فصل
ومن مختصرِكلامِهِ عليهِ
السلامُ في الدعاءِ إلى نفسِهِ وعترتِهِ

قولُهُ : «إِنّ اللّهَ خَصَّ محمّداً بالنّبوّةِ، واصطفاهُ بالرّسالةِ ، وأنبأهُ
بالوَحْي ، فأنالَ
(1) في النّاسِ وأنالَ . وعِندَنا - أهل البيت - معاقلُ
العلمِ ، وأبوابُ الحكمِ ، وضياءُ الأمرِ، فَمَنْ يُحبّنا يَنفعهُ إِيمانُهُ ويُتَقبّل
عملُهُ ، ومن لا يُحبّنا لا يَنفعهُ إِيمانُهُ ولا يُتَقَبَّل عملُهُ ، وِانْ دأبَ الليلَ
والنّهارَ»
(2) .
فصل

ومن ذلكَ ما رواهُ عبدُ الرحمن بنُ جُنْدَبٍ عن أبيهِ جُندَبِ بنِ عبدِاللّه
قالَ : دخلتُ على عليِّ بنٍ أبي طالب بالمدينةِ بعدَ بَيعةِ النّاسِ لعُثمانَ ،
فوجدتُهُ مُطرِقاً- كئيباً- فقلتُ له : ما أًصابَ قومك؟!

قالَ : «صبرٌ جميلٌ» .
_________
(1) أنال : أعطى الخير «لسان العرب - نول - 11 : 683» .
(2) المحاسن : 199 / 31، بصائر الدرجات : 384/ 9 و 10 ، ونقله العلامة المجلسي في البحار
27 : 182 .
( 242 )

فقلتُ له : سبحانَ اللّهِ ، واللّهِ إِنّكَ لَصبور.

قالَ : «فأَصنعُ ماذا؟ !» .

فقلتُ : تَقومُ في النّاسِ وتَدعوهُمْ إِلى نفسِكَ ، وتُخبرهُم أنّكَ أولى
بالنبيِّ صلّى الله عليه وآله بالفضلِ والسابقةِ، وتَسألُهُمُ النَصرَ على هؤلاءِ
المتمالئينَ عليكَ ، فإِنْ أَجابَكَ عَشرةٌ من مِائةٍ شَدَدْتَ بالعَشرةِ على المِائةِ ،
فإِنْ دانوا لكَ كانَ ذلكَ على ما أحببْتَ ، وإن أبَوْا قاتلتَهُمْ ، فإِنْ ظَهَرْتَ
عليهِمْ فَهوَ سُلطانُ اللّهِ الذي آتاهُ نبيَّهُ عليهِ السلامُ وكنتَ أولى بهِ
منهُمْ ، وِان قُتِلْتَ في طلبهِ قُتِلْتَ شَهيداً وكنتَ أولى
(1) بالعذر عندَ
اللهِ ، وأَحقَّ بميراثِ رسوَلِ اللهِ صلّى الله عليه وآله .

فقالَ : «أتراهُ - يا جُنْدَبً - يُبايعنُي عَشرةٌ من مائة ؟ !».

قلتُ : أَرجو ذلكَ .

قال : «لكنَّني لا أَرجو ولا من كل مائةٍ اثنينِ ، وسأُخبرُكَ من أينَ
ذلكَ ، إِنَّما يَنظرُ الناسُ إلى قُرَيْشٍ ، وإنَّ قريشاً تَقولُ : إِنّ الَ محمَّدٍ
يَرَوْنَ لَهُمْ فضلاً على سائرِ النّاسِ ، وإِنهم أَولياءُ الأمرِ دونَ قريشٍ ،
وإنّهم إِنْ وَلُوْهُ بر يَخرجْ منهم هذا السُّلطانُ إلى أحدٍ أبداً، ومتى كانَ في
غيرهِمْ تَداولتموهُ بينَكُمْ ، ولا - واللهِ - لا تَدفعُ قريشٌ إِلينا هذا
السُّلطانَ طائعينَ أبداً».

قالَ : فقلتُ له : أَفَلا أرجِعُ فأُخبرَ الناسَ بمقالتِكَ هذهِ ،
وأدعوَهُمْ إِليكَ ؟ .
_________
(1) في «ش» : أعلى.
( 243 )

فقالَ لي : «يا جُنْدَبُ ، ليسَ هذا زمان ذاكَ» .

قالَ : فرجعْتُ بعدَ ذلكَ إِلى العِراق ، فكنتُ كلَما ذكرتُ للنّاسِ
شيئاً من فضائل علي بنِ أبي طالبِ عليهِ السلامُ ومناقبِهِ وحُقوقِهِ زَبَرُوْني
ونَهَرُوْني ، حتّى رفعَ ذلكَ مِنْ قَوْلَي إِلى الوَلِيْدِ بنِ عُقبْةَ لَياليَ وَلِيَنَا،
فبعثَ إِليَّ فحبسني حتَّى كُلِّمَ فيَّ فخلَّى سبيلي
(1).
فصل
ومن كلامهِ عليه السلامُ حينَ تخلّفَ عن بيعتهِ :
عبدُاللّه بنُ عُمَر ابنِ الخّطَّابِ ، وسَعْدُ بن أبي وَقَّاصٍ ،
ومحمّد بنُ مَسْلمةَ، ُوحسان بنُ ثابتٍ ، وأُسامةُ بنُ زَيْدٍ

ما رواهُ الشَّعْبيُّ قالَ : لَمَّا اعتزلَ سَعْدٌ ومَنْ سّميناهُ
أَمير المؤمنين عليه السلام وتوقِّفوا عن بيعتهِ ، حَمِدَ اللهَ وأَثنى عليهِ ثمَّ
قالَ : «أَيُّها الناسُ ، إِنّكم بايعتموني على ما بُويِعَ عليهِ مَنْ كانَ قَبْلي ،
وإنّما الخِيارُ إلى النّاسِ قبلَ أَنْ يبايِعوا ، فإِذا بايَعُوا فلا خِيارَ لهم ،
وإنّ علىالإمامِ الاستقامةَ، وعلى الرّعيّةِ التسليم ، وهذهِ بَيعةٌ عامّةٌ ، مَنْ
رَغِبَ عنها رَغِبَ عن دينِ الإسلام واتَّبعَ غيرَ سبيلِ أهلِهِ ، ولم تَكُنْ
بَيعتُكم إِيّايَ فَلْتةً، وليسَ أَمري وأمْرُكم واحداً، وِانّي أُريدُكم للّهِ ،
وأَنتم تريدونَني لأَنْفُسِكُم ، وايْمُ الله لأَنصحَنَّ للخَصم ، ولأَنصِفَنَّ
المظلومَ . وقد بَلَغَني عن سَعْدٍ وابنِ مَسْلمةَ وأُسامةَ وعبدِاللهِ وحَسَّان بنِ
_________
(1) أمالي الطوسي 1 : 239 ، شرح ابن ابي الحديد 9 : 57 نحوه ، ونقله العلامة المجلسي في
البحار 8 : 148 ( ط / ح ) .
( 244 )
ثابتٍ اَمُورٌ كَرِهْتُها، والحَقُّ بيني وبينَهُمْ»
(1).
فصل
ومن كلامِهِ عليهِ السلامُ عندَ نَكْثِ
طلحةَ والزُّبَيْرِ بيعتَهُ وتوجُّهِهما إِلى مكّةَ
للاجتماعِ معَ عائشةَ في التأليب عليهِ والتألُّفِ على خلافهِ

ما حَفِظَهُ العلماءُ عنهُ ؛ بعدَ أنْ حَمِدَ الله وأثنى عليهِ ثُم قالَ :«أمّا بعدُ :
فانَّ اللهَ بعثَ محمّداً صلّى الله عليهِ وآلهِ للنّاسِ كافَةً، وجعلَهُ رحمةً
للعالمين ، فصَدَعَ بما أُمِرَبهِ ، وبَلَّغَ رسالاتِ ربِّهِ ، فَلَمَّ بهِ الصَدْع،
ورَتَقَ بهِ الفَتْقَ ، وآمّن ِبه السُّبلَ ، وحَقَنَ بهِ الدّماء، وألفَ بهِ بينَ ذَوي
الإحَنِ والعَداوةِ والوَغْرِ
(2) في الصّدورِ والضّغائنِ الرّاسخةِ في
القلوب ، ثمّ قَبَضَهُ الله تعالى إِليه حَميداً، لم يُقصِّرْعنِ الغايةِ التي
إليها أَدَاءُ الرّسالةِ، ولا بَلَّغَ شيئاً كانَ في التّقصيرِعنهُ القَصْدُ ، وكانَ
مِنْ بعلِهِ منَ التّنازُع في الإِمرةِ ما كانَ ، فتولىّ أبوبكْرٍ وبعَدهُ عُمَرُ، ثم تولىّ
عُثْمان ، فلمّا كانَ مِنْ أمرهِ ما عَرَفتموهُ أتيتموني فقُلتم : بايعْنا، فقلتُ :
لا أَفعلُ ، فقُلتم : بلى، فقلت : لا، وقَبضتُ يَدِي فبسَطتموها،
ونازعتُكم فجذبتموها، وتَداكَكْتُم عليّ تدارك الإبل الهِيْم
(3) على
_________
(1) ورد نحوه في نهج البلاغة 1 : 32/26 1 ، ونقله العلامة المجلسي في البحار 8 : 397 (ط /
ح).
(2) الوغر : الضغن والعداوة . «الصحاح - وغر- 2 : 6 84» .
(3) الهيم : العطاش . «الصحاح ـ هيم - 5 : 2063» .
( 245 )
حِياضِها يومَ وُرودها، حتّى ظَننتُ أنّكم قاتليَ ، وأنّ
بعضَكم قاتِلُ بعضٍ ، فبَسَطْتُ يَدِي فبايعتموني مُختارِيْنَ ، وبايَعَني في
أَوّلكم طَلْحَةُ والزُّبَيْرُ طائعَيْنِ غير مُكْرَهَيْنِ ، ثمّ لم يَلبَثا أنِ استأذَناني
في العُمْرةِ، واللّهُ يَعلمُ أَنّهما أَرادا الغَدْرَةَ، فجدَّدْت عليهما العهدَ في
الطاعةِ وأَنْ لا يبغِيا للأًُمّة الغوائلَ ، فعاهَداني ثُم لم يَفِيا لي ونَكَثا
بَيعتي ونَقَضا عَهدي ، فعَجَباً لهما مِنِ انقيادِهَما لأبي بَكْر وعُمَرَ وخِلافهِما
لي ، ولستُ بِدونِ أَحدِ الرجلَيْن ! ولو شئتُ أَنْ أقولَ لقُلتُ ، اللّهمّ
احكمْ عليهِما بِما صَنَعا في حقًّي ، وصغَّرا من أمري ، وظَفِّرني بِهما»
(1).
فصل

ثمّ تكلّمَ عليهِ السّلامُ في مَقامٍ آخرَ بما حُفِظ عنه في هذا
المعنى، فقالَ بعدَ حمدِ الله والثناءِ عليهِ :

«أمّا بعدُ : فإِنّ اللّهَ تعالى لمّا قَبَضَ نبيّه عليهِ السّلامُ قُلنا:
نحن أَهلُ بيتِهِ وعصبَتُهُ ووَرَثَتُهُ وأَولياؤهُ وأَحق الخلائقِ بهِ ، لا نُنازَعُ حقَّهُ
وسُلطانَهُ ، فبَينا نحن [على ذلك]
(2) إِذْ نَفَرَ المنافقونَ فانتزَعوا سُلطانَ نبيِّنا
منّا وولّوهُ غيرَنا، فبَكَتْ - واللهِ - لذلكَ العُيون والقُلوبُ منّا جميعاً معاً،
وخَشُنَتْ
(3) لهُ الصُّدورُ، وجَزعَت النّفوسُ جَزَعاً أرغمَ .
_________
(1) ورد في الاحتجاج : 161 ، ونحوه في العقد الفريد 4 : 162 و5 : 67، شرح ابن ابي
الحديد 1 : 309 ، ونقله العلامة المجلسي في البحار 8 : 412 (ط / ح ) .
(2) ما بين المعقوفين سقط من النسخ الخطية ، وأثبتناه من أمالي المفيد.
(3) في «ش» و«م» : خشيت ، وما أثبتناه من هامشهما.
( 246 )

وايم اللهِ لولا مخافتي الفُرْقةَ بينَ المسلمينَ ، وأَنْ يَعودَ أَكثرُهم إلى
الكفرِ ويَعْورَ
(1)الدّينُ ، لَكُنّا قد غيَّرْنا ذلك ما استطعْنا . وفد
بايعتموني الانَ وبايَعَني هذانِ الرّجلانِ طَلْحةُ والزُّبيرُ على الطَوْعِ منهما
ومنكم والإيثارِ، ثُمِّ نَهَضا يريدان البصرةَ لِيُفرِّقا جماعَتَكم ويُلقيا
بأْسَكم بينَكم ، اللّهمَّ فخُذْهما بغِشًّهما لِهذهِ الاُمّةِ وبسوء نَظَرِهما
للعامّةِ».

ثمّ قال : «انفروا
(2) - رَحِمَكًمُ اللهُ - في طَلَب هذينِ النّاكِثَيْنِ
القاسِطَيْنِ الباغِيَيْنِ قبلَ أَنْ يَفوتَ تَدارُكُ ما جَنَياهُ»
(3).
فصل

ولمّا اتّصلَ بهِ مسيرُعائشةَ وطلحةَ والزُّبيرِإِلى البصرة من مكة حمِدَ
اللهَ وأثنى عليهِ ثمَّ قالَ : «قد سارتْ عائشةً وطلحةُ والزّبيرُ، كلًّ واحدٍ
منهما يدّعي الخلافةَ دونَ صاحبهِ ، فلا يدّعي طلحة الخلافة إِلاّ أنّه ابنُ عمِّ
عائشةَ ، ولا يدّعيها الزّبيرُ إِلاّ أَنّه صِهْرُأَبيها . واللّهِ لَئنْ ظَفِرا بما يُريدانِ لَيَضربَنَّ
الزّبيرُعُنقَ طلحةَ، ولَيَضربَنَ طلحةُ عُنقَ الزّبيرِ، يُنازِعُ هذا على المُلكِ هذا .

وقد - واللّهِ - عَلِمْت أَنّها الراكبةُ الجَمَل لا تَحُلُّ عُقدةً ولا تَسيرُ
_________
(1) في «م» وهامش «ش» : ويَعْوِرّ.
(2) في هامش «ش» و «م» : أنفِذوا .
(3) ورد في امالي المفيد : 154 باختلاف يسير، والجمل : 233 مختصراً، وشرح ابن ابي الحديد
ا : 307 نحوه ، ونقله العلامة المجلسي في البحار 8 : 415 (ط /ح ).
( 247 )
عقبةً ولا تنزلُ مَنزلاً إِلاّ إِلى معصيةٍ ، حتّى تورِدَ نفسَها ومَنْ مَعَها
مَوْرِداً ، يُقتَلُ ثُلثُهم ويهربُ ثُلثُهم ويَرجعُ ثُلثُهم . واللّهِ انّ طلحةَ والزّبيرَ
ليعلمانِ أَنّهما مُخطئانِ وما يَجهلانِ ، ولَرُبَّما
(1) عالم قَتَلَهُ جَهلُهُ وعِلمُهُ مَعَهُ
لا يَنفغهُ . واللهِ لَيَنْبَحَنَّها كِلابُ الحَوْأَب ، فهل يَعتبرُ مُعتبرٌ أَو يتفكَّرُ
متفكِّرٌ ! ثم قال : قَدْ قامَتِ الفِئَةُ الباغِيةُ فَأَينَ المحسِنونَ ؟»
(2).
فصل

ولمّا توجّهَ أميم رُ المؤمنينَ عليهِ السلامُ إِلى البَصْرةِ، نَزَلَ الرَّبَذةَ
(3)
فلقِيَهُ بها آخرُ الحاجِّ ، فاجتمعوا لِيسمعوا من كلامِه وهو في خِبائهِ .

قال ابن عباسِ - رحمة الله عليه - فأتيتُهُ فوجدتُهُ يَخصِفُ نَعْلاً،
فقلتُ له : نحنُ إِلى أنْ تُصلِح أمرَنا أحوجُ مِنّا إِلى ما تَصنعُ ، فلم يكلِّمْني
حتّى فَرَغَ من نَعلهِ ثمِّ ضمَّها إِلى صاحبتِها ثُم قالَ لي : «قَوِّمْها» فقلتُ :
ليسَ لها قيمةٌ ، قال : «على ذاكَ» قلتُ : كسر دِرْهَمٍ ، قال : «والله لهما
أحبُّ إِليَ من أَمرِكم هذا ، إِلاّ أنْ أُقيمَ حقّاً أو أدفعَ باطلاً» قلتُ : إِنّ
الحاجِّ قدِ اجتمعوا لِيسمعوا من كلامِك ؛ فتأذنُ لي أنْ أتكلَّمَ ، فإِنْ كانَ
حَسَناَ كانَ منكَ ، وإِنْ كانَ غيرَ ذلكَ كانَ منّي ، قالَ : «لا، أنا أتكلَّم» ثمَّ
_________
(1) في «م» وهامش «ش» : ولرب .
(2) روي نحوه في شرح النهج لابن ابي الحديد 1 : 233 ، ونقله العلامة المجلسي في البحار
8 : 416(ط /ح ).
(3) الربذة : من قرى المدينة المنورة ، بينهما ثلاثة أيام ، وهي من منازل حاجّ العراق ، وفيها قبر ابي
ذرّ الغفاري رضي اللّه عنه . انظر «معجم البلدان 3 : 24» .
( 248 )
وَضَعَ يَدَهُ في صَدْريَ ـ وكانَ شَثْنَ
(1) الكَفِّ ـ فآلمَني ، ثم قامَ ،
فأخَذْتُ بثوبهِ فقلتُ : نَشَدْتُكَ اللّهَ والرَّحِمَ ، قالَ : «لا تَنْشُدْني» ثُمَ
خَرَجَ فاجتمعوا عليهِ فحَمِدَ اللهَ وأَثنى عليهِ ثُمَ قالَ :

«أَمّا بعدُ: فإنّ اللّهَ بعثَ محمّداً صلى اللّهُ عليهِ والهِ وليسَ في
العَرَب أحدٌ يقرأ كتاباً ولا يدّعي نبوّةً ، فساقَ الناسَ إِلى مَنجاتِهم ، أمَ واللهِ
مازِلتُ في ساقَتِها ما غيرت ولاخُنتُ ، حتّى توليتْ بحَذافيرِها. مالي
ولِقُرَيْشٍ ، أَمَ واللّهِ لقد قاتلتهم كافرينَ ولأقاتلَنَّهم مفتونينَ ، وإِنّ
مَسيري هذا عن عهلإِ إِليَّ فيهِ . أَمَ واللهِ ، لأَبقُرَنَّ
(2) الباطلَ حتّى يَخرُجَ
الحقُّ من خاصِرَتِه . ما تَنقِمُ منّا قرَيشٌ إِلآ أَنّ الله اختارَنا عليهِم
فأَدخلناهُم في حَيِّزنا . وأَنشدَ :
ذَنْبٌ لَعَمْريْ شرُبكَ المحض خالِصَاً * وأَكْلكَ بالزُّبْدِ اْلمُقَشَرَة(3)البُجْرَا(4)
وَنَحْن وَهبْنَاكَ العَلاءَ وَلَمْ تَكُنْ * عليّاًً وَحُطْنَا حَولك الجرد والسُّمْرَا»(5)(6)
_________
(1) شثِن كفه : أي خشنت وغلظت . «الصحاح -شثن - 5 : 2142».
(2) في هامش «ش» و«م» : لانقبنّ .
(3) المقشرة : الرُطب المقشر.
(4) البُجر: جمع بجراء ، وهي المنتفخة البطن ، يعني التمر الجيد الكبار. أنظر « لسان العرب
- بجر-4 : 40».
(5) الجرد والسمر: يعني الخيل .
(6) شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد 2 : 185 /33، ونقله العلامة المجلسي في البحار 8 : 416
(ط /ح ).
( 249 )

ولمّا نَزَلَ بذي قَارٍ
(1) أخَذَ البيعةَ على من حضَرَةُ ، ثمَّ تَكلَّمَ فأكثرَمِنَ
الحمدِ للّهِ والثناءِ عليهِ والصلاةِ على رسولِ اللهِ صلّى اللّه عليهِ وآلهِ ،ثمّ
قالَ : «قد جَرَتْ أُمورٌ صَبَرْنا فيها - وفي أَعْيُنِنا القَذَى - تسليماً لأمرِ اللّهِ
تعالى فيما امتحَنَنا بهِ رَجاءَ الثّوابِ على ذلكَ ، وكانَ الصّبرُعليها
أمثلَ من أنْ يَتفرَّقَ المسلمونَ وتُسفكَ دِماؤهم . نحنُ أهلُ بيتِ النّبوّةِ،
وأحقُّ الخلقِ بسُلطانِ الرّسالةِ، ومَعْدِنُ الكَرامةِ التي ابتدأَ اللّهُ بها هذهِ
الأمّةَ . وهذا طلحةُ والزُّبيرُ ليسا من أهلِ النّبوّةِ، ولا من ذُرّيةِ
الرسولِ ، حينَ رَأيا أنّ اللّهَ قد ردَّ علينا حقَّنا بعد أعْصُرٍ ، فلم يَصبرا
حَوْلاً واحداً ولا شَهراً كاملاً حتّى وَثَبا على دَأب الماضِينَ قبلَهما، لِيذهبا
بحقِّي ويُفرِّقا جَماعةَ المسلمينَ عنِّي» ثمَّ دَعاَ عليهما.
فصل

وقد رَوى عبدُ الحَمِيْد بنُ عِمْرانَ العِجْليّ ، عن سَلَمة بنِ كُهَيلٍ
قالَ : لمّا الْتَقى أهلُ الكُوفةِ وأميرُ المؤمنينَ عليهِ السّلامُ بذي قارٍ ،
رَحَّبوا بهِ وقالوا: الحمدُ للهِّ الّذي خَصَّنا بجوارِكَ وأَكرَمَنا بنُصْرَتِكَ .
فقامَ أميرُالمؤمنينَ عليهِ السّلامُ فيهم خَطيباً ، فحَمِدَ اللهَ وأثنى عليهِ ثم
قالَ :

«يا أهلَ الكُوفةِ، إِنّكم مِنْ أكْرَم المسلمينَ ، وأَقْصَدِهِم
تقويماً ، وأعْدَلِهم سنَّةً ، وأفْضَلِهِم سَهْماً في الإسلام ، وأجْوَدِهِم في العَرَبِ
_________
(1) ذي قار: موضع في محافظة الناصرية في العراق .
( 250 )
مُرَكّباً
(1) ونِصاباً . أَنتم أَشدُّ العَرَب وُدّاً للنّبيّ صلّى الله عليهِ والهِ
ولأهلِ بيتهِ. وِانّما جِئكَم ثِقةً - بعدَ اللهَِ - بكم للّذي بَذَلتم من أنفُسِكُم
عندَ نقضِ طَلحةَ والزُّبيرِوخلعِهما طاعتي ، وإقبالِهما بعائشةَ للفتنةِ،
وِاخراجِهما إِيّاها من بيتها حتّى أقدماها البَصرةَ ، فاستغوَوْا
(2) طَغامَها
وغَوْغاءها ، مع أنّه قد بَلَغَني أنَّ أهلَ الفضلِ منهم وخِيارَهم في
الدّين قدِ اعتزلوا وكَرِهوا ما صَنَعَ طَلْحةُ والزُّبير».

ثمّ سكتَ فقالَ أهلُ الكُوفةِ : نحنُ أنصارُكَ وأعوانُكَ على
عدوِّكَ ، ولو دَعوْتَنا إِلى أضعافِهِم مِنَ النّاسِ احتسبْنا في ذلكَ الخيرَ
لوَجَوْناه.

فدعا لهم أَميرُالمؤمنينَ عليهِ السَّلامُ وأثنى عليهم ، ثمّ قالَ : «قد
عَلِمتم - مَعاشرَ المسلمينَ - أنّ طلحةَ والزُّبيرَ بايَعاني طائعَيْنِ راغِبَيْنِ ، ثمّ
استأْذَناني في العُمرةِ فأذِنْتُ لهما، فسارا إِلى البصرةِ فقَتَلا المسلمينَ
وفَعَلا المُنْكَرَ. اللّهمّ إِنّهما قَطَعاني وظَلَماني ونَكَثا بَيعتي وألَّبا النّاسَ
عَليَّ ، فاحْلُلْ ما عَقَدا، ولا تُحْكِمْ ما أبْرَما، وأرِهِما المَساءةَ فيما
عَمِلا»
(3).
_________
(1) المركب : الأصل والمنبت .« الصحاح - ركب - 1 : 139» .
(2) في « ش» وها مش « م» : فاستعد وا .
(3) أورده المصنف في الجمل : 143 ، باختلاف يسير الى قوله : احتسبنا في ذلك الخير
ورجوناه ، ونقله العلامة المجلسي في البحار 8 : 416 (ط / ح ) .
( 251 )
فصل
ومن كلامِه عليهِ السّلامُ حينَ
نهَض من ذي قار متوجِّهاً إِلى البصرةِ

بعدَ حمدِ الله والثّناءِ عليهِ والصّلاةِ على رسول اللهِ صلّى اللهُ عليهِ
وآلهِ : «أَمّا بعدُ : فإِنَّ اللهَ فَرَضَ الجِهادَ وعظَّمَهُ ، وتجعَلَهُ نصْرةً له ، واللهِ
ما صَلَحَتْ دُنيا قَطُّ ولا دِينٌ إِلآ به . وِانّ الشيطانَ قد جَمَعَ حِزْبَهُ ،
واستجلَبَ خَيْلَهُ ، وشبَّهَ في ذلك وخَدَعَ ، وقد بانَتِ الاُمورُ وتمخَّضَتْ .
واللهِ ما أنكروا عَليَّ مُنكَراً ، ولا جَعَلوا بيني وبينَهِم نِصْفاً، وِانّهم لَيطلُبون
حقّاً تَركوه ، ودماً هم سفكوه ، ولَئنْ كُنتُ شرِكتُهم فيهِ إِنَّ لهم لَنصيبَهم
منه ، ولَئنْ كانوا وَلُوهُ دُوني فما تَبِعتُهُ إِلاّ قِبَلهم ،وِانّ أعظمَ حُجَّتِهم لَعَلى
أنفُسِهم ، وإنّي لعَلى- بَصيرتي ما لُبِّسَتْ عَلَيَّ ، وإنَّها لَلفئَةُ الباغيةُ فيها
الحُمّى
(1) ُوالحُمّةُ
(2) قد طالتْ هُلْبَتُها وأمكًنَتْ دِرَّتها ، يرضَعون أمَّاً فطًمَتْ ، ويحُيونَ
بَيْعةً تُرِكَت ، لِيعودَ الضَّلالُ إِلى نِصابهِ .

ما أعتذِرُ ممّا فَعلتُ ، ولا أتبرأ ممّا صَنَعت ، فخَيْبةً للدّاعي ومَنْ
دعا لو قيلَ له : إِلى مَنْ دَعواكَ ؟ وإلى مَنْ أجَبْتَ ؟ ومَنْ إِمامُكَ ؟ وما
سًنَّتهُ ؟ إِذاً لَزاحَ الباطلُ عن مَقامِه ، ولَصَمت لِسانُهُ فَما نَطَقَ . وايمُ
اللّهِ ، لافرُطَن
(3)لهم حَوضاً أنا ما تحته
(4)، لايَصْدُرونَ عنه ولايَلْقَونَ بعدَه ريّاً
_________
(1) الحُمى : المرض المعروف .
(2) الحُمَة : سم العقرب ، والمراد الشدة والضيق . «الصحاح - حمى - 6 : 2320» .
(3) أفرط الحوض : ملأه . «الصحاح - فرط -3 : 1148».
(4) الماتح : المستقي . «الصحاح - متح - 1 : 403» .
( 252 )
أبداً، وانّي لَراضٍ بحُجّةِ اللهِ عليهم وعُذرِه فيهم ، إِذ أنا داعيهم فمُعْذِرٌ
إِليهم ، فإِن تابوا وأقبلوا فالتّوبةُ مَبذولةٌ والحقُّ مَقبولٌ ، وليسَ على اللّه
كُفرانٌ ، وِانْ أَبَوْا أعطيتُهم حَدَّ السّيفِ ، وكفى بهِ شافياً من باطلٍ
وناصراً لمؤمنٍ
(1).
فصل
ومن كلامهِ عليه السّلامُ حينَ
دَخلَ البصرةَ ، َوجمع أَصحابَهُ فحرّضَهم
على الجهادِ

فكانَ ممّا قالَ : «عبادَ اللّهِ ، انْهَدُوا
(2)إِلى هؤلاءِ القوم مُنشرِحةً
صُدوكُم بقتالِهم ، فإِنّهم نَكَثوا بيعتي ، واخرجوا ابنَ حُنيف عاملِي بعَدَ الضربِ
المُبرِّحِ والعُقوبةِ الشّديدةِ، وقَتَلوا السّيابِجةَ
(3)، وقَتلوا حكَيْمَ بنَ جَبَلَةَ العَبْديّ ،
وقَتَلوا رِجالاً صالحِينَ ، ثمَّ تَتَبعَّوا منهم مَنْ نجا يَأخذونَهُم في كلِّ
حائطٍ وتحتَ كلِّ رابيةٍ ، ثمَّ يأتونَ بهم فيَضرِبونَ رِقابَهم صَبْراً . ما
لهم قاتَلَهُمُ اللّهُ أنّى يُؤفَكونَ .
_________
(1) وردت قطع من الخطبة في الاستيعاب 2 : 221 ، ونهج البلاغة 1: 38/9 و55 / 21
و 2 : 26 / 133 ، ونقلها العلامة المجلسي في البحار 8 : 16 4 (ط / ح ) .
(2) نهد القوم لعدوهم : اذا صمدوا له وشرعوا في قتاله «النهاية - نهد - 5: 134» .
(3) السيابجة قوم صالحون كان امير المؤمنين عليهِ السّلامُ سلّم بيت المال بالبصرة اليهم
فكبسهم أصحاب الجمل وقتلوهم وذلك بعد معاهدتهم ألاّ يقتلوا اصحاب امير المؤمنين
عليه السلام . قال الجوهري [في الصحاح - سبج - 1 : 321 ] «السبابجة : قوم من السند
كانوا جلاوزة بالبصرة واصحاب سجن ، والهاء للنسبة والعجمة» وأصل الكلمة : سياه
بجكان . هامش « ش» و « م» .
( 253 )

انْهَدوا إِليهم وكونوا أشِدَّاءَ عليهم ، والْقَوْهُم صابرينَ محتسِبينَ
تَعلمونَ أنّكم مُنازِلوهم ومُقاتِلوهم وقد وطّنتمُ أنفسَكم على الطَّعنِ
الدَعْسِنيِّ
(1)، والضَّرب الطِلَخْفي
(2)، ومُبارَزةِ الأقرانِ ، وأيُّ امرئ منكم
أحَسَّ مِنْ نفسِه رَباطَةَ جَأشٍ عندَ اللقاءِ، ورأى مِنْ أحَدٍ مِنْ إِخوانهِ
فَشَلاً، فليذُب عن أخيهِ الذي فُضِّل عليه كما يَذُب عن نفسِه ، فلو
شاءَ اللّهُ لَجَعَلَهُ مِثْلَهُ»
(3).
فصل
ومن كلامهِ عليهِ السّلامُ حينَ
قُتِلَ طَلْحةُ وانفَضَّ أهلُ البَصرةِ :

«بنا تَسنَّمْتُمُ الشرفاءَ
(4)، وبنا انفجرتم
(5) عنِ السّرارِ
(6)، وبنا
اهتديتُم في الظَّلماءِ؛ وُقِرَ سَمْعٌ لم يفقَهِ الواعِيةَ، كيف يُرَاعُ للنَّبْأَةِ مَنْ
أصَمَّتْهُ الصَّيْحةُ،رُبطَ جَنانٌ لم يُفارِقْهُ الخَفَقانُ؛ ما زِلتُ أتوقَّعُ بكم عَواقِبَ
الغَدْرِ، وأتوسَّمُكَم بحِلْيةِ المغُتَرِّينَ ، سَتَرَني عنكم جِلْبابً الدّينِ ،
وبَصَرَنِيكُم صِدْق النِّيَّةِ ؛ أقمتُ لَكُمً الحقَّ حيثُ تَعرِفونَ ولا دليلَ ،
_________
(1) الدعس : الطعن الشديد . «لسان العرب - دعس - 6 : 83» .
(2) الطلخف : الشديد من الطعن والضرب . «لسان العرب - طلخف - 9 : 223» .
(3) نقله العلامة المجلسي في البحار 8 : 429 (ط /ح ) .
(4) في «م» وهامش « ش» : الشرف .
(5) انفجر، دخل في الفجر. «لسان العرب - فجر- 5: 45» .
(6) السَرار: الليلة التي يستر فيها القمر. «لسان العرب - سرسر - 4 : 357» .
( 254 )
وتَحتَفِرونَ ولا تُمِيهونَ
(1) اليومَ أُنطِقُ لكمُ العَجماء ذاتَ البَيانِ ، عَزَبَ
فَهْمُ امرىءٍ تخلَّفَ عنّي ، ما شككْت في الحقِّ منذُ رأيتُهُ ، كان بنو
يَعقوبَ على المحجّةِ العُظمى حتَّى عَقَّوا أباهم وباعوا أَخاهم ، وبعدَ
الإقرارِ كانتْ توبتُهم ، وباستغفارِ أَبيهِم وأَخيهِم غُفِرَ لهم»
(2).
ومن كلامهِ عليهِ
السّلامُ عندَ تَطوافِه على القَتلى :

«هذهِ قُرَيْشٌ ، جَدَعْتُ أنْفي وشَفَيْتُ نَفْسي ؛ لقد تقدمتُ إِليكم
أُحذِّرُكم عضَّ السُّيوفِ ، وكُنتمُ أَحداثاً لا عِلمَ لكم بما ترَونَ ، ولكنَّه
الحَيْنُ
(3) وسوءُ المَصرَع ، فأَعوذُ باللهِ من سُوء المَصرَعِ».

ثمِّ مَرَّ على مَعْبَدِ بنِ المِقدادِ فقالَ : «رَحِمَ اللهً أَبا هذا ، أَمَا إنًه لو
كانَ حيّاَ لَكان رأيُهُ أَحَسن من رأْيِ هذا» فقالَ عَمَّارُ بنُ ياسِرٍ : الحمدُ
للّهِ الّذي أَوْقَعَهُ وجَعَلَ خَدَّهُ الأسفلَ ، إِنّا ِوالله - يا أَميرَ المؤمنينَ - ما نُبالي
مَنْ عَنَدَ عَنِ الحقِّ مِنْ وَلَدٍ ووالدٍ . فقالَ أمير المؤمنينَ عليهِ السّلامُ :
«رَحِمَكَ اللّهُ وجَزاكَ عنِ الحقِّ خَيراً» .ّ

قالَ : ومَرَّ بعبدِاللهِ بن رَبيْعَة بن دَرَّاجٍ وهو في القتلى فقال : «هذا
_________
(1) أماه الحافر يُميه : اذا انبط الماء ووصل اليه غد حفره البئر. انظر «الصحاح - موه - 6 :
225»وفي هامش «ش» و «م» : تُمهون . وكلاهما بمعنى واحد .
(2) نهج البلاغة 1 : 3/33 باختلاف يسير، ونقله العلامة المجلسي في البحار 8 : 443
(ط /ح ).
(1) الحين : الهلاك . « الصحاح - حين - 5 : 2106» .
( 255 )
البائسُ ما كانَ أخرجَهُ ؟ أدينٌ أخرجَهُ أمْ نَصْرٌ لعُثمانَ!؟ واللهِ ما كانَ رأْيُ
عُثمانَ فيهِ ولا في أبيهِ بحسَنٍ».

ثم مرّ بمَعْبَدِ بنِ زُهَيرِبنِ أبي أُمَيّة
(1) فقالَ : «لوكانتِ الفِتنةُ برأس
الثرَيّا لَتَنَاولَها هذا الغُلامُ ، واللهِ ما كانَ فيها بذي نَحِيزةٍ
(2) ، ولقد أَخبرَني
مَنْ أدركَهُ وِانّه لَيُوَلْوِلُ فَرَقاً مِنَ السَّيفِ».

ثمَّ مَر بمسلِمِ بنِ قَرَظَةَ فقالَ : «البرُّ أخرجَ هذا! واللّهِ لقد
كلَّمَني أنْ اُكلَمَ لَه عُثمانَ في شيءٍ كانَ يدَعيهِ قِبَلَهُ بمكَّة ، فأَعطاهُ عُثمانُ
وقالَ : لَولا أَنتَ ما أعطيتُهُ ، إِنَّ هذا - ما عَلِمتُ - بِئْسَ أخو العَشِيرةِ؛ ثمّ
جاءَ المَشُوْمُ للِحَيْنِ يَنْصُرُعُثمانَ».

ثم مَرَّ بعبدِالله ِبن حُمَيْدِ بنِ زُهَيْرٍ فقالَ : «هذا أيضاً ممّن أَوضَعَ في
قِتالِنا، زَعَمَ يَطلُبُ اللهَ بذلك، ولقد كَتَبَ إِليَّ كُتُباً يُؤذِي فيها عثمان
فأعطاهُ شيئاً فرَضِيَ عنه».

ومّر بعبدِاللهِ بنِ حَكِيمِ بنِ حِزامٍ فقال : «هذا خالف أَباه في
الخروجِ ، وأبوهُ حيثُ لم يَنصُرْنا قد أحسنَ في بيعتهِ لنا، وإنْ كان قد
كفَّ وجَلسَ حيثُ شكَّ في القتال، وما ألومً اليوم مَنْ كفَ عنَّا وعن
غيرنا ولكنَّ المُلِيْمَ الذي يُقاتِلُنا» .

ثمَّ مَرَّ بعبدِاللهِ بنِ المُغِيرةِ بنِ الأخْنَسِ فقالَ : «أَمَّا هذا فقُتِلَ
أبوهُ يومَ قُتِلَ عُثمانُ في الدَّارِ، فخَرَجَ مُغْضَباً لمَقْتَلِ أبيهِ ، وهو غُلامٌ
_________
(1) في «ش» :اُمية ، وفي «م» وهامش «ش»أبي اُمية ،وهو الصواب ، وهو: معبد بن زهير بن أبي
اُمية بن عبداللة بن عمرو بن مخزوم القرشي المخزومي ابن أخي أم سلمة زوج النبي صلى الله
عليه وآله . انظر «أُسد الغابة 4 : 319 ، الإصابة 3: 479 /4327» .
(2) النحيزة : ألطبيعة. «االصحاح - نحز - 3: 898»
( 256 )
حَدَثٌ حُيِّنَ لقتلِه» .

ثمَّ مَرَّ بعبدِاللّهِ بنِ أبي عُثمان بنِ الأخْنَسِ بنِ شرِيقٍ فقالَ :
«أمَّا هذا فإنّي
(1) أنظُرُ إِليهِ وقد أخذَ القومَ السُّيوفُ هارِباً يَعدو مِنَ
الصَّفِّ ، فنَهْنَهْتُ عنهُ فلم يَسمعْ مَنْ نَهْنهْتُ حتَّى قَتَلَهُ ، وكانَ هذا
ممّا خَفِيَ على فِتيان قُريش ، أغمار
(2)، لا عِلمَ لهم بالحربِ ، خُدِعوا
واستُزِلُّوا، فلمّا وَقَفَوا وَقَعُوا فقُتِلوا».

ثمَّ مشى قليلاً فمرَّ بكَعْب بنِ سُوْرٍ فقالَ : «هذا الَّذي خَرَجَ
علينا في عُنُقِه المًصحَفُ ، يَزعُمُ أنَّه ناصِرُ أمه ، يَدعو النّاسَ إلى ما فيهِ
وهوَ لا يَعلَمُ ما فيهِ ، ثمَّ استفتحَ وخاب كل جبار عنيد. أمَا إِنه دعا اللّه أَن
يَقتُلنَي فقَتلَهُ اللّهُ . أجلِسُوا كَعْبَ بنَ سُوْرٍ» فأجِلسَ ، فقالَ أميرُ المؤمنينَ
عليهِ السّلامُ : «يا كعبُ ، قد وَجدْتُ ما وَعَدَني ربِّي حَقَّاً، فَهلْ وَجدْتَ
ما وَعَدَكَ ربُكَ حَقَّاً؟ ثَم قالَ : أَضجِعوا كَعْباً».

ومرَّعلى طَلْحة بنِ عبيد الله فقالَ : «هذا النّاكِثً بَيعتي ، والمنشئ
الفِتنةَ في الأًمّةِ ، والمُجلِبُ علي ، الدّاعي إِلى قَتْلي وقَتل عِتْرتي .
أَجلِسوا طَلْحةَ» فأُجلِس ، فقالَ أميرُ المؤمنينَ عليهِ السّلامُ «يا طلحة بنَ
عُبَيْدِاللّهِ ، قد وجدْتُ ما وَعَدَني ربّي حقّاً، فهلْ وجدْتَ ما وَعدَ ريًّكَ
حقّاً!؟ ثمّ قالَ : أضجِعوا طلحةَ» وسارَ. فقالَ له بعضُ مَنْ كانَ معَهُ :
يا أَميرَ المؤمنينَ ، أتُكلِّمُ كَعْباً وطَلْحةَ بعدَ قَتلِهما؟ قالَ : «أمَ واللّهِ ،إنّهما لقد
سَمِعا كلامي كما سَمِعَ أهلُ القَلِيبِ
(3) كلامَ رسولِ اللّهِ صلّى اللّهُ صلى الله
_________
(1) في «م» وهامش «ش» : فكأني .
(2) الغمر : الذي لم يجرب الأمور. « الصحاح - غمر - 2 : 772» .
(3) أهل القليب : هم مشركو قريش الذين قتلوا يوم بدر ورماهم المسلمون في بئر
=
( 257 )
عليهِ وآلهِ يومَ بَدْرٍ»
(1).
فصل
ومن كلامهِ عليهِ السّلامُ بالبصرةِ حينَ
ظهرَ على القومِ ، بعدَ حمدِ اللّهِ والثّناءِ عليهِ

«أمّا بعدُ: فإِنّ اللّهَ ذو رحمةٍ واسعةٍ ، ومغفرةٍ دائمةٍ ، وعفوٍ
جَمٍّ ، وعقابِ أليمٍ ؛ قضى أنّ رحمتَهُ ومغفرتَهُ وعفوَهُ لأهل طاعتِه من
خلقِه ، وبرحمَتِه اهتدى المهتدونَ ؟ وقضى أَنّ نِقْمتَهُ وسَطَوته وعقابَهُ على أهلِ
معصيتهِ من خلقِه ، وبعدَ الهُدى والبيناتِ ما ضل الضّالُّونَ . فما ظنُّكم
- يا أهلَ البصرةِ - وقد نكثْتُم بيعتي وظاهَرْتُم عَلَيَّ عدوِّي ؟».

فقامَ إِليه رجلٌ فقالَ : نَظُنُ خيراً ، ونَراكَ قد ظَفِرْتَ وقَدَرْتَ ، فإِنْ
عاقبْتَ فقدِ اجترمْنا ذلكَ ، وِان عفوْتَ فالعفوُ أَحبُّ إِلى اللّهِ .

فقال : «قد عفوْتُ عنكم ، فإِيّاكم والفتنةَ ، فإِنّكم أوِّلُ الرّعيّةِ نَكَثَ
البيعةَ وشقَّ عصا هذهِ الاُمّةِ» قالَ : ثمّ جلسَ للنّاسِ فبايَعوه
(2).
_________
=
هناك .
(1) أورده المصنف في الجمل : 209 - 211 ، باختلاف يسير، ونقله العلامة المجلسي في البحار
8 : 437 (ط / ح ) .
(2) نقله العلامة المجلسي في البحار 8 : 442 (ط /ح ).
( 258 )
فصل
ثمّ كتبَ عليهِ السّلامُ بالفتحِ إِلى أهلِ الكُوفِة
« بسمِ اللّهِ الرّخمنِ الرّحيمِ

من عبدِاللّهِ عليٍّ أميرِ المؤمنينَ إِلى أهلِ الكُوفةِ : سلامٌ عليكم ،
فإِنّي أحمد إِليكم اللّهَ الذي لا إِلهَ إلاّ هو، أمّا بعدُ : فإِنّ اللّهَ
حَكم عَدل لا يغيًرُ ما بقومِ حتّى يغيّروا ما بأنفسِهم ، وإِذا
أرادَ الله بقومٍ سوءاً فلا مردَّ لَه وما لهم من دونهِ من والٍ .
اخبركم عنّا وعمّن سِرنا إِليهِ من جُموعِ أهلِ البَصرةِ،
ومن تأشَّبَ إِليهم
(1) من قُريشٍ وغيرِهم معَ طلحةَ والزُّبيرِ،
ونكثِهم
(2) صفقةَ أيمانِهم ، فنهضتُ من المدينةِ حينَ انتهى إِلي خبرُ
من سارَ إِليها وجماعتِها، وما صنعوا بعاملي عُثمان بنِ حُنَيفٍ ،
حتّى قدمت ذا قار ، فبعثتُ الحسنَ بنَ عليّ وعمارَ بنَ ياسرٍ وقيسَ بنَ
سعدٍ فاستنفرتُكم بحقِّ اللّهِ وحق رسولهِ وحقّي ، فأقبلَ إِليَّ
إِخوانُكم سِراعاً حتّى قَدِموا عَلَيَّ ، فسِرت بهم حتّى نزلتُ
ظهرَ البصرةِ ، فأعذرتُ بالدّعاءِ ، وقمتُ بالحجّةِ ، وأقلتُ
العثرةَ والزّلّةَ من أهلِ الرِّدّةِ من قُريشٍ وغيرِهم ، واستتبتُهم من
نكثِهم بيعتي وعهْد اللّهِ عليهم ، فأبَوْا الاّ قتالي وقتالَ من معي
_________
(1) تاشب اليهم : انضم اليهم واختلط بهم . «الصحاح - أشب - 1 : 88».
(1) في «ش» ونقضهم .
( 259 )
والتّماديَ في البغيِ
(1)، فناهضتُهم بالجهادِ ، فقَتلَ اللّهُ من قَتلَ
منهم نكثاً، ولدّ من وولّى إلى مصيرِهم ، وقُتِلَ طَلحةُ والزُبيرُ على
نكثِهما وشقاقِهما، وكانتِ المرأةُ عليهم أشأَمَ من ناقةِ الحجرِ
(2)،
فخُذِلوا وأدبروا وتقطّعتْ بهِمُ الأسبابُ ، فلمّا رأوا ما حلَّ بهم
سألوني العفوَ، فقَبلتُ منهم وغَمَدتُ السّيفَ عنهم ،
وأجريتُ الحقَ والسنةً بينَهم ، واستعملتُ عبدَاللّه بنَ العباسِ
على البَصرةِ، وأنا سائرٌ إِلى الكُوفةِ إِن شاءَ اللّهُ ، وقد بعثتُ
إِليكم زَحْرَبنَ قَيسٍ الجُعْفيّ لِتَسألوه فيُخبركم عنّا
وعنهم ، وردّهمُ الحقَّ علينا، وردّ اللّهِ لهم وهم كارهونَ ،
والسّلامُ عليكم ورحمَةُ اللّهِ وبركاته»
(3)
فصل
ومن كلامِه عليهِ السّلامُ
حينَ قَدِمَ الكُوفةَ من البصرةِ

بعدَ حمدِ الله والثنّاءِ عليهِ : «أمّا بعدُ : فالحمدُ للهِّ الّذي نَصرَ
وَليَّه ، وخَذلَ عدوَّه ، وأعزَّ الصّادِقَ المُحِقَّ ، وأذلَ الكاذِبَ المُبطِلَ .
عليكم - يا أهلَ هذا المِصر- بتقوى اللهِ وطاعةِ من أطاعَ اللّهَ من أهلِ
_________
(1) في «م» وهامش «ش»: الغي .
(2) اشارة الى ناقة ثمود، ونحوه ما ورد في المثل : أشأم من أحمر عاد وهو قدار بن قديرة
الذي عقر ناقة صالح عليه السلام . انظر: سوائر الامثال : 212 .
(3) أورده المصنف في الجمل : 213 ، والشيخ الطوسي في تلخيص الشافي 4 : 135
باختلاف يسير، ونقله العلامة المجلسي في البحار 8 : 442 (ط / ح ) .
( 260 )
بيتِ نبيِّكم ، الذينَ هم أولى بطاعتِكم من المنُتَحِلينَ المُدَّعِينَ القائلينَ :
إِلينا إِلينا، يتفضَّلونَ بفضلنا، ويجاحِدونا أمرَنا، وينازعونا حقَنا
ويدفعونا عنه ، وقد ذاقُوا وَبالَ ما اجترحُوا، فسوفَ يَلقَوْنَ غَيّاً. وقد
قَعدَ عن نصرَتي منكم رجال ، وأنا عليهِم عاتِبٌ
(1) زارٍ فاهجُروهم
وأسمِعوهم ما يَكرَهونَ حتّى يُعتبونا ونَرى منهم ما نُحِبُ»
(2).
فصل
ومن كلامهِ عليهِ السّلامُ
لمّا عَمِلَ على المسير إِلى
الشّامِ لقتالِ مُعاوية بنِ أَبَي سُفيانَ

بعدَ حمدِ اللّهِ والثّناءِ عليهِ والصّلاةِ على رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ
وآلهِ : «اتقوا اللّهَ - عبادَ اللّهِ - وأطيعوهُ وأطيعوا إِمامَكم ، فإِنّ الرّعيّةَ
الصالحةَ تَنجو بالإمام العادلِ . أَلا وِانّ الرّعيّةَ الفاجرةَ تهلكُ بالإمام
الفاجرِ، وقد أَصبحََ مُعاويةُ غاصِباً لما في يديهِ من حقّي ، ناكِثاً
لبيعتي ، طاعِناً في دِينِ اللّهِ عزَ وجلَّ . وقد عَلِمتمُ -أَيُّها المسلمونَ -
ما فَعلَ النّاسُ بالأَمسِ ، فجئتموني راغِبينَ إِليَ في أَمرِكم حتّى
استخرجتُموني من منزلي لِتبايعوني ، فالْتَوَيْتُ عليكم لأبلُوَ ما عندَكم ،
فرادَدْتُمُوني القولَ مِراراً ورادَدتُكُموهُ ، وتَكَأْكَأْتُم عَلَيَّ تَكَأْكُؤَ الإبِلِ على
حِياضِها حِرصاً على بَيعتي ، حتّى خِفتُ أَن يَقتُلَ بعضُكم بعضاً، فلمّا
_________
(1) في هامش «ش» و«م» : عائب ، ونسبه في هامش «ش» الى نسخة الشيخ .
(2) وقعة صفين : 4 ، امالي المفيد: 127 ، ونقله العلامة المجلسي في البحار 8 : 465
(ط /ح ).