحسن لا يتكلم فيه فإن إثمه أكثر من نفعه .

27 - أبي رحمه الله، قال: حدثنا أحمد بن إدريس، قال: حدثنا محمد بن

_____________________________

(1) مجمع البيان 5: 106 .

____________________________________________________

صفحة 516

أحمد عن علي بن إسماعيل، عن المعلى بن محمد البصري، عن علي بن

أسباط، عن جعفر بن سماعة، عن غير واحد، عن زرارة، قال: سألت أبا

جعفر عليه السلام: ما حجة الله على العباد ؟ قال: أن يقولوا ما يعلمون ويقفوا عند

مالا يعلمون .

28 - أبي رحمه الله، قال: حدثنا محمد بن يحيى العطار، عن محمد بن

الحسين ابن أبي الخطاب، عن ابن فضال، عن علي بن شجرة، عن إبراهيم

ابن أبي رجاء عن أخي طربال قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: كف

الأذى وقلة الصخب يزيدان في الرزق .

29 - حدثنا محمد بن موسى بن المتوكل رضي الله عنه، قال: حدثنا عبد الله

ابن جعفر الحميري، قال: حدثنا محمد بن الحسين، عن الحسن بن

محبوب، عن نجية القواس، عن علي بن يقطين، قال: قال أبو الحسن عليه السلام:

مر أصحابك أن يكفوا من ألسنتهم ويدعوا الخصومة في الدين ويجتهدوا

في عبادة الله عز وجل .

30 - حدثنا الحسين بن أحمد بن إدريس رضي الله عنه، عن أبيه، عن محمد

ابن أحمد، عن موسى بن عمر، عن العباس بن عامر، عن مثنى، عن أبي

بصير، عن أبي عبد الله، قال: قال: لا يخاصم إلا شاك أو من لا ورع له .

31 - وبهذا الاسناد، عن محمد بن أحمد، عن أحمد بن الحسن، عن

أبي حفص عمر بن عبد العزيز عن رجل، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: قال:

متكلموا هذه العصابة من شر من هم 1) منه من كل صنف .

____________________________________________________

صفحة 517

32 - أبي رحمه الله، قال: حدثنا سعد بن عبد الله، قال: حدثنا محمد بن

الحسين عن محمد بن إسماعيل، عن الحضرمي، عن المفضل بن عمر،

قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: يا مفضل من فكر في الله كيف كان هلك، ومن

طلب الرئاسة هلك .

33 - أبي رحمه الله، قال: حدثنا عبد الله بن جعفر الحميري، عن هارون بن

مسلم، عن مسعدة بن صدقة، عن جعفر بن محمد، عن أبيه عليهما السلام أن

النبي صلى الله عليه وآله قال: لعن الله الذين اتخذوا دينهم شحا يعني الجدال ليدحضوا

الحق بالباطل .

34 - حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رضي الله عنه، قال: حدثنا

_____________________________

(1) بحار الأنوار 2: 138 عنه .

____________________________________________________

صفحة 518

محمد بن الحسن الصفار، عن الفضل بن عامر، عن موسى بن القاسم

البجلي، عن محمد بن سعيد، عن إسماعيل بن أبي زياد، عن جعفر بن

محمد، عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: أنا زعيم بيت في أعلى

الجنة 1) وبيت في وسط الجنة وبيت في رياض الجنة 2) لمن ترك المراء

وإن كان محقا .

_____________________________

(1) نهاية ابن الأثير 2: 185 .

____________________________________________________

صفحة 519

35 - أبي رحمه الله، قال: حدثنا أحمد بن إدريس، عن محمد بن أحمد، عن

عبد الله بن محمد، عن محمد بن إسماعيل النيسابوري، عن عبد الرحمن

ابن أبي هاشم، عن كليب بن معاوية، قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: لا يخاصم

إلا من قد ضاق بما في صدره .

 

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين

 

 

 

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 3

باب معنى بسم الله الرحمن الرحيم

1) ورد في الأثر عن أمير المؤمنين عليه السلام أن كل العلوم تندرج في الكتب

الأربعة، وعلومها في القرآن، وعلوم القرآن في الفاتحة، وعلوم الفاتحة في بسم

الله الرحمن الرحيم، وعلومها في الباء من بسم الله .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 4

قال الفاضل النيشابوري: وذلك أن المقصود من كل العلوم وصول العبد إلى

الرب، وهذا الباء للالصاق، فهو يوصل العبد إلى الرب، وهو نهاية الطلب وأقصى

الأمد (1) .

أقول: وفي أخبارنا أنه عليه السلام قال في آخر الحديث: وأنا النقطة تحت الباء .

ولعل معناه أنه عليه السلام يبين علوم القرآن ويميزها، كما أن نقطة الباء (2) تميزه عما

يشاركه في المركز والصورة، كالتاء والثاء ونحو ذلك .

وفي الخبر: أن عيسى عليه السلام مر على قبر، فرأى ملائكة العذاب يعذبون ميتا،

فلما انصرف من حاجته مر بالقبر، فرأى ملائكة الرحمة معهم أطباق نور، فتعجب

من ذلك، فصلى ودعا الله تعالى، فأوحى الله تعالى إليه: يا عيسى كان هذا العبد

عاصيا، وكان قد ترك امرأة حبلى، فولدت وربت ولده حتى كبر، فسلمته إلى

الكتاب، فلقنه المعلم بسم الله الرحمن الرحيم، فاستحييت من عبدي أن أعذبه

بناري في بطن الأرض وولده يذكر اسمي على وجه الأرض .

وجاء في الرواية: أن الله سبحانه إنما أمهل فرعون من العذاب الأوقات

المتطاولة، لأنه كتب على باب داره بسم الله الرحمن الرحيم، ومن ثم استحب

كتابتها على أبواب الدور . 1) البهاء: الحسن، لأنه نور السماوات والأرض . والسناء: العظمة والجلال .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 5

والمجد: الشرف والكمال .

1) هذا تعريف له باللازم، وذلك أن الذات المستجمعة جميع صفات الكمال

يلزمها الاستيلاء والقدرة على ما عداها . ويجوز أن تكون إشارة إلى قوله تعالى

الرحمن على العرش استوى (1) فان ما دق وجل داخلان تحته، فيكون

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 6

حاصل معناه أن الله سبحانه هو الذي وصف نفسه وكشف عنها في كتابه بقوله

الرحمن على العرش استوى فيكون من باب (قل هو الله أحد) السورة .

وقيل: السؤال إنما كان عن مفهوم الاسم ومناطه، فأجاب عليه السلام بأن

الاستيلاء على جميع الأشياء مناط العبودية بالحق لكل شئ .

1) ورد في الرواية: ان الأشتر رضي الله عنه أتى يوما إلى أمير المؤمنين عليه السلام والجند

حافه به، فأمر له بكرسي، فلما جلس زلت قدمه ووقع من الكرسي فانشج رأسه،

فقام إليه أمير المؤمنين عليه السلام وعصب رأسه، ثم قال: يا مالك اننا دعونا الله بدعاء

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 7

استجابه منا، وذلك أنا دعونا الله سبحانه أن يقاص شيعتنا بذنوبهم في الدنيا حتى

لا يبقى عليهم ما يقاصهم به يوم القيامة، فقال له الأشتر: وما فعلت أنا هذه

الساعة يا أمير المؤمنين ؟ فقال عليه السلام: انك لما جلست على السرير نسيت أن

تقول بسم الله الرحمن الرحيم، فقاصك الله بهذا .

1) أمر تعالى نبيه بمحاجة الكفار، فقال: (قل) يا محمد لهؤلاء الكفار أخبروني (

ان أتاكم عذاب الله) في الدنيا كما نزل بالأمم قبلكم مثل عاد وثمود

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 8

(أو أتتكم الساعة) أي: القيامة وعذابها وأهوالها (أغير الله تدعون) أي: تدعون

فيها لكشف ذلك عنكم هذه الأوثان التي تعلمون أنها لا تنفع نفسها ولا غيرها،

أو أتدعون الله الذي خالقكم (ان كنتم صادقين) في أن هذه الأوثان آلهة لكم

احتج عليهم بما لا يدفعونه، لأنهم كانوا إذا مسهم الضر دعوا الله (بل إياه

تدعون) أي: بل إذا لحقهم الشدائد في البحار والبراري تتضرعون إليه وتقبلون

عليه، والمعنى لا تدعون غيره بل تدعونه، فيكشف ما بكم من الضر أن أراد

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 9

(وتنسون ما تشركون) أي: تتركون دعاء ما تشركون من دون الله (1) .

باب تفسير حروف المعجم

1) المشهور تقسيم الدية على حروف الهجاء، وهي ثمانية وعشرون حرفا،

وربما زاد بعضهم حرفا آخر . قيل: إنه الهمزة . وقيل: إنه لام ألف المكتوبة في

حروف الهجاء بصورة (لا) . وفي هذا الخبر دلالة عليه، ومن لم يعتبره وهو

الأكثر قالوا: انها مركبة من اللام والألف، وهما مذكوران في الحروف الهجائية

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 11

وعلى التقديرين فالدية مقسومة على ثمانية أو تسعة وعشرين حرفا فما

نقص منها بسبب الجناية نقص من الدية ما قابلها .

1) أي: لو تعاضد الثقلان على أن يأتيا بمثل هذا القرآن في الفصاحة

والبلاغة لما قدرا عليه، وفي هذا تكذيب للنضر بن الحارث حين قال: لو نشاء

لقنا مثل هذا .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 12

1) أي: يثبتهم في كرامته وثوابه بقولهم الثابت الذي يوجد منهم، وهو كلمة

الايمان، لأنه ثابت بالحجج والأدلة . وقيل: معناه يثبت الله المؤمنين بسبب كلمة

التوحيد في الحياة الدنيا حتى لا يضلوا عن طريق الجنة . وفي الحديث عن أمير

المؤمنين عليه السلام أن المراد من قوله (في الحياة الدنيا) حالة الاحتضار، لأنه وقت

العديلة، وهو شيطان يوسوس له حتى يعدله عن الاسلام، والمراد من الآخرة إذا

وضع في القبر وسأله منكر ونكير (2) .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 13

1) ذكر النافع كما قيل: إما على سبيل الاستطراد، أو إشارة إلى أن (1) ضرره

تعالى نفع، لأنه خير محض، ويجوز أن يكون موضوعا لهما . وكذا الواو يجوز أن

يكون موضوعا للواحد، وذكر ما بعده لبيان أن واحديته تعالى تستلزم تلك

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 14

الصفات، وأن تكون موضوعا للجميع .

باب تفسير حروف الجمل

1) في القاموس: الكتاب كرمان الكاتبون، والمكتب كمقعد موضع التعليم،

وقول الجوهري المكتب والكتاب واحد غلط (1) .

وفي هذه الأخبار دلالة على أن للحروف المفردة وضعا ودلالة على معان،

لا أن الفائدة فيها منحصرة في تركب الكلمات منها، ولا بعد في ذلك، كما روي

في (ألم) عن ابن عباس أن الألف آلاء الله، واللام لطفه، والميم ملكه . وتأولها

بعضهم بأن المراد التنبيه على أن هذه الحروف منبع الأسماء ومبادي الخطاب

وتمثيل بأمثلة حسنة .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 15

1) القرش: الجمع .

2) أي: لا خلف لما وعد الله تعالى به من الثواب ولا خلف في قوله بوضع

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 16

كلمة أخرى مكانها بدلا منها، لأنها حق والحق لا خلف فيه بوجه .

(ولن تجد من دونه ملتحدا) الملتحد: الملتجأ . يلجأ إليه، لان فيه معنى

الميل .

1) الالمام: النزول .

2) قال ثقة الاسلام الطبرسي طاب ثراه: اختلفوا في معناه، فقيل: هو اسم من

أسماء السورة مثل حم وص . وقيل: هو الحوت الذي عليه الأرضون، عن ابن

عباس . وقيل: هو حرف من حروف الرحمن في رواية أخرى . وقيل: نون لوح

من نور . وقيل: هو نهر في الجنة قال الله له كن مدادا فجمد، وكان أبيض من

اللبن وأحلى من الشهد، ثم قال للقلم: اكتب فكتب القلم ما كان وما هو كائن إلى

يوم القيامة عن أبي جعفر عليه السلام .

وقيل: المراد به الحوت في البحر، وهو من آيات الله تعالى إذ خلقها في

الماء، فإذا فارق الماء مات، والقلم الذي يكتب به أقسم الله به لمنافع الخلق، لان

أثره باق على ممر الأيام . وقيل: إن قوام أمور الدين والدنيا بشيئين القلم

والسيف، والسيف تحت القلم .

(وما يسطرون) أي: ما تكتبه الملائكة مما يوحى إليهم وما يكتبونه من

أعمال بني آدم، فكان القسم بالقلم وما يسطر بالقلم . وقيل، ان ما مصدرية،

وتقديره والقلم وسطرهم، فيكون القسم بالكتابة، وعلى القول الأول يكون

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 17

القسم بالمكتوبات (1) .

1) أي: يجزي بقدر الفص إذا ظلم بمثله، وهو كناية عن وقوع الجزاء بكل حقير .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 21

باب حروف الأذان والإقامة

1) قد كان هذا الفصل في الاذان إلى زمن خلافة الثاني، ثم أنه ليس على

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 22

الناس أن المؤذن إذا قال حي على خير العمل أقبل الناس على الصلاة وتركوا

الجهاد، فأمر أن يترك هذا الفصل ويوضع موضعه الصلاة خير من النوم، وهذا

السبب الظاهر، وربما قصدوا به أن صلاة أبي بكر في الغار خير من نوم علي عليه السلام

على فراش رسول الله صلى الله عليه وآله ليلة الغار

وأما السبب الحقيقي فيه، فهو ما ورد في الأحاديث موافقا لهذا الخبر من أن

خير العمل هو الولاية، فأراد عمر أن يترك هذا الفصل فيترك معناه ولا يبحث

عنه، لان عمر كان قد سمع هذا المعنى من النبي صلى الله عليه وآله، وليس هذا بأول قارورة

كسرها في الاسلام .

باب تفسير الهدى والضلالة والتوفيق والخذلان من الله تعالى

1) نزلت هذه الآية في أصحاب الكهف، فهم المراد من المهتدي، كما أن

المراد من الضال قومهم . هذا .

واعلم أن هذه الآية وكثيرا من الآيات والاخبار تضمنت نسبة الاضلال

والهداية إليه سبحانه حتى تمسك بها الأشاعرة في الاستدلال على مذهبهم

وقولهم (كل من عند الله) قالوا: من حيث إن الممكنات بأسرها مستندة إلى الله

واقعة بقدرته استندت إليه، يعني الاضلال والختم والخذلان وما أشبهها، ومن

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 23

حيث أنها مسببة مما اقترفوه بدليل قوله بل طبع الله عليها بكفرهم (1) وقوله

تعالى ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم (2) وردت الآيات ناعية

عليهم شناعة صفتهم ووخامة عاقبتهم .

وحيث أن الأدلة العقلية والنقلية واجماع أصحابنا والمعتزلة دالة على أنه لا

يحسن وقوع تلك الأمور منه سبحانه، لأنه يقبح من الحكيم أن يكلف أحدا ثم

يمنعه عن الاتيان بما كلفه به ثم يعذبه عليه، فلا بد من تحقيق المقام، وهو يتم

ببيان أمور:

الأول: فيما ذكره أصحابنا والمعتزلة من التأويلات والأجوبة عن معنى

الاضلال والطبع والختم وما في معناها وهو وجوه:

منها: أن القوم لما أعرضوا عن الحق، وتمكن ذلك في قلوبهم حتى صار

كالطبيعة لهم، شبه بالوصف الخلقي المجبول عليه، فقال: ختم الله على

قلوبهم (3) وكذا في نسبة الاضلال، فإنهم لما لا يمكن الضلال في قلوبهم حتى

صاروا بسببه لا يأتون معروفا ولا يصغون لدعاة الدين، فصاروا كأنهم مجبولون

على ذلك الضلال .

ومنها: أن المراد تمثيل حال قلوبهم بقلوب البهائم التي خلقها الله تعالى

خالية عن الفطن والهداية إلى طرق التكليف وأنواع الصلاح .

ومنها: أن ذلك في الحقيقة فعل الشيطان والكافر، لكن لما كان صدوره عنه

باقداره تعالى إياه أسنده إليه اسناد الفعل إلى السبب .

ومنها: أن اعراقهم لما رسخت في الكفر واستحكمت بحيث لم يبق طريق

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 24

إلى تحصيل ايمانهم سوى الالجاء والقسر، ثم لم يقسرهم ابقاء على غرض

التكليف عبر عن تركه بالاضلال، فإنه سد لايمانهم .

ومنها: أن ذلك في الآخرة وإنما أخبر عنه بالماضي لتحققه وتيقن وقوعه،

وهذا الحديث نص فيه، ويشهد له قوله تعالى ونحشرهم يوم القيامة على

وجوههم عميا وبكما وصما (1) .

ومنها: أن المراد بالختم والاضلال، وسم قلوبهم بسمة تعرفها الملائكة

فيبغضونهم وينتفرون عنهم، وهي نكتة سوداء تشاهدها الملائكة، فيعلمون بها أنه

لا يؤمن، وكذلك يكتب في قلب المؤمن الايمان، ويعلم عليه علامة تعلم

الملائكة بها أنه مؤمن، فيمدحونه ويستغفرون له .

ومنها: أن المراد بالاضلال تخلية العبد من الألطاف الربانية بما كسبت يداه،

وهو أحد معاني الضلال كما سيأتي . وبالجملة الأجوبة عن هذا كثيرة، وفي

الاستقصاء عليها افضاء إلى التطويل .

الأمر الثاني: في معاني الضلال، ومنه يظهر صحة اطلاقه في كل مورد على

معنى يناسبه:

الأول: أن معنى الضلال تشديد الامتحان الذي يكون عنده الضلال، فالمعنى

أن الله تعالى يمتحن بالتكاليف، فيضل بها قوم كثير ويهتدي بها قوم كثير، ومثله

قوله رب انهن أضللن كثيرا من الناس (2) أي: ضلوا عندها .

الثاني: أن الاضلال بمعنى التخلية على وجه العقوبة وترك المنع بالقهر ومنع

الألطاف التي تفعل بالمؤمنين جزاء على ايمانهم .

الثالث: أنه بمعنى التسمية بالضلال والحكم به، كما يقال: أضله إذا نسبه

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 25

إلى الضلال وأكفره إذا نسبه إلى الكفر .

الرابع: أنه بمعنى الاهلاك والعذاب والتدمير، ومنه قوله تعالى ان

المجرمين في ضلال وسعر (1) ومنه قوله تعالى إذ أضللنا في الأرض (2)

أي: هلكنا .

الخامس: أنه بمعنى التلبيس والتشكيك والايقاع بالفساد والضلال، وهذا

هو الذي يضاف إلى الشيطان والسامري ونحوه، كقوله تعالى ولقد أضل منكم

جبلا كثيرا (3) وقوله تعالى وأضل فرعون قومه (4) وقوله تعالى

وأضلهم السامري (5) .

الأمر الثالث: في بيان معاني الهداية:

أحدها: أن يكون بمعنى الأدلة والارشاد، يقال هداه إلى الطريق إذا دله عليه،

وهذا الوجه عام لجميع المكلفين، فإن الله تعالى هدى كل مكلف إلى الحق، بأن

دله عليه وأرشده إليه، لأنه كلفه الوصول إليه، ومنه قوله تعالى إنا هديناه

السبيل (6) وقوله وأما ثمود فهديناهم (7) ونحو ذلك .

وثانيها: أن يكون بمعنى زيادة الألطاف التي بها يثبت على الهدى، كقوله

والذين اهتدوا زادهم هدى (8) .

وثالثها: أن يكون بمعنى الإثابة، ومنه قوله تعالى يهديهم ربهم بايمانهم

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 26

تجري من تحتهم الأنهار (3) .

ورابعها: الحكم بالهداية كقوله تعالى من يهد الله فهو المهتد (4) وهذه

الوجوه الثلاثة مخصوصة بالمؤمنين دون غيرهم، لأنه تعالى إنما يثيب من

يستحق الإثابة وهم المؤمنون، ويزيدهم ألطافا بايمانهم وطاعتهم، ويحكم لهم

بالهداية لذلك أيضا .

وخامسها: أن تكون الهداية بمعنى جعل الانسان مهتديا بأن يخلق الهداية

فيه، كما يجعل الشئ متحركا بخلق الحركة فيه، والله تعالى يفعل العلوم

الضرورية في القلوب، فذلك هداية منه تعالى، وهذا الوجه أيضا عام لجميع

العقلاء، كالوجه الأول .

فأما الهداية التي كلف الله تعالى فعلها كالايمان به وبأنبيائه وغير ذلك، فإنها

من أفعال العباد، ولذلك يستحقون عليها المدح والثواب، وإن كان سبحانه قد أنعم

عليهم بدلالتهم على ذلك وارشادهم إليه، ودعاهم إلى فعله وأمرهم به، فهو من

هذا الوجه نعمة منه سبحانه عليهم، ومنة منه واصلة إليهم، وتفضل منه واحسان

لديهم، فهو مشكور على ذلك محمود، إذ فعل بتمكينه وألطافه وضروب

تسهيلاته ومعوناته (5) .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 27

1) أي: ليس ما أفعله بحولي وقوتي بل بمعونة الله ولطفه .

2) الحول هنا يكون بمعنى الحائل، والمشهور في معناه أن الحول بمعنى

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 28

القوة، فيكون ما بعده تفسير وتأكيد له .

1) قال ثقة الاسلام الطبرسي رحمه الله: فيه وجوه:

أحدها: أن معناه (فمن يرد الله أن يهديه) إلى الثواب وطريق الجنة (

يشرح صدره) في الدنيا (للاسلام) بأن يثبت عزمه عليه ويقوى دواعيه على

التمسك به، وإنما يفعل ذلك لطفا له ومنا عليه وثوابا على اهتدائه بهدى الله

وقبوله إياه (ومن يرد أن يضله) عن ثوابه وكرامته (يجعل صدره) في كفره

(ضيقا حرجا) عقوبة له على تركه الايمان من غير أن يكون سبحانه مانعا له عن

الايمان، بل ربما يكون ذلك داعيا إليه، فان من ضاق صدره بالشئ كان ذلك

داعيا إلى تركه .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 30

الامتزاج بخرافات ذكرها أهل الكتب .

الفرقة الثانية: المانوية أصحاب ماني الحكيم الذي ظهر في زمان سابور بن

أردشير، وذلك بعد عيسى عليه السلام أخذ دينا بين المجوسية والنصرانية، وكان يقو ل

بنبوة المسيح عليه السلام، ولا يقول بنبوة موسى عليه السلام، وزعم أن العالم مصنوع مركب

من أصلين قديمين نور وظلمة، وأنهما أزليان لم يزالا ولن يزالا، وزعم أنهما لم

يزالا قويين حساسين سميعين بصيرين، وهما مع ذلك في النفس والصورة والفعل

والتدبير متضادان، وفي الخير والشر متحاذيان تحاذي الشخصين، وان النور فعله

الخير والصلاح وجهته فوق، وهو مرتفع من ناحية الشمال، وانه بجنب الظلمة .

وأما الظلمة، فجوهرها قبيح ناقص وفعلها الشر والفساد .

ونقل الفاضل المعتزلي ابن أبي الحديد عنهم أنهم قالوا: كان بين النور والظلمة

فرجة، وأن بعض أجزاء النور اقتحم تلك الفرجة لينظر إلى الظلمة، فأشرقت

الظلمة، فأقبل عالم كثير من النور فجاءت الظلمة لتستخلص الماسورين من تلك الأجزاء

وطالت الحرب، واختلط كثير من أجزاء النور بكثير من أجزاء الظلمة،

فاقتضى حكمه نور الأنوار وهو الباري سبحانه، عندهم أن عمل الأرض من

لحوم القتلى، والجبال من عظامهم، والبحار من صديدهم ودمائهم، والسماء من

جلودهم، وخلق الشمس والقمر وسيرهما لاستصفاء ما في العالم من أجزاء النور

المختلطة بأجزاء الظلمة، وجعل حول العالم خندقا خارج الفلك الاعلى يطرح

فيه الظلام المستصفى، وذكروا كثيرا من هذا القبيل، وقد أشار أبو الطيب إلى هذه

الفرقة بقوله:

وكم لسواد الليل عندي من يد * تخبر أن المانوية تكذب

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 31

الفرقة الثالثة: المرقوبية، وقد أثبتوا أصلين متضادين النور والظلمة، وأثبتوا

أصلا ثالثا وهو المعدل الجامع، وهو سبب المزاج، فإن المتنافرين المتضادين لا

يمتزجان الا بجامع، وقالوا: الجامع دون النور في الرتبة وفوق الظلمة، وحصل

من الاجتماع والامتزاج هذا العالم، ثم طولوا في حكاية الامتزاج وما حصل

بسببه، كما ذكره الشهرستاني في كتاب الملل والنحل وشراح نهج البلاغة (1) .

1) ذكر الأفاضل أن هذا الخبر من مشكلات الاخبار، ومن ثم ذكروا له

ضروبا من المعاني:

أولها: ما حققه شيخنا رفيع الدين محمد قدس الله روحه في حواشيه على

أصول الكافي، وهذا لفظه: هذا استدلال على بطلان الاثنينية في المبدأ الأول

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 32

الموجود بذاته لا بموجد، وتحرير هذا الدليل أنه لو كان المبدأ اثنين، فلا يخلو من

أن يكونا قديمين قويين، أو يكونا ضعيفين، أو يكون أحدهما قويا والآخر ضعيفا .

والمراد بالقوي على فعل الكل بالإرادة، والمراد بالضعيف الذي لا يقوى

على فعل الكل، ولا يستبد به ولا يقاوم القوى، فان كانا قويين فلم لا يدفع كل

منهما صاحبه ويتفرد به، أي: يلزمهما من قوتهما انفراد كل بالتدبير، ويلزم منه عدم

وقوع الفعل، فان زعمت أن أحدهما قوي والاخر ضعيف، ثبت أنه واحد، أي:

المبدأ للعالم واحد، لعجز الضعيف عن المقاومة، وثبت احتياج الضعيف إلى العلة

الموجدة، لان القوي أقوى وجودا من الضعيف، وضعف الوجود لا يتصور الا

بجواز خلو المهية عن الوجود، ويلزم منه الاحتياج إلى المبدأ المبائن الموجد له .

وإن قلت إنهما اثنان، أي: المبدأ اثنان، وهذا هو الشق الثاني، أي: كونهما

ضعيفين بأن يقدر ويقوى كل منهما على بعض، أو يفعل بعضا دون بعض بالإرادة،

وإن كان يقدر على الكل .

وفي هذا الشق لا يخلو من أن يكونا متفقين، أي: في الحقيقة من كل جهة،

ويلزم من هذا عدم الامتياز بالتعيين، للزوم المغايرة بين الحقيقة والتعيين

المختلفين، واستحالة استنادهما إلى الحقيقة، واستحالة استنادهما إلى الغير،

فيكون لهما مبدأ، أو مختلفين مفترقين من كل جهة، وذلك معلوم الانتفاء، فانا لما

رأينا الخلق منتظما والفلك جاريا والتدبير واحدا والليل والنهار والشمس والقمر،

دل صحة الامر والتدبير وائتلاف الامر على أن المدبر واحد لا اثنان مختلفان من

كل جهة .

ثم ذلك المدبر (1) الواحد لا يجوز أن يكون واحدا بجهة من حيث الحقيقة

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 33

مختلفا بجهة أخرى، فيكون المدبر اثنين، ويلزمك ان ادعيت اثنين فرجة ما

بينهما، لان لهما وحدة، فلا يتمايزان الا بمميز فاصل بينهما حتى يكونا اثنين،

لامتناع الاثنينية بلا مميز بينهما، وعبر عن الفاصل المميز بالفرجة، حيث أن

الفاصل بين الأجسام يعبر عنه بالفرجة .

وأولئك الزنادقة لم يكونوا يدركون غير المحسوسات تنبيها على أنكم لا

تستحقون أن تخاطبوا الا بما يليق استعماله في المحسوسات، وذلك المميز لابد

أن يكون وجوديا داخلا في حقيقة أحدهما، إذ لا يجوز التعدد مع اتفاق في تمام

الحقيقة كما ذكرناه .

ولا يجوز أن يكون ذلك المميز ذا حقيقة يصح انفكاكها عن الوجود وخلوها

عنه ولو عقلا، والا لكان معلوما محتاجا إلى المبدأ، فلا يكون مبدأ ولا داخلا

فيه، فيكون المميز الفاصل بينهما قديما موجودا بذاته كالمتفق فيه، فيكون

الواحد المشتمل على المميز الوجودي اثنين لا واحدا، ويكون الاثنان اللذان

ادعيتهما ثلاثة، فان قلت به وادعيت ثلاثة لزمك ما قلت في الاثنين من تحقق

المميز بين الثلاثة، ولا بد من مميزين وجوديين حتى يكون بين الثلاثة فرجتان،

ولا بد من كونهما قديمين كما مر، فيكونوا خمسة وهكذا، ثم يتناهى في العدد إلى

ما لا نهاية له في الكثرة، أي: يتناهى الكلام في التعدد إلى القول بما لا نهاية له في

الكثرة، ويبلغ عدده إلى كثرة غير متناهية .

أو المراد أنه يلزمك أن يتناهى المعدود المنتهى ضرورة بمعروض ما ينتهي

إليه العدد، أي: الواحد إلى كثير لا نهاية له في الكثرة، فيكون عددا بلا واحد

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 34

وكثرة بلا وحدة (1)، وعلى هذا يكون الكلام برهانيا لا يحتاج إلى ضميمة، وعلى

الأولين يصير بضم ما ذكرناه من ثالث الاحتمالات برهانيا، ولا يبعد أن يكون

الاتيان منه عليه السلام ذي وجهين، ليفهم منه المجادل القاصر عن الوصول إلى البرهان

بما يسكته، والواصل إلى درجة البرهان مما يوصله إلى اليقين في نفي التعدد (2) .

الثاني: ما ذكره الفاضل الداماد من أنه إشارة إلى ثلاثة براهين . وتقرير

الأول بعدما تقرر إنما لا يكون قويا على ايجاد أي ممكن كان لا يكون واجبا

بالذات، أن يقال: لا يصح أن يكون الواجب بالذات اثنين، والا كان كل منهما

قويا على ايجاد أي ممكن كان، وكل ممكن بحيث يكون استناده إلى أي منهما

كافيا في تصحح خروجه من القوة إلى الفعل، وحينئذ لم يكن محيص إما من

لزوم استناد كل معلول شخصي إلى علتين مستبدتين بالإفاضة، وذلك محال . أو

من لزوم الترجح بلا مرجح، وهو فطري الاستحالة، أو من كون أحدهما غير

واجب بالذات، وهو خلاف المفروض .

وبرهان ثان: وهو أحد الوجوه البرهانية في قوله تعالى لو كان فيهما آلهة

إلا الله لفسدتا (3) وتلخيص تقريره: أن التلازم بين أجزاء النظام الجملي

المنتظم المتسق كما بين السماء والأرض مثلا على ما قد أحقته القوانين الحكمية لا

يستتب إلا بالاستناد إلى فاعل واحد يصنع الجميع بحكمته وقدرته، إذ التلازم

بين شيئين لا يتصحح الا بعلية أحدهما للاجزاء، وبمعلوليتها لعلة واحدة موجبة،

فلو تعدد اختل الامر وفسد النظام

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 35

والتقرير الثالث: هو أنك لو ادعيت اثنين كان لا محالة بينهما انفصال في

الوجود وافتراق في الهوية، ويكون هناك موجود ثالث هو المركب من مجموع

الاثنين، وهو المراد بالفرجة، لأنه منفصل بالذات والهوية، وهذا المركب لتركبه

عن الواجبات بالذات المستغنيات عن الجاعل موجود لا من تلقاء الصانع، إذ

افتقار المركب إلى الجاعل بحسب افتقار أجزائه، فإذا لم يفتقر أجزاؤه لم يفتقر

هو بالضرورة، فاذن قد لزمك أن يكون هو الموجود الثالث أيضا قديما،

فيلزمك ثلاثة وقد ادعيت اثنين وهكذا، وأورد عليه مع بعد اطلاق الفرجة بهذا

المعنى أنه يلزم في الفرض الثاني سبعة لا خمسة .

الثالث: أن يكون إشارة إلى حجتين: إحداهما عامية مشهورية، والأخرى

خاصية برهانية .

أما الأولى فقوله (لا يخلو قولك) إلى قوله (في الثاني) ومعناه أنه لو فرض

قديمان فلا يخلو أن يكون كلاهما قويين، أو كلاهما ضعيفين، أو أحدهما قويا

والآخر ضعيفا، والثلاثة بأسرها باطلة .

أما الأول فلانه إذا كانا قويين وكل منهما في غاية القوة من غير ضعف وعجز

كما هو المفروض، والقوة تقتضي الغلبة والقهر على كل شئ سواه، فما السبب

المانع لان يدفع كل واحد منهما صاحبه حتى ينفرد بالتدبير والقهر على غيره،

إذ اقتضاء الغلبة والاستعلاء مركوزة في كل ذي قوة على قدر قوته، والمفروض

أن كلا منهما في غاية القوة .

وأما فساد الشق الثاني، فهو ظاهر عند جمهور الناس، لما حكموا بالفطرة من

أن الضعف ينافي الإلهية، ولظهوره لم يذكره عليه السلام . وأيضا يعلم فساده بفساد الشق

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 36

الثالث، وهو قوله: وان زعمت أن أحدهما قوي والاخر ضعيف ثبت أنه - أي:

الاله - واحد كما نحن نقول، للعجز الظاهر في المفروض ثانيا، لان الضعف

منشأ العجز، والعاجز لا يكون إلها بل مخلوقا محتاجا، لأنه محتاج إلى من يعطيه

القوة والكمال والخيرية .

وأما الحجة البرهانية، فأشار إليها بقوله (وان قلت أنهما اثنان) .

وبيانه: أنه لو فرض موجودان قديمان، فإما أن يتفقا من كل جهة، أو يختلفا

من كل جهة، أو يتفقا بجهة ويختلفا بأخرى، والكل محال . أما بطلان الأول،

فلان الاثنينية لا يتحقق الا بامتياز أحد الاثنين عن صاحبه ولو بوجه من الوجوه .

وأما بطلان الثاني، فلما نبه عليه بقوله (فلما رأينا الخلق منتظما) وتقريره:

أن العالم كله كشخص واحد كثير الاجزاء والأعضاء مثل الانسان، فانا نجد

أجزاء العالم مع اختلاف طبائعها الخاصة وتباين صفاتها وأفعالها المخصوصة

يرتبط بعضها ببعض، ويفتقر بعضها إلى بعض، وكل منها يعين بطبعه صاحبه .

وهكذا نشاهد الاجرام العالية وما ارتكز فيها من الكواكب النيرة في حركاتها

الدورية وأضوائها الواقعة منها نافعة للسفليات محصلة لا مزجة المركبات التي

يتوقف عليها صور الأنواع ونفوسها وحياة الكائنات ونشوء الحيوان والنبات .

فإذا تحقق ما ذكرناه من وحدة العالم لوحدة النظام واتصال التدبير، دل على

أن إلهه واحد، واليه أشار بقوله (دل صحة الامر والتدبير وائتلاف الامر على

أن المدبر واحد) .

وأما بطلان الشق الثالث، وهو أنهما متفقان من وجه ومختلفان من وجه

آخر، فبأن يقال كما أشار إليه عليه السلام بقوله (ثم يلزمك أنه لابد فيهما من شئ

يمتاز به أحدهما عن صاحبه وصاحبه عنه) وذلك الشئ يجب أن يكون أمرا

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 37

وجوديا يوجد في أحدهما ولم يوجد في الاخر، أو أمران وجوديان يختص كل

منهما بواحد فقط .

وأما كون الفارق المميز لكل منهما عن صاحبه أمرا عدميا، فهو ممتنع

بالضرورة، إذ الاعدام بما هي أعدام لا تمايز بينها ولا تمييز بها، فإذا فرض

قديمان، فلا أقل من وجود أمر ثالث يوجد لأحدهما ويسلب عن الآخر، وهو

المراد بالفرجة، إذ به يحصل الانفراج - أي: الافتراق - بينهما، لوجوده في

أحدهما وعدمه في الآخر، وهو أيضا لا محالة قديم موجود معهما، والا لم يكونا

اثنين قديمين، فيلزم أن يكون القدماء ثلاثة وقد فرض اثنان، هذا خلف . ثم

يلزم من كونهم ثلاثة أن يكونوا خمسة، وهكذا إلى أن يبلغ عددهم إلى ما لا

نهاية، وهو محال انتهى ما ذكره بعض المحققين (1) .

وقد بقي فيه معان أخرى أعرضنا عن ذكرها مخافة التطويل مع بعدها

واحتياجها إلى الحذف والتقدير، والظاهر أنه إشارة إلى أدلة ثلاثة، كما حكيناه

عن السيد الداماد عطر الله ضريحه، الا أن تقريره هكذا:

الدليل الأول: أنهما لو كانا ضعيفين لم يكونا إلهين، لما ثبت من أن الاله هو

المحتاج إليه، أو هو المستجمع لصفات الكمال، والعجز نقص فمن اتصف به لا

يكون إلها، وكذلك لو كان أحدهما ضعيفا لا يكون إلها، بل الاله هو القوي، وان كانا

قويين فلم يتمانعان ويتغالبان ويتحاربان حتى ينتقض عليهما التدبير، أو على

أحدهما بعد أن ضعف بعد القوة، وصرفها في معاندة القوى الآخر، وهذا راجع

إلى البرهان، كما لا يخفى من التحقيق السابق .

ومن وجه آخر دقيق: وهو أن المبدأ الأول عز شأنه يجب أن يكون في غاية

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 38

الكمال، وأن يكون كمالاته كلها بالفعل ليس شئ منها متوقع الخروج من القوة

إلى الفعل، والا لكان محتاجا إلى خروج ذلك الكمال، فيكون ناقصا من هذه

الجهة، وهو خلاف الفرض .

وإذا صحت هذه المقدمة لزم أن يكون كل واحد من الواجبين على

تقدير التعدد في غاية الكمال، ومن جملة الكمال أن يكون كل واحد منهما متصفا

بالوحدة في التدبير والاستقلال، فيلزم بناءا على هذا أن يتقاوما ويتجاذبا (1)

حتى يستقل كل منهما بنفسه بدون مشاركة أحد معه، وعند المقاومة والمحاربة

يحصل ما تقدم من اختلال التدبير ورفع التعدد . وهذا مع الاغماض عن

المقدمة الثانية، وهو وجوب حصول كمالاته فعلا .

وهذا التحقيق ذكره استاذنا المحقق اليزدي عماد الدين طاب ثراه دليلا

بالاستقلال على إثبات الواجب، وعلى نفي الشريك، وعلى إثبات صفات الكمال

ونفي سمات النقصان .

وبيانه: أن الوجود كمال بالنسبة إلى العدم، فيكون الصانع موجودا، والا

كان ناقصا محتاجا إلى خروج ذلك من القوة إلى الفعل، وأيضا نفي الشريك كمال

بالنظر إلى وجوده، لان العقل والعرف حاكمان به، فيكون واحدا . ويجب أيضا

أن يكون عالما قادرا سميعا بصيرا، غير ظالم ولا جاهل ولا عاجز، لما ذكرناه

بعينه، وهذا برهان مختصر دال على اثبات جميع ما ذكر .

الدليل الثاني: أنهما لو كانا اثنين لكانا: إما متفقين من كل جهة، وهو يرفع

التعدد بينهما، أو مختلفين من كل جهة . ومن جملة الجهات التي هي محل

الاختلاف أن يكون آثارهما مختلفة، لكن النظام والأثر جار على نسق واحد،

فليس مستندا إلا إلى مدبر واحد، وهذا أيضا بالبرهان أشبه .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 39

الثالث: أنهما لو كانا اثنين، فلا بدأن يكون بينهما فرجة، أي: هواء وخلاء

إن كانا جسمين كما يقوله الثنوية والمجسمة، أو مائز بينهما ان كانا مجردين عن

المواد الجسمانية، وذلك المائز لا يكون عدميا، والا لما ميز بين الموجودين،

فيلزم أن يكون مثلهما في الوجود والقدم، فتكون القدماء ثلاثة، ولابد من مائز

بين كل اثنين، فتكون القدماء خمسة لا ثلاثة وهكذا كما سبق .

1) إما لان المتلازمين كما تقدم لا بد أن يكون أحدهما علة للاخر، أو يكونا

معلولي علة ثالثة، وإما لان التدبير الواحد لا يجوز استناده الا إلى مدبر واحد،

لامتناع اجتماع علتين مستقلتين على معلول واحد شخصي، وإما لان المدبر

الواحد كاف لصدور التدبير الجملي، فإذا لاحظنا معه أن المشاركة نقص لا تليق

بالواجب، أو لزوم التعطيل، علمنا أنه لا مدبر غيره .

2) السؤال عن حقيقته بالكنه، أو بوجه يمتاز به عن جميع ما عداه،

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 40

والجواب بيان الوجه الذي به الامتياز، وهو وجه سلبي، أي: كونه غير متصف

بصفات الحقائق المعلومة ومهياتها أصلا . بل مخالفا إياها حتى في الشيئية، لان

شيئيتها من غيرها، كما أن وجودها كذلك بخلاف شيئيته تعالى فإنها عين ذاته،

ومطابقة الجواب على تقدير السؤال عن الكنه بأنه جواب باستحالة المعرفة

بالكنه، إنما المتصور المعرفة بالوجه السلبي المميز عن جميع الممكنات .

1) أي: هو موصوف بحقيقة الشيئية، واطلاق الشئ عليه بهذا الاعتبار

وحقيقة الشيئية هي التي لا يصح انتزاع الوجود عنها، كما في شيئية الممكنات .

وأشار إلى ذلك بقوله (غير أنه لا جسم ولا صورة) أي: ليس هو مهية من

المهيات المدركة بعقولنا (ولا يحس) أي: لا يدرك بحاسة البصر، أو لا يعلم من

باب فلما أحس عيسى منهم الكفر (1) (ولا يجس) أي: لا يمكن مسه باليد .

2) نفي لكونه سبحانه مدركا بالحس الباطني، فان الوهم يدرك كلما يدرك

سائر الحواس الباطنة، وهو يدرك ما لا تدركه سائر الحواس، فلما نفى كونه

مدركا بالوهم لزم كونه غير مدرك بشئ من الحواس الباطنة .

3) لعل الفرق بين الدهر والزمان في هذا الخبر ونحوه أن المراد من الدهر

الزمان الطويل، ومن الزمان ما قصر منه، وهذا الاطلاق شائع في مقامات فصيح

الكلام، وحينئذ فالمراد من النقص العدم، والنقص الوارد على المهيات والحقائق

ومن التغير الانتقال من حال إلى حال وصفة إلى غيرها، كما هو من لوازم الزمان .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 41

1) أي: ليس المراد بكله أنه مجتمع من أبعاض وله بعض، بل المراد بكونه

سميعا بكله كونه سميعا بحقيقته وذاته الواحدة الغير المنقسمة والمتكثرة .

وقيل: المعنى أنه سميع بكله لا أن الكل منه له بعض حتى يتوهم أنه يسمع به،

بل المراد بكونه سميعا بكله نفي كونه سميعا ببعضه .

2) يعني: أن مرجع السميع والبصير (1) فيه كونه عالما خبيرا بالمسموع

والمبصر، كعلم السامع البصير منا، لكن لا بآلة وجارحة كما في الحيوان .

3) أي: بلا اختلاف الذات بالاجزاء، ولا اختلاف المعنى أي: الصفة للذات .

4) أي: إذا لم يكن له جزء ولا صفة، فما الذي يقال عليه ويعرف به .

5) أي: يعرف بالفعل والإضافة بالنسبة إلى من يريد معرفته .

6) أي: اثبات معنى، أعني: صفة فعلية هو خالق الأشياء وصانعها، فيعرف

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 42

بأنه موصوف بالصفة الفعلية، وهذه حروف وضعت للموصوف بهذه الصفة حتى

ينتقل منه إليه وليست هو هي .

1) قوله (وهو) أي: المقصود اثباته المعنى (سمي به) أي: سمي المعنى

بالاسم الذي هو هذه الحروف، فتذكير الضمير باعتبار الاسم .

(الله الرحمن الرحيم) قوله (الله) مبتدأ وقوله (من أسمائه) خبره، أي:

لفظ الله والرحمان والرحيم والعزيز ونحوها من جملة أسمائه الحسنى .

2) أي: فلم نجد المدرك بالوهم الا مخلوقا، لما ذكرت أنه لا تدركه

الأوهام، فما يحصل في الوهم يكون مخلوقا، وما لم يحصل في الوهم لا يكون

مدركا للوهم، فأجاب عليه السلام بأن كل مدرك بالوهم لو كان حاصلا بحقيقته في

الوهم لكان التوحيد عنا مرتفعا، لأنا لا نكلف ما لا ندركه بالوهم، ولكن ليس

الادراك بالوهم مستلزما لحصول حقيقة المدرك في الوهم .

3) أي: الذي تحيط به وتصل إلى كنه حقيقته أو تصوره بصفته .

4) يعني: لا بد للأوهام من اثبات الصانع، واثباته فرع تصوره، وحينئذ

فالممكن هو تصوره بالوجوه والاعتبارات، واخراجه من الجهتين المذمومتين

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 43

اللتين هما من صفات الامكان أولاهما أن تحده الحواس وتحيط بحقيقته

وثانيهما أن تمثله بصورته وشبحه، وعلى التقديرين يكون مخلوقا .

أما الجهة الأولى، فلان حصول الحقيقة بعد النفي ونفيها بعد الحصول في

الوهم ابطال وعدم للحقيقة، وكلما يطرأ عليه العدم أو يكون معدوما يكون ممكن

الوجود، محتاجا إلى الفاعل الصانع له، فلا يكون مبدأ أولا .

وأما الجهة الثانية أي الحصول بالشبح والصورة المشابهة، فمتضمنة للتشبيه،

والتشبيه صفة المخلوق الظاهر التركيب والتأليف، لان التشبيه بالمماثلة في الهيئة

والصفة، ولا يكونان الا للمخلوق المركب، أو المؤلف من الاجزاء، أو من الذات

والصفة، كذا قال بعض أساتيذنا في حواشيه على الكافي .

ولعل الأظهر أن يكون المراد من الجهتين المذمومتين جهة النفي، يعني

تصوره بأنه لا شئ ولا موجود، والأخرى جهة التشبيه، وهو تصوره بأنه شئ

أو موجود كالموجودات، وحينئذ فالجهة المحمودة في حقه تعالى أن يتصور بأنه

شئ أو موجود لا كالموجودات .

1) أي: لا بد من القول بثبوت صانع لتحقق المصنوعين، وثبوت الاضطرار

لهم، أي: شدة الحاجة إلى الصانع .

2) تحرير للاستدلال على وجود الصانع المنزه عن صفات المخلوقين، وخلاصة

الاستدلال أنه لا شك في وجود المصنوعات، وهي بجملتها مصنوعة محتاجة

إلى صانع لا يماثلهم في صفات الاحتياج والتأليف، والا لكان مصنوعا مثلهم .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 44

1) ايراد سؤال على كونه موجودا بأن اثبات الوجود له يوجب التحديد: إما

باعتبار التحدد بصفة هو الوجود، أو باعتبار كونه محكوما عليه، فيكون موجودا

في الذهن محاطا به .

والجواب أنه لا يلزم تحديده وكون حقيقته حاصلة في الذهن، أو محدودة

بصفة، فان الحكم لا يستدعي حصول الحقيقة في الذهن، والوجود ليس من

الصفات المغايرة التي تحد بها الأشياء . واليه أشار بقوله عليه السلام (لم أحده ولكني

أثبته إذ لم يكن بين النفي والاثبات منزلة) فلما انتفى النفي ثبت الثبوت، وفي هذا

دلالة على امتناع أن يكون الوجود موجودا بالبرهان بل هو بديهي، كما هو أحد

القولين .

2) الآنية: الوجود، والمائية، الحقيقة، وهما فيه تعالى واحد وفي غيره

مختلفان .

3) أي الكيفية حال الشئ باعتبار الاتصاف بالصفة، كما لا بيض لمن اتصف

بصفة البياض، أو لمن أحاط به البياض .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 45

1) أي: لا بد من الخروج من جهة التعطيل والتشبيه، يعني: لا بد من القول

بوجوده سبحانه واتصافه بكماله في ذاته، وهو الخروج من التعطيل وتنزيهه

سبحانه من الاتصاف بالصفات الزائدة كاتصاف المخلوقين، وهو الخروج من

جهة التشبيه (لان من نفاه) أي: قال بزوال وجوده وحكم بعدمه في ذاته أو

صفاته الذاتية، فقد أنكره بما هو عليه (ومن شبهه بغيره) أي: قال باتصافه

بالصفات الزائدة كاتصاف المخلوقين، فقد أثبته بصفة المخلوقين .

2) أي: لا يستحق تلك الذات، وليست هي إلا له من غير مشاركة أحد له فيها،

ويجوز رجوع الضمير في لا يستحقها وما بعده إلى الكيفية، أي: ذاته سبحانه لا

تتكيف بكيفية يستحقها غيره، بل هو مكيف بكيفية لا يستحقها غيره .

وعبارة الكافي هكذا: لا بد من اثبات أن له كيفية لا يستحقها غيره (1) .

فتكون بيانا لصحة أن يقال له كيفية لا بالمعنى المصطلح عليه للكيفية، كما

يقال في سائر الألفاظ لمعانيها اللغوية والاصطلاحية، لان الألفاظ بحسب

وضعها لمعانيها ابتداء إنما هي لمدركات الأوهام والافهام، ثم استعمل عند التنبه

لما يتعالى عن تلك الادراكات وعدم وجدان لفظ موضوع له فيه، كاستعمال

الألفاظ في مجازاتها، والمراد أن له كيفية لا كتلك الكيفيات المدركة لنا لا

يستحقها غيره، أي: لا يمكن (2) لغيره من المهيات المغايرة للوجود، فلا

يتصف بها غيره لا بالانفراد ولا بالمشاركة .

3) أي: لا يقع بها الإحاطة، فلا يخرج من قابلية إلى فعلية .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 46

1) أي: يلابسها ويتحمل المشقة في ملابستها كمعاناة المخلوقين لأفعالهم .

2) معناه أن حصول الرضا والسخط لغيره تعالى مستلزم لدخول أمر يغايره

عليه . أما الرضا، فهو مستلزم لحصول الرقة في القلب . وأما الغضب، فهو مستلزم

للمشقة من جهة ثوران دم القلب واضطرابه وانزعاجه، كما قال

أمير المؤمنين عليه السلام: يحب ويرضى من غير رقة، ويبغض ويغضب من غير

مشقة (2) . وأما رضاه سبحانه، فهو اعطاء الثواب والتفضل بمزيد الاحسان يوم

الحساب . وأما الغضب، فهو العذاب منه تعالى للعبد بما كسبت يداه .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 47

1) سيأتي في كلام المصنف رحمه الله أن المشبهة يحتجون بهذه الآية زعما منهم

أن العرش وهو الجسم العظيم المحيط بما تحته مكان له، تعالى عما يقول

الكافرون علوا كبيرا .

2) يجوز دخول العرش تحته، فيكون الكرسي محيطا به . ويجوز أن يكون

إشارة إلى إحاطة الكرسي بالسماوات أعني السبع، فالعرش حينئذ يكون فوق

الكرسي، وعلى كل من هذين الاحتمالين شواهد من الاخبار، كما سيأتي في

بابه إن شاء الله تعالى، ولعل الاحتمال الأول هنا أنسب . لان المراد أن العرش

وغيره كلها داخلة تحت الكرسي وهو محيط بها، فلو كان عز شأنه فوق العرش

كما زعمته المشبهة، للزم أن يكون الكرسي محيطا به وبمكانه، فيكون محصورا،

وقام البرهان على أنه لا يحيط به شئ .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 48

1) لقوله تعالى وفي السماء رزقكم وما توعدون (1) فرفع الأيدي

طلب للأرزاق والرحمة والاحسان من معادنها .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 49

1) أي: انتظام العالم وإحكام صنعه واتقانه، كما مر في تقرير الاستدلال

بقوله تعالى لو كان فيهما آلهة الا الله لفسدتا (2) وأن فيه دليل التمانع .

2) أي: أوقع في وجداني وأفدني حقيقة كيفيته ومكانه لزعمه أنه سبحانه

متصف بهما .

3) أي: جعل الأين أينا، بناء على مجعولية المهيات، أو أوجد حقيقة

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 50

الأين . وكذا الكلام في الكيف، ومعنى جعل الماهيات أن الماهية لابد لها من

الايجاد اجماعا من الحكماء والمتكلمين، لكنها بعد الايجاد هل يحتاج في كونها

هي هي إلى جعل آخر أم يكفي في تحقق كونها تلك الماهية ذلك الجعل الأول، مثلا

لا بد لحقيقة الانسان من الايجاد، أما كون هذه الماهية مهية للانسان هل يحتاج

إلى ايجاد آخر أم يكفي في تحصلها ذلك الايجاد الأول ؟

ذهب طائفة من المتكلمين إلى الأول، وأكثر الحكماء إلى الثاني . وادعى

المحقق الدواني في الزوراء بداهته، وأنه لا يحتاج إلى جعل آخر، وظاهر الخبر

مشعر بمذهب المتكلمين .

1) أي: لا يعرف بأنه موصوف بكيفية وأين، لأنه تعالى إنما خلق الأين

والكيف لحاجة الخلق اليهما، فلو اتصف بهما كان دليلا على احتياجه اليهما

وهما غيره، والواجب لا يكون محتاجا إلى الغير .

2) لما كان الزنادقة لا يتعدون ما وراء الحس، وأنهم ممن غلب وهمه

على عقله (1) اقتصروا في الاستدلال على ما يدرك بالحواس . وأما من غلب

عقله على وهمه، فلا يستدل عليه تعالى الا بالعقل، ولا شك أن العقل يحكم

حكما قاطعا بأن من أدرك بالحواس لا يكون واجب الوجود، لكان التضاد بينهما

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 51

على ما سبق تقريره .

1) سؤال عن ابتداء وجوده، ولما كان مستلزما لسبق العدم عليه، أجاب عليه السلام

بقوله: متى لم يكن ؟

2) لعله أراد بالحجاب الجسماني، ويجوز أن يراد ما يشمل احتجابه تعالى عن

البصائر والعقول . وحاصل الجواب أنه سبحانه لم يحتجب عليه شئ، بل علمه

محيط بدقائق الأمور وعظيمها، فلا حجاب جسماني ولا عقلاني يحجبه تعالى

عن الاطلاع على خلائقه، وأما هم فحجابهم العقلاني المانع لهم عن الاطلاع

على حقائق جبروته والعلم بما علمه منه أهل حضرته ذنوبهم ومعاصيهم التي

كل واحد منها حجاب ظلماني يمنع من مشاهدة ما وراءه بعين العقل ودرك

الوهم . وأما الحجاب الجسماني، فلم يتعرض عليه السلام لنفيه لظهور بطلانه بما تقدم .

3) أي: إذا لم يكن له حجاب فلم لا يرى ؟ وحاصل الجواب أنه لو أدرك

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 52

بالبصر لكان كواحد من المخلوقات، لان رؤية البصر تستلزم الجهة والمكان

والوضع وتوسط الهواء، وغير ذلك من شرائطها، فلا يكون بين الرب والمربوب

مائز فارق .

1) دليل آخر على امتناع رؤيته، وهو عجز الابصار عن مشاهدته، كما

تقدم من أنه لا يمكن ابصار الشمس مع أن نورها جزء من نور العرش، فكيف

نطيق النظر إليه تعالى، تعالى عما يقوله الأشاعرة ومن قال بمقالتهم علوا كبيرا .

2) يجوز أن يراد منه الحد الجسماني، لما تقدم من أن الزنديق لا يتجاوز

المحسوسات . والجواب أن الحدود نهاية لشئ ذي مقدار، وهي تزيد وتنقص،

وما احتمل الزيادة والنقصان يكون مصنوعا لا صانعا . ويجوز أن يراد منه الحد

العقلي المركب من الجنس والفصل، وهو محتمل للزيادة، لان الحقيقة كالجنس

والفصل لها حقيقة أيضا، وذلك كالحيوان الناطق، فإنه حقيقة للانسان، وهو قابل

للزيادة، لان معنى الحيوان الجسم النامي الحساس المتحرك بالإرادة والجسم له

معنى آخر حتى ينتهي إلى البديهي، وما احتمل الزيادة احتمل النقصان، وهذا

من سمات الامكان .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 53

1) أي: السوداء . وكذلك الدجية، الا أنها أبلغ منها سوادا .

2) أي: قيل إنه لم يسلم، أو في الخبر تتمة تركنا ذكرها .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 54

1) المراد من الجبر الأشاعرة، لأنهم القائلون بالجبر وسلب الاختيار . وأما

القدر، فهو عبارة عن المعتزلة، لأنهم يقولون: لا تقدير له سبحانه في أفعال العباد،

فيكون المراد من القدرية المعتزلة . وقيل: هم الأشاعرة ولكل واحد من القولين

شاهد من الاخبار .

2) يعني: الحجر الأسود، أو البيت كله، فإنه من الأحجار .

3) هو بالضم الآجر .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 55

1) الخمرة: حصير من السعف، أو الورس، أو شئ من الطيب والرائحة

الطيبة، وهذا كناية عن تحصيل رجل يباحثه ويكون الزنديق هو الغالب .

2) وذلك لان حلق الرأس كان من سنن الأنبياء، فدرست آثاره هذه السنة

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 56

في زمن الفترة، وكان حلق الرأس عندهم من أقبح القبائح، ولما بعث صلى الله عليه وآله عليها السلام

أحيا سنة الأنبياء وأبطل ما أحياه الكافرون .

1) أي: نتركهم في العذاب، كما تركوا التأهب ليوم القيامة . وقيل: معناه

نحلهم في العذاب محل المنسي .

2) أي: تركوا طاعته فتركهم في النار وترك رحمتهم وإثابتهم . وقيل:

معناه جعلوا الله كالمنسي، حيث لم يتفكروا في أن لهم صانعا يثيبهم ويعاقبهم

ليمنعهم ذلك عن الكفر والافعال القبيحة، فجعلهم سبحانه في حكم المنسي عن

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 57

الثواب، وذكر ذلك لازدواج الكلام، لان النسيان لا يجوز عليه تعالى (4) .

1) أي ليس ممن ينسي ويخرج عن كونه عالما لأنه عالم لذاته، وتقديره: وما

نسيك يا محمد وان أخر الوحي عنك . وقيل: ما كان ربك ناسيا لاحد حتى لا

يبعثه يوم القيامة (5) .

وعلى هذا فما توهمه من التعارض بين هذه الآيات مندفع .

2) أي: يوم القيامة يقوم الروح، وهو ملك أعظم من جبرئيل وميكائيل .

وقوله (صفا) أي: مصطفين (لا يتكلمون الا من أذن له الرحمن) وهم المؤمنون

والملائكة (وقال صوابا) أي: شهد بالتوحيد في الدنيا . وقيل: إن الكلام هنا

الشفاعة، أي: لا يشفعون الا لمن أذن له الرحمن أن يشفع . وسئل الصادق عليه السلام

عن هذه الآية فقال: نحن والله المأذون لهم يوم القيامة والقائلون صوابا وذلك

الصواب حمد ربنا والصلاة على نبينا والشفاعة لشيعتنا فلا يردنا ربنا (6) .

3) الآية في سورة الأنعام هكذا: (ثم لم تكن فتنتهم الا أن قالوا والله ربنا ما

كنا مشركين) .

قال أمين الاسلام طاب ثراه: الفتنة الكفر، والمعنى لم يكن عاقبة كفرهم على

حذف المضاف، الا أنهم تبرؤا في الآخرة من الشرك لما سئلوا أين شركاؤكم

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 58

الذين كنتم تزعمون ؟ فيقال: كيف يجوز أن يكذبوا في الآخرة ويحلفوا على

الكذب، والدار ليست بدار تكليف، وكل الناس ملجؤون فيها إلى ترك القبيح

لمشاهدة الحقائق .

والجواب أن معناه ما كنا مشركين في الدنيا عند أنفسنا وفي اعتقادنا، وذلك

أن المشركين في الدنيا يعتقدون كونهم مصيبين، فيحلفون على هذا في الآخرة،

فعلى هذا يكون قولهم وحلفهم يقعان على وجه الصدق . وقيل: إنما يحلفون على

ذلك لزوال عقولهم لما يلحقهم من الدهشة عند مشاهدة تلك الأهوال، ثم ترجع

عقولهم فيقرون ويعترفون (3) .

1) أي: يتبرأ القادة من الاتباع (ويلعن بعضكم بعضا) أي: ويلعن القادة،

لأنهم زينوا لهم الكفر، وكل خلة تنقلب يوم القيامة عداوة الا خلة ما قال سبحانه

الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو الا المتقين (4) .

2) الآية: وقالوا ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار * اتخذناهم

سخريا أم زاغت عنهم الابصار * ان ذلك الآية .

روى العياشي باسناده عن جابر عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: ان أهل النار

يقولون ما لنا لا نرى رجالا [كنا نعدهم من الأشرار] (5) يعنونكم لا يرونكم

في النار، لا يرون والله واحدا منكم في النار .

اتخذناهم سخريا أن زاغت عنهم الابصار معناه أنهم يقولون لما لم يروهم

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 59

في النار اتخذناهم هزوا في الدنيا فأخطأنا أم عدلت عنهم أبصارنا فلا نراهم وهم

معنا في النار ان ذلك لحق أي: كائن لا محالة (تخاصم أهل النار) فيما قلناه،

أو فيما سبق في الآية السابقة من تخاصم الاتباع والقادة ولعن بعضهم بعضا (3) .

1) أي: لا يخاصم بعضكم بعضا عندي، وهو مخاصمة القادة والاتباع

المذكور في الآية السابقة (وقد قدمت إليكم بالوعيد) في دار التكليف فلم

تنزجروا وخالفتم أمري (4) .

2) المراد حقيقة الختم، فيوضع على أفواه الكفار يوم القيامة، فلا يقدرون على

الكلام والنطق، وتستنطق الأعضاء التي كانت لا تنطق في الدنيا فتشهد عليهم .

واختلف في كيفية شهادة الجوارح على وجوه، أحدها: أن الله تعالى يخلقها

خلقة تتمكن أن تتكلم وتنطق وتعترف بذنوبها . وثانيها: أن الله تعالى يجعل فيها

كلاما وإنما نسب الكلام إليها، لأنه لا يظهر الا من جهتها . وثالثها: أن معنى شهادتها

وكلامها أن الله تعالى يجعل فيها من الآيات ما يدل على أن أصحابها عصوا الله،

فسمى ذلك شهادة منها، وحاصله أنها تكون مشاهدة بلسان الحال (5) .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 60

1) الأول من النضارة والحسن . قال شيخنا الطبرسي طاب ثراه: اختلف فيه

على وجهين: أحدهما أن معناه نظر العين، والثاني أنه الانتظار، واختلف من حمله

على نظر العين على قولين: أحدهما أن المراد إلى ثواب ربها ناظرة، أي: هي ناظرة

إلى نعيم الجنة حالا بعد حال، فيزداد بذلك سرورها، فذكر الوجوه والمراد

أصحابها، والاخر أن النظر بمعنى الرؤية إليه تعالى معاينة، كما قاله الأشاعرة،

وهذا غير جائز، لان الرؤية تستلزم المكان والجهة والمقابلة، وهو تعالى منزه عنه .

وأما من حمل النظر على الانتظار، فقيل: معناه أنها منتظرة لثواب ربها، وهو

المروي عن أمير المؤمنين عليه السلام . وقيل: المعنى أنهم قطعوا آمالهم وأطماعهم عن

كل شئ سوى الله تعالى ورجوه دون غيره، فكنى سبحانه عن الطمع بالنظر (4) .

2) أي: لا تراه العيون وهو يحيط بها علما، أو المراد لا تدركه أهل الابصار

وهو يراها، ومعناه أنه يرى ولا يرى، وبهذا خالف جميع الموجودات، لان منها ما

يرى ويرى كالاحياء، ومنها ما يرى ولا يرى كالجمادات والاعراض المدركة،

ومنها ما لا يرى ولا يرى كالاعراض غير المدركة، وتمدح سبحانه في الآية

بمجموع الامرين، كما تمدح بقوله (وهو يطعم ولا يطعم) (5) .

3) يعني: انه صلى الله عليه وآله رأى في المعراج عظمة ربه مرة أخرى عند سدرة المنتهى،

المرة الأولى في الذهاب، والثانية في الاياب . وقيل: المراد أنه صلى الله عليه وآله رأى ليلة

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 61

المعراج جبرئيل عليه السلام مرتين فغشي عليه (4) . وقد سبق الكلام فيه .

1) أي: لا تنفع ذلك اليوم شفاعة أحد في غيره الا شفاعة من أذن له في أن

يشفع ورضي قوله فيها من الأنبياء والأولياء . (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم)

الضمير يرجع إلى الذين اتبعوا الداعي، أي: يعلم سبحانه منهم جميع أقوالهم

وأفعالهم قبل أن خلقهم وبعد أن خلقهم، وما كان في حياتهم وبعد مماتهم، لا

يخفى عليه شئ من أمورهم تقدم وتأخر . وقيل: يعلم ما بين أيديهم من أحوال

الآخرة وما خلفهم من أحوال الدنيا (ولا يحيطون به علما) أي: لا يدركونه

بشئ من الحواس حتى يحيط علمهم به (5) .

2) أي: ما كان لبشر أن يكلمه الله مشافهة، بل كلامه تعالى للبشر من رسله: إما

بالوحي أي الالهام، أو من وراء حجاب كما كلم موسى عليه السلام، أو بأن يرسل رسولا

يعني جبرئيل عليه السلام كما أرسله إلى النبي صلى الله عليه وآله (6) .

3) أي: أنه سبحانه كلم موسى عليه السلام بلا واسطة إبانة له بذلك من سائر الأنبياء عليهم السلام، لان

جميعهم كلمهم الله سبحانه بواسطة الوحي . قيل: وإنما قال وتكليما ليعلم أن كلام

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 62

الله عز ذكره من جنس هذا القول المشتق من التكليف بخلاف ما قاله المبطلون (6) .

1) يعني: أنه سبحانه نادى آدم وحواء عليهما السلام قائلا هذا القول .

2) نزلت في غدير خم، أي: بلغ ما انزل إليك في علي . وفي الخبر: أنها هكذا

نزلت، فقام خطيبا وقال: من كنت مولاه فهذا علي مولاه . الحديث .

3) أي: مثلا وشبيها عن ابن عباس . وقيل: هل تعلم أحدا يستحق أن يسمي

إلها الا هو . وقيل: هل تعلم أحدا يسمى خالقا رازقا محييا مميتا قادرا على الثواب

والعقاب سواه حتى تعبده، فإذا لم تعلم ذلك فألزم عبادته، وهذا استفهام بمعنى

النفي، أي لا تعلم من يسمى بلفظة الله (7) .

4) أي: ما يغيب عن علم ربك ورؤيته وقدرته من مثقال ذرة، أي: وزن نملة

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 63

صغيرة في الأرض ولا في السماء .

1) قوله (ولا ينظر إليهم) أي: لا يعطف عليهم ولا يرحمهم (ولا يزكيهم)

أي: لا يطهرهم من دنس الذنوب والأوزار بالمغفرة بل يعاقبهم .

2) أي: الذين وصفهم بالكفر والفجور محجوبون عن كرامة ربهم، ممنوعون

عن ايصال الثواب إليهم .

3) أي: أمنتم عذاب من في السماء سلطانه وأمره ونهيه وتدبيره، لاستحالة

المكان عليه تعالى . وقيل: يعني بقوله (من في السماء) الملك الموكل

بعذاب العصاة أن يخسف بكم الأرض فيغيبكم فيها إذا عصيتموه (فإذا هي تمور)

أي: تضطرب وتتحرك، والمعنى أنه سبحانه يحرك الأرض عند الخسف بهم حتى

تضطرب فوقهم وهم يخسفون فيها حتى تلقيهم إلى السفل، والمور التردد في

الذهاب والمجئ مثل الموج (5) .

4) أي: استولى وقدر لا كما يقوله المشبهة جل ربنا عما يقولون .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 64

1) الخطاب: إما أن يكون لجميع المخلوقات، أو لبني آدم، فعلى الأول يكون

معناه الله يعلم في السماوات وفي الأرض سركم وجهركم، وعلى الثاني يكون

حاصله أن المعبود في السماوات وفي الأرض والمتفرد بتدبيرهما يعلم سركم

وجهركم .

2) الظاهر أي: الغالب العالي، أو الظاهر بشواهد توحيده . الباطن العالم

بالبواطن، أو الباطن من احساس خلفه، وهو معكم في الإحاطة بكم علما وقدرة

وتدبيرا، لا كما يقوله أبو سفيان بعد اسلامه وقبله كان إذا تناول دين الاسلام

بالنقص عليه يقول: لا ترفعوا أصواتكم فيسمعكم رب محمد ويحكي له ما تقولون .

3) أي: أن قدرتنا وعلمنا محيط به أقرب من عرق وريده إليه، كناية عن القرب .

4) أي: جاء أمره وقضاؤه . وقيل: جاء أمره الذي لا أمر معه بخلاف حال

الدنيا . وقال بعض المحققين: وجاء ظهور ربك لضرورة المعرفة، أي: زالت الشبهة

وارتفع الشك (والملائكة) أي: ويجئ الملائكة (صفا صفا) يريد صفوف

الملائكة وأهل كل سماء صف على حدة . وقال الضحاك: أهل كل سماء إذا زلزلوا

يوم القيامة كانوا صفا محيطين بالأرض وبمن فيها، فيكون سبع صفوف، فذلك قوله

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 65

(صفا صفا) وقيل: معناه مصففين كصفوف الناس في الصلاة يأتي الصف الأول، ثم

الصف الثاني، ثم الثالث على هذا الترتيب، لان ذلك أشبه بحال الاستواء (3) .

1) من كلام الله تعالى يخاطب به عباده: إما عند الموت، أو عند البعث

(فرادى) أي: وحدانا لا مال لكم ولا ولد ولا حشم: وقيل: واحدا واحدا على

حدة . وقيل: كل واحد منهم منفرد من شريكه في الغي (كما خلقناكم أول مرة) أي:

كما خلقناكم في بطون أمهاتكم، فلا ناصر لكم ولا معين . وقيل: معناه ما يروى عن

النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: يحشرون حفاة عراة غرلا (4) .

2) أي: هل ينتظر هؤلاء المكذبون بآيات الله الا أن يأتيهم أمر الله، أي: عذابه

يوم القيامة في قطع من السحاب وملائكة العذاب تجيئهم أيضا (5) .

3) أي: هل ينتظر الكفار الا أن تأتيهم الملائكة لقبض أرواحهم . أو لنزول

العذاب والخسف بهم . وقيل: المراد عذاب القبر (أو يأتي ربك) أي: أمر ربك

بالعذاب، أو بالامر فيهم بالقتل أو بهلاكهم بعذاب عاجل أو آجل، أو في القيامة،

(أو يأتي بعض آيات ربك) كخروج الدابة، أو طلوع الشمس من مغربها، فهذا

اليوم لا ينفع الايمان ان لم يكن قبل انسداد باب التوبة حينئذ بظهور آيات القيامة،

أو كسبت في ايمانها خيرا بفعل الطاعات (6) . وسيأتي تحقيق الكلام في هذه

الآية بعيد هذا .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 66

1) أي: هؤلاء المكذبون بالحشر يكذبون بلقاء ربهم، أي: ما وعد ربهم من

الثواب والعقاب (كافرون) أي: جاحدون .

2) الظن هنا كما قال المفسرون بمعنى العلم واليقين من باب قول الألمعي:

الذي يظن بك الظن * كأن قد رأى وقد سمعا

أي: يوقنون أنهم ملاقوا ربهم بذنوبهم فيخافون منها . وأما حقيقة الرجوع هنا

مع أنهم لم يكونوا في الآخرة حتى يرجعوا إليها، فمعناه أنهم يرجعون إلى موضع

لا يملك لهم أحد ضرا ولا نفعا غيره تعالى، كما كانوا في بدء الخلق، لأنهم في أيام

حياتهم قد يملك غيرهم الحكم عليهم والتدبير لنفعهم وضرهم (5) .

3) أي: تحية المؤمنين بعضهم بعضا يوم يلقون ثواب ربهم سلام، يعني به أنهم

يقولون: السلامة لكم من جميع الآفات . وقيل: يوم يلقون ملك الموت لا يقبض روح

مؤمن الا سلم عليه، والمعنى تحيتهم من ملك الموت يوم يلقونه أن يسلم عليهم (6) .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 67

1) أي: من كان يأمل ثواب الله فليعمل صالحا، فان أجل الله، أي: الوقت

الذي وقته الله للثواب والعقاب لجاء لا محالة .

2) أي ثواب ربه .

3) أي: لما رأى الكافرون أو أهل الكبائر النار تتلظى حنقا عليهم، تيقنوا أنهم

داخلون فيها، واقعون في عذابها .

4) أي: يتمم الله لهم جزاءهم الحق، فالدين هنا بمعنى الجزاء، ويجوز أن

يكون المراد جزاء دينهم الحق، فحذف المضاف (ويعلمون أن الله هو الحق) أي:

يعلمون الله ضرورة في ذلك اليوم ويقرون أنه الحق، لأنه يقضي بالحق، ويعطي

بالحق، ويأخذ بالحق (6) .

5) أي: يظن المسلمون الظنون المختلفة، فظن بعضهم النصر وبعضهم عدمه .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 68

1) أي: يقبض أرواحكم ملك الموت، وخطوته ما بين المشرق والمغرب .

وقيل: أن له أعوانا كثيرة من ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فعلى هذا المراد

بملك الموت الجنس، ويدل عليه قوله (توفته رسلنا) وقوله (تتوفاهم) وأما

إضافة التوفي إلى نفسه في قوله (يتوفى الأنفس حين موتها) فلانه سبحانه خلق

الموت، ولا يقدر عليه أحد سواه، كذا في مجمع البيان (9) .

2) أي: يقبضها إليه وقت موتها وانقضاء آجالها .

3) أي: لا يتأتون في قبض روحه عند حضور أجله .

4) أي: طيبي الاعمال طاهري القلوب من دنس الشرك . وقيل: معناه طيبة

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 69

نفوسهم بالمصير إليه لعلمهم بمالهم عنده من الثواب . وقيل: بطيب وفاتهم فلا تكون

صعوبة لهم، والملائكة يقول لهم: سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون (2) .

1) أي: في حال ظلمهم لأنفسهم بفعل المعاصي، أو ترك الهجرة عن دار

المعاصي ومجالس الذنوب، لان تمام الآية: (قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين

في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها) .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 70

1) إشارة إلى قوله تعالى تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقدار

خمسين ألف سنة (1) وهو أحد الأقوال، بأن يكون المراد تقدير يوم القيامة، ولا

ينافيه قوله عز شأنه في سورة السجدة (ألف سنة) لأنه يجوز أن يكون منزلا على

أحوال الناس يوم القيامة، أو يكون الألف إشارة إلى موقف من مواقف القيامة،

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 71

فإنها خمسون موقفا .

وروى أبو سعيد الخدري قال: قيل: يا رسول الله ما أطول هذا اليوم ؟ فقال:

والذي نفس محمد بيده أنه ليخف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة

مكتوبة يصليها في الدنيا .

وروي عن الصادق عليه السلام أنه قال: لو ولي الحساب غير الله لمكثوا فيه خمسين

ألف سنة من قبل أن يفرغوا، والله سبحانه يفرغ من ذلك في ساعة . وهو إشارة إلى

وجه آخر للجمع بين الآيات (3) .

وذكر جماعة من المفسرين أن المراد منه تقدير مسافة العروج من أسفل

الأرضين إلى أعلى شرفات العرش، والمعنى أن الآدميين لو احتاجوا إلى قطع هذا

المقدار الذي قطعته الملائكة في يوم واحد لقطعوه في هذه المدة، أعني: خمسين

ألف سنة . وأما الألف فهو تقدير مسافة ما بين الأرض والسماء الأولى صعودا

وهبوطا، أو من الأرض إلى مقعر سماء الدنيا، فإنها ألف سنة، خمسمائة من

الأرض إليها وعرضها خمسمائة أخرى .

1) قال أمين الاسلام الطبرسي رحمه الله: (إني كفرت بما أشركتمون) أي: بالله،

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 72

ويعني بقوله (من قبل) في وقت آدم عليه السلام حين أمر بالسجود فأبى واستكبر (4) .

1) قال الطبرسي رحمه الله: أي كيف حال الأمم ؟ وكيف يصنعون إذا جئنا من كل

أمة من الأمم بشهيد، وجئنا بك يا محمد على هؤلاء - يعني: قومه - شهيدا، وهذا

كما يقول العرب للرجل في الامر الهائل يتوقعه كيف بك إذا كان كذا ؟ يريد بذلك

تعظيم الامر وتهويله وحثه على الاستعداد .

ومعنى الآية: ان الله يستشهد يوم القيامة كل نبي على أمة، فيشهد لهم وعليهم،

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 73

ويستشهد نبينا صلى الله عليه وآله على أمته .

وفي الآية مبالغة على الحث والطاعة واجتناب المعصية والزجر عن كل ما

يستحي منه على رؤوس الاشهاد، لأنه يشهد للانسان، وعليه يوم القيامة شهود

عدول لا يتوقف في الحكم بشهادتهم . وقال عبد الله بن مسعود: قرأت هذه الآية

على رسول صلى الله عليه وآله ففاضت عيناه لهول هذه المقالة، فإذا كان هذا حال الشاهد

فكيف حال المشهود ؟ (2)

1) عسى من الله موجبة، والمقام بمعنى البعث، فهو مصدر من غير جنسه، أي:

يبعثك يوم القيامة بعثا أن محمود فيه، ويجوز أن يجعل البعث بمعنى الإقامة، أي:

يقيمك ربك مقاما محمودا، وهو مقام الشفاعة تشرف فيه على جميع الخلائق،

تشفع فيه للناس، وهو المقام الذي يعطى فيه لواء الحمد فيوضع في كفه، وتجتمع

تحته الأنبياء والملائكة، فيكون صلى الله عليه وآله أول شافع وأول مشفع (3) .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 74

1) هذا إما محمول على التقية إما في النقل أو في الفتوى، أو يكون المراد من

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 75

رؤية الآخرة الانكشاف التام الذي لم يحصل في الدنيا .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 76

1) قوله (وليس بكائن) تأكيد للنفي السابق، وهو قوله (ما ينبغي لبشر أن

يكلمه الله) وليس بكائن كلام الله معه الا وحيا أو من وراء حجاب .

2) المراد من رسل الأرض جبرئيل عليه السلام ونحوه، وبرسل السماء إسرافيل

والروحانيون ممن لا ينزل إلى الأرض لتبليغ الرسالة .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 78

1) قال ابن عباس: معناه: مهاجر إلى ربي، أي: أهجر ديار الكفار وأذهب

إلى حيث أمرني الله تعالى بعملي ونيتي (سيهدين) أي: يهديني بعملي إلى طريق

الجنة (3) .

2) أي: أنشأناه وأحدثناه . وقال قطرب: أي أنعمنا به . وقيل: انزل مع آدم من

الحديد السندان والكلبتان والمطرقة (فيه بأس شديد) أي يمتنع به ويحارب به، والمعنى

أنه يتخذ منه آلتان: آلة للدفع، وآلة للضرب، كما قال مجاهد فيه جنة وسلاح (4) .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 79

وكون التأويل هنا خلاف التنزيل، لعل الوجه فيه أن معنى البأس لغة بل

وعرفا أيضا العذاب، من باب (بأسهم بينهم شديد) (3) فهذا تنزيله . وأما التأويل،

فالمراد منه آلة النفع .

1) قد استفاض في الروايات أن طلوع الشمس من مغربها من علامات ظهور

صاحب الدار عليه السلام، والمراد أن من شاهد عذاب البرزخ، ثم رجع بعد ظهوره عليه السلام

لم يقبل له توبة وايمان لأنه قد اضطرب إليه وأما من عمته الدعوة في حياته فهو

ممن يقبل ايمانه، لأنه عليه السلام إنما يظهر لادخال الناس في الدين .

والحجى والنهى: العقل .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 81

1) أي: نضع الموازين ذوات القسط ليوم القيامة . وقيل: معناه نحضر الموازين

التي لا جور فيها، بل كلها عدل وقسط لأهل يوم القيامة، أو في يوم القيامة (1) .

وقد قيل في كيفية الوزن والميزان أقوال ذكرها ثقة الاسلام الطبرسي رحمه الله:

أحدها: أن الوزن عبارة عن العدل في الآخرة، وانه لا ظلم فيها على أحد .

وثانيها: أنه تعالى ينصب ميزانا له كفتان ولسان يوم القيامة، فتوزن به أعمال

العباد الحسنات والسيئات . وأما الوزن، فقيل: أن الاعمال أعراض لا يجوز عليها

الإعادة، ولا يكون لها وزن، ولا يقوم بأنفسها، فقيل: توزن صحائف الاعمال .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 82

وقيل: تظهر علامات الحسنات وعلامات السيئات في الكفتين فيراها الناس .

وقيل: تظهر للحسنات صورة حسنة، وللسيئات صورة سيئة . وقيل: يوزن نفس

المؤمن والكافر، حتى أن الرجل العظيم الجثة لا يزن جناح بعوضة .

وثالثها: أن المراد بالوزن ظهور مقدار المؤمن في العظم ومقدار الكافر في

الذلة، ثم قال: وأحسن الأقوال القول الأول وبعده الثاني (1) .

1) أي: لا قيمة لهم ولا كرامة عندنا، ولا نعتد بهم بل نستخف بهم ونعاقبهم،

يقول العرب: ما لفلان عندنا وزن أي قدر ومنزلة، وهذه الآية خاصة بأهل الكتاب .

2) أي: زيادة على ما يستحقونه تفضلا منه تعالى، ولو كان على مقدار

العمل فقط لكان بحساب .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 83

1) هذا دليل التمانع، وقد مر تقريره .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 84

1) قال صاحب كتاب الملل والنحل: اختلف المانوية في المزاج وسببه،

والخلاص وسببه، قال بعضهم: أن النور والظلام امتزجا بالخبط والاتفاق، لا

بالقصد والاختيار، وقال أكثرهم: أن سبب الامتزاج أن أبدان الظلمة تشاغلت عن

روحها بعض التشاعل، فنظرت الروح فرأت (1) الأبدان على ممازجة النور،

فأجابتها لاسراعها إلى الشر، فلما رأى ذلك ملك النور وجه إليها ملكا من

ملائكته في خمسة أجزاء (2) من أجناسها الخمسة، فاختلطت الخمسة النورية

بالخمس الظلامية، فخالط الدخان النسيم، وإنما الحياة والروح في هذا العالم من

النسيم، والهلاك والآفات من الدخان، وخالط الحريق النار، والنور الظلمة،

والسموم الريح، والضباب الماء، فما في العالم من منفعة وخير وبركة فمن

أجناس النور، وما فيه من مضرة وشر وفساد فمن أجناس الظلمة .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 85

فلما رأى ملك النور هذا الامتزاج أمر ملكا من ملائكته، فخلق هذا العالم

على هذه الهيئة لتخلص أجناس النور من أجناس الظلمة، وإنما سارت الشمس

والنجوم والقمر لاستصفاء أجزاء النور من أجزاء الظلمة .

وقالوا: ان أجناس النور خمسة، أربعة منها أبدان والخامسة روحها، فالأبدان:

النار، والريح، والنور، والماء، وروحها النسيم . وللظلمة خمسة أجناس، أربعة منها

أبدان، والخامسة روحها، فالأبدان هي: الحريق، والظلمة، والسموم، والضباب،

وروحها الدخان، وهو يتحرك في هذه الأبدان . ثم إنهم أطالوا الكلام في تفاصيل

هذه الخرافات، وقد قدمنا طرفا منها فارجع إليها (1) .

1) ذهب المجوس إلى أن فاعل الخير هو يزدان، وفاعل الشر هو أهرمن

ويعنون به الشيطان .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 86

باب الرد على الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة

وما من إله إلا إله واحد

1) في القاموس: الجاثليق بفتح الثاء المثلثة، رئيس النصارى في بلاد

الاسلام بمدينة السلام، ويكون تحت يد بطريق أنطاكية، ثم المطران تحت يده،

ثم الأسقف يكون في كل بلد من تحت المطران، ثم القسيس، ثم الشماس (1) .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 87

1) محلة ببغداد .

2) مأخوذ إما من الخمص بمعنى الجوع، أي: مرتاض بالجوع لأجل تصفية

القلب، أو من خمص الجرح سكن ورمه أي: ساكنة مطمئنة .

3) وفي بعض النسخ: فهاهين، أي: فها هو هين لا كلفة فيه ولا مشقة .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 88

1) يعني إذا نسبت المسيح إلى أبيه وهو الله تعالى بزعمهم كيف تنسبه .

2) على طريق المعارضة، يعني: زعمت أنهما قديما ويجوز النزول إلى

الأرض لتدبير مصالحها على كل من الأب والابن، فلم لا يجوز أن يكون الذي

نزل الأرض الأب، لأنه أحق بالتدبير والاستقلال من الابن ؟

3) يعني أن العقل حاكم بمغايرة الاثنين ولم يجوز الاتحاد بينهما إلا بالاسم،

كالإله والقديم والخالق ونحوهما مما تزعمه أنت، وقيل: معناه: أنه لا يعقل

اتحادهما إلا باتحاد أسميهما، واختلاف الاسم في الأبوة والبنوة دليل على

تغاير المسميات .

4) أي: مجهول عند العقلاء .

5) أي: معروف عند العقلاء موجه عندهم، والعرف ضد النكر، وفيه من فعل

كذا لم يجد عرف الجنة، أي: ريحها الطيبة، والعرف الريح .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 89

1) أي: متحد معه .

2) يعني أنه صادر منه وكالجزء منه، فهو منفصل عنه لا متحد به .

3) لأنهم يقولون: إن الابن متصل بالأب مرتبط به، فعقل بريهة من هذا . إرادة

الاتحاد الحقيقي .

4) عارضه هشام بأنك استندت إلى شهادة الناس، فنقول في مقام المعارضة:

لو كان شهادة الناس حجه لزم الحكم بعدم اتحاد الابن والأب، لأنهم يشهدون أن

وجود الأب متقدم على وجود الابن زمانا .

5) أي: حصل هذان الاسمان بقدرة القديم .

6) استدل هشام على بطلان الاتحاد بمنبهات، فسأله عن محدث الأسماء، ثم

قال: إن قلت: إن المحدث هو الابن دون الأب فالحكم بالاتحاد يقتضي أن يكون

الأب أيضا محدثا، وهو خلاف الفرض، وكذا العكس، فأراد التفصي عن ذلك

فقال: الروح لما نزلت إلى الأرض سميت بالابن، ثم ندم على ذلك ورجع،

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 90

وقال: قبل النزول أيضا كانت ابنا، وقيل: مراده أنها من حيث النزول والاتصال

بالبدن سميت ابنا، فسبب التسمية حادث والتسمية قديم .

1) لما كان كلام بريهة متهافتا متناقضا كما قيل، وجهه هشام بأن يكون

بعضه مسمى بالابن وبعضه مسمى بالأب، فلم يرض بريهة بذلك وحكم باتحاد

الاسمين أيضا كاتحاد المسمين .

وقيل: يجوز أن يكون مراده بالاسم هاهنا المسمى، فقال هشام: الابن أمر

إضافي لا بد له من أب، والحكم بالاتحاد يقتضي أن يكون الابن أبا للأب، والحال

أن الأب لا بد أن يكون أبا لابن، فكيف يكون الأب والابن واحدا ؟

2) استفهام على سبيل الانكار .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 91

1) حاصل الكلام كما قيل: إن الحكم بأن أحدهما ابن والاخر أب يقتضي

فرقا بينهما حتى يحكم على أحدهما بالأبوة التي هي أقوى وفيها جهة العلية،

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 92

وعلى الآخر بالبنوة التي هي أضعف وفيها جهة المعلولية، فإذا حكمت بأنهما

متساويان من جميع الجهات لا يتأتى هذا الحكم، وأما الظلم فهو من جهة أن

الأبوة شرافه وبحكم الاتحاد يتصف الابن بالأبوة، وهذا ظلم للأب وكذا العكس،

والحكم بالظلم من الطرفين أيضا مبني على الاتحاد، وجوز أن يكون المراد

غصب ما هو حق له، سواء كان أشرف أم لا .

1) الشطط: المسرف في ظلم النفس والخروج عن الحق، وقيل: الشطط القول

البعيد عن الحق وهو الكذب، والمعنى: أنه لا يتجرى أحد أن يسأله الشطط والظلم

في عدوه، وفي بعض النسخ: ولا يسلك شططا في عدوه وهو الظاهر .

2) التأنيب: اللوم والتعيير .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 94

باب ذكر عظمة الله جل جلاله

1) أي: أقرب إلى التقوى .

2) الفلاة: المفازة، والقي بالكسر والتشديد فعل من ألقوا وهي الأرض القفر

الخالية .

واعلم أن في هذا الحديث دلالة على أن تعدد الأرض باعتبار أن بعضها

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 95

طبقات بعضها فوق بعض، وفي كثير من الاخبار دلالة عليه، وذهب طائفة إلى

أنها طبقة واحدة، وحملوا التعدد على إرادة الأقاليم السبعة، ومنهم من

جعلها باعتبار ثلاثة طبقات الأرض الصرفة البسيطة، والطينية، والظاهرة التي هي

وجه الأرض، وهي مع كرة الماء كرة واحدة، وثلاث كراة الهوى وكرة النار إلى

غير ذلك من الأقوال، ومبني هذه الوجوه على أن المراد بالأرض غير السماوات،

ولا يخفى بعده .

وورد في الحديث وجه آخر عن الرضا عليه السلام، رواه علي بن إبراهيم عن أبيه

عن الحسين بن خالد عن الرضا عليه السلام، قال: قلت له: أخبرني عن قول الله:

والسماء ذات الحبك (1) فقال: هي محبوكة إلى الأرض وشبك بين أصابعه

فقلت: كيف تكون محبوكة إلى الأرض والله يقول رفع السماوات بغير عمد

ترونها ؟ فقال: سبحان الله، أليس يقول (بغير عمد ترونها) ؟ قلت: بلى، قال: فثم

عمد ولكن لا ترونها، قلت: كيف ذلك جعلني الله فداك ؟ .

قال: فبسط كفه اليسرى، ثم وضع اليمنى عليها فقال: هذه أرض الدنيا، وسماء

الدنيا عليها، فوقها قبة، والأرض الثانية فوق سماء الدنيا، والسماء الثانية فوقها

قبة، والأرض الثالثة فوق السماء الثانية، والسماء الثالثة فوقها قبة، والأرض

الرابعة فوق السماء الثالثة، والسماء الرابعة فوقها قبة، والأرض الخامسة فوق

السماء الرابعة، والسماء الخامسة فوقها قبة، والأرض السادسة فوق السماء

الخامسة، والسماء السادسة فوقها قبة، والأرض السابعة فوق السماء السادسة،

والسماء السابعة فوقها قبة، وعرش الرحمن تبارك وتعالى فوق السماء السابعة،

وهو قول الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الامر بينهن .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 96

فأما صاحب الامر، فهو رسول الله صلى الله عليه وآله والوصي بعد رسول الله صلى الله عليه وآله قائم

هو على وجه الأرض، فإنما يتنزل الامر إليه من فوق السماء من بين السماوات

والأرضين . قلت: فما تحتنا إلا أرض واحدة وإن الست لهن فوقنا (2) .

قيل: ويجوز أن يكون المعنيان معا داخلين تحت الآية باعتبار البطون

المختلفة التي تكون في كل واحدة من الآيات .

1) يعني: أنه سبحانه مالك ما في السماوات والأرض وما بينهما، يعني الهوى،

وأما الثرى، فقال ثقة الاسلام الطبرسي رحمه الله: المراد منه التراب الندى، يعني ما وارى

الثرى من كل شئ، وقيل: يعني ما في ضمن الأرض من الكنوز والأموات (3) .

2) مثل قوله عليه السلام في موضع آخر: فإذا بلغ الثرى، فعند ذلك انقطع علم

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 97

العلماء . المراد والله أعلم أن العلماء وهم الأئمة صلوات الله عليهم لم يؤمروا

بإظهار ما تحت الثرى، كما لم يؤمروا بتبليغ ما فوق العرش، ومن ثم كان أمير

المؤمنين عليه السلام يقول: سلوني عما تحت العرش .

1) أي: المكفوف على أهل الأرض بأن لا يسقط ماؤه إليهم، أو لا ينظروا إليه .

2) صريح في أن من جملة ما في السماء جبال البرد، وهو أحد الأقوال في

معنى الآية، وقيل: يجوز أن يكون البرد يجتمع في السحاب كالجبال ثم ينزل

منها، وقيل: معناه وينزل من السماء مقدار جبال من برد (3) .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 98

1) يعني أن العرش لما كان فوق السماوات والكرسي لم يكن فوقه شئ،

بل الذي فوقه بالاستيلاء هو الرحمن عز شأنه .

2) أي: أفعجزنا حين خلقناهم أولا ولم يكونوا شيئا ؟ فكيف نعجزهم عن

بعثهم وإعادتهم ؟ وهذا تقرير لهم، لأنهم اعترفوا بأن الله هو الخالق، ثم أنكروا

البعث، ثم ذكر أنهم في شك من البعث بعد الموت، فقال: بل هم في لبس من خلق

جديد، أي: بل هم في ضلال وشك من إعادة الخلق جديدا، واللبس كالستر

المانع من الادراك، وهذا هو تفسير الآية، وما قاله عليه السلام تأويلها .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 99

1) الحجزة: معقد الإزار، وهو الوسط، هذا .

واعلم أن الكل اتفقوا على أن الملائكة ليس عبارة عن أشخاص جسمانية

كثيفة تجئ وتذهب كالناس والبهائم، بل القول المحصل فيها قولان:

الأول: قول المتكلمين: إنها أجسام نورانية الهيئة خيره سعيدة قادرة على

التصرفات الشريفة والافعال الشاقة، ذوات عقول وأفهام، وبعضها عند الله أقرب

من بعض .

الثاني: قول غيرهم، وهي أنها ليست بأجسام لكن منها ما هو مجرد عن

الجسمية وعن تدبير الأجسام، ومنها من له الأمر الأول دون الثاني، ومنها: من

ليس بمجرد، بل جسماني حال في الأجسام وقائم بها، وهذا قول جمهور

الحكماء وطائفة من أهل الملل والأديان .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 100

قال كمال الدين ميثم رحمه الله: فإن قلت: إذا كان الملائكة المقربون منزهين عن

تدبير الأجسام والتعلق بها، فكيف يستقيم أن يكونوا من سكان السماوات ؟

قلت: إن علاقة الشئ بالشئ وإضافته إليه يكفي فيها أدنى مناسبة بينهما،

والمناسبة بين الاجرام السماوية وبين هذا الطور من الملائكة مناسبة العلة

للمعلول أو الشرط للمشروط، فكما جاز أن ينسب الباري جل جلاله إلى

الاختصاص بالعرش والاستواء عليه، جاز أن ينسب الملائكة المقربون إلى

الكون في السماوات بالطريق الأولى، وإن تنزهوا عن الأجسام وتدبيرها، لان

عليا عليه السلام قاصد قصد الرسول صلى الله عليه وآله .

وأما ما ذكر لهم من الأوصاف، مثل قوله عليه السلام (منهم سجود لا يركعون

وركوع لا ينتصبون وصافون لا يتزايلون ومسبحون لا يسامون) ونحو ذلك مما

يعد في أوصافهم، فذكروا له ضربا من التأويل، وهو أن يكون إشارة إلى تفاوت

مراتبهم في العبادة والخضوع، لان السجود والركوع والصف وتسبيح عبادات

متعارفة بين الخلق ومتفاوتة في استلزام كمال الخضوع، ولا يمكن حملها على

ظواهرها المفهومة منها، لان وضع الجبهة على الأرض وانحناء الظهر ونحوه

أمور مبنية على وجود هذه الآلات التي هي خاصة ببعض الحيوانات .

فبالحري أن يحمل تفاوت المراتب المذكورة لهم على تفاوت كمالاتهم في

الخضوع والخشوع لكبرياء الله تعالى وعظمته إطلاقا للملزوم على اللازم، على أن

السجود في اللغة هو الانقياد والخضوع، فيحتمل أن يكون قوله عليه السلام (منهم

سجود) إشارة إلى مرتبة الملائكة المقربين، لان درجاتهم أكمل درجات

الملائكة، فيكون نسبة خضوعهم إلى خضوع من دونهم كنسبة خضوع السجود

إلى خضوع الركوع .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 101

وأما سلب الركوع عن الساجدين وسلب الانتصاب عن الراكعين ونحو

ذلك، فإشارة إلى كمال مراتبهم المعينة كل بالنسبة إلى من هو دونه وتأكيد لها

بعدم النقصانات اللاحقة، فإن الركوع وإن كان عبادة إلا أنه نقصان بالنسبة إلى

السجود، والانتصاب نقصان في درجة الراكع بالنسبة إلى ركوعه، وكذلك

التزائل نقصان عن مرتبة الصف ونقص فيها وهكذا (1)، انتهى ملخصا .

وهو تأويل قد وقع في مقابلة الأحاديث متواترة وإجماع علمائنا ونحوهم،

فلا يلتفت إليه .

1) قال كمال الدين لما ذهب إلى تجرد الملائكة: إن اختلاف صورهم كناية

عن اختلافهم بالحقائق وتفاوت أقدارهم تفاوت مراتبهم في الكمال والقرب

منه، ولفظ الأجنحة مستعار لقواهم التي حصلوا بها على المعارف الإلهية

وتفاوتها بالزيادة والنقصان كما قال تعالى: اولي أجنحة مثنى وثلاث

ورباع (2) كناية عن تفاوت إدراكهم لجلال الله وعلومهم بما ينبغي له، ولذلك

جعل الأجنحة هي التي تسبح جلال عزته .

وأما ثبوت الاقدام والأرجل لهم، فهو استعارة لعلومهم المحيطة بأقطار

الأرض السفلى ونهاياته والسماوات وحدودها، ووجه المشابهة كون العلوم

قاطعة للمعلوم وسارية فيه وواصلة إلى نهايته، كما أن الاقدام يقطع الطريق وتصل

إلى الغاية منها

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 103

أقول: هذا التأويل أيضا كالأول .

1) في حديث المعراج: فقلت: من هذا يا جبرئيل ؟ فقال: هذا ملك وكله

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 104

الله بأكناف السماء وأطراف الأرضين، وهو أنصح ملائكة الله لأهل الأرض من

عباده المؤمنين يدعو لهم بما تسمع منذ خلق (1) .

1) ذهب قدماء المعتزلة إلى أنه لا يجوز أن يعصي أحد من الملائكة، وقال

قوم: إنهم لا يعصون الله ولا يجوز أن يعصوا، لأنهم غير مخلوقين على الشهوة

والغضب، فلا داعي لهم إلى المعصية، والفاعل لا يفعل إلا بداع إلى الفعل، وقال

قوم: إنهم لا يعصون، لأنهم يشاهدون من عجائب صنع الله وآثار هيبته ما

يبهرهم عن فعل المعصية والقصد إليها، ولذلك قال تعالى: وهم من خشيته

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 105

مشفقون (2) وقال قوم: إنما لم يجز أن يعصوا لان الله تعالى أخبر عنهم أنهم لا

يعصون .

قيل: ولا ينكر مع ذلك أن منهم من يتغير حاله ويتبدل حالة أخرى، فيعصى

على ما ورد من خبر ملكين ببابل .

وقال جماعة من المعتزلة: إن المعصية تجوز عليهم كما تجوز علينا، إلا أن الله

تعالى علم أن لهم ألطافا يمتنعون معها من القبيح بفعلها، فامتنعوا من فعل القبيح

اختيارا، فكانت حالهم كحال الأنبياء من البشر يقدرون على المعصية ولا

يفعلونها اختيارا من أنفسهم باعتبار الألطاف المفعولة لهم، وإلى هذا القول ذهب

أرباب الحديث من أصحابنا المتأخرين .

1) قال ثقة الاسلام الطبرسي رحمه الله في قوله (لمستقر لها) أقوال، أحدها: إنها

تجري لانتهاء أمرها عند انقضاء الدنيا، فلا تزال تجري حتى تنقضي الدنيا .

وثانيها: إنها تجري لوقت واحد لا تعدوه ولا تختلف . وثالثها: إنها تجري إلى

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 106

أقصى منازلها في الشتاء والصيف لا تتجاوزها ولا تقصر عنها، فهو مستقرها (3) .

1) أي: ذهب ضوؤها ونورها، فأظلمت واضمحلت، وقيل: جمع ضوؤها

ولفت كما تلف العمامة، والمعنى: أن الشمس تكور يوم القيامة بأن يجمع نورها

حتى تصير كالكارة والملقاة، فيذهب ضوؤها ويحدث الله العباد ضياء غيرها

(وإذا النجوم انكدرت) أي: تساقطت وتناثرت وقيل: تغيرت من الكدر (4) .

2) احتجاج لتوحيده تعالى، أي: جعل الشمس ضياء بالنهار والقمر نورا

بالليل، والضياء أبلغ في كشف الظلمات من النور، وفيه صفة زائدة على النور .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 107

1) قال أمين الاسلام الطبرسي رحمه الله: (والطير) أي: ويسبح له الطير

(صافات) أي: واقفات في الجو مصطفات الأجنحة في الهواء، وتسبيحها ما

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 108

يرى عليها من آثار الحدوث (كل قد علم صلاته وتسبيحه) معناه: أن جميع

ذلك قد علم الله تعالى دعاءه وتسبيحه وتنزيهه .

وقيل: إن الصلاة للانسان والتسبيح لكل شئ، وقيل: معناه: كل واحد منهم

قد علم صلاته وتسبيحه أي: صلاة نفسه وتسبيح نفسه، فيؤديه في وقته

فيكون الضمير في علم لكل وفي الأول يعود الضمير إلى اسم الله وهو أجود، لان

الأشياء كلها لا تعلم كيفية دلالتها على الله، وإنما يعلم الله تعالى ذلك (1) . انتهى،

والذي قاله عليه السلام في هذا الخبر تأويل فلا يتعارضان .

1) البح: غلظ في الصوت، والشهبة في الألوان البياض الذي غلب على

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 109

السواد، قال الأصمعي: البراثن من السباع والطير هي بمنزلة الأصابع من

الانسان . والمخلب: ظفر البرثن .

باب لطف الله تبارك وتعالى

1) بالغين المعجمة، وفي الصحاح والقاموس: إنه الدلو الصغير (1) . والمراد

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 110

هنا نوع من البعوض أصغر من الجرجس .

باب أدنى ما يجزئ من معرفة التوحيد

1) أي: غير فقيد زائل الوجود، أو لا يفقده الطالب، وقيل: معناه: أنه غير

مطلوب عند الغيبة حيث لا غيبة له .

2) يعني: لا يحتاج إلى التعمق، بل التوحيد ما ورد في ظاهره هذه السورة

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 111

والآيات، فما تعمق به الحكماء وأرباب الكلام في إثبات الواجب وصفاته

ولواحقها مما لا حاجة إليه، فيكون كلامه عليه السلام إلى ذم المتعمقين في هذا العلم .

وقال صدر الدين الشيرازي: هو إشارة إلى مدحهم، أي: أنه سبحانه نزل هذه

السورة والآيات ليتعمقوا في معانيها، ولتكون محلا لتعمقهم، ولا يخفى بعده .

1) قال بعض الأفاضل: لما سئل عن كيفية القراءة وكان مظنة أن يسئل عن

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 112

الايمان بعد أن يجاب عن السؤال عن القراءة، فبعد ما أجاب عن السؤال زاد فيه

كذلك الله ربي لان لا يسئل عن كيفية الايمان .

1) الند بالكسر المثل .

باب في أنه عز وجل لا يعرف إلا به

2) فيه وجوه من المعاني:

أولها: أن معرفة وجوده وصفاته الكمالية وتقدسه وتنزهه عما لا يليق به لا

يكون من طريق تعريف الخلق كالنبي وأهل بيته صلوات الله عليهم، لأنه سبحانه

أول الأشياء وبرهانه أظهر البراهين، وصدق الأنبياء والحجة إنما يعرف بمعرفة الله

تعالى، فكيف يعرف الله سبحانه بقولهم .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 113

وثانيها: ما قيل: من أن المراد أنه سبحانه لا يعرف بخلقه العباد، بأن يكون هذا

المعنى المصدري أعني خلقهم وايجادهم، دليلا عليه، فيكون من باب الاستدلال

بالصنع على الصانع، وذلك أن البراهين العقلية على خلقه كثيرة، فلا حاجة إلى

الاستدلال عليه بالمحسوسات، وإن كانت من جملة الأدلة عليه .

وثالثها: أن يقرأ قوله (يعرفون بالله) على البناء للفاعل، والمعنى: أن الله

عز وجل لا يعرف بخلقه كما تقدم، بل العباد يعرفون الله بالله، فيكون إشارة إلى ما

حكيناه من طريقة المصدقين الذين يستدلون بالحق لا عليه .

ورابعها: أنه تعالى أجل من أن يعرف بخلقه، أي: بصفات خلقه ومشابهتها كما

يصفه المشبهة وتعرفه بتلك الصفات، بل الخلق يعرفون بالله، أي: بكونهم

مصنوعين له وهم عبيد مقهورون، فيقال مثلا: فلان عبد الله ومصنوعه ومنسوب

إليه، فهو حينئذ معروف بالانتساب إلى الصانع، وليس الصانع معروفا بالانتساب

إلى المصنوع .

وخامسها: أنه تعالى أجل من أن يعرفه العباد بإقامة البراهين من أنفسها، بل

البراهين والأدلة التي عرفوه بها إنما هي من رشحات فيضه تعالى شأنه، لكن العباد

يعرفون بالله، أي: يعرف بعضهم بعضا بما أفاض عليهم من معرفة الحقائق

والأجناس والفصول ونحوها .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 114

1) من هذا الحديث وما في معناه أخذ الكليني (1) تغمده الله برحمته ما ذهب

إليه في معنى: اعرف الله بالله، كما سيأتي، وحاصل كلامه عليه السلام أنه سبحانه أقام

البراهين للمعقول على عدم مشابهة غيره له، وعلى إحاطته علما بجميع

المعلومات فيكون هو الذي عرف نفسه كما سيأتي .

2) يعني: كونه بعيدا عن المخلوقات بعدم المشابهة لها، قريب إليها من حيث

الإحاطة بها علما واستيلاء، فيكون إشارة إلى أن قربه ليس بالمكان .

3) أي: بعيد عن إحاطة العقول والأوهام مع كونه قريبا باللطف والقدرة،

ويحتمل أن يكون الفصلان إشارة إلى أن جهة قربه وبعده واحدة، أعني العلية

واحتياج الخلق إليه، فهو قريب من حيث العلية وبعيد من هذه الجهة أيضا، إذ

الصانع غير مصنوع والمعلول مباين لعلته .

4) من جميع الحيثيات، لأنه فوقها بالعلة والقدرة والكمال وغير ذلك .

5) بالعلية والتقدم .

6) لان دخوله فيها عبارة عن إحاطته بجزئياتها، وخروجه عنها عبارة عن

تباينها عنه

7) أي: علة في ذواتها وصفاتها كالتعليل، لما سبق .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 115

1) ذكر المحققون فيه وفيما هو بمعناه ضروبا من المعاني:

منها: أن يكون المراد بالمعرف به ما يعرف الشئ به، بأنه هو هو، فمعنى

اعرفوا الله بالله، اعرفوه بأنه هو الله مسلوبا عنه جميع ما يعرف به الخلق من

الأجسام والأرواح والأعيان والألوان والأنوار، وهذا هو الذي فهمه الكليني

طاب ثراه كما سيأتي وعلى هذا يكون معنى والرسول بالرسالة، معرفة الرسول

بأنه ارسل بهذه الشريعة وهذه الأحكام، وهذا الدين وهذا الكتاب، ومعرفة كل

واحد من اولي الامر بأنه الامر بالمعروف، العامل به، وبالعدل أي: بلزوم الطريقة

الوسطى في كل شئ، وبالاحسان إلى خلق الله .

ومنها: أن معناه اعرفوا الله بما يناسب ألوهيته من التنزيه والتقديس، الرسول

بما يناسب رسالته من العصمة والفضل والكمال، وأولي الأمر بما يناسب

درجتهم العالية التي هي الرئاسة للدين والدنيا .

ومنها: أن يكون الغرض النهي عن الخوض في معرفته تعالى ورسوله

وحججه بالعقول الناقصة، فإنه ربما انتهت إلى ما لا يليق بجلال كبريائه، وإلى

الغلو في أمر المعصومين عليهم السلام، وحينئذ فمعناه: اعرفوا الله بما وصف لكم في كتابه

وعلى لسان نبيه، والرسول بما أوضح لكم من وصفه في رسالته إليكم، والامام

بما بين لكم من المعروف والعدل والاحسان، أو لا تعرفوا الرسول وأهل بيته عليهم السلام

بالألوهية ونحوها كما عرفوه به الغلاة .

ومنها: أن المعنى اعرفوا الله بما أنار به قلوبكم، فإن العقول لا تهتدي إليه إلا

بما يفيض عليها من الأنوار والاسرار الإلهية، واعرفوا الرسول بتكميله إياكم

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 116

بالرسالة ولوازمها، ونحوه معرفة اولي الامر .

ومنها: أن المراد ما يعرف به من الأدلة والحجج، فمعنى اعرفوا الله بالله أنه إنما

يتأتى معرفته لكم بالتفكر فيما أظهر لكم من آثار صنعه وقدرته وحكمته بتوفيقه

وهدايته، لا بما أرسل به الرسول من الآيات والمعجزات، لان معرفتها إنما

يحصل بعد معرفته تعالى، واعرفوا الرسول بالرسالة، أي: بما ارسل به من

المعجزات والدلائل، أو بالشريعة المستقيمة التي بعث بها، فإنها لانطباقها على

قانون العدل والحكمة يحكم العقل بحقية من ارسل بها، واعرفوا أولي الأمر بعلمهم

بالمعروف وإقامة العدل والاحسان، وفي حديث سلمان وحديث ابن حازم

إشارة إلى هذا المعنى .

ومنها: أن معناه الامر بان يعرفوا الله بالله، أي: بمدلول هذا اللفظ، وحاصله: أن

يعرف بالذات المستجمعة لجميع صفات الكمال، كأن يقول ربي الله، أو معبودي

الله، ولا يعرف بغيرها من الصفات الخاصة، كأن يقول: ربي الخالق ونحوه، لأنها

إنما تدل على صفة خاصة، أي: ناقصة بالنسبة إلى الأولى، وكذا معرفة الرسول

بالرسالة، فإنها أشمل أوصافه صلى الله عليه وآله وأفضلها، ونحوه معرفة اولي الامر .

ومنها: أن يكون قوله عليه السلام: اعرفوا الله بالله، إشارة إلى طريقة الإلهيين

والصديقين الذين يستدلون بالحق لا عليه، كما مر تحقيقه سابقا في أوائل

الكتاب (1) .

أقول: يجوز أن يكون معناه: اعرفوا الله بالله، أي: بصفة الإلهية وبأنه هو الاله،

لأن هذه الصفة هو أعظم صفاته تعالى ولم يدع لاحد المشاركة بها معه تعالى شأنه،

وإلا فجميع أسمائه وصفاته مما زعم الكافرون المشاركة معها فيها، كما كانوا

يقولون لمسلمة: رحمن اليمامة، وكذلك معرفة الرسول صلى الله عليه وآله بصفة الرسالة فإنها

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 117

أعلى صفاته وأخصها كما تقدم .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 118

1) إما بأن يكون هؤلاء القوم من أهل الجسم والتشبيه، أو من الأشاعرة القائلين

بزيادة الصفات وثبوت الأحوال، أو هم من عوام الناس الذين لا يعرفونه بالبرهان .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 120

1) لا يخفى ما فيه من البعد، لأنه تكون علة معرفة الرسول وأولي الأمر أيضا

بالله، فلا ينبغي الفرق بينهما وبين معرفة الله في ذلك، وأيضا لا يلائمه قوله:

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 121

اعرفوا الله بالله، إلا أن يقال كما قيل: الفرق باعتبار أصناف المعرفة بالرسالة صنف

من المعرفة بالله والمعرفة، والمعرفة بالمعروف صنف آخر منها، ومعرفة الله فيها

أصناف لا اختصاص لها بصنف، والمراد بأعرفوا الله بالله، حصلوا معرفة الله التي

تحصل بالله، وما ذكره الكليني أقرب من هذا .

1) لا يخفى ما فيه، لما تقدم من أن للمعرفة درجات ومراتب، وأن المرتبتين

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 122

الأوليين أعني: أن لهذا العالم صانعا، وأن ذلك الصانع موجود، أمر مركوز في

العقول بإلهام من الله تعالى، وهو فطرة الله التي فطر الناس عليها، ولهذا لم يدع

الأنبياء صلوات الله عليهم إليهما، بل إنما دعوا إلى التوحيد ونفي الشريك وما

فوقها من المراتب، وفي الأخبار المستفيضة دلالة عليه، على أن قوله قدس الله

ضريحه (إن عرفناه بعقولنا فهو عز وجل واهبنا) جار في هذا الرجل المولود في

الفلاة، فقد عرف ربه بعقله، فكيف يصح قوله: إن هذا شيئا لم يكن .

باب إثبات حدوث العالم

1) من بهره، أي: غلبه .

2) العقيلة كسفينة الكريمة المخدرة . وفي النهاية: نساء معقلات لأزواجهن

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 123

كما تعقل النوق عند الضراب (1) والعباهر جمع عبهرة، وهي المرأة الجامعة للحسن

والجسم والخلق والعنصر الأصل .

1) معناه: إنك تعد أولهم، لان الأول هو الذي يثنى لأجله عده الخنصر .

2) بكسر الخاء وفتح الصاد المشددة الكثير العطاء،

وقال الجوهري: زخر الوادي إذا امتد جدا وارتفع (2) .

3) أي: مجتمع بعضه إلى بعض .

4) الغرقى قشر البيض الأسفل .

5) قال المفيد في الارشاد: يريد عليه السلام أن الحواس بغير عقل لا توصل إلى

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 124

معرفة الغائبات، فإن الذي أراده من حدوث الصورة معقول بني العلم به على

محسوس (1) .

1) ذهب أكثر الملاحدة إلى القول بالكون والبروز، ومعناه: أن كل حقيقة

حاصلة في كل شئ وأن الولد كان كامنا في أبويه، فبرز، والنبات كامنا تحت

الأرض، فبرز على مقتضى العادة .

2) أي: لم يرده ولم يقدر عليه .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 125

1) هذا منه أول المناظرة وداخل تحت الجدل والخطابة، ومبناه: إما على ما

هو المشهور المقرر بين الناس من تطابق الاسم ومعناه، خصوصا عند التسمية بعبد

الله، فإنهم لا يقصدون منها إلا عبوديته سبحانه وتعالى، وإما على ما هو مرتكز

في جبلة الخلق وعقولهم من الاذعان بوجود الصانع باطنا، وإن أنكروه ظاهر

العلل وأغراض، كما قال سبحانه: وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم (1) .

ويكون حاصل الكلام: أن أبويك سمياك وكنياك بعبد الملك وعبد الله،

لاذعانهم بمقتضى الفطرة بوجود الصانع، وقيل: إنه ورد منه عليه السلام على سبيل

المطايبة والمزاح معه إشارة إلى عجزه عن البرهان، وإنه يفحم بمثل هذه الظواهر

والامارات .

2) فإن قلت: إله السماء ثبت المطلوب، وإن قلت: إله الأرض فليس في

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 126

الأرض من يستحق العبودية حتى يتعارف بين الناس أن ينسبوا أولادهم إلى

عبوديته، وإن قلت: إن الأبوين سمياني بهذا من غير اطلاع مني، فالعاقلان

لا يختاران للأعز عليهما إلا أحسن الأسماء عندهما، ولا ريب أن الاسم المهمل

مما لا يقصدانه غالبا، سيما فيما كان ظاهره الاستعمال، كعبد الملك و عبد الله .

1) ابتدأ عليه السلام بإزالة إنكار الخصم وإخراجه من مرتبة الانكار إلى مرتبة

الشك، لتستعد نفسه للاقبال على الحق، وقبول ما جبلت العقول تسليمه على قبولها

والاذعان بها، فأزال إنكاره بأنه غير عالم بما تحت الأرض، وليس له سبيل إلى

الجزم بأن ليس تحتها شئ ثم زاده بيانا بأن السماء التي لم يصعدها كيف يكون له

الجزم والمعرفة بما فيها وما ليس فيها، وكذا المشرق والمغرب .

فلما عرف قبح إنكاره لما لا معرفة له فيه، وتنزل من الانكار إلى الشك، وأقر

بأنه شاك بقوله (ولعل ذلك) تصديقا لقوله عليه السلام (فأنت من ذلك في شك) فأخذ عليه السلام

في هدايته وقال ليس للشاك دليل ولا للجاهل حجة فليس لك إلا طلب

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 127

الدليل على ما هو الحق، فكن طالبا واستمع وتفهم عني، فإنا نتيقن وجود

الصانع ولا نشك فيه أبدا، فاستدل على مطلوبه بوجود حوادث من أحوال العالم .

1) المراد بولوج الشمس والقمر غروبهما، أو دخولهما بالحركات الخاصة في

بروجهما، وبولوج الليل والنهار دخول تمام كل منهما في الاخر، أو دخول بعض

من كل منهما في الآخر بحسب تفاوت الفصول .

وحاصل الاستدلال أن لهذه الحركات انضباطا واتساقا واختلافا وتركبا،

فالانضباط يدل على عدم كونها إرادية، كما هو المشاهد من أحوال ذوي

الإرادات من الممكنات، والاختلاف يدل على عدم كونها طبيعية، لان الطبيعة

العادمة للشعور لا تختلف مقتضياتها، كما يشاهد من حركات العناصر، وكما قالوه

من أن الطبيعة الواحدة لا تقتضي التوجه إلى جهة والانصراف عنها .

وقال بعضهم: حاصل الدليل راجع إلى ما يحكم به العقلاء من أن مثل تلك الأفعال

المحكمة الجارية على قانون الحكمة وميزان العقل، لا تصدر عن الدهر

والطبائع العادمة للشعور والإرادة، وهذا معنى قوله (إن كان الدهر يذهب بهم)

أي: الدهر الذي لا شعور له كيف يصدر عنه الذهاب الموافق للحكمة، ولا يصدر

عنه بدله الرجوع، أو المراد: أنه لم يقتض طبعه ذهاب شئ ولا يقتضي رده

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 128

وبالعكس، بناء على أن مقتضيات الطبائع تابعة لتأثير الفاعل القادر القاهر .

وقيل: المراد بالذهاب بهم اعدامهم، وبردهم ايجادهم، والمراد بالدهر

الطبيعة كما هو ظاهر كلام أكثر الدهرية، أي: نسبة الوجود والعدم إلى الطبائع

الامكانية على السواء، فإن كان الشئ يوجد بطبعه فلم لا يعدم، فترجيح

أحدهما ترجيح بلا مرجح يحكم العقل باستحالته، وتجري هذه الاحتمالات في

قوله (السماء مرفوعة) .

1) دليل على اضطرارهما كما عرفت، لأنه متى رأى العاقل حركة منضبطة

على نسق واحد لا تتغير أبدا يحدس بأن المتحرك بها غير مختار، كما في

الجمادات .

2) تنبيه على اضطرارهما في الرجوع، والانضباط بأنه إن كانا يقدران على

أن يذهبا عند الرجوع فلم يرجعان من غير تخلف، وإن كانا غير مضطرين في

الانضباط، فلم لا تختلف الحركة ليصير الليل أي: ما يكون ليلا عند الاتساق كله

أو بعضه نهارا والنهار أيضا ليلا .

3) تصريح منه بالنتيجة مؤكد لها، فإذا ظهر أن هذه ليست اختيارية للمتحرك،

ولا يجوز أن يكون طبيعية، لان الطبيعة الواحدة لا تقتضي التوجه إلى جهة

والانصراف عنها .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 129

1) يعني: أن الذي تذهبون إليه وتظنون أنه الدهر، وهو بزعمكم الجبار

القاهر للكل أو للسفليات .

2) أي: في الذهاب والخروج من الوجود والرجوع والدخول فيه، فيجب

أن يكون مستندا إلى الفاعل المختار لا إلى الدهر الذي لا شعور له فضلا عن

الاختيار .

3) لان من عادة الجسم الفوقاني السقوط على ما تحته إذا لم يكن له ممسك،

وكذلك الأرض ينبغي لها أن تنحدر فوق طباقها وتغوص في الماء ولا تقف فوقه،

لان الحركة الطبيعية تقتضيه .

4) طباق الأرض أعلاها، أي: تنحدر الأرض بحيث تصير فوق ما علا منها

الآن .

5) أي: هشام، وقيل: الذي آمن وهو ممكن .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 130

1) فيه إيماء إلى أن المراد من الخلق عندهم مطلق التسبب إلى التكون (1)،

فالأب خالق الولد، والزارع خالق الزرع، وهكذا، وهذا مذهب طائفة من الزنادقة

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 131

1) يعني: لو كنت مخلوقا لكنت على صفة الطول والعرض والعمق وسائر ما

أنا عليه الآن .

2) أي: هذه الصفات كلها صفة خلقه تعالى، وربما قرأ بعضهم: خلقة،

بالتاء، أي صفة المخلوقية .

3) وحاصل الكلام أنه عليه السلام لما سأله: لو كنت مصنوعا هل كنت على غير

هذه الحال أم لا ؟ فلما تفكر دله الفكر على أن صفاته كلها صفات المخلوقين وكان

إنكاره عنادا، فحصل له منه الحيرة، فقال له عليه السلام: إذا وجدت نفسك بصفة

المخلوقين، فلم لا تذعن وتقر بالصانع، فأقر بالعجز عن الجواب وقال: سألتني

عن مسألة لم يسألني عنها أحد قبلك ولا بعدك .

4) في القاموس: هبني فعلت، أي: أحسبني فعلت (1) . يعني: افرض أنك

علمت ما مضى، فمن أين لك العلم بما سيأتي ؟ وحاصله: أنك بينت أمورك كلها

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 132

على الظن والوهم، فمن أين جاءك القطع بأنك لا تسأل فيما بعد عن مثلها .

1) ذكر المحققون فيه وجوها:

أولها: أن يكون المراد أن نفيك للصانع مبني على أنك تزعم أن لا علية بين

الأشياء، ونسبة الوجود والعدم إليها على السواء، والاستدلال على الأشياء الغير

المحسوسة إنما يكون بالعلية والمعلولية، فكيف حكمت بعدم حصول الشئ في

المستقبل، فيكون المراد بالتقدم والتأخر العلية والمعلولية أو ما يساوقها .

وثانيها: أن يكون منوطا بما قالوه في نفي الصانع، من أن الأشياء متساوية

غير متفاوتة في الكمال والنقصان، فيكون المراد أنك كيف حكمت بتفضيلي

على غيري ؟ وهو مناف للمقدمة المذكورة، فالمراد بالتقدم والتأخر ما هو بحسب

الشرف .

وثالثها: أن يكون مبنيا على ما ينسب إلى الملاحدة من القول بالكمون

والبروز، يعني: أنك إذا قلت بأن كل حقيقة حاصلة في كل شئ كيف يمكنك

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 133

الحكم بتقدم بعض الأشياء على بعض في الفضل والشرف (1) .

1) يمكن تطبيقه على دليل المتكلمين، ودليل الحكماء المتألهين، وما قاله

أكابر المحدثين، أما الأول، فمعناه: أن تلك الأجسام لما لم تنفك عن مثل

هذه الحوادث تكون حادثة، كما برهن عليه في علم الكلام . وأما الثاني، فمعناه:

أن تلك الأمور الزائلة المتغيرة لا تخلو من أن تكون قديمة أو حادثة، وكلاهما

محال .

أما الأول، فلما ثبت في براهين الحكمة من أن ما ثبت قدمه امتنع عدمه، وأما

الثاني، فللزوم التسلسل بناء على جريان دليل إبطاله في الأمور المتعاقبة . وأما

الثالث، فبما ورد في مستفيض الاخبار من أن كل قديم يكون واجبا بالذات ولا

يكون المعلول إلا حادثا، ووجوب الوجود ينافي التغير ولا يكون الواجب

محلا للحوادث (2) .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 134

1) يعني: لو فرضنا بقاء الأشياء على صغرها لم يمكنك الاستدلال على

حدوثها بالتغير، فأجاب عليه السلام أولا: بأن كلامنا في هذا العالم الذي نشاهد فيه

التغيرات، فلو فرضت رفع هذا العالم ووضع عالم آخر مكانه لا يعتريه التغير،

فزوال هذا العالم دل على كونه حادثا وإلا لما زال كما عرفت، ودلالته على

حدوث الثاني أظهر (1) .

2) قدرت بالتشديد أي: فرضت إلزامنا، أو بالتخفيف، أي: زعمت القدرة على

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 135

إلزامنا بأن تفرض في الأول عالما لا يكون فيه هذا التغير، فنقول في اطراد الدليل

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 136

فيه: أن تلك الأجسام يجوز عليها ضم شئ إليها وقطع شئ منها، وجواز

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 137

التغير عليها يكفي في حدوثها بنحو ما مر من التقرير (1) .

1) أي لحدوث ما لا ينفك عنه الجسم ولا يتقدم عليه الجسم، لأنه لا يتقدم

على الحركة والسكون والاجتماع والافتراق، بل إذا وجد يكون مقارنا للاتصاف

بواحد منها .

2) يعني لم قلتم: إن الاجتماع والافتراق ونحوهما من المعاني الحقيقية

الموجودة حتى يكون مقارنة الجسم لها، واتصافه بها موجبا لحدوثه، لجواز أن

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 138

تكون من الأمور الإضافية الاعتبارية، فلا يكون الاتصاف بها موجبا للحدوث،

كما في الصفات الاعتبارية والأمور الإضافية التي يتصف بها الباري عز شأنه،

فإنها حادثة ولا توجب الحدوث على أنهما مما يعبر عنهما بالسلب، فيقال:

الاجتماع ليس بافتراق والسكون ليس بحركة، والأمور السلبية مما لا توجب

القدم والحدوث .

1) حاصله أن الاجتماع والافتراق مما يحدثان في الجسم أمرا وجوديا

حقيقيا، وهو كونه مجتمعا بعد ما كان مفترقا، فلو لم يحدث معنى حقيقي يوجب

الاجتماع، لكان اللازم بقاءه على ما كان عليه، أعني: حال الافتراق، وأما التعبير

عنه بالامر السلبي، فلا يدل على أنه من الأمور الإضافية السلبية، وذلك أن

المفهومات الوجودية كلها مما يمكن التعبير عنها بالمفهومات العدمية، كما يقال:

الانسان ليس بجماد، وزيد ليس بعمرو، إلى غير ذلك من المفهومات .

2) قوله (كان لا يكون) من أفعال الناقصة جواب لو، يعني: أن الجسم في

حال الاجتماع بعد الافتراق لو لم يكن السبب في اجتماعه حدوث معنى أعني:

الاجتماع، كان ينبغي أن لا يترجح حال اجتماعه على حاله السابق أعني: حال

الافتراق، لان الجسم لم يحدث نفسه حال الاجتماع حتى يقال: إن هذا الاجتماع

إنما عرض لبطلان الجسم نفسه، لأنه موجود ليس بمعدوم، وما عدم

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 139

ثم وجد، ولا يجوز أن يكون اجتماعه السبب فيه بطلان معنى من المعاني، لان

بطلان معنى من المعاني لو كان هو السبب في الاجتماع والافتراق لزم أن يكون

مجتمعا متفرقا في حالة واحدة، لأنه يصدق فيه بطلان معنى من المعاني .

1) بيان لما قبله . وبيانه: أن المراد من المعاني هنا الاعراض، وهي لا تتصف

بأعراض آخر، لان العرض لا يقوم بمثله، فلو كان سبب الاجتماع والافتراق

هو فقد المعاني، لزم أن يكون الاعراض متفرقة مجتمعة حالة واحدة .

2) إنما ذكر الافتراق والاجتماع في معرض الاستدلال، لان شبهة الكلام

على أنهما ليسا من الاعراض الوجودية، موجودة، لما قيل: من أنهما من الأمور

المتضايفة، كالأبوة والبنوة، أما الحركة والسكون فلا كلام في كونهما أعراضا

حقيقية قائمة بالجسم .

3) يعني: أن الاجتماع والافتراق قائمان بالجسم وبهما حصل له الاجتماع

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 144

والافتراق، فيلزم أن يكون مجتمعا متفرقا في حالة واحدة، وحاصل الجواب:

أنهما ضدان لا يجتمعان حتى يلزم أن يكون محلهما مجتمعا متفرقا، نعم يجوز

خلوه عنهما .

X باب حديث ذ علب

ضبط الشهيد طاب ثراه بكسر الذال المعجمة وسكون العين المهملة وكسر

اللام، والذعلب في اللغة الناقة السريعة، وكذلك الذعلبة، ثم نقل فسمي به إنسان

وصار علما .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 145

1) قد سبق اتفاق الخاصة والعامة على أن هذا القول مخصوص به عليه السلام، وأنه

لم يقله غيره إلا كان كاذبا، ولما قدم قتادة من الشام إلى العراق جلس في

مسجد الكوفة وقال: إن علي بن أبي طالب قال: سلوني قبل أن تفقدوني، وأنا أقول

هذا القول، فسأله بعضهم عن النملة التي كلمت سليمان، هل هي ذكر أو أنثى ؟ فلم

يحر جوابا وخرج إلى الشام .

2) يجوز أن يكون المراد منه العلوم والمعارف التي أخذها عنه مدة عمره

الشريف، والأظهر أنه إشارة إلى ما روي من أنه لما حضرته صلى الله عليه وآله الوفاة دعا

عليا عليه السلام وأدخله تحت ثوبه، وجعل فيه على فيه، وخرج من حلقه الشريف شئ

كالزبدا، فأخذه أمير المؤمنين عليه السلام بلسانه، ثم خرج من تحت الثوب وقد علت

بطنه، فسأله الأعرابيان ما قال لك ابن عمك ؟ فقال: علمني ألف باب من العلم

ينفتح من كل باب ألف باب .

وبالجملة فعلومه صلى الله عليه وآله التي تكاملت بكمال عمره الشريف، علمها عليا عليه السلام

ساعة واحدة فقال استنادا إلى هذا العلم: لو كشف الغطاء لما ازددت يقينا .

ولا يلزم من هذا زيادة علومه عليه السلام على علم النبي صلى الله عليه وآله، حيث قال: ما

عرفناك حق معرفتك، وقوله: اللهم زدني فيك معرفة، لان هذا القول منه إنما كان

زمان تزايد علومه، فإن علومه صلى الله عليه وآله كانت تتزايد بتزايد عمره، وكان يرفع له صلى الله عليه وآله كل

لعلي عليه السلام في ساعة واحدة فهذا العلم الذي أخذه منه صلى الله عليه وآله نال به درجة لو كشف

الغطاء .

فلا حاجة إلى ما قاله جمال الملة والدين العلامة قدس الله روحه في دفع

التناقض بين الكلامين، من أن مادة النبي صلى الله عليه وآله لما كانت أكمل من مادة الإمامة،

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 146

طلب صلى الله عليه وآله زيادة المعرفة، وأما أمير المؤمنين عليه السلام فقد حصل من مراتب المعرفة

على ما لم يقبل الزيادة عليه، فقال: لو كشف الغطاء .

ولا إلى ما قاله بهاء الملة والدين عطر الله ضريحه، من أن قوله عليه السلام: لو

كشف الغطاء، ليس إشارة إلى مراتب العرفان، بل المراد منه أحوال القيامة والجنة

والنيران، يعني: أن أحوال تلك النشأة لو كشف الغطاء عنها لما استفدت زيادة

علم في أحوالها .

ولا إلى ما قاله بعض المعاصرين، من أن يقينا منصوب على المفعولية لا

التمييز، أي: ما ازددت ولا حصلت يقينا يغاير يقيني، ولا ينافي الازدياد في ذلك

اليقين، أما غيره عليه السلام ممن عرف الله تعالى بالظن والوهم والانكار والجحود،

فيحصل لهم عند انكشاف الغطاء في الآخرة يقين يغاير ما كانوا عليه من الظنون

والجحود، كما قال سبحانه فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد (1) أي:

بصيرتك أو عينك قوية الادراك .

وأما المؤمنون ممن عرف الله سبحانه على الجزم واليقين، فالحاصل لهم في

الآخرة من اليقين يغاير ما عندهم من الدنيا، لان يقين الدنيا قد حصل بالنظر

والاستدلال والكسب، وما يحصل لهم في الآخرة إنما هو بالبديهة والاضطرار

والمشاهدة للآيات والمشافهة لها، فاليقينان متغايران، أما يقينه عليه السلام في الدنيا، فلم

يكن مأخوذا من تكلف الاستدلال، بل هو مأخوذ عن المشاهدة والعيان .

كما روي في قوله (سلوني قبل أن تفقدوني) سلوني عن طرق السماوات،

فإني أعرف بها مني بطرق الأرض، فقام إليه جبرئيل وسأله: أين جبرئيل ؟ فنظر إلى

السماوات وإلى الأرضين، فقال له: أنت جبرئيل، فطار جبرئيل عليه السلام فسئل عليه السلام:

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 147

كيف عرفته ؟ فقال: إني لما نظرت إلى السماوات رأيت ما فوق العر ش والكرسي

فلم أره . وقوله عليه السلام للنبي صلى الله عليه وآله لما رجع من سفر المعراج: ما وضعت يا رسول

الله قدما في السماوات إلا وقد كشف لي وشاهدت المعراج . وقوله عليه السلام: إني أعلم

ما فوق العرش وما تحت الثرى علم إحاطة لا علم خبر، إلى غير ذلك من

الاخبار .

1) المراد وسادة الملك والأمر والنهي، أي: جلست متمكنا عليها، والمراد أني

لو تمكنت من الملك والسلطان واجراء أحكام الخلافة على ما أريد لحكمت

بين الأمم كل أمة بكتابها حتى ينطق ذلك الكتاب بلسان الحال أو المقال

بتصديقي، أو المراد أهل الكتاب .

وهذا منه عليه السلام شكاية من الأمة، وأنهم لم يمكنوه من أمور الخلافة حتى

يفعل ما يوافق الكتاب والسنة، لان الناس كانوا يريدون منه العمل بسنة الشيخين،

وأين هو من سنة النبي صلى الله عليه وآله، ومن ثم لم يتمكن عليه السلام من النهي عن صلاة الضحى،

ولا عن عزل شريح من القضاء، ولا عن كل ما قرره الأعرابيان من البدع

والضلال .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 148

1) قال ثقة الاسلام الطبرسي تغمده الله برحمته: قيل في المحو والاثبات

أقوال:

أحدها: أن ذلك في الاحكام من الناسخ والمنسوخ .

الثاني: أنه يمحو ما يشاء من ذنوب المؤمنين فضلا، فيسقط عقابها، ويثبت

ذنوب من يريد عقابه عدلا .

الثالث: أنه عام في كل شي، فيمحو من الرزق ويزيد فيه، ومن الأجل ويمحو

السعادة والشقاوة ويثبتهما، وروي مثل ذلك عن أئمتنا عليهم السلام .

وروى محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام، قال: سألته عن ليلة القدر، فقال:

ينزل الله فيها الكتبة والملائكة إلى السماء الدنيا، فيكتبون ما يكون من أمر السنة،

وما يصيب العباد، وأمر ما عنده موقوف له، فيه المشيئة، فيقدم منه ما يشاء

ويؤخر ما يشاء ويمحو ويثبت وعنده أم الكتاب .

وروى الفضيل، قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: العلم علمان، علم علمه

ملائكته ورسله وأنبيائه، وعلم عنده مخزون لم يطلع عليه أحد، يحدث فيه ما

يشاء .

وروى زرارة عن حمران عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: هما أمران موقوف

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 149

ومحتوم، فما كان من محتوم أمضاه، وما كان من موقوف فله فيه المشيئة يقضي

فيه ما يشاء .

الرابع: أنه في مثل تقتير الأرزاق والمحن والمصائب يثبته في أم الكتاب، ثم

يزيله بالدعاء والصدقة، وفيه حث على الانقطاع إليه سبحانه .

الخامس: أنه يمحو بالتوبة جميع الذنوب، ويثبت بدل الذنوب حسنات، كما

قال: إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات .

السادس: أنه يمحو ما يشاء من القرون ويثبت ما يشاء منها، كقوله (ثم

أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين) وقوله (كم أهلكنا قبلهم من القرون) وروي ذلك

عن علي عليه السلام .

السابع: أنه يمحو ما يشاء، يعني القمر، ويثبت، يعني الشمس، وبيانه: (فمحونا

آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة) وأم الكتاب هو اللوح المحفوظ الذي لا

يغير ولا يبدل، لان الكتب المنزلة انتسخت منه، فالمحو والاثبات إنما يقع في

الكتب المنتسخة لا في أصل الكتاب، عن أكثر المفسرين . وقيل: إنما سمي أم

الكتاب، لأنه الأصل الذي كتب أولا سيكون كذا وكذا لكل ما يكون، فإذا وقع كتب

أنه قد كان ما قيل إنه سيكون، والوجه في ذلك ما فيه من المصلحة والاعتبار لمن

تفكر فيه من الملائكة الذين يشاهدونه إذا قابلوا ما يكون بما هو مكنون فيه،

وعلموا أن ما يحدث على كثرته قد أحصاه الله تعالى وعلمه قبل أن يكون (1) .

انتهى ملخصا .

والظاهر ممن تتبع الأحاديث أن الله تعالى خلق لوحين، أحدهما: لوح

المحو والاثبات مكتوب فيه مثلا أن عمر زيد عشرون سنة إن قطع رحمه، أو لم

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 150

يفعل ما يزيد فيه، وثلاثون إن وصل الرحم، أو فعل ذلك الفعل، وبالجملة فما

كتب فيه معلق على الأسباب والشروط .

والثاني: لوح المحفوظ مكتوب فيه ما سيكون من غير شرط وسبب، بل

الأمور مكتوبة فيه كما هو في العلم الإلهي، لأنه تعالى يعلم الأشياء كما هي

بأسبابها وشروطها، وتكون الحكمة في لوح المحو والاثبات خفية، ولعل الظاهر

منها ترغيب الخلائق واستمالتهم في الدعاء والتضرع والصدقة والعبادات

والطاعات، وأن لا يقولوا: أن الامر قد فرغ منه .

وحينئذ فقوله عليه السلام (لولا هذه الآية لأخبرتكم بما كان وما يكون) يجوز

أن يكون معناه: أن بعض علومه عليه السلام من لوح المحو والاثبات الذي له تعالى فيه

المشيئة، فلو أخبر بما يكون، لعله مما يقع فيه البداء فيكون الكذب فيه ظاهرا،

وتحقيق هذا المقام قد فصلناه في أوائل شرحنا على الصحيفة .

1) المراد بالمحكم هنا ما كان ظاهر الدلالة، ويقابله المتشابه، والمراد من

التأويل ما كان خلاف المعنى المتبادر منه، كبطون الآيات، وتقابله التنزيل،

والمراد به هنا التفسير، لكونه قسيم التأويل، ويجوز أن يراد من التنزيل ظاهره

وهو معرفة الآيات على نحو ما نزلت، فإن القرآن مما دخله الزيادة والنقصان

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 151

والتغيير والتحريف، ولم يجمع القرآن كما انزل أحد من كتاب الوحي سواه عليه السلام .

1) يعني أن لطافته لا توصف بمثل لطافة المخلوقات من صغر الجثة والتفكر

في دقيق الصنع، بل هو لطيف، لخلقة الشئ اللطيف، أو لعلمه به كما مر، وقيل: إن

لطافته لطيفة عن أن تدرك بالعقول والافهام .

2) قيل: معناه أنه يؤمن عباده من عذابه من غير أن يستحقوا ذلك بعبادة، أو

أن إطلاق المؤمن عليه لا كما يطلق على الخلق من الايمان والاذعان والتعبد .

أقول: يجوز أن يكون معناه: إنه مؤمن أي: مصدق لا بعبادة أحد فوقه، بل

معناه المصدق عباده في أعمالهم، أو أنه المؤمن من خوف عباده لا من جهة

التذلل منه لاحد منهم .

3) أي: بلسان كالمخلوقات .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 152

1) قال المصنف طاب ثراه: والمجوس تؤخذ منهم الجزية، لان النبي صلى الله عليه وآله

قال: سنوا بهم سنة أهل الكتاب وكان لهم نبي اسمه دامست فقتلوه وكتاب

يقال له: جاماست، كان يقع أي يكتب في اثني عشر ألف جلد ثور فحرقوه (1) .

2) قد شارك المجوس في هذا الاعتقاد والمذهب، جمهور أهل الخلاف من

المسلمين، كما شاركوهم في موارد كثيرة، ومن ثم قال عليه السلام: القدرية - أي:

المعتزلة أو الأشاعرة - مجوس هذه الأمة . وأما أصحابنا الإمامية رضوان الله

عليهم، فقد رووا عن السادة الأطهار عليهم السلام خلاف هذا .

روى المصنف وغيره في الصحيح عن زرارة عن الامام أبي عبد الله جعفر بن

محمد الصادق عليه السلام، قال: إن آدم عليه السلام ولد له شيث وإن اسمه هبة الله، وهو أول

وصي أوصي إليه من الآدميين في الأرض، ثم ولد له بعد شيث يافث، فلما أدركا

أراد الله أن يبدأ بالنسل ما ترون، وأن يكون ما جرى به القلم من تحريم ما حرم

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 153

الله عز وجل من الأخوات على الاخوة، أنزل بعد العصر في يوم الخميس حوراء

من الجنة اسمها نزلة، فأمر الله عز وجل أن يزوجها من شيث، فزوجها منه ثم انزل

بعد العصر من الغد حوراء من الجنة واسمها منزلة، فأمر الله عز وجل آدم أن

يزوجها يافث، فزوجها منه، فولد لشيث غلام وولد ليافث جارية، فأمر الله

عز وجل آدم عليه السلام حين أدركا، أن يزوج ابنة يافث من ابن شيث، ففعل، فولد

الصفوة والنبيين والمرسلين من نسلهما، ومعاذ الله أن يكون ذلك على ما قالوه من

أمر الاخوة والأخوات (1) .

وروى بريد العجلي عن أبي جعفر عليه السلام، قال: إن الله تبارك وتعالى أنزل على

آدم حوراء من الجنة فزوجها أحد ابنيه، وتزوج الاخر ابنة الجان، فما كان في

الناس من جمال أو حسن خلق، فهو من الحوراء، وما كان فيهم من سوء خلق،

فهو من ابنة الجان (2) .

ووجه الجمع بين الخبرين غير خفي .

1) أي: رفع إلى السماء، كما روي أن صاحب الدار عليه السلام إذا ظهر يظهر معه

القرآن وهو بخط أمير المؤمنين كما أنزله الله تعالى من غير تحريف، وهو مما يزيد

على هذا القرآن بكثير، فيحمل الناس على تعلمه وتعليمه، ويرفع هذا القرآن إلى

السماء، وكان عليه السلام يقول: كأني أنظر إلى المعلمين في مسجد الكوفة يعلمون

الصبيان ذلك القرآن .

وما دل عليه هذا الخبر من أن كتابهم رفع إلى السماء، لا ينافي ما تقدم من

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 154

الاحراق، لجواز أن يكون نسخة منه أحرقوها والأخرى رفعها الله تعالى من بينهم .

نعم ورد أنهم بعد الاحراق والرفع قال لهم علماؤهم: إنا حفظنا منه أحكاما،

فكتبوها لهم زعما منهم أنها من ذلك الكتاب، فكانت شبهة كتاب .

1) يجوز أن يكون المراد عصره صلى الله عليه وآله، لأنه كان عالما بفتن الناكثين

والقاسطين والمارقين، ويجوز أن يكون أراد عليه السلام وقت كتمان العلم وما بعده .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 155

1) يدل على أن الحسن عليه السلام لاحظ رعاية الأدب لا الخوف من ارتجاج

الكلام ونحوه .

2) هذا الحديث متفق عليه بين أهل العلم، وقد رووه بالأسانيد الكثيرة حتى

يمكن أن يقال: إنه من المتواتر لفظا، وإن روي بلفظ آخر وهو: أنا مدينة الحكمة

وعلي بابها (1) .

وفي روايات ابن المغازلي الشافعي: أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 156

العلم فليأت الباب (1) .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 157

وفي رواية بن عباس: فمن أراد الجنة فليأت الباب (2) .

ونقل ابن حجر في صواعقه المحرقة: أن النووي وابن الجوزي أنكراه وقالا:

هو حديث موضوع، والظاهر أنه كذب على ابن الجوزي، لأنه اعترف به في بعض

كتبه، وقد استدل به الإمامية على زيادة علمه عليه السلام على غيره، وقالوا عليهم ا لسلام نحن

الشعار والخزنة والأبواب، لا تؤتى البيوت إلا من الأبواب فمن أتاها من غير

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 158

بابها سمي سارقا (1) .

ولما نظر ابن حجر الناصبي إلى أن هذا الخبر يستلزم أنه عليهم السلام أعلم من أبي

بكر وعمر، وكان خلاف معتقده، قال: لا يقال: علي أعلم، لقوله صلى الله عليه وآله أنا مدينة

العلم وعلي بابها، لأنا نقول: هذا الحديث مطعون فيه، وعلى تقدير صحته أو حسنه

فأبو بكر محرابها، ورواية: فمن أراد العلم فليأت الباب لا يقتضي الأعلمية، فقد

يكون غير الأعلم يقصد لما عنده من زيادة الايضاح والبيان والتفرغ للناس،

بخلاف الأعلم، على أن تلك الرواية معارضة بخبر الفردوس: أنا مدينة العلم وأبو

بكر أساسها وعمر حيطانها وعثمان سقفها وعلي بابها، فهذه صريحة في أن أبا بكر

أعلمهم، وحينئذ فالامر بقصد الباب إنما هو لما قلناه لا لزيادة شرفه على ما قبله،

لما هو معلوم ضرورة أن كلا من الأساس والحيطان والسقف أعلى من الباب .

وبعضهم أجاب بأن معنى: وعلي بابها، أي: من العلو لا أن المراد منه الاسم،

انتهى .

أقول: لو استقصينا على أسماء من روى هذا الحديث والأسانيد المذكور فيها

لأفضي إلى التطويل، فإنه كما قاله ابن شهرآشوب أن الجمهور رووه من مائتين

وثمانية عشر طريقا (2) . وأما زعمه أن أبا بكر أعلم من علي عليه السلام، فقد فضح نفسه

في هذا الرأي وكذبه أبو بكر بقوله: إن لي شيطانا يعتريني، فإن استقمت فأعينوني

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 159

وإن زغت فقوموني، حيث رد عليه بعض الناس مسألة أخطأ فيها، وبالجملة

فكونه عليه السلام أعلم الناس مما لا خلاف فيه .

نعم ذكر المحققون، منهم السيد الشريف وغيره: أن الفضائل والمزايا التي

يحصل بها التفاضل بين الناس وإن كان الحظ الأوفر منها لعلي عليه السلام إلا أن السلف

مضوا على تفضيل الشيخين عليه، ونحن لا نظن بهم إلا الخير، فنقتدي بهم في

هذا الرأي .

وأما طعنه في الحديث فقد عرفت الكلام عليه، على أن طعن واحد من

النواصب فيه لا يوجب القدح كما لا يخفى . وأما قوله (فأبو بكر محرابها) فيرد

عليه أنه لم يرو في حديث، وإنما هو من باب التشهي، ويدل على كذبه أن

المحراب إنما هو للمساجد . وأما قوله (إن الباب يقصد للتفرغ) فيرد عليه أن كثرة

اشتغال أبي بكر إنما جاءت بعد النبي صلى الله عليه وآله، وأما في عصره فكثرة المشاغل في

الجهاد وغيره إنما كانت لعلي عليه السلام .

وأما قوله (وأبو بكر أساسها) إلى ما أراد وضعه فلا يخفى أنه لم يوافقه سوى

رجل واحد وهو واضع الحديث، وآثار الوضع عليه لائحة، لان قوله (عثمان

سقفها) مما يضحك منه الثكلى، إذ المدينة لا تكون لها سقف وأيضا ليس الكلام

في العلو والانخفاض، بل في الايثار لاخذ العلم من صاحب المدينة، ولا مدخل

لأساس المدينة وحيطانها وسقفها في ذلك، بل لو كان حيطانها وسقفها من الأشواك

والحشيش لأمكن ذلك .

إذا تحققت هذا فاعلم أن الأصحاب قدس الله أرواحهم استفادوا من هذا

الحديث المتفق عليه، أمورا:

منها: الدلالة على عصمته عليه السلام، لأنه صلى الله عليه وآله أمر بالاقتداء به في العلوم على

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

نور البراهين - السيد نعمة الله الجزائري - ج 2 - شرح ص 160

الاطلاق، فيجب أن يكون مأمونا من الخطأ .

ومنها: أنه لا يجوز أخذ العلم إلا منه، لقوله تعالى: وأتوا البيوت من

أبوابها (1) ومن دخل البيت من غير بابه كان سارقا متسورا .

ومنها: أنه هو الخليفة لا غيره، وذلك أنه شريك رسول الله صلى الله عليه وآله في العلم الذي

يكون مدار انتظام أمور الخلائق عليه، وهو مناط السعادة والشقاوة، فلا يجوز

رجوع الخلق إلى غيره مع وجوده، لأنه إما أخذ منه أو من غيره، وكلاهما لا

يليق بالإمامة مع وجوده .

أقول: ومن هذا الحديث يظهر أن الكوفي كان مشركا بالله، لأنه كان يقول في

مسجد الكوفة: قال علي وأنا أقول، ويجعل قول نفسه خلافا لقول علي عليه السلام،

فيكون ذلك القول مأخوذا من غير مدينة العلم فيكون قسيما لها، ومن تابعه على

أقواله يكون على منواله، كما سبق تحقيقه أوائل هذا الكتاب، وأما قراءة علي

وأخذه من العلو، فهو ركيك شاذ كما اعترف به جماعة منهم، فلا حاجة إلى

الكلام عليه .

1) أي: موجودا مقيما، يعني أنه سبحانه كان ولا نور ولا ظلمة، من العكف

أي: الحبس .

2) الحصر: العي، أي: يرجع مصاحبا له مكتفا (2) مقيدا بالعجز من كتفت

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 161

الرجل، أي: شددت يديه . إلى خلفه بالكتاف وهو الحبل .

1) الطرف: العين . والمكفوف: الأعمى، أي: يجعل عين الروح عميا لا تبصر

شيئا في ذلك المحل الا رفع .

2) يعني: أن الشك جعل الرأي صاحب آفة، فمأووفا حال من الرأي .

3) أي: محبا أو محبوبا له .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 162

باب حديث سبخت اليهودي

1) اختلف الناس في شعور الجمادات، فالأكثر على عدمه، بل ادعى عليه

السيد الأجل علم الهدى . إجماع المسلمين من غير فرق بين الأفلاك والسفليات .

وما زعمه الحكماء من أن الأفلاك حية ناطقة عاشقة للمبدأ الحقيقي، وغرضها

من حركاتها خروج كمالاتها من القوة إلى الفعل بالتشبيه بخالقها الذي كمالاته

موجودة بالفعل، أنكره غاية الانكار، لعدم تمام الدليل عليه .

وأما إنطاق هذه الجمادات بالشهادة له ولربها بالوحدانية، فهو معجزة له صلى الله عليه وآله

أنطقها الله تعالى على خلاف طور العقل والعادة كما في سائر المعجزات وهذا

مما لا ينكر، وهؤلاء فسروا قوله وإن من شئ إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون

تسبيحهم (1) بأنه ليس شئ من الموجودات إلا ويسبح بحمد الله تعالى من جهة

خلقته، إذ كل موجود سوى القديم حادث يدعو إلى تعظيمه لحاجته إلى صانع

غير مصنوع، فهو يدعو إلى تثبيت قديم غني بنفسه عن كل شئ سواه، ولا يجوز

عليه ما يجوز على المحدثات .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 163

وحاصله: أن المراد من التسبيح الشهادة بلسان الحال على توحيد خالقها،

ومعنى قوله (ولكن لا تفقهون تسبيحهم) أنكم لا تعلمون تسبيح هذه الأشياء

حيث لم تنظروا فيها فتعلموا كيفية دلالتها على تسبيحه .

وذهب طائفة من أرباب التفسير وجماعة من أصحابنا من أهل الحديث إلى

أن كل شئ على العموم من الوحوش والطيور والجمادات يسبح لله تعالى، حتى

صرير الباب وخرير الماء، وأخبارنا متظافرة الدلالة على هذا القول حتى أنه ورد

أن تسبيح الماء دويه، وتسبيح الجدار سقوطه إجلالا لربه . وأما تسبيح الطيور

ونحوها، فظاهر، كما ورد أنه ما صيد صيد في بر أو بحر إلا بترك التسبيح لربه،

ومن ثم قال جماعة من المحققين: إن تسبيح الحصا في يده صلى الله عليه وآله ليس هو بمعجزة

وإنما الاعجاز في إسماع الحاضرين تسبيحها .

وبالجملة فكل مخلوق من المخلوقات له ضرب من الشعور بخالقه جل شأنه،

وإنكاره وإن كان من حيث القابلية وعدمها وأن الجمادات لا تقبل الشعور، فالذي

ينطق الأعضاء والجوارح بالشهادة ويختم على الألسنة، قادر على أن يجعل فيها

نوعا من العلم والشعور بخالقها تعالى شأنه تنقاد به لعبوديته وتعترف بوحدانيته،

وظواهر الآيات والاخبار، سيما خطب نهج البلاغة دالة على هذا، والاجماع الذي

نقله السيد رحمه الله ليس حاله إلا كحال باقي الاجماعات، والكلام عليها مشهور لا ينكر .

وفي الرواية: أن نبيا من الأنبياء مر على حجر وهو يبكي والماء يتقاطر منه،

فقال له: لم تبكي أيها الحجر ؟ فقال: يا رسول الله منذ سمعت قوله تعالى فاتقوا

النار التي وقودها الناس والحجارة (1) فأخاف أن أكون من تلك الحجارة،

فقال: أنا أدعو لك الله أن لا تكون من تلك الحجارة فشكر له ذلك الحجر،

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 164

فانصرف النبي، ثم عاد إليه بعد أيام، فإذا هو يبكي أيضا، فقال له: لم تبكي ؟ والله

تعالى أجارك مما تخاف، فقال: يا رسول الله ذلك بكاء الخوف وهذا بكاء الشكر .

والأحاديث متكثرة بمثل هذا المضمون .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 165

باب معنى سبحان الله

1) سبحان الله مصدر كغفران بمعنى التنزيه، ولا يكاد يستعمل إلا مضافا

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 166

منصوبا بفعل مضمر كمعاذ الله، فمعنى سبحان الله أنزهه تنزيها عما لا يليق بجناب

قدسه وعز جلاله، وهو مضاف إلى المفعول، وربما جوز كونه مضافا إلى الفاعل

بمعنى التنزه، والمعنى: أني أنزهه تعالى بالتنزيه الذي نزه به نفسه، كما قال صلى الله عليه وآله: لا

أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك .

وتنزيهه تعالى نفسه: إما أن يكون عبارة عما خلق الخلق عليه من الحالات

الشاهدة بتنزيه خالقها عما في طباع الامكان .

وفي كل شئ له آية * تدل على أنه واحد .

وإما أن يكون المراد منه ما علمه تعالى لعباده من الأنبياء والملائكة

وسائر الخلق من الكلمات المتضمنة لتسبيحه وتنزيهه عما لا يليق بجناب قدسه،

فإنه تعالى لو لم يعلمهم كيفية التسبيح لم يعرف أحد طريق تسبيحه حتى

الملائكة، كما قال صلى الله عليه وآله: خلقت أنا وعلي من نور واحد، فسبحنا وسبحت

الملائكة، وهللنا وهللت الملائكة، وكانت الملائكة لا تعرف تسبيحا ولا تهليلا .

وإما أن يكون إشارة إلى ما ورد من أنه سبحانه يثنى على نفسه في عالم

الملكوت كل ليلة جمعة أو كل يوم بالمحامد اللائقة به إما على لسان بعض الملائكة

الروحانيين، أو بخلق صوت في السماوات يحمده ويسبحه بما يستأهله من

المحامد، ويجوز أن يكون عبارة عن مجموع ما ذكر .

1) في النهاية: يقال: أنف من الشئ يأنف أنفا، إذا كرهه وشرفت نفسه عنه،

والمراد أخذ الحمية من الغيرة والغضب (1) .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 167

يعني: أن هذا التنزيه حمية من الله تعالى لنفسه من مشاركة الشركاء .

باب معنى الله أكبر

1) وذلك أن أفعل التفضيل يقتضي المشاركة في أصل الفعل وزيادة تدخل

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 168

تحت مراتب التناهي، وما كان عظمه متناهيا يكون متناهيا في صفات الذات

وغيرها، لدخولها تحت مفهوم العظمة والجلال، نعم ورد عن الإمام زين العابدين

عليه السلام: أن معناه: أكبر من كل شئ، ووجه الجمع يكون بوجوه:

منها: أن يكون نفي هذا المعنى الوارد في خبري الكتاب محمولا على إرادة

الكبر في عظيم الخلق والجثة، فيكون معنى ثانيا لقوله عليه السلام (حددته) يعني:

تحديده بالجسمية وعظمها، وما روي في جوازه يراد منه العظمة والجلال .

ومنها: أن الأكبرية وإن أريد بها عظمة الشأن إلا أنها تراد بالإضافة إلى

الأشياء، وحينئذ فاللازم: إما قدم الأشياء، أو حدوث عظمته سبحانه، مع أن

اتصافه بالأعظمية كان قبل الخلق ومع الخلق وبعد فناء الخلق، وما روي من جواز

أكبر من كل شئ يراد منه الأعظمية بالنسبة إلى الحالة الثانية، ويكون في هذا

المعنى إشارة إلى معنى ثالث لقوله (حددته) وهذا هو المتبادر من الحديث

الثاني في قوله عليه السلام: وكان ثم شئ فيكون أكبر منه . يعني أن الأشياء غير موجودة

في الأزل، فلو كانت أعظميته تعالى مطلقا، إنما هي بالنسبة إلى الأشياء، والأشياء

حادثة، فيلزم أن يكون سبحانه محدودا بالأزمنة مثلها .

ومنها: أن معنى قوله (أكبر من كل شئ) بالإضافة إلى الرد على الكفار

ونحوهم ممن يعتقد الأعظمية في آلهة، فإن الكفار يزعمون أن أصنامهم وما

يعبدون أجل وأعظم، فورد أن الأعظم من كل شئ هو الله تعالى شأنه لا ما

يعتقدون فيه الأعظمية، وأما نفي هذا المعنى الوارد في الخبرين، فيحمل على غير

هذه الحالات، ويكون عدم جواز ذلك المعنى فيها لايهامه معنى من المعاني

السابقة مما يتضمن التحديد والحدوث .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 169

باب معنى الأول والاخر

1) هذا ناظر إلى المعنى الأول .

2) ناظر إلى المعنى الآخر .

3) هذا معنى آخر للاخر، وحاصله أنه في الآخر على ما كان في الأول من

الثبات على صفة واحدة، وحالة واحدة .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 170

باب معنى قوله عز وجل: (الرحمن على العرش استوى)

1) تحقيق معنى هذا الحديث وسائر أحاديث هذا الباب يتم ببيان أمور،

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 171

أولها: بيان معنى الاستواء، فنقول: قد ذكر العلماء له معان خمسة: الأول:

الاستواء والتمكن على الشئ . الثاني: قصد الشئ والاقبال عليه . الثالث:

الاستيلاء على الشئ، ومنه:

قد استوى بشر على العراق * من غير سيف ودم مهراق

الرابع: الاعتدال، يقال: سويت الشئ فاستوى أي: اعتدل، الخامس:

المساواة في النسبة .

فأما المعنى الأول، فهو محال عليه تعالى، لأنه مستلزم للمكان والجسم .

وأما باقي المعاني، فذهب جماعة من أرباب التفسير إلى إرادة المعنى الثاني منها،

والمعنى: أنه أقبل على خلقه وقصد إلى ذلك .

وسئل أبو العباس أحمد بن يحيى عن هذه الآية، فقال: الاستواء الاقبال على

الشئ . ونحوه قال الفراء والزجاج في قوله عز وجل ثم استوى إلى

السماء (1) وذهب الأكثر منهم وهو الظاهر من الاخبار، إلى إرادة المعنى

الثالث، والمعنى: أنه تعالى شأنه استولى على العرش وملكه ودبره .

قال في الكشاف: لما كان الاستواء على العرش وهو سرير الملك، لا يحصل

إلا مع الملك جعلوه كناية عن الملك، فقالوا: استوى فلان على السرير، يريدون

ملكه، وإن لم يقعد على السرير البتة، وإنما عبروا عن حصول الملك بذلك، لأنه

أصرح وأقوى في الدلالة من أن يقال: فلان ملك، ونحوه قولك: يد فلان مبسوطة

ويد فلان مغلولة، بمعنى: أنه جواد أو بخيل، لا فرق بين العبارتين إلا فيما قلت،

حتى أن من لم يبسط يده قط بالنوال أو لم تكن له يد رأسا وهو جواد قيل فيه:

مبسوطة، لأنه لافرق عندهم بينه وبين قولهم: جواده (2) .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 172

وذهب بعض أرباب الحديث إلى جواز إرادة المعنى الرابع بأن يكون كناية

عن نفي النقص عنه تعالى من جميع الوجوه، وعلى هذا يكون قوله (على العرش)

في محل النصب على الحال . وأما المعنى الخامس، فهو الظاهر من أكثر الاخبار .

الأمر الثاني: في معاني العرش واطلاقاته، فقد ورد تارة بمعنى الجسم العظيم

المحيط بسائر الجسمانيات، وهو المسمى بفلك الأفلاك، والفلك الأطلس،

ومحدد الجهات . ويطلق تارة أخرى على جميع المخلوقات، فإنها بمجموعها

وآحادها عرش لعظمته ووحدانيته وسلطانه، كما أن السرير عرش لعظمة الملك

والسلطان . ويطلق ثالثا على العلم، ورابعا على نهاية العظمة والتقدس والجلالة،

لأنها عرش الجلال والاكرام وهذه المعاني الأربعة أشهر معانيه، لورودها في

الآيات والاخبار، وإلا فالوارد في الأحاديث إطلاقه على معان كثيرة، ولقد

حدثني شيخنا صاحب التفسير الموسوم بنور الثقلين أن العرش يطلق في

الاخبار على ما يقارب ستين معنى (1) .

الثالث: في تعيين المعنى المراد من هذا الخبر ونحوه، ذهب أكثر المحدثين

إلى أن المراد منه المعنى الثاني، بتضمين الاستواء معنى ما يتعدى بعلى،

كالاستيلاء والاستعلاء، والمعنى: أنه سبحانه استعلى على كل شئ، واستوت

نسبته إلى الأشياء بالاستعلاء والاشراف عليها، وجوز جماعة إرادة المعنى

الثالث، ومعناه: أن الرحمن عز شأنه على عرش العلم، استوت نسبة العلمية إلى

الإحاطة بجميع الأشياء .

وأما المعنى الرابع، فجوز إرادته هذا أيضا، يعني أن الرحمن استولى على كل

الأشياء حال كونه مستقرا على عرش العظمة والجلال، ولا يخفى اختلاف قوله

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 173

(على العرش) وقوله (استوى) من جهة القانون النحوي من أن أحدهما تارة

يكون خبرا وأخرى يكون حالا .

وأما النكتة في التعبير بلفظ (الرحمن) دون الرحيم، ونحوه من الأسماء

الحسنى، فلعل الوجه فيها ما قاله بعض المحققين من إرادة أن رحمانيته تعالى

توجب استواء نسبته الايجاد والحفظ والتربية والإحاطة العلمية إلى جميع

المخلوقات، بخلاف الرحيمية، فإنها تقتضي إفاضة الرحمة وتخصيصها بالمؤمنين

خاصة، وكذلك سائر الأسماء فإنها عند التحقيق معان خاصة .

إذا عرفت هذا فاعلم أن المصنف تغمده الله برضوانه قال في كتاب الاعتقاد:

اعتقادنا في العرش أنه جملة جميع الخلق والعرش في وجه آخر هو العلم وسئل

الصادق عليه السلام عن قول الله عز وجل (الرحمن على العرش استوى) فقال: استوى

من كل شئ، فليس شئ أقرب إليه من شئ (1) .

أقول: يظهر من كلامه هذا أن العرش لا يطلق على الجسم المحيط، أي

المعنى الأول الظاهر من أكثر الموارد، وهو عجيب، فإما أن يقال: إن تركه

للظهور، أو أراد من المعنيين المعنى الباطن، أو أنه أراد تفسير العرش الوارد في

هذه الآية . وفيه ما فيه .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 174

1) المراد من الحد النهايات الحسية والعقلية، ومن الكيف الصفات الزائدة .

2) يعني: يحمل العرش المحيط بالجسمانيات يوم القيامة ثمانية من

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 175

الملائكة . وقيل: ثمانية صفوف من الملائكة، وروي عن النبي صلى الله عليه وآله: إ نهم اليوم

أربعة، فإذا كان يوم القيامة أيدهم بأربعة أخرى، فيكونون ثمانية صفوف من

الملائكة لا يعلم عددها إلا الله تعالى (1) .

وفي صحاح الاخبار: أن المراد من العرش هنا العلم، يعني: يحمل علم الله

تعالى في القيامة أربعة من الأولين نوح وإبراهيم وموسى وعيسى، وأربعة من

الآخرين محمد صلى الله عليه وآله وعلي والحسنان عليهم أفضل الصلوات وأسنى التحيات (وهذا بطن الآية، والأول ظهرها، وكلاهما حق، وإنما خص العلم بهم، لأنهم

أصحاب الشرائع وأهل العلوم، وغيرهم تابع لهم ومبلغ عنهم، فهم حملة العلم في

الدنيا والآخرة، ولأنهم أهل الرسالة العامة إلى جميع المكلفين، كما وردت به

الاخبار الواضحة .

1) تفسير لقوله (في شئ) .

2) تفسير لقوله (على شئ) .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

نور البراهين - السيد نعمة الله الجزائري - ج 2 - شرح ص 176

1) تفسير لقوله (من شئ) .

2) وذلك إما لأنها مشاركة له في القدم، أو أنه تعالى إذا اتصف بها كان ممكنا

مشاركا للممكنات في صفاتها واحتياجاتها، جل ربنا وتعالى عن ذلك علوا كبيرا .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 177

1) يعني: إن ربكم هو الله الذي أوجد السماوات والأرض في مقدار ستة

أيام من أيام الدنيا، ولا شبهة أنه سبحانه يقدر على خلق أمثال ذلك في لحظه،

ولكنه خلقهما في هذه المدة لمصلحة، ورتبهما على أيام الأسبوع، فابتدأ

بالأحد، وفرغ يوم الجمعة، فاجتمع له الخلق يوم الجمعة فلذلك سمي الجمعة،

وقيل: إنه سبحانه علم خلقه التثبت والرفق في الأمور .

(ثم استوى على العرش) أي استوى أمره على الملك، يعني: استقر ملكه

واستقام بعد خلق السماوات والأرض، وظهر ذلك للملائكة، وإنما أخرج هذا

على المتعارف من كلام العرب كقولهم استوى الملك على عرشه إذا انتظمت أمور

مملكته، وإذا اختل أمر ملكه قالوا: ثل عرشه، ولعل ذلك الملك لا يكون له سرير

ولا يجلس على سرير أبدا .

(يغشى الليل النهار) أي: يلبس الليل النهار، يعني: يأتي بأحدهما بعد الآخر

فيجعل ظلمة الليل بمنزلة الغشاوة للنهار، ولم يقل يغشى النهار الليل، لان الكلام يدل

عليه، وقد ذكر في موضع آخر يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل (2) .

2) لان العرش كان فوق الماء، ثم لما خلق السماوات نقله إلى فوقها .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 178

1) قال ثقة الاسلام الطبرسي رحمه الله: أقسم سبحانه فقال: (ولنبلونكم) أي:

نعاملكم معاملة المختبر بما نكلفكم به من الأمور الشاقة (حتى نعلم

المجاهدين منكم والصابرين) أي: حتى نتميز المجاهدين في سبيل الله من

جملتكم والصابرين على الجهاد، وقيل: معناه: حتى يعلم أولياؤنا المجاهدين

منكم، وأضافه إلى نفسه تعظيما وتشريفا، كما قال: (إن الذين يؤذون الله

ورسوله) أي يؤذون أولياء الله . وقيل: معناه: حتى نعلم جهادكم موجودا، لان

الغرض أن تفعلوا الجهاد فيثيبكم على ذلك (2) .

أقول: ما ذكره المصنف طاب ثراه لعل فيه مناسبة للمعنى الأخير، وإلا فحقيقة

الكلام أن العلم القديم وإن تعلق بالأشياء قبل وجودها على ما يكون عليه، إلا أن

ذلك العلم ليس هو بعلة في التكليف، ويناط به الثواب والعقاب، وإنما العلة فيهما

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 179

وقوع العلم بعد وقوع التكليف . وبالجملة فقوله تعالى شأنه (حتى نعلم) معناه:

حتى يتعلق به علمنا بعد الوقوع كما تعلق به قبله ليكون الحجة عليكم فيه أقوى .

باب معنى قوله عز وجل (وكان عرشه على الماء)

1) قال المحقق الداماد طاب ثراه: كثيرا ما وقع اسم الماء في التنزيل الكريم

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 180

وفي الأحاديث الشريفة على العلم، أو العقل القدسي الذي هو حامله، واسم

الأرض على النفس المجردة التي هي جوهر قابلة للعلوم والمعارف، ومنه قوله

عز سلطانه وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت

من كل زوج بهيج (1) على ما قد قرره غير واحد من أئمة التفسير، وكذلك قول

مولانا أبي عبد الله عليه السلام في هذا الحديث: الماء تعبير عن الجوهر العقلي الحامل

لنور العلم من الأنوار العقلية والقدسية . هذا كلامه (2) .

وهو منوط بإثبات العقول والمجردات، والبرهان قاصر عن إثباتها، وإرادة

المعنى الحقيقي من الماء جائزة، كما ذكره بعض المحققين .

حيث قال: لعل المراد به أن العرش هو علمه سبحانه الفائض من الجوهر

العقلاني إلى النفوس والأرواح الجسمانية، وكان فيضان هذا العلم على الماء من

الجسمانيات قبل خلق الأرض والسماء والجن والانس والشمس والقمر، وذلك

لان القابل لان يفاض عليه من الأنوار العقلانية المستعد له إنما هو الماء الذي منه

حياة كل شئ، وإنما الحياة هي المصحح للعلم والقدرة، كما في قوله تعالى من

الماء كل شئ حي (3)، وقبل خلق السماوات والأرض كان علمه سبحانه على

الماء كما أن الله بعد خلق هذه الأشياء حملها على المخلوق من الماء، فإن الماء

أقرب الأجسام إلى المبادي العقلائية والأسباب الروحانية ومحل الحياة في

الجسمانيات المصححة للعلم والقدرة، ولهذا نيط التطهر من الأدناس المانعة من

قرب المبادي باستعمال الماء والتطهر به مع زوال أعيانها .

1) هذا التحميل لهم عليهم السلام إنما وقع في عالم الأنوار، وبذلك العلم الذي تحملوه

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 181

علموا الملائكة في ذلك العالم علوم التوحيد وكيفية التقديس، كما سبق آنفا .

1) يدل بظاهره على إقرار جميع الخلق لهم بالطاعة، وفي غير هذا الخبر أن

من أقر لهم بالطاعة في هذا العالم ومن جحد طاعتهم فيه فإنما هو مسبب عن

التصديق والانكار لهم في عالم الميثاق، فإن من الناس وسائر المخلوقات حتى

الجمادات من الأشجار والحيوانات والطيور والأراضي وغيرها، من أقر لهم

بالولاية والطاعة، ومنهم من أنكر، فمن بادر إلى الطاعة في ذلك العالم كان من

شيعتهم في هذا العالم، وفي الاخبار (2): أن من جملة جحد طاعتهم من الطيور

العصفور، ومن الأراضي الأرض السبخة والمالحة وما لا تنبت النبات، ومن الشجر

ما لم يثمر أو ما كان ثمره مرا، ومن الحيوانات ما خبث لحمه .

وحينئذ فطريق الجمع: إما حمل الناس هنا على الشيعة ومن أقر لهم، وإما

على القول بتعدد الميثاق، فأقر الكل في واحد وتفرد المؤمنون بالاقرار في آخر،

ولعل هذا هو الأظهر، لاستفادته من كثير من الاخبار .

2) إشارة إلى ما قاله تعالى في سورة الأعراف في قوله عز شأنه وإذا أخذ

ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا

بلى شهدنا أن لا تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين × أو تقولوا إنما أشرك

آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم، أفتهلكنا بما فعل المبطلون (3) .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 182

والأخبار الواردة في أن معنى هذه الآية هو عالم الذر وأخذ الميثاق فيه على

العباد بأن يقروا لله سبحانه بالربوبية، ولمحمد صلى الله عليه وآله بالنبوة، ولأهل بيته بالإمامة

والطاعة مستفيضة بل متواترة .

روى الصدوق طاب ثراه بإسناده إلى حبيب السجستاني قال: سمعت أبا

جعفر عليه السلام يقول: إن الله عز وجل لما أخرج ذرية آدم عليه السلام من ظهره ليأخذ عليهم

الميثاق له بالربوبية وبالنبوة لكل نبي، كان أول من أخذ عليهم الميثاق محمد بن

عبد الله صلى الله عليه وآله، ثم قال جل جلاله لآدم عليه السلام: انظر ماذا ترى ؟ قال: فنظر آدم إلى

ذريته وهم ذر قد ملأوا السماء، فقال آدم: يا رب ما أكثر ذريتي ! ولامر ما

خلقتهم ؟ فما تريد منهم بأخذك الميثاق عليهم ؟ فقال الله عز وجل: يعبدونني ولا

يشركون بي شيئا ويؤمنون برسلي ويتبعونهم .

قال آدم عليه السلام: فما لي أرى بعض الذر أعظم من بعض، وبعضهم له نور كثير،

وبعضهم له نور قليل، وبعضهم ليس له نور ؟ قال الله عز وجل: كذلك خلقتهم

لأبلوهم في كل حالاتهم، قال آدم: يا رب فتأذن لي في الكلام فأتكلم ؟ فقال الله

جل جلاله: تكلم، فإن روحك من روحي وطبيعتك خلاف كينونتي .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 183

قال آدم: يا رب لو كنت خلقتهم على مثال واحد، وقدر واحد، وطبيعة واحدة،

وجبلة واحدة، وألوان واحدة، وأعمار واحدة، وأرزاق سواء، لم يبغ بعضهم على

بعض، ولم يكن بينهم تحاسد ولا تباغض ولا اختلاف في شئ من الأشياء .

فقال الله جل جلاله: يا آدم بروحي خلقت، وبضعف طبعك تكلفت ما لا

علم لك به، وأنا الله الخلاق العليم، بعلمي خالفت بين خلقهم، وبمشيتي أمضي فيهم

أمري، وإلى تدبيري وتقديري هم صائرون، لا تبديل لخلقي، وإنما خلقت الجن والإنس

ليعبدوني، وخلقت الجنة لمن عبدني وأطاعني منهم، واتبع رسلي ولا أبالي،

وخلقت النار لمن كفر بي وعصاني ولم يتبع رسلي ولا أبالي، وخلقتك وخلقت

ذريتك من غير فاقة بي إليك وإليهم، وإنما خلقتك وخلقتهم لأبلوك وأبلوهم أيهم

أحسن عملا في دار الدنيا في حياتكم وقبل مماتكم، وكذلك خلقت الدنيا

والآخرة، والحياة والموت، والطاعة والمعصية، والجنة والنار، وكذلك أردت في

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 184

تقديري وتدبيري، وبعلمي النافذ فيهم خالفت بين صورهم وأجسادهم، وألوانهم

وأعمارهم وأرزاقهم، وطاعتهم ومعصيتهم، فجعلت منهم السعيد والشقي، والبصير

والأعمى، والقصير والطويل، والجميل والذميم، والعالم والجاهل، والغني والفقير،

والمطيع والعاصي والصحيح والسقيم، ومن به الزمانة ومن لا عاهة به، ينظر

الصحيح إلى الذي به العاهة فيحمدني على ما عافيته، وينظر الذي به العاهة إلى

الصحيح فيدعوني ويسألني أن أعافيه ويصبر على بلائه فأثيبه جزيل عطائي،

وينظر الغني إلى الفقير فيحمدني ويشكرني، وينظر الفقير إلى الغني فيدعوني

ويسألني، وينظر المؤمن إلى الكافر فيحمدني على ما هديته، فلذلك خلقتهم

لأبلوهم في السراء والضراء، الحديث (1) .

وروى علي بن إبراهيم بإسناده إلى الصحاف، قال: سألت الصادق عليه السلام عن

قوله: (فمنكم كافر ومنكم مؤمن) فقال: عرف الله عز وجل إيمانهم بولايتنا

وكفرهم بتركها يوم اخذ عليهم الميثاق وهم ذر في صلب آدم عليه السلام (2) .

وروى أيضا في الصحيح عنه عليه السلام في قوله: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من

ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى) قلت: معاينة

كان هذا ؟ قال: نعم، فثبتت المعرفة ونسوا الموقف، وسيذكرونه، ولولا ذلك لم يدر

أحد من خالقه ورازقه، فمنهم من أقر بلسانه في الذر ولم يؤمن بقلبه، فقال الله:

(فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل) (3) .

ومن تتبع الأخبار الواردة في هذا الباب وجدها مما تزيد على خمسمائة

حديث، وفيها الصحاح والحسان والموثقات، والعجب أن أجلاء أصحابنا

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 185

رضوان الله عليهم مثل شيخنا المفيد وسيدنا المرتضى وأمين الاسلام الطبرسي،

كيف أنكروه وأولوا الأخبار الواردة فيه مع أنها لا تقبل التأويل، ولننقل كلامهم

ليتضح لك حقيقة الحال، فنقول:

ذكر الشيخ المفيد قدس الله ضريحه في جواب المسائل السروية حيث سئل

عن معنى الاخبار المروية عن الأئمة الهادية عليهم السلام في الأشباح وخلق الله تعالى

الأرواح قبل خلق آدم عليه السلام بألفي عام وإخراج الذرية من صلبه على صور الذر،

ومعنى قول رسول الله صلى الله عليه وآله: الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف وما

تناكر منها اختلف .

الجواب وبالله التوفيق: أن الاخبار بذكر الأشباح تختلف ألفاظها وتتباين

معانيها، وقد بنت الغلاة عليها أباطيل كثيرة وصنفوا فيها كتبا لغوا فيها، وأضافوا ما

حوته الكتب إلى جماعة من شيوخ أهل الحق، وتخرصوا الباطل بإضافتها إليهم،

من جملتها كتاب سموه كتاب الأشباح والأظلة، نسبوه إلى محمد بن سنان، ولسنا

نعلم صحة ما ذكروه في هذا الباب عنه وإن كان صحيحا، فان ابن سنان قد طعن

عليه وهو متهم بالغلو، فإن صدقوا في إضافة هذا الكتاب إليه فهو ضلال لضال

عن الحق، وإن كذبوا فقد تحملوا أوزار ذلك .

والصحيح من حديث الأشباح الرواية التي جاءت عن الثقاة بأن آدم عليه السلام

رأى على العرش أشباحا يلمع نورها فسأل الله تعالى عنها فأوحى إليه أنها

أشباح رسول الله صلى الله عليه وآله وأمير المؤمنين والحسن والحسين وفاطمة صلوات الله

عليهم، وأعلمه أنه لولا الأشباح التي رآها ما خلقه ولا خلق سماء ولا أرضا،

والوجه فيما أظهره الله تعالى من الأشباح والصور لادم أن دله على تعظيمهم

وتبجيلهم وجعل ذلك إجلالا لهم، ومقدمة لما يفترضه من طاعتهم، ودليلا على

أن مصالح الدين والدنيا لا تتم إلا بهم، ولم يكونوا في تلك الحال صورا مجيبة،

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 186

ولا أرواحا ناطقة، لكنها كانت على مثل صورهم في البشرية تدل على ما يكونون

عليه في المستقبل في الهيئة، والنور الذي جعله عليهم يدل على نور الدين بهم

وضياء الحق بحججهم .

وقد روي أن أسماءهم كانت مكتوبة إذ ذاك على العرش، وأن آدم عليه السلام لما

تاب إلى الله عز وجل وناجاه بقبول توبته، سأله بحقهم عليه ومحلهم عنده، فأجابه،

وهذا غير منكر في العقول، ولا مضاد للشرع المنقول، وقد رواه الصالحون الثقات

المؤمنون، وسلم لروايته طائفة الحق ولا طريق إلى إنكاره، والله ولي التوفيق .

وذكر بعد هذا فصلا ذكر فيه أن هذا مثل ما بشر الله به من صفات النبي وأهل

بيته صلوات الله عليهم، وكذا ما بشر به في التوراة والإنجيل .

ثم قال: فأما الحديث في إخراج الذرية من صلب آدم عليه السلام على صورة

الذر، فقد جاء الحديث بذلك على اختلاف ألفاظه ومعانيه، والصحيح أنه أخرج

الذرية من ظهره كالذر، فملا بهم الأفق، وجعل على بعضهم نورا لا يشوبه ظلمة،

وعلى بعضهم ظلمة لا يشوبها نور، وعلى بعضهم نورا وظلمة، فلما رآهم آدم عليه السلام

عجب من كثرتهم وما عليهم من النور والظلمة فقال: يا رب ما هؤلاء ؟ قال الله

عز وجل له: هؤلاء ذريتك، يريد تعريفه كثرتهم، وامتلاء الآفاق بهم، وإن نسله

يكون في الكثرة كالذر الذي رآه، ليعرفه قدرته ويبشره بكثرة نسله .

فقال آدم عليه السلام: يا رب مالي أرى على بعضهم نورا لا ظلمة فيه ؟ وعلى بعضهم

ظلمة لا يشوبها نور ؟ وعلى بعضهم ظلمة ونورا ؟

فقال تبارك وتعالى: أما الذي عليهم النور بلا ظلمة، فهم أصفيائي من ولدك

الذين يطيعوني ولا يعصوني في شئ من أمري، فأولئك سكان الجنة، وأما الذين

عليهم ظلمة لا يشوبها نور، فهم الكفار من ولدك الذين يعصوني ولا يطيعوني، فأما

الذين عليهم نور وظلمة فأولئك الذين يطيعوني من ولدك ويعصوني، فيخلطون

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 187

أعمالهم السيئة بأعمال حسنة، فهؤلاء أمرهم إلي، إن شئت عذبتهم، فبعدلي، وإن

شئت عفوت عنهم فبفضلي، فأنبأه الله تعالى بما يكون من ولده وشبههم بالذر الذي

أخرجهم من ظهره وجعله علامة على كثرة ولده . ويحتمل أن يكون ما أخرجه من

ظهره وجعل أجسام ذريته دون أرواحهم، وإنما فعل الله تعالى ذلك ليدل آدم عليه السلام

على العاقبة منه ويظهر له من قدرته وسلطانه وعجائب صنعته وأعلمه بالكائن

قبل كونه، وليزداد آدم عليه السلام يقينا بربه ويدعوه ذلك إلى التوفر على طاعته

والتمسك بأوامره والاجتناب لزواجره .

فأما الاخبار التي جاءت بأن ذرية آدم عليه السلام استنطقوا في الذر فنطقوا فأخذ

عليهم العهد، فأقروا، فهي من أخبار التناسخية، وقد خلطوا فيها ومزجوا الحق

بالباطل، والمعتمد من إخراج الذرية ما ذكرناه دون ما عداه مما خالف الأدلة

العقلية والحجج السمعية، وإنما هو تخليط لا يثبت به أثر .

فإن تعلق متعلق بقوله تبارك اسمه: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم)

الآية، فظن بظاهر هذا القول تحقق ما رواه أهل التناسخ والحشوية والعامة في

إنطاق الذرية وخطابهم وأنهم كانوا أحياء ناطقين .

فالجواب عنه: أن لهذه الآية من المجاز في اللغة، كنظائرها مما هو مجاز

واستعارة، والمعنى فيها أن الله تبارك وتعالى أخذ من كل مكلف يخرج من ظهر

آدم وظهور ذريته، العهد عليه بربوبيته من حيث أكمل عقله ودله بآثار الصنعة على

حدثه، وأن له محدثا أحدثه لا يشبهه يستحق العبادة منه بنعمه عليه، فذلك هو

أخذ العهد منهم وآثار الصنعة فيهم، والاشهاد على أنفسهم بأن الله تعالى ربهم .

وقوله تعالى: (قالوا بلى) يريد أنهم لم يمتنعوا من لزوم آثار الصنعة فيهم،

ودلائل حدثهم اللازمة لهم، وحجة العقل عليهم في إثبات صانعهم، فكأنه سبحانه

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 188

لما ألزمهم الحجة بعقولهم على حدثهم ووجود محدثهم قال لهم: ألست بربكم ؟

فلما لم يقدروا على الامتناع من لزوم دلائل الحدث لهم كانوا كقائلين: بلى شهدنا .

وقوله تعالى: (أن يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو يقولوا إنما

أشرك آبائنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون) ألا ترى

انه احتج عليه بما لا يقدرون يوم القيامة أن يتأولوا في إنكاره ولا يستطيعون، وقد

قال سبحانه: والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من

الناس وكثير حق عليه العذاب (1) ولم يرد أن المذكور يسجد كسجود البشر في

الصلاة وإنما أراد به أنه غير ممتنع من فعل الله، فهو كالمطيع لله وهو معبر عنه

بالساجد .

وذكر طاب ثراه جملة من الشواهد على هذا المجاز، ثم قال: فأما الخبر بأن

الله تعالى خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي عام، فهو من أخبار الآحاد، وقد روته

العامة كما روته الخاصة، وليس هو مع ذلك مما يقطع على الله تعالى بصحته، وإنما

نقله رواته لحسن الظن به، وإن ثبت القول فالمعنى فيه أن الله تعالى قدر الأرواح

في علمه قبل اختراع الأجساد، واخترع الأجساد واخترع لها الأرواح، فالخلق

للأرواح قبل الأجساد خلق تقدير في العلم كما قدمناه، وليس بخلق لذواتها كما

وصفناه، والخلق لها بالاحداث والاختراع بعد خلق الأجسام، والصور التي

تدبرها الأرواح، ولولا أن ذلك كذلك لكانت الأرواح تقوم بأنفسها ولا تحتاج إلى

الآت يعتملها، ولكنا نعرف ما سلف لنا من الأحوال قبل خلق الأجساد، كما نعلم

أحوالنا بعد خلق الأجساد، وهذا محال لاخفاء بفساده .

وأما الحديث بأن الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف وما تناكر

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 189

منها اختلف، فالمعنى فيه أن الأرواح التي هي الجواهر البسائط تتناصر بالجنس

وتتخاذل بالعوارض، فما تعارف منها بالرأي والهوى ائتلف وما تناكر منها بمباينة

في الرأي والهوى اختلف، وهذا موجود حسا ومشاهد، وليس المراد أن ما

تعارف منها في الذر ائتلف، كما يذهب إليه الحشوية، لما بيناه من أنه لا علم

للانسان بحال كان عليها قبل ظهوره في هذا العالم، ولو ذكر بكل شئ ما ذكر

ذلك، فوضح بما ذكرناه أن المراد بالخبر ما شرحناه، والله الموفق للصواب

انتهى (1) .

وأما السيد المرتضى عطر الله مرقده، فقال في قوله تعالى: (وإذ أخذ ربك)

الآية: قد ظن بعض من لا بصيرة له ولا فطنة عنده أن تأويل هذه الآية: أن الله

سبحانه استخرج من ظهر آدم عليه السلام جميع ذريته، وهم في خلق الذر، فقررهم

بمعرفته وأشهدهم على أنفسهم، وهذا التأويل مع أن العقل يبطله ويحيله مما يشهد

ظاهر القرآن بخلافه، لان الله تعالى قال: (وإذ أخذ ربك من بني آدم) ولم يقل من

آدم، وقال: (من ظهورهم) ولم يقل من ظهره، وقال: (ذريتهم) ولم يقل ذريته،

ثم أخبر تعالى بأنه فعل ذلك لئلا يقولوا يوم القيامة إنهم كانوا عن ذلك غافلين، أو

يعتذروا بشرك آبائهم، وإنهم نشأوا على دينهم وسنتهم .

وهذا يقتضي أن الآية لم تتناول ولد آدم لصلبه، وأنها إنما تناولت من كان

له آباء مشركون، هذا يدل على اختصاصها ببعض ذرية بني آدم، فهذه شهادة

الظاهر ببطلان تأويلهم، فأما شهادة العقول فمن حيث لا تخلو هذه الذرية التي

استخرجت من ظهر آدم عليه السلام وخوطبت وقررت، من أن تكون كاملة العقول،

مستوفية لشروط التكليف، أو لا تكون كذلك، فإن كانت بالصفة الأولى وجب أن

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 190

يذكر هؤلاء بعد خلقهم وإنشائهم وإكمال عقولهم ما كانوا عليه في تلك الحال، وما

قرروا به واستشهدوا عليه، لان العاقل لا ينسى ما جرى هذا المجرى وان بعد

العهد وطال الزمان، ولهذا لا يجوز أن يتصرف أحدنا في بلد من البلدان وهو عاقل

كامل فينسى مع بعد العهد جميع تصرفه المتقدم وسائر أحواله، وليس أيضا لتخلل

الموت بين الحالتين تأثير، لأنه لو كان تخلله يزيل الذكر لكان تخلل النوم والسكر

والجنون والاغماء بين أحوال العقلاء يزيل ذكرهم، لما مضى من أحوالهم، لان

سائر ما عددناه مما ينفي العلوم يجري مجرى الموت في هذا الباب .

وليس لهم أن يقولوا: إذا جاز في العاقل الكامل أن ينسى ما كان عليه في

حال الطفولية جاز ما ذكرنا، وذلك أنا إنما أوجبنا ذكر العقلاء لما ادعوه، إذا

كملت عقولهم من حيث جرى عليهم وهم كاملو العقل، ولو كانوا بصفة الأطفال

في تلك الحال لم نوجب عليهم ما أوجبناه، على أن تجويز النسيان عليهم ينقض

الغرض في الآية، وذلك أن الله تعالى أخبر بأنه إنما قررهم وأشهدهم لئلا يدعوا

يوم القيامة الغفلة عن ذلك وسقوط الحجة عنهم فيه، فإذا جاز نسيانهم له عاد

الامر إلى سقوط الحجة عنهم وزوالها، وإن كانوا على الصفة الثانية من فقد العلم

وشرائط التكليف قبح خطابهم وتقريرهم وإشهادهم، وصار ذلك عبثا قبيحا

يتعالى الله عنه .

فإن قيل: قد أبطلتم تأويل مخالفيكم، فما تأويلها الصحيح عندكم ؟

قلت: في الآية وجهان: أحدهما: أن يكون تعالى إنما عنى بها جماعة من

ذرية بني آدم خلقهم وبلغهم وأكمل عقولهم وقررهم على ألسن رسله عليهم السلام

بمعرفته وما يجب من طاعته فأقروا بذلك وأشهدهم على أنفسهم به لئلا يقولوا

يوم القيامة: إنا كنا عن هذا غافلين، أو يعتذروا بشرك آبائهم، وإنما أوتي من اشتبه

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 191

عليه تأويل الآية من حيث ظن أن اسم الذرية لا يقع إلا على من لم يكن كاملا

عاقلا، وليس الامر كما ظن، لأنا نسمي جميع البشر بأنهم ذرية آدم، وإن دخل

فيهم العقلاء الكاملون، وقد قال الله تعالى: ربنا وأدخلهم جنات عدن التي

وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم (1) ولفظ الصالح لا

يطلق إلا على من كان كاملا عاقلا، فإن استبعدوا تأولينا وحملنا الآية على

البالغين المكلفين، فهذا جوابهم .

الجواب الثاني: أنه تعالى لما خلقهم وركبهم تركيبا يدل على معرفته ويشهد

بقدرته ووجوب عبادته وأراهم العبر والآيات والدلائل في غيرهم وفي

أنفسهم، كان بمنزلة المشهد لهم على أنفسهم، وكانوا في مشاهدة ذلك ومعرفته

وظهوره فيهم على الوجه الذي أراده الله، وتعذر امتناعهم منه وانفكاكهم من

دلالته بمنزلة المقر المعترف، وإن لم يكن هناك إشهاد ولا اعتراف على الحقيقة،

ويجري مجرى ذلك قوله تعالى: ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها

وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالا أتينا طائعين (2) وإن لم يكن منه تعالى قوله

على الحقيقة ولا منهما جواب، وذكر له نظائر كثيرة (3) .

وأما فخر الدين الرازي، فقال في تفسير هذه الآية قولان:

الأول: وهو مذهب المفسرين وأهل الأثر، ما روى مسلم بن يسار الجهني

أن عمر سئل عن هذه الآية، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله سئل عنها، فقال: إن الله

خلق آدم ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل

الجنة يعملون، ثم مسح ظهره، فاستخرج ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للنار وبعمل

أهل النار يعملون، فقال رجل: يا رسول الله ففيم العمل ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 192

إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من

أعمال أهل الجنة، فيدخل الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار

حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار، فيدخل النار .

وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: لما خلق الله آدم مسح ظهره،

فسقط من ظهره كل نسمة من ذريته إلى يوم القيامة .

وقال مقاتل: إن الله مسح صفحة ظهر آدم اليمنى، فخرج منه ذرية بيضاء

كهيئة الذر تتحرك، ثم مسح صفحة ظهره اليسرى، فخرج منه ذرية سوداء كهيئة

الذر، فقال: يا آدم هؤلاء ذريتك، ثم قال لهم: ألست بربكم ؟ قالوا: بلى، فقال

للبيض: هؤلاء في الجنة برحمتي وهم أصحاب اليمين، وقال للسود: هؤلاء في

النار ولا أبالي وهم أصحاب الشمال وأصحاب المشئمة، ثم عادهم جميعا في

صلب آدم، فأهل القبور محبوسون حتى يخرج أهل الميثاق كلهم من أصلاب

الرجال وأرحام النساء، وقال تعالى فيمن نقض العهد الأول: وما وجدنا

لأكثرهم من عهد (1) وهذا القول قد ذهب إليه كثير من قدماء المفسرين، كسعيد

ابن المسيب، وسعيد بن جبير، والضحاك، وعكرمة، والكلبي .

وأما المعتزلة، فقد أطبقوا على أنه لا يجوز تفسير هذه الآية بهذا الوجه،

واحتجوا على فساد هذا القول من جهات .

الأولى: أنه قال: (من بني آدم من ظهورهم) فقوله (من ظهورهم) بدل من

قوله (بني آدم) فلم يذكر الله أنه أخذ من ظهر آدم شيئا .

الثانية: أنه لو كان كذلك لما قال (من ظهورهم ولا من ذريتهم) بل قال من

ظهره وذريته .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 193

الثالثة: أنه تعالى حكى عن أولئك الذرية أنهم قالوا: (إنما أشرك آباؤنا من

قبل) وهذا الكلام لا يليق بأولاد آدم، لأنه عليه السلام ما كان مشركا .

الرابعة: أخذ الميثاق لا يمكن إلا من العاقل، فلو أخذ الله الميثاق من أولئك

لكانوا عقلاء، ولو كانوا عقلاء وأعطوا ذلك الميثاق حال عقلهم لوجب أن

يتذكروا في هذا الوقت أنهم أعطوا الميثاق قبل دخولهم في هذا العالم، لان

الانسان إذا وقعت له واقعة عظيمة مهيبة، فإنه لا يجوز مع كونه عاقلا أن ينساها

نسيانا كليا لا يتذكر منها شيئا لا بالقليل ولا بالكثير .

وبهذا الدليل يبطل القول بالتناسخ، فإنا نقول لو كانت أرواحنا قد حصلت قبل

هذه الأجساد في أجساد أخرى لوجب أن نتذكر الان أنا كنا قبل هذا الجسد في

أجساد أخرى، وحيث لم نتذكر ذلك كان القول بالتناسخ باطلا، فإذا كان

اعتمادنا (1) في إبطال التناسخ ليس إلا على هذا الدليل، وهذا الدليل بعينه قائم في

هذه المسألة وجب القول بمقتضاه .

الخامسة: أن جميع الخلق الذين خلقهم الله تعالى من أولاد آدم عليه السلام عدد

عظيم وكثرة كثيرة، فالمجموع الحاصل من تلك الذرات يبلغ مبلغا عظيما في

الحجمية والمقدار، وصلب آدم على صغره يبعد أن يتسع لهذا المجموع .

السادسة: أن البنية شرط لحصول الحياة والعقل والفهم، إذ لو لم يكن كذلك

لم يبعد في كل ذرة من ذرات الهباء أن يكون عاقلا فاهما مصنفا للتصانيف

الكثيرة في العلوم الدقيقة، وفتح هذا الباب يفضي إلى التزام الجهالات، وإذا ثبت

أن البنية شرط لحصول الحياة، فكل واحد من تلك الذرات، لا يمكن أن يكون

عالما فاهما عاقلا، إلا إذا حصلت له قدرة من البنية والجثة، وإذا كان كذلك

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 194

فمجموع تلك الأشخاص الذين خرجوا إلى الوجود من أول تخليق آدم إلى آخر

فناء الدنيا، لا تحويهم عرصة الدنيا، فكيف يمكن أن يقال: إنهم بأسرهم حصلوا

دفعة واحدة في صلب آدم عليه السلام .

السابعة: قالوا: هذا الميثاق إما أن يكون قد أخذه الله منهم في ذلك الوقت

ليصير حجة عليهم في ذلك الوقت، أو ليصير حجة عليهم عند دخولهم في الدار

الدنيا، والأول باطل، لانعقاد الاجماع على أن بسبب ذلك المقدار من الميثاق

لا يصيرون مستحقين للثواب والعقاب، والمدح والذم، ولا يجوز أن يكون

المطلوب منه أن يصير ذلك حجة عليهم عند دخولهم في دار الدنيا، لأنهم لما لم

يذكروا ذلك الميثاق في الدنيا فكيف يصير حجة عليهم في التمسك بالايمان .

الثامنة: قال الكعبي: إن حال أولئك الذرية لا يكون أعلى في الفهم والعلم

من حال الأطفال، فلما لم يمكن توجيه التكليف على الطفل، فكيف يمكن

توجيهه على أولئك الذر ؟

وأجاب الزجاج عنه، وقال: لما لم يبعد أن يؤتي الله النمل العقل كما قال:

قالت نملة يا أيها النمل (1) وأن يعطي الجبل الفهم حتى يسبح كما قال:

وسخرنا مع داود الجبال يسبحن (2) وكما أعطى الله العقل للبعير حتى سجد

للرسول صلى الله عليه وآله، وللنخلة حتى سمعت وانقادت حين دعيت، فكذا هاهنا .

التاسعة: أن أولئك الذر في ذلك الوقت: إما أن يكونوا كاملي العقول والقدر،

أو ما كانوا كذلك، فإن كان الأول كانوا مكلفين لا محالة، وإنما يبقون مكلفين إذا

عرفوا الله بالاستدلال، ولو كانوا كذلك لما امتازت أحوالهم في ذلك الوقت عن

أحوالهم في هذه الحياة الدنيا، فلو افتقر التكليف في الدنيا إلى سبق ذلك الميثاق

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 195

لاحتاج إلى سبق ميثاق آخر ولزم التسلسل وهو محال . وأما الثاني: وهو أن

يقال: إنهم في وقت ذلك الميثاق ما كانوا كاملي العقول ولا كاملي القدر، فحينئذ

يمتنع توجيه الخطاب والتكليف إليهم .

العاشرة: قوله تعالى: فلينظر الانسان مم خلق خلق من ماء دافق (1) ولو

كانت تلك الذرات عقلاء فاهمين كاملين لكانوا موجودين قبل هذا الماء

الدافق، ولا معنى للانسان إلا ذلك الشئ، فحينئذ لا يكون الانسان مخلوقا من

الماء الدافق، وذلك رد لنص القرآن .

فإن قالوا: لم لا يجوز أن يقال: إنه تعالى خلقه كامل العقل والفهم والقدرة عند

الميثاق ثم أزال عقله وفهمه وقدرته، ثم إنه خلقه مرة أخرى في رحم الام

وأخرجه إلى هذه الحياة ؟

قلنا: هذا باطل، لأنه لو كان الامر كذلك لما كان خلقه من النطفة خلقا على

سبيل الابتداء بل كان يجب أن يكون خلقا على سبيل الإعادة، وأجمع

المسلمون على أن خلقه من النطفة هو الخلق المبتدأ، فدل على أن ما ذكرتموه

باطل .

الحادية عشرة: هي أن تلك الذرات إما أن يقال: إنه عين هؤلاء الناس أو

غيرهم، والقول الثاني باطل بالاجماع، وعلى الأول فنقول: إما أن يقال: إنهم

بقوا فهماء عقلاء قادرين حال ما كانوا نطفة وعلقة ومضغة، أو ما بقوا كذلك،

والأول باطل ببديهة العقل، والثاني: يقتضي أن يقال: الانسان حصل له الحياة أربع

مرات: أولها وقت الميثاق، وثانيها في الدنيا، وثالثها في القبر، ورابعها في القيامة،

وإنه حصل له الموت ثلاث مرات، مرة بعد الحياة الحاصلة في الميثاق الأول،

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 196

وموت في الدنيا، وموت في القبر، وهذا العدد مخالف للعد المذكور في قوله تعالى:

ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين (1) .

الثانية عشرة: قوله تعالى: ولقد خلقنا الانسان من سلالة من طين (2)

فلو كان القول بهذا الذر صحيحا لكان ذلك الذر هو الانسان، لأنه هو المكلف

المخاطب المثاب المعاقب، وذلك لان الذر غير مخلوق من النطفة والعلقة

والمضغة، ونص الكتاب دليل على أن الانسان مخلوق من النطفة والعلقة

والمضغة، وهو قوله تعالى: ولقد خلقنا الانسان من سلالة من طين وقوله:

قتل الانسان ما أكفره * من أي شئ خلقه * من نطفة خلقه (3) فهذه جملة

الوجوه المذكورة في بيان أن هذا القول ضعيف .

والقول الثاني: في تفسير هذه الآية قول أصحاب النظر وأرباب المعقولات:

أنه اخرج الذر وهم الأولاد من أصلاب آبائهم، وذلك الاخراج أنهم كانوا نطفة

فأخرجها الله تعالى في أرحام الأمهات وجعلها علقه، ثم مضغة، ثم جعلهم بشرا

سويا وخلقا كاملا، ثم أشهدهم على أنفسهم بما ركب فيهم من دلائل وحدانيته

وعجائب خلقه وغرائب صنعه، فبالاشهاد صاروا كأنهم قالوا: بلى، وإن لم يكن

هناك قول بلسان، ولذلك نظائر، منها: قوله تعالى: قال لها وللأرض ائتيا طوعا

أو كرها قالتا أتينا طائعين ومنها: قوله تعالى: إنما قولنا لشئ إذا أردناه أن

نقول له كن فيكون (4) وقول العرب: قال الجدار للوتد: لم تشقني ؟ قال: سل من

يدقني، فإن الذي ورائي، ما خلاني ورائي، وقال الشاعر:

امتلأ الحوض وقال قطني

فهذا النوع من المجاز والاستعارة مشهور في الكلام، فوجب حمل الكلام عليه .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 197

فهذا هو الكلام في تقرير هذين القولين، وهذا القول الثاني لا طعن فيه البتة،

وبتقدير أن يصح هذا القول لم يكن ذلك منافيا لصحة القول الأول . إنما الكلام

في أن القول الأول هل يصح أم لا ؟

فإن قال قائل: فما المختار عندكم فيه ؟

قلنا: هاهنا مقامان: أحدهما: أنه هل يصح القول بأخذ الميثاق عن الذر ؟

والثاني: أنه بتقدير أن يصح القول به، فهل يمكن جعله تفسيرا لألفاظ هذه الآية ؟

أما المقام الأول: فالمنكرون له قد تمسكوا بالدلائل العقلية التي ذكرناها

وقررناها، ويمكن الجواب عن كل واحد منها بوجه مقنع .

أما الوجه الأول من الوجوه العقلية المذكورة وهو أنه لو صح القول بأخذ هذا

الميثاق لوجب أن نتذكره الان، قلنا: خالق العلم بحصول الأحوال الماضية هو الله

تعالى، لأن هذه العلوم عقلية ضرورية، والعلوم الضرورية خالقها هو الله تعالى،

وإذا كان كذلك صح منه تعالى أن يخلقها .

فإن قالوا: فإن جوزتم هذا فجوزوا أن يقال: إن قبل هذا البدن كنا في أبدان

أخرى على سبيل التناسخ، وإن كنا لا نتذكر الان أحوال تلك الأبدان .

قلنا: الفرق بين الامرين ظاهر، وذلك لأنا إذا كنا في أبدان أخرى وبقينا فيها

سنين ودهورا امتنع في مجرى العادة نسيانها، أما أخذ هذا الميثاق إنما حصل في

أسرع زمان وأقل وقت، فلم يبعد حصول النسيان، والفرق الظاهر حاكم بصحة

هذا الفرق لان الانسان إذا بقي على العمل الواحد سنين كثيرة يمتنع أن ينساها،

أما إذا مارس العمل الواحد لحظة واحدة فقد ينساها، فظهر الفرق .

وأما الوجه الثاني: وهو أن يقال: مجموع تلك الذرات يمتنع حصولها

بأسرها في ظهر آدم عليه السلام، قلنا: عندنا البنية ليست شرطا لحصول الحياة، والجوهر

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 198

الفرد والجزء الذي لا يتجزأ قابل للحياة والعقل، فإذا جعلنا كل واحد من تلك

الذرات جوهرا فردا فلم قلتم: إن ظهر آدم لا يتسع لمجموعها، إلا أن هذا

الجواب لا يتم إلا إذا قلنا: الانسان جوهر فرد وجزء لا يتجزأ في البدن، على ما

هو مذهب بعض القدماء، وأما إذا قلنا: الانسان هو النفس الناطقة، وأنه جوهر

غير متحيز ولا حال في متحيز فالسؤال زائل .

وأما الوجه الثالث: وهو قوله: فائدة أخذ الميثاق هي أن تكون حجة في ذلك

الوقت أو في الحياة الدنيا، فجوابنا أن نقول: يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد،

وأيضا أليس أن المعتزلة إذا أرادوا تصحيح القول بوزن الاعمال وانطاق

الجوارح قالوا: لا يبعد أن يكون لبعض المكلفين في أسماء هذه الأشياء لطف،

فكذا هاهنا لا يبعد أن يكون لبعض الملائكة من تميز السعداء من الأشقياء في

وقت أخذ الميثاق لطف، وقيل أيضا: أن الله تعالى يذكرهم ذلك الميثاق يوم

القيامة، وبقية الوجوه ضعيفة والكلام عليها سهل هين .

وأما المقام الثاني: وهو أن بتقدير أن يصح القول بأخذ الميثاق من الذر، فهل

يمكن جعله تفسيرا لألفاظ هذه الآية ؟ فنقول: الوجوه الثلاثة المذكورة أولا

دافعة لذلك، لان قوله: (أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم) فقد بينا أن

المراد منه: وإذ أخذ ربك من ظهور بني آدم، وأيضا لو كانت هذه الذرية مأخوذة

من ظهر آدم لقال من ظهره ذريته، ولم يقل من ظهورهم ذريتهم .

أجاب الناصرون لذلك القول: بأنه صحت الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه

فسر هذه الآية بهذا الوجه، والطعن في تفسير رسول الله صلى الله عليه وآله غير ممكن .

فنقول: ظاهر الآية يدل على أنه تعالى أخرج ذرا من ظهور بني آدم، فيحمل

ذلك على أنه تعالى يعلم أن الشخص الفلاني يتولد من فلان، ومن ذلك الفلان

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 199

فلان آخر، فعلى الترتيب الذي علم دخولهم في الوجود يخرجهم ويميز بعضهم

من بعض، وأما أنه تعالى يخرج كل تلك الذرية من صلب آدم، فليس في لفظ

الآية ما يدل على ثبوته، وليس في الآية أيضا ما يدل على بطلانه، إلا أن الخبر

قد دل عليه، فثبت إخراج الذرية من ظهور بني آدم في القرآن، وثبت إخراج

الذرية من ظهر آدم بالخبر، وعلى هذا التقدير فلا منافاة بين الامرين ولا مدافعة،

فوجب المصير إليهما معا صونا للآية والخبر عن الطعن بقدر الامكان، فهذا

منتهى الكلام في تقرير هذا المقام (1) .

وتفصيل الكلام الأخير ذكره السيد ابن طاووس في جواب من قال: ولم يقل

من أورد (2)، قال: من ظهورهم ولم يقل من ظهره، وقال: ذريتهم ولم يقل ذريته،

بأن بني آدم ما خلقوا جميعهم في ظهر آدم لصلبه بغير واسطة، والآية ظاهرها على

ما روي أنه أخذ الذرية على ما ينتهي حالها إليه إلى يوم القيامة، فيكون من

ظهورهم وذريتهم، ولا يجوز أن يكون من ظهر آدم فحسب، لأنها ظهور كثيرة

وذرية كثيرة .

ثم قال: وأما قول البلخي إن الذر لا حجة عليهم وطعنه بذلك في التأويل،

فيقال له: قد عرف أهل العلم أنه قد روي أن المتكبرين يحشرون يوم القيامة في

صورة الذر ويصح حسابهم، فإذا كان يوم المحاسبة يكونون في صورة الذر ويصح

حسابهم، جاز أن يخرجوا من ظهور آبائهم في صورة الذر . ويمكن سؤالهم

وتعريفهم، ويقال له: إذا كان يخاطب العقول والأرواح وكان المسلمون قد رووا أول

ما خلق الله العقل، فقال له: أقبل فأقبل، وقال له: أدبر فأدبر، فقال: بك أثيب وبك

أعاقب وبك آمر وبك أنهي، ورووا أن الأرواح خلقت قبل الأجساد، فعلى هذا

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 200

يمكن أن يضم القادر إلى صورة الذر عقولهم لتصح المخاطبة لهم، وهذا واضح .

وأما ثقة الاسلام الطبرسي (1) تغمده الله برحمته، فقد حذى حذو السيد في

إنكار عالم الذر، وأول الآية بما حكيناه عنه، ولا يخفى أن طرح الأخبار الواردة

في هذا الباب مما لا سبيل إليه، وحمل الآية على المعنى المجازي مع ورود

الأحاديث الواضحة بإرادة معناها الحقيقي مما لا داعي إليه .

وقد حررنا هذه المسألة مع الأجوبة عن دلائل منكريها في المجلد

الخامس من شرحنا على تهذيب الحديث، فمن أراد الاطلاع على تفصيل الحال

طلبه من هناك، والله الهادي إلى سواء السبيل .

وعبارة الكافي هكذا: على أن لا يقولوا غدا إنا كنا عن هذا غافلين (2) .

والمراد بعد يوم القيامة، كما ظهر من الأخبار السابقة .

باب العرش وصفاته

1) المراد من الصفات هنا المعاني، (وله في كل سبب) أي: مورد (في القرآن

وضع) أي: معنى موضوع .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 201

1) لعل المراد من الكيفوفية العلوم العينية (1) والخزائن العلمية، فإن العرش

كما سيأتي مخزن العلوم والمحل الا رفع للوح المحفوظ، وهذا الاطلاق يشعر بأن

العلم محسوب على مقولة الكيف، كما هو أحد الأقوال في تعريفه .

2) أي: أن العرش باعتبار الاتصال خارج عن الكرسي، لان العرش فوقه،

وكل منهما موضع لأنواع خاصة من العلوم الملكوتية .

3) أي: مغيبان عن الملائكة، أو عن نوع خاص منهم، وما منا إلا له مقام

معلوم، وسدرة المنتهى أقصى مكان عروجهم، أو المعنى أنهم مقرونان في

جمعهما لعلوم الغيب، وكون كل واحد منهما محلا لعلم من العلوم .

4) وذلك أن الكرسي واقع تحت العرش، والعرش مكان العلوم السرانية،

فإذا شاءت القدرة الإلهية إنفاذ ما دخل إخراجه تحت مصالح الحكمة، خرج من

بطنان العرش إلى ظهر الكرسي، ثم تلقفه الملائكة من الكرسي فتسعى به في

إطباق السماوات وتحت أطباقها .

5) هذه أنواع من عالم الخلق والامر، ولا يعلم تفصيلها حقيقة إلا أهل بيت

الوحي عليهم السلام .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 202

1) يعني: أن مظهر عالم الكيفوفية في الكرسي، كما أن بواطنه في بطنان

العرش .

2) أي: متشابهان في تحمل العلم، أو متجاوران في قرب المكان .

3) أي: العرش حمل الكرسي بكونه ظرفا له، بناء على أن العرش محيط بما

عداه، وفي بعض النسخ (في الصرف) وهو التغيير، أي: أن العرش حمل الكرسي

حال كونه متلبسا بالمغايرة له من حيث أن علم الغيب في العرش والظاهر في

الكرسي .

وقوله (وبمثل صرف العلماء) معطوف على الصرف، أي: حمله في التغاير

بينهما وبمثل التغاير والصرف الواقع بين درجات العلماء، وإن تساووا في

تحمل أصل العلم، لكن العلم بينهم محمول على تفاوت الدرجات، ويجوز أن

يكون الصرف بمعنى الإزالة، لان الكرسي يصرف ما في العرش من غوامض

العلوم وبواطنها، حيث أنه مشتمل على الظاهر منها، والظاهر دليل الباطن، كما أن

العلماء يزيلون الخفاء والاجمال من مشكلات العلوم والمسائل .

4) هذه العبارة لا أتحقق معناها، ولعل فيها نوعا من التصحيف، وأقصى ما

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 203

قاله فيها بعض الأذكياء أن يكون الصرف بمعنى الفضل، لوروده في اللغة، يقال:

هذا الدينار له صرف على هذا الدينار، أي: فضل وزيادة، وحاصل المعنى: أن بين

العرش والكرسي من التفاضل في العلم مثل ما بين العلماء .

وقوله (ويستدلوا) أي: يستدل العلماء على صدق الدعوى التي بين العرش

والكرسي من التفاضل، وإضافة الدعوى إلى العرش والكرسي مجاز .

وقوله (لأنه) إلى آخره متعلق بالأول، يعني: أنه سبحانه جعل علوم العرش

أفضل من علوم الكرسي، لأنه يختص برحمته من يشاء .

1) يعني: من أجل أن العرش موضوعات متعددة أشير إلى أحدها بقوله:

2) فالعرش هنا بمعنى الوحدانية، وهذا يناسب قوله تعالى في سورة الأنبياء:

لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدنا فسبحان الله رب العرش عما يصفون (2)

فالمراد من العرش هنا الوحدانية، أي: أنه واحد في الذات والصفات .

3) هذا يناسب قوله تعالى في سورة الزخرف: قل إن كان للرحمن ولد فأنا

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 204

أول العابدين * سبحان رب السماوات والأرض رب العرش عما يصفون (2)

فالعرش هنا بمعنى المثل الاعلى، يعني: أن تشبيهه تعالى بالخلائق في اتخاذ

الأنبياء إنما يكون مثلا لغيره تعالى، أما هو فالأمثال العليا تليق بساحة عزه، والمثل

الاعلى في هذا المقام هو قوله تعالى: لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد .

1) خطاب للناس، أي: ما أوتيتم من العلم المنصوص عليه إلا شيئا يسيرا،

لان غير المنصوص عليه أكثر، فإن معلومات الله تعالى لا نهاية لها . وقيل: خطاب

لليهود الذي سألوه عن الروح بقوله: ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر

ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا (3) فقالت اليهود عند ذلك: كيف . وقد أعطانا

الله تعالى التوراة، فقال: التوراة في علم الله قليل .

2) إشارة إلى قوله تعالى: ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين

يلحدون في أسمائه (4) .

قال ثقة الاسلام الطبرسي رحمه الله: أخبر سبحانه أن له الأسماء الحسنى لحسن

معانيها، مثل الجواد والرحيم والرازق والكريم، ويقال: إن جميع أسمائه داخلة

فيها، فإنها كلها حسنة متضمنة لمعاني حسنة، وقيل: المراد بالحسنى ما مالت إليه

النفوس من ذكر العفو والرحمة، دون السخط والنقمة (فادعوه بها) أي: بهذه

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 205

الأسماء الحسنى، ودعاؤه بها أن يقال: يا لله يا رحمان يا رحيم .

وذروا الذين يلحدون في أسمائه أي: دعوا الذين يعدلون بأسماء الله

تعالى عما هي عليه، فيسمون أصنامهم بها ويغيرونها بالزيادة والنقصان، فاشتقوا

اللات من الله، والعزى من العزيز، والمنات من المنان . وقيل: إن معنى يلحدون

في أسمائه يصفونه بما لا يليق به ويسمونه بما لا يجوز تسميته به، كتسميتهم

المسيح ابن الله، وفي هذا دلالة على أنه لا يجوز أن يسمى الله سبحانه إلا بما سمى

به نفسه (2) .

أقول: وحينئذ فقوله عليه السلام (التي لا يسمى بها غيره) معناه: أن إطلاقها على

غيره من الآلهة الباطلة غير جائز، أو أن إطلاقها على غيره تعالى لا يكون إلا

على سبيل المجاز، لان الكريم مثلا وإن أطلق على غيره إلا أن حقيقة هذا الاسم

لا تثبت حقيقة الا له تعالى .

1) ذكر المفسرون فيه أقوالا:

أحدها: أنهم مشركو قريش، وكانوا يقرون بالله خالقا ومحييا ومميتا،

ويعبدون الأصنام ويدعونها آلهة مع أنهم كانوا يقولون الله ربنا وإلهنا يرزقنا،

فكانوا مشركين بذلك .

وثانيها: أنها نزلت في مشركي العرب إذا سألوا من خلق السماوات والأرض

وينزل القطر ؟ قالوا: الله، ثم هم يشركون، وكانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 206

لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك .

وثالثها: أنهم أهل الكتاب، آمنوا بالله واليوم الآخر والتوراة والإنجيل، ثم

أشركوا بإنكار القرآن وإنكار نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وآله، وهذا القول مع ما تقدمه

مروي عن الرضا عليه السلام .

ورابعها: أنهم المنافقون يظهرون الايمان ويشركون في السر .

وخامسها: أنهم المشبهة آمنوا في الجملة وأشركوا في التفصيل .

وسادسها: أن المراد بالاشراك شرك الطاعة لا شرك العبادة، فأطاعوا الشيطان

في المعاصي التي يرتكبونها مما أوجب الله عليها النار، فأشركوا بالله في طاعته

ولم يشركوا بالله في عبادته فيعبدون معه غيره، عن أبي جعفر عليه السلام .

وروي عن أبي عبد الله عليه السلام، أنه قال: قول الرجل: لولا فلان لهلكت، ولولا

فلان لضاع عيالي، جعل لله شريكا في ملكه يرزقه ويدفع عنه، فقيل له: لو قال:

لولا أن من الله علي بفلان لهلكت ؟ قال: لا بأس بهذا . وفي رواية زرارة ومحمد

ابن مسلم وحمران عنهما عليهما السلام: أنه شرك النعم . وروى محمد بن الفضيل عن أبي

الحسن الرضا عليه السلام قال: أنه شرك لا يبلغ به الكفر (1) .

أقول: ما روي في الاخبار هو الأصوب .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 207

باب في أن العرش خلق أرباعا

1) ذكر المفسرون في ن والقلم وجوها:

أولها: أن المراد به الحوت الذي عليه الأرضون، عن ابن عباس .

وثانيها: أنه حرف من حروف الرحمن .

وثالثها: أنه لوح من نور، وروي مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وآله .

ورابعها: أنه نهر في الجنة: قال الله تعالى له: كن مدادا فجمد، وكان أبيض من

اللبن وأحلى من الشهد، ثم قال للقلم: اكتب، فكتب ما كان وما هو كائن إلى يوم

القيامة عن أبي جعفر الباقر عليه السلام (1) .

وقيل فيه وجوه أخرى، منها: ما قاله المصنف طاب ثراه: من أنه من أعظم

الملائكة . وأما النور، فالمراد منه نور النبي صلى الله عليه وآله كما ورد في الأحاديث من أن

أول ما خلق الله نوري، وهو أول المخلوقات حقيقة، كما أن أولية غيره محمولة

على الأولية الإضافية، وقد تقدم الكلام فيه .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 208

1) قال المحقق الأمير رفيع الدين محمد: إن العرش خلقه الله من أنوار أربعة،

وتلك الأنوار جواهر عقلانية متناسبة، لحقتها جهة واحدة، أو جوهر عقلاني

ذو جهات أربع، باعتبارها يعد أربعة أنوار، وهذه القسمة بحسب مراتب

المعقولات العقلانية والنازل منها إلى الظهور العيني، ولعل الحمرة كناية عما

يناسبها من آثار الملك أو الغلبة السلطانية والقهر ولواحقها، والخضرة كناية عما

يناسبها من النمو والنضارة وحركة الأشياء من مبادي نشوها نحو كمالاتها،

والصفرة كناية عن الوصول إلى أقرب استكمالها وانتهاء فعل تلك المحركة،

والبياض عبارة عن الظهور التام والانكشاف الكامل الغير المختلط بحجاب لما

كان أو هو كائن أو يكون، وللأديان والملل والحقائق الحكمية .

2) يعني: أن الملك لا يحس بأنوار العرش التي فوق رأسه، ولو أحس لما

احتمل القيام لذلك ولا الصبر عليه طرفة عين .

3) أي: أن الذي يمنع الملائكة عن النظر إلى ما فوقهم هو ما أطلقوا عليه

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 209

من جبروت الله سبحانه وجلال كبريائه تعالى .

1) أي ليس وراء خزائن العلم غيرها من مراتب الغيب، والأظهر أن يقال:

معناه: أنه وإن كان وراءه غيره إلا أنه لم يرخص لنا في المقال عنه والكشف

عن معناه .

باب قول الله عز وجل: (وسع كرسيه السماوات والأرض)

2) اختلف المفسرون فيه على أقوال:

أحدها: كما هنا من أن المعنى: وسع علمه السماوات والأرض، عن أبي جعفر

وأبي عبد الله عليهما السلام، ويقال للعلماء: كراسي، كما يقال أوتاد الأرض، لأنهم قوام

الدين والدنيا .

وثانيها: أن الكرسي هنا هو العرش، وإنما سمي كرسيا لتركيب بعضه على بعض .

وثالثها: أن المراد بالكرسي هاهنا الملك والسلطان والقدرة، كما يقال: اجعل

هذا الحائط كرسيا، أي عمادا يعمد به حتى لا يقع ولا يميل، فيكون معناه أحاط

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 210

قدرته بالسماوات والأرض وما فيهما .

ورابعها: أن الكرسي سرير دون العر ش، وقد روي ذلك عن أبي

عبد الله عليه السلام (1) .

1) قال بعض المحققين: هذا إن حمل على حقيقة العموم في الممكنات دل

على كون العرش في الكرسي، وإن حمل على العموم في كل ما هو من جنسه

ويجرى فيه الكون الذي للكائنات دل على كون العرش فيه إن حمل على

الجسم، وإن حمل على العلم والجوهر العقلاني فلا، وإن لم يحمل على حقيقة

العموم في الممكنات أو ما يجري فيه الإحاطة بالمحيط والمحاطية المكانية،

فيجوز كون الكرسي محيطا بالسماوات السبع والأرض وما فيهن وما بينهن وكل

شئ من السماوي والأرضي، وكون العرش إذا حمل على الجوهر الجسماني

المحيط محيطا بها والكرسي . انتهى .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 211

والجمع بين الاخبار يقتضي القول بأن يراد من العموم ما عدا العرش .

1) يجوز أن يكون قوله (والعرش) عطفا على الكرسي، أي: والعرش أيضا

وسع السماوات والأرض، ويحتمل أن يكون عطفا على السماوات والأرض، أي:

الكرسي وسع السماوات والأرض والعرش وكل شئ .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 212

باب فطرة الله عز وجل الخلق على التوحيد

1) اختلفوا في معنى ذلك الفطر، فقيل: المعنى أنه خلقهم على نوع من الجبلة

والطبع المتهيئ لقبول الدين، فلو ترك عليها لاستمر على لزومها ولم يفارقها إلى

غيرها، وإنما يعدل عنه من يعدل لآفة من الآفات وتقليد الاباء والأمهات .

وقيل: كلهم مفطورون على معرفة الله والاقرار به، فلا نجد أحدا إلا وهو يقر

بأن الله تعالى صانع له، وإن سماه بغير اسمه أو عبد معه غيره . وقيل: المعنى أنه

خلقهم لها، لأنه خلق كل الخلق لان يوحدوه ويعبدوه (2) قال الجزري: فيه

(خلقت عبادي حنفاء) أي: طاهر الأعضاء من المعاصي، لا أنه خلقهم كلهم

مسلمين، لقوله تعالى: هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن (3) وقيل:

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 213

أراد أنه خلقهم حنفاء مؤمنين، لما أخذ عليهم الميثاق ألست بربكم ؟ قالوا: بلى،

فلا يوجد أحد إلا وهو مقر بأن له ربا، وإن أشرك به (1) .

والمفهوم من الاخبار كما قيل: هو أن الله تعالى أوجد في العقول وقرر فيها

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 214

عند أخذ الميثاق عليها الاقرار بوحدانيته تعالى، ومن ثم قال عليه السلام: من عرف نفسه

فقد عرف ربه، وما تقدم من أن المعرفة موهبية، وأن الله سبحانه يوجدها في قلوب

الناس، فمنهم من يذعن لقبولها فيكون مؤمنا، ومنهم من يتعامى عن قبولها

فيكون كافرا وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم (1) .

1) لعل المراد أنه تعالى خلقهم بحيث كانوا مستعدين لقبول أركان الايمان

الثلاثة، وهذا لا ينافي ما ورد من أن عالم الذر قد ميز بين المؤمنين والكفار: إما

لأنه سبحانه قد أوجد فيهم ذلك الاستعداد عند تكليفهم في ذلك العالم الميثاقي

الذي خاطبهم فيه: ألست بربكم ومحمد نبيكم وعلي إمامكم ؟ ثم وقع الانكار

في هذا العالم، كما وقع من بعضهم إنكار التوحيد، ومن آخرين إنكار النبوة .

وإما لأنهم مهيئون له في هذا العالم الشهودي أيضا، لان الاباء ينصبان الأولاد

كما ينصرانهم ويهودانهم، والحديث الثاني دال على المعنى الأول .

2) لان عالم الميثاق كان هو التكليف الأول وهذا العالم إنما جاء على وفقه

حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة، ومن ثم قال بعض أكابر الصحابة: إن الناس

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 215

يخافون الله من اليوم الآخر وأنا أخاف من اليوم الأول، يريد به عالم الميثاق .

وقال بعض الاعلام: إن دخول الأطفال الجنة جزاء لأعمالهم في عالم

الميثاق .

1) الحنفاء جمع حنيف، وهو المائل إلى الاسلام الثابت عليه . والحنيف عند

العرب من كان على دين إبراهيم، وأصل الحنف الميل .

وفي النهاية: (خلقت عبادي حنفاء) أي: طاهري الأعضاء من

المعاصي (2) .

2) قال السيد المرتضى قدس الله ضريحه في معنى قول النبي صلى الله عليه وآله: (كل

مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه يهودانه وينصرانه): الصحيح في تأويله

أن قوله (يولد على الفطرة) يحتمل أمرين: أحدهما: أن تكون الفطرة هاهنا الدين،

ويكون على بمعنى اللام، فكأنه قال: كل مولود يولد للدين، ومن أجل الدين أن

الله تعالى لم يخلق من يبلغه مبلغ المكلفين إلا ليعبده فينتفع بعبادته، ويشهد بذلك

قوله تعالى: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون (3) .

والدليل على أن (على) يقوم مقام اللام ما حكاه يعقوب بن السكيت عن

أبي زيد عن العرب أنهم يقولون: صف علي كذا وكذا حتى أعرفه، بمعنى صف لي،

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 216

ويقولون: ما أغيظك علي، يريدون ما أغيظك لي، والعرب تقيم بعض الصفات

مقام بعض، وإنما ساغ أن يريد الفطرة التي هي الخلقة في اللغة الدين من حيث كان

هو المقصود بها، وقد يجري على الشئ اسم ماله به هذا الضرب من التعلق

والاختصاص .

وعلى هذا يتأول قوله تعالى: وأقم الصلاة (وأقم وجهك للدين حنيفا

فطرة الله التي فطر الناس عليها) أراد دين الله الذي خلق الخلق له، وقوله تعالى:

لا تبديل لخلق الله أراد به إنما خلق الله العباد له من العبادة والطاعة ليس مما

يتغير ويختلف حتى يخلق تعالى قوما للطاعة وآخرين للمعصية، ويجوز أن يريد

بذلك الامر وإن كان ظاهره ظاهر الخبر، فكأنه تعالى قال: لا تبدلوا ما خلقكم الله

له من الدين والطاعة، بأن تعصوا وتخالفوا .

والوجه الآخر في قوله عليه السلام: (الفطرة) أن يكون المراد الخلقة ويكون لفظة

(على) على ظاهرها لم يرد بها غيرها، ويكون المعنى كل مولود يولد على الخلقة

الدالة على وحدانية الله تعالى وعبادته والايمان به، لأنه عز وجل قد صور الخلق

وخلقهم على وجه يقتضي النظر فيه معرفته والايمان به وإن لم ينظروا ويعرفوا،

فكأنه قال: كل مخلوق ومولود فهو يدل بخلقته وصورته على عبادة الله تعالى

وإن عدل بعضهم فصار يهوديا أو نصرانيا، وهذا الوجه أيضا يحتمله قوله تعالى:

فطرة الله التي فطر الناس عليها .

وإذا ثبت ما ذكرناه في معنى الفطرة، فقوله عليه الصلاة والسلام (حتى يكون

أبواه يهودانه وينصرانه) يحتمل وجهين: أحدهما: أن من كان يهوديا أو نصرانيا

ممن خلقته لعبادتي وديني فإنما جعله أبواه كذلك، أو من جرى مجراهما ممن

أوقع له الشبهة وقلده الضلال عن الدين، وإنما خص الأبوين، لان الأولاد في

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 217

الأكثر ينشأون على مذاهب آبائهم ويألفون أديانهم ونحلهم، ويكون الغرض

بالكلام تنزيه الله تعالى عن ضلال العباد وكفرهم، وأنه إنما خلقهم للايمان

فصدهم عنه آباؤهم أو من جرى مجراهم .

والوجه الآخر: أن يكون معنى يهودانه وينصرانه أي: يلحقانه بأحكامهما،

لان أطفال أهل الذمة قد ألحق الشرع أحكامهم بأحكامهم، فكأنه عليه السلام قال: لا

تتوهموا من حيث لحقت أحكام اليهود والنصارى أطفالهم أنهم خلقوا لدينهم، بل

لم يخلقوا إلا للايمان والدين الصحيح، لكن آباؤهم هم الذين أدخلوهم

في أحكامهم، وعبر عن ادخالهم في أحكامهم بقوله يهودانه وينصرانه (1) .

وقال ثقة الاسلام الطبرسي طاب ثراه: (فطرة الله التي فطر الناس عليها)

فطرة الله: الملة وهي الدين والاسلام والتوحيد التي خلق الناس عليها ولها وبها،

أي: ولأجلها والتمسك بها، فيكون كقوله: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)

وهو كما يقول القائل لرسوله: بعثتك على هذا ولهذا وبهذا، والمعنى واحد، ومنه

قول النبي صلى الله عليه وآله: (كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواهما اللذان يهودانه

وينصرانه ويمجسانه) .

وقيل: معناه: اتبع من الدين ما دلك عليه فطرة الله، وهو ابتداء خلقه للأشياء،

لأنه خلقهم وركبهم وصورهم على وجه يدل على أن لهم صانعا قادرا عالما حيا

قديما واحدا لا يشبه شيئا ولا يشبهه شئ (2) .

فإن قلت: دلت الاخبار على أن كل مولود يولد على الفطرة . فما معنى قول

مولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: (أما أنه يظهر عليكم بعدي رجل

رحب البلعوم، مندحق البطن، يأكل ما يجد، ويطلب ما لا يجد، فاقتلوه ولن

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 218

تقتلوه - وأراد به معاوية كما قاله الأكثر، أو زياد بن أبيه، أو الحجاج، أو المغيرة بن

شعبة - وإنه سيأمركم بسبي والبراءة مني، فأما السب فسبوني، فإنه لي زكاة ولكم

نجاة، وأما البراءة فلا تتبروا مني، فإني ولدت على الفطرة وسبقت إلى الايمان

والهجرة) (2) . فكيف خص عليه السلام نفسه بالتولد على الفطرة ؟

قلت: قد أجاب عنه المحققون من شراح نهج البلاغة بوجوه:

أولها: أن المراد من الفطرة العصمة، وأنه منذ ولد لم يواقع قبيحا ولا كان كافرا

طرفة عين ولا مخطأ .

ثانيها: أن يكون المراد أنه عليه السلام لم يولد في الجاهلية، لأنه عليه السلام ولد لثلاثين

عاما مضت عن عام الفيل، وقد جاء في الأخبار الصحيحة أنه صلى الله عليه وآله مكث قبل

الرسالة عشر سنين يسمع الصوت ويرى الضوء ولا يخاطبه أحد، وكان ذلك

ارهاصا لرسالته، فالمولود فيها إذا كان في حجره مولود في أيام كأيام النبوة

وليس بمولود في جاهلية محضة .

ثالثها: أن معناه أني ولدت على الفطرة التي لم تتغير ولم يحل المانع بيني

وبينها مثل تربية الوالدين وغيرها .

1) أي: لا تغيير لدين الله الذي أمر الناس بالثبات عليه من التوحيد والعدل

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 219

والاخلاص لعبادة الله . وقيل: لا، هاهنا بمعنى النهي، أي: لا تبدلوا دين الله التي

أمرتم بالثبات عليها . وقيل: المراد به النهي عن الخصاء، عن ابن عباس . وقيل:

معناه لا تبديل لخلق الله فيما دل عليه، بمعنى أنه فطرة الله على وجه يدل على

صانع حكيم، ولا يمكن أن يجعله خلقا لغير الله حتى يبطل وجه الاستدلال،

والمعنى أن ما دلت عليه الفطرة لا يمكن فيه التبديل (1) .

1) هذا أحد الوجوه الواردة في سبب بكاء الأطفال .

والوجه الثاني: ما روي من أن إمام العصر عليه السلام يحضر عند الأطفال

يعلمهم ويهديهم إلى مصالح أحوالهم ذلك الوقت، ولذا يصدر من الصبيان

الكلمات النادرة الغريبة والافعال المستبعد وقوعها منه، فإذا حضر عنده سكت أو

تبسم أو نام، وإذا غاب عنه بكى شوقا إليه .

الثالث: أن الولد إذا خرج من بطن أمه يكون في بدنه كثير من المرطوبات

المفسدة التي لو لم تخرج منه لأفسدت عليه بدنه ولا يخرجها منه إلا البكاء

وتعصر الأعصاب والعروق، فيكون البكاء لأجلها، ومن أجل هذا نهي عن ضربه

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 220

على البكاء، وهو مروي عن الرضا عليه السلام .

الرابع: أنه إذا خرج من بطن أمه ألهمه الله تعالى شدائد محن الدنيا وهول ما

يلقاه منها، فيبكي عند ذلك خوفا مما عرف من مستقبل أحواله فيها .

الخامس: ما رواه الثقة العياشي عن أبي ميثم بن أبي يحيى عن جعفر بن

محمد قال: ما من مولود يولد إلا وإبليس من الأبالسة بحضرته، فإن علم الله أنه

من شيعتنا، حجبه عن ذلك الشيطان، وإن لم يكن من شعيتنا أثبت الشيطان أصبعه

السبابة في دبره فكان مأبونا، فإن كانت امرأة أثبت في فرجها فكانت فاجرة، فعند

ذلك يبكي الصبي بكاء شديدا إذا هو خرج من بطن أمه، والله بعد ذلك يمحو ما

يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب (1) .

والأخبار الواردة في هذه الأسباب لا تعارض بينها، والذي يرشد إلى

المعنى الرابع ما روي من أنه إذا خرج من الضيق إلى الفضا يخرج قابضا على

راحتيه، والسر فيه قول أمير المؤمنين عليه السلام مما ينسب إليه في الديوان (2)

وفي قبض كف الطفل عند الولادة * دليل على الحرص المركب في الحي

وفي بسطها عند الوفاة دلائل * ألا فانظروني قد خرجت بلا شئ

وبالجملة فهو يلهم الحرص كما يلهم الهول .

وروي أيضا وجه سادس: وهو أن الطفل إذ تم له تسعة أشهر أمر الله تعالى

ملكا يقتحم إلى بطن المرأة من فيها، فيزجر الولد وهو واقف في بطن أمه،

فيذعر لمكان الصوت وينتكس (3) حتى يصير رأسه أسفل، فيخرج عليه، ومن

خرج على رجليه كان من العتاة الطاغين حيث لم يخف، فإذا خرج الولد إلى

فضاء الدنيا خرج باكيا من هول ذلك الصوت، فاستمر بكاؤه ومن تتبع الاخبار

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 221

وجد له وجوها أخرى، وهذا كله محمول على بكائهم المعتاد، أما الذي يتسبب

عن الأمراض فينبغي علاجه والدواء عليه، كما لا يخفى .

باب البداء

1) قيل: الوجه فيه أن الايمان بالبداء من أعظم العبادات القلبية، لصعوبته

ومعارضته الخيالات والوساوس الشيطانية، ولكونه إقرارا بأن له الخلق والامر،

وهذا كمال التوحيد، أو يكون الوجه فيه أنه من أعظم الأسباب والدواعي لعبادة

الرب تعالى، وهذا هو معنى الحديث الأول .

أقول: لا يجوز أن يكون الوجه فيه تضمنه الرد على اليهود وعلى طوائف

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 222

المسلمين ممن ضاهى اليهود ولم يعرف الله تعالى ولا أثبت له مالا يليق به من

الصفات، كما سيأتي تحقيقه بعد هذا إن شاء الله تعالى .

1) الأنداد: الأمثال والأشباه، وفيه دلالة على أن المراد من البداء معنى

تصرفه تعالى في ملكه بالتقديم والتأخير في مراتب الدارين من الإماتة

والاحياء والغنى والفقر وكون واحدا تابعا وآخر متبوعا، وفي تقديم الأحكام الشرعية

وتأخيرها باعتبار الأوقات ومصالحها، واستمرار بعضها ونسخ بعض

آخر، وبالجملة يكون المراد منه ما سيأتي في كلام المصنف طاب ثراه من أنه

عبارة عن التصرف في عالم التكوين وفي أحكام الشريعة، لا كما ذهب إليه كثير

من الناس، فإنه بمعزل عن التحقيق، كما ستطلع عليه إن شاء الله تعالى .

2) تقدم تفسير الآية، وفي إيرادها في هذا الباب دلالة على أن المراد من

البداء هو المحو والاثبات، فيكون موافقا لما قلناه في معناه .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 223

1) المراد من المشيئة كما سيأتي المرتبة الثانية من مراتب العلم، وهي عبارة

عن إنشاء الأشياء والعزم على إظهارها قبل تكوينها . وأما السجود، فالمراد منه:

إما الصلاة تسمية للكل بأشرف أجزائه به، وإما غاية الخضوع والتذلل، لأنه

معنى السجود لغة .

وأما العبودية، فقد تقدم أنها درجة أعلى من النبوة والرسالة، لأنها حالة

ورابطة بين الانسان وربه، والرسالة رابطة بين النبي وربه والأمة .

والأولى أخص من الثانية، فهي طاعة خاصة وانقياد له سبحانه في جميع

أوامره ونواهيه وما لم يأمر به ولم ينه عنه كالمباح، فإنه بالنية يكون عبادة .

وأما الطاعة، فالمراد منها معناها الأعم، أعني: امتثال الأوامر والنواهي .

2) ورد في الخبر أن الله عز شأنه حرم الخمر في جميع الأديان حفظا للعقل،

وحرم الزنا كذلك محافظة على الأنساب، والدماء محافظة للنفوس، والسرقة

محافظة على الأموال، وكذا الخيانة وادعاء طائفة من النصارى التحليل له في

شريعة المسيح عليه السلام بهتان وافتراء، وقد شكر الله سبحانه لجعفر بن أبي طالب

خصلتين لم يفعلهما أعصار الجاهلية مع انهماك الناس تلك الأوقات عليهما:

شرب الخمر، والزنا، قال: لأني علمت أني إذا شربت سكرت وزال عقلي وإذا

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 224

زنيت بنساء الناس زني بحلائلي .

1) وذلك أنهم إذا تحققوا البداء وأن الله سبحانه يمحو ما يشاء ويثبت، وهو

كل يوم في شأن، ويزيد في الاعمار والأرزاق والآجال على وفق العبادة

والصدقة وصلة الأرحام والاحسان إلى العباد، أقبلوا على فعل هذه الطاعات

وفعل ما يكون فعله صلاح النشأتين، أما إذا علموا أنه قد فرغ من الامر وكتب في

الأزل ما يكون في الأبد ولا فائدة للأمور المذكورة، انقطعت بهم الآمال عن فعل

ما تقدم لعدم الداعي والباعث على فعلها، كما زعمه بعض علمائنا من أن الدعاء

لا ثمرة له إلا الثواب، استنادا إلى ما ورد في الأدعية المأثورة من قوله عليه السلام: يا من

لا تبدل حكمته الوسائل، ولم يدر أن الدعاء وتعليق الأمور عليه مما اقتضته

الحكمة الإلهية .

2) فيه رد على ما ذهب إليه طائفة من الحكماء، وهو مذهب أبي الحسين

البصري، وربما نسب إلى هشام بن الحكم قبل الاستبصار من أنه تعالى لا يعلم

الأشياء إلا بعد وقوعها .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 225

1) قال بعض المحققين في شرح هذا الحديث: الظاهر من السؤال أنه سأل:

كيف علم الله، أبعلم مستند إلى الحضور العيني والشهود في وقته لموجود عيني، أو

في موجود عيني، كما في علومنا، أو بعلم مستند إلى الذات سابق على خلق

الأشياء، فأجاب عليه السلام بأن العلم سابق على وجود المخلوق بمراتب، فقال: علم

وشاء وأراد وقدر وقضى وأمضى .

فالعلم ما به ينكشف الشئ، والمشيئة ملاحظته بأحوال مرغوب فيها

يوجب فينا ميلا دون المشيئة له سبحانه . لتعاليه عن التغير والاتصاف بالصفة

الزائدة، والإرادة تحريك الأسباب نحوه بحركة نفسانية فينا، بخلاف الإرادة فيه

سبحانه، والقدر التحديد وتعيين الحدود والأوقات، والقضاء هو الايجاب،

والامضاء هو الايجاد، فوجود الخلق بعد علمه سبحانه بهذه المراتب .

وقوله (فأمضى ما قضى) أي: فأوجد ما أوجب، وأوجب ما قدر، وقدر ما

أراد، ثم استأنف البيان على وجه أوضح، فقال: بعلمه كانت المشيئة، وهي

مسبوقة بالعلم، وبمشيئته كانت الإرادة، وهي مسبوقة بالمشيئة، وبإرادته كان

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 226

التقدير، والتقدير مسبوق بالإرادة، وبتقديره كان القضاء والايجاب، وهو مسبوق

بالتقدير، إذ لا ايجاب إلا للمحدد الموقوف، وبقضائه وإيجابه كان الامضاء

والايجاد، ولله تعالى البداء فيما علم متى شاء، فإن الدخول في العلم أول مراتب

السلوك إلى الوجود العيني، وله البداء بعدم الايجاد فيما علم متى شاء أن يبدو فيما

أراد وحرك الأسباب نحو تقديره متى شاء قبل القضاء والايجاب، فإذا وقع

القضاء والايجاب متلبسا بالامضاء والايجاد فلا بداء .

فعلم أن في المعلوم العلم قبل كون المعلوم وحصوله في الأذهان والأعيان،

وفي المشاء المشيئة قبل عينه ووجوده العيني، وفي أكثر النسخ المنشأ، ولعل

المراد به الانشاء قبل الاظهار كما في آخر الحديث، وفي المراد الإرادة قبل

قيامه، والتقدير لهذه المعلومات قبل تفصيلها وتوصيلها وحضورها العيني في

أوقاتها، والقضاء بالامضاء هو المبرم الذي يلزم وجود المقضي .

فبالعلم علم الأشياء قبل كونها، وأصل العلم غير مرتبط بنحو من الحصول

للمعلوم ولو في غيره بصورته المتحددة، ولا يوجب نفس العلم والانكشاف

بما هو علم وانكشاف للأشياء إنشاؤها، وبالمشيئة ومعرفتها بصفاتها وحدودها

أنشأها إنشاء قبل الاظهار والادخال في الوجود العيني، وبالإرادة وتحريك

الأسباب نحو وجودها العيني ميز بعضها عن بعض بتخصيص تحريك الأسباب

نحو وجود بعض دون بعض، وبالتقدير قدرها وعين وحدد أقواتها وآجالها،

وبالقضاء وايجابها بموجباتها أظهر للناس أماكنها ودلهم عليها بدلائلها فاهتدوا

إلى العلم بوجودها حسب ما يوجبه الموجب بعد العلم بالموجد، وبالايجاد

أوضح تفصيل علمها وأبان أمرها بأعيانها (1) انتهى .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 227

وقال شيخنا المعاصر أبقاه الله تعالى: قوله عليه السلام (قبل تفصيلها وتوصيلها) أي:

في لوح المحو والاثبات، أو في الخارج، وقوله عليه السلام (فإذا وقع العين المفهوم

المدرك) أي: فصل وميز في اللوح، أو أوجد في الخارج، ولعل تلك الأمور

عبارة عن اختلاف مراتب تقديرها في لوح المحو والاثبات، وقد جعلها الله

سبحانه من أسباب وجود الشئ وشرائطه لمصالح تأتي في البداء، فالمشيئة

كتابة وجود زيد وبعض صفاته مثلا مجملا، والإرادة كتابة العزم عليه بتا مع

كتابة بعض صفاته أيضا، والتقدير تفصيل بعض صفاته وأحواله لكن مع نوع من

الاجمال أيضا، والقضاء تفصيل جميع الأحوال، وهو مقارن للامضاء أي: الفعل

والايجاد والعلم بجميع تلك الأمور أزلي قديم، فقوله (وبالمشيئة عرف) على

صيغة التفعيل، وشرح العلل كناية عن الايجاد (1) .

أقول: وهذا فينا ظاهر، فإن الانسان إذا وجد شيئا من أفعاله في الخارج

يكون مسبوقا بهذه التقديرات كلها، فالعلم عبارة عن انكشاف ذلك الفعل له قبل

وقوعه، وبعده المشيئة وهي الميل الضعيف إلى فعله، وبعدها الإرادة وهو العزم

القوي عليه، ثم التقدير وهو تصوره مجملا على نحو من أنحاء التصور، وبعده

القضاء وهو تصوره مفصلا على النحو الذي يراد إبرازه في الخارج، ثم الامضاء،

وهو إظهاره في الخارج .

ولما كان سبحانه منزها عن هذه الأمور الموجبة للتغيير في العلم وأنواعه

ومراتب التكوين قرر سبحانه هذه الأمور كلها في الألواح السماوية والدفاتر

الملكوتية، وإذا ضم هذا البيان إلى ما تقدمه كان كاشفا عن معنى الحديث، مع أن

شرحه على حقيقة الواقع ونفس الامر مما لا يعلمه إلا أهل البيت عليهم السلام .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 228

1) إعلم أن البداء والكشف عن معناه من المطالب الجليلة، وقد اختلف فيه

الناس، ونسبوا إلينا ما لا نقول به في معناه .

وبيانه: أن البداء ممدودا، عرفه أهل اللغة بمعنى ظهور رأي لم يكن، فمن

أجله أشكل على الجمهور نسبته إليه سبحانه، لاستلزامه حدوث العلم في الزمن

الثاني بعد أن لم يكن في الزمن الأول كما هو الموجود فينا، وشنعوا علينا في ذلك

تشنيعا بليغا حتى أن الناصبي فخر الرازي ذكر في خاتمة كتاب المحصل حاكيا

عن سليمان بن جرير: أن أئمة الرافضة وضعوا القول بالبداء لشيعتهم، فإذا قالوا:

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 229

أنه سيكون لهم أمر وشوكة ثم لا يكون الامر على ما أخبروه، قالوا بدا لله تعالى

فيه .

وأعجب منه ما أجاب به المحقق الطوسي نصير الملة والدين طاب ثراه: بأن

أصحابنا الإمامية لا يقولون بالبداء وإنما القول به ما كان إلا في رواية رووها عن

جعفر الصادق عليه السلام أنه جعل إسماعيل القائم مقامه بعده، فظهر من إسماعيل ما لم

يرتضه منه، فجعل القائم مقامه موسى عليه السلام، فسئل عن ذلك، فقال: بدا لله في

إسماعيل، وهذه رواية، وعندهم أن خبر الواحد لا يوجب علما ولا عملا (1)،

انتهى .

وهذا الكلام صريح في كفر هذين الرجلين الرازي وابن جرير، فإن

الأئمة عليهم السلام ممن أجمع المسلمون على أن تعظيمهم ومودتهم من ضروريات

الدين، ولا شك أن نسبة الخيانة في أمور الدين إليهم مناف لوجوب تعظيمهم،

ولقوله تعالى: قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى (2) .

على أن العامة قد رووا في أخبارهم ضروريا من البداء التي نحن نقول بها،

مثل روايتهم قصة اليهودي الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وآله أنه يعضه أسود في قفاه،

فيموت، فلما لم يمت ذلك الوقت قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ضع الحطب، فوضعه فإذا

أسود في جوف الحطب عاض على عود، فقال: يا يهودي ما عملت اليوم ؟ قال: ما

عملت عملا إلا حطبي هذا حملته فجئت به، وكان معي كعكتان فأكلت واحدة

وتصدقت بواحدة على مسكين، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: بها دفع الله عنه، وقال: إن

الصدقة تدفع ميتة السوء عن الانسان (3) . وكذلك رووا عن عيسى عليه السلام (4)،

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 230

وليس البداء عندنا كما سيأتي تحقيقه إلا هذا وأمثاله .

وكذلك ذكره هذا الناصبي في تفسير قوله تعالى: يمحو الله ما يشاء ويثبت

وعنده أم الكتاب (1) فإنه ذكر أن الله يمحو من الرزق ويزيد فيه، وكذا الأجل

والسعادة والشقاوة والايمان والكفر، وكذا نسخ الاحكام، وكذا يمحو من ديوان

الحفظة ما ليس بحسنة ولا سيئة، لأنهم مأمورون بكتابة كل قول وفعل، ويثبت

غيره، وكذا الايجاد والاعدام والإماتة والاغناء والافقار، بحيث لا يطلع على

تلك الغيوب أحد من خلقه .

ثم قال: واعلم أن هذا الباب فيه مجال عظيم، فإن قال قائل: ألستم تزعمون

أن المقادير سابقة قد جف فيها القلم، فكيف يستقيم مع هذا المعنى المحو

والاثبات، قلنا: ذلك المحو والاثبات أيضا مما قد جف به القلم، فلا يمحو إلا ما

سبق في علمه وقضائه محوه، ثم قال: قال الرافضة: البداء جائز على الله تعالى،

وهو أن يعتقد شيئا ثم يظهر له أن الامر بخلاف ما اعتقده، وتمسكوا فيه بقوله:

(يمحو الله ما يشاء) (2) .

هذا كلامه أخزاه الله تعالى، ولا يعلم أحد من الرافضة قال بهذه المقالة،

وكتب الصدوق والشيخان والسيد قدس الله أرواحهم متقدمة على زمانه، وهي

خالية من هذا الافتراء، بل ما قالوه في البداء هو الذي قاله في تفسير الآية

والاخبار، ولو فرض أن أحدا من الشيعة قال بالبداء الذي نسبه إلينا الرازي، لكنا

قد تبرأنا منه وألزمناه الكفر والارتداد عن الدين .

هذا وقد بقي الكلام في معنى البداء الذي قال به أصحابنا رضوان الله عليهم،

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 231

فالذي قاله المصنف طاب ثراه تابعه عليه الشيخ قدس الله روحهما، وللأصحاب

رضوان الله عليهم في تحقيق معناه أقوال أخرى .

منها: ما ذهب إليه المحقق الداماد عطر الله مرقده في نبراس الضياء وهذا

لفظه: البداء منزلته في التكوين منزلة النسخ في التشريع، فما في الامر التشريعي

والاحكام التكليفية نسخ، فهو في الامر التكويني والمكونات الزمانية بداء

تشريعي، والبداء كأنه نسخ تكويني، ولا بداء في القضاء ولا بالنسبة إلى جناب

القدس الحق، والمفارقات المحضة من ملائكته القدسية، وفي متن الدهر الذي هو

ظرف مطلق الحصول القار والثبات البات، ووعاء عالم الوجود كله .

وإنما البداء في القدر وفي امتداد الزمان الذي هو أفق التقضي والتجدد

وظرف التدريج والتعاقب، وبالنسبة إلى الكائنات الزمانية، ومن في عالم الزمان

والمكان وإقليم المادة والطبيعة، وكما حقيقة النسخ عند التحقيق انتهاء الحكم

التشريعي وانقطاع استمراره لا رفعه وارتفاعه عن وعاء الواقع، فكذا حقيقة البداء

عند الفحص البالغ: انبتات استمرار الامر التكويني وانتهاء اتصال الإفاضة،

ومرجعه إلى تحديد زمان الكون وتخصيص وقت الإفاضة، لا أنه ارتفاع المعلول

الكائن عن وقت كونه وبطلانه في حد حصوله (1) .

ومنها: ما ذكره بعض الأفاضل في شرحه على الكافي وتبعه عليه جماعة من

المعاصرين، وهو أن القوى المنطبعة الفلكية لم تحط بتفاصيل ما سيقع من الأمور

دفعة واحدة، لعدم تناهي تلك الأمور، بل إنما ينتقش فيها الحوادث شيئا فشيئا

وجملة فجملة مع أسبابها وعللها على نهج مستمر ونظام مستقر، فان ما يحدث في

عالم الكون والفساد، فإنما هو من لوازم حركات الأفلاك المسخرة لله تعالى

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 232

ونتائج بركاتها، فهي تعلم أنه كلما كان كذا كان كذا، فمهما حصل لها العلم بأسباب

حدوث أمر ما في هذا العالم حكمت بوقوعه فيه، فينتقش فيها ذلك الحكم .

وربما تأخر بعض الأسباب الموجب لوقوع الحادث على خلاف ما يوجبه

بقية الأسباب لولا ذلك السبب، ولم يحصل لها العلم بذلك بعد، لعدم اطلاعها على

سبب ذلك السبب، ثم لما جاء أوانه واطلعت عليه، حكمت بخلاف الحكم الأول،

فيمحي عنها نقش الحكم السابق، ويثبت الحكم الآخر .

مثلا لما حصل لها العلم بموت زيد بمرض كذا في ليلة كذا لأسباب تقتضي

ذلك، ولم يحصل لها العلم بتصدقه الذي سيأتي به قبل ذلك الوقت، لعدم اطلاعها

على أسباب التصدق بعد، ثم علمت به وكان موته بتلك الأسباب مشروطا بأن لا

يتصدق، فتحكم أولا بالموت وثانيا بالبرء .

وإذا كانت الأسباب لوقوع أمر ولا وقوعه متكافئة، ولم يحصل لها العلم

برجحان أحدهما بعد مجئ أوان سبب ذلك الرجحان بعد ما كان لها التردد في

وقوع ذلك الامر ولا وقوعه، فينتقش فيها الوقوع تارة واللاوقوع أخرى، فهذا هو

السبب في البداء والمحو والاثبات والتردد، وأمثال ذلك في أمور العالم، فإذا

اتصلت بتلك القوى نفس النبي أو الامام عليهما السلام، وقرأ فيها بعض تلك الأمور، فله أن

يخبر بما رآه، بعين قلبه أو شاهده بنور بصيرته أو سمع باذن قلبه .

وأما نسبة ذلك كله إلى الله تعالى، فلان كل ما يجري في العالم الملكوتي إنما

يجري بإرادة الله تعالى، بل فعلهم بعينه . فعل الله سبحانه، حيث أنهم لا يعصون الله

ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، إذ لا داعي لهم على الفعل الا إرادة الله عز وجل،

لاستهلاك إرادتهم في إرادته تعالى، ومثلهم كمثل الحواس للانسان، كلما هم

بأمر محسوس امتثلت الحواس لما هم به، فكل كتابة تكون في مثل هذه الألواح

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 233

والصحف فهو أيضا مكتوب لله عز وجل بعد قضائه السابق المكتوب بقلم الأزل،

فيصح أن يوصف الله عز وجل نفسه بأمثال ذلك بهذا الاعتبار، وإن كان مثل هذه

الأمور تشعر بالتغير والسنوح وهو سبحانه منزه عنه، فإن كلما وجد أو سيوجد

فهو غير خارج عن عالم ربوبيته (1) .

ومنها: ما ذكره بعض المحققين وهذا لفظه: تحقيق القول في البداء أن الأمور كلها

عامها وخاصها ومطلقها ومقيدها ومنسوخها وناسخها ومفرداتها ومركباتها

وإخباراتها وإنشاءاتها بحيث لا يشذ عنها شئ منتقشة في اللوح، والفائض منه

على الملائكة والنفوس العلوية، والنفوس السفلية قد يكون الامر العام المطلق أو

المنسوخ حسب ما تقتضيه الحكمة الكاملة من الفيضان في ذلك الوقت، ويتأخر

المبين إلى وقت تقتضي الحكمة فيضانه فيه، وهذه النفوس العلوية وما يشبهها يعبر

عنها بكتاب المحو والاثبات، والبداء عبارة عن هذا التغيير في ذلك الكتاب (2

ومنها: ما ذكره السيد المرتضى قدس الله روحه في جواب مسائل أهل الري

وهمدان، قال: المراد بالبداء النسخ، وادعى أنه ليس بخارج عن معناه اللغوي (3) .

ولا يخفى ما في أكثر هذه الأقوال من عدم الموافقة للأحاديث المروية في هذا

الباب، بل وإجماع المسلمين كما لا يخفى .

ومنها: ما قاله شيخنا المعاصر أبقاه الله تعالى، وتحرير كلامه أن الأئمة عليهم السلام إنما

بالغوا في البداء ردا على اليهود الذين يقولون: ان الله قد فرغ من الامر، وعلى

النظام: وبعض المعتزلة الذين يقولون: ان الله تعالى خلق الأشياء (4) دفعة واحدة

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 234

على ما هي عليه الان معادن ونباتا وحيوانا وإنسانا، ولم يتقدم خلق آدم على

خلق أولاده، والتقدم إنما وقع في ظهورها لا في حدوثها وخلقها .

وهذه المقالة أخذوها من مقالة أصحاب الكمون والظهور، وهي طائفة من

الحكماء، وللرد على بعض الفلاسفة القائلين بالعقول والنفوس الفلكية وإنه عز

شأنه لم يؤثر حقيقة إلا في العقل الأول، فهؤلاء حقيقة قد عزلوه عن سلطانه، حيث

نسبوا إيجاد الموجودات إلى غيره، فهم عليهم السلام قد نفوا هذا القول وأثبتوا أنه سبحانه

كل يوم في شأن من الاحياء والإماتة والصحة والسقم والزيادة في الاعمار

والأرزاق، وفائدته أيضا تضرع العباد إلى ربهم والتقرب إليه بما يصلح أمور

داريهم، ليأملوا إذا فعلوا ما أمروا به جزاء ما وعدوا عليه من الزيادة في

الاعمار والأرزاق .

وذكر أن الآيات والاخبار دلتا على أن الله سبحانه خلق لوحين أثبت فيها

ما يحدث من الكائنات، أحدهما: لوح المحفوظ الذي لا تغير ولا تبديل فيه، لان

ما كتب فيه على وفق العلم القديم، والاخر لوح المحو والاثبات، فيثبت فيه شيئا

ثم يمحوه لحكم كثيرة، مثلا يكتب فيه أن عمر زيد خمسون سنة، ومعناه أن

مقتضى الحكمة أن يكون عمره كذا إذا لم يفعل ما يقتضي زيادته أو نقصانه،

فإن وصل رحمه محى الخمسين وأثبت مكانها ستين، وإذا قطعها يكون أربعين،

أما اللوح المحفوظ الموافق للعلم القديم، فالمكتوب فيه أنه يصل رحمه

وعمره ستون .

كما أن الطبيب الحاذق إذا عرف مزاج أحد من حركة نبضه أو غيرها،

يحكم بأن عمره بحسب هذا المزاج يكون ستين سنة، فإذا شرب سما أو

مات أو قتله إنسان فنقص من ذلك، أو استعمل دواء قوي مزاجه فزاد عليه، لم

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 235

يخالف قول الطبيب .

والتغيير الواقع في هذا اللوح يسمى بالبداء: إما لأنه مشبه به، كما في كثير من

الأمور التي أطلقت عليه تعالى للمشاكلة، كالابتلاء والاستهزاء والسخرية

ونحوها، أو لما يظهر للملائكة وغيرهم غير ما أخبروا به أولا .

ومن فوائد البداء أن يعلم العباد بإخبار حجج الله عليهم السلام أن لصالح أعمالهم

مثل هذه التأثيرات في صلاح أحوالهم، ولأعمالهم القبيحة تأثيرا في فسادها،

فيكون داعيا لهم إلى ارتكاب صالح الاعمال، صارفا لهم عن ركوب المناهي،

فظهر أن لهذا اللوح فائدة في حصول الاعمال، فبذلك انتقش في اللوح

المحفوظ حصوله فلا يتوهم أنه بعد ما كتب في هذا اللوح حصوله لا يكون للمحو

والاثبات فائدة .

ومن فوائده أن فيه تسلية لجماعة من المؤمنين المنتظرين لفرج أولياء الله

سبحانه، وغلبة الحق وأهله، كما روي في قصة نوح عليه السلام حين أخبر بهلاك القوم،

ثم أخر ذلك مرارا، وكما روي في فرج أهل البيت عليهم السلام وغلبتهم، لأنهم عليهم السلام لو

أخبروا شيعتهم في أول ابتلائهم باستيلاء حكام الجور عليهم وشدة محنتهم، أنه

لا يكون لهم فرج إلا بعد ألف سنة مثلا، لقنطوا من الفرج ولرجعوا عن الدين،

ولكنهم أخبروهم بتعجيل الفرج ليثبتوا على الدين ويثابوا بانتظار الفرج، كما قال

أبو الحسن عليه السلام لعلي بن يقطين: الشيعة تربى بالأماني منذ مائتي سنة .

وقال يقطين الناصبي لابنه علي بن يقطين الثقة: ما بالنا قيل لنا فكان، وقيل

لكم فلم يكن ؟ فقال له علي: إن الذي قيل لنا ولكم كان من مخرج واحد، غير أن

امركم حضر فأعطيتم محضه فكان كما قيل لكم، وإن أمرنا لم يحضر فعللنا

بالأماني، فلو قيل لنا إن هذا الامر لا يكون إلا إلى مائتي سنة أو ثلاثمائة سنة

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 236

لقست القلوب ولرجع عامة الناس عن الاسلام، ولكن قالوا ما أسرعه وما أقربه

تأليفا لقلوب الناس وتقريبا للفرج، وقوله (قيل لنا) أي: في أمر خلافة بني

العباس، لان يقطين كان من أمرائهم وعمالهم .

وقال الباقر عليه السلام: إذا حدثناكم الحديث فجاء على ما حدثناكم، فقولوا:

صدق الله، وإذا حدثناكم الحديث فجاء على خلاف ما حدثناكم به فقولوا:

صدق الله، تؤجروا مرتين (1) .

بقي الكلام في وجه الجمع بينما روي في هذا الباب من أن العلم الذي

يخرجه سبحانه إلى الأنبياء والأوصياء والملائكة، لا يكون فيه بداء، لئلا يلزم

تكذيبهم، وبين ما روي فيما حكيناه عن النبي صلى الله عليه وآله من إخباره عن اليهودي وأنه

يموت غدا ولم يمت، وإخبار عيسى عليه السلام عن العروس التي تزف إلى زوجها بأنها

تموت فلم تمت، ونحو ذلك، قد قيل فيه وجوه كثيرة:

منها: أن يكون عدم وقوع البداء فيما أمروا بتبليغه وما يكون فيه البداء فيما

لم يؤمروا بتبليغه، فيكون إخبارهم من قبل أنفسهم .

ومنها: أن ما لم يقع فيه البداء يكون المراد به ما وصل إليهم من طريق الوحي،

وما ورد فيه البداء يكون من طرف الأوهام واطلاع نفوسهم الشريفة على

الصحف السماوية .

ومنها: أنه محمول على الأغلب، فلا يقدح فيه النادر .

ومنها: ما أشار إليه الشيخ رحمه الله، وحاصله: أن إخبارهم عليهم السلام على قسمين:

أحدهما: ما أوحي إليهم أنه من الأمور المحتومة، فهم يخبرون عنه كذلك، فلم يقع

فيه البداء، وثانيها: ما يوحى إليهم لا على هذا الوجه، فهم يخبرون عنه كذلك،

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 237

وربما أشاروا أيضا إلى احتمال وقوع البداء فيه، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام بعد

الاخبار بالسبعين في خبر من هذا القبيل: ويمحو الله ما يشاء .

ومنها: وهو أصحها أنهم لا يخبرون بشئ لا تظهر فيه وجه الحكمة حتى يلزم

تكذيبهم، أما لو أخبروا بما يظهر وجه الحكمة فيه كالاخبارين ونحوهما فلا قدح

فيه، وتحقيق هذا المقام وذكر تفاصيله يوجب تحريره في رسالة مفردة، وسنفردها

إن شاء الله تعالى .

1) حيث قال سبحانه: والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 238

بأنفسهم أربعة أشهر وعشرا (1) ثم نسخ بأن الحامل تعتد بأبعد الأجلين .

1) أما الأول: فبأن الله سبحانه لم يؤخر إسماعيل بموته قبل أبيه ويقدم

موسى عليه السلام، وذلك لان أمر الإمامة وتعداد الأئمة عليهم السلام وكتابة أسمائهم على

ساق العرش واستشفاع الأنبياء عليهم السلام إلى الله سبحانه بهم في العفو عن زلاتهم

وكتابة أسمائهم في لوح فاطمة عليها السلام الذي انتسخ منه جابر الأنصاري أسمائهم إنما

كان قبل إسماعيل، وبالجملة فإسماعيل لم يكن عند الله سبحانه إماما ثم أخره

بموته قبل أبيه وقدم موسى عليه السلام، لأنه لم يكن مذكورا مع أسماء الأئمة عليهم السلام فيما

ذكر من المواضع ولا في غيرها .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 239

وأما الثاني: فلما ذكره بعض علماء التفسير والأصول من أن الخليل لم يكن

مأمورا بالذبح، بل إنما كان مأمورا بمقدماته، وقد فعل ما امر به منها، وعلى تقدير

أنه كان مأمورا بالذبح، يكون إنما امر بفري الأوداج، لا بإزهاق الروح، وفي

الخبر: أنه كلما كان يفري ودجا ويجاوزه إلى غيره عاد إلى موضع ملتحما، فيكون

قد امتثل ما امر به .

والجواب أما عن الأول: فبأن المراد من البداء في حديث قوله (إسماعيل

ابني) أن الشيعة كانوا يزعمون أن إسماعيل هو الامام بعد أبيه لما رووه من أن

الإمامة في الولد الأكبر، حتى أن طائفة من الشيعة وهم الإسماعيلية بقوا على هذا

الاعتقاد إلى هذا اليوم وقالوا: إن إسماعيل لم يمت بل هو غائب وسيظهر، ولما

رأى الصادق عليه السلام ميل الناس إلى إمامته صنع معه بعد الممات ما لم يفعله مع غيره

الذين ماتوا من أهل بيته، كما روي أنه تقدم سريره بلا حذاء ولا رداء، وكان

يأمرهم كلما مشوا بوضع السرير على الأرض، فيكشف عن وجهه ويقبله ليراه

الناس حتى لا يظنوا به ما ظنه تلك الطائفة الإسماعيلية .

وبالجملة فالبداء هنا هو الاظهار للحق ما كانوا يظنون غيره، كما في كثير من

موارد البداء، فالمراد منه التقديم والتأخير في نظر الناس واعتقادهم . لا التقديم

والتأخير عنده سبحانه .

وأما عن الثاني: فبأن الاخبار الواضحة إنما وردت بأن الله تعالى قد أمر

الخليل عليه السلام بالذبح الحقيقي، لكنه نسخه قبل حضور فعله لفائدة توطين النفس،

فيحصل لهما عظيم الاجر، والأصوليون بنوه على المسألة المشهورة بينهم من أن

نسخ الشئ قبل حضور فعله هل هو جائز أم لا ؟ والقول بالجواز هو الأقوى، كما

حقق في موضعه، وعلى ما قلنا يحمل قول الصادق عليه السلام لابنه موسى صلوات الله

عليه لما مات إسماعيل: يا بني أحدث لله شكرا فقد أحدث فيك عهدا . من أن

المراد بالعهد إظهار إمامته عند الناس بعد أن كانوا يزعمونها في غيره .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 240

باب المشيئة والإرادة

1) الظاهر أن المراد من المشيئة الواردة في هذا الخبر وما يتلوه من أخبار

هذا الباب هو مشيئته سبحانه لا مشيئة العباد . وأما كونها محدثة، فقد سبق

تحقيقه فيما تقدم من قوله عليه السلام (خلق الله المشيئة بنفسها ثم خلق الأشياء

بالمشيئة) وذلك أنها فينا عبارة عن الهمة بالشئ والميل إليه . وأما مشيئته سبحانه،

فقال الرضا عليه السلام فيما رواه البرقي في المحاسن: ابتداء الفعل (1) فسر تارة بإرادة

النقش في الألواح السماوية، وأخرى بأول أسباب إيجاد الفعل من الفاعل .

ومن تتبع الأخبار الواردة والشاردة يرى أن للمشيئة الواردة في الآيات

والاخبار معان كثيرة، أشهرها وأوضحها معان ثلاثة: أولها: العلم القديم . وثانيها:

الانتقاش في وجوه الألواح، وثالثها: مبادي الإرادة، فتكون الإرادة مكملة لها،

لأنها العزم القوي على ما وقع الميل إليه .

وبهذه المعاني يجمع بين مواردها المتضادة، فما ورد من أن كل شئ من

الخير والشر وقع بالمشيئة، المراد منه أحد المعنيين الأولين، وما ورد من أن

المشيئة لا تتعلق بالقبيح، فالمراد منها المعنى الثالث . وكذلك ما روي من اتصافها

بالقدم تارة وبالحدوث (2) أخرى .

وجوز بعض المحققين ان يراد من المشيئة هنا مشيئة العبد، لانهه تعالى

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 241

أحدث في طبعه الميل إلى الأشياء، وبذلك الميل يباشر أفعاله وما يأتي إليه،

وسيأتي له زيادة بيان فانتظرها .

1) لقوله تعالى: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون (1) .

2) إن كان المراد إدخال الجنة أو النار فواضح، وإن أريد الدنيا وما يدخل

فيه من الأمور حال حياته يراد من المشيئة أحد المعنيين الأولين أو الثالث إن

خص بالطاعات .

3) لأنه لو أشرك نفسه في المشيئة يكون مشركا، ولو استقل بها يكون

جاحدا، فيكون فيه دلالة على تكفير المعتزلة فيما ذهبوا إليه من المقالة السخيفة .

4) أي: ما علمه أو قدره ونقشه في الألواح، أو ما أراده حتما لا تخييرا .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 242

1) روي عن الصادق عليه السلام قال: إن الإمامة عهد من الله عز وجل معهود برجال

مسلمين ليس للامام أن يزويها عن الذي يكون من بعده، إن الله تبارك وتعالى

أوحى إلى داود عليه السلام أن اتخذ وصيا من أهلك، فإنه قد سبق في علمي أن لا أبعث

نبيا إلا وله وصي من أهله، وكان لداود عليه السلام أولاد عدة، وفيهم غلام كانت أمه عند

داود عليه السلام، وكان لها محبا، فدخل داود عليه السلام حين أتاه الوحي، فقال لها: إن الله

عز وجل أوحى إلي يأمرني أن أتخذ وصيا من أهلي، فقالت له امرأته: فليكن

ابني، قال: ذاك أريد، وكان السابق في علم الله المحتوم عنده أنه سليمان .

فأوحى الله تبارك وتعالى إلى داود عليه السلام ألا تعجل دون أن يأتيك أمري، فلم

يلبث داود أن ورد عليه رجلان يختصمان في الغنم والكرم، فأوحى الله عز وجل

أن أجمع ولدك، فمن قضى بهذه القضية فأصاب، فهو وصيك من بعدك، فجمع

داود عليه السلام ولده، فلما أن قص الخصمان، قال سليمان عليه السلام: يا صاحب الكرم متى

دخلت غنم هذا الرجل كرمك ؟ قال: دخلته ليلا: قد قضيت عليك يا

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 243

صاحب الغنم بأولاد غنمك وأصوافها في عامك هذا .

ثم قال له داود عليه السلام: فكيف لم تقض برقاب الغنم وقد قوم ذلك علماء بني

إسرائيل فكان ثمن الكرم قيمة الغنم ؟ فقال سليمان عليه السلام: إن الكرم لم يجتث من

أصله، وإنما اكل حمله وهو عائد في قابل .

فأوحى الله عز وجل إلى داود عليه السلام: إن القضاء في هذه القضية ما قضى

سليمان به، يا داود أردت أمرا وأردنا غيره، فدخل داود على امرأته، فقال: أردنا

أمرا وأراد الله غيره ولم يكن إلا ما أراد الله عز وجل، فقد رضينا بأمر الله عز وجل

وسلمنا، وكذلك الأوصياء عليهم السلام ليس لهم أن يتعدوا بهذا الامر فيجاوزون صاحبه

إلى غيره (1) .

1) أما المشية، فالمراد منها غير العلم القديم، وهي حادثة بجميع المعاني

الباقية، والاشكال إنما هو في حدوث الإرادة، وذلك أن متكلمي علمائنا ذهبوا

إلى أن الإرادة عبارة عن العلم بالخير وما هو الأصلح، وليس فيه تعالى وراء العلم

شئ غيره، ولا شك في كون العلم قديما، فكيف يكون الإرادة من صفات الافعال

التي هي علامة الحدوث ؟

وأجاب عنه بعض أهل التحقيق بأن المراد بالإرادة في هذا الخبر ونحوه

مخصص أحد الطرفين وما به يرجح القادر أحد مقدوريه على الآخر لا ما

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 244

يطلق في مقابل الكراهة، كما يقال: يريد الصلاح والطاعة ويكره الفساد

والمعصية .

وقال شيخنا المعاصر أبقاه الله تعالى: هو أنه يكون في الانسان قبل حدوث

الفعل اعتقاد النفع فيه، ثم الرؤية، ثم الهمة ثم انبعاث الشوق منه، ثم تأكده إلى أن

يصير إجماعا باعثا على الفعل، وذلك كله أراده فينا متوسطة بين ذاتنا وبين

الفعل، وليس فيه تعالى بعد العلم القديم بالمصلحة من الأمور المقارنة للفعل سوى

الاحداث والايجاد، فالاحداث في الوقت الذي تقتضي المصلحة صدور الفعل فيه

قائم مقام ما يحدث من الأمور في غيره تعالى .

وذهب شيخنا المفيد عطر الله مرقده إلى ما دلت عليه هذه الأخبار من أن

الإرادة من الله جل اسمه نفس الفعل، ومن الخلق الضمير (1) .

وفي حديث صفوان بن يحيى عن أبي الحسن عليه السلام: أن إرادة الله سبحانه

إحداثه لا غير ذلك، لأنه لا يروي ولا يهم ولا يتفكر، فإرادة الله هي الفعل لا غير

ذلك، يقول له كن فيكون بلا لفظ ولا نطق، الحديث (2) .

والحاصل في وجه الجمع أن ما دل على حدوث الإرادة وانها من صفات

الافعال، يحمل على مخصص أحد الطرفين على الاخر، وما دل على قدمها يراد

به منشأ هذه الإرادة، أعني: العلم بالأصلح الذي هو عين الذات، وقد سبق

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 245

الكلام في هذه المسألة فارجع إليه .

1) لعل المراد من المشيئة هنا معنى رابع، وهو التوفيق ومنح الألطاف التي

يختار الانسان معها ما يصلحه، واحتمال غيره من المعاني جائز .

وقال استاذنا المحقق طاب ثراه في شرح الكافي: أي: بمشيتي التي خلقتها

فيك وجعلتك ذا مشيئة، وهي آثار مشيئة الله سبحانه، كنت أنت الذي تشاء لنفسك

على وفق هواها ما تشاء، وبالقوة التي خلقتها فيك، وهي من آثار قوة الله، ولعل

المراد بها القوة العقلانية .

2) من قدرتك على ما تشاء، والقوى الشهوانية التي بها حفظ الأبدان

والأنواع وصلاحها قويت على معصيتي .

3) السمع والبصر ناظر إلى الفقرة الثانية، والقوة إلى الفقرة الثالثة .

4) أي: من آثار ما أفيض عليه من جانب الله، والسيئة من طغيانها وهواها،

واعلم أنه ذهب طائفة من المفسرين إلى أن المراد من الحسنة الطاعة، والمراد من

السيئة المعصية، وهو الظاهر من هذا الخبر، وذهب آخرون إلى أن المراد من

الحسنة النعمة والرخاء، ومن السيئة القحط والمرض والبلاء والمكاره والشدائد

التي تصيبهم في الدنيا بسبب المعاصي التي يفعلونها، وربما يكون لطفا، وربما

يكون على سبيل العقوبة، وإنما سماها سيئة مجازا، لان الطبع ينفر عنها، وإن كانت

أفعالا حسنة غير قبيحة .

فيكون المعنى على هذا: ما أصابك من الصحة وجميع نعم الدين والدنيا

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 246

فمن الله، وما أصابك من المحن والشدائد والآلام والمصائب فبسبب ما تكسبه

من الذنوب، كقوله سبحانه: وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم (1) .

وقوله: (فمن نفسك) معناه: بذنبك .

وفي الآية دلالة على أن الله تعالى لا يفعل الآلام إلا على وجه اللطف،

والعقاب دون مجرد العوض، لان المصائب إذا كانت كلها من قبل ذنب العبد، فهي:

إما أن تكون عقوبة، وإما أن يكون من قبل تأديب المصلحة .

1) يعني: كوني أحق منك بحسناتك وأنت أولى مني بسيئاتك، لأني الحكيم

على الاطلاق، لا أقول ولا أفعل إلا ما تقتضيه الحكمة البالغة، فلا اعتراض لاحد

علي من جهة هذا القول، مع أن الوجه فيه موجود، وهو أن الحسنات خير محض،

فتستند إلى الخير على الاطلاق . أما السيئات، فهي نقائص فلا يجوز استنادها إلا

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 247

إلى الانسان الناقص .

1) فسر الاذن الوارد في هذا الخبر وما بمعناه تارة بالعلم وهو بعيد، وأخرى

بالأعلام بإجازته والرخصة فيه، وإفاضة العلم بالرخصة والإباحة .

قال الراغب: الاذن في الشئ إعلام بإجازته والرخصة فيه (1) .

وقال المحقق الأسترآبادي في شرح قول أبي الحسن موسى بن جعفر عليه السلام

من روايات الكافي: لا يكون شئ في السماوات ولا في الأرض إلا بسبع

بقضاء وقد رو إرادة ومشيئة وكتاب وأجل وإذن، فمن زعم غير هذا فقد كذب على

الله، أورد على الله عز وجل (2): يفهم من كلامهم عليهم السلام أن كلما يحدث من خير

وشر من أفعالنا الإرادية أو الطبيعية يشترط في حدوثه أشياء، منها: إذنه تعالى،

وهو يحدث في آن حدوث الفعل، والمراد منه أن ينتقش في اللوح عدم الحيلولة،

والستة الباقية متقدمة على آن حدوث الفعل، بعضها بألفي عام وبعضها بأقل من

ذلك بسنة أو نحوها .

وبالجملة مذهب أهل البيت عليهم السلام أن هذه السبعة شرط في حدوث كل

حادث، وليست بأسباب، ومذهب الأشاعرة أنها أسباب حدوث الحادث،

ومذهب المعتزلة أنها ليست بأسباب ولا بشروط، بل أنها مفقودة .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 248

1) قال المصنف نور الله مرقده في كتاب الاعتقاد: إعتقادنا في الإرادة

والمشيئة قول الصادق عليه السلام: شاء الله وأراد ولم يحب ولم يرض، شاء أن لا يكون

شئ إلا بعلمه وأراد مثل ذلك، ولم يحب أن يقال له: ثالث ثلاثة ولم يرض لعباده

الكفر، وقال الله عز وجل: إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من

يشاء (1) وقال عز وجل: وما تشاءون إلا أن يشاء الله (2) وقال عز وجل:

ولو شاء ربك لامن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا

مؤمنين (3) .

ثم سرد من نحو هذه الآيات وقال بعده: فهذا اعتقادنا في الإرادة والمشيئة،

ومخالفونا يشنعون علينا في ذلك ويقولون: إنا نقول: إن الله عز وجل أراد

المعاصي، وأراد قتل الحسين عليه السلام، وليس هكذا نقول، ولكنا نقول: الله عز وجل

أراد أن يكون معصية العاصين خلاف طاعة المطيعين، وأراد أن يكون المعاصي

غير منسوبة إليه من جهة الفعل، وأراد أن يكون موصوفا بالعلم بها قبل كونها .

ونقول: أراد الله أن يكون قتل الحسين عليه السلام معصية له خلاف الطاعة، ونقول:

أراد أن يكون قتله منهيا عنه غير مأمور به، ونقول: أراد الله أن يكون قتله مستقبحا

غير مستحسن، ونقول: أراد الله عز وجل أن يكون قتله سخطا لله غير رضاه .

ونقول: أراد الله عز وجل أن لا يمنع عن قتله بالجبر والقدرة كما منع منه

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 249

بالنهي، ونقول: أراد الله أن لا يدفع القتل عنه كما دفع الحرق عن إبراهيم عليه السلام حين

قال عز وجل للنار التي القي فيها يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم .

ونقول: لم يزل الله عالما بأن الحسين عليه السلام سيقتل ويدرك بقتله سعادة الأبد

ويشقي قاتله شقاوة الأبد، ونقول: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، هذا اعتقادنا

في الإرادة والمشيئة دون ما نسبه إلينا أهل الخلاف والمشنعون علينا من أهل

الالحاد (1) .

وقال الشيخ المفيد في شرح هذا الكلام: الذي ذكره الشيخ أبو جعفر رحمه الله في

هذا الباب لا يتحصل ومعانيه تختلف وتتناقض، والسبب في ذلك أنه عمل على

ظواهر الأحاديث المختلفة، ولم يكن ممن يرى النظر فيميز بين الحق والباطل

ويعمل على ما توجب الحجة، ومن عول في مذهبه على الأقاويل المختلفة وتقليد

الرواة، كانت حاله في الضعف ما وصفناه، والحق في ذلك أن الله تعالى لا يريد إلا

ما حسن من الافعال، ولا يشاء إلا الجميل من الاعمال، ولا يريد القبائح ولا يشاء

الفواحش، تعالى الله عما يقول المبطلون علوا كبيرا، قال الله تعالى: وما الله يريد

ظلما للعباد وقال: يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم الآية

والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا

عظيما يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الانسان ضعيفا فخبر سبحانه بأنه لا

يريد بعباده العسر بل يريد بهم اليسر، وأنه يريد لهم البيان ولا يريد لهم الضلال،

ويريد التخفيف عنهم ولا يريد التثقيل عليهم، فلو كان سبحانه مريدا لمعاصيهم

لنافى ذلك إرادة البيان لهم والتخفيف عنهم واليسر لهم، وكتاب الله شاهد بضد ما

ذهب إليه الضالون المفترون على الله الكذب، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 250

كبيرا، ثم أجاب عن الآيات التي ظاهرها الدلالة على قول المخالفين (1) .

أقول كلام الصدوق رحمه الله عند التأمل لا غبار عليه لما تحققت من اختلاف

معاني المشيئة في الموارد المختلفة .

1) أي: شاء بالمشيئة الحتمية أن لا يكون شئ إلا بعلمه وعلى طباق ما في

علمه بالنظام الاعلى وما هو الخير والأصلح ولوازمها، وأراد بالإرادة الحتمية مثل

ذلك ولم يحب الشرور الملازمة التابعة للخير والأصلح، كأن يقال: ثالث ثلاثة،

وأن يكفر به ولم يرض بها .

وبالجملة معنى قوله (لم يحب) لم يرض بها لا أنه لم يردها حتما وإلا لنافى

التكليف ولما وقعت، لأنه يلزم أن يكون مغلوبا في الإرادة الحتمية، تعالى عما

يقول الظالمون علوا كبيرا .

2) قال الجزري: فيه (جفت الأقلام وطويت الصحف) يريد أن ما كتب في

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 251

اللوح المحفوظ من المقادير والكائنات والفراغ منها، تمثيلا بفراغ الكاتب من

كتابته ويبس قلمه (1) .

1) يجوز أن يراد من الكتاب جنسه، فيتناول الكتب المنزلة والألواح،

ويجوز تخصيصه بالقرآن أو اللوح . وأما حكاية جف القلم وسبق العلم بالسعادة

لمن آمن وبالشقاوة لمن كفر، فقد ورد في متشابهات الاخبار، ويمكن تنزيله على

وجوه:

الأول: أن يكون كناية عن تعلق العلم الأزلي به، فإنك قد تحققت سابقا أنه

تعالى يعلم الأشياء قبل وقوعها، كما يعلمها بعد وقوعها، إلا أن علمه تعالى ليس

بعلة لوقوع ما علم، بل العلم تابع للمعلوم لا العكس كما زعمه الأشاعرة ونحوهم:

الثاني: أن يراد كتابتها ونقشها في اللوحين، إلا أن له سبحانه المشيئة والبداء

فيما أراد محوه وإثباتها، وإلا لكان موافقا لقول اليهود غلت أيديهم ولعنوا بما

قالوا، وهذا القيد - أعني: اشتراط المشيئة - منصوص عليه في كثير من الاخبار .

الثالث: أن يكون كتب بالقلم ثم جف تعليق ما أريد تعليقه عليه وربط

الأسباب بالمسببات، وسعادة من سعد باختيار منه، و شقاوة من شقي بإرادة منه،

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 252

وهكذا، ثم هو سبحانه كل يوم في شأن من ملكه وسلطانه وإبراز ما كتب في

الألواح كما سبق في قوله عز شانه: إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون (1) .

وذكر صاحب الكشاف في تفسير سورة الرحمن: أن عبد الله بن طاهر دعى

الحسين بن الفضل، فقال له: أشكلت علي ثلاث آيات، إلى قوله: وقول الله: كل

يوم هو في شأن وصح أن القلم جف بما هو كائن إلى يوم القيامة ؟ فأجاب:

وأما قوله: كل يوم هو في شأن فإنها شؤون يبديها لا شؤون يبتديها، فقام عبد

الله فقبل رأسه وسوغ خراجه (2) .

أقول: هو معنى كلامنا قبل الاطلاع على هذا، لكن عبد الله لم يحضر، وهذا

مجمل لا سبيل لنا إلى تفصيل درجاته ومراتبه، بل ربما ورد النهي عنه، لان العقول

قاصرة عن الوقوف على ساحل أمواج بحاره .

1) أي: أن نعمي التي أوليتكها لم تكن بإزاء أعمالك بل هي نعم مبتدأة غير

مسبوقة باستحقاق منك لها، قيل: ويجوز قراءة أوليت على صيغة الخطاب .

2) لعل المراد من الأمانة هو مطلق التكاليف الشرعية، فإنها أمانة الله سبحانه

عند عباده ليقوموا بحفظها ورعايتها، كما يجب على الأمين حفظ أمانته ورعايتها،

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 253

وبه فسر الأكثر قوله تعالى: إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض (2)

أي: على أهل السماوات والأرض .

1) تفسيره ما ذكره عبد الملك، فإنه أراد بكلامه بيان معنى هذه الفقرة،

وحاصله: أني رضيت منك لنفسي بأن أعذبك كما رضيت أنت بإتيان ما يوجب

العذاب، وحاصله: لن أعذبك إلا بما عملت، ويجوز أن يكون معنى العبارة راجعا

إلى صلاح الدارين الذي هو مطلوب العبد، وإلى الطاعة الذي هو مطلوب الله

سبحانه من العبد .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 254

1) قال ثقة الاسلام الطبرسي: معناه الاخبار عن قدرة الله تعالى، وأنه يقدر

على أن يكره الخلق على الايمان، كما قال: إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية

فظلت أعناقهم لها خاضعين (1) ولذلك قال بعد ذلك: أفأنت تكره الناس حتى

يكونوا مؤمنين ومعناه أنه لا ينبغي أن تريد إكراههم على الايمان، مع أنك لا

تقدر عليه، لان الله تعالى يقدر عليه ولا يريده، لأنه ينافي التكليف، وأراد بذلك

تسلية النبي صلى الله عليه وآله وتخفيف ما يلحقه من التحسر والحرص على إيمانهم .

وقوله تعالى: بإذن الله معناه: أنه لا يمكن أحد أن يؤمن إلا بإطلاق الله

له في الايمان وتمكينه منه ودعائه إليه بما خلق فيه من العقل الموجب لذلك .

وقيل: إن إذنه هنا أمره . وقيل: إن إذنه هاهنا علمه، أي: لا يؤمن نفس إلا بعلم الله

فيكون خبرا عن علمه سبحانه بجميع الكائنات، ويجوز أن يكون معناه إعلام الله

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 255

المكلفين بفضل الايمان وما يدعوهم إلى فعله ويبعثهم على فعله (1)، انتهى

ملخصا .

1) يعني: أنه سبحانه أراد قدرتي على ما نهاني عنه، حتى أكون مأجورا على

ذلك الترك، لان الاجر لا يكون كاملا إلا على ما كان مقدورا للعبد، أما ما

لا يكون مقدورا له، كترك الزنا لمن لم يقدر عليه، وشرب الخمر لمن لم يتمكن منه،

ونحو ذلك، فالثواب عليه وعدمه مبني على تفسير النهي هل هو ترك الفعل أو كف

النفس، فعلى الثاني لا ثواب له، لان الكف إنما يكون عند القدرة على الفعل، وهو

ظاهر .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 256

1) يجوز أن يراد من الأمانة ما تقدم من التكاليف، والمعنى: لم أكلفك إلا بما

أقررت بالقدرة عليه، ويجوز أن يراد بها الولاية في هذا العالم، لوقوع الاقرار بها

في أخذ الميثاق عند عالم الذر، وبه وردت الروايات في تفسير (إنا عرضنا

الأمانة) .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 257

باب الاستطاعة

1) الظاهر أن معناه الإشارة إلى ما سيأتي في أخبار هذا الباب من الرد على

طوائف أهل الخلاف فيما ذهبوا إليه من أنه ليس للعبد استطاعة على الفعل قبل

فعله، فالمعنى: أن القول بهذه الاستطاعة وأنها لا تكون قبل الفعل، ليس هو من

قولي ولا قول آبائي .

وأما توجيه المصنف، فلعل معناه المنع من إطلاق الاستطاعة عليه تعالى

لكونه استفعالا من الطاعة، فلا يليق إطلاقه على جانب الحق سبحانه، أو لان

الاستطاعة كما قيل إنما تطلق على القدرة المتفرعة على حصول الآلات

والأدوات، وهو تعالى منزه عنها .

قال الطبرسي طاب ثراه: الفرق بين الاستطاعة والقدرة أن الاستطاعة انطباع

الجوارح للفعل، والقدرة هي ما أوجب كون القادر عليه قادرا، ولذلك لا يوصف

الله تعالى بأنه مستطيع ويوصف بأنه قادر (1) .

أقول: التحقيق في حل هذا الخبر ما رواه الكشي هكذا: محمد بن مسعود عن

محمد بن عيسى عن حريز قال: خرجت إلى فارس وخرج معنا محمد الحلبي إلى

مكة، فاتفق قدومنا جميعا إلى حنين (2)، فسألت الحلبي فقلت له: أطرفنا بشئ،

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 258

فقال: نعم جئتك بما تكره، قلت لأبي عبد الله عليه السلام: ما تقول في الاستطاعة ؟

فقال: ليس من ديني ودين آبائي، فقلت: الان ثلج صدري والله لا أعود لهم

مريضا، ولا أشيع لهم جنازة، ولا أعطيهم شيئا من زكاة مالي .

قال: فاستوى أبو عبد الله عليه السلام جالسا، وقال لي: كيف قلت ؟ فأعدت عليه

الكلام، فقال أبو عبد الله عليه السلام: كان أبي عليه السلام يقول: أولئك قوم حرم الله وجوههم

على النار، فقلت: جعلت فداك، وكيف قلت لي ليس من ديني ولا دين آبائي ؟

قال: إنما أعني بذلك قول زرارة ومن تابعه (2) .

ومعنى قوله (لا أعود لهم مريضا) أي: للقائلين بالاستطاعة من الشيعة،

فعلم عليه السلام أن مراده مطلق القائلين بالاستطاعة، فرد عليه بأن الذي نفيته من

الاستطاعة هو ما ينسب إلى زرارة موافقا لمذهب التفويض، وهذا من جملة

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 259

الطعون على زرارة، بل روى الكشي (1) أن الصادق عليه السلام لعن زرارة على ما

اعتقده في هذه المسألة، ولعله منزل على حاله قبل استبصاره، أو أن هذه المسألة

من عويصات المسائل والغلط فيها محتمل، وأراد عليه السلام أن لا يتابعه على اعتقاد ه

أحد، فنفاه على سبيل المبالغة، وبالجملة فهذا الخبر مفصل لما أجمل في الخبر

السابق، فلا حاجة إلى ما تكلف المصنف رحمه الله في معناه .

1) في هذا الخبر ونحوه رد على الجبرية من أهل الخلاف النافين

لاستطاعة العبد، وعلى من قال منهم بالاستطاعة، إلا أنها مقارنة للفعل لا

سابقة عليه

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 260

1) فيه رد على المعتزلة القائلين بأن أفعالهم مما لا مدخل له سبحانه فيها لا

بعلم ولا بتوفيق ولا ألطاف ولا أسباب، بل هم المستقلون في ايجادها على

الاطلاق، وسيأتي تمام الكلام فيه بعد هذا إن شاء الله تعالى .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 261

1) فيه إبطال لمذاهب الأشاعرة القائلين بجواز تكليف ما لا يطاق ووقوعه،

والكلام معهم ليس هذا محله، وقد ذكر الفاضل ابن طاووس في كتاب

الطرائف (1) جملة وافية في الرد عليهم، من أراد الاطلاع على أقاويلهم الباطلة

فليراجعها من هناك .

2) أي: مخلى الطريق مفتوحة، صحيح الجسم من الأمراض المانعة، سليم

الجوارح التي هي آلات له، له سبب وارد من الله سبحانه من عصمة نفسه أو

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 262

التخلية بينه وبين إرادته، كما قال قائل: أن يعصم فيمتنع كما امتنع يوسف عليه السلام، أو

يخلى بينه وبين إرادته، فيزني ويسمى زانيا، لترتب الزنا على إرادته هذا .

واعلم أن أبا الحسن الثالث عليه السلام شرح هذه الأمور المذكورة في رسالته إلى

أهل الأهواز في بيان نفي الجبر والتفويض وإثبات الامر بين الامرين، وهذا لفظه:

والقول بين الجبر والتفويض هو الاختبار والامتحان والبلوى في الاستطاعة التي

ذكرها الصادق عليه السلام، وإنها جمعت جوامع الفضل وأنا مفسرها بشواهد من القرآن

والبيان إن شاء الله تعالى تفسير صحة الخلقة .

أما قول الصادق عليه السلام فإن معناه كمال الخلق للانسان بكمال الحواس وإثبات

العقل والتمييز، وإطلاق اللسان بالنطق، وذلك قول الله: ولقد كرمنا بني آدم

وحملناهم في البر والبحر وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا (1) فقد أخبر

عز وجل عن تفضيله بني آدم على سائر خلقه من البهائم وغيرها بتمييز العقل

والنطق بعد أن ملكهم استطاعة ما كان تعبدهم به بقوله: فاتقوا الله ما

استطعتم (2) فإذا سلب العبد حاسة من حواسه رفع عنه العمل بحاسته، كقوله:

ليس على الأعمى حرج (3) فرفع عنه الجهاد ونحوه، وفي الآيات الكثيرة

دليل على أن الله تبارك وتعالى لم يكلف عباده إلا ما ملكهم استطاعة بقوة العمل

بها، ونهاهم عن مثل ذلك، وهذه صحة الخلقة .

وأما قوله (تخلية السرب) فهو الذي ليس عليه رقيب يحظر عليه ويمنعه

العمل بما أمر الله به، وذلك قوله فيمن استضعف وحظر عليه العمل، فلم يجد حيلة

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 263

لم يهتد سبيلا، فأخبر أن المستضعف لم يخل سربه وليس عليه من القول شئ إذا

كان مطمئن القلب بالايمان .

وأما المهملة في الوقت، فهو العمر الذي يمتع به الانسان من وقت تمييزه إلى

وقت أجله، فمن مات على طلب الحق ولم يدرك كماله فهو على خير، وذلك قوله:

ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله (1) الآية، وإن كان لم يعمل بكمال

شرائعه لعلة ما لم يمهله في الوقت إلى استتمام أمره .

وأما الزاد، فمعناه: الجدة والبلغة التي يستعين بها العبد على ما أمره الله به،

وذلك قوله: ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم * ولا على الذين إذا

ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه (2) ألا ترى أنه قبل عذر من لم

يجد ما ينفق، وألزم الحجة كل من أمكنته البلغة والراحلة للحج والجهاد، وكذلك

قبل عذر الفقراء، ولم يكلفهم الاعداد لما لا يستطيعون ولا يقدرون .

وأما قوله في السبب المهيج، فهي النية التي هي داعية الانسان إلى جميع الأفعال

وحاستها القلب، فمن فعل فعلا وكان بدين لم يعقد قلبه على ذلك، لم

يقبل الله منه عملا الا بصدق النية، كذلك أخبر عن المنافقين بقوله: يقولون

بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون (3) وقد أجاز الله صدق النية

وإن كان الفعل غير موافق لها لعلة مانع يمنع إظهار الفعل في قوله: إلا من اكره

وقلبه مطمئن بالايمان (4) فهذا شرح جميع الخمسة الأمثال، فإن اجتمع هذه

الخمسة وجب عليه العمل كملا وإلا كان مطروحا (5)، إنتهى ملخصا .

1) بل بإرادته وعصمة الله إياه من موانع المطلوب، ولم يعصه بغلبة منه بل

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 264

بإرادته وتخلية الامر بينه وبين إرادته .

1) أي: في الدنيا، قيل: إنها نزلت في صلاة الجماعة ومن لم يحضرها .

2) أي: بتركهم السجود والصلاة في الدنيا ابتلاهم الله سبحانه في الآخرة

بالعذاب الذي عذبهم به .

3) الابتلاء: الاختبار لاكمال الحجة عليهم، والقضاء: كتابته في الألواح

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 265

السماوية مفصلا .

1) يستفاد من هذا الخبر وما قبله وجوب الحج على من عرض عليه الحج

وبذل له الزاد والراحلة وما يحتاج إليه من المؤونة، سواء كان البذل على طريق

الهبة أم لا، وسواء كان الباذل ممن أوجب البذل على نفسه بنذر أو شبهه أم لا،

وسواء كان ممن يوثق به أم لا، وسواء بذل له عين الزاد والراحلة أم قيمتهما،

وسواء بذل له الراحلة المناسبة لحاله وشرفه أم لا، وفي كل واحد من هذه

المذكورات خلاف من الأصحاب، وقد حققنا الكلام في هذه المسألة في المجلد

الرابع من شرحنا على تهذيب الحديث، وفي المجلد الثاني من شرحنا على

الاستبصار .

إذا عرفت هذا فاعلم أن عبد الرحمن الكشي ذكر في كتاب التحفة: أن

استطاعة العبد على نوعين: استطاعة حال، واستطاعة فعل . أما استطاعة الحال،

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 266

فهي الصحة وسلامة الآلات البدنية وتهيئة الأسباب المالية، والاستطاعة بهذا

المعنى سابقة على الفعل بالاجماع، وهي شرط صحة التكليف، وهذه الاستطاعة

هي المرادة من قوله تعالى: ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه

سبيلا (1) وقوله تعالى: فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا (2) وهذه

الاستطاعة صالحة للضدين، كالحركة والسكون، والطاعة والمعصية، والصدق

والكذب، وأمثال ذلك .

وأما استطاعة الفعل، فهي نوع حدة وحمية تترتب على إرادة الفعل إرادة

جازمة مؤثرة في وجود الفعل، وهذه الاستطاعة هي المرادة من قوله تعالى:

إنك لن تستطيع معي صبرا (3) وقوله تعالى: ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين

النساء (4) وقوله تعالى: ما كانوا يستطيعون السمع (5) نفى الاستطاعة في

هذه الصور مع الصحة وسلامة الآلات البدنية، فعلم أن بعد الصحة وسلامة الآلات

أمرا آخر يسمى بالاستطاعة، وهو ما ذكرنا من نوع حدة وحمية تترتب على إرادة

الفعل بحيث يلزم عنه الفعل .

والاستطاعة في هذا التفسير إنما توجد مقارنة للفعل، لا سابقة عليه زمانا،

وإلا لزم تأخر المعلول عن العلة المستقلة . ثم الواقع بعد هذه الاستطاعة إن كان

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 267

خيرا وطاعة يسمى خلق هذه الاستطاعة توفيقا من الله تعالى، وإن كان شرا

ومعصية يسمى خذلانا انتهى .

وحينئذ فما ورد في الاخبار من أن الاستطاعة لا تكون مقدمة على الفعل،

المراد هذا النوع منها .

وقال العلامة رحمه الله: ذهبت الإمامية والمعتزلة إلى أن القدرة التي للعبد متقدمة

على الفعل، وقالت الأشاعرة هاهنا قولا غريبا عجيبا، وهو أن القدرة لا توجد قبل

الفعل بل مع الفعل غير متقدمة عليه لا بزمان ولا آن، فلزمهم من ذلك محالات .

منها: تكليف ما لا يطاق، لان الكافر مكلف بالايمان إجماعا منا ومنهم، فإن

كان قادرا عليه حال كفره ناقضوا مذهبهم من أن القدرة مع الفعل غير متقدمة عليه،

وإن لم يكن قادرا عليه لزمهم تكليف ما لا يطاق، وقد نص الله تعالى على

امتناعه فقال: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها وإن قالوا: أنه غير مكلف حال كفره

لزمهم خرق الاجماع من أن الله تعالى أمره بالايمان، بل عندهم أنه أمرهم في

الأزل ونهاهم، فكيف لا يكون مكلفا ؟ انتهى .

وما استدل به الأشاعرة من أن الفعل لا يمكن تقدمه على الفعل، فلا يكون

مقدورا، ظاهر الفساد، فإن القدرة بالذات لا تنافي الامتناع بالغير، لأن عدم تقدمه

على وقته إنما جاء من عدم مجئ وقته لا من جهة عدم القدرة عليه، وتفصيله

في كتب الكلام .

1) قال بعض المحققين: قوله عليه السلام (وقد فعلوا) أي: نفوا الاستطاعة أيضا بعد

ما نفوا سائر ضروريات الدين، أو المعنى أنهم فعلوا الفعل باختيارهم فكيف لا

تستطيعون .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 268

أقول: في هذا الخبر رد على من زعم منهم أن الاستطاعة لا تكون قبل الفعل

وتكون في حال الفعل، وحينئذ فيجوز أن يكون المعنى أنهم قالوا بما هو أقبح من

هذا وهو نفي الاستطاعة مطلقا، وأما اشراكهم فلان هذا القول منهم خلاف

القرآن وخلاف متواتر السنة واجماع أهل البيت عليهم السلام، ومن قال ما يخالف

القرآن فقد نصب نفسه شريكا لله تعالى .

1) أي: لو كان ما دعوتهم إليه غنيمة حاضرة (وسفرا قاصدا) أي: قريبا هينا،

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 269

وقيل: غير شاق (لاتبعوك) طمعا في المال (ولكن بعدت عليهم الشقة) أي:

المسافة، يعني غزوة تبوك، أمروا فيها بالخروج إلى الشام وسيحلفون بالله لو

استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم بما أسروه من الشرك، وقيل: باليمين

الكاذبة والعذر الباطل لما يستحقون عليها من العذاب . والله يعلم إنهم

لكاذبون في هذا الاعتذار والحلف .

وفيه دلالة واضحة على أن القدرة قبل الفعل، لان هؤلاء لا يخلو: إما أن

يكونوا مستطيعين من الخروج قادرين عليه ولم يخرجوا، أولم يكونوا قادرين

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 270

عليه، وإنما حلفوا لو أنهم قدروا في المستقبل لخرجوا، فإن كان الأول، فقد ثبت

أن القدرة قبل الفعل، وإن كان الثاني: فقد كذبهم الله سبحانه في ذلك وبين أنه لو

فعل بهم الاستطاعة لما خرجوا، وفي ذلك أيضا وجوب تقديم القدرة على

المقدور، فإن حملوا الاستطاعة على وجود الآلة وعدة السفر فقد تركوا الظاهر

من غير ضرورة، فإن حقيقة الاستطاعة القدرة على أنه لو كان عدم الآلة والعدة

عذرا في التأخر، فعدم القدرة أصلا أحرى وأولى أن يكون عذرا فيه، كذا قال

في مجمع البيان (1)، ويظهر منه الجواب عن استطاعة الحج المذكورة في الأخبار السابقة .

1) فيه إبطال لما ذهب إليه الأشاعرة من أن العبد غير مستطيع، إلا أن له

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 271

قدرة وكسبا مقارنة للفعل غير مؤثرة فيه، وعرفوا ذلك الكسب بكون العبد مباشرا

للفعل ومحلا له كالجسم للسواد، وأورد عليه أصحابنا عدم الفائدة في ذلك

الكسب، لأنه إذا لم يكن مؤثرا في الفعل بل المؤثر هو الله تعالى لزم عليهم الجبر

الذي لزم لقدمائهم، وقد فروا منه، لان ذلك الكسب عندهم لا يقدر العبد على

تركه، فهو مجبور عليه، لأنه لو كان قادرا على تركه كان فاعلا مختارا موجدا له،

مع اجماعهم على أنه لا يوجد لفعل العبد إلا الله تعالى، ففرارهم من الجبر إلى الكسب .

قال المحقق الطوسي طاب ثراه: مثل من فر من المطر إلى الميزاب، للزوم

الجبر مع زيادة عدم تعقل معناه، وأما بحثهم عن عدم تقدم القدرة على الفعل وهو

فضول، كما قاله العلامة الحلي رحمه الله، لأنهم نفوا مطلق قدرة العبد سوى المباشرة التي

عبروا عنها بالكسب، وقد عرفت أنها لا تكون قدرة .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 272

وما أحسن ما قاله ابن سينا في إلهيات الشفاء رادا عليهم، وهذا لفظه: قد قال

بعض الأوائل وغاريقون منهم: أن القوة تكون مع الفعل ولا تتقدم، وقال بهذا أيضا

قوم من الواردين بعده بحين كثير، فالقائل بهذا القول كأنه يقول: أن القاعد ليس

يقوى على القيام، أي: لا يمكن في جبلته أن يقوم ما لم يقم، وهذا القائل لا محالة

غير قوي على أن يرى ويبصر في اليوم الواحد مرارا فيكون بالحقيقة أعمى إنتهى .

وأما المفاسد اللازمة عليهم من جهة هذا القول فمن أرادها فعليه بكتاب

إحقاق الحق .

1) المراد من القدرية هنا المعتزلة، وقد ورد إطلاقه في أخبارنا على كل واحد

من الأشاعرة والمعتزلة لوجوه من المشابهة يأتي ذكرها بعيد هذا، وأما المخالفون

فقد نسب كل واحد من الفريقين هذا الاسم إلى الاخر .

قال شارح المقاصد: لا خلاف في ذم القدرية، وقد ورد في صحاح الأحاديث

لعن الله القدرية على لسان سبعين نبيا، والمراد بهم القائلون بنفي كون الخير والشر

كله بتقدير الله ومشيئته، سموا بذلك لمبالغتهم في نفيه، وقيل: لاثباتهم للعبد قدرة

الايجاد، وليس بشئ، لان المناسب حينئذ، القدري، بضم القاف .

وقال المعتزلة: القدرية هم القائلون بأن الخير والشر كله من الله وبتقديره

ومشيئته، لان الشائع نسبة الشخص إلى ما يثبته ويقول به كالجبرية والحنفية

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 273

والشافعية، لا إلى ما ينفيه . ورد بأنه صح عن النبي صلى الله عليه وآله قوله: القدرية مجوس

أمتي، وقوله: إذا قامت القيامة نادى منادي أهل الجمع: أين خصماء الله، فتقوم

القدرية، ولا خفاء في أن المجوس هم الذين ينسبون الخير إلى الله والشر إلى

الشيطان ويسمونها يزدان وأهرمن، وان من لا يفوض الأمور كلها إلى الله تعالى

ويفرز بعضها فينسبه إلى نفسه يكون هو المخاصم لله تعالى، وأيضا من يضيف

القدر إلى نفسه ويدعي كونه الفاعل والمقدر أولى باسم القدري . ممن يضيف إلى

ربه (1) انتهى .

وقال العلامة طاب ثراه في شرحه على التجريد: قال أبو الحسن البصري:

قال محمود الخوارزمي: وجه تشبيهه عليه السلام المجبرة بالمجوس من وجوه:

أحدها: أن المجوس اختصموا بمقالات سخيفة واعتقادات واهية معلومة

البطلان، وكذلك المجبرة .

وثانيها: أن مذهب المجوس أن الله تعالى يخلق فعله، ثم يتبرأ منه، ثم خلق

إبليس ثم انتفى منه، وكذلك المجبرة قالوا: إنه تعالى يفعل القبائح ثم يتبرأ منه .

وثالثها: أن المجوس قالوا: إن نكاح الأخوات والأمهات بقضاء الله وقدره

وإرادته، ووافقهم المجبرة حيث قالوا: إن نكاح المجوس لأخواتهم وأمهاتهم

بقضاء الله وقدره وإرادته .

ورابعها: أن المجوس قالوا: إن القادر على الخير لا يقدر على الشر وبالعكس،

والمجبرة قالوا: إن القدرة موجبة للفعل غير متقدمة عليه، فالانسان القادر على

الخير لا يقدر على ضده وبالعكس (2) انتهى .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 274

ويؤيد قول المعتزلة ما ذكره السيد الأجل السيد علي بن طاووس في

الطرائف، وهذا لفظه: روى جماعة من علماء الاسلام عن نبيهم صلى الله عليه وآله أنه قال:

لعنت القدرية على لسان سبعين نبيا، قيل: ومن القدرية يا رسول الله ؟ فقال: قوم

يزعمون أن الله سبحانه قدر عليهم المعاصي وعذبهم عليها .

وروى صاحب الفائق وغيره من علماء الاسلام عن محمد بن علي المكي

بإسناده قال: إن رجلا قدم على النبي صلى الله عليه وآله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله: أخبرني

بأعجب شئ رأيت ؟ قال: رأيت قوما ينكحون أمهاتهم وبناتهم وأخواتهم، فإذا

قيل لهم: لم تفعلون ذلك ؟ قالوا: قضاه الله تعالى علينا وقدره، فقال النبي صلى الله عليه وآله:

سيكون من أمتي أقوام يقولون مثل مقالتهم، أولئك مجوس أمتي (1) .

وقال السيد الداماد رحمه الله: إطلاق القدر على التفويض والاستطاعة، والقدرية

على المفوضة القائلين بالاستطاعة بناء على ما قد كان شاع في زمن مولانا

الصادق عليه السلام من اصطلاح العامة على ذلك، وأما على التحقيق فالقدرية هم

الجبرية الذاهبون إلى القدر أعني إسناد أفعال العباد إلى قضائه وقدره من غير

علية ومدخلية لقدرة العبد وإرادته في فعله أصلا .

أقول: مذهب المعتزلة في هذه المسألة ما قاله علي بن إبراهيم وهذا لفظه:

وأما الرد على المعتزلة . فإن الرد من القرآن عليهم كثير، وذلك أن المعتزلة قالوا:

نحن خلقنا أفعالنا وليس لله فيها صنع ولا مشيئة ولا إرادة، ويكون ما شاء إبليس

ولا يكون ما شاء الله، واحتجوا أنهم خالقون بقول الله تبارك وتعالى: أحسن

الخالقين فقالوا في الخلق: خالقون غير الله، فلم يعرفوا معنى الخلق وعلى كم

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 275

وجه (1)، ثم أطال في الرد عليهم وأبطل مذهبهم السخيف .

1) لعل المراد بقوله (بالله تستطيع) أن الله يجبره على الفعل، فلذا قال: فليس

إليك من الامر شئ ولما نفى المتكلم الثلاثة وقال: بالله أستطيع علم أن مراده

أني مستطيع قادر بما ملكني الله من الأسباب والآلات، فلذا لم يرد عليه السلام كلامه

وقبل منه .

والظاهر أنه اختار الشق الأول، فقوله عليه السلام (ليس إليك من الامر شئ) أي:

لا تستقل في الفعل بأن تقدر على تحصيل جميع ما يتوقف عليه الفعل، والحاصل

أنه لما كان قدريا تفويضيا قال عليه السلام: إن اخترت هذا فقد أقررت ببطلان ما يعتقده

من استقلال العبد ولا بد لك من اختياره .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 276

1) المراد من رفع هذه الأمور رفع المؤاخذة عليها، وقوله (رفع عن أمتي)

ظاهر في اختصاص هذه الأمة المرحومة بهذه الأشياء، فيكون حكمها ثابتا لباقي

الأمم، ولعل فيه ضربا من المضادة لقواعد الحسن والقبح العقليين ولقوانين عدم

جواز التكليف بما لا يطاق .

على أنه يمكن أن يقال: إنهم كانوا مأمورين بالمداومة على التذكر والتحفظ

والمراقبة، وذلك أن أحكامهم وتكاليفهم كانت أشد من هذه الأحكام، كقتل

النفس عند التوبة، وقرض الأبدان بالمقاريض عند إصابة النجاسة، وترك التزويج

والسياحة في الأرض، إلى غير ذلك .

وبالجملة تكون الأمم السابقة مؤاخذين بالخطأ والنسيان إذا أوقعا أسبابهما

ومباديهما، أما الذي يغلب عليه الله فهو أحق بالعذر، وأما الذي أكرهوا عليه فلعله

كان يلزمه تحمل المشاق العظيمة فيما أكرهوا عليه، وقد وسع الله سبحانه على هذه

الأمة بتوسيع دائرة التقية وغيرها، ويجوز أن لا يكون هذا القيد أعني: قوله (عن

أمتي) للاحتراز بل للايضاح .

وقوله (وما لا يعلمون) ظاهر في أن الجاهل معذور مطلقا إلا ما قام الدليل

عليه مثل أصول الدين وكثير من الموارد التي ورد النص بمؤاخذة الجاهل

بحكمها، وأكثر الأصحاب وضعوا القانون هكذا: الجاهل غير معذور إلا في موارد

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 277

خاصة، وأكثر الاخبار دال على الأول ولعله الأقوى .

والطيرة المراد منه وضع تشأمها عنهم فلا يكون على نسق ما قبلها، فإن المراد

من الوضع فيما قبلها وما بعدها وضع المؤاخذة والعقاب، ويجوز أن يراد رفع شدة

تأثيرها، فإنهم كانوا إذا تطيروا من شئ تضرروا به، وفي الحديث أن الطيرة على

ما تطيرت به (1) يعني: أن حصل الخوف وقوى الوهم، حصل التضرر . وإن قوى

العزم وخلصت النية، وقاك الله شرها وضرها .

وعنه صلى الله عليه وآله أنه قال: ثلاث لا يسلم منهن أحد: الطيرة والحسد والظن، قيل: يا

رسول الله فما نصنع ؟ قال: إذا تطيرت فامض وإذا حسدت فلا تتبع، وإذا ظننت

فلا تحقق (2) .

وقال رسول الله صلى الله عليه وآله، كفارة الطيرة التوكل (3) .

وعنه صلى الله عليه وآله أنه قال: الطيرة شرك، وما منا ولكن الله يذهبه بالتوكل (4) . أي: ما

منا أحد إلا ويعتريه الطيرة وتسبق الكراهة إلى قلبه، فحذف اختصارا واعتمادا

على فهم السامع، وإنما جعل الطيرة من الشرك، لأنهم كانوا يزعمون أن التطير

يجلب لهم نفعا أو يدفع عنهم ضررا إذا عملوا بموجبه، فكأنهم جعلوه شريكا لله

تعالى، وقوله (ولكن الله يذهبه بالتوكل) معناه: أن الذنب الحاصل من عروض

التطير يذهب بالتوكل، فيكون كفارته .

وقد ورد في الاخبار ما يرشد إلى التطير، كما رواه الصدوق وغيره مسندا

إلى أبي الحسن موسى بن جعفر عليهما السلام، قال: الشؤم للمسافر في طريقه في سبعة:

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 278

الغراب الناعق عن يمينه، والكلب الناشر لذنبه، والذئب العاوي الذي يعوي في

وجه الرجل وهو مقع على ذنبه يعوي، ثم يرتفع، ثم ينخفض ثلاثا، والظبي

السانح من يمين إلى شمال يعني: أنه أبعد من رمية الرامي - والبومة الصارخة،

والمرأة الشمطاء تلقي فرجها - يعني: تكون مقابلة لك - والاتان العضباء - يعني:

الجدعاء - فمن أوجس في نفسه منهن شيئا فليقل: اعتصمت بك يا رب من شر ما

أجد في نفسي فأعصمني من ذلك، فيعصم من ذلك (1) . والشمط بياض شعر الرأس

يخالط سواده .

ووجه الجمع بين أخبار هذا الباب يكون بوجوه:

منها: ما قدمناه من أن التطير قد يضر إذا وقع التوهم، كما روي أنه صلى الله عليه وآله قال:

أوحى الله تعالى إلى داود: يا داود كما لا تضر الطيرة من لا يتطير منها، كذلك لا

ينجو من الفتنة المتطيرون . وعن الصادق عليه السلام: الطيرة على ما تجعلها إن هونتها

تهونت، وإن شددتها تشددت، وإن لم تجعلها شيئا لم يكن شيئا (2) .

ومنها: ما قاله شيخنا الشهيد رحمه الله من أن معناه: لا طيرة، أي: ليس لها تأثير من

نفسها بل المؤثر هو مشيئة سبحانه المقارنة لوقتها .

ومنها: أن النفي منصرف إلى الكمال والاستقلال وهو خبر (لا) المحذوف،

فالمعنى: لا طيرة كاملة في الاسلام كما كانت في أعصار الجاهلية، وذلك ببركة

النبي صلى الله عليه وآله .

وقال الدقاق: كتبت إلى أبي الحسن عليه السلام أسأله عن الحجامة يوم الأربعاء لا

تدور، فكتب عليه السلام: من احتجم يوم الأربعاء لا يدور خلافا على أهل الطيرة عوفي

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 279

من كل آفة وقي من كل عاهة (1) . ولا يمكن أن يكون هذا وجها للجمع بين

الاخبار .

ومنها: أن ما ورد في الرواية السابقة من أن التطير يكون بالأمور السبعة،

يجوز أن يكون إشارة إلى ما كان الناس يتشأمون به لا أنها محل الطيرة، فتأمل .

وأما قوله (والحسد) فالمراد من رفعه: إما شدة التضرر منه، كما كان في

أعصار الجاهلية وأوائل الاسلام، فيكون موافقا لما قبله، وإما رفع حكم

التحريم لعدم الانفكاك عنه غالبا، لكن بشرط أن لا يتتبع العود إليه مكررا أو لا

يتلفظ به، كما في هذا الخبر .

وقوله: (والتفكر في مصلحة الخلق) قيل: المراد بالخلق المخلوقات، أي:

الناس، والمراد بالتفكر فيهم بالوسوسة: التفكر وحديث النفس بعيوبهم وتفتيش

أحوالهم والتأمل فيها، فإن هذا العمل والحسد وضع عنهم المؤاخذة عليهما ما لم

ينطق الانسان بهما، وقيل: التفكر في مسألة خلق الاعمال، أو التشكيك في

خلق الله . وقيل: المراد التفكر في ذات الله وكيفية خلقه الأشياء بلا مادة ولا مثا ل .

أقول: ويؤيده ما روي أنه أتى رجل النبي صلى الله عليه وآله فقال: يا رسول الله هلكت،

فقال صلى الله عليه وآله: أتاك الشيطان الخبيث، فأوقع في وهمك أن الله تعالى خلق الأشياء،

فمن خلق الله تعالى ؟ فقال: نعم يا رسول الله، فقال له صلى الله عليه وآله: هذا من علامات

الايمان، فإذا عرض لك الخبيث فاستعذ بالله وقل: لا إله إلا الله، وفي مورد آخر

فقل: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على محمد وآله

الطاهرين (2) .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 280

1) قال أمين الاسلام الطبرسي رحمه الله: ذكر سبحانه السبب الذي استحقوا به

النار، يعني: الذين غفلوا عن الاعتبار بقدرتي الموجبة لذكري، وأعرضوا عن

التفكر في آياتي ودلائلي، فصاروا بمنزلة من يكون في عينه غطاء يمنعه من

الادراك (وكانوا لا يستطيعون سمعا) أي: وكانوا يثقل عليهم سماع القرآن وذكر

الله تعالى، كما يقال: فلان لا يستطيع النظر إليك، ولا يستطيع أن يسمع كلامك،

أي: يثقل عليه ذلك، وأراد بالعين هنا عين القلب، كما يضاف العمى إلى القلب (2)

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 281

باب الابتلاء والاختبار

1) أي: ما من تضييق ولا توسعة إلا ولله فيه مشيئة وقضاء لذلك القبض

والبسط، ولما يؤدي إليه، وابتلاء واختبار لعباده، والحديث الذي بعده كهذا

الحديث إلا أنه خص بما أمر الله به أو نهى عنه، ولعله ليس لاختصاص الحكم به،

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 282

بل لبيان الحكم في الخاص وإن لم يختص به .

باب السعادة والشقاوة

1) قال شيخنا المحقق أبقاه الله تعالى: هذا الخبر مأخوذ من الكافي، وفيه

تغييرات عجيبة تورث سوء الظن بالصدوق، وإنه إنما فعل ذلك ليوافق مذهب

أهل العدل، وفي الكافي هكذا: أيها السائل حكم الله عز وجل لا يقوم أحد من

خلقه بحقه، فلما حكم بذلك وهب لأهل محبته القوة على معرفته، ووضع عنهم

ثقل العمل بحقيقة ما هم أهله، ووهب لأهل المعصية القوة على معصيتهم لسبق

علمه فيهم ومنعهم إطاقة القبول منه، فوافقوا ما سبق في علمه ولم يقدروا أن يأتوا

حالا ينجيهم من عذابه، لان علمه أولى بحقيقة التصديق، وهو معنى شاء ما شاء،

وهو سره (1) (2) .

أقول: لعل الصدوق رحمه الله نقل هذه الرواية برواية الكليني لكن من غير الكافي،

إما من محفوظاته أو من باقي كتبه، وإلا فنسبة التحريف في الخبر ليوافق

المذهب، مما لا يمكن نسبته إلى الشيخ الصدوق .

وقوله (لا يقوم أحد من خلقه بحقه) معناه: أن أحكامه تعالى وتكاليفه شاقة

لا يتيسر الاتيان بها إلا بهدايته تعالى، أو كيفية حكم الله وقضائه في غاية

الغموض لا تصل إليها أكثر العقول، وهذا معنى قوله (هنا علم الله عز وجل لا يقوم

أحد من خلقه بحقه) أي: لا يعرف كيفية علمه تعالى، لأنه يرجع إلى العلم بالذات .

2) أي: لما علم سبحانه بالعلم الأزلي، سعادة السعداء لاختيارهم

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 283

وارتكابهم أسباب السعادة .

1) أي: منحهم الألطاف والتوفيقات الإلهية وخفف عليهم العمل، فعملوا بما

فيه سعادتهم ونجاتهم .

2) أي: إنه تعالى لما علم فيهم اختيار الشقاوة، فمنعهم الألطاف والتوفيقات

التي وهبها السعداء تفضلا منه سبحانه، وإلا فالهداية إلى النجدين طريق الخير

وطريق الشر مما ألزمها الفريقين، لوجوبها عليه سبحانه، فعبر عن التخلية ونفسه

بالقوة التي يباشر بها المعاصي بجامع كونهما من دواعي الفعل وشروطه .

3) يعني به: القدرة على الطرف الآخر، وأما على ما في الكافي من قوله

(ومنعهم إطاقة القبول منه) فقيل: إن المنع مصدر مضاف إلى الفاعل، أي: منعوا

أنفسهم إطاقة القبول، ويجوز أن يقرأ على صيغة الماضي، بل هو الظاهر منه،

ومعناه كما سبق أنه تعالى منعهم الألطاف والهدايات التي يستحقها أهل الطاعة

بنياتهم الحسنة، لا أنه سبحانه سلبهم القدرة على الفعل .

4) في بعض النسخ (خلالا) بالخاء المعجمة، أي: وإن قدروا على أن يفعلوا

خصالا تنجيهم من العذاب، لكنهم لم يفعلوا، وفي أكثر النسخ بالمهملة، أي:

حالات وصفات تكون سبب سعادتهم، وأما على ما في الكافي من قوله (ولم

يقدروا على أن يأتوا حالا تنجيهم من عذابه) فالمعنى كما سبق من أنه لما تعلق

العلم القديم بشقاوتهم اختيارا منعهم وجوه الفضل والاحسان الذي منحه غيرهم،

فمن ثم ثقل عليهم أن يأتوا بما يكون سببا لنجاتهم .

5) أي: ما ذكرناه من لحوق السعادة للسعداء والشقاوة للأشقياء بالتفضل

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 284

السابق هو معنى شاء ما شاء، وقيل: إن ما ذكر من أنه لا يقوم بحكم الله أحد بحقه

معنى شاء ما شاء، وهو سره الذي لم يطلع عليه أحدا من خلقه .

إذا تحققت هذا فاعلم أن لنا في حل الأخبار الواردة في هذا الباب، وفي

أبواب الطينة من أن المؤمن خلقه الله من طينة عليين، والمخالف من طينة سجين،

وفي سائر ما ورد في الاخبار التي ظاهرها الجبر في عالم التكليف مسلكا لطيفا

لم نسبق إليه، وقد حررناه في شرحنا على الصحيفة، وفي كتابنا الموسوم بالأنوار

النعمانية .

وبعد تحريره رأيناه في شرح الكافي لبعض مشائخنا المعاصرين (1)،

وحاصله: أن الاخبار كما تقدم متظافرة بتقديم عالم الذر على هذا العالم، ويسمى

عالم الأرواح والعالم الأول، وقد خاطب الله سبحانه الأرواح فيه خطابا تكليفيا

على ما وقع في هذا العالم، فمنهم من آمن ومنهم من كفر، ومن التكليف الذي وقع

فيه أن الله سبحانه أجج نارا فأمر الفريقين بدخولها، فدخلها أهل اليمين وصيرها

عليهم بردا وسلاما، وامتنع الباقون وقالوا: لا طاقة لنا بحرها، فقال سبحانه

أدخلكم ناري ولا أبالي، فوقع التمييز هناك بين المحسن والمسئ على ما صدر

فيه من التكليف، فلما وقع اختيار السعادة والشقاوة في عالم الأرواح جاء

التكليف في هذا العالم على طبق ما وقع هناك .

فما في هذا الخبر من أن أهل الشقاوة لا يتمكنون في هذا العالم من الاتيان

بما يلحقهم بالسعداء الوجه فيه ظاهر على ما قلنا، وذلك أن الشقاء لزمهم

بالاختيار بسبب التكليف الذي ورد عليهم في عالم الأرواح، وكذلك ما ورد من

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 285

أن طينة المؤمن اخذت من عليين، لان روحه لما أتت بما كلفت به من الأمور

المذكورة في ذلك العالم ناسبها الحلول في الطينة الطاهرة والأبدان القدسية،

وعكسه الكافر وطينته، فلا جبر ولا ظلم من جناب الحق سبحانه، وليكن هذا

التحقيق على ذكر منك لتحل به ما يرد عليك من الشبهات، والله ولي التوفيق .

1) قال الطبرسي رحمه الله: (غلبت علينا شقوتنا) أي: شقاوتنا، وهي المضرة

اللاحقة في العاقبة، والمعنى استعلت علينا سيئاتنا التي أوجبت لنا الشقاوة (2)

2) الظاهر أنه إشارة إلى ما ورد في الاخبار من أن ملائكة التصوير إذا

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 286

صوروا النطفة بما أمروا به من الذكر أو الأنثى، أوحى الله إليهم أن يكتبوا في جبهته

مدة عمره ومقدار رزقه وما يؤول إليه حاله، وأن يكتبوا أنه سعيد أو شقي، فإذا

كتبوا ما أمروا به قال سبحانه لهم: اكتبوا أن لي المشيئة فيما تكتبون، ويجوز أن

تكون إشارة إلى ما حررناه من تقدم الشقاوة والسعادة في عالم الأرواح، وهو

عالم الذر، فيكون قوله (في بطن أمه) كناية عن سبقهم على هذا العالم .

1) حاصله: أن من سبق في علم الله أنه يسعد باختياره صوالح الاعمال

وتفرس الشيطان منه الصلاح وسيماء السعادة، كمن له دقائق السبل وأوتر له

قوس الأطماع، فرماه بسهام الشهوات حتى عزله عن صفة من السعداء، لكنه

محافظ على بضاعة الايمان، فعند ذلك تداركه رحمة ربه وألطاف هدايته، فيرجع

إلى ما اختاره له الله سبحانه، ويدخل في عداد أبناء جنسه، أما من علم الله

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 287

سبحانه منه اختيار الشقاء، وتعرف الشيطان منه ذلك، أخذ تجارة الايمان منه، ثم

تركه من يده يد أب في العمل الشبيه بأعمال السعداء تحصيلا للعناء، ولان

الشيطان عنه في شغل، ثم أنه يعطف عنان الضلال إليه، فيرجعه إلى ما علم منه

الشقاوة .

روي عن الصادق عليه السلام: أن أشرف البقاع ما بين الركن والمقام، ولو أن رجلا

عبد الله تعالى ذلك المكان بطول عمر الدنيا صائما نهاره، قائما ليله حتى يصير

كالشن البالي وفي قلبه شئ من محبة فلان وفلان، لا كبه الله على منخريه في

النار . ولو كان جبرئيل (1) . فدل هذا على أن طاعات من خالف الولاية لا تثمر

لهم نفعا .

على أنه روي في نوادر الاخبار أن ثواب طاعاتهم وعباداتهم يكتب للشيعة،

لان من مزج طينتهم، وذلك أنه سبحانه لما خلق الطينتين مزج بينهما ثم عزلهما،

فحصل في كل طينة من ماء الأخرى، فما يفعله المخالفون من الطاعات مستند إلى

الماء الحلو الذي كان في طينة المؤمنين، وما يأتيه المؤمنون من قبائح الاعمال

مسبب عن الماء الآجن الذي حصل لهم من المزج، فذنوبهم يكون في القيامة

لاحقة للمخالفين، وحسنات المخالفين محسوبة من جملة حسنات المؤمنين،

وبهذا وردت أخبار كثيرة، والمفصل منها ما رواه الصدوق رحمه الله في آخر كتاب علل

الشرائع والاحكام عن أبي إسحاق الليثي (2)، من أراد الاطلاع على حقيقة

الحال فلينظره من هناك، ولا يخبر به أحدا من عوام الشيعة، كما اشترط

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 288

الإمام عليه السلام في ذلك الخبر .

1) الفواق كغراب ما بين الحلبتين من الوقت، لأنها تحلب ثم تترك سويعة

يرضعها الفصيل لتدر، ثم تحلب، أو ما بين فتح يدك وقبضها على الذرع، وفي

الحديث: العيادة قدر فواق الناقة (1) .

2) أي: قدر السعادة والشقاوة بتقدير التكاليف الموجبة لهما، وحاصله يرجع

إلى خلق أسبابهما .

قال المصنف نور الله ضريحه في كتاب الاعتقاد: إعتقادنا في أفعال العباد أنها

مخلوقة خلق تقدير لا خلق تكوين، ومعنى ذلك أنه لم يزل الله عالما

بمقاديرها (2) .

وقال شيخنا المفيد تغمده الله برحمته في شرح هذا الكلام الذي ذكره أبو

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 289

جعفر: قد جاء به حديث غير معمول به ولا مرضي الاسناد، والأخبار الصحيحة

بخلافه، وليس نعرف في لغة العرب أن العلم بالشئ هو خلق له، ولو كان ذلك كما

قاله المخالفون للحق، لوجب أن يكون من علم النبي صلى الله عليه وآله، فقد خلقه، ومن علم

السماء والأرض فهو خالق لهما، ومن عرف بنفسه شيئا من صنع الله تعالى وقرره

في نفسه أن يكون خالقا له، وهذا محال لا يذهب وجه الخطأ فيه على بعض

رعية الأئمة فضلا عنهم .

فأما التقدير، فهو الخلق في اللغة، لان التقدير لا يكون إلا بالفعل، فأما بالعلم

فلا يكون تقديرا، ولا يكون أيضا بالفكر، والله متعال عن خلق الفواحش

والقبائح على كل حال .

وقد روي عن أبي الحسن الثالث عليه السلام أنه سئل عن أفعال العباد، أهي

مخلوقة لله تعالى ؟ فقال عليه السلام: لو كان خالقا لها لما تبرأ منها، وقد قال سبحانه:

إن الله برئ من المشركين ولم يرد البراءة من خلق ذواتهم، وإنما تبرأ من

شركهم وقبائحهم وكتاب الله تعالى المقدم على الأحاديث، وإليه يتقاضى في

صحيح الاخبار وسقيمها، فما قضى به فهو الحق دون ما سواه، قال الله تعالى:

الذي أحسن كل شئ خلقه وبدأ خلق الانسان من طين فخبر بأن كل شئ

خلقه فهو حسن غير قبيح، فلو كانت القبائح من خلقه لما حكم بحسن جميع ما

خلق، وقال تعالى: وما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فنفى التفاوت عن

خلقه، وقد ثبت أن الكفر والكذب متفاوت في نفسه، والمتضاد من الكلام

متفاوت، فكيف يجوز أن يطلقوا على الله تعالى أنه خالق لافعال العباد وفي أفعال

العباد من التفاوت ما ذكرناه (1) انتهى .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 290

وظني أن هذا الكلام كله غير وارد على الصدوق، وذلك أن الأخبار الواردة

بكون أفعال العباد مخلوقة الله تعالى كثيرة جدا، كقول الرضا عليه السلام: أفعال العباد

مخلوقة أي: مقدرة، وكقوله عليه السلام فيما كتب للمأمون من محض الاسلام: أن الله

تبارك وتعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها، وأن أفعال العباد مخلوقة لله خلق تقدير لا

خلق تكوين، والله خالق كل شئ، واستقصاء الروايات الواردة في ذلك يفضي

إلى التطويل .

وأيضا فقد تقدم في الاخبار أن التقدير مرتبة من مراتب العلم المتقدمة على

الايجاد، وأنه لا يكون شئ من أفعال العباد إلا بتقدير، وفي اللغة أيضا ما يساعد

عليه كما سبق في حديث شرح قوله سبحانه: فتبارك الله أحسن الخالقين

وأما خلق الفواحش بمعنى تقديرها في الألواح وخلق أسبابها فلا قصور في

إطلاقه على الله تعالى .

وأما قوله عليه السلام (لو كان خالقا لها لما تبرأ منها) فالمراد من الخلق هنا ما

يذهب إليه الأشاعرة من معنى التكوين والجبر، وذلك أن الخلق له معان، منها:

التقدير، وهو صحيح الإرادة من الاخبار، ومنها: الايجاد والتكوين، وهو غير

صحيح في أفعال العباد، وبالجملة فجملة ما ذكره في معرض الرد على الصدوق

قدس الله روحيهما ظاهر الاندفاع بما قررناه .

1) قد ورد في الدعاء: يا من يحول بين المرء وقلبه، وقد ذكر العلماء

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 291

والمفسرون للآية والحديث وجوها من المعاني .

منها: أن معنى حيلولته تعالى بين المرء وقلبه، صرفه القلب عما يريد إلى ما

يريد، كما قال سيد الموحدين عليه السلام: عرفت الله بفسخ العزائم (1) . وقوله عليه السلام:

قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء .

ومنها: أنه سبحانه يحجب الانسان عما يكون مخزونا في قلبه، فلا يطلع

عليه، ثم قد يطلع عليه بعد التذكير وأسبابه .

ومنها: أن القلب ربما تخيل ما لا يصل إلى قوة الادراك، لبعده وخفائه، وبه

فسر الاخفاء في قوله تعالى: يعلم السر وأخفى (2) فقيل المراد من الأخفى

تلك الخيالات الخفية، فيكون تعالى قد حال بين الشخص وما تخيله .

ومنها: ما ذكره السيد المرتضى، عطر الله مرقده، في كتاب غرر الدرر، وهذا

لفظه: وفي قوله سبحانه: أن الله يحول بين المرء وقلبه وجوه:

أولها: أن يريد بذلك أنه تعالى يحول بين المرء وبين الانتفاع بقلبه بالموت،

وهذا حث منه عز وجل على الطاعات والمبادرة لها قبل الموت .

وثانيها: أنه يحول بين المرء وقلبه بإزالة عقله وإبطال تمييزه وإن كان حيا،

وقد يقال لمن فقد عقله وسلب تمييزه، إنه بغير قلب، قال الله تعالى: إن في ذلك

لذكرى لمن كان له قلب .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 292

وثالثها: أن يكون المعنى: المبالغة في الاخبار عن قربه من عباده وعلمه بما

يبطنون ويخفون، وأن الضمائر المكنونة له ظاهرة والخفايا المستورة لعلمه باديه،

يجري ذلك مجرى قوله تعالى: ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ونحن نعلم

أنه تعالى لم يرد قرب المسافة، بل المعنى الذي ذكرناه، وإذا كان عز وجل هو

أعلم بما في قلوبنا منا فكان ما نعلمه أيضا يجوز أن ننساه ونسهو عنه ونضل عن

علمه، وكل ذلك لا يجوز عليه، فجاز أن نقول: إنه يحول بيننا وبين قلوبنا، لأنه

معلوم في الشاهد أن كل شئ يحول بين الشيئين فهو أقرب إليهما، والعرب تضع

كثيرا لفظة القرب على غير معنى المسافة، فيقول: فلان أقرب إلى قلبي من فلان .

ورابعها: ما أجاب به بعضهم من أن المؤمنين كانوا يفكرون في كثرة عدوهم

وقلة عددهم، فيدخل قلوبهم الخوف، فأعلمهم تعالى أنه يحول بين المرء وقلبه،

بأن يبدله بالخوف الامن ويبدل عدوهم بظنهم أنهم قادرون عليهم الجبن

والخوف، ويمكن في الآية وجه خامس وهو أن يكون المراد: أنه تعالى يحول

بين المرء وبين ما يدعوه إليه قلبه من القبائح بالأمر والنهي والوعد والوعيد، انتهى .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 293

وقال شيخنا المعاصر أبقاه الله تعالى: يحتمل أن يكون مخصوصا بالمقربين

الذين يملك الله قلوبهم ويستولي عليها بلطفه، ويتصرف فيها بأمره، فلا يشاؤون

شيئا إلا أن يشاء الله، ولا يريدون إلا ما أراد الله، فهو تعالى في كل آن يفيض على

أرواحهم ويتصرف في أبدانهم، فهم ينظرون بنور الله ويبطشون بقوة الله، كما

قال الله تعالى فيهم: فبي يسمع وبي يبصر وبي ينطق وبي يمشي وبي يبطش، وفي

موضع آخر: إذا تقرب إلي عبدي بالنوافل كنت سمعه الذي به يسمع، الحديث .

ويحتمل معان أخرى أعرضنا عن ذكرها حذرا من التطويل .

باب نفي الجبر والتفويض

1) قد عرفت أن للمشيئة معان، منها: العلم والتقدير، ولعله المراد منها، فإنه

سبحانه كتب الخير والشر وأسبابهما ودواعيهما في الألواح على وفق ما يأتي به

العباد باختيار منهم، وليس المراد من المشيئة هنا الإرادة أو الميل إلى الفعل حتى

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 294

يجئ الاشكال في إرادة الشر، فيحتاج إلى ما ذكره المصنف طاب ثراه من

التخصيص .

وفي هذا الحديث رد على الأشاعرة والمعتزلة، وذلك أن قوله عليه السلام: (من زعم

أن الله تعالى يأمر بالسوء والفحشاء) يتضمن مذهب الأشاعرة، لأنهم وإن لم

يصرحوا بأمره سبحانه لهم بالسوء والفحشاء إلا أنه لازم عليهم، لأنهم يقولون بأن

الله تعالى يجبر عباده على فعل السوء والفحشاء كما يجبرهم على فعل الطاعات،

ومن جبر عبده على فعل كان مريدا لذلك الفعل، وإذا كان مريدا له كان آمرا به،

تعالى الله عما يقول الكافرون علوا كبيرا .

ومن أقوى دلائل الجبرية قوله تعالى: لا يسئل عما يفعل وهم

يسئلون (1) وهو بالدلالة على بطلان مذهبهم أوضح، وذلك أن أقصى ما يدل

عليه هو أنه ليس لأحد أن يسأل الله تعالى عن أفعاله، ولكن الله يسأل الناس عن

أفعالهم، فلو كانت الافعال كلها منه كانت متساوية، فما كانت تحتاج إلى التقسيم

على قسمين .

وروي أن جماعة من اليهود اجتمعوا إلى أبي بحر الخاقاني، فقالوا: أنت

سلطان عادل ومنصف وفي المسلمين في بلدك المجبرة، وهم الذين يعتمدون

عليهم في الافعال والأقوال، وهم يشهدون لنا أننا لا نقدر على الاسلام ولا على

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 295

الايمان، فجمع المجبرة وقال لهم ما تقولون فيما قد ذكره اليهود من احتجاجهم

عليكم، فقالوا: كذا نقول وأنهم ما يقدرون على الاسلام والايمان، فطالبهم بالدليل

على أقوالهم فلم يقدروا عليه، فنفاهم من بلده (1)، وقد ذكرنا فصلا مشبعا في

الرد عليهم في كتاب الأنوار النعمانية .

1) إبطال لرأي المعتزلة، لأنهم يقولون: إن الله سبحانه لا مدخل له في أفعال

العباد، فإذا أراد العبد فعلا لم يقدر سبحانه على منعه وعلى أن يحول بينه وبين

ذلك الفعل .

2) إعلم أن هذا مطلب جليل وأصل أصيل، لأنه مما يورث الكفر والايمان

والمكث في النار والخلود في الجنان، وقد اضطربت الآراء في تحقيقه والإشارة

إليه، وحيث أنه مع ما عرفت عام البلوى، فلا بد من الكشف عنه وبيان أن الحق فيه

ما هو .

فنقول: قال شيخنا المفيد طاب ثراه في شرحه لاعتقادات الصدوق: الجبر هو

الحمل على الفعل والاضطرار إليه بالقسر والغلبة، وحقيقة ذلك إيجاد الفعل في

الخلق من غير أن يكون له قدرة على دفعه والامتناع من وجوده فيه، وقد يعبر عما

يفعله الانسان بالقدرة التي معه على وجه الاكراه له على التخويف والالجاء، أنه

جبر، والأصل فيه ما فعل من غير قدرة على امتناعه منه حسب ما قدمناه .

وإذا تحقق القول في الجبر على ما وصفناه كان مذهب الجبر هو قول من

يزعم أن الله تعالى خلق في العبد الطاعة من غير أن يكون للعبد قدرة على ضدها

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 296

والامتناع منها، وخلق فيهم المعصية كذلك فهم المجبرة حقا، والجبر مذهبهم على

التحقيق . والتفويض هو القول برفع الحظر عن الخلق في الافعال والإباحة لهم مع

ما شاؤوا من الاعمال، وهذا قول الزنادقة وأصحاب الإباحات .

والواسطة بين هذين القولين أن الله أقدر الخلق على أفعالهم ومكنهم من

أعمالهم، وحد لهم الحدود في ذلك، ورسم لهم الرسوم، ونهاهم عن القبائح بالزجر

والتخويف والوعد والوعيد، فلم يكن بتمكينهم من الاعمال مجبرا لهم عليها،

ولم يفوض إليهم الاعمال، لمنعهم من أكثرها، ووضع الحدود لهم فيها، وأمرهم

بحسنها ونهاهم عن قبيحها، فهذا هو الفصل بين الجبر والتفويض على ما

بيناه (1) . انتهى .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 297

وقال فخر الدين الرازي: هذه المسألة عجيبة، فإن الناس كانوا مختلفين فيها

أبدا بسبب أن ما يمكن الرجوع فيها إليها متعارضة متدافعة، فمعول الجبرية على

أنه لا بد لترجيح الفعل على الترك من مرجح ليس من العبد، ومعول القدرية على

أن العبد لو لم يكن قادرا على فعل لما حسن المدح والذم والأمر والنهي، وهما

مقدمتان بديهيتان .

ثم من الأدلة العقلية اعتماد الجبرية على أن تفاصيل أحوال الافعال غير

معلومة للعبد، واعتماد القدرية على أن أفعال العباد واقعة على وفق تصورهم

ودواعيهم، وهما متعارضان، ومن الالزامات الخطابية أن القدرة على إيجاد صفة

كمال لا يليق بالعبد الذي هو منبع النقصان، وأن أفعال العباد يكون سفها وعبثا،

فلا يليق بالمتعالي عن النقصان .

وأما الدلائل السمعية، فالقرآن مملو بما يوهم بالامرين، وكذا الآثار، فإن

أمة من الأمم لم تكن خالية من الفريقين، وكذا الأوضاع والحكايات متدافعة

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 298

من الجانبين، حتى قيل: إن وضع النرد على الجبر، ووضع الشطرنج على القدر،

إلا أن مذاهبنا أقوى، بسبب أن القدح في قولنا لا يترجح الممكن إلا بمرجح

يوجب انسداد باب إثبات الصانع .

ونحن نقول ما قاله بعض أئمة الدين: إنه لا جبر ولا تفويض، ولكن أمر بين

أمرين، وذلك أن مبنى المبادي القريبة لافعال العبد على قدرته واختياره،

والمبادي البعيدة على عجزه واضطراره، فالانسان مضطر في صورة مختار،

كالقلم في يد الكاتب، والوتد في شق الحائط، وفي كلام العقلاء قال الحائط

للوتد: لم تشقني ؟ فقال: سل من يدقني . هذا كلامه (1) .

وهذا منه إشارة إلى ما قاله المتأخرون منهم من أن للعبد كسبا في أفعاله، وهو

كاسبها، فرارا من الجبر الصريح، وحاصله: الفرق بين حركة يد المرتعش وحركة

يد الصحيح، فإن الأولى مما لا اختيار للعبد فيها، فخالقها وكاسبها وسببها البعيد

والقريب هو الله تعالى بخلاف الثانية، فإن تمدد العضلة وتشنجها وقع باختيار

العبد، إلا أن الذي أوجد الفعل عقيب تلك الحركة وخلقه هو الله تعالى شأنه .

وقد رد عليهم هذه المقالة المحقق الطوسي في كتبه الكلامية، وقال: إن هذا

عين الجبر، وكلامه جيد، سيما على ما مثل به الرازي هنا من القلم في يد

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 299

الكاتب والوتد في الحائط، وهو قد رام بيان معنى ما حكاه عن بعض أئمة الدين

من الامر بين أمرين، وهذا لا ينطبق عليه، لأن الظاهر أن مراده به الإمام أبو عبد

الله جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام، وتحقيق كلامه ما ستعرفه بعيد هذا .

وأما كون هذا الكسب هو عين الجبر، فهو أنه يقال لهم: هل يقدر العبد على

ترك الكسب ؟ فإن قالوا: نعم، فقد قالوا بالاختيار وحصل الوفاق، وإن قالوا: لا

يقدر على ترك الكسب، فقد ساووا المجبرة في تصريحهم بأن العباد مجبرون

مقهرون، وتحقيق المقام هكذا:

قال العلامة الحلي طاب ثراه: إعلم أن أبا الحسن الأشعري وأتباعه لما

لزمهم الأمور الشنيعة والالزامات الفضيحة من قولهم بالجبر، التجأوا إلى ارتكاب

قول توهموا الخلاص به، فقال مذهبا غريبا عجيبا لزمه بسببه إنكار العلوم

الضرورية، كما هو دأبه وعادته في إنكار الضروريات، فذهب إلى إثبات

الكسب للعبد، فقال: الله تعالى موجد للفعل والعبد مكتسب له .

فإذا طولب بتحقيق الكسب وما هو وأي وجه يقتضيه وأي حاجة تدعو إليه،

اضطرب هو وأصحابه في الجواب عنه، فقال بعضهم: معنى الكسب خلق الله

تعالى الفعل عقيب اختيار العبد الفعل، وعدم الفعل عقيب اختياره العدم، فمعنى

الكسب إجراء العادة بخلق الفعل عند اختيار العبد .

وقال بعضهم: معنى الكسب أن الله يخلق الفعل من غير أن يكون للعبد فيه أثر

البتة، لكن العبد يؤثر في وصف كون الفعل طاعة أو معصية، فأصل الفعل من الله

تعالى ووصف كونه طاعة أو معصية من العبد .

وقال بعضهم: إن هذا الكسب غير معقول ولا معلوم مع أنه صادر عن العبد، ثم

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 300

فصل الجواب عن هذا .

وقال بعضهم: هرب الأشعري من الجبر إلى الكسب كالهرب من المطر إلى

الميزاب، لأنه قول بالجبر وزيادة، أعني: إثبات معنى لا معنى له .

ويظهر من بعض الأخبار الواردة في هذا الباب وغيره أن المراد من التفويض

المنفي هو كون العبد مستقلا في الفعل بحيث لا يقدر سبحانه على صرفه عنه،

والامر بين الامرين هو أنه جعلهم مختارين في الفعل والترك مع قدرته على

صرفهم عما يختارونه .

وبعضهم فسر الامر بين الامرين: بأن الأسباب القريبة للفعل ترجع إلى قدرة

العبد، والأسباب البعيدة كالآلات والأسباب والأعضاء والجوارح، إلى قدرة الله

تعالى، فقد حصل الفعل بمجموع القدرتين .

وذهب آخرون إلى أن الامر بين الامرين هو كون بعض الأشياء باختيار

العبد، وهي الافعال التكليفية، وكون بعضها بغير اختياره، كالصحة والمرض والنوم

واليقظة والذكر والنسيان وأشباه ذلك .

وأورد على هذين القولين: أن التفويض بهما لم يقل به أحد حتى يتوجه الرد

عليه .

وتحقيق الصواب في هذا الباب ما أجاب به أبو الحسن علي بن محمد

العسكري عليه السلام في رسالته إلى أهل الأهواز حين سألوه عن الجبر والتفويض،

فقال بعد كلام منير: فأما الجبر، فهو قول من زعم أن الله عز وجل أجبر العباد

على المعاصي وعاقبهم عليها، ومن قال بهذا القول فقد ظلم الله وكذبه ورد عليه

قوله: ولا يظلم ربك أحدا (1) فمن قال: إنه مجبور على المعاصي، فقد

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 301

أحال بذنبه على الله عز وجل وظلمه في عقوبته، ومن ظلم ربه فقد كذب كتابه،

ومن كذب كتابه لزمه الكفر باجماع الأمة .

وأما التفويض الذي أبطله الصادق عليه السلام وخطأ من دان به، فهو قول القائل:

إن الله تعالى فوض إلى العباد اختيار أمره ونهيه وأهملهم، وفي هذا كلام دقيق لم

يذهب إلى غوره ودقته إلا الأئمة المهديين عليهم السلام من عترة آل الرسول صلوات

الله عليهم، فإنهم قالوا: لو فوض الله إليهم على جهة الاهمال لكان لازما له رضا ما

اختاروه، فاستوجبوا من الثواب ولم يكن عليهم فيما اجترموا العقاب، إذ كان

الاهمال واقعا .

وتنصرف هذه المقالة على معنيين: إما أن يكون العباد تظاهروا عليه، فألزموه

قبول اختيارهم بآرائهم ضرورة، كره ذلك أم أحبه، فقد لزمه الوهن، أو يكون

جل وتقدس عجز عن تعبدهم بالأمر والنهي عن إرادته، ففوض أمره ونهيه إليهم

وأجراهما على محبتهم، إذ عجز عن تعبدهم بالأمر والنهي على إرادته، فجعل

الاختيار إليهم في الكفر والايمان .

ثم قال عليه السلام بعد أن ضرب الأمثال النيرة: من زعم أن الله فوض قبول أمره

ونهيه إلى عباده فقد أثبت عليه العجز، وأوجب عليه قبول ما عملوا من خير أو شر،

وأبطل أمر الله تعالى ونهيه .

ثم قال: إن الله خلق الخلق بقدرته وملكهم استطاعة ما تعبدهم به من الأمر والنهي

، وقبل منهم اتباع أمره ورضي بذلك منهم، ونهاهم عن معصيته، وذم من

عصاه وعاقبه عليها، ولله الخيرة في الأمر والنهي يختار ما يريد ويأمر به، وينهى

عما يكره، ويثيب ويعاقب بالاستطاعة التي ملكها عباده لاتباع أمره واجتناب

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 302

معاصيه، لأنه العدل ومنه النصفة .

ثم قال بعد كلام واضح البرهان: فإن قالوا: ما الحجة في قول الله تعالى

يهدي من يشاء ويضل من يشاء وما أشبه ذلك ؟ قلنا: مجاز هذه الآية

تقتضي معنين: أحدهما: أنه إخبار عن كونه تعالى قادرا على هداية من يشاء

وضلالة من يشاء، ولو أجبرهم على أحدهما لم يجب لهم ثواب ولا عليهم

عقاب، والمعنى الآخر: أن الهداية منه التعريف، كقوله تعالى: وأما ثمود

فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى (1) إنتهى ملخصا .

والرسالة طويلة نقلها جماعة من أصحابنا في نوادر الاخبار، وحينئذ فالذي

تعطيه الاخبار هو أن معنى الجبر ما ذهبت إليه الأشاعرة من أنه سبحانه أجرى

الاعمال على أيدي العباد من غير قدرة لهم مؤثرة فيها ثم عذبهم عليها، وهذا هو

الظلم، والمعتزلة لما أرادوا تنزيه الله تعالى عن الظلم أوقعوه في العجز، فذهبوا إلى

أنه أوجد العباد، وأقدرهم على تلك الأفعال، وفوض إليهم الاختيار، فهم

يوجدونها على وفق مشيتهم وإرادتهم، وليس له سبحانه في أفعالهم مشية ولا

لطف ولا توفيق ولا صنع ولا إرادة، حتى لو أراد سبحانه خلاف ما أرادوه لما

أمكنه .

وأما الامر بين الامرين، فهو أنه تعالى له صنع في الافعال لكن لا تبلغ إلى

حد الجبر والالجاء، وهي التوفيقات والالطاف والهدايات الخاصة والأنوار

الجلية التي يوقعها في قلب من استحقها، فيهتدي بها في قطع ظلمات الجهالات .

وإن أردت المثل الكاشف، فهو أن السيد لو أمر عبده بشئ وعلمه وفهمه

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 303

جميع ما يتوقف عليه ذلك الامر، ووعده بالثواب على الفعل وتوعده بالعقاب على

الترك، فلو اكتفى من التكليف بذلك مع علمه بأن ذلك العبد لا يمتثل ما أمره به، لم

يكن السيد ملوما عند العقلاء لو عاقبه على تركه، ولا يقول عاقل: بأنه أجبره

على الفعل، ولو أضاف السيد إلى ذلك جملة من الألطاف من الوعد البليغ بضروب

الاحسان، والوعيد الغليظ بعقاب النيران، ثم فعل العبد ذلك الفعل بقدرته

واختياره، لم يكن السيد قد جبره بتلك الألطاف على ذلك الفعل .

وأما أنه سبحانه يخص بألطافه بعضا ويمنعها عن آخرين، فمستند إلى

قابلياتهم، والتفاوت بينهم في نياتهم، كما نطقت به الاخبار عن النبي صلى الله عليه وآله، وأهل

بيته الأطهار، واستقصاء الكلام في هذا الباب يحوج إلى تدوين كتاب كبير

الحجم، والله ولي التوفيق .

بقي الكلام في وصف الواسطة أنها أوسع مما بين السماء والأرض، قال

بعض الأفاضل: لما كان كلام السائل دالا على إنكار الواسطة بين الجبر

والتفويض، أجيب بأن ما بينهما احتمالات كثيرة، ولا حصر بينهما لا عقلا ولا

قطعا .

1) إما بالإرادة الحتمية كالحيلولة بالموت والأمراض ونحوها، وإما

بالهدايات والالطاف التي لا تصل إلى حد الالجاء، وفيه رد على القدرية المعتزلة

حيث ذهبوا إلى ما حكيناه عنهم من أنه تعالى لا يقدر على صرف العبد عن

إرادته، وذكر الائتمار هنا ثانيا: إما على سبيل المشاكلة، أو هو بمعنى اللهم، أو

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 304

الفعل من غير مشاورة، كما قاله صاحب النهاية (1) والقاموس (2) .

1) ظاهره أن الجبر هنا عبارة عن أنك ترى رجلا يباشر معصية من

المعاصي، فألجأته واضطررته إلى الاقلاع عنها، والتفويض هو أن لا تنهاه عن

تلك المعصية، والامر بين الامرين هو نهيك له من غير أن تضطره إلى الترك، ولا

يخفى أن هذا غير التفويض الذي يقول به القدرية، فإن الأوامر بالطاعات والنواهي

عن المعاصي لم يقل أحد بإنكارها .

والتفويض الذي قالوا به هو أنه بعد صدور الأمر والنهي لا مدخل له تعالى في

فعل الافعال وتركها من الاذن والتوفيق واللطف والقدرة على المنع والحيلولة

بين العبد وإرادته .

وحينئذ فيحمل هذا الحديث وأمثاله: إما على الرد على أهل الإباحات

الذين نفوا التكاليف الشرعية، وهم أشد كفرا من جميع المفوضة، لأن أخبار

التفويض موزعة على الرد على كل من قال بمذهب منه . وإما على التمثيل

والتنظير، كما هو المستفاد منه، ويكون الغرض منه مزيد البيان والايضاح،

فيندرج في قوله (فنهيته) ما يتبع النهي من الإرادات وتهيئة أسباب الترك

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 305

والالطاف والموانع التي لا تكون معها العبد مسلوب الاختيار، أو يكون الاقتصار

هنا على ذكر النهي إشارة إلى أنه الواجب لا غير، وأما التوابع المذكورة، فهي من

باب التفضل والاحسان .

1) أي: ولا تحمل نفس حامل حمل أخرى وثقل أخرى، أي: ثقل ذنوب

غيرها ولا يعاقب أحد بذنوب غيره كما روي عن النبي صلى الله عليه وآله قال: لا تجن يمينك

على شمالك، وهذا مثل ضربه عليه السلام .

قال شيخنا الطبرسي رحمه الله، وفي هذا دلالة واضحة على بطلان قول من يقول:

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 306

إن أطفال الكفار يعذبون مع آبائهم في النار (1) .

أقول: والمعنى هنا: أن فاعل الذنوب والذي اضطر العبد إلى فعلها، إذا كان هو

الله تعالى، فكيف يحمل عقابها على العبد مع أنه لا فعل له .

1) قيل: المعنى: إن جبرهم على المعاصي ثم تعذيبهم عليها هو الظلم، وهو

فعل العاجزين، كما قال سيد الساجدين عليه السلام: وإنما يحتاج إلى الظلم الضعيف،

والله سبحانه أقهر من ذلك، أو المعنى: أنه تعالى لو أراد تعذيبهم ولم يمنعه عدله من

ذلك، ما احتاج إلى أن يكلفهم ثم يجبرهم على المعاصي ثم يعذبهم عليها، فإن هذا

تلبيس يفعله من لا يقدر على التعذيب ابتداء، وهو أقهر لهم من ذلك .

وقيل: إنه تصحيف أرأف أو نحوه .

أقول: لعل الأظهر في معناه: أن الجبر إنما يطلق في اللغة والعرف على من

يطيق شيئا من ضروب الممانعة حتى يحتاج إلى الجبر، أما العبد الفاني المعدوم

بصورة الموجود الذي لا يملك لنفسه موتا ولا حياة ولا نشورا، فأنى له والممانعة

والحيلولة عما يراد به ومنه، وحينئذ فعظمته سبحانه وجبروته أقهر وأشد عظمة

من أن يطلق عليه جبر العباد .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 307

1) لأنه عليه السلام كان عالما أن عقل الرجل لا يصل إلى إدراك أمر بين أمرين،

فيدخل عليه الشك الموجب للكفر .

2) وهم ثمانية عشر فرقة، منها: النصيرية والإسحاقية، قالوا: حل الله في

علي عليه السلام، فإن ظهور الروحاني في الجسد الجسماني مما لا ينكر، إما في جانب

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 308

الخير، فكظهور جبرئيل عليه السلام بصورة البشر، وإما في جانب الشر، فكظهور

الشيطان في صورة الانسان، قالوا: ولما كان علي وأولاده أفضل من غيرهم

وكانوا مؤيدين بتأييدات متعلقة بباطن الاسرار، قلنا: ظهر الحق تعالى بصورتهم

ونطق بلسانهم وأخذ بأيديهم، ومن هنا أطلقنا الآلهة على الأئمة . ألا ترى أن

النبي صلى الله عليه وآله قاتل المشركين وعليا قاتل المنافقين، فإن النبي يحكم بالظاهر والله

يتولى السرائر .

ومنها: السبائية، قال عبد الله بن سبأ لعلي عليه السلام: أنت الاله حقا، فنفاه علي عليه السلام

إلى المدائن ولما كان يهوديا قبل الاسلام كان يقول في يوشع بن نون وفي

موسى مثل ما قال في علي عليه السلام، ومنه تشعبت الغلاة، وقال: إن عليا عليه السلام لم يمت

ولم يقتل، وإنما قتل ابن ملجم شيطانا تصور بصورة علي، وعلي عليه السلام في

السحاب، والرعد صوته، والبرق سوطه، وإنه ينزل بعد هذا إلى الأرض ويملأها

عدلا، وهؤلاء يقولون عند سماء الرعد: عليك السلام يا أمير المؤمنين .

ومنها: الكاملية، قال أبو كامل بكفر الصحابة بترك بيعة علي، وقال بالتناسخ

في الأرواح عند الموت، وأن الإمامة نور تتناسخ، أي: تنتقل من شخص إلى

آخر، وقد يصير في شخص نبوة بعد ما كان في شخص آخر إمامة .

ومنها: البيانية، قال بيان بن سمعان التميمي اليمني: إنه على صورة إنسان

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 309

ويهلك إلا وجهه، وروح الله حلت في علي، ثم في ابنه محمد بن الحنفية، ثم في

ابنه أبي هاشم، ثم في بيان .

ومنها: المغيرية، قال مغيرة بن سعيد: الله على صورة رجل من نور على رأسه

تاج وقلبه منبع الحكمة، قالوا: المراد بالأمانة في قوله تعالى: إنا عرضنا

الأمانة (1) هي خلافة علي عليه السلام، والانسان هو أبو بكر، حملها بأمر عمر حين

ضمن أن يعينه على ذلك بشرط أن يجعل أبو بكر الخلافة بعده له، وقوله تعالى:

كمثل الشيطان (2) الآية نزلت في حق أبي بكر وعمر، وهؤلاء يقولون الإمام المنتظر

هو زكريا بن محمد بن علي بن الحسين بن علي، وهو حي مقيم في جبل

حاجز إلى أن يقوم بالخروج .

ومنها: الجناحية، قال عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر ذي الجناحين:

الأرواح تتناسخ، وكان روح الله في آدم، ثم في شيث، ثم في الأنبياء والأئمة حتى

انتهت إلى علي وأولاده الثلاثة، ثم إلى عبد الله هذا، وقالوا: عبد الله هذا حي مقيم

في جبل بإصفهان وسيخرج، وأنكروا القيامة واستحلوا المحرمات .

ومنها: المنصورية، هو أبو منصور العجلي، عزى نفسه إلى الباقر عليه السلام، فتبرأ

منه وطرده وادعى الإمامة لنفسه، قالوا: الإمامة لمحمد بن علي بن الحسين، ثم

انتقلت عنه إلى أبي منصور، وزعموا أن أبا منصور عرج إلى السماء ومسح الله

رأسه بيده، وقال: يا بني اذهب فبلغ عني، ثم انزل إلى الأرض، قالوا: إن الجنة

رجل أمرنا بموالاته وهو الامام، والنار ضد الامام، وهو رجل أمرنا ببغضه وهو أبو

بكر وعمر، وكذا الفرائض والمحرمات، فإن الفرائض أسماء رجال أمرنا

بموالاتهم، والمحرمات أسماء رجال أمرنا بمعاداتهم، ومقصودهم بذلك أن من

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 310

ظفر برجل منهم فقد ارتفع عنه التكليف والخطاب، لوصوله إلى الجنة .

ومنها: الخطابية، هو أبو الخطاب الأسدي، عزى نفسه إلى الصادق عليه السلام، فلما علم

منه غلوه في حقه تبرأ منه، فلما اعتزل عنه ادعى الامر لنفسه، قالوا: الأئمة أنبياء

وأبو الخطاب نبي، وزعموا أن الأنبياء فوضوا على الناس طاعة أبي الخطاب، بل

زادوا على ذلك وقالوا: الأئمة آلهة والحسنان أبناء الله، وجعفر الصادق إله، لكن

أبو الخطاب أفضل منه ومن علي، وهؤلاء يستحلون شهادة الزور لموافقيهم على

مخالفيهم، وزعموا أن الامام بعد قتل أبي الخطاب هو معمر، فعبدوا معمرا بعد ما

كانوا يعبدون أبا الخطاب، وقالوا: الجنة نعيم الدنيا، والنار آلامها، والدنيا لا تفنى،

واستباحوا المحرمات، وتركوا الفرائض، وقال جماعة منهم: إن كل مؤمن يوحى

إليه، لقوله تعالى: وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله (1) أي: بوحي من الله

إليه وأنهم لا يموتون أبدا، بل إذا بلغوا النهاية يرفعون إلى الملكوت .

ومنها: الغرابية، قالوا: محمد بعلي أشبه من الغراب بالغراب والذباب بالذباب،

فبعث الله جبرئيل عليه السلام إلى علي عليه السلام، فغلط جبرئيل في تبليغ الرسالة من علي إلى

محمد، ويلعنون صاحب الريش جبرئيل عليه السلام .

ومنها: الذمية، لقبوا به، لأنهم ذموا محمدا، لان عليا هو الاله وقد بعثه ليدعوا

الناس إليه فدعى إلى نفسه، وقال طائفة منهم بإلهية محمد وعلي، ولهم في التقديم

خلاف، فبعضهم يقدم عليا في أحكام الإلهية، وبعضهم يقدم محمدا، وقال

طائفة منهم بإلهية أهل العباء الخمسة، وهؤلاء زعموا أن هذه الخمسة شئ واحد،

وأن الروح حالة فيهم بالسوية لا مزية لواحد منهم على آخر، ولا يقولون فاطمة

تحاشيا عن وصمة التأنيث .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 311

ومنها: الرزامية، قالوا: الإمامة بعد علي لمحمد بن الحنفية، ثم ابنه عبد الله، ثم

علي بن عبد الله بن عباس، ثم أولاده أبي منصور، ثم حل الاله في أبي مسلم،

واستحلوا المحارم وتركوا الفرائض .

ومنها: المفوضة، قالوا: إن الله تعالى فوض خلق الدنيا إلى محمد . يعني: إنه

خلقه، وفوض خلق الخلائق إليه . وقيل: فوض خلق ذلك إلى علي .

ومنها: البدائية، جوزوا البداء على الله تعالى، وهو أن يريد الله شيئا ثم يبدو له،

أي: يظهر عليه ما لم يكن ظاهرا له، ويلزم على هذا أن لا يكون سبحانه عالما

بعواقب الأمور .

ومنها: الباطنية، لقبوا به، لأنهم يعملون ببواطن القرآن دون ظاهره، وهؤلاء

هم الإسماعيلية، لقولهم بإمامة إسماعيل بن الصادق عليه السلام، وأما الذي نسبه

الرازي ونحوه من النواصب إلينا من القول بالبداء بالمعنى المتقدم، فنحن لا نقول

به، لكنه من مذاهب الغلاة، ولم يميز بين الفرق كما تقدم .

باب القضاء والقدر والفتنة والأرزاق والأسعار والآجال

1) خلقان بفتح الخاء، أي: نوعان من مقدورات الله سبحانه، ومرتبتان من

مراتب علمه المكتوب في الألواح، مقدمان على التكوين والايجاد العيني، وله

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 312

البداء فيهما قبل الايجاد والإرادة الحتمية، وذلك قوله: يزيد في الخلق ما

يشاء (1) .

وقيل: معناه إنهما مرتبتان من مراتب خلق الأشياء، فإنها تتدرج في الخلق

إلى أن تظهر في الوجود العيني . وبعض المحدثين قرأ خلقان بضم الخاء، أي: أنهما

صفات من صفات الله تعالى، وفيه بعد وإن كان محتملا .

1) أي: عما كلفهم به .

2) قال الأستاذ أبقاه الله تعالى: هذا الخبر يدل على أن القضاء والقدر إنما

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 313

يكون في غير الأمور التكليفية، كالمصائب والأمراض، فلعل المراد بهما القضاء

والقدر الحتميان (1) .

1) لما كان الكشف عن حقيقة القدر مما لا يدرك لعقول الناس، وربما استلزم

الاطلاع عليه الكفر والميل إلى ما تقوله الأشاعرة، لعدم تمييز الانسان بين الجبر

والامر بين الامرين، لم ير عليه السلام المصلحة للسائل في بيان معناه، بل عبر بما يبعد

السائل عن السؤال عنه، ولما كان ذلك الرجل من الجبرية بالغ وكرر السؤال،

فبين له عليه السلام بسؤال تقديم الرحمة، بطلان ما يزعمه من الجبر، وذلك لان صاحب

الرحمة القديمة التي لم تسبق بعمل ولا استحقاق، لا يليق بقديم رحمته أن يجبر

عباده على المعاصي ثم يعذبهم عليها، ولما ظهر له عليه السلام رجوع الرجل عن ذلك

الرأي الفاسد، قال: قوموا فسلموا على أخيكم، فقد رجع عن، كفره إلى الاسلام .

2) لما رجع عن اعتقاد الجبرية في الافعال سأل عن العلم القديم له عز شأنه،

وأنه هل هو علة لافعال العباد أم لا ؟ فقال عليه السلام (وإنك لبعد في المشيئة) يعني: لما

عرفت بطلان القول بالجبر، ينبغي لك أن تعلم عدم كون العلم علة مؤثرة في خلق

الافعال، لان القول به يستلزم القول بالجبر .

3) لعل المراد كون هذه المسائل ضيقة الطريق، لتردد الجواب عنها بين

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 314

طريقين ضيقين لا ثالث لهما، فيلزمك الاعتراف بالحق لضيق مجال المباحثة،

وليس المراد: أن ذلك الرجل لا يوفق لرد الجواب على سبيل الحق، لأنه ظهر

خلافه .

1) قال بعض المحققين: لعل المراد بالمشيئة، المستقلة التي لا تحتاج معها إلى

عون الله وتوفيقه .

2) لعله لف ونشر مرتب، فالقدر هو الروح، والعمل هو الجسد، وذلك أن

تقديره سبحانه لما يجري على العبد حال في أفعال العبد كحلول الروح في

الجسد، وذلك أن تلك الأفعال منه أسباب لأنواع التقديرات المختلفة، كما قال

سبحانه ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم (1) .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 315

1) وذلك أن التقديرات الواقعة في أفعاله سبحانه بغير عمل تكون تلك

التقديرات مسببة عنه، فلو كانت التقديرات الواقعة على أحوال العباد كذلك، لم

يكن فرق بين الخالق والمخلوق، ولو لم يكن العمل بموافقة من القدر لم يحصل له

بروز إلى الخارج، أو أنه لما كان العبد مستقلا بأعماله من غير تقدير منه

سبحانه لم يكن فرق بين الخالق والمخلوق في الاستقلال .

2) في هذا رد على الأشاعرة، كما أن في الأول رد على المعتزلة الذين أنكروا

القضاء في أعمال العباد، وقالوا: إنها تصدر منهم بلا قضاء من الله سبحانه فيها ولا

قدر، وأما بيان هذا، فهو أن الأشاعرة حيث ذهبوا إلى الجبر صارت أفعالهم

القبيحة عدلا، حيث أنهم مجبورون عليها . فصدورها عنهم مسببا عن العلم القديم

وهو العلة فيها، فلا يكون منهم ظلم في مباشرتها، وهذا يستلزم أن يكون النهي

قبيحا عنها، كما لا يخفى وجهه .

3) يعني: من جملة تقديراته سبحانه في أفعال العباد فتح عيني القلب ليعلموا

ما ينفعهم في الآخرة .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 316

1) أي: يلعب .

2) مأخوذ من الرجز من بحور الشعر معروف، ونوع من أنواع الشعر يكون

كل مصراع منه منفردا، وتسمى قصائده أراجيز، واحدها أرجوزة، منها: ألفية

ابن مالك في علم النحو، سمى به فرسه صلى الله عليه وآله لحسن صهيله، فكأنه يرتجز فيه .

3) في النهاية الأثيرية: سمى به لأنه كان فيه حفر صغار حسان مثل حززات

الظهر، والمفقر من السيوف الذي فيه حزوز مطمئنة (1) . وفي الحديث سمي هذا

السيف بذي الفقار، لأنه ما ضرب به رجلا إلا أفقره .

4) في نهاية الجزري: في حديث علي عليه السلام: أمرت بقتال الناكثين والقاسطين

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 317

والمارقين، الناكثين أهل الجمل، لأنهم نكثوا بيعتهم، والقاسطين أهل صفين، لأنهم

جاروا في حكمهم وبغوا عليه، والمارقين: الخوارج، لأنهم مرقوا من الدين كما

يمرق السهم من الرمية (1) .

1) قدح جماعة من النواصب من أجل هذا فيما وقع الاجماع عليه من أنه

عليه السلام أشجع الناس، كما علم من مواقع حروبه، وقالوا: إن المخبر الصادق المصدق

أخبره بأنه لا يقتل في الحروب، وإنه سيقتل في صلاته، بل عين له الوقت بأنه

شهر رمضان، فيكون حينئذ قدم على نار الحرب واثقا بالحياة، فلا فضل له على

غيره في الشجاعة والاقدام على الحرب .

والجواب أما أولا: فبأنه معارض بما تفردتم بروايته من أنه صلى الله عليه وآله أخبر أبو

بكر وعمر بخلافتهما بعده، وأنهما يليان الأمة بعده، فإذا تحقق عندكم وعندهما

مثل هذا، دل على بقاءهما بعده وتضمن أخبارهما بالبقاء والحياة، فما كان المانع

لهما عن مباشرة الحروب وأعمال الشجاعة وقوة الجنان، ولم فرا عامة الحروب

خصوصا حرب أحد وواقعة خيبر .

وأما ثانيا: فبأنه ورد في واضحات الاخبار أنه صلى الله عليه وآله إنما أخبره بالشهادة

مجملا من أول أمره إلى انقضاء وقعة أحد التي ما باشر نار حربها سواه عليه السلام، كما

شهد به كتب الفريقين، ولما هزم الكتائب وأتى النبي صلى الله عليه وآله وهو على الأرض

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 318

والدم يجري من رأسه، قال له: يا رسول الله إنك أخبرتني بالشهادة وهذا كان

يومها لعدم الناصر والمعين، وكنت أرجوها هذا اليوم، فلم أرزقها، فقال له صلى الله عليه وآله: لا

تلاقي الشهادة إلا بعد قتال الناكثين والقاسطين والمارقين بعدي، فإذا كان ذلك

الوقت انبعث أشقى الأولين والآخرين، فضربك على رأسك، فكيف صبرك يا

علي ؟ فقال: يا رسول الله، ذلك مقام الشكر لا مقام الصبر .

وحينئذ فمباشرته لما تقدم من تلك الحروب لم يكن على ثبات قدم من

الحياة، ويؤيده قوله عليه السلام: إذا احمر البأس وأحجم الناس قدم أهل بيته فوقى

بهم أصحابه عن حر السيوف والأسنة، فقتل عبيدة بن الحارث يوم بدر وحمزة

يوم أحد وجعفر يوم موته، وأراد من لو شئت ذكرت اسمه مثل الذي أرادوا من

الشهادة، ولكن آجالهم عجلت ومنيته أخرت .

فهذا يدل على أنه عليه السلام لم يكن إلى ذلك الوقت عالما بوقت شهادته . وأما

بعده، فهو صلى الله عليه وآله إنما أخبره بوقت الشهادة ولم يخبره بأنه لا يجرح ولا يصاب

بالأسنة والسيوف، كما هو المنقول من أحواله عليه السلام بأنه كان إذا خرج من واقعة

الحرب تكون نصال السهام مثبتة في بدنه لا يستخرجونها منه إلا إذا قام في

الصلاة .

ويمكن الجواب أيضا بأن يقال: إن المراد من الجهاد والمطلوب منه إنما هو

الفوز بما وعد الله عليه من الاجر، ولا شك في أن الآيات والاخبار النبوية

الواردة في الجهاد وفي الثواب عليه مطلقة لا تتقيد بجهل المجاهد بقتله ولا بعدمه،

فإذا كان عليه السلام قد بذل جهده في الجهاد واستفرغ الوسع وأتعب البدن فيه وقاسى

مشاق الأهوال، ترتب عليه ذلك الأجر والثواب، وإن كان عالما بأنه لا يقتل، إذ

لا أثر لهذا في بطلان الثواب، وأما طلب الشهرة في الدنيا، فما كان يخطر بخاطره

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 319

المبارك، كما يرشد إليه تأنيه في الاجهاز على ابن عبد ود لما شتمه، فصبر حتى

ذهب غيظه، فاتى برأسه .

على أنه يمكن أن يقال بل هو الواقع: إن من حصل ملكة الشجاعة من

ممارسة الحروب وخوض بحار نيرانها، كان واثقا فيما بعد من نفسه بالظفر

والغلبة ظانا بل قاطعا بهما على غيره، وإن لم يخبره صادق، وهذا حال أغلب

الشجعان، ومع ذلك فالفخر في الدنيا بين الناس حاصل لهم، يمدحونهم على ما

فعلوا ويثنون عليهم في المحافل من غير نكير، وبالجملة فذلك الاعتراض إنما نشأ

من العصبية والعناد .

1) أي: وإن علمه، أو وإن قدره في الألواح موافقا لما تعملونه بإرادة

منكم .

2) أي: كتب مقاديرها وحد حدودها في لوح المحفوظ، إلا أن له فيه البداء

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 320

بالزيادة والنقصان والمحو والاثبات .

1) لعل معناه أن الفرار أيضا من جملة تقديراته سبحانه، فالفرار من البلايا

والسعي في تحصيل ما يجب فيه السعي لا ينافي كون الأشياء بقضاء الله، فإن كل

ذلك داخل في علمه وقضائه، وكل ذلك لا ينافي الاختيار، وجوز بعضهم أن

يكون المراد بقضاء الله هنا حكمه وأمره، يعني: أن فراري من القضاء بأمر الله

تعالى .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 321

1) المراد من الفضائل هنا: السنن والمستحبات، والمعنى أنه تعالى لم يأمر

بها على سبيل الالزام .

2) فيه دلالة على أن الأصل في العمل والشائع منه ما كان على سبيل

الرياء، ولهذا كان مستثنى منه، وكذلك البواقي .

3) فيه تعريض بالقدرية المعتزلة .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 323

1) حاصله: أن الرزق هو الحلال، وهو مما لا خلاف فيه عندنا، والدلائل

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 324

عليه بعد الاجماع الآيات الناصة على مدح من أنفق مما رزقه الله، والحرام لا

يمدح منفقه بل هو مذموم على لسان الشرع والعرف .

وما رواه صاحب الكافي مسندا إلى أبي جعفر عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله

في حجة الوداع: ألا إن الروح الأمين نفث في روعي أنه لا تموت نفس حتى

تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء شئ من

الرزق أن تطلبوه بشئ من معصية الله، فإن الله تعالى قسم الأرزاق بين خلقه

حلالا ولم يقسمها حراما، فمن اتقى الله وصبره، أتاه الله رزقه من حله، ومن هتك

حجاب ستر الله عز وجل وأخذه من غير حله قص به من رزقه الحلال وحوسب

عليه (1)

قال شيخنا البهائي نور الله مرقده في شرح هذا الحديث: الرزق عند

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 325

الأشاعرة كلما انتفع به حي، سواء كان بالتغذي أو بغيره، مباحا كان أولا، وخصه

بعضهم بما تربى به الحيوان من الأغذية والأشربة، وعند المعتزلة هو كلما صح

انتفاع الحيوان به بالتغذي أو غيره، وليس لاحد منعه منه، فليس الحرام رزقا

عندهم، وقال الأشاعرة في الرد عليهم: لو لم يكن الحرام رزقا لم يكن المتغذي

طول عمره بالحرام مرزوقا، وليس كذلك، لقوله تعالى: وما من دابة في الأرض

إلا على الله رزقها (1) .

وفيه نظر، فإن الرزق عند المعتزلة أعم من الغذاء، وهم لا يشترطوا الانتفاع

بالفعل، والمتغذي طول عمره بالحرام، إنما يرد عليهم لو لم ينتفع مدة عمره بشئ

انتفاعا محللا ولو بشرب الماء والتنفس في الهواء، بل ولا تمكن من الانتفاع

بذلك أصلا، وظاهر أن هذا مما لا يوجد، وأيضا فلهم أن يقولوا: لو مات حيوان

قبل أن يتناول شيئا محللا ولا محرما يلزمه أن يكون غير مرزوق، فما هو

جوابكم فهو جوابنا .

هذا، ولا يخفى أن الأحاديث المنقولة في هذا الباب متخالفة، والمعتزلة

تمسكوا بهذا الحديث وهو صريح في مدعاهم غير قابل للتأويل، والأشاعرة

تمسكوا بما رووه عن صفوان بن أمية، قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وآله، إذ جاء عمر

ابن قرة، فقال: يا رسول الله إن الله كتب علي الشقوة، فلا أراني أرزق إلا من دفي

بكفي، فأذن لي في الغناء من غير فاحشة، فقال صلى الله عليه وآله: لا إذن لك ولا كرامة ولا

نعمة، أي عدو الله لقد رزقك الله طيبا فاخترت ما حرم عليك من رزقه مكان ما

أحل الله لك من حلاله، أما إنك لو قلت بعد هذه المقالة، ضربتك ضربا وجيعا .

والمعتزلة يطعنون في سند الحديث تارة، ويأولونه على تقدير سلامته أخرى

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 326

بأن سياق الكلام يقتضي أن يقال: فاخترت ما حرم الله عليك من حرامه مكان

ما أحل الله لك من حرامه، وإنما قال صلى الله عليه وآله: من رزقه، مكان من حر أمه، فأطلق

على الحرام اسم الرزق لمشاكلة قوله فلا أراني أرزق، وقوله صلى الله عليه وآله: لقد رزقك

الله (1) . انتهى .

وقال بعض أرباب الحديث: إن كان مراد الأشاعرة بقولهم (إن الله رزقهم

الحرام) بمعنى أنه خلقه ومكنهم من التصرف فيه، فلا نزاع في أن الله سبحانه

رزقهم بهذا المعنى، وإن كان المعنى أنه المؤثر في أفعالهم وتصرفاتهم في

الحرام، فهذا إنما يستقيم على أصلهم الذي ثبت بطلانه، وإن كان الرزق بمعنى

التمكين وعدم المنع من التصرف فيه بوجه، فظاهر أن الحرام ليس برزق بهذا

المعنى عند عامة أهل المذاهب، وإن كان المعنى أنه قدر تصرفهم فيه بأحد المعاني

التي مضت في القضا والقدر، أو خذلهم ولم يصرفهم جبرا عن ذلك، فبهذا المعنى

يصدق أنه رزقهم الحرام .

أقول: لما ذهب الأشاعرة إلى أصلهم الفاسد من نفى الحسن والقبح العقليين

ساغ لهم مثل هذه الأقاويل الفاسدة والخرافات الباردة مما يتفرع عليه، وسيعلم

الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون .

1) وهي فتنة عبد الله بن الزبير لما كان واليا في الحجاز، وأخوه مصعب كان

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 327

عاملا من قبله على العراق، فجاءه الخليفة عبد الملك بن مروان بعساكر الشام

وقام الحرب بينهم بالكوفة، فقتلهم عبد الملك، وأنفذ الحجاج إلى الحجاز لقتال

عبد الله بن الزبير، فتحصن منه بعد حرب شديد في الكعبة، فنصب عليها المنجنيق

وهدمها على رأسه، وقد حصل لأهل مكة ونواحيها أشد الاضطراب من تلك

الفتنة، لما كانوا يعلمونه من ظلم الحجاج واجترائه على سفك الدماء، فإنه

قد نقل أنه قتل مائة ألف رجل وعشرين ألف رجل بعد التنكيل بهم، وقتل

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 328

ثلاثمائة ألف رجل من غير تنكيل .

وهذا هو غلام ثقيف الذي أخبر عنه أمير المؤمنين عليه السلام ودعا به على أهل

العراق لما لم يطيعوه في استنهاضه لهم على أهل الشام، فقال: اللهم سلط عليهم

غلام ثقيف، وقال في موطن آخر: اللهم إن هؤلاء سئمتهم وسئموني، ومللتهم

وملوني، اللهم أبدلني بمن هو خير منهم وأبدلهم بمن هو شر مني، فأبدلهم الله

تعالى عوضه بالحجاج، وأبدله عليه السلام بالقدوم على ابن عمه رسول الله صلى الله عليه وآله .

1) لعل هذا بظاهره ينافي ما ورد من الامر بحمد من أجرى الله لك أحدا

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 329

لنعمه على يديه، وإن من لم يحمده كمن لم يحمد الله، ويمكن دفع المنافاة بوجوه:

منها: أن المراد ما آتاه الله من غير توسط أحد من خلقه، كالوجود والحياة

وسائر أصول النعم، وفي قوله: (على ما آتاك الله) إشارة إليه .

ومنها: أن المراد حمده على أنه المؤثر الحقيقي في تلك النعمة وإيصالها إليه،

ولم يلاحظ أن الذي جعله خازنا النعمة من مال ونحوه هو الله تعالى، وهو الذي

عرفه حاله وجعل الرقة في قلبه عليه، فيكون حال ذلك المعطي كحال القلم في

يد الكاتب والقدوم في يد النجار، فالذي يستحق المدح والثناء حقيقة إنما هو

الكاتب النجار، والقدوم والقلم بالتبع والعرض .

1) الشك هنا مقابل اليقين، والمراد منه الشك في أن ما آتاه الله يمكن تحصيله

من غيره، أو أن الكد الأكيد مما يزيد في الرزق وينقصه ونحو ذلك، والسخط

مقابل الرضا، وهو عدم الرضا بالقضاء .

2) لان الجاهل فاقد ما يوصل إلى المنافع ويكون دليلا على معرفتها

واختيارها واقتنائها، بل جهله يوصله إلى المضار والمناقص، ويوجب اختيارها،

وجاءت الرواية أنه صلى الله عليه وآله سأل أصحابه عن معنى الفقير، فقالوا: من ليس له درهم

ولا دينار، فقال: لا، ولكن الفقير من يأتي في عرصات القيامة ضاربا لهذا

وشاتما لذاك وغاصبا من هذا، فإن كان له طاعات، اخذ من طاعاته ودفعت إلى

أرباب الحقوق، وإن لم يكن له شئ من الطاعات أعطي من أثقالهم، كما قال

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

نور البراهين - السيد نعمة الله الجزائري - ج 2 - شرح ص 330

سبحانه: وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم (1) .

1) أي: أنفع، لان المال كالآلة لمن يريد الخير والمنافع في الوصول إليهما،

والعقل هو الدليل الموصل إلى المنافع والمصالح، وبه معرفتها واختيارها

واقتنائها .

2) أي: عجب المرء بنفسه وبأعماله، فإنه إذا عجب بأعماله أفسدها،

فانقطعت عنه حينئذ مواد الإفاضة من الله سبحانه، وإذا عجب بنفسه حقر خلق

الله فاجتنبهم واجتنبوه .

3) المظاهرة: المغالبة والمعاونة، والمراد هنا المعاونة على عظائم الأمور،

ومن ثم قال عز شأنه لرسول الله صلى الله عليه وآله تعليما للأمة وتعظيما وتكريما للصحابة:

وشاورهم في الامر (2) وفي الحديث: ما خاب من استشار (3)، وفي

الرواية: إنها ضرب من الاستخارات وإن الله سيوقع خيرة الرجل في قلب من

استشاره (4) .

4) العقل في اصطلاح الشرع ما عبد به الرحمن واكتسب به الجنان،

والتدبير النظر في عواقب الأمور، ويطلق في الاخبار على تدبير أمر المعاش

والاقتصاد فيه، والمراد: أن تدبير المعاش والاقتصاد فيه مما لا يحصل منه عمارة

الدارين، فهو العقل الكامل كما لا يخفى .

5) أي: ما حرمه الله تعالى، لأنه الذي يخرج به الانسان من الفسق إلى العدالة،

ومن تورع عن المكروهات وتعاطى المحرمات كما هو الشائع بين كثير من

الناس، فلا ورع له على الحقيقة .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 331

1) الحسب الشرف الذي يكون من جهة الانتساب بالاباء الجسمانيين،

والأدب هو الشرف الذي يكتسب من جهة الاباء الروحانيين، أعني: الأساتيذ

العظام والمشايخ الكرام .

2) لما سبق من أن الفكر عبادة القلب، والصلاة ونحوها عبادات الأبدان،

ومن ثم قال أمير المؤمنين عليه السلام: تفكر ساعة خير من عبادة ستين سنة، والتفكر

أن تمر على الدار الخربة، فتقول: يا دار أين بانوك ؟ أين ساكنوك ؟ مالك لا

تتكلمين (1) .

3) لان الكاذب لا يصدق، فلا يعتبر حديثه، فلا يتحدث بين الناس .

4) أي: الترك، من باب نسوا الله فنسيهم (2) والمعنى: أن عمارة العلم

منوط بالمذاكرة والمطالعة . والتفحص عن مسائله، وإرادة كثرة النسيان وغلبته

على الحفظ ممكنة أيضا .

5) لان ذلك الفتور الغالب أن يكون السبب فيه ملال النفس وضعف القلب عن

التوجه إليها والقيام بها، ومن ثم ورد الامر بالاقتصاد في العبادات والطاعات، فإن

المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى، والمراد منه: المجد في السير، ومن فتر عن

طاعة من الطاعات قلما رزق العود إليها .

6) الظرف الكياسة، ومعرفة عواقب الأمور . والصلف كما في القاموس:

التمدح بما ليس فيك، أو مجاوزة قدر الظرف والادعاء فوق ذلك (3) .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 332

1) وهو من الظلم ما تجاوز الحد، وقد ورد في الخبر: لو بغى جبل على جبل

لهد الله الباغي (1) . ومن البغي أن تدعوه إلى البراز .

2) كما قال تعالى: ولا تمنن تستكثر (2)، وذلك أن ثواب الصدقة

يمحقه المن .

3) أي: التكبر على الخلق واحتقارهم، لأنه يجعل صاحبه كريه المنظر في

نظر الناس .

4) لأنه يذهب بذلك الشرف .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 333

1) قد سبق أنه سبحانه قدر المقادير قبل خلق السماوات والأرض بخمسين

ألف عام، ولا تنافي بين الخبرين، لان بعض العالم سابق على خلق السماوات

والأرض، كما ورد في قوله عز شأنه: وكان عرشه على الماء (1) .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 334

1) تحقيق الكلام في هذا المقام يتم ببيان أمرين:

الأول: نقل ما ورد فيه من الخلاف بين المسلمين .

قال المحقق الطوسي عطر الله مرقده في التجريد: أجل الحيوان الوقت الذي

علم الله بطلان حياته فيه، والمقتول يجوز فيه الأمران لولاه، ويجوز أن يكون

الأجل لطفا للغير لا للمكلف .

قال العلامة قدس الله ضريحه في شرحه: اختلف الناس في المقتول لو لم

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 335

يقتل، فقالت المجبرة: إنه كان يموت قطعا، وهو قول أبي الهذيل العلاف، وقال

بعض البغداديين: إنه كان يعيش قطعا، وقال أكثر المحققين: إنه كان يجوز أن

يعيش ويجوز أن يموت، ثم اختلفوا فقال قوم منهم: إن كان المعلوم منه البقاء لو لم

يقتل، له أجلان، وقال الجبائيان وأصحابهما وأبو الحسين البصري: إن أجله هو

الوقت الذي قتل فيه، وليس له أجل آخر لو لم يقتل، فما كان يعيش إليه بأجل له

الآن حقيقي، بل تقديري .

واحتج الموجبون لموته بأنه لولاه لزم خلاف معلوم الله تعالى، وهو محال .

واحتج الموجبون لحياته بأنه لو مات لكان الذابح غنم غيره محسنا ولما

وجب القود، لأنه لم يفوت حياته .

والجواب عن الأول: ما تقدم من أن العلم لا يؤثر في المعلوم . وعن الثاني:

بمنع الملازمة، إذ لو ماتت الغنم استحق مالكها عوضا زائدا على الله تعالى،

فبذبحه فوت الاعواض الزائدة، والقود من حيث مخالفة الشارع، إذ قتله حرام

عليه وإن علم موته، وكذا لو أخبر الصادق بموت زيد لم يجز لاحد قتله .

ثم قال رحمه الله: ولا استبعاد في أن يكون أجل الانسان لطفا لغيره من المكلفين،

ولا يمكن أن يكون لطفا للمكلف نفسه، لان الأجل يطلق على عمره وحياته

ويطلق على أجل موته . أما الأول، فليس بلطف، لأنه تمكين له من التكليف،

واللطف زائد على التمكين . وأما الثاني، فهو قطع للتكليف، فلا يصح أن يكون

لطفا فيما مضى (1)، إنتهى .

وبالجملة فالخلاف بينهم قائم في أن القتيل ونحوه هل إزهاق روحه

بالأجل أم لا ؟

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 336

الأمر الثاني: في بيان أن الحق هو ما ذهب إليه المصنف وطائفة من علماء

الاسلام من أن أجل الحيوان هو وقت بطلان حياته، سواء كان بالموت أو القتل

أو الغرق أو الهدم أو نحوه، وإن كل من زهقت روحه فقد مات بأجله، لا أنه لو لم

يقتل مثلا لبقي حيا، والدليل عليه متضافرة متكثرة .

منها: القرآن، قال الله سبحانه في سورة آل عمران: وما كان لنفس أن

تموت إلا بأذن الله كتابا مؤجلا (1) وقال عز شانه: يقولون لو كان لنا من

الامر شئ ما قتلنا هاهنا قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى

مضاجعهم (2) وفي سورة الأنعام: هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا

وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون (3) وفي الأعراف: ولكل أمة أجل فإذا

جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون (4) ونحوه في سورة يونس

وسورة الحجر وسورة النحل .

وفي مريم: إنما نعد لهم عدا (5) وفي طه: ولولا كلمة سبقت من

ربك لكان لزام وأجل مسمى (6) وفي العنكبوت: ولولا أجل مسمى

لجاءهم العذاب وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون (7) وفي سورة فاطر: وما

يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب إن ذلك على الله يسير (8) وفي

حمعسق: ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضى بينهم (9) وفي

المنافقين: ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها (1) وفي نوح: ويؤخركم إلى

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 337

أجل مسمى إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون (1) .

وهذه الآيات كما قاله المفسرون ظاهره فيما قلناه، وشاملة للقتل وغيره .

وأما الاخبار، فمستفيضة كالآيات، نعم روي في تفسير قوله تعالى: ثم

قضى أجلا وأجل مسمى عنده ما يدل على أن الأجل على قسمين، منه ما

تكون لله فيه البداء بالزيادة والنقصان، ومنه ما هو مكتوب في اللوح المحفوظ

على ما وقع في العلم القديم .

روى الثقة علي بن إبراهيم في التفسير بسند صحيح عن أبي عبد الله عليه السلام قال:

الأجل المقضي هو المحتوم الذي قضاه الله وحتمه، والمسمى هو الذي فيه البداء

يقدم منه ما يشاء ويؤخر ما يشاء، والمحتوم ليس فيه تقديم ولا تأخير (2) .

وفي طرف من الاخبار عكس ما هنا، وللجمع بينهما محل آخر، وليس

فيها دلالة على قول من ذهب إلى أن المقتول لو لم يقتل لكان يعيش بعد، وقد

استدلوا على هذا القول بعد أن ادعى بعضهم البداهة عليه بذم القاتل والحكم

بكونه جانيا، ولو كان المقتول مات بأجله الذي قدره الله له، لمات وإن لم يقتله،

فالقاتل لم يجلب بفعله أمرا لا مباشرة ولا توليدا، فكان لا يستحق الذم عقلا ولا

شرعا، لكنه مذموم فيهما قطعا .

وقالوا أيضا: إنه ربما قتل في المعركة العظيمة ألوف، ونحن نعلم

بالضرورة أن موت الجم الغفير في الزمان القليل بلا قتل مما يحكم العادة

بامتناعه، ومن ثم ذهب جماعة منهم إلى أن ما لا يخالف العادة، كما في قتل واحد

وما يقرب منه واقع بالأجل المنسوب إلى الفاعل، والمصنف طاب ثراه أجاب

عن هذه الشبهة بما ذكره .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 338

وأما ذم القاتل، فلمباشرته الفعل الذي حظره الله عليه وأراد سبحانه أن يكون

هو فاعله حتى يعوضه عليه، فلما باشره غيره كأنه صار شريكا له سبحانه في

إيصال ذلك الألم إليه، فأوجب عليه العوض في الدنيا والآخرة، واستحق الذم

من العقلاء .

1) أي: لا يستأخرون ساعة عن ذلك الوقت ولا يتقدمون عليه، وقيل: معناه

لا يطلبون التأخر عن ذلك الوقت للأياس منه، ولا يطلبون التقدم، ومعنى جاء

أجلهم: قرب أجلهم، كما يقال: جاء الصيف إذا قارب وقته .

2) معناه: ان القتل كاشف عن أجله، لا أنه لو لم يقتل لعاش حتى يتناقض

كلامه طاب ثراه .

3) قال الطبرسي طاب ثراه: فيه قولان: أحدهما: أن معناه لو لزمتم منازلكم

أيها المنافقون والمرتابون، لخرج إلى البراز المؤمنون الذين فرض عليهم القتال

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 339

صابرين محتسبين فيقتلون ويقتلون ولما تخلفوا بتخلفكم .

والثاني: أن معناه لو كنتم في منازلكم لخرج الذين كتب عليهم القتل، أي:

كتب آجالهم وموتهم وقتلهم في اللوح المحفوظ في ذلك الوقت إلى مصارعهم،

وذلك أن ما علم الله كونه فإنه يكون كما علمه لا محاله، وليس في ذلك أن

المشركين غير قادرين على ترك القتال من حيث علم الله ذلك منهم وكتبه، لأنه

كما علم أنهم لا يختارون ذلك علم أنهم قادرون، ولو وجب ذلك لوجب أن

يكون تعالى قادرا على ما علم أنه لا يفعله، والقول بذلك كفر (1) .

1) كما نقل أنه وقع الوباء في بلاد مصر، فمات في يوم واحد سبعون ألف

شخص، ويرشد إليه أن من باشر المعركة العظيمة جنود كثيرة، فلم يقتل بعضهم

ويبقى البعض الآخر لولا حضور الآجال، مع أنا نرى موت من يجرح بالأدنى وبقاء

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 340

من يجرح بالأشد الأصعب .

1) أي: يصدق بأن كلما يقع في عالم الامر وعالم الخلق، فهو بتقديره

سبحانه وعلمه القديم ونقشه له في الألواح، لا كما يقوله المعتزلة من أن الله

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 341

سبحانه لا تقدير له في فعل العباد ولا لطف ولا إرادة، فيكون عندهم معزولا عن

ملكه .

1) قال بعض المحققين: حاصله أنه سأل عن كون أفعالهم وما عملوه في

مسيرهم من جهاد أهل الشام هل كان بقضاء الله وقدره ؟ والظاهر من القضاء إذا

استعمل مع القدر الايجاب الذي يكون منه سبحانه في طريق الايجاد لا الايجاب

التكليفي من الطلب الحتمي للفعل كما في الامر، وتركه كما في النهي، ولا الاعلام

فأولى أن يحمل القضاء في هذا الحديث على ذلك الايجاب لا على واحد من

الأخيرين .

وحاصل الجواب أن القضاء والايجاب في طريق الايجاد على قسمين،

أحدهما: الايجاب بمدخلية قدرة العبد وإرادته، فلا ايجاب منه سابقا عليهما،

وإنما المؤدي إلى الاكراه والاضطرار، الايجاب السابق عليهما لا الايجاب بهما،

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 342

والثاني: الايجاب لا بمدخلية القدرة والإرادة من العبد، وهو المراد بالقضاء الحتم

والقدر اللازم، وهذا القسم من الايجاب هو المؤدى إلى الاكراه والاضطرار .

فقول السائل باستلزام الكون بالقضاء للاكراه والاضطرار، يدل على ظنه أن

القضاء في أفعال العباد قضاء حتم، والقدر فيها قدر لازم وجوبا ولزوما لا

بمدخلية القدرة والإرادة من العبد كما قال عليه السلام، وتظن أنه كان قضاء حتما وقدرا

لازما سابقين على قدرة العبد وإرادته، وليس تعلقهما بأفعال العباد وأعمالهم على

هذا النحو، وإلا لخرجت أفعالهم عن قدرتهم، فلم يستحقوا بها مدحا ولا ذما،

لاختصاصهما بما يصدر عن المختار بقدرته وإرادته، وإذا كان كذلك بطل الأمر والنهي

، لامتناع مخاطبة غير القادر بهما، ولم يكن للوعد والوعيد حينئذ معنى،

وسقط المقصود بهما، وبطل الثواب والعقاب، حيث لا ينفك استحقاقهما عن

استحقاق المدح والملامة .

1) التلعة: مجرى الماء من بطن الوادي، وبطن الوادي أسفله والمطمئن

منه .

2) أي: لو فرض جريان المدح والذم واستحقاقهما واستحقاق الاحسان

والإثابة والعقوبة وترتبها على الافعال الاضطرارية الخارجة عن القدرة

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 343

والاختيار لكان المذنب أولى بالاحسان من المحسن، والمحسن أولى بالعقوبة

من المسئ، لان في عقوبة المسئ على ذلك التقدير جمع بين إلزامه بالسيئة

وعقوبته عليها، وكل منهما إضرار به، وفي إثابة المحسن جمع بين إلزامه بالحسنة

وإثابته عليها، وكل منهما نفع وإحسان إليه، وفي خلاف ذلك يكون لكل منهما نفع

وضرر، وهذا بالعدل أقرب وذلك بخلافه أشبه .

وقال الفاضل صاحب كتاب الدر المنثور: الوجه فيه هو أنه لو كان الامر

كذلك لكان هذا الفعل لا يصدر عن عادل، بل عن ظالم، تعالى الله عن ذلك علوا

كبيرا، والمناسب لمن هذا شأنه عقوبة المحسن والاحسان إلى المسئ عملا

بمقتضى الظلم، لان الظلم وضع الشئ في غير موضعه، فيكون المذنب أولى

بالاحسان باعتبار فعل الظالم، والمحسن أولى بالعقوبة لذلك (1) . انتهى .

والأوضح في تعليله هو أن معنى الجبر إلزامه خلاف ما يريده ويميل إليه،

فإذا أجبره على الطاعة يكون إرادة العبد خلافها، فلا يستحق المدح، بل ينبغي له

الملامة والذم، حيث أنه لو خلي وإرادته لكان فاعلا للذنب، وقس عليه حال

من جبر على المعصية، وهذا ظاهر، وبعض الاعلام من المعاصرين سلكوا في

التعليل مسالك بعيدة، ووجهوه بتوجيهات غير سديدة .

1) قوله (ذلك) إشارة إلى القول بالقضاء الحتم والقدر اللازم في الافعال

المطلوبة من العباد، ووجوب تلك الأفعال ولزومها بالايجاب والالزام السابق

على قدرة العبد وإرادته ونفي مدخليتهما في الافعال ووجوبها .

والمراد من عبدة الأوثان وخصماء الرحمن المجوس، لأنهم كما تقدم في

الاخبار أنهم نكحوا الأمهات والمحارم، وقالوا: هذا قضاء الله علينا، والمراد من

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 344

قدرية هذه الأمة الأشاعرة، لأنهم شاركوهم في هذا القول، ويجوز أن تكون

الصفات الثلاثة راجعة إلى الأشاعرة، فإنهم عبدوا أبا الفصيل ورمع وفعلان،

وهم أصنام قريش، كما يظهر من دعائه عليه السلام في دعاء صنمي قريش واللعن

عليهما .

وقال شيخنا المحقق عطر الله مرقده في شرح الكافي: المشار إليه في قوله

(ذلك) ما تقدم من القول بأن تعلق القضاء والقدر بما يتعلقان به إنما يكون كذلك،

أي: على طريق الجبر، وما لم يكن كذلك لم يكن بقضاء الله وقدره مقالة إخوان

عبدة الأوثان ومن بحكمهم، لان القول بما يستلزم بطلان الثواب والعقاب في

حكم القول بلازمه .

والقول ببطلان الثواب والعقاب قول عبدة الأوثان، وقولهم ذلك في قوة

إنكار الأمر والنهي وإنكار كون الافعال بقضاء الله وقدره، والمنكر للتكاليف

خصماء المكلف الامر والناهي، فهم خصماء الرحمن، والمنكر للثواب والعقاب

القائل ببطلانهما، والمنكر لما أنزل الله من الأمر والنهي وما يتعلق بهما حزب

الشيطان والتابعين المطيعين له، لان مقالتهم ومعتقدهم يدعوهم إلى متابعته فيما

يأمرهم به ويدعوهم إليه، والمنكر لكون الافعال بقضاء الله وقدره، قدرية هذه

الأمة ومجوسها، حيث شاركهم في اعتقاد خروج أشياء من قدره سبحانه، فإنهم

يقولون: الشرور ليس من خلقه ولا مستند إلى قضائه وقدره داخلا فيهما .

فقوله (إخوان عبدة الأوثان) إشارة إلى الأشاعرة ومن يحذو حذوهم

ويكون في حكمهم، بنفي استناد أفعال العباد إلى قدرتهم وإرادتهم، وبالقول بأن

العبد لاحظ له من فعله ولا مدخل له فيه إلا بالمحلية للفعل وللقدرة والإرادة الغير

المؤثرين فيه أصلا .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 345

وقوله: (وقدرية هذه الأمة ومجوسها) إشارة إلى المعتزلة ومن بحكمهم

القائلين باستقلال العبد واستبداده بإيجاد فعله من غير مدخلية قدر الله وقضائه،

وإنها ليست بقدر الله .

وما روي عن ابن عباس أنه قال: إن خليلي رسول الله صلى الله عليه وآله قال: إني سأهجر

هجرتين، وإني سأخرج عن هجرتي، فهاجرت هجرة مع رسول الله صلى الله عليه وآله، وهجرة

مع علي عليه السلام، وإني سأعمر، فعميت، وإني سأغرق، فأصابني حكة فطرحني أهلي

في البحر، فغفلوا عني، فغرقت، ثم استخرجوني بعد، وأمرني أن أبرأ من خمسة،

من الناكثين وهم أصحاب الجمل، والقاسطين وهم أصحاب الشام، ومن الخوارج

وهم أهل النهروان، ومن القدرية وهم الذين ضاهوا النصارى في دينهم فقالوا: لا

قدر، ومن المرجئة الذين ضاهوا اليهود في دينهم فقالوا: الله أعلم يوافق ما

ذكرناه في القدرية، انتهى .

أقول: إطلاق القدرية على المعتزلة كثير في الاخبار، وقد تقدم طرف منه،

وسيأتي جملة أخرى منه أيضا إلا أن إرادته من هذا الحديث بعيدة، لان سياق

الكلام في الرد على الأشاعرة ومن قال بمقالتهم .

وتحقيق المقام: أن الأشاعرة الجبرية قالوا بمقالة المجوس من أن أعمال

العباد بالقضاء الحتمي لا بإرادة واختيار منهم، فلفظ القدرية موافق لهم مناسب

لحالهم .

وأما المعتزلة القائلون بأن الله سبحانه لا قضاء له في أفعال العباد، فهم

مشاركون النصارى من هذه الجهة، حيث أنهم يقولون باختيار العبد مطلقا وأن الله

سبحانه لا قضاء له ولا تدبير ولا لطف في أفعال عباده، ويشاركون الأشاعرة في

وجه آخر، وهو أنهم يقولون بإلهين، فاعل الخير وهو النور، وفاعل الشر وهو

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 346

الظلمة، فالافعال تستند عندهم إلى اثنين، وكذلك عند المعتزلة، فإن أفعال الله

سبحانه تستند إليه، وأفعال العباد تستند إليهم، ليس لواحد مدخل في أفعال الآخر،

ومن ثم ورد في الاخبار تشبيه المعتزلة تارة بالمجوس، وأخرى بالنصارى،

وصح أيضا إطلاق القدرية عليهم .

وأما المرجئة وهم المخالفين، من أرجأ الأمور إلى الله تعالى مع اعتقاد أنه لا

يضر مع الايمان معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، سموا مرجئة لاعتقادهم أن

الله تعالى أرجأ تعذيبهم على المعاصي، أي: أخره عنهم، فهؤلاء يضاهون

اليهود، فإن اليهود لا يقولون بالجبر ولا بالتفويض ولا بين الامرين، بل تركوا

الجزم بواحد من المذاهب وذهبوا إلى التوقف، وإلى قولهم الله أعلم، يعنون أنا لا

نعلم أن الله سبحانه هل جبر العباد على أفعالهم أم فوض الأمور والاعمال إليهم ؟

1) أي: أمره جاعلا له مخيرا بين الفعل والترك بإعطاء القدرة له على

الاتيان بما شاء منهما من غير إكراه واجبار .

2) أي: طلبا للاحتراز عن فعل المنهي عنه بإكراه على الترك .

3) ترغيبا للإطاعة وترك المعصية .

4) أي لم يقع العصيان عن الطاعات بمغلوبية، بل بما فيه الحكمة من عدم

إكراهه وإجباره، ويحتمل كما قيل أن يكون المراد أنه لا يقع العصيان بمغلوبية

العاصي، فإنه لا عصيان مع عدم الاختيار، ولا تقع الطاعة له بإكراهه المطيع على

الطاعة، فإنه لا طاعة إلا بالاختيار .

5) لا يشتمل على حكمة كاملة، بل في خلقهما تعرض للمنافع الجليلة

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 347

للحيوانات وغيرها، وتعرض العقلاء منهم للثواب العظيم، وهذا ينافي قول أهل

الجبر: إن كل باطل وضلال فهو من فعل الله .

ذلك ظن الذين كفروا بالله وجحدوا نعمته .

1) أي: ليس له معذرة في فعل الفاحشة، ثم أكده بلا الثانية، أي: ليس له

معذرة بارتكاب الفواحش . وأما نصب قائلا، فعلى شريطة التفسير، أي: لا

أوقع القائل في الفواحش الذي نهاه عنها وهو الله سبحانه، لأنه إذا كان هو الذي

يجبره على الاتيان بالفاحشة، كيف يصح له أن ينهاه عنها ؟ وكيف يسوغ له ذلك ؟

2) أي: لو قلت بأن المعاصي معذور في عصيانه لم أكن موحدا قائلا

بالعدل، بل كنت كافرا من أهل عبادة الأصنام والشيطان، وربما جوز كونه بمنزلة

القسم، كما يقول القائل: عبدت الشيطان والأصنام إن كان قولك حقا .

3) أي: لم يحب الفسوق والمعاصي ولا أرادها الذي نهى عنها، ولا أراد ولا

أحب قتل وليه ظلما وعدوانا، لأنه من أعظم المعاصي، فلو كان الله سبحانه

أرادها وجبر عليها لكان مريدا لقتل أوليائه جابرا للقاتل عليه .

4) المراد من العزيمة: الأحكام الشرعية التي أوجبها الله جزما وقطع

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 348

عليها، وهذا مناف لمحبته المعاصي، لأنه نهى عنها، فكيف يحب إتيان ما نهى عنه،

وكيف يجبر على فعله ؟

وقوله (ذو العرش) خبر مقدم و (الله) مبتدأ مؤخر، أي: الله صاحب العرش

وخالقه، أعلم إعلاما بالنهي عن المعاصي والاتيان بها .

1) وفي رسالة العسكري عليه السلام إلى أهل الأهواز: وروي أن الرجل قال: فما

القضاء والقدر الذي ذكرته يا أمير المؤمنين، فقال: الامر بالطاعة، والنهي عن

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 349

المعصية، والتمكين من فعل الحسنة وترك المعصية، والمعونة على القربة إليه،

والخذلان لمن عصاه، والوعد والوعيد والترغيب والترهيب، كل ذلك قضاء الله في

أفعالنا وقدرة لأعمالنا، وأما غير ذلك فلا تظنه، فإن الظن له محبط للأعمال،

فقال الرجل: فرجت عني يا أمير المؤمنين (2) .

1) قال شيخنا الطبرسي طاب ثراه: (وقضى ربك) أي: أمر ربك أمرا تاما،

عن ابن عباس، وقيل: ألزم وأوجب ربك، عن الربيع . وقيل: أوصى، عن مجاهد،

(أن لا تعبدوا إلا إياه) معناه: أن تعبدوه ولا تعبدوا غيره .

فإن قيل: إن الامر لا يكون أمرا بأن لا يكون الشئ، لان الامر يقتضي إرادة

المأمور به، والإرادة لا تتعلق بألا يكون الشئ وإنما تتعلق بحدوث الشئ .

فالجواب: أن المعنى: أراد منكم عبادته على وجه الاخلاص وكره منكم

عبادة غيره، وعبر عن ذلك بقوله: أمر أن لا تعبدوا إلا إياه .

(وبالوالدين احسانا) أي: وقضى بالوالدين احسانا، أو أوصى بالوالدين

إحسانا، ومعناهما واحد، لان الوصية أمر (3) .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 350

1) قال الجزري: في الحديث (ما كنا نأبنه برقية) وقد تكرر ذكر الرقية

والرقي والاستقراء في الحديث، والرقية: العوذة التي يرقى بها صاحب الآفة

كالحمى والصرع وغير ذلك من الآفات، وقد جاء في بعض الأحاديث جوازها،

وفي بعضها النهي عنها، فمن الجواز قوله (استرقوا لها فإن بها النظرة) أي: اطلبوا

لها من يرقيها . ومن النهي قوله (لا يسترقون ولا يكتوون) والأحاديث في

القسمين كثيرة .

ووجه الجمع بينهما أن الرقا يكره منها ما كان بغير اللسان العربي، وبغير

أسماء الله تعالى وصفاته وكلامه في كتبه المنزلة، أو أن يعتقد أن الرقيا نافعة لا

محالة فيتكل عليها، وإياه أراد بقوله: (ما توكل من استرقى) ولا يكره منها ما

كان في خلاف ذلك كالتعوذ بالقرآن وأسماء الله تعالى والرقى المروية، ولذا قال

للذي رقى بالقرآن وأخذ عليه أجرا: من أخذ برقية باطل فقد أخذت برقية حق .

وكقوله في حديث جابر أنه صلى الله عليه وآله قال: اعرضوا علي، فعرضناها، فقال: لا

بأس بها إنما هي مواثيق . كأنه خاف أن يقع فيها شئ، مما كانوا يتلفضون به

ويعتقدونه من الشرك في الجاهلية، وما كان بغير اللسان العربي له مما لا يعرف له

ترجمة ولا يمكن الوقوف عليه، فلا يجوز استعماله .

وأما الحديث الآخر في صفة أهل الجنة الذين يدخلونها بغير حساب (هم

الذين لا يسترقون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون) فهذا من صفات الأولياء

المعرضين عن أسباب الدنيا الذين لا يلتفتون إلى شئ من علائقها، وتلك درجة

لا يبلغها إلا الخواص، فأما العوام فمرخص لهم في التداوي والمعالجات، ومن

صبر على البلاء وانتظر الفرج من الله تعالى بالدعاء، كان من جملة الخواص

والأولياء، ومن لم يصبر رخص له في التداوي والمعالجات والرقية، فأما قوله (لا

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 351

رقية إلا من عين أو حمية) فمعناه لا رقية أولى وأنفع، وهذا كما قيل: لا فتى إلا

علي، وروي أمره صلى الله عليه وآله بالرقية غير واحد من الصحابة وسمع بجماعة يرقون فلم

ينكر عليهم، هذا كلامه (2) .

أقول: أما الرقى بالقرآن، فقد روي أن المعوذتين نزلتا لتعويذ الحسنين عليهما السلام

من مرض أصابهما ومن ثم ذهب بعض العامة إلى أنهما ليسا من القرآن فلا يجوز

قرائتهما في الصلاة .

وأما الجمع بين الاخبار، فيمكن أن يقال فيه وجوه أخرى، منها: حمل

الكراهة على ما يكون على طريق العادة والتكرار لكن بغير القرآن والأدعية

المأثورة، فإن الاسترقاء بها دائما لا بأس به .

ومنها: حمل النهي على ما كان متعارفا من الرقية بالسحر أو ما يشابهه من

النفاثات في العقد، أو اعتقاد أنها المصحة الممرضة .

وقوله عليه السلام في هذا الحديث (إنها من القدر) أي: مما قدره الله تعالى وكتبه في

الألواح، كما قدر أن يكون الدعاء لرد القضاء وجلب الثواب وما يترتب عليه من

المنافع .

1) المراد من القدرية هنا المعتزلة، ومشابهتهم للمجوس قد مر الوجه فيها .

2) قال الطبرسي رحمه الله: (يوم يسحبون) أي: يجرون (في النار على

وجوههم) إن هذا العذاب يكون لهم في يوم بدر يجرهم الملائكة على وجوههم

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 352

في النار، ويقال لهم: (ذوقوا مس سقر) يعني: إصابتها إياهم بعذابها وحرها،

وسقر: جهنم، وقيل: باب من أبوابها، وأصل السقر التلويح، يقال: سقرته الشمس

إذا لوحته .

(إنا كل شئ خلقناه بقدر) أي: خلقنا كل شئ خلقناه مقدرا بمقدار توجبه

الحكمة، فخلقنا العذاب على قدر الاستحقاق، وكذلك كل شئ في الدنيا

والآخرة خلقناه مقدرا بمقدار معلوم، فخلقنا اللسان للكلام، واليد للبطش،

والرجل للمشي ونحو ذلك . وقيل: معناه: جعلنا لكل شئ بقدر مقدر وقضاء

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 353

محتوم في اللوح المحفوظ (1) .

أقول: الظاهر أن مراده عليه السلام من القدر هنا ما يشمل المحتوم وغيره، كما أن

المراد من الخلق ما يشمل الايجاد والتقدير في الألواح .

1) يعني: ان حقيقة القدر والاطلاع على تفاصيل أسراره من الاسرار

المخفية التي ليس للعقول والافهام حظ منها، لان مرجعه إلى العلم والقدرة، وهما

من صفات الذات لا يمكن الاطلاع على كنههما، فمن ثم ورد النهي عن الخوض

فيه، وأما الذي أسلفناه من الكلام فيه، فهو على سبيل الاجمال ومما ورد في

نوادر الاخبار .

2) أي: فوق ما يمكن أن يشاهدوه ببصائر القلوب وأنظار الأوهام .

3) لما عرفت من أن حقيقة القدر راجع إلى صفات الذات التي هي عينها،

فكما لا ينال سبحانه بحقيقة الربانية، فكذا لا ينال بحقيقة القدر، ويجوز في القدر

أن يرجع إلى صفات الافعال، بل هو أظهر كما تقدم، ويكون مرجعه إلى الربوبية

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 354

أعني: كونه ربا مربيا لما خلق بعد خلقه، وكما لا نعلم حقيقة هذه الصفة لا نعلم

حقيقة القدر، أعني: ما قدر الله سبحانه ونقشه في الألواح، ومحا منه ما أراد محوه،

وأثبت ما أراد إثباته .

1) من باب تشبيه المعقول بالمحسوس، يعني لو تجسم لكان عمقه هكذا،

ويجوز أن يكون إشارة إلى أن أغلب موارد القدر هو ما بين السماء والأرض،

وكذلك القول في العرض .

2) لعل المراد منهما الشبهة المضلة وغيرها .

3) أي: إن ذلك البحر يمد تارة فيعلو ماؤه، ويجزر أخرى فينقص ماؤه، ولعل

المراد منهما كثرة ما يخرج من عالم الغيب إلى عالم الشهادة تارة وقلته أخرى .

4) لعل المراد من الشمس فيضان ما في عالم الخلق من عالم الامر ونقش ما

يقتضيه الحكمة الأزلية في أم الكتاب .

5) أي: من تطلع إلى قعر ذلك البحر وأراد الاطلاع على أشعة تلك الشمس

بالنفي كما تقوله المعتزلة من أنه لا تقدير ولا قضاء لله تعالى في أفعال العباد، أو

بالاثبات كما قالته الأشاعرة من أن أفعال العباد واقعة بالقضاء والقدر الحتمية، فهو

مشرك بالله تعالى مضاد له، كما قال عليه السلام: القدرية مجوس هذه الأمة .

إذا عرفت هذا فاعلم أن الصدوق طاب ثراه قال في كتاب الاعتقاد: إعتقادنا

في القضاء والقدر قول الصادق عليه السلام لزرارة حين سأله فقال: ما تقول في القضاء

والقدر ؟ قال: أقول: إن الله عز وجل إذا جمع العباد يوم القيامة سألهم عما عهد

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 355

إليهم، ولم يسألهم عما قضى عليهم، والكلام في القدر منهي عنه كما قال أمير

المؤمنين عليه السلام، ثم ذكر هذا الخبر (1) .

وقال المفيد عطر الله مرقده في شرح هذا الكلام: عول أبو جعفر في هذا

الباب على أحاديث شواذ لها وجوه تعرفها العلماء متى صحت وثبت إسنادها،

ولم يقل فيه قولا محصلا، وقد كان ينبغي له لما لم يعرف للقضاء معنى، أن يهمل

الكلام فيه، والقضاء معروف في اللغة وعليه شواهد من القرآن، فالقضاء على

أربعة أضرب، أحدها: الخلق، والثاني: الامر، والثالث: الاعلام، والرابع: القضاء

بالحكم، وذكر له من الشواهد ما قاله المصنف رحمه الله هنا .

ثم قال بعد أن أبطل قول الأشاعرة: أن الله تعالى قضى بالمعصية على خلقه،

والوجه عندنا في القضاء والقدر بعد الذي بيناه، أن لله تعالى في خلقه قضاء

وقدرا، وفي أفعالهم أيضا قضاء وقدرا معلوما، ويكون المراد بذلك أنه قد قضى

في أفعالهم الحسنة بالامر بها، وفي أفعالهم القبيحة بالنهي عنها، وفي أنفسهم

بالخلق لها، وفيما فعله فيهم بالايجاد له، والقدر منه سبحانه فيما فعله إيقاعه في

حقه وموضعه، وفي أفعال عباده ما قضاه فيها من الأمر والنهي والثواب والعقاب،

لان ذلك كله واقع موقعه وموضوع في مكانه، لم يقع عبثا ولم يضع باطلا .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 356

فإذا فسر القضاء في أفعال الله تعالى والقدر بما شرحناه، زالت الشبهة منه،

وثبتت الحجة به، ووضع الحق فيه لذوي العقول، ولم يلحقه فساد ولا اختلال .

فأما الاخبار التي رواها في النهي عن الكلام في القضاء والقدر، فهي يحتمل

وجهين، أحدهما: أن يكون النهي خاصا بقوم كان كلامهم في ذلك يفسدهم

ويضلهم عن الدين ولا يصلحهم إلا الامساك عنه وترك الخوض فيه، ولم يكن

النهي عاما لكافة المكلفين، وقد يصلح بعض الناس بشئ يفسد به آخرون،

ويفسد بعضهم بشئ يصلح به آخرون، فدبر الأئمة عليهم السلام أشياعهم في الدين

بحسب ما علموه من مصالحهم فيه .

والوجه الآخر: أن يكون النهي عن الكلام فيهما النهي عن الكلام فيما خلق

الله تعالى وعن علله وأسبابه وعما أمر به وتعبد، وعن القول في علل ذلك لخلقه،

إذ كان طلب علل الخلق والامر محظورا، لان الله تعالى سترها عن أكثر خلقه، ألا

ترى أنه لا يجوز لاحد أن يطلب لخلقة جميع ما خلق عللا مفصلات، فيقول: لم

خلق كذا وكذا ؟ حتى يعد المخلوقات ويحصيها، ولا يجوز أن يقول: لم أمر بكذا

وتعبد بكذا ونهى عن كذا ؟ إذ تعبده بذلك وأمره لما هو أعلم به من مصالح الخلق،

ولم يطلع أحدا من خلقه على تفصيل ما خلق وامر به وتعبد، وإن كان قد أعلم في

الجملة أنه لم يخلق عبثا وإنما خلقهم للحكمة والمصلحة، ودل على ذلك بالعقل

والسمع، فقال سبحانه: وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين (1) .

وقال: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون (2) .

وقد يصح أن يكون تعالى خلق حيوانا بعينه لعلمه تعالى بأنه يؤمن عند

خلقه كفار، أو يتوب عند ذلك فساق، أو ينتفع به مؤمنون، أو يتعظ به ظالمون،

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 357

أو ينتفع المخلوق نفسه بذلك، أو يكون عبرة لواحد في الأرض أو في السماء

وذلك يغيب عنا، وإن قطعنا في الجملة أن جميع ما صنع الله تعالى إنما صنعه

لأغراض حكمية ولم يصنعه عبثا، وكذلك يجوز أن يكون تعبدنا بالصلاة، لأنها

تقربنا من طاعته وتبعدنا من معصيته، وتكون العبادة بها لطفا لكافة المتعبدين

بها أو لبعضهم .

فلما خفيت هذه الوجوه وكانت مستورة عنا، ولم يقع دليل على التفصيل

فيها، وإن كان العلم بأنها حكمة في الجملة، كان النهي عن الكلام في معنى القضاء

والقدر إنما هو نهي عن طلب علل لها مفصلة، فلم يكن نهيا عن الكلام في معنى

القضاء والقدر .

هذا إن سلمت الاخبار التي رواها أبو جعفر رحمه الله، فأما إن بطلت أو اختل

سندها، فقد سقط عنا عهدة الكلام فيها، والحديث الذي رواه عن زرارة حديث

صحيح من بين ما روى، والمعنى فيه ظاهر ليس به على العقلاء خفاء، وهو

مؤيد للقول بالعدل، ألا ترى إلى ما رواه عن أبي عبد الله عليه السلام من قوله: إذا حشر

الله تعالى الخلائق سألهم عما عهده إليهم ولم يسألهم عما قضى عليهم، وقد نطق

القرآن بأن الخلق مسؤولون عن أعمالهم (1) . انتهى .

وما ذكره المفيد طاب ثراه في الرد على الصدوق فيما قاله في كتاب الاعتقاد

قد ذكره في هذا الكتاب، وحينئذ فلعل مقصوده مما ذكره هناك ما أسلفناه لك من

إرادة حقيقة القضاء والقدر، والإحاطة بتفاصيلهما ونحو ذلك مما لا تفي بإدراكه

أنظار العقول، ومن ثم اقتصر طاب ثراه في كتاب الاعتقاد على نقل متن الخبرين،

فما أورده المفيد عطر الله مرقده من الاعتراض عليه الظاهر أنه غير وارد .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 358

1) أي: أعلمناهم في التوراة أنهم يفسدون في البلاد التي يسكنونها كرتين

وهي بيت المقدس، وأراد بالفساد الظلم وأخذ المال، وقيل: قتل الأنبياء وسفك

الدماء، وقيل: كان فسادهم الأول قتل زكريا والثاني قتل يحيى، وقيل: الفساد

الأول قتل شعيب والثاني: قتل يحيى، وإن زكريا مات حتف أنفه (3) .

2) أي: أعلمنا لوطا وأخبرناه بما ينزل بقومه من العذاب (أن دابر هؤلاء

مقطوع) يعني: إن آخر من يبقى من قومك يهلك وقت الصبح وهو قوله:

(مصبحين) أي داخلين في وقت الصبح، والمراد أنهم مستأصلون بالعذاب وقت

الصباح على وجه لا يبقى منهم أثر ولا نسل ولا عقب (4) .

3) إطلاق القضاء على العلم وارد في كثير من الآيات والاخبار، إلا أن

القضاء الوارد على أعمال العباد ينبغي أن يراد منه غير هذا المعنى، وذلك أن

الاخبار تضمنت الرد على المعتزلة بقولهم: إن أفعال العباد ليس لله تعالى فيها

قضاء ولا قدر ولا لطف، والقضاء بمعنى العلم مما لا ينكره المعتزلة ولا غيرهم،

فيكون المراد من القضاء والقدر الواقع على أعمال العباد، كتابتها ونقش تفاصيلها

في اللوح وإخبار الأنبياء والملائكة بها قبل وقوعها، ونحو ذلك مما تقدم مفصلا

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 359 - 360

مشروحا .

1) إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين إلا امرأته قدرنا أنها لمن الغابرين

استثنى امرأة لوط من آل لوط لأنها كانت كافرة قدرنا إنها لمن الغابرين أي:

‹ شرح ص 360 ›

من الباقين في المدينة من المهلكين، أي: قضينا أنها تهلك كما يهلكون (4) .

1) وقال: يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة وما

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 361

أغني عنكم من الله من شئ إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل

المتوكلون ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغني عنهم من الله من

شئ إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها وإنه لذو علم لما علمناه، أي: لما تجهزوا

للمسير قال يعقوب: يا بني لا تدخلوا مصر من باب واحد وادخلوا من أبواب

متفرقة، خاف عليهم العين، لأنهم كانوا ذوي جمال وهيئة وكمال وهم إخوة

أولاد رجل واحد، عن ابن عباس وجماعة .

وقيل: خاف عليهم حسد الناس إياهم وأن يبلغ الملك قوتهم وبطشهم

فيحبسهم أو يقتلهم خوفا على ملكه عن الجبائي، وأنكر العين وذكر أنه لم يثبت

بحجة، وجوزه كثير من المحققين، ورووا فيه الخبر عن النبي صلى الله عليه وآله أن العين حق،

والعين تستنزل الحالق، أي: تحط ذروة الجبل من قوة أخذها وشدة بطشها، وورد

أنه عليه السلام كان يعوذ الحسن والحسين عليهم السلام بأن يقول: أعيذكما بكلمات الله التامة

من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة .

وروي أن إبراهيم عليه السلام عوذ ابنيه، وأن موسى عليه السلام عوذ ابني هارون بهذه

العوذة، وروي أن ابني جعفر بن أبي طالب كانوا غلمانا بيضاء، فقالت أسماء بنت

عميس: يا رسول الله إن العين إليهم سريعة فاسترقي لهم من العين، فقال صلى الله عليه وآله: نعم،

وروي أن جبرئيل عليه السلام رقى رسول الله صلى الله عليه وآله وعلمه الرقية، وهي بسم الله أرقيك

من كل عين حاسد، الله يشفيك .

وروي عنه صلى الله عليه وآله: أنه لو كان شئ يسبق القدر لسبقته العين، وعنه عليه السلام: إن

العين تدخل الرجل القبر والجمل القدر، وفي حديث آخر: إن أكثر أهل المقبرة من

العين، وقال عز شأنه: ويوم حنين إذا أعجبتكم كثرتكم (1) الآية، وذلك كما

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 362

قاله العامة والخاصة إن المسلمين كانوا كثيرين، فأصابهم أبو بكر بعينه وقال: لن

تغلب اليوم من كثرة، فانهزموا هاربين، وكان الظفر بعد الغريمة على يدي أمير

المؤمنين عليه السلام، ومن ثم قال بعض الحكماء الفصحاء: أبو بكر عانهم وعلي

أعانهم .

وذكر جماعة أن الإصابة بالعين إنما يكون من رذالة الطبع وضيق العين

الحاصل من ضيق حوصلة الطبع وكان أبو بكر كذلك، لأنه مع كونه يتيما من أرذل

طوائف قريش في الجاهلية معلما للصبيان، وقد قيل: كفى المرء نقصا أن يقال بأنه

معلم أطفال وإن كان فاضلا، وروي عن الامام أبي عبد الله جعفر بن محمد

الصادق عليه السلام أنه قال: عقل أربعين معلما عقل حائك وعقل حائك عقل امرأة،

والمرأة لا عقل لها، وعن الامام أبي الحسن موسى بن جعفر عليه السلام أنه قال: لا

تستشيروا المعلمين ولا الحوكة، فإن الله تعالى قد سلبهم عقولهم، وذلك محمول

على المبالغة في نقصان عقولهم .

وأما أبو بكر في الاسلام فكان خياطا، وكان أبوه صيادا لقماري

والدباسي، وبعد ما صار أعمى ولم يكن يقدر ولده أبو بكر على قوته كان يأخذ الأجرة

من عبد الله بن جذعان أحد رؤساء مكة، أن ينادي الأضياف إلى

مائدته، وقد أتى بتصديق ما حكيناه، الشارح الجديد للتجريد، فقال: وقد سار

النبي صلى الله عليه وآله في عشرة آلاف من المسلمين، فتعجب أبو بكر من كثرتهم وقال: لن

تغلب اليوم لقلة، فانهزموا بأجمعهم، وبالجملة فتأثير العين مما لا ينكر .

ثم اختلفوا في وجه الإصابة، فقال الجاحظ وجماعة: لا ينكر أن ينفصل من

العين الصائبة إلى الشئ المستحسن أجزاء لطيفة فتتصل به وتؤثر فيه، ويكون

هذا المعنى خاصة في بعض الأعين، كالخواص في بعض الأشياء، واعترض عليه

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 363

بأن الاجزاء يكون جواهر والجواهر متماثلة، ولا يؤثر في بعض، وقال جماعة

منهم أبو هاشم والقاضي: أنه فعل الله بالعادة لضرب من المصلحة .

وذكر السيد الرضي طاب ثراه في شرح هذا: إن الله يفعل المصالح بعباده على

حسب ما يعلمه من الصلاح لهم في تلك الأفعال التي يفعلها، فغير ممتنع أن

يكون تغييره نعمة زيد مصلحة لعمرو، وإذا كان تعالى يعلم من حال عمرو أنه لو

لم يسلب زيد نعمته أقبل على الدنيا بوجهه ونأى عن الآخرة بعطفه، وإذا سلب

نعمة زيد للعلة التي ذكرناها عوضه عنها وأعطاه بدلا منها إما عاجلا أو آجلا،

فيمكن أن يتأول قوله عليه السلام (العين حق) على هذا الوجه .

على أنه قد روي عنه صلى الله عليه وآله ما يدل على أن الشئ إذا عظم في صدور العباد

وضع الله قدره وصغر أمره، وإذا كان الامر على هذا فلا ينكر تغيير حال بعض

الأشياء عند نظر بعض الناظرين إليه واستحسانه له وعظمه في صدره وفخامته

في عينه، كما روي أنه قال لما سبقت ناقته العضباء وكانت إذا سوبق بها لم تسبق:

ما رفع العباد من شئ إلا وضع الله منه .

ويجوز أن يكون ما أمر الله به المستحسن للشئ عند رؤيته من تعويذه بالله

والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله فإنما يقام في المصلحة مقام تغير حاله للشئ

المستحسن، فلا يتغير عند ذلك، لان الرائي لذلك قد أظهر الرجوع إلى الله تعالى

والإعاذة به، فكأنه غير راكن إلى الدنيا ولا مغتر بها، إنتهى كلامه، وهو جيد سيما

الوجه الأخير .

وما اغنى عنكم من الله من شئ أي: ما أدفع من قضاء الله من شئ إن

كان قد قضى عليكم الإصابة بالعين أو غير ذلك (ان الحكم إلا لله عليه توكلت)

في حفظكم من العين أو الحسد، (ولما دخلوا مصر من حيث أمرهم أبوهم) أي:

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 364

من الأبواب المتفرقة، قيل: كان لمصر أربعة أبواب، فدخلوها من أبوابها الأربعة

متفرقين (ما كان يغني عنهم من الله من شئ) أي: لم يكن دخولهم مصر كذلك

يدفع عنهم شيئا أراد الله إيقاعه بهم من حسد أو إصابة عين، وهو عليه السلام كان عالما

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 365

بأنه لا ينفع حذر من قدر، ولكن قال ما قاله لبنيه حاجة في قلبه، فقضى يعقوب

تلك الحاجة، أي: أزال به اضطراب قلبه (8) .

إذا عرفت هذا كله، فاعلم أن الأولى أن يراد بالقضاء هنا الفعل والأداء من

باب: (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا) (9) .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 367

1) أي: ان الولد يحمل أباه على الجهل تأليفا لقلبه . ومجنبة بالجيم والنون

والباء، كما في النهاية الأثيرية، أي: يحمل أبيه على الغربة، من قولهم فلان من

الأجانب في بني فلان، أي: من الغرباء (1) . والوارد في أخبارنا بتقديم الباء على

الجيم، أي: يحمله على الجبن .

وقوله (مبخلة) معناه أنه يحمل أباه على البخل .

2) هذا هو المشهور، من أن التسعير يرجع إلى اختيار المالك لا إلى الوالي، الا

أن يسعر بما لا يحتمله الناس، ويرجو بذلك: إما الفرار من البيع، أو

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 368

اضطرارهم إلى الشراء بما شاء .

1) اختلف المسلمون في الأسعار وأسبابها، فذهبت الأشاعرة إلى أنه ليس

المسعر الا الله تعالى، بناء على أصلهم الفاسد من أنه لا فاعل الا الله تعالى، وذهب

أصحابنا الإمامية والمعتزلة إلى أن الغلاء والرخص قد يكونان بأسباب ترجع إليه

سبحانه، كقلة الأمطار . وقد يكونان بأسباب ترجع إلى العباد كما سيأتي .

وأما الأخبار الدالة على أنهما من الله تعالى، فأولت تارة بالحمل على أن

أسبابهما في الأغلب راجعة إليه تعالى .

وأخرى بأنه تعالى لما لم يصرف العباد عما يختارونه من ذلك مع ما يحدث

في نفوسهم من كثرة رغباتهم، أو غناهم بحسب المصالح، فكأنهما وقعا بإرادته

تعالى، كما مر في الآيات والأخبار الدالة على أن أفعال العباد بإرادة الله تعالى

ومشيئته وهدايته واضلاله وتوفيقه وخذلانه .

وثالثا: بحمل بعض الأخبار الواردة فيه على المنع من التسعير والنهي عنه، بل

يلزم الوالي أن لا يجبر الناس على السعر، بل يتركهم واختيارهم حتى تجري

الأسعار على ما يريد الله تعالى .

قال العلامة طاب ثراه في شرحه على التجريد: السعر هو تقدير العوض

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 369

الذي يباع به الشئ، وليس هو الثمن والمثمن، وهو ينقسم إلى رخص وغلاء،

فالرخص هو السعر المنحط عما جرت به العادة، مع اتحاد الوقت والمكان،

والغلاء زيادة السعر عما جرت به العادة، مع اتحاد الوقت والمكان، وإنما اعتبرنا

الزمان والمكان، لأنه لا يقال: إن الثلج قد رخص سعره في الشتاء عند نزوله،

لأنه ليس أوان سعره . ويجوز أن يقال: رخص في الصيف إذا نقص سعره عما

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 370

جرت عادته في ذلك الوقت . ولا يقال: رخص سعره في الجبال التي يدوم نزوله

فيها، لأنه ليست مكان بيعه، ويجوز أن يقال: رخص سعره في البلاد التي اعتيد

بيعه فيها .

واعلم أن كل واحد من الرخص والغلاء قد يكون من قبله تعالى، بأن يقلل

جنس المتاع المعين، ويكثر رغبة الناس إليه، فيحصل الغلاء لمصلحة المكلفين،

وقد يكثر جنس ذلك المتاع ويقلل رغبة الناس إليه، تفضلا منه وانعاما، أو

لمصلحة دينية، فيحصل الرخص . وقد يحصلان من قبلنا، بأن يحمل السلطان

الناس على بيع تلك السلعة بسعر غال ظلما منه، أو لاحتكار الناس، أو لمنع

الطريق خوف الظلمة، أو لغير ذلك من الأسباب المستندة الينا، فيحصل الغلاء .

وقد يحمل السلطان الناس على بيع السلعة برخص ظلما منه، أو يحملهم على بيع

ما في أيديهم من جنس ذلك المتاع، فيحصل الرخص (1) .

1) ينبغي حمله على ما إذا كان طعام الغير في معرض البيع . أما إذا كان

الجميع ممن يحتكر، فالجميع محتكر وداخل تحت قوله صلى الله عليه وآله: الجالب مرزوق

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 371

والمحتكر ملعون (1) .

وقوله عليه السلام (إنما الحكرة أن يشتري طعاما) فيه دلالة على ما قاله العلامة

طاب ثراه، من قصر الاحتكار على طعام يشتريه . أما إذا كان من غلة زرعه، فلا

احتكار حينئذ . والمشهور صدق الاحتكار مطلقا، وحمل هذا: إما على الأغلب،

أو على سبيل التمثيل .

1) فيه دلالة على تحريم الحكرة، كما هو أحد القولين، والقول المشهور هو

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 372

حكم الكراهة، ويحمل اللعن هنا: إما على الكراهة المغلظة، أو على معناه

اللغوي، أعني: البعد عن الثواب الذي لو لو يفعل ذلك لكان مكتوبا له .

باب في الأطفال وعدل الله عز وجل فيهم

1) تظافرت الاخبار في الدلالة على هذا، وعليه أطبق أرباب الحديث،

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 373

ومن ظن أن هذا التكليف تكليف بما لا يطاق، وقد قام الدليل العقلي والنقلي على

عدم وقوعه . فالجواب عنه من وجوه:

منها: أن اختلاف النشأتين مما له مدخل في باب التكاليف، ومن ثم جاز في

البرزخ وما بعده ما لا يتحققه العقول .

ومنها: أن هذا ليس من ذاك، بل المراد بما لا يطاق ما لا تصل إليه القدرة،

كالطيران إلى السماء، وتكليف الأعمى نقط المصاحف . أما التكليف بقتل النفس

وازهاق الروح، فقد ورد في شرائع الأنبياء، كقوله تعالى في قوم موسى لما عبدوا

العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم (1) وكما ورد من وجوب تمكين

القاتل نفسه لأولياء المقتول ليقتلوه قصاصا . وكما روي أن من أجنب عمدا يجب

عليه الغسل بالماء البارد والجمد والثلج، وإن كان مظنه الخوف والهلاك (2) .

وتحقيق المقام: أن العلماء نصوا على أن ما لا يطاق على ثلاثة أنواع:

أحدها: ما يقدر الانسان عليه، لكن لو أتى به يتعب تعبا شديدا، أو يشق

عليه مشقة عظيمة، كقيام المرضى وصيامهم ونحو ذلك، وهو المراد من قوله تعالى

تعليما لنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به (3) أي: ما يشق علينا مشقة عظيمة .

ويجوز ورود تكليف ما لا يطاق على هذا التفسير عقلا، وان لم يرد به التكليف

غالبا، لكونه حرجا وعسرا، وهو منفي بما جعل عليكم في الدين من حرج، ويريد

الله بكم اليسر .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 374

وثانيها: ما لا يقدر الانسان عليه أصلا عادة، وإن كان ذلك الفعل ممكنا في

ذاته، كالطيران في الهوى، والصعود إلى السماء، وأمثال ذلك من الممكنات التي

لا يقدر الانسان عليها أصلا في مجرى العادة، فهذا النوع لا يجوز ورود الامر به

عقلا وشرعا، الا مشروطا بشرط القدرة والاستطاعة، كما قال تعالى ان استطعتم

أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا (1) اعجازا للمأمور، واظهارا

لكمال قدرة الله .

وثالثها: ما يستحيل ويمتنع امتناعا ذاتيا، كالجمع بين الضدين، كالسواد

والبياض . وهذا أيضا لا يجوز التكليف به عقلا وشرعا .

إذا عرفت هذا فاعلم أن دخول النار والتكليف به إنما هو من النوع الأول، ولم

يكلف به في الدنيا، وإنما كلف به في الأخرى . ومنها: أن الذي لا يطاق هنا إنما هو

التألم والعذاب بالنار، لا توطين النفس على دخولها حتى تجعل عليه بردا

وسلاما .

وأما أصل التكليف، فقال الصدوق طاب ثراه: ان قوما من أصحاب الكلام

ينكرون ذلك، ويقولون: انه لا يجوز أن يكون في دار الجزاء تكليف، ودار الجزاء

للمؤمنين إنما هي الجنة، ودار الجزاء للكافرين إنما هي النار، وإنما يكون هذا

التكليف من الله عز وجل في غير الجنة والنار، فلا يكون كلفهم في دار الجزاء، ثم

يصيرهم إلى الدار التي يستحقونها بطاعتهم أو معصيتهم، فلا وجه لانكار ذلك،

ولا قوة الا بالله .

1) ظاهره أن هذه الآية مخصوصة بأطفال المشركين، وانهم ينقسمون بعد

التكليف قسمين، والآية كما قاله المفسرون ظاهرة في إرادة مطلق الناس، كما هو

المستفاد من صدر الآية .

2) قال الزجاج: الزفير والشهيق من أصوات المكروبين المحزونين،

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 375

والزفير: شديد الأنين وقبيحه بمنزلة ابتداء صوت الحمار، والشهيق: الأنين الشديد

المرتفع بمنزلة آخر صوت الحمار .

1) اختلفت العلماء في تأويل هذا في الآيتين، وهما كما قال الطبرسي طاب

ثراه: من المواضع المخصوصة بالاشكال في القرآن، والاشكال فيه من وجهين:

أحدهما: تحديد الخلود بمدة دوام السماوات والأرض . والاخر: معنى الاستثناء

بقوله (الا ما شاء ربك) والأول فيه أقوال:

منها: إرادة سماء الآخرة وأرضها، وهما لا يفنيان إذا أعيدا بعد الأفناء .

ومنها: أن المراد سماء الجنة والنار وأرضهما، وكل ما علاك وأظلك فهو

سماء، وكذلك كلما استقر عليه قدمك فهو أرض .

ومنها: أنه مثل وكناية عن الدوام، كقوله سبحانه في شأن دخول الكافر الجنة

حتى يلج الجمل في سم الخياط (2) .

وأما الكلام في الاستثناء، فذكروا فيه أيضا وجوها:

أحدها: أنه استثناء في الزيادة من العذاب لأهل النار، والزيادة من النعيم

لأهل الجنة، والتقدير: الا ما شاء ربك من الزيادة على هذا المقدار، فيكون (الا)

فيه بمعنى سوى .

وثانيها: أن الاستثناء واقع على مقامهم في المحشر والحساب، لأنهم حينئذ

ليسوا في جنة ولا نار، ومدة كونهم في البرزخ الذي هو ما بين الموت والحياة،

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 376

لأنه لو قال (خالدين فيها أبدا) ولم يستثن، لظن ظان أنهم يكونون في النار أو

الجنة من لدن نزول الآية، أو من بعد انقطاع التكليف، فحصل للاستثناء فائدة،

عن المازني .

وثالثها: أن الاستثناء الأول متصل بقوله (لهم فيها زفير وشهيق) وتقديره: إلا

ما شاء ربك من أجناس العذاب الخارجة عن هذين الضربين، ولا يتعلق الاستثناء

بالخلود، وفي أهل الجنة متصل بما دل عليه الكلام، فكأنه قال: لهم فيها نعيم الا

ما شاء ربك من أنواع النعيم، وقد دل عليه قوله (عطاء غير مجذوذ) .

ورابعها: أن يكون (الا) بمعنى الواو، أي: وما شاء ربك من الزيادة، واليه

ذهب الفراء، وقد ضعفه محققوا النحويين .

وخامسها: أن المراد بالذين شقوا من ادخل النار من أهل التوحيد الذين

ضموا إلى ايمانهم وطاعاتهم ارتكاب المعاصي، فقال سبحانه: انهم يعاقبون في

النار الا ما شاء ربك من اخراجهم إلى الجنة، وايصال ثواب طاعاتهم إليهم .

ويجوز أن يريد بالذين شقوا جميع الداخلين إلى جهنم، ثم استثنى بقوله (الا ما

شاء ربك) أهل الطاعات منهم ممن قد استحق الثواب، وتقديره الا ما شاء ربك

أن يخرجه بتوحيده من النار ويدخله الجنة، وقد يكون (ما) بمعنى (من) .

وأما في أهل الجنة، فهو استثناء من خلودهم أيضا لما ذكرناه، لان من ينقل

إلى الجنة من النار وخلد فيها لا بد عند الاخبار بخلوده من استثناء ما تقدم، فكأنه

قال: خالدون فيها الا ما شاء ربك من الوقت الذي أدخلهم فيه النار قبل أن ينقلهم

إلى الجنة، فالاستثناء من الزمان، والذين شقوا هم الذين سعدوا بأعيانهم، وهذا

هو قول ابن عباس، وروى به خبرا عن النبي صلى الله عليه وآله . وقال الطبرسي رحمه الله: عليه

المعول .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 377

وسادسها: أن تعليق ذلك بالمشيئة على سبيل التأكيد والتبعيد عن الخروج،

لأنه تعالى لا يشاء الا تخليدهم (1) .

وقد قيل فيه وجوه أخرى، أعرضنا عن ذكرها حذرا من التطويل . والذي ورد

في نوادر الاخبار: أن المراد بالأشقياء هنا المخلدون في النار من مات منهم

وعذب في نار البرزخ أعني برهوت، وبالسعيد من ادخل جنة الدنيا بعد الموت

وتنعم فيها، أعني: دار السلام التي بظهر الكوفة، فهما مخلدان في نار الدنيا

وجنتها الا ما شاء ربك أن ينقلهم من عذاب إلى آخر، أو من جنة الدنيا إلى الدنيا،

وهو ما يرجع منهم إلى الدنيا وقت خروج مولانا صاحب الدار عليه السلام، فإنه يحشر

في زمانه من كل أمة فوجا من محض الايمان محضا، ومن محض الكفر محضا .

وهذا من بطون الآية، فلا ينافي ما تقدم من الأقوال .

إذا عرفت هذا وتحققت الآيات الظاهرة الناصة على كيفية المعاد وعذاب

النار ونعيم الجنة، ودركات الأولى ودرجات الثانية، وسمعت اجماع المليين

على هذا، وتواتر الأحاديث الدالة عليه، فاعلم أن قدماء الحكماء ومتأخريهم

ممن لا يقول بالأنبياء ومن قال بهم، ذهبوا في معنى الجنة والنار، وثواب الجنة،

وعقاب أهل النار، إلى ما لا ينطبق على قواعد أرباب الملل، وفيه تكذيب الكتب

السماوية، كما هو ديدنهم في الاعتماد على العقول القاصرة .

قال شارح المقاصد في تقرير مذهب الحكماء في الجنة والنار والثواب

والعقاب: أما القائلون بعالم المثل، فيقولون بالجنة والنار، وسائر ما ورد به الشرع

من التفاصيل، ولكن في عالم المثل لا من جنس المحسوسات المحضة، على ما

يقول به الاسلاميون . وأما الأكثرون، فيجعلون ذلك من قبيل اللذات والآلام

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 378

العقلية، وذلك أن النفوس البشرية، سواء جعلت أزلية كما هو رأي أفلاطون أو

لا كما هو رأي أرسطو، فهي أبدية عندهم لا تفنى بخراب البدن، بل ملتذة

بكمالاتها مبتهجة بادراكاتها، وذلك سعادتها وثوابها وجنانها، على اختلاف

المراتب وتفاوت الأحوال، أو متألمة بفقد الكمالات وفساد الاعتقادات، وذلك

شقاوتها وعقابها ونيرانها، على ما لها من اختلاف التفاصيل، وإنما لم يتنبه لذلك

في هذا العالم لاستغراقها في تدبير البدن، وانغماسها في كدورات عالم الطبيعة،

وبالجملة لما بها من العلائق والعوائق الزائلة بمفارقة البدن .

فما ورد في لسان الشرع من تفاصيل الثواب والعقاب، وما يتعلق بذلك من

السمعيات، فهي مجازات وعبارات عن تفاصيل أحوالها في السعادة والشقاوة،

واختلاف أحوالها في اللذات والآلام، والتدرج مما لها من دركات الشقاوة إلى

درجات السعادة، فان الشقاوة السرمدية إنما هي بالجهل المركب الراسخ،

والشرارة المضادة للملكة الفاضلة لا الجهل البسيط، والأخلاق الخالية عن

غايتي الفضل والشرارة، فان شقاوتها منقطعة، بل ربما لا يقتضي الشقاوة أصلا .

وتفصيل ذلك: أن فوات كمالات النفس يكون: إما لامر عدمي، كنقصان

غريزة العقل، أو وجودي كوجود الأمور المضادة للكمالات، وهي: إما راسخة أو

غير راسخة، وكل واحد من الأقسام الثلاثة: إما أن يكون بحسب القوة النظرية، أو

العملية، يصير ستة .

فالذي بحسب نقصان الغريزة في القوتين معا، فهو غير مجعول بعد الموت،

ولا عذاب بسببه أصلا، والذي بسبب مضاد راسخ في القوة النظرية، كالجهل

المركب الذي صار صورة للنفس غير مفارقة عنه، فهو غير مجبور أيضا لكن

عذابه دائم .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 379

وأما الثلاثة الباقية، أعني: النظرية الغير الراسخة، كاعتقادات العوام

والمقلدة، والعلمية الراسخة وغير الراسخة، كالأخلاق، والملكات الردية

المستحكمة وغير المستحكمة، فيزول بعد الموت لعدم رسوخها، أو لكونها هيئات

مستفادة من الافعال والأمزجة، فيزول بزوالها لكنها تختلف في شده الرداءة

وضعفها، وفي سرعة الزوال وبطئه، فيختلف العذاب بها في الكم والكيف بحسب

الاختلافين . وهذا إذا عرفت النفس أن لها كمالا فانيا: إما لاكتسابها ما يضاد

الكمال، أو لاشتغالها عن اكتساب الكمال، أو لتكاسلها في اقتناء الكمال وعدم

اشتغالها بشئ من العلوم .

وأما النفوس السليمة الخالية عن الكمال وعما يضاده، وعن الشوق إلى

الكمال ففي سعة من رحمة الله، خافضة من البدن إلى سعادة تليق بها غير متألمة

بما يتأذى به الأشقياء، الا أنه ذهب بعض الفلاسفة إلى أنها لا تجوز أن تكون معطلة

عن الادراك، فلابد أن تتعلق بأجسام اخر لما أنها لا تدرك الا بآلات جسمانية .

وحينئذ: إما أن تصير مبادي صور لها، فيكون نفوسا لها، وهذا هو القول

بالتناسخ . وإما أن لا تصير، وهذا هو الذي مال إليه ابن سينا والفارابي، من أنها

تتعلق بأجرام سماوية، لا على أن تكون نفوسا لها مدبرة لأمورها، بل على أن

يستعملها لامكان التخيل، ثم تتخيل الصور التي كانت معتقدة عندها وفي وهمها،

فيشاهد الخيرات الأخروية على حسب ما يخيلها، قالوا: ويجوز أن يكون هذا

الجرم متولدا من الهواء والأدخنة من غير أن يقارن مزاجا يقتضي فيضان نفس

انسانية .

ثم إن الحكماء وان لم يثبتوا المعاد الجسماني والثواب والعقاب

المحسوسين، فلم ينكروها غاية الانكار، بل جعلوها من الممكنات، لا على وجه

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 380

إعادة المعدوم، وجوزوا حمل الآيات الواردة فيها على ظواهرها، وصرحوا بأن

ليس مخالفا للأصول الحكمية والقواعد الفلسفية، ولا مستبعد الوقوع في الحكمة

الإلهية، لان للتبشير والانذار نفعا ظاهرا في أمر نظام المعاش وصلاح المعاد . ثم

الايفاء بذلك التبشير والانذار بثواب المطيع وعقاب العاصي، تأكيد لذلك

وموجب لازدياد النفع، ليكون خيرا بالقياس إلى الأكثرين، وإن كان ضرا في حق

المعذب، فيكون من جملة الخير الكثير الذي يلزمه شئ قليل، بمنزلة قطع العضو

لصلاح البدن (1) انتهى .

ونحوا من ذلك ذكر الشيخ ابن سينا في رسالة المبدأ والمعاد، ولم يذكر هذا

التجويز، وإنما جوزه في الشفاء خوفا من الديانين في زمانه .

ولا يخفى على من راجع كلامهم وتتبع أصولهم، أن جلها لا يطابق ما ورد

في شرائع الأنبياء، وإنما يمضغون حيض أصول الشرائع وضروريات الملل على

ألسنتهم في كل زمان، حذرا من القتل والتكفير من مؤمني أهل زمانهم، فهم

يؤمنون بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم كافرون .

ولعمري من قال: بأن الواحد لا يصدر عنه الا الواحد، وكل حادث مسبوق

بمادة، وما ثبت قدمه امتنع عدمه، وبأن العقول والأفلاك وهيولى العناصر قديمة،

وأن الأنواع المتولدة كلها قديمة، وأنه لا يجوز إعادة المعدوم، وأن الأفلاك

متطابقة، ولا تكون العنصريات فوق الأفلاك، وأمثال ذلك، كيف يؤمن بما أتت

به الشرائع ؟ ونطقت به الآيات، وتواترت به الروايات، من اختيار الواجب، وانه

يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وحدوث العالم، وحدوث آدم، والحشر الجسماني،

وكون الجنة في السماء، مشتملة على الحور والقصور والأبنية والمساكن

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 381

والأشجار والأنهار، وان السماوات تنشق وتطوى، والكواكب تنتثر وتتساقط بل

تفنى، وان الملائكة أجسام ملئت منهم السماوات، ينزلون ويعرجون، وان

النبي صلى الله عليه وآله قد عرج إلى السماء، وكذا عيسى وإدريس عليهما السلام . وكذا كثير من

معجزات الأنبياء والأوصياء عليهم السلام، من شق القمر، واحياء الأموات، ورد

الشمس، وطلوعها من مغربها، وكسوف الشمس في غير زمانه، وخسوف القمر

من غير أوانه، وأمثال ذلك .

ومن أنصف ورجع إلى كلامهم علم أنهم لا يعاملون أصحاب الشرائع الا

كمعاملة المستهزئ لهم، أو من جعل الأنبياء عليهما السلام كأرباب الحيل والحيات،

الذين لا يأتون بشئ يفهمه الناس، بل يلبسون عليهم في مدة بعثتهم، أعاذنا الله

وسائر المؤمنين عن تسويلاتهم وشبههم، وسنكتب إن شاء الله تعالى في ذلك كتابا

مفردا، والله الموفق .

1) كما روي في الخبر: ان الله سبحانه أرسل على بلادهم ريحا حارة،

فيبست أصلاب الرجال، وأعقمت أرحام نسائهم، فأعلم الله سبحانه نوح عليه السلام

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 382

أنهم لم يلدوا بعد هذا، فمن ثم قال: ولا يلدوا الا فاجرا كفارا .

1) ومن ثم وردت الروايات بأن المهدي عليه السلام إذا خرج، أحيى الله سبحانه له

بني أمية وأولادهم وذراريهم، فيعذبهم بأنواع العذاب، لأنهم سمعوا فعال آبائهم

فرضوا بها .

2) أي: معلمون مسمون بهذين الاسمين، موصوفون بهاتين الصفتين، إلى

اثني عشر سنة، فإذا بلغوها كتبت لهم حسنات ما فعلوه . وأما قبله، فثواب

أعمالهم لأبويهم . وهذا لا يدل على البلوغ ببلوغ الاثني عشر، لان كتابة الحسنات

هنا تفضل منه سبحانه . نعم ورد في الأحاديث النقية تحقق البلوغ بثلاث عشرة

سنة، وعمل بها جماعة من قدمائنا، ولتحقيق الكلام مقام آخر .

3) ما دلت عليه هذه الأخبار من أن أطفال الكفار ممن يكلف يوم القيامة بدخول

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 383

تلك النار، مما قال به أرباب الحديث منا . وفي بعض الروايات: انهم كفار يلحقون

بآبائهم في النار . وفي البعض الاخر: انهم يكونون خدمة أهل الجنة .

وللأصحاب رضوان الله عليهم في الجمع بين الاخبار وجوه:

منها: ما ذكره الصدوق طاب ثراه، حيث قال: هذه الأخبار متفقة وليست

بمختلفة، وأطفال المشركين والكفار مع آبائهم في النار، لا يصيبهم من حرها

لتكون الحجة أوكد عليهم متى أمروا بدخول نار تؤجج لهم مع ضمان السلامة

متى لم يثقوا به ولم يصدقوا وعده في شئ قد شاهدوا مثله (1) .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 384

أقول: حاصل كلامه هذا أنه حمل ما دل على اطلاق دخولهم النار على

نار البرزخ، وقال: لا يصيبهم حرها حينئذ، وان فائدة ذلك توكيد الحجة عليهم في

التكليف بدخول نار تؤجج لهم في القيامة .

ومنها: ما جنح إليه جماعة من أرباب الحديث من حمل قوله عليه السلام (كفار)

على معنى أنه يجري عليهم في الدنيا أحكام الكفار من التبعية في النجاسة، وأن

لا يغسلوا، ولا يكفنوا، ولا يصلى عليهم، ولا يأخذون الميراث، أو يخص دخولهم

النار ودخولهم مداخل آبائهم بمن لم يدخل منهم نار التكليف .

ومنها: الحمل على التقية، لموافقتها روايات المخالفين وأقوال أكثرهم .

قال النووي في شرح صحيح مسلم: اختلف العلماء في من مات من أطفال

المشركين، فمنهم من يقول: هم تبع لآبائهم في النار، ومنهم من يتوقف فيهم،

والثالث وهو الصحيح الذي ذهب إليه المحققون أنهم من أهل الجنة، واستدلوا

بأشياء: منها: حديث إبراهيم الخليل عليه السلام حين رآه النبي صلى الله عليه وآله وحوله أولاد

الناس، قالوا: يا رسول الله وأولاد المشركين ؟ قال: وأولاد المشركين، رواه

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 385

البخاري في صحيحه . ومنها قوله تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا (1)

ولا يتوجه على المولود التكليف حتى يبلغ، فيلزم الحجة .

وروى الحسين بن مسعود البغوي في شرح السنة، باسناده عن أبي هريرة،

قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وآله عن أطفال المشركين، قال: الله أعلم بما كانوا فاعلين .

وقال: هذا حديث متفق على صحته .

وقال في شرح الخبر: قلت: أطفال المشركين لا يحكم لهم بجنة ولا نار، بل

أمرهم موكول إلى علم الله فيهم، كما أفتى به الرسول صلى الله عليه وآله . وجملة الامر: أن مرجع

العباد في المعاد إلى ما سبق لهم في علم الله من السعادة والشقاوة . وقيل: حكم

أطفال المؤمنين والمشركين حكم آبائهم، وهو المراد بقوله: الله أعلم بما كانوا

عاملين (2) انتهى .

وأما أصحابنا المتكلمون - عطر الله مرقدهم - فذهبوا إلى أن أطفال الكفار

لا يدخلون النار، فهم: إما من أهل الجنة، أو من أهل الأعراف .

قال نصير الدين الطوسي طاب ثراه: وتعذيب غير المكلف قبيح، وكلام

نوح عليه السلام مجاز، والخدمة ليست عقوبة له، والتبعية في بعض الأحكام جائزة .

وقال العلامة رحمه الله في شرحه: ذهب بعض الحشوية إلى أن الله تعالى يعذب

أطفال المشركين، ويلزم الأشاعرة تجويزه، والعدلية كافة على منعه، والدليل

عليه أنه قبيح عقلا، فلا يصدر منه تعالى، احتجوا بوجوه:

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 386

الأول: قول نوح عليه السلام ولا يلدوا الا فاجرا كفارا والجواب: أنه مجاز،

والتقدير: أنهم يصيرون كذلك لا حال طفوليتهم .

الثاني: قالوا انا نستخدمه لأجل كفر أبيه، فقد فعلنا فيه ألما وعقوبة، فلا يكون

قبيحا . والجواب: أن الخدمة ليست عقوبة للطفل، وليس كل ألم عقوبة، فان الفصد

والحجامة ألمان وليسا عقوبة . نعم استخدامه عقوبة لأبيه، وامتحان له بعوض عليه

كما يعوض على أمراضه .

الثالث: قالوا: ان حكم الطفل يتبع حكم أبيه في الدفن، ومنع التوارث

والصلاة عليه ومنع التزويج . والجواب: أن المنكر عقابه لأجل جرم أبيه، وليس

بمنكر أن يتبع حكم أبيه في بعض الأشياء إذا لم يحصل له بها ألم وعقوبة، ولا ألم

له في منعه من الدفن والتوارث وترك الصلاة عليه (1) . هذا محصل كلام القوم .

ويمكن الجمع بين هذه الأخبار الدال بعضها على أنهم مع آبائهم في النار،

والآخر على التكليف بدخول النار . وما دل على أنهم في الجنة خدم لأهلها، بأن

يقال: إنهم قبل التكليف يكونون مع آبائهم، فإذا كلفوا بدخول تلك النار، فمن

أطاع وقضي له بدخول الجنة يكون من خدمة أهل الجنة، فرقا بين أولاد

المسلمين والكفار . وما دل على لحوقهم بالاباء مطلقا، يمكن حمله على من لم

يمتثل الامر في عالم الذر باختياره، ومن ثم قيل: إن العلة في دخول أطفال

المؤمنين الجنة ما وقع منهم من الطاعة في ذلك العالم .

1) يجمع بين هذا وما سيأتي من الدفع إلى فاطمة عليها السلام، بكون بعضهم مما

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 387

تربيه فاطمة عليها السلام، والآخر تربيه الخليل وسارة .

1) قال أمين الاسلام رحمه الله: أراد بالذرية أولادهم الصغار والكبار، لان الكبار

يتبعون الآباء بإيمان منهم، والصغار يتبعون الاباء بإيمان من الاباء، فالولد يحكم

له بالاسلام تبعا لوالده . والمعنى: انا نلحق الأولاد بالاباء في الجنة والدرجة من

أجل إيمان الاباء، لتقر أعين الآباء باجتماعهم معهم في الجنة، كما كانت

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 388

تقربهم في الدنيا، عن ابن عباس والضحاك . وفي رواية أخرى عن ابن عباس:

أنهم البالغون، ألحقوا بدرجة آبائهم وان قصرت أعمالهم، مكرمة لآبائهم .

وإذا قيل: كيف يلحقون بهم في الثواب ولم يستحقوه ؟ فالجواب: أنهم يلحقون

بهم في الجمع لا في الثواب والرتبة، ومروي عن الصادق عليه السلام قال: أطفال

المؤمنين يهدون إلى آبائهم يوم القيامة (1) .

1) المحبنطئ بالهمز وتركه: المتغضب المستبطئ للشئ . وقيل: هو الممتنع

امتناع طلبة لا امتناع اباء .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 389

1) في الفقيه: كان صديقا نبيا (1) .

2) قيل: المراد أنه كان مؤمنا موحدا تابعا لأبيه لا نبيا .

أقول: لعل هذا التأويل إشارة إلى أنه لا نبي بعده . لكن لا يخفى ما فيه .

3) لعل حاصله أن أطفال الكفار مع ارتفاع قلم التكليف عنهم، وانه لم

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 390

يحصل منهم ما يوجب العذاب والنار وغيرهما، كيف جاءت الاخبار في دخولهم

نار التكليف أو غيرها ؟ وملخص الجواب: أنه تعالى حكيم لا يفعل إلا ما تقتضيه

المصلحة، فلا اعتراض عليه .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 392

باب في أن الله تبارك وتعالى لا يفعل بعباده الا الأصلح لهم

1) المراد بالولي المحب، والمبارزة بالمحاربة اظهارها والتصدي لها . وذكر

التردد استعارة كما سيأتي . والجملة الاسمية نعت شئ، واسم الفاعل بمعنى

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 393

الحال أو الاستقبال .

قال شيخنا البهائي طاب ثراه: ما تضمنه هذا الحديث من نسبة التردد إليه

سبحانه يحتاج إلى التأويل، وفيه وجوه:

الأول: أن في الكلام اضمارا، والتقدير: لو جاز علي التردد ما ترددت في

شئ، كترددي في وفاة المؤمن .

الثاني: أنه لما جرت العادة بأن يتردد الشخص في مساءة من يحترمه

ويوقره، كالصديق الوفي والخل الصفي، وأن لا يتردد في مساءة من ليس له عنده

قدر ولا حرمة، كالعدو والحية والعقرب، بل إذا خطر بالبال مساءته أوقعها من

غير تردد ولا تأمل، صح أن يعبر بالتردد والتأمل في مساءة الشخص عن

توقيره واحترامه، وبعدمها عن اذلاله واحتقاره، فقوله سبحانه (ما ترددت في

شئ أنا فاعله كترددي في وفاة المؤمن) المراد به والله أعلم: ليس لشئ من

مخلوقاتي عندي قدر وحرمة كقدر عبدي المؤمن وحرمته، فالكلام من قبيل

الاستعارة التمثيلية .

الثالث: أنه قد ورد في الحديث من طرق الخاصة والعامة أن الله سبحانه

يظهر للعبد المؤمن عند الاحتضار من اللطف والكرامة والبشارة بالجنة ما يزيل

عنه كراهة الموت، ويوجب رغبته في الانتقال إلى دار القرار، فيقل تأذيه، ويصير

راضيا بنزوله، راغبا في حصوله، فأشبهت هذه المعاملة معاملة من يريد أن يؤلم

حبيبه ألما يتعقبه نفع عظيم، فهو يتردد في أنه كيف يوصل ذلك الألم إليه على

وجه يقل تأذيه به، فلا يزال يظهر له ما يرغبه فيما يتعقبه من اللذة الجسمية

والراحة العظيمة، إلى أن يتلقاه بالقبول، ويعده من الغنائم المؤدية إلى ادراك

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 394

المأمول (1) .

1) يجوز أن يكون هذه الجملة من باب الاستئناف البياني، كأن سائلا سأل

ما سبب التردد ؟ ويجوز أن يكون حالا من المؤمن . ولعل الأول أقرب، كما

سيأتي في تحقيق معناه . والمساءة على وزن سلامة مصدر ميمي من ساءه إذا فعل

ما يكرهه .

فان قلت: ورد في الاخبار أن من خلوص الايمان حب لقاء الله، ومن كره

لقاء الله كره الله لقاءه . وكان أمير المؤمنين عليه السلام آنس بالموت من الطفل بثدي أمه .

ولما ضربه ابن ملجم قال: فزت ورب الكعبة . وقوله تعالى لليهود لما زعموا أنهم

أولياؤه فتمنوا الموت ان كنتم صادقين (2) فهذا وأمثاله شواهد صدق على أن

المؤمن ينبغي له حب الموت لا كراهته .

وقد أجاب عنه الأصحاب رضوان الله عليهم بوجوه:

منها: ما قاله الشهيد - عطر الله مرقده - في الذكرى: من أن حب لقاء الله غير

مقيد بوقت، فيحمل على حال الاحتضار ومعاينة ما يحب، كما رويناه عن

الصادق عليه السلام . ورووا عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه،

ومن كره لقاء لله كره الله لقاءه، قيل: يا رسول الله انا لنكره الموت، فقال: ليس

ذلك، ولكن المؤمن إذا حضره الموت يبشر برضوان الله وكرامته، فليس شئ

أحب إليه مما أمامه، فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه . وان الكافر إذا حضر يبشر

بعذاب الله، فليس شئ أكره إليه مما أمامه كره لقاء الله، فكره الله لقاءه .

ومنها: ما ذهب إليه شيخنا البهائي ووالده قدس الله روحيهما: من أن الموت

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 395

ليس نفس لقاء الله، فكراهته من حيث الألم الحاصل منه لا يستلزم كراهة لقاء الله .

وأيضا فحب الله سبحانه يوجب الاستعداد التام للقائه بكثرة الاعمال، وهو

يستلزم كراهة الموت القاطع لها (1) .

ومنها: أن من اتصف بالعبودية ووسم بميسمها، ينبغي له أن لا يحب الا ما

أحب له مولاه، وكذا في جانب الكراهة، فما دام سبحانه يريد له الحياة يلزمه

ارادتها وكراهة نقيضها أعني: الموت . وإذا حضره الموت أحبه وكره الحياة، وهذا

هو معنى ان صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله (2) أي: اني أريد الحياة لله

وأرغب في الموت له، يعني لا أختار منهما الا ما يختاره لي .

وبالجملة لا تنافي بين كراهة الموت في حال وحبه في آخر . وهذا الوجه

غير الأول، وهو أقرب الوجوه التي جمع بها بين أخبار هذه الواقعة . وربما قيل

فيه وجوه أخرى، من أرادها وقف عليها من مظانها .

1) فيه دلالة ظاهرة على أن الواجبات أكثر ثوابا من المندوبات، وعموم

الموصول يشمل الواجب بالأصالة، وما أوجبه المكلف على نفسه بنذر وشبهه،

الا أن هذه الاستفادة مدركة بالدلالة العرفية، كما تقول: ليس في البلد أحسن من

زيد، والمراد تفضيله على غيره، لا أنه ليس أحد أحسن منه، حتى يوقف على

المساواة .

واعلم أن شيخنا الشهيد وغيره قد استثنوا من هذه القاعدة مواضع، منها:

الابراء من الدين، فإنه مستحب، وهو أفضل من الانظار مع وجوبه . ومنها:

السلام ابتداء، فإنه تطوع مع أنه أفضل من رده، وهو واجب . ومنها: إعادة المنفرد

صلاته جماعة، فان صلاة الجماعة مطلقا تفضل على صلاة الفذ بسبع وعشرين

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 396

درجة . ونحو هذا مما ذكروه .

1) قوله (أحبه) بضم أوله وفتح ثالثه، والمراد من النوافل جميع الاعمال

الغير الواجبة، والنفل: الزيادة، سميت به لزيادتها على الواجب . وأما تخصيصها

بالصلوات المندوبة، فعرف طار .

وأما محبة الله سبحانه للعبد، فهي أخص من الرحمة، لان الرحمة انعام مطلق،

والمحبة نعمة خاصة، وهي كما قاله المحققون كشف الحجاب عن قلبه وتمكينه،

من أن يطأ على بساط قربه، فان ما يوصف به سبحانه إنما يؤخذ باعتبار الغايات

لا باعتبار المبادي، وعلامة حبه سبحانه للعبد توفيقه للتجافي عن دار الغرور،

والترقي إلى عالم النور، والانس بالله والوحشة مما سواه، وصيرورة جميع

الهموم هما واحدا .

قال بعض العارفين: إذا أردت تعرف مقامك فانظر فيما أقامك .

2) هذه الألفاظ وردت في أخبار كثيرة من طرق العامة والخاصة، وربما

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 397

استدل به أهل الحلول من الصوفية على ما حكيناه عنهم من القول باتحاده تعالى

بالمخلوقات، أو بخصوص الأصفياء والخلص منهم، كقول العطار: ليس في جبتي

سوى الله .

وأما المحققون من أهل التوحيد، فقال بعضهم: المراد بهذه الصيرورة لازمها

من حفظ هذه المذكورات من الأعضاء، من أن تستعمل في معصيته . أو المراد

بسمعه مسموعه، أي: لا يسمع الا ذكري، ولا يلتذ الا بتلاوة كتابي، ولا ينظر الا

في عجائب ملكوتي الدالة على وجودي وصفاتي، ولا يبطش ولا يمشي الا لما

فيه رضاي .

وقال آخرون: التحقيق أنه مجاز وكناية عن نصرة الله لعبده المقر به إليه بما

ذكر، وتأييده واعانته وتوليه في جميع أموره، حتى كأنه تعالى نزل نفسه من

عبده منزلة الجوارح والآلات التي بها يسمع ويبصر ويبطش ويمشي .

1) الطمر بالكسر: الثوب الخلق، أو الكساء البالي .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 399

1) أي: من حيث لا يعدونه في الحساب رزقا لهم .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 400

1) قد تحيرت العقلاء في حقيقة الروح، أعني: النفس الناطقة، وهو المعني

بها في القرآن والحديث، حتى أنه قال بعض الاعلام: ان قول أمير المؤمنين عليه السلام

كذلك لا يمكن التوصل إلى معرفة النفس، وقوله تعالى يسألونك عن الروح قل

الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم الا قليلا (1) مما يعضد ذلك . والأقوال

في حقيقتها وان كانت متشعبة الا أنها ترجع إلى أربعة عشر قولا .

قال شيخنا بهاء الملة والدين عطر الله مرقده: المذاهب في حقيقة النفس

كثيرة، والدائر منها على الألسنة المذكورة في الكتب المشهورة أربعة عشر مذهبا:

أحدها: هذا الهيكل المحسوس المعبر عنه بالبدن .

وثانيها: أنها القلب، أعني: العضو الصنوبري اللحماني المخصوص .

وثالثها: أنها الدماغ .

ورابعها: أنها أجزاء لا تتجزأ في القلب، وهو مذهب النظام ومتابعيه .

وخامسها: أنها الأعضاء الأصلية المتولدة من المني .

وسادسها: أنها المزاج .

وسابعها: أنها الروح الحيواني، ويقرب منه ما قيل: إنها جسم لطيف سار في

البدن كسريان الماء في الورد والدهن في السمسم .

وثامنها: أنها الماء .

وتاسعها: أنها النار والحرارة الغريزية .

وعاشرها: أنها النفس .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 401

وحادي عشرها: أنها هي الواجب، تعالى عما يقولون علوا كبيرا .

وثاني عشرها: أنها هي الأركان الأربعة .

وثالث عشرها: أنها صورة نوعية قائمة بمادة البدن، وهو مذهب الطبيعيين .

ورابع عشرها: أنها جوهر مجرد عن المادة الجسمانية وعوارض

الجسمانيات، لها تعلق بالبدن تعلق التدبير والتصرف، والموت هو قطع هذا التعلق .

وهذا هو مذهب الحكماء الإلهيين وأكابر الصوفية والاشراقيين، وعليه استقر

رأي المحققين من الحكماء . ثم قال: وهذا هو المذهب المنصور الذي أشارت إليه

الكتب السماوية، وانطوت عليه الأنباء النبوية، وعضدته الدلائل العقلية، وأيدته

الامارات الحدسية والمكاشفات الذوقية (1) .

أقول: قد نقل الثقات عن الشيخ المفيد رحمه الله أنه قال برهة من الزمان بتجرد

النفس، ثم رجع وقال: انه لا مجرد في الوجود الا الله .

واما قوله طاب ثراه (ان الذي أشارت إليه الكتب والاخبار والأدلة العقلية

هو تجرد النفس) فلا يخفى ما فيه، وذلك أن الكتب والاخبار مشحونة باتصاف

النفس بصفات الماديات، كالصعود والنزول والعذاب الحسي، وكذا النعيم،

وكاتصافها بالدخول والخروج، إلى غير ذلك من صفات الماديات، والحمل على

المجاز بإرادة الجسم بعيد، مع أن ألفاظ الاخبار آبية عنه .

وحينئذ فالأولى ما قاله طائفة من أنها جوهر مادي لطيف شفاف حال في

البدن، سار فيه كسريان الدهن في السمسم والورد، واليه ذهب المرتضى وأكثر

المتكلمين .

وروي أنه قال بعض أهل العرفان: أدركت ألف شيخ وسألت كل واحد منهم

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 402

عن النفس، فقالوا: انها معلومة الوجود مجهولة الكيفية، فكما أن كيفية الرب غير

مدركة لنا لتعالي حده، كذلك كيفيتها غير معلومة لنا لتداني حدها . فعلى هذا معنى

قوله عليه السلام (من عرف نفسه فقد عرف ربه) من باب تعليق المحال على المحال .

1) لأنها طالبة للكمال، ولا كمال فوق الربوبية، ومن ثم طلبتها النفوس

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 403

الشقية وادعتها، لأنها كمال لا كمال فوقه .

1) الآية هكذا: ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون

مختلفين أخبر سبحانه عن كمال قدرته، فقال: ولو شاء ربك لجعل الناس على

دين واحد، فيكونون مسلمين صالحين، وذلك أن يلجأهم إلى الاسلام، بأن

يخلق في قلوبهم العلم، بأنهم لو راموا غير ذلك لمنعوا منه، ولكن ذلك ينافي

التكليف، ويبطل الغرض بالتكليف، لان الغرض به استحقاق الثواب،

والالجاء يمنع منه، فلذلك لم يشأ الله ذلك، ولكنه شاء أن يؤمنوا باختيارهم

ليستحقوا الثواب .

(ولا يزالون مختلفين) في الأديان بين يهودي ونصراني ومجوسي وغير

ذلك (الا من رحم ربك) من المؤمنين، فإنهم لا يختلفون ويجتمعون على الحق .

والمعنى كما قال شيخنا الطبرسي طاب ثراه: (لا يزالون مختلفين) بالباطل،

الا من رحم الله بفعل اللطف بهم الذي يؤمنون عنده، ويستحقون به الثواب، فان

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 404

من هذه صورته ناج من الاختلاف بالباطل .

(ولذلك خلقهم) اختلفوا في معناه، فقيل: يريد وللرحمة خلقهم، ذهب إليه

أكثر المفسرين، وهو الوارد في أخبارنا المستفيضة عن السادة الأطهار عليهم السلام،

واعترض بأنه لو أريد ذلك لقال: ولتلك خلقهم، لان الرحمة مؤنثة . وأجاب عنه

المرتضى وغيره، بأن تأنيث الرحمة غير حقيقي، وإذا ذكر فعلى معنى الفعل

والانعام، وقد قال سبحانه: هذا رحمة من ربي (1) وان رحمة الله

قريب (2) وقالوا أيضا: ان قوله الا من رحم ربك (3) كما يدل على الرحمة

يدل أيضا على أن يرحم، فلا يمتنع أن يكون المراد لان يرحموا خلقهم . وقيل: إنه

إشارة إلى الاختلاف (4) .

واختلفوا في اللام، فقيل: انها لام العاقبة، يريد أن الله خلقهم وعلم أن

عاقبتهم تؤول إلى الاختلاف المذموم . وقيل: إنها لام التعليل، يعني: انه سبحانه

خلقهم للاختلاف، لان الاختلاف الواقع بين الناس ربما اشتمل على ضرب من

الصلاح، واستدلالا بقوله صلى الله عليه وآله: اختلاف أمتي رحمة .

والجواب عن الآية بما قاله السيد طيب الله ثراه، من أن حمل لفظة (ذلك) في

الآية على الرحمة أولى من حملها على الاختلاف، لدليل العقل وشهادة اللفظ .

فأما دليل العقل، فمن حيث علمنا أنه تعالى كره الاختلاف والذهاب عن الدين،

ونهى عنه وتوعد عليه، فكيف يجوز أن يكون شائيا له ومجريا بخلق العباد إليه .

وأما شهادة اللفظ، فلان الرحمة أقرب إلى هذه الكناية من الاختلاف، وحمل

اللفظ على أقرب المذكورين أولى في لسان العرب .

ثم قال: ويجوز أيضا أن يكون قوله تعالى (ولذلك خلقهم) كناية عن

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 405

اجتماعهم على الايمان، وكونهم فيه أمة واحدة، لا محالة أنه لهذا خلقهم .

ويطابق هذه الآية قوله تعالى وما خلقت الجن والإنس الا ليعبدون .

وذكر محمد بن مسلم بن بحر في قوله تعالى (مختلفين) وجها غريبا، وهو

أن يكون معناه أن خلف هؤلاء الكافرين بخلف سلفهم في الكفر، لأنه سواء قولك

(خلف بعضهم بعضا) وقولك (اختلفوا) كما سواء قولك (قتل بعضهم بعضا) و

(اقتتلوا) ومنه قولهم لا أفعل كذا ما اختلف العصران والجديدان، أي: جاء كل

واحد منهما بعد الآخر (1) .

والمراد بالرحمة في قوله (الا من رحم ربك) النعمة الخاصة، أعني: التوفيق

للايمان، والا فرحمته تعالى عامة لكل أحد .

وقال صاحب الكشاف: ذلك إشارة إلى ما دل عليه الكلام الأول وتضمنه،

يعني، ولذلك التمكين والاختيار الذي كان عنه الاختلاف خلقهم ليثيب مختار

الحق بحسن اختياره، ويعاقب مختار الباطل بسوء اختياره (2) .

وأما عن الحديث فيما روى عن الصادق عليه السلام لما سئل عن معنى قوله صلى الله عليه وآله

اختلاف أمتي رحمة قال: أراد الاختلاف في البلاد للتفقه في الدين وأخذ

العلوم من مظانها، حتى إذا رجع أنذر قومه لعلهم يحذرون، لأنه لو كان اختلاف

الأمة رحمة يكون اجتماعها خطأ، وقد قال صلى الله عليه وآله: لا تجتمع أمتي على

ضلالة (3) .

هذا واعلم أنهم راموا بذلك اصلاح ما وقع بين الصحابة من النزاع والتشاح

والقتال، وسفك الدماء، ونهب الأموال، وشن الغارات بعد وفاته صلى الله عليه وآله، وما

أرادوا يغلطوا أحدا منهم، بل زعموا أن لكل منهم قد اجتهد، لكن بعضهم أصاب

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 406

وبعضهم أخطأ، والمخطئ ان لم يكن مثابا لا مؤاخذة عليه .

وهذا عذر غريب، وذلك لان في واقعة الجمل قتل عشرون ألفا، وفي وقائع

صفين ما يزيد على ثمانين ألفا، فإذا كان معاوية معذورا، وطلحة والزبير

معذورين، فلا يبقى أحد فعل ذنبا لا عذر له، ويا ليتهم لما أحبوا أم المؤمنين

والرجلين ومعاوية، وقالوا: انهم كانوا محقين معذورين، نسبوا الغلط والخطأ إلى

أمير المؤمنين، لأنه عليه السلام استحل قتل معاوية والزبير وطلحة ومن كان معهما

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 407

وكذلك هم قد استحلوا دمه ودم أصحابه، ولا شك أن الضرورة قاضية بأن الحق

في واحد من الرجلين، وان الاخر مخطئ يستحق السب واللعن بما استحل من

الدماء المحظورة شرعا، لكن هذا ليس بأول قارورة كسرت في الاسلام .

1) الرذاذ كسحاب: المطر الضعيف، أو الساكن الدائم الصغار القطر كالغبار، أو

هو بعد الطل . والوابل: المطر الشديد الضخم القطر . والهطل: المطر الضعيف الدائم

وتتابع المطر المتفرق العظيم القطر كالهطلان .

2) يعني: أن الأصنام ونحوها مما تعبدون لا تقدر لكم على نفع، وهذا أحد

الوجوه التي ذكرها المفسرون . وثانيها: يريد أنكم تعقلون وتميزون، ومن كان

بهذه الصفة فقد استوفى شرائط التكليف ولزمته الحجة، وضاق عذره في

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 408

التخلف عن النظر وإصابة الحق . وثالثها: أن المراد بذلك أهل التوراة والإنجيل،

أي: تعلمون ذلك في الكتابين .

قال المرتضى طاب ثراه: استدل أبو علي الجبائي بقوله تعالى (جعل لكم

الأرض فراشا) وفي آية أخرى (بساطا) على بطلان ما يقوله المنجمون من أن

الأرض كروية الشكل، قال: وهذا القدر لا يدرك، لأنه يكفي في النعمة علينا أن

يكون في الأرض بسائط ومواضع مفروشة ومسطوحة، وليس يجب أن يكون

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 409

جميعها كذلك، ومعلوم ضرورة أن جميع الأرض ليس مبسوطا ومسطوحا،

وإن كان مواضع التصرف فيها بهذه الصفة، والمنجمون لا يدفعون أن يكون في

الأرض مسطوح يتصرف فيها ويستقر عليها، وإنما يذهبون إلى أن جملتها كروية

الشكل (1) انتهى .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 410

باب الأمر والنهي والوعد والوعيد

1) قال الفاضل الدواني في شرح العقائد: المعتزلة والخوارج أوجبوا عقاب

صاحب الكبيرة إذا مات بلا توبة، وحرموا عليه العفو، واستدلوا عليه بأن الله تعالى

أوعد مرتكب الكبيرة بالعقاب، فلو لم يعاقب لزم الخلف في وعده والكذب في

خبره، وهما محالان .

ثم قال بعد أجوبة كثيرة: الوجه في الجواب أن الوعد والوعيد مشروطان

بقيود وشروط معلومة من النصوص، فيجوز التخلف بسبب انتفاء بعض تلك

الشروط، وأن الغرض منها إنشاء الترغيب والترهيب .

ثم قال: واعلم أن بعض العلماء ذهب إلى أن الخلف في الوعيد جائز على الله

تعالى، وممن صرح به الواحدي في التفسير الوسيط في قوله تعالى في سورة

النساء ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم (1) الآية، حيث قال: والأصل

في هذا أن الله تعالى يجوز أن يخلف الوعيد، وإن كان لا يجوز أن يخلف الوعد .

وبهذا وردت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وآله، فيما أخبرنا أبو بكر أحمد بن محمد

الاصفهاني، حدثنا زكريا بن يحيى الساجي وأبو جعفر السلمي، قالوا: حدثنا هدبة

ابن خالد، حدثنا سهل بن أبي حزم، حدثنا ابن الميالي، عن أنس بن مالك أن

رسول الله صلى الله عليه وآله قال: من وعده الله على عمله ثوابا فهو منجز له، ومن أوعده على

عمله عقابا فهو بالخيار .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 411

وأخبرنا أبو بكر حدثنا محمد بن عبد الله بن حمزة، حدثنا أحمد بن الخليل

الأصمعي، قال: جاء عمرو بن عبيد إلى أبي عمرو بن العلاء وقال: يا أبا عمرو

يخلف الله ما وعده ؟ قال: لا، قال: أفرأيت من أوعده الله على عمل عقابا أيخلف

الله وعيده فيه ؟ فقال أبو عمرو: من العجمة أتيت يا أبا عثمان، ان الوعد غير

الوعيد، ان العرب لا يعد عيبا ولا خلفا أن يعد شرا ثم لم يفعله، بل يرى ذلك كرما

وفضلا، وإنما الخلف أن يعد خيرا ثم لم يفعله، قال: فأوجدني هذا العرب، قال:

نعم أما سمعت قول الشاعر:

واني إذا أوعدته أو وعدته * لمخلف ايعادي ومنجز موعدي

والذي ذكره أبو عمرو مذهب الكرام ومستحسن عند كل أحد خلف الوعيد،

كما قال السري الموصلي:

إذا وعد السراء أنجز وعده * وان أوعد الضراء فالعفو مانعه

وأحسن يحيى بن معاذ في هذا المعنى حيث قال: الوعد والوعيد حق، فالوعد

حق العباد على الله، إذ من ضمن أنهم إذا فعلوا ذلك أن يعطيهم كذا، فالوفاء حقهم

عليه، ومن أولى بالوفاء من الله ؟ والوعيد حق على العباد، قال: لا تفعلوا كذا

فأعذبكم ففعلوا، فان شاء عفى وان شاء أخذ، لأنه حقه، وهو أولى بالعفو والكرم،

انه غفور رحيم (1) . انتهى لفظه .

وقيل: إن المحققين على خلافه كيف ؟ وهو تبديل للقول وقد قال الله تعالى

ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد (2) .

قلت: إن حمل آيات الوعيد على انشاء التهديد فلا خلف، لأنه حينئذ ليس

خبرا بحسب المعنى، وان حمل على الاخبار كما هو الظاهر، فيمكن أن يقال

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 412

بتخصيص المذنب المغفور عن عمومات الوعيد بالدلائل المنفصلة، ولا خلف

على هذا التقدير أيضا، فلا يلزم تبدل القول . وأما إذا لم نقل بأحد هذين الوجهين،

فيشكل التفصي عن لزوم التبدل والكذب، اللهم الا أن يحمل آيات الوعيد على

استحقاق ما أوعد به لا على وقوعه بالفعل، وفي الآية المذكورة إشارة إلى ذلك

حيث قال: فجزاؤه جهنم خالدا فيها انتهى (1) .

وقال الشيخ المفيد رحمه الله في كتاب العيون والمحاسن: حكى أبو القاسم الكعبي

في كتاب الغرر عن أبي الحسين الخياط، قال: حدثني أبو مجالد، قال: مر أبو

عمرو بن العلاء بعمرو بن عبيد وهو يتكلم في الوعيد، قال: إنما أتيتم من

العجمة، لان العرب لا يرى ترك الوعيد ذما، وإنما يرى ترك الوعد ذما وأنشد:

واني وان أوعدته ووعدته * لأخلف ايعادي وأنجز موعدي

قال: فقال له عمرو: فليس يسمى تارك الايعاد مخلفا ؟ قال: بلى، قال: فتسمى

الله تعالى مخلفا إذا لم يفعل ما أوعد ؟ قال: لا، قال: فقد أبطلت شهادتك .

قال الشيخ رحمه الله: ووجدت أبا القاسم قد اعتمد على هذا الكلام واستحسنه،

ورأيته قد وضعه في أماكن شتى من كتبه واحتج به على أصحابنا الراجئة فيقال

له: إن عمرو بن عبيد ذهب عن موضع الحجة في الشعر، وغالط أبا عمرو بن العلاء،

وجهل موضع المعتمد من كلامه، وذلك أنه إذا كانت العرب والعجم وكل عاقل

يستحسن العفو بعد الوعيد ولا يعلقون بصاحبه ذما، فقد بطل أن يكون العفو من

الله تعالى مع الوعيد قبيحا، لأنه لو جاز أن يكون منه قبيحا ما هو حسن في الشاهد

عند كل عاقل لجاز أن يكون منه حسنا ما هو قبيح في الشاهد عند كل عاقل، وهذا

نقض العدل والمصير إلى قول أهل الجور والجبر، مع أنه إذا كان العفو مستحسنا

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 413

مع الخلف، فهو أولى بأن يكون حسنا مع عدم الخلف .

ونحن إذا قلنا إن الله سبحانه يعفو مع الوعيد، فإنما نقول: إنه توعد بشرط

يخرجه من الخلف في وعيده، لأنه حكيم لا يعبث، وإذا كان حسن العفو في

الشاهد منا يغمر قبح الخلف حتى يسقط الذم عليه، وهو لو حصل في موضع لم

يجزيه العفو، أو ما حصل في معناه من الحسن لكان الذم عليه قائما، ويجعل

وجود الخلف كعدمه في ارتفاع اللوم عليه، فهو في اخراج الشرط المشهور عن

القبح إلى صفة الحسن وايجاب الحمد والشكر لصاحبه أحرى وأولى من

اخراجه الخلف عما كان يستحق عليه من الذم عند حسن العفو وأوضح في باب

البرهان، وهذا بين لمن تدبره .

وشئ آخر وهو أنا لا نطلق على كل تارك للايعاد الوصف بأنه مخلف، لأنه

يجوز أن يكون قد شرط في وعيده شرطا أخرجه به عن الخلف، وان أطلقنا ذلك

في البعض فلإحاطة العلم به، أو عدم الدليل على الشرط، فيحكم على الظاهر، وإن كان

أبو عمرو بن العلاء أطلق القول في الجواب اطلاقا، فإنما أراد به الخصوص

دون العموم، وتكلم على معنى البيت الذي استشهد به، وما رأيت أعجب من

متكلم يقطع على حسن معنى مع مضامته لقبيح ويجعل حسنه مسقطا للذم على

القبيح، ثم يمتنع من حسن ذلك المعنى مع تعريه من ذلك القبيح، ثم يفتخر بهذه

النكتة عند أصحابه، ويستحسن احتجاجه المؤدي إلى هذه المناقضة، ولكن

العصبية ترين القلوب (1) .

أقول: الآيات والأخبار الواردة من الطرفين على ما ذهب إليه أصحابنا من

جواز العفو عن الوعيد قد كفانا مشقة الاستدلال عليه .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 414

1) قال العلامة طاب ثراه في شرحه على التجريد: ذهب جماعة من معتزلة

بغداد إلى أن العفو جائز عقلا، غير جائز سمعا . وذهب البصريون إلى جوازه

سمعا، وهو الحق، واستدل المصنف رحمه الله بوجوه ثلاثة:

الأول: أن العقاب حق الله تعالى، فجاز تركه، والمقدمتان ظاهرتان .

الثاني: أن العقاب ضرر بالمكلف، ولا ضرر في تركه على مستحقه، وكلما كان

كذلك كان تركه حسنا . أما أنه ضرر بالمكلف فضروري . وأما عدم الضرر في تركه

فقطعي، لأنه تعالى غني بذاته عن كل شئ . وأما أن ترك مثل هذا حسن

فضرورية .

وأما السمع، فالآيات الدالة على العفو، كقوله تعالى ان الله لا يغفر أن

يشرك به ويغفر ما دون ذلك فاما أن يكون هذان الحكمان مع التوبة أو بدونها،

والأول باطل، لان الشرك يغفر مع التوبة، فتعين الثاني، وأيضا المعصية مع التوبة

يجب غفرانها، وليس المراد في الآية المعصية التي يجب غفرانها، لان الواجب

لا يعلق بالمشيئة، فما كان يحسن قوله (لمن يشاء) فوجب عود الآية إلى

المعصية لا يجب غفرانها، ولقوله تعالى ان ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم

وعلى يدل على الحال أو الغرض، كما يقال ضربت زيدا على عصيانه أي:

لأجل عصيانه، وهو غير مراد هنا قطعا، فتعين الأول، والله تعالى قد نطق في كتابه

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 415

العزيز بأنه عفو غفور، وأجمع المسلمون عليه، ولا معنى له الا اسقاط العقاب عن

المعاصي (2) .

1) روي عن ابن المسيب قال: لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وآله: لولا

عفو الله وتجاوزه ما هنئ لاحد العيش، ولولا وعيد الله وعقابه لاتكل كل

واحد (3) .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 416

1) ربما تخيل بعضهم منافاته ظاهرا لما ورد من انتفاع الاحياء والأموات

بدعاء الغير لهم، والجواب: أن ذلك المدعو له قد سعى بسبب ايمانه ومرافقته

الأخيار حتى استحق منهم الدعاء .

2) قد تقدم في صدر هذا الكتاب من يخلد في النار، وخلاف علماء الاسلام

فيهم، ودخول الفرق كلها سوى الامامية في كل واحد من هذه الأمور الأربعة .

3) أي: ان تتركوا جانبا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم . وأما تحقيق

معنى الكبائر، فالخلاف فيه مشهور .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 417

قال شيخنا الطبرسي رحمه الله: ذهب أصحابنا إلى أن المعاصي كلها كبائر من حيث

كانت قبائح، لكن بعضها أكبر من بعض، وليس في الذنوب صغيرة، وإنما يكون

صغيرا بالإضافة إلى ما هو أكبر منه، ويستحق العقاب عليه أكثر (2) .

وقد رد عليه جماعة من المتأخرين بأن الخلاف بين أصحابنا موجود، كما هو

ثابت عند العامة .

وسئل ابن عباس عن الكبائر السبع هي ؟ فقال: هي إلى سبعمائة أقرب منها

إلى سبع (3) .

وحيث أن من جملة الأقوال أن الكبيرة ما توعد عليه النار في القرآن أو

السنة تتبعها شيخنا صاحب بحار الأنوار أطال الله بقاؤه، فوجدها مما يقرب من

السبعين، وحدثني بهذا في أصفهان . هذا .

واعلم أن في هذه الآية دلالة ظاهرة على التكفير والاحباط، وقد أنكرهما

الأكثر من أصحابنا المتكلمين، وذهبوا إلى اشتراط الثواب والعقاب بالموافاة،

بمعنى أن الثواب على الايمان مشروط بأن يعلم الله منه أنه يموت على الايمان،

والعقاب على الكفر والفسوق مشروط بأن يعلم الله أنه لا يسلم ولا يتوب، وبذلك

أولوا الآيات الدالة على الاحباط والتكفير . وذهبت المعتزلة إلى القول بالاحباط

والتكفير للآيات الدالة عليها .

قال شارح المقاصد: لا خلاف في أن من آمن بعد الكفر والمعاصي، فهو من

أهل الجنة بمنزلة من لا معصية له، ومن كفر - نعوذ بالله - بعد الايمان والعمل

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 418

الصالح، فهو من أهل النار بمنزلة من لا حسنة له، وإنما الكلام في من آمن وعمل

صالحا وآخر سيئا كما نشاهد من الناس، فعندنا مآله إلى الجنة ولو بعد النار،

واستحقاقه للثواب والعقاب بمقتضى الوعد والوعيد ثابت من غير حبوط .

والمشهور من مذهب المعتزلة أنه من أهل الخلود في النار إذا مات قبل التوبة،

فأشكل عليهم الامر في ايمانه وطاعاته، وما يثبت من استحقاقاته أين طارت ؟

وكيف زالت ؟ فقالوا بحبوط الطاعات، ومالوا إلى أن السيئات يذهبن الحسنات،

حتى ذهب الجمهور منهم إلى أن الكبيرة الواحدة تحبط ثواب جميع العبادات،

وفساده ظاهر .

أما سمعا فللنصوص الدالة على أن الله تعالى لا يضيع أجر من أحسن

عملا وعمل صالحا .

وأما عقلا، فللقطع بأنه لا يحسن من الحليم الكريم ابطال ثواب ايمان العبد

ومواظبته على الطاعات طول العمر بتناول لقمة من الربا، أو جرعة من الخمر .

قالوا: الاحباط مصرح به في التنزيل، كقوله تعالى ولا تجهروا له بالقول

كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم أولئك حبطت أعمالهم ولا

تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى .

قلنا: لا بالمعنى الذي قصدتم، بل بمعنى أن من عمل عملا استحق به الذم،

وكان يمكنه أن يعمله على وجه يستحق به المدح والثواب، يقال: أنه أحبط

عمله، كالصدقة مع المن والأذى وبدونها .

وأما احباط الطاعات بالكفر، بمعنى أنه لا يثاب عليها البتة، فليس من

المتنازع في شئ .

وحين تنبه أبو علي وأبو هاشم لفساد هذا الرأي رجعا من التمادي بعض

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 419

الرجوع، فقالا: ان المعاصي إنما تحبط الطاعات إذا أوردت عليها، وان أوردت

الطاعات أحبطت المعاصي، ثم ليس النظر إلى اعداد الطاعات والمعاصي، بل إلى

مقادير الأوزار والأجور، فرب كبيرة يغلب وزرها أجر طاعات كثيرة، ولا سبيل

إلى ضبط ذلك، بل هو مفوض إلى علم الله تعالى .

ثم افترقا، فزعم أبو علي أن الأقل يسقط، ولا يسقط من الأكثر شيئا، ويكون

سقوط الأقل عقابا إذا كان الساقط ثوابا، وثوابا إذا كان الساقط عقابا، وهذا هو

الاحباط المحض . وقال أبو هاشم: الأقل يسقط ويسقط من الأكثر ما يقابله،

مثلا من له مائة جزء من العقاب واكتسب ألف جزء من الثواب، فإنه يسقط منه

العقاب ومائة جزء من الثواب بمقابلته، ويبقى له تسعمائة جزء من الثواب، وكذا

العكس، وهذا هو القول بالموازنة (1) . انتهى .

والحق كما قيل: إنه لا يمكن انكار سقوط ثواب الايمان بالكفر اللاحق

الذي يموت عليه، وكذا سقوط الكفر بالايمان اللاحق الذي يموت عليه، وقد

ودلت الاخبار على أن كثيرا من المعاصي يوجب سقوط كثير من الطاعات، وان

كثيرا من الطاعات كفارة لكثير من السيئات، وقد دلت الآيات على أن الحسنات

يذهبن السيئات . وأما أن ذلك عام في جميع الطاعات والمعاصي، فغير

معلوم .

وأما أن ذلك على سبيل الاحباط والتكفير بعد ثبوت الثواب والعقاب، أو

على سبيل الاشتراط بأن الثواب في علمه تعالى على ذلك العمل مشروط بعدم

وقوع ذلك الفسق بعده، وان العقاب على تلك المعصية مشروط بعدم وقوع تلك

الطاعة بعدها، فلا يثبت، أولا ثواب وعقاب، فلا يهمنا تحقيق ذلك، بل يرجع

النزاع في الحقيقة إلى اللفظ، لكن الظاهر من كلام المعتزلة وأكثر الامامية أنهم لا

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 420

يعتقدون اسقاط الطاعة شيئا من العقاب، أو المعصية شيئا من الثواب سوى

الاسلام والارتداد والتوبة (1) .

وبالجملة فحاصل ما نذهب إليه في هذا المقام هو القول بالاحباط والتكفير،

بمعنى أن المتأخر عن الطاعات أو المعاصي يسقط من السابق ما يقابله ويبقى

الزائد، لا أن كل متأخر يسقط سابقه لما عرفت من تحقق الظلم فيه، وهذا لا

ينافي من يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره، كما استدل به

من نفاهما، لأنه على ما قلناه يصدق عليه أنه رأى خير ما عمل وشر ما عمل، كما

لا يخفى . وبقي في هذا المقام كلام ذكرناه مع ما عليه في شرحنا على الصحيفة .

1) لا خلاف عندنا في ثبوت الشفاعة لأهل الذنوب من المؤمنين، والآيات

والأخبار المتواترة دالة عليه، وقد خالف فيه طائفة من المسلمين .

قال العلامة طيب الله ثراه: اتفقت العلماء على ثبوت الشفاعة للنبي صلى الله عليه وآله

وقوله تعالى عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا (2) قيل: إنه الشفاعة واختلفوا

فقالت الوعيدية، انها عبارة عن طلب زيادة المنافع للمؤمنين المستحقين للثواب،

وذهبت التفضلية إلى أن الشفاعة للفساق من هذه الأمة في اسقاط عقابهم، وهو

الحق .

وأبطل الفاضل الطوسي الأول بأن الشفاعة لو كانت في زيادة المنافع لا غير،

لكنا شافعين في النبي صلى الله عليه وآله حيث نطلب له من الله تعالى علو الدرجات، والتالي

باطل قطعا، لان الشافع أعلى من المشفوع فيه، فالمقدم مثله، وقد استدلوا

بوجوه:

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 421

الأول: قوله ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع (1) نفى الله تعالى قبول

الشفاعة عن الظالم والفاسق ظالم، والجواب أنه تعالى نفى الشفيع المطاع، ونحن

نقول به، لأنه ليس في الآخرة شفيع يطاع، لان المطاع فوق المطيع، والله فوق كل

موجود، ولا أحد فوقه، ولا يلزم من نفي الشفيع المطاع نفي الشفيع المجاب، سلمنا

لكن لم لا يجوز أن يكون المراد بالظالمين هنا الكفار جمعا بين الأدلة ؟

والثاني: قوله تعالى وما للظالمين من أنصار (2) ولو شفع صلى الله عليه وآله في الفاسق

لكان ناصرا له .

الثالث: قوله تعالى ولا تنفعها شفاعة (3) يوما لا تجزي نفس عن نفس

شيئا (4) فما تنفعهم شفاعة الشافعين (5) والجواب عن هذه الآيات كلها

أنها مختصة بالكفار جمعا بين الأدلة .

الرابع: قوله تعالى ولا يشفعون الا لمن ارتضى (6) نفى شفاعة الملائكة

عن غير المرضي لله، والفاسق غير مرضي . والجواب لا نسلم أن الفاسق غير

مرضي، بل هو مرضي لله تعالى في ايمانه .

وقال المحقق الطوسي رحمه الله: والحق صدق الشفاعة فيهما، أي: لزيادة المنافع

واسقاط المضار، وثبوت الثاني له بقوله عليه السلام ادخرت شفاعتي لأهل الكبائر من

أمتي (7) .

وقال النووي في شرح صحيح مسلم: قال القاضي عياض: مذهب أهل السنة

جواز الشفاعة عقلا، ووجوبها سمعا بصريح الآيات، وبخبر الصادق عليه السلام، وقد

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 422

جاءت الآثار التي بلغت بمجموعها التواتر بصحة الشفاعة في الآخرة لمذنبي

المؤمنين . وأجمع السلف الصالح ومن بعدهم من أهل السنة عليها، ومنعت

الخوارج وبعض المعتزلة منها، وتعلقوا بمذاهبهم في تخليد المذنبين في النار،

واحتجوا بقوله تعالى (فما تنفعهم شفاعة الشافعين) وأمثاله وهي في الكفار .

وأما تأويلهم أحاديث الشفاعة بكونها في زيادة الدرجات فباطل، وألفاظ

الأحاديث في الكتاب وغيره صريحة في بطلان مذهبهم، واخراج من استوجب

النار، لكن الشفاعة خمسة أقسام:

أولها: مختصة بنبينا محمد صلى الله عليه وآله وهو الإزاحة من هول الموقف وتعجيل

الحساب .

الثانية في ادخال قوم الجنة بغير حساب، وهذه أيضا وردت لنبينا صلى الله عليه وآله .

الثالثة الشفاعة لقوم استوجبوا النار، فيشفع فيهم نبينا صلى الله عليه وآله ومن يشاء الله .

الرابعة: في من دخل النار من المؤمنين، وقد جاءت الأحاديث باخراجهم

من النار بشفاعة نبينا صلى الله عليه وآله والملائكة وإخوانهم من المؤمنين، ثم يخرج الله تعالى

كل من قال لا إله إلا الله كما جاء في الحديث لا يبقى فيها الا الكافرون .

الخامسة الشفاعة في زيادة الدرجات في الجنة لأهلها، وهذه لا ينكرها

المعتزلة ولا ينكرون أيضا شفاعة الحشر الأولى (2) انتهى .

قال أمين الاسلام الطبرسي طاب ثراه: لا تشفع الملائكة الا لمن

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 423

ارتضى الله دينه . وقال مجاهد: الا لمن رضي الله عنه . وقيل: انهم أهل شهادة أن

لا إله إلا الله، عن ابن عباس . وقيل: هم المؤمنون المستحقون للثواب، وحقيقته

أنهم لا يشفعون الا لمن ارتضى الله أن يشفع فيه، فيكون في معنى قوله من ذا

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 424

الذي يشفع عنده الا باذنه (1) .

1) هذا مما خص الله به هذه الأمة ليلة المعراج، وذلك لأنه صلى الله عليه وآله لما نظر إلى

أعمار الأمم السابقة مكتوبة في الألواح رآها تزيد على أعمار أمته أضعافا

كثيرة وكانوا بها يتمكنون من ضروب الطاعات، حتى أنه صلى الله عليه وآله رأى ثواب رجل

من بني إسرائيل على عمل واحد، وهو أنه وضع السيف على كتفه ثمانين سنة

يجاهد في سبيل الله، فتمنى أن يكون في أمته من يكتب له مثل ثوابه لكن في

المدة القليلة، فأنزل الله تعالى ليلة القدر خير من ألف شهر يعني ثواب عبادة

ليلة أعني ليلة القدر خير من ثواب ذلك الرجل الذي جاهد ألف شهر . هكذا جاء

في التفسير والرواية (2) .

وبالجملة فلما رأى صلى الله عليه وآله قصر أعمار أمته طلب من الله سبحانه ما ينالون به

ثواب تلك الطاعات الواقعة في الأزمنة المتمادية، فأعطاه الله تعالى أن الحسنة

تكتب بالنية لفعلها، والسيئة لا تكتب الا بعد الفعل، فقال: رب زدني، فأنزل عليه

من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها (3) الآية، فقال: رب زدني، فأنزل كمثل

حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة (4) يعني: ان الحسنة يكتب لها

ثواب سبعمائة، فقال: رب زدني، فأنزل والله يضاعف لمن يشاء (5) فقال: رب

حسبي .

وقوله (كتبت له حسنة) المراد أنه يكتب له ثواب فعل تلك الحسنة لا ثواب

نيتها، كما سيأتي في النيات الفاسدة، وقد صرح به جماعة من محققي المفسرين

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 425

وغيرهم .

1) قال شيخنا الطبرسي عطر الله مرقده: اختلف الناس في أن هذه

الحسنات العشر التي وعدها الله من جاء بالحسنة هل تكون كلها ثوابا أم لا ؟

فقال بعضهم: لا يكون كلها ثوابا، وإنما يكون الثواب منها الواحدة، والتسع الزائدة

يكون تفضلا، ويؤيده قوله وليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله فيكون

على هذا معنى عشر أمثالها في النعيم واللذة لا في عظم المنزلة، ويجوز أن يكون

التفضل مثل الثواب في الكثرة واللذة وان تميز منه الثواب بمقارنة التعظيم

والاجلال اللذين لولاهما لحسن التكليف، وهذا هو الصحيح، وقد قيل أيضا في

ذلك أن المعنى من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها المستحق عليها، والمستحق لا

يعلم مقداره الا الله تعالى، وليس المراد أمثال ذلك في العدد (1) .

أقول: المفهوم من الاخبار أن التسعة مما تفضل الله تعالى بها في مقابلة

الحسنة، وجعلها ثوابا لها، فهي تفضيلية من جهة، واستحقاقية من أخرى، ولا

فائدة مهمة تترتب على الخلاف .

2) ظاهره أن السبعمائة هي الحد الذي ينتهى إليه المضاعفة، وهذا هو أحد

التفسيرين الوارد في قوله تعالى كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة

حبة والله يضاعف لمن يشاء (2) يعني ان هذه المضاعفة من السبع إلى السبعمائة

لمن يشاء، والقول الاخر هو أن المضاعفة تكون فوق السبعمائة، وهو الموافق

لما نقلناه سابقا من قوله صلى الله عليه وآله حسبي .

3) ظاهرة أن الهم بالسيئة مطلقا لا يكتب عليه، وقد تلقاه أكثر الناس على

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 426

اطلاقه، نظرا إلى اطلاق هذا الحديث وما في معناه، لكن التحقيق غير هذا .

وحاصله: أن أعمال القلب على قسمين:

الأول ما كان محله القلب من غير تعلق للجوارح فيه، كالنفاق والغل والحقد

والكفر، واضمار عداوة المؤمنين ونحو ذلك، فهذا مما يترتب عليه العقاب، لأنه

من أفعال الجوارح، أعني القلب .

الثاني: ما كان المطلوب منه اجراؤه على الجوارح الظاهرة، كالزنا ونحوه،

وهذا ينقسم أقساما ثلاثة، ولنكشف عنها بضرب المثال لها .

فنقول: إذا نظر الأجنبي إلى الأجنبية، فيحصل له أولا خطور الميل إليها،

وربما تصور الفجور بها، ثم يقوى ذلك الميل حتى يصير إرادة مطلوبا له ملاحظا

معه مكان الفجور وزمانه وأكثر شرائطه وأسبابه، ثم يقوى تلك الإرادة حتى

تصير عزما قاطعا جازما لا تردد فيه ولا شك يعتريه، فالأول مما لا يترتب

عليه ذنب، ولا يناط به عذاب، لأنه قل ما يخلو الانسان عنه، وهو داخل في

الوساوس والهواجس، وما لا يمكن التحفظ عنه من الخواطر والعقل والنقل

دالان عليه، لقوله صلى الله عليه وآله: تجاوز (1) لهذه الأمة عن نسيانها وما حدثت به أنفسهما .

ولان الاحتراز عنه غير داخل تحت الوسع، ولا يكلف الله نفسا الا وسعها، فهذا

غير داخل تحت التكليف حتى يناط به ذنب .

وأما الثالث، فقد نص جماعة من العلماء، كالغزالي وأمين الاسلام الطبرسي

وشيخنا الشهيد قدس الله روحيهما، على أنه من جملة الذنوب، لأنه من أعمال

القلب، ومما يمكن التحرز منه فصاحبه مكلف فيه .

وعليه قال في مجمع البيان عند قوله تعالى وان تبدوا ما في أنفسكم أو

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 427

تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء (1): لفظ الآية عام

في جميع الأشياء . والقول فيما يخطر بالبال من المعاصي ان الله سبحانه لا يؤاخذ

به، وإنما يؤاخذ بما يعزم الانسان ويعقد قلبه عليه مع امكان التحفظ عنه، فيصير

من أفعال القلب فيجازيه به، كما يجازيه بأفعال الجوارح، وإنما يجازيه جزاء

العزم لا جزاء عين تلك المعصية، لأنه لم يباشرها، وهذا بخلاف العزم على

الطاعة، فان العازم على فعل الطاعة يجازى على عزمه ذلك جزاء تلك الطاعة،

كما ورد في الاخبار أن المنتظر للصلاة في الصلاة ما دام ينتظرها، وهذا من

لطائف نعم الله تعالى على عباده (2) انتهى .

ويرشد إلى المؤاخذة على العزائم والنيات الفاسدة ما ورد عن الصادق عليه السلام

في صحيح الاخبار في معنى قوله صلى الله عليه وآله: نية المؤمن خير من عمله ونية الكافر شر

من عمله، أن السبب فيه هو أن المؤمن يخلد في الجنة بنيته، وهو أن من عزمه أنه

لو بقي على طول مدى الدنيا كان ثابتا على الايمان، وخلد الكافر بالنار بعزمه

ونيته أنه لو بقي في الدنيا ما كانت الدنيا باقية ما كان مقيما الا على الكفر، فبالنية

خلد هؤلاء وهؤلاء (3) .

بقي الكلام في القسم الثاني، أعني: ما يتوسط بين الخاطر والعزم، فقد توقف

في المؤاخذة عليه جماعة من المحققين، وبعضهم جعله كالثالث، وآخرون

كالأول، والقول بالحاقه بالثالث لا يخلو من قوة، الا أن الجزم به مشكل، وظاهر

اطلاق هذا الحديث دافع له .

1) كما ورد: أن الملك المسمى برقيب وهو كاتب الحسنات على يمين

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 428

الانسان يقول لعتيد كاتب السيئات: ارتقبه لعله يتوب، ومن هذا سمي رقيبا .

وهذا الخبر وإن كان مطلقا الا أن في غيره التقييد بأن التأجيل بتسع ساعات، أو

بسبع ساعات، إنما يكون للشباب إلى أن يبلغ عمره أربعين سنة، فإذا تجاوزها

أوحى الله سبحانه إلى ملكيه أن شددا عليه وتحرضا على ضبط ذنوبه، فإنه إنما

ارتكب الذنب بطرا وطغيانا .

ومن ثم ورد في الخبر أن الرجل إذا لازم الذنوب حتى يشرف على الأربعين

أتاه الشيطان كان يوم أول النهار وقال: بأبي وجها لا يفلح أبدا .

وحينئذ فهذا الاطلاق: إما محمول على ذلك التقييد، أو على أن الاخبار من

الطرفين منزلة على اختلاف مراتب الناس وتفاوت قواهم وشدة الشوق إلى ذلك

الذنب وعدمه، كما هو المتعارف الموجود .

1) ذهب الأكثر من أرباب التفسير إلى أن هذه الآية نزلت في المشركين

وحشي وأصحابه، وذلك أنه لما قتل حمزة وكان قد جعل له على قتله أن يعتق،

فلم يوف له بذلك، فلما قدم مكة ندم على صنيعه هو وأصحابه، فكتبوا إلى

رسول الله صلى الله عليه وآله أنا قد ندمنا على الذي على ما صنعناه، وليس يمنعنا عن الاسلام

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 429

الا أنا سمعناك تقول وأنت بمكة والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون

النفس التي حرم الله الا بالحق ولا يزنون، الآيتان، وقد دعونا مع الله إلها آخر

وقتلنا النفس التي حرم الله وزنينا، فلولا هذه لاتبعناك، فنزلت الآية الا من

تاب وآمن وعمل صالحا الآية، فبعث بها رسول الله صلى الله عليه وآله إلى وحشي وأصحابه .

فلما قرأوها كتبوا إليه ان هذا شرط شديد نخاف أن لا نعمل صالحا، فلا

نكون من أهل هذه الآية، فنزل ان الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك

لمن يشاء فبعث بها إليهم فقرأوها، فبعثوا إليه أنا نخاف أن لا نكون من أهل

مشيئته، فنزل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ان

الله يغفر الذنوب جميعا فبعث بها إليهم، فلما قرأوها دخل هو وأصحابه في

الاسلام، ورجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، فقبل منهم .

ثم قال لوحشي: أخبرني كيف قتلت حمزة ؟ فلما أخبره قال: ويحك غيب

وجهك عني، فلحق وحشي بعد ذلك بالشام وكان بها إلى أن مات (1) .

وفي خبر آخر أنه صلى الله عليه وآله سأله أنك لما أخرجت قلب حمزة ما رأيت فيه ؟

قال وحشي: رأيت فيه خرقا ورصعا، فقال: نعم مات له ابن وبنت، فالابن خرق

القلب، والابنة رصعته، ثم قال له: غيب وجهك عني، فقال الوحشي: نبي

وحقود، فقال: لست بحقود ولكني إذا رأيتك تجدد علي حزني بحمزة، فذهب

إلى الشام .

وقال المحققون: هذه الآية أرجى آية في القرآن، لان فيه ادخال ما دون

الشرك من جميع المعاصي في مشيئة الغفران، وقد وقف الله الموحدين بهذه

الآية بين الخوف والرجاء، وبين العدل والفضل، وذلك صفة المؤمن، ولذلك

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 430

قال الصادق عليه السلام: لو وزن رجاء المؤمن وخوفه لاعتدلا (1) . ويؤيده قوله

سبحانه ومن يقنط من رحمة ربه الا الضالون (2) . فلا يأمن مكر الله الا

القوم الخاسرون (3) .

أقول: ينبغي حمل اعتدال الخوف والرجاء على المقاربة بينهما، فلا يقدح فيه

أن يكون أحدهما في بعض الناس أقوى أو أضعف منه في الآخر، ومن ثم جاء في

الرواية أن يحيى بن زكريا كان خوفه أكثر من رجائه، والمسيح بن مريم عليه السلام

كان رجاؤه أكثر من خوفه فكان بهذا له الفضل على يحيى .

1) يعني: ان أهل الأموال في الدنيا هم الفقراء يوم القيامة الا من أعطاه الله

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 431

تعالى مالا ففرقه في اخوانه، وجعل في المواضع التي امر بوضعه فيها يمينا

وشمالا وفي جميع الجهات .

1) لا حاجة إلى هذا التفسير، بل لفظ الحديث ظاهر في خلافه، لان من وفق

للتوبة دخل الجنة، فلا تعجب من دخوله لها بعد التوبة ولا منة عليه، لان دخول

الجنة بعد التوبة: إما واجب على الله تعالى، كما يقوله المعتزلة من وجوب قبول

التوبة عقلا، أو تفضلا كما نقوله نحن، بمعنى أنها واجبة سمعا، وحينئذ فالحديث

على اطلاقه من أن من مات لا يشرك بالله شيئا، ويدخل تحته من قال بخلافة

الثلاثة وتابعهم على ذلك فإنه شرك كما تقدم .

2) إما بأن الله تعالى يتفضل عليه ويغفر له ذنوبه كما قال: (ويغفر ما دون ذلك

لمن يشاء) أو بأنه يخرجه من النار .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 432

1) يجوز أن يكون قوله (لا يعلم) إشارة إلى الجاهل، بمعنى أن الجاهل

بصفاته تعالى من العفو والمغفرة ونحوها غير معذور، لأنها من لوازم التوحيد

وتوابعه، ولا عذر لاحد في الجهل بها .

ويجوز أن يكون المراد منه المعتزلة ونحوهم ممن لا يقول بالعفو، كما

حكيناه عنهم، ويكون معنى قوله (لا يعلم) أنه لا يقول بالعفو ولا يعتقده مذهبا،

فان من هذا شأنه يكون قد أساء الظن بربه، وقد قال عز شأنه الظانين بالله ظن

السوء عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم (1) الآية .

وفي الحديث القدسي: أنا عند ظن عبدي بي ان خيرا فخيرا، وان شرا فشرا .

وقال رجل لأبي ذر: أردت أن أعرف كيف أنا عند الله ؟ فقال له أبو ذر: انظر

كيف الله عندك .

باب التعريف والبيان والحجة والهداية

2) هذا بظاهره مناف لما أجمع عليه المتكلمون قاطبة، ودل عليه كثير من

الاخبار من أن المعرفة كسبية، وانها أول الواجبات . ويمكن التوفيق بوجوه:

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 433

منها: أن العقول لما كانت غير وافية بالوصول إلى المعرفة بكمالها كان منها ما

هو موهبي، كالعلم بوجود الصانع، ونفي الشريك عنه والحاجة إليه، ومنها ما هو

كسبي، ككون الصفات عين الذات، أو زائدة عليها، فيصدق عليها أنها فطرية (1)

وأنها كسبية بالاعتبارين .

ومنها: ما قاله جماعة من المحققين من أن المعرفة ليس لإرادة العبد وأفعاله

فيها تأثير، وإنما حصولها بفيضان من المبدأ على النفوس .

ومنها: ما تقدم في هذا الكتاب، فارجع إليه .

1) يجوز أن يكون معناه موافقا لما تقدم أنه سبحانه احتج على الناس

باتيانهم المعرفة وتعريفهم إياها، أعني: الفطرة الموهبية التي فطر الناس عليها .

ويجوز أن يراد منها ما عرفهم على ألسنة الأنبياء والحجج والعقول التي

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 434

أوجدها فيهم .

1) قالوا: نزلت الآية في قوم ماتوا على الاسلام قبل نزول الفرائض، فقال

المسلمون: يا رسول الله إخواننا الذين ماتوا قبل الفرائض ما منزلتهم ؟ فنزل (وما

كان الله ليضل قوما) الآية .

أي: وما كان الله يحكم بضلالة قوم بعد ما حكم بهدايتهم (حتى يبين لهم ما

يتقون) من الامر بالطاعة والنهي عن المعصية فلا يتقون، فعند ذلك يحكم

بضلالتهم . وقيل: ما كان الله ليعذب قوما، فيضلهم عن الثواب والكرامة وطريق

الجنة بعد إذ هداهم ودعاهم إلى الايمان حتى يبين لهم ما يستحقون به الثواب

والعقاب من الطاعة والمعصية (5) .

2) أي: بين لها الطاعة والمعصية، ورغبها في الأولى ورغبها عن الثانية .

3) أي: بينا الطريق ونصبنا له الأدلة ومكناه من معرفة الحق والباطل

ليختار: إما السعادة، أو الشقاوة . وفي هذا دلالة على أن الله سبحانه قد هدى

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 435

جميع خلقه .

1) قد عرفت أن المعرفة المتعلقة به سبحانه منها ما هو كسبي ومنها ما هو

موهبي، والمراد هنا هو الثاني، وهي فطرة التوحيد التي خلق الناس عليها،

وحينئذ فالمراد من الجهل خلو البال من تلك المعرفة حتى يفيضه الله سبحانه

على ما تقتضيه الحكمة الإلهية .

وبعض أرباب الحديث جوز أن يكون المراد من المعرفة في هذا وما بمعناه

معرفة الأحكام الشرعية والفروعات الفقهية التي لا يمكن الاطلاع عليها الا من

الأنبياء ونوابهم عليهم السلام، وهو بعيد .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 436

وأما الرضا وما بعده، فلعل المراد منه مباديها وأسبابها .

1) أي: ليس المعرفة واجبة عليهم، لأنه من صنع الله لا من صنعهم، وللخلق

على الله أن يعرفهم، لان استكمالهم ونجاتهم فيما لا يكون تحت قدرتهم لازم

على الخالق الحكيم، ويحكم العقل بحسنه وقبح تركه، وبأنه لا يتركه الموصوف

بتلك الصفات البتة، والواجب لله على الخلق ومن حقوقه عليهم .

2) أي: يطيعوا وينقادوا ويعترفوا بأن ما عرفهم حق .

قال المحقق محمد أمين في قوله عليه السلام (إذا عرفهم أن يقبلوا): المراد من

المعرفة اليقين الذي يقع في القلب من الله تعالى، وهو ليس من فعل القلب، كما

تواترت به الاخبار عنهم عليهم السلام، والمراد من القبول الاقرار اللساني والجناني

والأركاني، وهذا الاقرار المركب من أجزاء ثلاثة من أفعالنا الاختيارية، وهو

المراد بالايمان، فإنه تواترت الاخبار عنهم عليهم السلام بأن الايمان كله عمل، وبأنه

مركب من فعل اللسان وفعل القلب وفعل الجوارح . وهذا الحديث وأمثاله دال

على التحسين والتقبيح العقليين .

3) يجوز أن يكون التنوين في (شيئا) للتعميم والإحاطة، أي: لا يعرف شيئا

من الأشياء لا بتبليغ الرسل ولا بالوحي والالهام، فهذا لا يؤاخذ بتركه، لقوله

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 437

سبحانه ما كنا معذبين حتى نبعث رسولا (1) ويجوز كما قيل: أن يكون

للتخصيص والنوعية، أي: لا يعرف شيئا خاصا، فهل يؤاخذ على تركه ؟

والجواب كما تقدم، وذلك أن الارسال في شئ لا يجدي في غيره، ولان فيه

مؤاخذة الغافل عن الشئ من غير أن ينبه عليه وعقابه على تركه قبيح عقلا .

1) أي: الذي حجبه الله عن عباده ولم يطلعهم على علمه من جهة الرسل ولا

من غيرهم، فموضوع عنهم العمل به إن كان من الاحكام، وحينئذ فلا يجوز لهم

أن يتطلبوا له المدارك العقلية، كالقياس والاستنباطات البعيدة والآراء الفاسدة

ليقيموا عليه دليلا، فإنه سبحانه لما لم يطلعهم عليهم دل على أن الأصلح لهم

التوقف في شأنه حتى يرد عليهم الدليل، وإن كان من غير الاحكام، فالموضوع

عنهم هو الكلام فيه، كالكلام بتحقيق ما فوق العرش وما تحت طباق الأرضين

ونحوها مما لم يصل الينا خبره من المعصوم عليه السلام، وإن كان مما ورد النهي فيه،

كمسألة القضاء والقدر والعلم، فمرجوحية الكلام فيه بالطريق الأولى .

قال بعض المحققين: ولعل معرفته تعالى ليس مما حجبه الله تعالى عن عبد

من العباد، وإن كان حجب فبصنعه لا بصنع الله، لأنه سبحانه بينها وأوضحها

بدلائلها، وأعطى ما يكفي للوصول إليها وان لم يقع الوصول، فمن جهتهم لا من

حجبه سبحانه إياهم عنها . نعم المعرفة على وجه الكمال ربما يقال يحجبها عن

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 438

بعض النفوس الناقصة، وفي استناد هذا الحجب إليه سبحانه نظر .

ويحتمل أن يكون المراد بقوله (ما حجب الله عن العباد) ما لم يكن في

وسعهم وحجبوا عنه بما من جانب الله، فيكون موضوعا عنهم، كما في الحديث

التالي لهذا . هذا .

واعلم أن المجتهدين من علمائنا رضوان الله عليهم استدلوا بهذا الخبر على

حجية البراءة الأصلية، وان الأصل في الأشياء الإباحة قبل الاطلاع على النص

الناقل عن حكم البراءة الأصلية . أما الأخباريون منا عطر الله مراقدهم، فحيث

ذهبوا إلى ما ورد في الاخبار من أن لله سبحانه في كل واقعة حكما حتى أرش

الخدش ونصف الجلدة، فان وجد ذلك الحكم عمل بمقتضاه، والا وجب التوقف .

وأجابوا عن هذا الخبر بوجوه:

الأول: حمله على التقية، فان العامة يقولون بحجية الأصل .

الثاني: أنه مخصوص بالوجوب، فإنه لا يجب الاحتياط بمجرد الوجوب،

بخلاف الشك في التحريم فيجب الاحتياط، ولو وجب الاحتياط في المقامين

لزم تكليف ما لا يطاق، إذ كثير من الأشياء يحتمل الوجوب والتحريم .

الثالث: أن وجوب التوقف قد علم بالنصوص، فليس بموضوع عنهم، وأراد

تلك الأخبار التي حكيناها عنهم سابقا، ومن ثم قال في الفوائد المدنية: المراد به

أن ما حجب الله العلم بوجوبه عن العباد يكون وجوبه موضوعا عنهم، وما

حجب الله حرمته فحرمته موضوعة عنهم، وما حجب الله وجوب التوقف فيه

عنهم، فوجوب التوقف موضوع عنهم .

أقول: هذا الحديث أصل من الأصول، ويتفرع عليه من الاحكام ما لا

يحصى، ويوافق الأصل الوارد في أخبار مستفيضة .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 439

منها: ما رواه مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سمعته يقول: كل

شئ هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك، وذلك مثل

الثوب يكون قد اشتريته وهو سرقة، أو المملوك عندك ولعله حر قد باع نفسه، أو

خدع فبيع أو قهرا، وامرأة تحتك وهي أختك أو رضعتك، والأشياء كلها على

هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة (1) .

1) المراد معرفته سبحانه التي عرفها للعباد باظهار الدلائل الواضحة الدالة

عليها مع ما فطرهم عليه من معرفته ونفي الشريك عنه .

2) دليل على أن المراد بالمعرفة ما قلناه، لان ارسال الرسول إنما يتأخر عن

معرفته سبحانه لا عن غيرها، وفيه بيان أن لا تضييق على العباد فيما أمروا به، ثم

عمم نفي التضييق عليهم في جميع ما كلفوا به اتيانا وتركا، وفيه إشارة إلى نفي

الجبر .

وقوله (ولله عليه الحجة) كالدليل على ذلك، فإنه لا حجة على المجبور

لكونه مقدورا .

3) وذلك أنه لما رجع من بعض غزواته ووصل إلى المعرس قرب المدينة

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 440

نام هو وأصحابه، وجعلوا بلالا يحرسهم، فنام هو أيضا حتى طلعت الشمس، فقام

رسول الله صلى الله عليه وآله فقال لبلال: من أنامك ؟ فقال: الذي أنامك .

وهذا الخبر قال به من نفى اسهاءه صلى الله عليه وآله في الصلاة، كما قال به الصدوق رحمه الله،

وفرقوا بين الموردين بأن النوم طبيعي للبشر، وإذا نام الانسان يكون الله سبحانه

هو الغالب عليه بخلاف السهو .

وقد حققنا المقام في شرحنا على التهذيب والاستبصار، وذهبنا إلى ما قاله

الصدوق، وأكثرنا عليه من الأدلة العقلية والنقلية، وأجبنا عما يرد عليه من

الاعتراضات التي أوردها المرتضى عطر الله مرقده، من أرادها وقف عليها من

هناك .

1) نفي لما قاله القدرية المعتزلة، حيث ذهبوا إلى أن الله سبحانه لا مشيئة له

في أفعال العباد، وان العبد يفعل الفعل وان لم يكن على وفق المشيئة .

2) كالدليل على أنه سبحانه له المشيئة في أفعال العباد، وهو إشارة إلى قوله

عز شأنه يضل من يشاء ويهدي من يشاء (1) وتقدم معنى الهداية والضلال

في الدنيا ومعناهما في الآخرة، فلا حاجة إلى تخصيص المصنف رحمه الله، فان الهداية

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 441

في الدنيا منه الألطاف والضلال منعها عمن يستحق المنع .

1) يعني: ان الله سبحانه وضع الجهاد عن هؤلاء المذكورين لعدم قدرتهم

عليه، ومعنى قوله (إذا نصحوا لله ورسوله) اخلاصهم العمل من الغش .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 442

1) أي: اجعلوا دينكم الذي تدينون الله به لمرضاته وطاعته ولا تجعلوه

للناس وليعلموا أنكم عليه، فلا تظاهروا به، فان ما كان لله تعالى يصعد إليه

ويجازى عليه، وما كان للناس فلا يصعد إلى الله ولا يترتب عليه المطلوب .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 443

1) أي: من الجانبين، فتمرض قلوبكم بالميل إلى الغلبة واظهارها، فلا

يخلص لله ولا يجديكم، وتمرض قلوبهم ويزيدهم مرضا على مرض

باللجاج في باطلهم والعناد له، فلا يؤثر فيهم ولا يزيدهم الا ضلالا .

ثم أيد ما ذكره بقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله في عدم ترتب الهداية على مبالغته

ومجادلته انك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وبقوله عليه السلام في

عدم ترتب الهداية على اكراه أحد من عباده (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا

مؤمنين) .

2) تعليل لترك التعرض لهم بالدعوة إلى هذا الامر، وذلك أنهم أخذوا أمرهم

عن الناس واتبعوهم، وظنوا أن فعلهم حجه واتباعهم لازم، وانكم أخذتم أمركم

عن رسول الله صلى الله عليه وآله، ومما ثبت عندكم أنه منه واعتقدتم أن لا حجية الا لما ثبت

عن الله وعن رسوله، ولا يجوز ترك متابعته واتباع غيره في أمر من الأمور، فهم

لا يستمعون إليكم ولا يصدقون ما تحتجون به عليهم، فلا تأثير لقولكم فيهم،

إنما يجدي قولكم في من طيب الله روحه ونكت في قلبه نكتة من نور، ومن

هذا شأنه يصل إلى الحق بطلبه وان لم يدعه إليه . يؤيد ذلك ما نقل عن أبيه أنه

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 444

كان يقول: ان الله إذا كتب على عبد أن يدخل في هذا الامر وأراد وقدر دخوله

فيه كان أسرع إليه من الطير إلى وكره . هذا .

واعلم أن ما تضمنه هذا الخبر وما بعده من نفي التعرض للناس والكف عن

دعوتهم إلى الامر الذي عليه الفرقة الناجية إنما هو لمكان التقية ودفع الضرر

العائد بسبب دعوتهم إلى المؤمنين مع ظن عدم تأثير الدعوة فيهم، كما هو

الغالب والمشاهد في هذه الاعصار، بل المظنون كما قيل كونها من أسباب

رسوخهم في الضلال، خصوصا ممن لا يعتنون بشأن كلامه ولا يقدر هو على

اظهار الحق كما هو .

1) أي: أحدث فيه حدثا من نور وجعل مسامع قلبه مفتوحة تسمع

المعارف .

2) أراد به وقوع مراد العبد وعلمه بأنه يريد السوء (نكت في قلبه نكتة

سوداء) يعني: أنه سبحانه يخلي بينه وبين مراده، فيحدث في قلبه نكتة سوداء من

سوء اختياره، وتصير مسامع قلبه مسدودة .

3) ذكر المفسرون في الآية ضروبا من المعاني:

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 445

الأول: أن معناه من يرد الله أن يهديه إلى الثواب وطريق الجنة يشرح صدره

في الدنيا للاسلام، بأن يثبت عزمه عليه ويزيل عنه الوساوس يفعل ذلك لطفا به،

ولأنه اهتدى بهداية الله، كقوله تعالى والذين اهتدوا زادهم هدى (1) .

(ومن يرد أن يضله) الآية، أي: من أراد اضلاله عن ثوابه وكرامته يجعل

صدره في كفره ضيقا حرجا عقوبة له على تركه الايمان من غير أن يكون

سبحانه مانعا له عن الايمان وسالبا إياه القدرة عليه . وفي الصحيح أنه لما نزلت

هذه الآية سئل رسول الله صلى الله عليه وآله عن شرح الصدر ما هو ؟ فقال: نور يقذفه الله في

قلب المؤمن، فينشرح له صدره وينفسح، قالوا: فهل لذلك من امارة يعرف بها ؟

قال عليه السلام: نعم الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت

قبل نزوله .

الثاني: أن معناه من يرد الله أن يثبته على الهدى يشرح صدره من تلك

الوجوه، جزاء له على ايمانه واهتدائه (ومن يرد أن يضله) أي: يخذله ويخلي

بينه وبين ما يريد لاختياره الكفر وتركه الايمان (يجعل صدره ضيقا حرجا)

بأن يمنعه الألطاف التي ينشرح بها الصدر، لخروجه من قبولها بإقامته على كفره .

وأما وقت ضيق صدر الكافر، فعند ورود الشبه عليه، وعندما يجازى الله

المؤمن على استعمال الأدلة الموصلة إلى الايمان .

الثالث: أن المعنى من يرد الله أن يهديه زيادة الهدى التي وعدها المؤمن

يشرح صدره لتلك الزيادة، لان من حقها أن تزيد المؤمن بصيرة، ومن يرد أن

يضله عن تلك الزيادة، بمعنى يذهبه عنها من حيث أخرج هو نفسه من أن يصح

عليه، يجعل صدره حرجا لمكان فقد تلك الزيادة .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 446

وقوله (كأنما يصعد في السماء) أي: كأنه قد كلف بأن يدعى إلى صعود

السماء إذا دعا إلى الاسلام من ضيق صدره عنه، أو كان قلبه يصعد في السماء

نبوا عن الاسلام والحكم، أو كأنه يتكلف مشقة في ارتقاء صعود (2) .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 447

1) وذلك أن العمل واجب بما علم، ففي زمان العمل يكون العلم بشئ آخر

موضوعا عنه حتى يمضي وقت العمل بذلك العلم، لا أن الباقي من العلوم يكفي

مؤونة تعلمها مطلقا .

2) باب ذكر مجلس الرضا علي بن موسى

الرضا عليه السلام الخ .

في القاموس: الهرابذة قومة بيت النار للهند، أو علماؤهم، أو خدم نار

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 448

المجوس، الواحد كزبرج (1) .

1) في بعض النسخ (ورية العراقي) والمعنى ظاهر، لأنه غلظ الرية

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 449

يكنى به عن البلادة والحماقة، كما يكنى بعكسها عن عكسها . وأما على ما هنا

فقيل: المراد بالرقة سرعة الفهم، أي: ليس في رقة فهمهم غلظة بل هو دقيق .

وقرأها جماعة بتخفيف القاف كعدة، وهي الأرض التي يصيبها المطر في القيض

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 450

فتنبت، فتكون خضراء، فيكون في الكلام استعارة، أي: ليس فيما ينبت في

ساحة ضميره من المعاني غلظة .

1) قد أوضح عليه السلام طريق الجدل والمباحثة مع أهل الأديان، والزمهم بأسهل

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 451

كلام .

كما حكي أن عالما من النصارى ورد إلى البصرة وباحث أهلها، فأسكتها في

هذه المسألة، وهو أنه قال لهم: أتقرون بنبوة عيسى ؟ قالوا: نعم، قال: فأنا وأنتم

مطبقون على نبوته، وأنتم تقولون بنبوة محمد وأنا غير موافق . لكم، فأقيموا الدليل

الذي أعترف به أنا حتى أقبل منكم .

ثم سمع تلك المباحثة رجل مجنون فأتى إليه وقال له: أدل بحجتك، فضحك

النصراني وقال: العقلاء ما أجابوني لعل المجانين يجيبوني، فلما ألقى عليه تلك

الشبهة، قال له المجنون: إن كان عيسى الذي تقول هو الذي بشر بنبوة محمد صلى الله عليه وآله

وقال: يأتي من بعدي نبي اسمه أحمد فنحن نقول بنبوته . وإن كان عيسى الذي

تذكر غير هذا فنحن لم نصدق بنبوته، فأفحم النصراني وخرج من البصرة، وقد

أخزاه الله سبحانه على لسان ذلك الرجل، وهذا منبعه وأصله .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 452

1) بالمعجمة كما في بعض النسخ، أي: أومن به ايمانا شديدا . أو بالمهملة كما

في الباقي، أي: تكلمت كلاما سديدا مسدودا صوابا لا شبهة فيه ولا شك

يعتريه .

2) الفسطاط في لغة الروم: العالم بالطب .

3) بالخاء المعجمة أي: العالم . وربما قرأ بعضهم بالجيم من جبر الكسر أخذا

من مناسبة السقوط، وهو ردي .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 453

1) إشارة إلى قوله تعالى ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 454

ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم ان الله لذو فضل على

الناس (1) .

أي: ألم ينته علمك يا محمد إلى هؤلاء الذين خرجوا من ديارهم وهم قوم

حزقيل (2) فروا من طاعون وقع بأرضهم . وقيل: فروا من الجهاد . ولعله أوفق

بما هنا .

وحزقيل هو ثالث خلفاء بني إسرائيل بعد موسى عليه السلام، وذلك أن القيم بأمر

بني إسرائيل بعد موسى عليه السلام، كان يوشع بن نون، ثم كالوب بن يوحنا، ثم

حزقيل، وهذا هو ذا الكفل، سمي به لأنه كفل سبعين نبيا نجاهم من القتل، فلما فر

قومه من الطاعون بلغوا إلى مكان من الأرض، فقال لهم الله موتوا، أي: أماتهم

كلهم وبقوا ميتين المدة الطويلة، فأحياهم الله تعالى بدعا نبيهم حزقيل (3) .

1) أي: هؤلاء الذين أحياهم حزقيل كانوا من تلك الشباب، ويظهر من هذا

الحديث في روايات أخرى أن احياء من اختارهم بخت النصر لليسع عليه السلام،

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 455

كما أن الاحياء الأول لحزقيل عليه السلام .

1) بالحاء المهملة، أي: يتحرك ويميل يمينا وشمالا من كثرة التعجب،

مأخوذ من التحرك في الأرجوحة . وفي بعض النسخ بالجيمين، أي:

يضطرب، وهو راجع إلى المعنى الأول .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 456

1) قال الله تعالى ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات (1) واختلف

المفسرون في تعديدها، والمشهور أنها: يد موسى، وعصاه، ولسانه، والبحر،

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 457

والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم . وفي الحديث: أن العاشر هو

تحريم الصيد عليهم يوم السبت (1) .

1) هو من أسماء النبي صلى الله عليه وآله في الإنجيل ومعناه أبو القاسم، وقد ضبطه

المحقق جلال الدين الدواني في شرح هياكل النور وهذا لفظه: الفارقليطي

منسوب إلى فارقليطا بالفاء ثم الألف ثم الراد المكسورة ثم القاف ثم اللام ثم الياء

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 458

ثم الطاء ثم الألف المقصورة، لفظ عبراني . ومعناه الفارق بين الحق والباطل،

والمراد به مظهر الولاية التي هي باطن النبوة، وهو سيدنا الخاتم صلى الله عليه وآله انتهى . فما

وقع في بعض النسخ مما يغايره فتصحيف .

1) وهذا الذي جرى على الإنجيل قد جرى مثله على القرآن حذو النعل

بالنعل، وذلك أن القرآن الأول الذي جمع فيه جميع سور القرآن وآياته ما كان

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 459

الا القرآن الذي كتبه أمير المؤمنين عليه السلام، ولما ولي أبو بكر الخلافة جمعه عليه السلام كما

انزل وشده بردائه وأتى به إلى القوم وهم في المسجد، فقال لهم: هذا كتاب ربكم

كما انزل، فقالوا له: لا حاجة لنا فيك ولا فيه، وعندنا من القرآن ما يغنينا عن

قرآنك، فرجع به عليه السلام وقال: لن تروه حتى يظهر ولدي آخر الزمان، فيحمل

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 460

الناس على قراءته والعمل بأحكامه، فعمدوا بعد ذلك إلى القرآنات التي كانت

بخط عثمان وغيره، وجمعوا منها ما يوافق قرآن عثمان هذا الجاري بين الناس

وأحرقوا ما عداه، فوقع فيه من التحريف والزيادة والنقصان ما لا يحتاج إلى

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 461

البيان، وأمرنا بقراءته والعمل بما فيه إلى أن يظهر مولانا صاحب الدار عليه السلام .

1) قيل: أي في الاسفار الملحقة بالتوراة، وشعيا مؤخر عن موسى عليهما السلام ولذا

قال فيما تقول أنت وأصحابك، أي: تدعون أنها حق وملحقة بالتوراة .

2) اجراء الخيل على الماء من جملة معجزاته صلى الله عليه وآله، كما روي عن مولانا

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 462

أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وآله إلى حنين، فإذا نحن بواد

يشخب، فقدرناه، فإذا هو أربع عشر قامة، فقالوا: يا رسول الله العدو من ورائنا

والوادي أمامنا، كما قال أصحاب موسى عليه السلام (انا لمدركون) فنزل رسول

الله صلى الله عليه وآله، ثم قال: اللهم انك جعلت لكل مرسل دلالة فأرني قدرتك وركب

صلوات الله عليه، فعبرت الخيل لا تندى حوافرها، والإبل لا تندى أخفافها،

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 463

فرجعنا فكان فتحا .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 465

1) أي: لا في مادة قديمة، كما زعمته الفلاسفة .

2) يعني: لم يمثل له ممثل مثالا حتى يكون قد صنع على حذو ذلك المثال، كما هو

شأن المخلوقين في صنعتهم . ويجوز أن يكون الضمير في (ومثله) راجع إلى الله

تعالى، يعني أن يكون تعالى مثل مخلوقه له، أي: لأجل ذلك الشئ ومحاذاته .

3) أي: لا يسع الخلق الحاجة ولا يدفعها، لان كل من خلق لو كان على وجه

الاحتياج لكان كما قيل: يحتاج لحفظه وتربيته ورزقه ودفع الشرور عنه إلى

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 466

أضعافه من الخلق . وهكذا .

1) الظاهر أن المراد بالكائن الصانع، وحاصل السؤال هل هو معلوم عند

نفسه بصورة حاصلة في ذاته، ومن ثم قال: في نفسه .

ومحصل الجواب أن الصورة الحاصلة إنما تكون لشئ يشترك مع غيره في

شئ من الذاتيات ويخالفه في غيرها، فيحتاج إلى الصورة الحاصلة لتعينه

وامتيازه عما يشاركه . فأما البسيط المطلق، فتشخصه من ذاته ولا يكون مشاركا

لغيره في شئ من الذاتيات، فلا يحتاج لمعرفة نفسه إلى حصول صورة، بل هو

حاضر بذاته عند ذاته .

فقوله (ولم يكن هناك شئ يخالف) أي: شئ يخالف في بعض الذاتيات،

فتدعو الحاجة إلى نفي ذلك الشئ عن نفسه بتحديد ما علم من ذاته بجنس

وفصل وتشخص، وقد قيل في هذه الفقرة معان أخرى، وذلك أنها مجملة مشكلة

على الافهام قال فيها كل بما أدى إليه فهمه .

2) المراد من الضمير الصورة الذهنية، أي: أنه تعالى يعلم معلوماته بصورة

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 467

ذهنية حصلت في الذهن أم بغيرها، فأجاب عليه السلام أن العلم لو لم يكن الا بحصول

تلك الصورة، فالعلم بالمعلوم لا بد أن يكون موقوفا على العلم بالصورة التي هي

آلة ملاحظة المعلوم وتحديدها وهي تصويرها .

قال عمران لا بد من ذلك، فأجابه عليه السلام بأنه لا بد لك أن تعرف تلك

الصورة وحقيقتها، فبين لنا حقيقتها، فلما اعترف بالعجز عن الجواب الزم عليه

الايراد بوجه آخر، وهو أنه على قولك أنه لا بد لكل معلوم أن يعرف بصورة،

فالصورة أيضا لابد وأن تعرف بصورة أخرى، وهكذا إلى ما لا نهاية له .

فان قلت: ان الصورة تعرف بنفسها بالعلم الحضوري من غير حاجة إلى

صورة أخرى، فلم لا يجوز أن يكون علمه تعالى بأصل الأشياء على وجه لا

يحتاج إلى صورة وضمير ؟

ثم لما أفسد عليه السلام الأصل الذي هو مبنى كلام السائل أقام البرهان على

امتناع حلول الصور فيه واتصافه بالضمير لمنافاته لوحدته الحقيقية، واستلزامه

التجزي والتبعض وكونه متصفا بالصفات الزائدة، وكل ذلك ينافي وجوب

الوجود، فليس فيه تعالى عند ايجاد المخلوقين سوى التأثير من غير عمل وروية

وتفكر وتصوير وخطور وذهاب الفكر إلى المذاهب وسائر ما يكون في الناقصين

العاجزين من الممكنات .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 468

1) قال بعض المحققين: لعل الأول ما يكون ملموسا وموزونا ومنظورا إليه .

والثاني ما لا يكون له تلك الأوصاف كالروح، وإنما عبر عنه بما لا ذوق له

اكتفاء ببعض صفاته . وفي بعض النسخ (وما لا لون له) وهو الروح وهو أظهر

للمقابلة .

والثالث ما يكون منظورا إليه ولا يكون ملموسا ولا محسوسا ولا موزونا ولا

لون له، كالهواء أو السماء، فالمراد بكونه منظورا إليه أنه يظهر للنظر بإثارة، أو قد

يرى ولا لون له بالذات، أو يراد به الجن والملك وأشباههما . والظاهر أن قوله

(ولا لون) من زيادات النساخ .

والرابع التقدير ويدخل فيه الصور والطول والعرض .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 469

والخامس الاعراض القارة المدركة بالحواس، كاللون والضوء، وهو الذي

عبر عنه بالاعراض .

والسادس الاعراض غير القارة، كالأعمال والحركات التي تذهب هي وتبقى

آثارها . ويمكن تصوير التقسيم بوجوه أخرى تركناها لمن تفكر فيه .

1) يجوز أن يراد آثار المشيئة والصفات، فإننا عرفنا الصانع بها، ويجوز أن

يكون المعنى أن كلما نتعقل من صفاته تعالى وندركه بأذهاننا فهو مخلوق

مصنوع، والله تعالى غيره، وقد سبق تحقيقه .

2) أي: لا يمكنني أن أبين لك من ذات الصانع وصفاته الا ما يرجع إلى

توحيده تعالى وتنزيهه عما سواه، أو لا يلزمني لك في هذا الوقت الا بيان

توحيده لنرجع عما أنت عليه من ضلالة الشرك .

3) حاصله: أن السكوت عدم ملكة، فلا يقال للسراج انه ساكت حيث لا

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 470

ينطق، إذ ليس من شأنه النطق . وكذلك الله سبحانه لا يوصف بالنطق بالمعنى

الذي فهمت، وهو مزاولته بلسان وشفة، أو بغير ذلك مما يوجب التغيير في ذاته،

بل كلامه هو ايجاده للأصوات والحروف في الأجسام .

ثم لما كان هذا أيضا موهما لنوع تغير في ذاته تعالى، بأن يتوهم أن ايجاده

بمنزلة الجوارح والآلات والاعمال أزال ذلك التوهم، بأن الألفاظ كثيرا ما تطلق

في بعض الموارد مقارنا لبعض الأشياء، فيتوهم اشتراط تلك المقارنات في

استعمالها وليس كذلك، والخلق والايجاد كذلك، فإنهما يطلقان في المخلوقين

غالبا مقارنا لمزاولتهم الاعمال وتحريكهم الجوارح، واستعانتهم بالآلات،

فيتوهم الجهال أنهما لا يطلقان الا بذلك، فبين عليه السلام ذلك بالتشبيه بالسراج أيضا،

فإنه يقال: إنه يضئ وليس معنى اضاءته أنه يفعل فعلا يزاول فيه الاعمال

والجوارح والآلات، أو أنه يحدث له عند ذلك إرادة وخطور بال، كما يكون في

ضرب زيد وقتل عمرو، بل ليس الا استتباع ضوئه لاستضاءتنا، فكذلك الصانع

تعالى ليس ايجاده بما يوجب تغييرا في ذاته من حدوث أمر فيه، أو مزاولة عمل،

أو روية، أو تفكر، أو استعمال جارحة أو آلة، كما يكون في المخلوقين غالبا .

وليس الغرض التشبيه الكامل في ذلك حتى يلزم عدم كون ايجاده تعالى على

وجه الإرادة والاختيار، بل فيما ذكرناه من الوجوه .

فقوله عليه السلام (ولا يقال إن السراج ليضئ فيما يريد أن يفعل بنا) النفي فيه

راجع إلى القيد، أي: لا يطلق إضاءة السراج على فعل يريده أن يفعل بنا، لان

الضوء من السراج ليس بفعل منه ولا كون واحداث، وإنما هو السراج حسب

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 471

ليس معه إرادة ولا فعل ولا مزاولة عمل، فلما استضاءنا به وحصل الضوء فينا من

قبله نسبنا الإضاءة إليه وقلنا قد أضاء، فلا يشترط في استعمال تلك الأفعال الا

الاستتباع والسببية من غير اشتراط شئ آخر والا ظهر بدل فلا استضاء لنا قوله

فلما استضاءنا به، كما لا يخفى، هكذا قرره شيخنا المعاصر أبقاه الله تعالى (1) .

الا أن المستفاد من ظاهر العبارة معنى آخر، وهو أن يكون قوله (ولا يقال إن

السراج) من تمام الكلام الأول يشتمل على تشبيه آخر بالسراج من باب

التشبيه الأول، وحاصله: ان السراج لا يقال إنه أراد بنا الإضاءة، وذلك أنه لا

يتصف بإرادة عدمها، إذ لا فعل له ولا شعور ولا إرادة، والشئ إنما يتصف بشئ

إذا جاز اتصافه بنقيض ذلك الشئ، ولهذا لا يقال للجدار انه أعمى . وتقرير باقي

الكلام كما تقدم .

1) حاصله: أن الفاعل بسبب فعله لا يدخله تغيير، وإنما يدخله التغيير من

فعل غيره فيه، وذلك كالنار فإنها لا تحدث في نفسها تغييرا بسبب ما يوجد منها

من الافعال والتأثيرات في غيرها . نعم تنفعل عن الغير كما إذا صب عليها ماء،

وكذلك الحرارة لا تحرق نفسها عند احراقها غيرها، وكذلك البصر إذا أثر في

غيره بانطباع تلك الصور فيه لا يؤثر في نفسه، بأن تنطبع الحدقة في نفسها،

وإنما تنطبع في بصر آخر يغايرها، فكذلك تعالى شأنه عن التشبيه لا يدخل

عليه تغيير في ذاته بايجاد الممكنات، وإنما يتأثر من غيره، وليس هناك غير

يؤثر فيه، لأنه مبدأ الأغيار وعلة العلل .

وبالجملة فالفاعل لا يتأثر من فعل نفسه . وأما الانسان إذا ضرب عضوا منه

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 472

على عضو آخر، فيتأثر فليس من ذلك، لان أحد العضوين مؤثر والآخر

متأثرا، ويقال: الانسان أثر في نفسه بتوسط غيره وهو عضوه، والله تعالى واحد

حقيقي بسيط بحت لا يتأتى فيه ذلك، فلا يعقل تغيره بفعل نفسه بوجه من

الوجوه .

1) قد توهم عمران أن الخلق والتأثير لا يكون الا بكون المؤثر في الأثر أو

بالعكس، فأجاب عليه السلام بذكر بعض الشرائط والعلل الناقصة على التنظير، فمثل

بالمرآة حيث يشترط انطباع صورة البصر في المرآة وانطباع صورة المرآة في

البصر، بوجود ضوء قائم بالهواء المتوسط بينهما، فالضوء علة ناقصة لتأثر

البصر والمرآة مع عدم حصوله في شئ منهما، وعدم حصول شئ منهما فيه، فلم

لا يجوز تأثير الصانع في العالم مع عدم حصول العالم فيه ولا حصوله في

العالم ؟

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 473

1) بالحاء المهملة المشددة المفتوحة، أي: هل يتأتى توحيده مع تعقل كنه

حقيقته ؟ أو إنما يوحد مع تعقله بوجه من وجوهه وبوصف من أوصافه . وفي

بعض النسخ (يوجد) بالجيم من الوجدان، أي: يعرف، ولعله الأظهر .

فأجاب عليه السلام بأنه إنما يعرف بالوجوه التي هي محدثة في أذهاننا، فهي

مغايرة لحقيقته تعالى، وما ذكره أولا لبيان أنه قديم أزلي، والقديم يخالف

المحدثات في الحقيقة، وكل شئ غيره فهو حادث .

2) تفصيل للثاني، أي ليس معه غيره لا معلوم ولا مجهول، والمراد بالمحكم

ما يعرف حقيقته، وبالمتشابه ضده . وقيل: إنه إشارة إلى نفي قول من قال بقدم

القرآن، فان المحكم والمتشابه يطلقان على آياته (1) .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 474

1) فيه دلالة على أن ارادته تعالى من صفات الفعل وهي حادثة، لأنها عين

الابداع . وقد تقدم وجه الجمع بين ما دلت عليه الأخبار من حدوثها وما قاله

المتكلمون من قدمها، وذلك أنها بهذا المعنى حادثة، وبمعنى العلم بالأصلح

قديمة .

2) فيه دلالة على أن أول مبدعاته الحروف، وقد تقدم أن الأول غير هذا .

ويمكن أن يقال: إنه أول بالنظر إلى اللغات والكلام والأسماء والصفات، لأنها

مركبة من الحروف .

3) أي: أنه تعالى خلق الحروف المفردة التي ليس لها موضوع غير أنفسها،

ولم يجعل لها وضعا ولا معنى تنتهي إليه ويوجد ويعرف بذلك الحرف، وحينئذ

فما تقدم في أبواب هذا الكتاب من الإشارة إلى معاني الحروف لا يكون من باب

الوضع لها، بل يكون من قبيل ما دل عليه بالالتزام والإشارة . وبالجملة يكون

من باب المعنى الشرعي لا من المعنى الوضعي اللغوي . وقيل: المراد بالمعنى

الصفة، أي: أنه سبحانه لما ابتدعها وخلقها لم يكن موصوفة بصفة تنتهي إليها

وتوجد، لأنه لم يكن هناك غير الابداع والحروف (1) .

4) المراد بالنور هنا الوجود، لان به تظهر الأشياء، كما تظهر الأشياء

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 475

المحسوسات بالنور، فالابداع هو الايجاد، وبالايجاد تصير الأشياء موجودة،

فالابداع هو التأثير، والحروف هي الأثر موجودة بذلك التأثير . وبعبارة أخرى:

الحروف محل التأثير، وعبر عنه بالمفعول، والفعل والأثر هو الوجود .

1) هكذا وجد في النسخ، وهو جمع حجة . يعني: ان الاختلاف لأسباب

وعلل أوجبته كتعدد لهجات الخلائق واختلاف منطقهم .

قيل: والأظهر أنه عليه السلام كان قد ذكر تلك الحروف فاشتبه على الرواة

وصحفوها، فالخمسة: الكاف الفارسية في قولهم (بكو) بمعنى تكلم، والجيم

الفارسية المنقوطة بثلاث نقاط، كما في قولهم (چه مى كوئى) والزاي الفارسية

المنقوطة بثلاث نقاط، كما يقولون (ژاله) والباء المنقوطة بثلاث نقاط أيضا، كما

في (پياله وپياده) والتاء الهندية (1) .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 476

1) ظاهره أن كل معنى تدل عليه الحروف بعد تأليفها يكون ذلك المعنى

حادثا . وأما الأسماء الدالة على الرب تعالى، فإنما وضعت لمعان محدثة ذهنية،

وهي دالة عليه تعالى ولم توضع تلك الحروف أولا لكنه حقيقته المقدسة

ولا لكنه صفاته الحقيقية، لأنها إنما وضعت لمعرفة الخلق ودعائهم بها، ولا

يتمكنون من الوصول إلى كنه الذات والصفات، ولذا قال لم يك الا لمعنى لم

يكن قبل ذلك شيئا، وان أمكن أن يكون المراد بها غير أسماء الله تعالى .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 477

1) يعني: أن صفات الله تعالى وأسماءه كلها دالة على وجوده وكماله لا على

ما يشتمل على النقص كالإحاطة .

2) بيان للمنفي، أي: كان يدل على الحدود التي هي التربيع والتثليث

والتسديس .

وقيل: معناه أن الإحاطة تدل على أن المحاط مشتمل على الحدود (1) .

3) أي: على نحو ما يعرفون أنفسهم، أو بسبب معرفة أنفسهم .

4) أي: لأنه ضروري، أي: أنه لا يحد بالحدود ولا يوصف بها .

وقيل: معناه أنه تعالى لا يعرف بالتحديد، لان الحدود لا تحل فيه، ولا حد

لغير محدود بالضرورة، فلو عرف بالحدود يلزم كونه محدودا بها، ولعل

غرضه عليه السلام تنزيهه تعالى عن صفات تلك المعرفات، بأن الحروف وان دلت عليه

لكن ليس فيه صفاتها . والمعاني الذهنية وان دلتنا عليه، لكن ليس فيه حدودها

ولوازمها (2) .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 478

1) يعني: أنه لا بد للناس أن ينتقلوا من أسمائه وصفاته التي يعرفونها إلى ذاته

تعالى بوجه من الوجوه حتى يكون الذات هي المعبودة، فالأسماء والصفات وان

كانت مغايرة لذاته تعالى الا أنها آلة لملاحظة الذات، ووسيلة إلى الانتقال إليها .

2) محل العلم من القوى والمشاعر . قيل: ويمكن قراءته على صيغة اسم

الفاعل (2) .

3) الضمير في (لمعناه) راجع إلى الله تعالى، فيكون بدل من الضمير في

يدركه . وقيل: إنه راجع إلى الخلق، أي: لقصد الخلق إليه (3) .

4) من الوجدان، أي: معروف بحس البصر مشاهد فيه، واستدل على ذلك

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 479

بأنه لو كان ادراكه بالبصر نقصا له كما هو الواقع لم يدرك في الآخرة أيضا به،

ولو كان كمالا له لكان في الدنيا أيضا مبصرا به .

1) أي: المدركة لغيرهم .

2) يعني: أن الاستدلال على أحوال الآخرة لا يكون الا بما في الدنيا وما

يكون فيها .

وقيل: المراد بقوله (ما هناك) صفاته تعالى و (بما هاهنا) الوحي والرسل،

يعني: أنه لا يمكن الاستبداد في معرفته تعالى بالعقل، بل لا بد من الرجوع

إلى السفراء بينه وبين الخلق وما بعد هذا الكلام يؤيد هذا المعنى (1) .

3) قد تقدم أن الابداع هو الإرادة، ويجوز ارادتها هنا الا أن إرادة الايجاد هو

الأظهر .

4) قال بعض الاعلام: أي نسبة وإضافة بين العلة والمعلول، فكأنه ساكن

فيهما، أو عرض قائم بمحل لا يمكنه مفارقته (2) . ويجوز أن يكون معناه أنه غير

موجود في الخارج .

5) أي: أنه أمر اعتباري إضافي ينتزعه العقل ولا يشار إليه في الخارج، وإنما

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 480

قلنا إنه خلق لأن هذه النسبة والتأثير غيره تعالى، وهو محدث، وكل محدث

معلول، فلا يتوهم أنه خلق يحتاج إلى تأثير آخر، وهكذا حتى يتسلسل، بل ليس

في الحقيقة الا الرب ومخلوقه الذي أوجده، والايجاد معنى صار سببا لوجود

المعلول بتأثيره تعالى، فكل شئ خلقه الله لم يعد ولم يتجاوز أن يصدق عليه أن

الله خلقه، كما تقدم في قوله عليه السلام (خلق الله المشيئة بنفسها ثم خلق الأشياء

بالمشيئة) .

1) والابداع مما يقع عليه الحدود ويعرف بالتعريفات الكاشفة عنه فيكون

مخلوقا .

2) قال بعض الاعلام: لعله إشارة إلى الخلق الأول، وهو الحروف، ففي

خلق الحروف يخلق شيئان: حرف وتحديد وتقدير قائم به، وليس شئ من

الحرف والعرض القائم به ذا ألوان ووزن وذوق (وجعل أحدهما يدرك بالآخر)

أي: الحرف يدرك بالحدود القائمة به، فيعرف بأنه شئ محدود، أو المعنى أنه لو

لم يكن شيئا محدودا لم يكن مدركا بالحواس، وجعل الحرف وحده كليهما

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 481

مدركين بنفسهما لا بآثارهما، فان الأمور المحسوسة إنما تدرك بأنفسها لا

بآثارها (1) انتهى .

ولا يخفى ما فيه من البعد وعدم دلالة اللفظ عليه، بل الظاهر أنه: إما إشارة

إلى ما ورد في الاخبار من أن التقدير والمقدرات الواقع عليها التقدير داخلة في

عالم التقدير لا في عالم التكوين، والذي هو داخل تحت عقولة التكوين هو

القضاء والامضاء، فيكون التقدير عبارة عن إرادة الخلق والمشيئة الواردة عليه،

وتلك الإرادة من صفات الافعال الحادثة، وكل حادث مخلوق، الا أن الإرادة

حادثة بنفسها كما مر، لا بإرادة أخرى، والا لزم التسلسل .

وأما المقدر، فهو عبارة عن نقش الصور والحدود والتشكلات في عالم

التقدير: إما في الألواح السماوية أو غيرها، كما تحققته من التشبيه بمن أراد بناء

الدار ونحوها . وإما أن يكون إشارة إلى ما نص عليه جماعة من الحكماء

والمتكلمين من أن الجواهر والاعراض المقدرة بالنسبة إلى حقيقتها لا توصف

بلون ولا ذوق ولا وزن ولا طول ولا عرض، وإنما تلك لوازمها بالنظر إلى

وجودها الخارجي .

ألا ترى أنك تعرف الانسان بأنه حيوان ناطق، فهذه الحقيقة لا تتصف بالنظر

إلى ذاتها بشئ من الأمور المذكورة . نعم إذا وجد الانسان في الخارج قارنه

التشكل والتحديد والذوق والوزن ونحو ذلك، فيكون قوله (خلقين اثنين) عبارة

عن جميع المخلوقات لا الحروف وحدها .

1) لان التقدير والمقدر من الأمور الإضافية التي لا يحتاج في التعريف إلى

أمر ثالث .

2) أما المقدر، فمدرك بالتقدير . وأما التقدير، فمدرك بنفسه كما تقدم .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 482

1) يعني: أنه تعالى لم يخلق شيئا يشابهه في الفردانية وعدم التركيب،

ويكون قائما بنفسه لأجل يستدل من ذلك الخلق الذي هو مركب، وأقله التركيب

العقلي على أنه مصنوع، وان صانعه جل شأنه مغاير له .

2) في الصحاح: ارتبك الرجل في الامر أي: نشب فيه ولم يكد يتخلص

منه (1) .

3) أي: المتباعد عنه عقله من التفاوت بمعنى التباعد، أو بمعنى الاختلاف،

أي: لا يثبت عقله على أمر ثابت، بل يكون دائما في الشك والتردد (2) .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 486

باب ذكر مجلس الرضا عليه السلام مع سليمان المروزي

1) قد عرفت سابقا في تحقيق معنى البداء أن بعضهم خصه بالأمور التكوينية

في مقابلة النسخ الواقع في الاحكام التشريعية . والمصنف طاب ثراه أطلقه على ما

يعم الموردين، وهو الأولى . وقد استشهد عليه السلام على حقيته بآيات شاملة

للموردين، وبعضها مخصوص بواحد من الموضعين، والتطبيق غير خفي .

وأما البداء بالمعنى الذي أنكره اليهود، فهو احداث أمر لم يكن وايجاد شئ

بعد عدمه، فإنهم قالوا: خلق الله سبحانه جميع الأشياء في الأزل وفرغ من الامر،

ولذا قالوا: يد الله مغلولة . وهو راجع إلى البداء بالمعنى المشهور .

2) أي: ابتدأ خلق آدم الذي هو أول البشر من طين كان ترابا، ثم صار طينا،

ثم صلصالا، ثم حيوانا .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 487

1) نزلت الآية في هلال بن أمية، ومرارة بن الربيع، وكعب بن مالك، من

الأوس والخزرج، وكان كعب بن مالك رجل صدق غير مطعون عليه، وإنما تخلف

عن الغزو توانيا عن الاستعداد حتى فاته المسير وانصرف رسول الله صلى الله عليه وآله، فقال:

والله مالي من عذر، ولم يعتذر إليه بالكذب، فقال صلى الله عليه وآله: صدقت قم حتى يقضي الله

فيك أمره، وجاء الآخران فقالا مثل ذلك وصدقا، فنهى رسول الله صلى الله عليه وآله عن

مكالمتهم، وأمر نساءهم باعتزالهم، حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت،

فأقاموا على ذلك خمسين ليلة، وبنى كعب خيمة على سلع يكون فيها وحده، ثم

نزلت التوبة عليهم بعد الخمسين في الليل، وهي قوله (وعلى الثلاثة الذين

خلفوا) الآية . فأصبح المسلمون يبشرونهم، وتصدق كعب بثلث ماله شكرا لله

على توبته .

والمعنى أن هؤلاء موقوفون لما يرد من أمر الله تعالى فيهم: (إما يعذبهم واما

يتوب عليهم) والله سبحانه عالم بما يصير إليه أمرهم، ولكنه سبحانه خاطب

العباد بما عندهم . وهذا يدل على صحة مذهبنا في جواز العفو عن العصاة، لأنه

سبحانه بين أن قوما من العصاة يكون أمرهم إلى الله ان شاء عذبهم، وان شاء قبل

توبتهم، فعفى عنهم . ويدل أيضا على أن قبول التوبة تفضل من الله سبحانه، لأنه لو

كان واجبا لما جاز تعليقه بالمشيئة، والله عليم بما يؤول إليه حالهم (2) .

وأما انطباق الآيات السابقة على البداء، سيما ما ورد واشتهر في الاخبار من

أنه عبارة عن تقدير الأشياء واثباتها في الألواح السماوية ومحوها وتغييرها

بحسب الأوقات والمصالح، فلا يخفى ما فيه من الخفاء، وان حمل الخلق فيها

على معنى التقدير . نعم يمكن أن يقال: إنه لما كان من معاني البداء الايجاد بعد

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 488

العدم، استطرد عليه السلام ذكر جميع معانيه الواردة في الآيات، وإن كان سليمان لا

ينكر بعضها .

1) أي: ما يمتد عمر أحد إلى حين (ولا ينقص من عمره) بالذنوب

والمعاصي، الا أنه مكتوب في اللوح المحفوظ مضبوط في الألواح .

2) أي: فأعرض عنهم يا محمد فقد بلغت وأنذرت، فما أنت بملوم في كفرهم،

بل اللائمة عليهم حيث لا يقبلون قولك .

قال المفسرون: لما نزلت هذه الآية حزن رسول الله صلى الله عليه وآله والمؤمنون، وظنوا

أن الوحي قد انقطع وان العذاب قد حل، حتى نزلت الآية الثانية، ومعناها

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 489

عض بالقرآن من آمن من قومك فان الذكرى تنفعهم .

1) يعني: أنه سبحانه يوقفهم في مقام الخوف والرجاء، ولا يظهر للخلق

القطع على حال من حاليهما، ثم يقطع عليهم: إما بالعفو، أو بالعذاب، وهذا هو معنى

البداء، والآية السابقة شاهد عليه .

2) يعني: أنه سبحانه ينزل الملائكة في ليلة القدر إلى امام الزمان عليه السلام بما

يكون من الأمور المحتومة تلك السنة، وهو أحد أنواع علومهم عليهم السلام، وقد حققنا

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 490

أن وجه الجمع بين الأخبار الواردة في تنوع علومهم عليهم السلام هو أن الجفر

والجامعة ونحوهما مما كتب فيهما ما كان وما يكون إلى يوم القيامة، الا أنه غير

موزع على الأوقات والأعوام، وفي ليلة القدر يفرز منه العلوم والأمور الواقعة

تلك السنة .

وأما علوم الأسبوع فكما قال عليه السلام: لولا أن أرواحنا تزور العرش في كل

ليلة جمعة لنفد ما عندنا من العلم . وأما الذي يحتاجون إليه في الساعات، فمن

تحديث الملائكة، ولا نقول هذا التفصيل في جميع مراتب علومهم عليهم السلام، بل في

بعض منها جمعا بين الاخبار .

1) ان قلت: هذا بظاهره ينافي قول أمير المؤمنين عليه السلام: لولا آية في كتاب

الله لأخبرتكم بما كان وما يكون إلى يوم القيامة، وهي قوله تعالى (يمحو الله ما

يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب) (1) .

قلت: في كثير من الاخبار دلالة على أن ما يعلمه الله سبحانه ملائكته

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 491

ورسله على قسمين: منه ما يكون على طريق الجزم، فهذا لا يدخله البداء، ومنه ما

يكون لله فيه المشيئة، وهذا لا يجوز لهم الاخبار عنه الا كما أمروا من التعليق بأن

يقولوا ولله فيه المشيئة، وكلامه عليه السلام راجع إلى هذا .

1) يعني: يجعلون الإرادة من صفات الذات القديمة، كالحياة والسمع

والبصر، لا من صفات الافعال الحادثة التي يتصف بها وبنقيضها .

2) معناه: أن الإرادة علمه لحدوث الأشياء، وعلة الحادث حادثة، فلو كانت

الإرادة قديمة وهي علة للمراد المخلوق لكان المعلول قديما، والا لزم تخلف

المعلول عن العلة التامة، وهو غير جائز على المشهور، وقد جوزه من المعاصرين

الفاضل القزويني رحمه الله .

ولما تباحث في هذه المسألة مع أستاذنا الخوانساري تغمده الله برحمته،

قال له: أدل بحجتك على جواز التخلف، فرتب قياسا من الشكل الأول واستنتج

منه مطلوبه، فقال له الأستاذ: نحن نسلم المقدمتين ونمنع النتيجة، ولا يلزمنا الا

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 492

تخلف المعلول عن العلة التامة، وهو جائز عندكم، فلم يحر جوابا .

1) المعاياة: المباهة والمغالطة، وذلك أنك إذا قلت إنها قديمة وهي غيره،

ثبت أن معه قديما يغايره أعني الإرادة، وهذا كما ألزمه المعتزلة على الأشاعرة

حيث قالوا بزيادة الصفات وانها قديم .

2) يعني: أنه سبحانه أوجد حقيقته بإرادته، وكذلك أوجد صفاته الذاتية من

السمع والبصر بإرادته، فإذا كان كذلك لزم تقدم الإرادة على مشيئته وعلى صفاته

الحقيقية، وما كان مسبوقا للغير يكون معلولا حادثا . فلما استشعر سليمان ورود

هذا عليه أنكره وعدل عنه، فقد حال عندكم عن حاله وتغير عنها، لان ما ذكرت

من أنه صار شيئا بالإرادة وأراد أن يكون حيا يلزمه أن يكون متغيرا

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 493

ومحلا للحوادث، وهذا محال .

1) قيل: معناه انك لما ادعيت أن ذلك على خلاف ما يعقله الناس، فلم

يحصل لك من ذلك سوى احتمال أن يكون كذلك ولم يقم دليلا على ذلك،

ومجرد الاحتمال لا يكفي في مقام الاستدلال، أو المعنى أنه إذا كان هذا الامر

على خلاف ما يعقله الناس ويفهمونه، فلا يمكن التصديق به، إذ التصديق فرع

تصور الأطراف .

2) هذا الكلام في العلم وقع معترضا بين حمل الإرادة والكلام فيها، ولعل

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 494

فائدة الإشارة إلى الفرق بين العلم والإرادة، وان الإرادة ليست من صفات الذات،

ولا هي قديمة ولا عين العلم .

وحاصله: أن الله سبحانه يعلم جميع ما في الجنة والنار، وإذا استقر أهل

الجنة في الجنة وأهل النار في النار، وأعطاهما ما كان في علمه من الدرجات

لأهل الجنة والدركات لأهل النار، ولا بد لهما من الزيادة على ما هما فيه في

الاعصار المستقبلة، لأنها زمن الخلود، فتلك الزيادة الآتية لا تخلو من أن تكون

علمها قبل حصولها ومجئ وقتها أم لا، والثاني باطل بالاجماع، لان علمه

سبحانه محيط بالأزمنة كلها قبل حصولها وبعد حصولها، فبقي الأول، وهو علمه

سبحانه بالزيادة قبل وقوعها، فظهر منه وجود العلم بدون المعلوم .

أما الإرادة، فلا يمكن تحققها بدون تحقق المراد، لما تقدم من أنها علة تامة

في وجوده، فلو تأخر وجوده عنها لزم تخلف المعلول عن العلة التامة، وهو باطل،

فدل هذا على تغاير العلم والإرادة، وعلى أنها ليست من صفات الذات لحدوثها،

وان شئت أن تجعلها مسألة برأسها ولا تعلق لها بالإرادة فاجعلها كذلك، الا أن ما

كشفنا عنه هو الأوضح .

1) فلا يتعلق به العلم كما في علم غير تعالى، فإنه إنما يتعلق بالمحصور

المتناهي دون ما لا نهاية له، وهذا فاسد، لأنه يلزم منه أن لا يكون تعالى عالما

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 495

بالشئ قبل وقوعه، وذلك أن ما يخرج من القوة إلى الفعل على سبيل التدريج

محصور متناه، وهو عاد ومحيط بما سيأتي في الزمان المستقبل .

1) أي: ان علمه سبحانه بالزيادة قبل تحقق وقوعها لا يوجب انقطاعها .

2) ذكر المفسرون فيه أقوالا:

أحدها: أن الله سبحانه يجد لهم جلودا غير الجلود التي احترقت على ظاهر

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 496

القرآن في أنها غيرها وأجيب عن الاعتراض بأن الجلد الذي لم يذنب كيف

يعذب، بأن العذاب إنما هو على الحي، ولا اعتبار بالأطراف والجلود، يعني أنها لا

يعذب .

وثانيها: أن الله يجددها بأن يردها إلى الحالة التي كانت عليها غير محترقة،

كما يقال: جئتني بغير ذلك الوجه إذا كان قد تغير وجهه من الحالة الأولى، كما إذا

انكسر الخاتم فاتخذ منه خاتما آخر، يقال: هذا غير الخاتم الأول وإن كان

أصلهما واحدا، فعلى هذا يكون الجلد واحدا، وإنما تتغير الأحوال عليه، وهذا هو

المروي عن الصادق عليه السلام .

وثالثها: أن التبديل إنما هو للسرابيل التي ذكرها الله سبحانه سرابيلهم من

قطران وسميت السرابيل الجلود على المجاورة للزومها الجلود، وهذا ترك

للظاهر بغير دليل (1) .

1) أي: المنشآت أعني: المخلوقات، وفيه دلالة على أن مذهب ضرار هو أن

ارادته تعالى عين مخلوقاته، والذي نقله عنه المتكلمون هو أن ارادته تعالى

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 497

عين ذاته لا عين المخلوقات، ومن ثم قيل: يجوز أن يكون قال بأحدهما ثم

رجع عنه إلى الآخر .

1) لعله أراد أن العلم أيضا يمكن نفيه قبل حصول المعلوم، فأجاب عليه السلام

ببطلان ذلك ويحتمل كما قيل أن يكون أشار بذلك إلى ما في بعض الآيات كقوله

لنعلم من يتبع الرسول (1) وأمثاله، فأجاب عليه السلام بأنها مأولة بالعلم بعد

الحصول، والا فأصل العلم لا يتوقف على الحصول . وقيل: مراده بأنه لا يمكن

نفي الإرادة كما لا يمكن نفي العلم (2) .

2) أي: ينبغي أن يكون قديما، لان علته التامة وهي الإرادة قديمة، فالصفة

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 498

هنا بمعنى صفة الايجاد وعلته، وبعضهم صحفها صنعته .

1) أجاب الخراساني بأن قدم الإرادة لا يستلزم قدم المراد، إذ الايجاد فعل،

فلعله مع وجود الإرادة لم يفعله، فأجاب عليه السلام بأن ارادته تعالى لا يتخلف عن

الايجاد، لقوله تعالى إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون (2) ثم

أجاب أخيرا بأن ايجاده تعالى ليس بمباشرة ومزاولة، بل ليس الا بمجرد ارادته،

فإذا لم تكن الإرادة كافية في الايجاد، فعلى أي شئ يتوقف ؟ .

2) يعني: أراد بقوله (إذا أردنا أن نهلك قرية) فعل الاهلاك لا إرادة

الاهلاك، فأجابه عليه السلام بأن فعل الاهلاك حادث، ولا يكون الا عن إرادة، وعلة

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 499

الحادث حادثة .

1) أي: ان معنى الإرادة غير معقول لنا، أو أنها لفظ لا معنى له، وهذا أنسب

بقوله عليه السلام .

2) أي: كيف يعقل أن يقال: إن الإرادة لا معنى لها ؟ والحال أنه تعالى وصف

نفسه بها وذكرها في كتابه، وهل يجوز أن يذكر الله تعالى شيئا لا معنى له .

3) أي: أنها من أفعاله وايجاده سبحانه لكنها قديمة، فأجابه عليه السلام بأن هذا

متناقض، لان قولك (لم يزل) يدل على قدمها، وقولك انها فعل من أفعاله تعالى

يقتضي حدوثها، إذ كل فعل مسبوق بالعدم، وكل مسبوق بالعدم فهو حادث .

4) يعني: رجعت إلى قولي في كون الإرادة محدثة، وهذا هو الحق، لأنها لو

كانت صفة من صفاته الحقيقية كالعلم والقدرة، كانت قديمة لم تزل لا حادثة .

5) أي: لم يجب بشئ .

6) هذا منه عليه السلام: تحقيق لما قاله سليمان من حدوث الإرادة، يعني أن قولك

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 500

هذا حق لأنها لو كانت لم تزل قديمة كانت غير فعل، ولا تكون متعلق الايجاد مع

أنها حادثة لحدوث الافعال بها .

1) أي: ان الإرادة ليست عين المرادات، كما تقدم عن ضرار وأصحابه، ولا

خلق الأشياء بإرادة .

2) على البناء للمجهول، يعني: وسوس لك الشيطان هذه الخرافات، لأنه يلزم

أن يكون سبحانه في أفعاله كالنار في احراقها، والشمس في اشراقها، فيلزم عليه

الايجاب وأفسد منه .

3) رجع سليمان عن هذه الأقوال كلها إلى قوله الأول من أن الإرادة من

صفات الذات كالعلم .

4) وهذا فاسد، لأنه يستلزم أن يكون ارادته تعالى لقيام زيد هي عين ارادته

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 501

لقعوده، وارادته لحياته هي بعينها ارادته لموته، فيلزم أن يكون زيد في حالة

واحدة قاعدا وقائما، وأن يكون حيا وميتا، وهذا معنى اجتماع النقيضين الذي

ادعي البداهة على بطلانه .

1) وذلك أن الإرادة متعددة، فإذا كانت كل إرادة عين المريد لزم أن يكون

المريد مختلفا أيضا، وهذا هو معنى تعدد القدماء .

2) يعني: لو كانت قديمة لزم تعدد القدماء .

3) لان تسميته زيدا بأنه ضارب لا يستلزم تسميته بالضرب، وأنت تقول ان

الإرادة من أسماء الله تعالى، فيلزم أن يكون اسمه إرادة لا مريدا .

قال سليمان: لان ارادته علمه، يعني أن الإرادة من صفات الذات وهي عين

العلم، فأجابه عليه السلام بأن العلم متقدم على الإرادة، لأنه إذا علم الشئ أرا ده .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 502

1) يعني: القرآن، ومعناه أني أقدر أن آخذ ما أعطيتك كما منعته غيرك،

ولكني دبرتك بالرحمة لك، فأعطيتك ما يحتاج إليه، ومنعتك ما لا يحتاج إلى

النص عليه . وقيل: معناه لو شئنا لمحونا هذا القرآن من صدرك وصدر أمتك

حتى لا يوجد له أثر . وبالجملة فهذه الآية ناصة على أن العلم غير الإرادة، لان

العلم حاصل هنا والإرادة لم توجد .

2) استفهام على طريق الانكار، أي: هو عالم بكيفيات الذهاب .

3) أي: لم يرده .

4) يعني: أن المشيئة والإرادة حاصلة هنا أيضا كالعلم، الا أن متعلق الإرادة

لم يوجد، لأنه سبحانه فرغ من الامر وفعل ما أراد فعله في الأول، فلم يبق له

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 503

فعل، فهذا هو المانع له من نفوذ الإرادة لا أنها غير حاصلة، فأجابه عليه السلام بأن هذا

هو قول اليهود الذي نفيته عنك سابقا .

1) تمهيد منه عليه السلام لبيان تغاير العلم والإرادة، أي: أنه تعالى يعلم وجود انسان

في اليوم الفلاني وهو لا يريد أن يخلق أحدا ذلك اليوم .

2) اقرار منه بوجود العلم من دون الإرادة .

3) أي: هل يعلم وجود ما يريد وجوده، أو يعلم وجود ما لا يريد وجوده ؟

فقال الخراساني: يعلم بكونهما جميعا حتى يوجد العلم والإرادة، فألزمه عليه السلام

بوجود المتناقضين وهو ظاهر مما سبق .

4) لأنه مناف لما تقدم من كلامه .

5) يعني: إذا لم يجز تعلق العلم بوجود ما لا يريد وجوده لم يبق الا تعلقه

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 504

بوجود ما يريد وجوده، وهو الحق .

1) يعني: أن العلم القديم إذا تعلق بالشئ قبل حدوثه يلزم أن يكون ذلك

الشئ مثبتا في الأزل قديما فيه، لان تعلق العلم به فرع ثبوته في زعمه، وهذا

الفساد يلزم من العلم القديم وتعلقه بالمعلوم الحادث، كما ألزمتمونا في الإرادة

القديمة وتعلقها بالأمور الحادثة، حيث قلتم انه يلزم قدم المرادات التي تعلقت بها

الإرادة .

وحاصل الجواب بالفرق بين العلم والإرادة، فان العلم بالشئ لا يستلزم

وجوده، كما في الخياط والبناء، بخلاف الإرادة فإنها تستلزم وجود المراد معها،

إذ هي العلة التامة في ايجاده .

2) هذه جملة مستأنفة من كلامه عليه السلام بين فيها أنه ليس بمحال العلم

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 505

باتصافه تعالى بالوحدة ونحوها، وذكر باقي الصفات استطرادا للواحد .

1) أي: كلامك يرد ما قال الله عز وجل فيكون محالا . هذا .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 506

واعلم أن ما ذكرناه في حل هذا الحديث وما قبله إنما هو على سبيل

الاحتمال بما أدى إليه النظر الكليل والفهم العليل (1) .

باب النهي عن الكلام والجدال في الله عز وجل

1) وخلق الله يشمل صفات الافعال، كالإرادة وما مر فيها من الكلام

والمناظرة .

وقوله (لا تكلموا في الله) لعل المراد منه الكلام في كنه الذات، مثلا كونها

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 507

جوهرا أو عرضا، أو شيئا آخر، وكذا صفات الذات فإنها عين الذات .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 508

1) وذلك أن الكلام فيما فوق العرش مقام من مقامات التوحيد لا تهتدي إليه

العقول وحدها، ولم يرخص للأنبياء وأوصيائهم في الكشف عنه، فبقي مختوما

بختام الله . وأما سيد الموحدين أمير المؤمنين صلوات الله عليه فقال: سلوني عما

فوق العرش وما تحت الثرى، فاني أعلم ما هناك علم إحاطة لا علم خبر .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 509

1) قد ورد الامر بالمناظرة لدفع شبه المخالفين والمعاندين ولارشاد

الجاهلين، ولتحقيق الحق بين الاخوان من المؤمنين . فأما وجه الجمع بين

الاخبار فعلى وجوه:

منها: ما قاله شيخنا المعاصر أبقاه الله تعالى: من أن المراد بالخصومات التي

ورد النهي عنها التفكر في ذاته تعالى وحقيقة صفاته، أو في مسألة القضاء والقدر،

والجبر والاختيار، وأمثالها مما ورد النهي عن الخوض فيه، فإنها مداحض زلقة

زلت فيها الاقدام، وهوى منها إلى الهاوية كثير من الأنام (1) .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 510

ومنها: أن المراد بالمنهي عنه المذموم منها ما كان المطلوب به اظهار الفخر

والكمال، أو التعصب والقدرة على المقال، كما هو الأغلب على أهلها المشاهد من

أحوالهم .

ومنها: أن النهي عن المناظرة متوجه إلى من لا يحسنها، فربما صار مغلوبا

من خصمه المخالف، فدخل منه دخل على الدين وعلى العوام من المؤمنين .

ويرشد إليه ما رواه الكشي باسناده إلى الطيار قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام:

بلغني أنك كرهت مناظرة الناس، فقال: أما كلام مثلك فلا يكره، من إذا طار

يحسن أن يقع، وان وقع يحسن أن يطير، فمن كان هكذا لا نكرهه (1) .

وروى أيضا عن نصر بن الصباح قال: كان أبو عبد الله عليه السلام يقول لعبد الرحمن

ابن الحجاج: يا عبد الرحمن كلم أهل المدينة، فاني أحب أن يرى في رجال

الشيعة مثلك (2) .

وما رواه صاحب الاحتجاج باسناده إلى العسكري عليه السلام قال: ذكر عند

الصادق عليه السلام الجدال في الدين، وان رسول الله والأئمة المعصومين عليهم السلام قد نهوا

عنه، فقال الصادق عليه السلام: لم ينه عنه مطلقا، لكنه نهي عن الجدال بغير التي هي

أحسن، أما تسمعون الله يقول: ولا تجادلوا أهل الكتاب الا بالتي هي

أحسن (3) وقوله تعالى ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة

وجادلهم بالتي هي أحسن (4) فالجدال بالتي هي أحسن قد قرنه العلماء بالدين

والجدال بغير التي هي أحسن محرم حرمه الله تعالى على شيعتنا .

وكيف يحرم الله الجدال جملة ؟ وهو يقول: (وقالوا لن يدخل الجنة الا من

كان هودا أو نصارى - قال الله تعالى - تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم ان كنتم

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 511

صادقين) (1) فجعل علم الصدق والايمان بالبرهان، وهل يؤتى بالبرهان الا في

الجدال بالتي هي أحسن .

قيل: يا بن رسول الله فما الجدال بالتي هي أحسن والتي ليست بأحسن ؟

قال: أما الجدال بغير التي هي أحسن، فأن تجادل مبطلا، فيورد عليك

باطلا، فلا ترده بحجة قد نصبها الله تعالى، ولكن تجحد قوله أو تجحد حقا

يريد ذلك المبطل أن يعين به باطله، فتجحد ذلك الحق مخافة أن يكون له عليك

فيه حجة، لأنك لا تدري كيف المخلص منه، فذلك حرام على شيعتنا أن يصيروا

فتنة على ضعفاء اخوانهم وعلى المبطلين . أما المبطلون فيجعلون ضعف الضعيف

منكم إذا تعاطى مجادلته، وضعف في يده حجة له على باطله . وأما الضعفاء

منكم، فتعمى قلوبهم لما يرون من ضعف المحق في يد المبطل .

وأما الجدال بالتي هي أحسن، فهو ما أمر الله تعالى به نبيه أن يجادل به من

يجحد البعث بعد الموت واحياءه له، فقال الله تعالى حاكيا عنه وضرب لنا مثلا

ونسي خلقه قال من يحيى العظام وهي رميم فقال في الرد عليه قل يحييها

الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم * الذي جعل لكم من الشجر الأخضر

نارا فإذا أنتم منه توقدون (2) يعني: ان ابتداءه أصعب عندكم من اعادته

الحديث (3) .

ومنها: ما رواه يونس بن يعقوب عن الصادق عليه السلام في حديث الشامي

قال عليه السلام: يا يونس لو كنت تحسن الكلام كلمته، فقلت: جعلت فداك اني سمعتك

تنهي عن الكلام وتقول: ويل لأصحاب الكلام، يقولون: هذا ينقاد وهذا لا ينقاد،

وهذا ينساق وهذا لا ينساق، وهذا نعقله وهذا لا نعقله، فقال أبو عبد الله عليه السلام: إنما

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 512

قلت ويل لهم ان تركوا ما أقول وذهبوا إلى ما يريدون (1) .

ومنها: أن يكون النهي مخصوصا بما إذا اشتمل على نوع من المفاسد: إما ترك

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 513

التقية، أو الاتقاء، وسيأتي تمام هذه المقالة بعيد هذا إن شاء الله تعالى فانتظره .

1) لعله استعمل المكروه هنا في المرجوح مطلقا، فيكون حراما إن كان

الكلام في حقيقة الصفات، ومكروها إن كان في القيود والإضافات والقضايا

المحمولة عليها .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 514

1) أي: لتعرف المنافقين في فحوى كلامهم ومعناه ومقصده، لان كلام

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 515

الانسان يدل على ما أضمره . وعن أبي سعيد الخدري قال: لحن القول بغضهم

علي بن أبي طالب، قال: وكنا نعرف المنافقين على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله ببغضهم

علي بن أبي طالب . وعن عبادة بن الصامت قال: كنا نختبر أولادنا بحب علي بن

أبي طالب، فإذا رأينا أحدهم لا يحبه علمنا أنه لغير رشده . قال أنس: ما خفي

منافق على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله بعد هذه الآية (1) .

1) يعني: أن الشيطان يلقنه حجته في المناظرة والمباحثة للغلبة على

خصمه .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 516

1) أي: من أشرار الطوائف الذين يكونون منهم .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 517

قال السيد ابن طاووس في كتاب كشف المحجة: يحتمل أن يكون المراد بهذا

الحديث يا ولدي المتكلمين الذين يطلبون بكلامهم وعلمهم ما لا يرضاه الله جل

جلاله، أو يكونون ممن يشغلهم الاشتغال بعلم الكلام عما هو واجب عليهم

من فرائض الله جل جلاله .

ثم قال رحمه الله: ومما يؤكد تصديق الروايات بالتحذير من علم الكلام وما فيه

من الشبهات أنني وجدت الشيخ العالم سعيد بن هبة الله الراوندي قد صنف كراسا

- وهي عندي الان - في الخلاف الذي تجدد بين الشيخ المفيد والمرتضى رحمهما

الله، وكانا من أعظم أهل زمانهما، وخاصة شيخنا المفيد، فذكر في الكراس نحو

خمس وتسعين مسألة قد وقع الخلاف بينهما فيها من علم الأصول، وقال في

آخرها: لو استوفيت ما اختلفا فيه لطال الكتاب، وهذا يدل على أنه طريق بعيد

عن معرفة رب العالمين (1) .

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 518

1) الزعيم: الكفيل والضامن، يعني: إذا ترك الجدال وإن كان محقا ضمنت له

البيوت الثلاثة .

2) ربض الجنة أسافلها وما قرب من بابها وسورها .

قال في النهاية: أنا زعيم ببيت في ربض الجنة، هو بفتح الباء: ما حولها

خارجا عنها، تشبيها بالأبنية التي تكون حول المدن وتحت القلاع (1) انتهى .

وبه انتهى الكتاب على يد مؤلفه المذنب الجاني نعمة الله الحسيني الجزائري

عفا الله سبحانه عن زلاته، وحشره مع أئمته وساداته، يوم التروية سنة التاسعة

والتسعين بعد الألف، وكان ختامه في بلدة الحويزة حرسها الله تعالى عن آفات

الزمان وبوائق الحدثان، والحمد لله وصلى الله على محمد وآله الطاهرين .

وتم استنساخ الكتاب وتصحيحه وتحقيقه والتعليق عليه في اليوم الثاني من

شهر رجب المبارك سنة (1414) ه‍ ق على يد العبد الفقير السيد مهدي الرجائي

عفي عنه في بلدة قم المقدسة حرم أهل البيت وعش آل محمد عليهم السلام .

وجاء في آخر نسخة (ن): قد فرغ من تسويد هذا الشرح المستطاب، وأنا

أقل العباد محمد طاهر بن كمال الدين الشوشتري غفر الله له ولوالديه سنة

____________________________________________________

شرح نور البراهين في أخبار السادة الطاهرين - صفحة 519

(1103) ه‍ ق والحمد لله رب العالمين .

وجاء أيضا في آخر هذه النسخة بخط المؤلف قدس سره: بسم الله الرحمن

الرحيم، قد مر عليه نظر مؤلفه من بدايته إلى نهايته فصح، وانتهى أواخر أوقاته

إلى شهر رجب المرجب، من عام ثلاثة ومائة بعد الألف الهجرية . وكتب الأحرف

مؤلف الكتاب نعمة الله الحسيني الجزائري عفا الله تعالى عن سيئاته في

محروسة تستر، والحمد لله وصلى الله على محمد وآله الطاهرين .

وجاء في آخر نسخة (س): هذا صورة خط المصنف أيده الله تعالى وأبقاه

ومن كل شر وقاه، وقد فرغت من نمقه أيضا يوم التروية سنة العاشرة والمائة بعد

الألف الهجرية على مشرفها أفضل الصلوات وأكمل التحيات، وأنا العبد المذنب

الجاني الفاني قليل البضاعة وكثير الإضاعة علي بن حاج نظر علي التستري في

محروسة تستر عفي عنهما وعن جرائمهما بحق محمد وآله خير الورى، ووفقهما

الله تعالى لجميع مراضيهما، وجعل ما يأتيهما من أحوالهما خيرا من ماضيهما،

وحشرهما الله مع أئمتهما وساداتها، بمحمد المصطفى، وعلي المرتضى، وفاطمة

الزهراء، والحسن المجتبى، والحسين الشهيد بكربلاء، وبباقي أئمة الهدى

صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله

على محمد وآله الطاهرين .