رأيتُ ذلكَ منكم رَوَّيْتُ في أمري وأمرِكم ، فقلتُ : إِنْ أَنا لم اُجِبْهم إِلى القِيام بأمرِهم ، لم يُصيبوا أحَداً منهم يَقومُ فيهم مَقامي ، ويَعدلُ فيهم عَدْلي . وقلتُ : واللهِ لألِيَنَّهم وهم يَعرِفونَ حقّي وفضلي أحبُّ إِلي من أنْ يلُوني وهم لا يَعرِفونَ حّقيِّ وفضلي . فبسطت يدي لكم فبايَعتُموني - يا معشرَ المسلمينَ - وفيكُم المهاجِرونَ والأنصارُ والتّابعونَ بإِحسانٍ ، فأَخذتُ عليكم عهدَ بَيعتي وواجبَ صَفقتي عهدَ اللّهِ وميثاقَه ، وأشدَّ ما أُخِذَ على النّبيِّينَ من عهدٍ ومِيثاقِ ، لَتَفُنَّ لي ولَتَسْمَعُنَّ لأمري ولَتُطيعوني وتُناصِحوني وتُقاتِلونَ معي كلًّ باغٍ عَلَيَّ ، أو مارِقٍ إِنْ مَرَقَ ، فأنعمتُم (1) لي بذلكَ جميعاً . وأخذتُ عليكم عهدَ الله وميثاقَه وذمّة اللّهِ وذمِّةَ رسولهِ ، فأَجبتمُوني إِلى ذلكَ ، وأشهدتُ اللّهَ عليكم ، وأشهدتُ بعضَكم على بعضٍ ، فقمتُ فيكم بكتاب اللهِ وسنّةِ نبيِّه صلّى اللّهُ عليه وآلهِ .َ
فالعَجبُ من مُعاوية بنِ أبي سفيانَ ! يُنازعني الخلافةَ، ويجحدُني الإمامةَ، ويَزعمُ أنّه أحقُّ بها منّي ، جرأةً منه على اللّهِ وعلى رسولهِ ، بغيرِحقٍّ له فيها ولا حجّةٍ ، لم يبايعْه عليها المهاجرونَ ، ولا سلّمَ له الأنصار والمسلمونَ .
يا معشرَ المهاجرينَ والأنصارِ، وجماعة من سَمعَ كلامي ، أما أوجبتُم لي على أنفسِكمُ الطّاعةَ ، أما بايعتُموني على الرّغبةِ ، أما أخذتُ عليكمُ العهدَ بالقبولِ لقولي ، أما كانتْ بَيعتي لكم يومئذٍ أوكدَ من بيعةِ أبي بكرٍ وعُمَر فما بالُ من خالفني لم يَنقُضْ عليهما حتّى مَضَيا، ونَقَضَ عَليَّ ولم يَفِ لي !؟ أما يَجبُ عليكم نصحي ويَلزمُكم أمري ؟ أما
_________
(1) في هامش «ش» و«م» : انعمتم : قبلتم وقلتم نعم .

( 262 )

تَعلمونَ أنّ بَيعتي تَلزمُ الشّاهِدَ منكم والغائبَ !؟.
فما بالُ مُعاويةَ وأصحابِه طاعِنينَ في بَيعتي ؟ ولِمَ لَمْ يَفُوا بها لي وأنا في قَرابتي وسابقتي وصِهري أولى بالأمرِ ممّن تَقدَّمَني ؟ أما سَمِعْتم قولَ رسول اللّهِ صَلّى اللّهُ عليهِ وآلهِ يومَ الغديرِ في وِلايتي ومُوالاتي !؟ فاتَّقوا اللّهَ - أَيّها المسلمونَ - وتَحاثُّوا على جهادِ مُعاويةَ القاسِطِ النّاكِثِ وأصحابِه القاسِطينَ .
اسمعوا ما أتلو عليكم من كتاب اللهِ المنُزَل على نبيِّه المرُسَل لِتَتَعِظوا، فإِنّه والله عظة لكم ، فانتفِعوَا بمَواعظِ اللّهِ ، وازدجِروا عن مَعاصي اللهِ ، فقد وَعَظَكمُ الله بغيركِم فقالَ لنبيِّه صلّى اللهُ عليهِ والهِ (المْ تَرَ إِلَى اْلمَلأ مِنْ بَنيْ إِسْرَائيْلَ مِنْ بَعْدِ مُوسًى إِذْ قَالوا لِنَبِيٍّ لَهُم ابْعَثْ لَنَا مَلِكَاً نُقَاتِلْ في سَبيْل اللّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمً الْقِتَال ألاّ تُقَاتِلوُا قَالوُاوَمَا لًنَا ألاَّ نُقَاتِلَ فِيْ سَبيْلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَابنَائِنَا فَلَمّاَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوا إلاّ قَلِيْلاً مِنْهُمِْ وَاللّهَ عَلِيْمٌ بالظَّالمِيْنَ * وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهمْ اِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوْتَ مَلِكَاَ قَالُوْا أنّى يًكُوْنُ لَهُ اْلمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أحَقُّ باْلمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادًهُ بَسْطَةً في الْعِلْم وَالْجسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِيْ مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيْمٌ )(1).
أيُّها النَّاس ، إِنّ لكم في هذهِ الآياتِ عِبرةً ، لِتَعلموا أنّ اللّهَ تعالى جَعلَ الخِلافةَ والإمرةَ من بعدِ الأنبياءِ في أعقابهم ، وأنه فَضَّلَ طَالُوتَ
_________
(1) البقرة 2 : 246 ـ 247.

( 263 )

وقَدَّمَهُ على الجَماعةِ باصطفائهِ إِيّاهُ ، وزِيادتهِ بَسطةً في العلمِ والجسمِ ، فهل تَجِدونَ اللهَ اصطفى بني أُميّةَ على بني هاشم ! وزادَ مُعاويةَ عَلَيَّ بَسطةً في العلمِ والجسم ! فَاتَّقوا اللهَ - عبادَ اللهِ - وجاهدوا في سبيلهِ قبلَ أنْ ينالَكم سخطُه بعصيانِكم له ، قالَ اللّهُ سُبحانَه : (لُعِنَ الَّذِيْنَ كَفَرُوْا مِنْ بَنْي إِسْرَائِيْلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيْسى بْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِمَا عَصَوْا وكَانُوْا يَعْتَدُوْنَ * كَانُوْا لا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُنْكَرٍ فَعَلُوْهُ لَبئْسَ مَاكَانُوْا يَفْعَلُوْنَ )(1) (إِنَّمَا اْلمُؤْمِنُوْنَ الَّذِيْنَ آمَنُوْا بِاللّهِ وَرَسُوْلِهِ ثُمَ لَمْ يَرْتَابوْا وَجَاهَدُوْا باَمْوَالِهِمْ وانفسِهِمْ فيْ سَبيْلِ اللّهِ أولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ)(2)(يَا أيُّهَا الّذِيْنَ آَمَنُوْا هَلْ أدُلكُم فًىَ تَجَارَةٍ تُنْجِيْكُمْ مِنْ عَذَاب ألِيْمٍ * تُؤْمِنُوْنَ ِبالله وَرَسُوْلِهِ وَتجَاهِدُوْن فيْ سَبِيلِ اللّهِ بأمْوَالِكُمْ وَأنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمَْ إنْ كُنْتًمْ تَعْلَمُوْنَ * يَغفِرْ لَكُمْ ذُنوْبكُمْ وَيُدْخلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجرِيْ مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِيْ جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوزُ الْعَظِيْم )(3).
اتَّقوا الله - عبادَ اللّهِ - وتَحاثُّوا على الجهادِ معَ إِمامِكم ، فلو كانَ لي منكم عِصابةٌ بعددِ أهلِ بَدْرٍ ، إِذا أمرتُهم أطاعوني ، وِاذا استنهضتُهم نَهَضوا معي ، لاستغنيتُ بهم عن كثيرٍ منكم ، وأسرعتُ النهوضَ إِلى حربِ مُعاويةَ وأصحابِه فإنّه الجهادُ المفروضُ»(4).

_________
(1) المائدة 5: 78- 79 .
(2) الحجرات 49 :15 .
(3) الصف 61 : 10-12 .
(4) الاحتجاج : 172 ، ونقله العلامة المجلسي في البحار 8 : 472 و 697 (ط / ح ) .

( 264 )

فصل
ومن كلامهِ عليهِ السّلامُ وقد
بَلغَه عن مُعاويةَ وأهل الشّام
ما يؤْذيهِ مِنَ الكلام ، فقالَ :
«الحمدُ للّهِ ، قديماً وحديثاً ما عاداني الفاسقونَ فعاداهُمُ اللّهُ ، أَلم تَعجَبوا، إِنّ هذا لَهو الخَطْبُ الجَليلُ ، انّ فُسَّاقاً غيرَ مَرضِيَينَ ، وعَنِ الإسلام وأهلِه مُنحرِفينَ (1)، خَدَعوا بعضَ هذهِ الأمّةِ، وأَشْرِبوا قُلوبهم حُبَّ الفِتنةِ، واستمالوا أهواءهم بالإفكِ والبُهتانِ (2)،قد نَصَبوا لنا الحربَ ،وهَبُّوا(3) في إِطفاءِ نُورِ اللّهِ ، والله مُتمّ نوره ولوكَرِهَ الكافِرونَ . اللّهمَّ فإنْ رَدُّوا الحقَّ فاقْصُصْ (4) جَذْمَتهم ْ(5)، وشَتِّتْ كلمتَهم ، وأبسِلْهم (6) بخطاياهُم ، فإِنّه لا يَذِلُّ من واليتَ ، ولا يَعِزُّمن عاديتَ»(7).

_________
(1) في «م» وهامش «ش»: متخوفين .
(2) في «ش» : والعدوان .
(3) في «ش»: همّوا.
(4) كذا في هامش «ش» و «م» ومعناه : اقطع . وفي «ش» و«م» : فافضض ، وهذا يناسب ما نقله الطبري : فافضض خدمتهم ، بدل ة جذمتهم ، ومعناه : فرّق جمعهم.
(5) جذم الشيء : اصله . «الصحاح - جذم - 5 : 1883» .
(6) أبسله : أسلمه للهلكة . « الصحاح - بسل - 4 : 1634» .
(7) نقله العلامة المجلسي في البحار 8 : 473 (ط /ح ).

( 265 )

فصل
ومن كلامه عليهِ السّلامُ في
تحضيضِه على القتالِ يومَ صِفَينَ
«عبادَ الله ، اتَّقوا الله ، وغُضُّوا الأبصارَ، واخْفِضوا الأَصواتَ ، وأَقِلُّوا الكلامَ ، ووَطِّنوا أَنفسَكم على المُنازَلةِ والمُجاوَلةِ والمُبارَزة والمُبالَطةِ»(1) والمُبالَدةِ (2) والمُعانَقةِ والمُكادمة (3) ، واثبتُوا ، واذكُروا الله كثيراً لعلَّكم تُفلِحونَ ، ولا تَنازَعُوا فتَفشَلوا وتَذهبَ رِيْحُكُم واصبروا إِنَّ الله معَ الصّابِرينَ . اللّهمَّ ألهمْهُمُ الصَّبرَ، وأنزلْ عَليهمُ النَّصْرَ،َ وأعْظِمْ لَهُمُ ا لأجْرَ»(4).ََ


فصل
ومن كلامهِ عليهِ السّلام أيضاً في هذا المعنى
«معشرَ المسلمينَ إِنّ اللهَ قد دَلَّكم على تجارةٍ تنُجِيْكم من عذابِ أليمٍ ، وتُشْفي بكم على الخيرِ العظيمِ ، الإيمان باللهِ ورسولِ صلّى اللهَ
_________
(1) المبالطة : المضاربة بالسيوف . «الصحاح - بلط - 3 : 1116» .
(2) المبالدة : مثل المبالطة ، وهي المضاربة بالسيوف . «الصحاح - بلد - 2 : 449» .
(3) المكادمة: شدة القتال . انظر «لسان العرب - كدم - 12 : 510» .
(4) وقعة صفين : 204 ، تاريخ الطبري 5: 11 ، شرح النهج الحديدي 4 : 26 ، ورواه الكليني في الكافي 5 : 2/38 باختلاف يسير، ونقله العلامة المجلسي في البحار 8 : 510 (ط / ح ).

( 266 )

عليه وآله والجهاد في سبيلهِ ، وجَعَلَ ثوابَه مغفرةَ الذَّنب ، ومَساكِنَ طيِّبةً في جنّاتِ عَدْنٍ . ثمَّ أخبركم أنّه يُحبُ الّذينَ يُقاتِلوَنَ في سبيلهِ صفّاً كأنّهم بُنيانٌ مَرصوصٌ ، فقَدِّموا الدّارِع وأخِّروا الحاسِرَ، وعَضّوا على الأضراسِ فإِنّه أنْبى للِسُيوفِ عَنِ الهام ، والْتَوُوا في أطرافِ الرِّماجِ فإِنّه أَموَرُ للأسِنَّةِ، وغُضُّوا الأبصارَ فإِنَّه أضبطُ (1) للجَأْشِ واسْكَنُ لِلقُلوبِ ، وامِيتوا الأصواتَ فإِنّه أطردُ للفشلِ وأولى بالوَقارِ. ورايتَكم فلا تُميلوها ولا تُخَلُّوها ولا تَجعلوها إلأ بأيدي شُجعانِكم ، فإِنّ المانِعينَ للذِّمارِ الصّابرينَ على نزُولِ الحَقائقِ أهل الحِفاظِ الّذين يَحُفًّونَ براياتِهم ويكتنِفونَها.
رَحِمَ اللّهُ امرَءاً منكم آسى أخاهُ بنفسِه ، ولمِ يَكِلْ قِرْنَه إِلى أخيهِ فيجتمعَ عليهِ قِرْنُه وقِرْنُ أخيهِ ، فيَكتسِبَ بذلكَ لائمةَ وياتيَ به دَناءةً، فلا تَعَرَّضُوا لِمَقْتِ اللّهِ ، ولا تَفِرُّوا مِنَ الموتِ فإنّ اللّهَ تعالى يَقولُ : (قُلْ لَنْ يَنْفَعكُمُ الْفِرَارُإِنْ فَرَرتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أوِالْقَتْلِ وَإِذا لا تُمتّعون إِلاَّ قَلِيْلاً)(2) . وايمُ اللّهِ لَئنْ فَرَرْتُم من سَيفِ العاجِلةِ لا تَسلَموا من سَيفِ الآخِرةِ، فاستعينوا بالصّبرِوالصّلاةِ والصِّدقِ في النِّيّةِ ، فإِنَّ اللّهَ تعالى بعدَ الصّبر يُنزلُ النّصرَ»(3).

_________
(1) في « م» وهامش « ش» : أربط .
(2) الاحزاب 33: 16 .
(3)وقعة صفين :235 ، تاربخ الطبري 5 : 16 ، الكافي 5: 39، شرح النهج الحديدي 5: 187 باختلاف يسير، ونقله العلامة المجلسي في البحار 8 : 510 (ط / ح )

( 267 )

فصل
ومن كلامهِ عليهِ السّلامُ وقد مَرَّ
برايةٍ لأهلِ الشّامٍ لا يَزولُ اصحابُها عن
مَواقِفهم صَبْراَ على قِتالِ المؤمِنين ،
فقالَ لأصحابهِ : «إِنْ هؤلاءِ لن يَزولوا عن مَواقفِهم دونَ طَعْنٍ دِراك يخرجُ منه النَسيمُ ، وضربٍ يَفلِقُ الهامَ ويُطِيح العِظامَ وتَسقُطُ منه المَعاصِمُ والأكُفُ ، وحتّى تُصْدعَ جباهُهم بعمُدِ الحَديدِ، وتَنتثِرَ حواجِبُهم على الصُّدورِ والأذقانِ . أينَ أَهلُ الصّبرِ؟ أينَ طلاب الأجْرِ!؟» فثارَ إِليهم حينئذٍ عِصابةٌ مِنَ المسلمينَ فكَشَفُوهم (1).

فصل
ومن كلامهِ عليهِ السّلام في هذا المعنى
«إِنَّ هؤلاءِ القومَ لم يكونوا لِيُنِيبوا إِلى الحقِّ ، ولا لِيُجِيبوا إِلى كلمةِ السّواءِ حتَّى يًرْمَوْا بالمنَاسِرِ(2) تَتبعُها العَساكِرُ، وحتّى يُرجمَوا(3) بالكَتائبِ تَقفوها الجَلائبُ (4)، وحتّى يُجَرَّ ببلادِهِمُ الخَمِيسُ يَتلوهُ الخَميسُ ، وحتّى
_________
(1) كتاب سليم بن قيس : 220 ، وقعة صفين : 392، تاريخ الطبري 5 : 45 ، الكافي 5 : 40
(2) المنسر: قطعة من الجيش تمرّ أمام الجيش الكبير. «الصحاح - نسر- 2 : 827» .

(3) في «م» وهامش «ش» : يزحموا.

(4) الجلائب : الخيل التى تجلب ليقاتل عليها بعد تعب الأولى، أو كتائب أخرى تدخل

=


( 268 )

تَدعَقَ آلخيُولُ(1)في نَواحي أرضهم وبأعنانِ مَساربهم ومَسارحِهم ، وحتّى تُشَنَّ الغاراتُ في كلِّ فَجّ وتَخفقَ عليهمُ الرّايات ، ويَلقاهُم قومٌ صُدْقٌ صُبَّرٌ لا يَزيدهم هَلاكُ منْ هَلَكَ مِن قَتلاهم ومَوتاهُم في سبيلِ اللهِ إِلاّ جدّاً فى طاعةِ اللّهِ ، وحِرصعاً على لقاءِ اللّهِ .
واللهِ ، لقد كُنّا معَ النّبيِّ صلّى اللّهُ عليهِ والهِ يُقْتَلُ آباؤنا وأبناؤنا وِاخوانُنا وأعمامُنا، ما يَزيدُنا ذلكَ إلاّ إِيماناً وتسليماً، ومُضِيّاً على مَضِّ الألمِ ، وجُرأةً على جهادِ العدوِّ، واستقلالاً بمُبارزةِ الأقرانِ . ولقد كانَ الرّجلُ منّا والاخرُ من عدوِّتا يَتصاولانِ تَصاوُلَ الفَحلَينِ ، ويَتخالَسانِ أَنفسَهما أيُّهما يَسقي صاحبَه كأسَ المنيِّةِ، فمرّةً لنا من عدوِّنا، ومرّةً لعدوِّنا منّا، فلمّا رآنا الله تعالى صُبُراً صُدقاً، أنزلَ بعدوِّنا الكَبْتَ ، وأنزلَ علينا النّصر، ولَعمري لو كُنّا نأتي مثلَ ما أتيتم ما قامَ الدِّينُ ولا عَزَّ الإسلامُ ، وايمُ اللهِ لَتَحتَلِبُنَّها دماً عَبيطاً، فاحفَظوا ما اقولُ» (2).


فصل
ومن كلامهِ عليهِ السّلامُ حينَ رجعَ
أصحابهُ عِنَ القتالِ بصِفِّينَ ، لمّا اغترَّهم
مُعاويةُ برفعِ المَصاحِفِ فانصرًفوا عَنِ الحربِ
«لقد فَعَلتُم فعلةً ضعْضَعَتْ مِنَ الإسلامِ قُواهُ ، وأسقطَتْ
_________

=

المعركة بعد الكتائب الاولى .
(1) تدعق الخيل : اي تكثر الغارات . انظر «الصحاح - دعق - 4 : 1474» .
(2) وقعة صفين : 520 ، شرح النهج الحديدي 2 : 239 ، وأورد سليم بن قيس في كتابه : 147 باختلاف وفي ألفاظه ،ونقله العلامة المجلسي في البحار 8 : 506 (ط / ح ) .

( 269 )

مُنَتَه (1)،وأورثَتْ وَهْناً وذِلّةً . لمّا كُنتُمً الأعلَيْنَ ، وخافَ عدوُّكمُ الاجتياحَ ، واستَحَر بهمُ القتلُ ، ووجدوا ألمَ الجراحِ ، رَفعوا المصَاحِفَ ودَعَوْكم إِلى ما فيها لِيَفثؤوكم(2)، عنهم ، ويَقطَعوا الحربَ فيما بينَكم وبينَهم ، ويتربّصُ بكم رَبْبَ المنونِ خَديعةً ومَكيدةً. فما أنتم إِنْ جامعتُموهم على ما أحبُّوا، وأعطيتُموهمُ الّذي سَألوا إلاّ مَغرورونَ . وايمُ اللهِ ، ما أظًنكم بعدها مُوافِقي رُشْدٍ ، ولامُصِيبي حَزْمٍ»(3).


فصل
ومن كلامهِ عليهِ السّلامُ بعدَ كَتْب
الصّحيفةِ بالموادعة والتّحكيم ، وقَدِ
اختلفَ عَليهِ أهَلُ العراقِ في ذلكَ
«واللهِ ، ما رَضِيْتُ ولا أحببْتُ أن ترْضَوْا ، فإِذْ أبيَتْم إِلاّ أن تَرْضَوْا فقد رَضِيْتُ ، واذا رَضِيْتُ فلا يَصلُحُ الرُّجوعُ بعدَ الرِّضا، ولا التبّديلُ بعدَ الإقرارِ، إِلاّ أن يُعصى الله بنقضِ العهدِ، ويُتَعدّى كتابُه بحلّ العقدِ، فقاتِلوا حينئذٍ من ترك أمر الله . وامّا الذي ذكرتُم عنِ الأشترِ من تركهِ أمري بخطِّ يدِه في الكتاب وخلافِه ما أنا عليه ، فليسَ من أُولئكَ ، ولا أخافُه على ذلكَ ، ولئتَ فيكَمِ مثلَه اثنينِ ، بل ليتَ فيكم مثلَه واحداً يَرى في عدوِّكم ما يرى، إِذاَ لخفّت عليَّ مؤونتُكم ،
_________
(1) المُنّة : القوة «الصحاح - منن - 6 : 2207» .
(2) فثأه عنه : كسره وسكّن غضبه . «الصحاح - فثأ - ا : 62».
(3) الكامل في التاريخ 3 : 322 ، ونقله العلامة المجلسي في البحار 8 : 592 (ط / ح ) .

( 270 )

ورَجوتُ أن يَستقيمَ لي بعضُ أوَدِكم ، وقد نهيتُكم عمّا أتيتم فعصيتمُوني ، فكنتُ - أنا وأنتم - كما قالَ أخو هَوازِنَ :
وَهَلْ أنَا إِلامِنْ غَزِيًةَ إِنْ غَوَت * غَوَيْتُ وانْ تَرْشُدْ غَزِيَّةُ أرْشُدِ»(1)

فصل
ومن كلامهِ عليهِ السّلامُ للخوارجِ
حينَ رجعَ إِلى الكُوفةِ ، وهو بظاهرِها قبلَ دخولِه إِيّاها ،
بعدَ حمدِ اللّهِ والثناءِ عليهِ : « اللّهمَّ هذا مَقامٌ من فَلَجَ فيه كانَ أَولى بالفلْجِ يومَ القيامةِ ، ومن نَطِفَ (2) فيه أو غلّ فهو في الآخرِة أعمى وأَضلُّ سبيلاً. نَشَدْتُكم ِبالله أتعلمونَ أَنّهم حينَ رَفَعوا المَصاحِفَ فقلتم نُجيبهُم إلى كتاب الله ، قُلت لكم : إِنّي أعلمُ بالقوم منكم ، إِنّهم لَيسوا بأصحاب دِين ولا قُرآنٍ ، إِنّي صَحِبْتُهم وعَرَفْتُهيم أطَفالاً ورِجالاً فكانوا شًرَّ أَطفالٍ وشرَ رِجالٍ ، امضوا على حقَكم وصدقِكم . إِنّما رَفَعَ القومُ لكم هذهِ المصَاحِفَ خديعةً ووَهْناً ومَكيدةً، فرَدَدْتم عَليَّ رأيي ، وقُلتم : لا، بل نَقبلُ منهم ، فقلتُ لكم : اذكُروا قولي لكم ومعصيتَكم إِيّايَ ، فلمّا أبَيْتُم إلاّ الكِتابَ ، اشترطتُ على الحَكَمينِ أن يُحييا ما أحياهُ القُرآنُ وأن يُميتا ما أماتَ القُرآنُ ، فإِن حَكَما بحكمِ القُرآنِ فليسَ لنا أن نُخالفَ
_________
(1) تاريخ الطبري 5: 59 والكامل لابن الاثير 3 : 322، وفيهما : عدوي بدل عدوكم ،ونقله العلامة المجلسي في البحار 8 : 593 (ط / ح ) ، وأخو هوازن هو دريد بن الصمة . والبيت في ديوانه : 47 /18 .
(2) نَطِف : تلطخ بالعيب واتهم بالريبة . «الصحاح - نطف - 4 : 1434».

( 271 )

حُكْمَ من حَكَمَ بما في الكِتابِ ، وِانْ أبيا فنحن من حكمِهما بُرَآءُ».
فقالَ له بعضُ الخَوارجِ : فخبِّرْنا أتراهُ عَدْلاً تحكيمَ الرِّجالِ في ا لدِّماءِ؟.
فقالَ عليهِ السّلامُ : «إِنّا لم نحكِّمِ الرِّجالَ ، إِنّما حكَّمنا القُرآنَ ، وهذا القُرآنُ إِنّما هو خظ مسطورٌ بينَ دَفتين لا يَنطِقُ ، وإِنَما يَتكلَّمُ بهِ الرَجالُ».
قالوا له : فخبِّرْنا عَنِ الأجَلِ ، لِمَ جَعَلتَه فيما بينَك وبينَهم .
قال : «لِيَتعلَّبَم الجاهلُ ، ويتثبَّتَ العالِمُ ، ولعلَّ اللّهَ أنْ يُصلِحَ في هذهِ الهًدْنةِ هذهِ الامةَ . ادخلوا مِصْركم رَحِمَكُمُ اللّه» ودَخَلوا مِنْ عِندِ آخِرِهم (1).


فصلِ
ومن كلامهِ عليهِ السّلامُ حين نَقَضَ مُعاويةُ العَهْدَ
وبَعَثَ بالضّحّاكِ بنِ قَيْسٍ للغارةِ على أهلِ العِراقِ ، فلَقِيَ عَمْروَ ابن عُمَيْسِ بن مَسعوِد ، فقَتلَهُ الضّحّاك وقَتَلَ ناساً من أصحابه ؛ وذلكَ بعدَ أنْ حَمِدَ اللهَ وأثنى عليهِ ثم قال : «يا أهلَ الكُوفةِ ، اخرُجَوا إلى العبدِ الصّالحِ لمِ الى جيشٍ لكم قد أُصيبَ منه طَرَفٌ . اخرُجوا فقاتِلوا عدوَّكم ، وامنعوا حَرِيمَكم إِن كُنتم فاعلينَ» .

_________
(1) تاريخ الطبري 65:5 باختلاف يسير، ونقله العلامة المجلسي في البحار 8 : 611 (ط / ح ).

( 272 )

قال : فردوا عليهِ ردّاً ضعيفاً، ورأى منهم عَجْزاً وفَشَلاً ، فقالَ : «واللهِ ، لَوَدِدْتُ أَنّ لي بكلِّ ثمانيةٍ منكم رجلاً منهم . ويَحْكُم ، اخرُجوا معي ثمَّ فِرُّوا عنّي إِن بدا لكم ، فوَاللّهِ ما أكرَهُ لقاءَ ربَي على نيَّتي (1) ويَصيرتي ، وفي ذلكَ رَوْحٌ لي عظيمٌ ، وفَرَجٌ من مُناجالَكم ومُقاساتِكم ومُداراتِكم مثلَ ما تُدارَى البِكارُ العَمِدة(2) اوِ الثِّيابُ المُتَهَتِّرةُ(3)، كلَّما خِيْطَتْ(4)من جانبٍ تَهتّكتْ من جانبٍ على صاحبِها»(5).


فصل
ومن كلامهِ عليهِ السلامُ أيضاً في استنفار القوم
واستبطائهم عَن الجهادِ وقد بَلَغَه مَسيرُ بُسرْ بنِ أرطاةَ إلَى اليَمَن
«أَمّا بعدُ: أَيُّها النّاسُ ، فإنّ أوّلَ رَفَثِكُم وبَدْء نَقْضِكم ذهَابُ أُولي النُّهى وأَهلِ الرّأيِ منكم ، الَّذينَ كانوا يلْقَؤنَ فيَصْدُقون ، ويَقولون فيَعدِلونَ ، ويُدْعَوْنَ فيُجيبونَ ، واني واللّهِ قد دَعَوتُكم عَوْداً وبَدْءاً ، وسِرَّاً وجَهْراً ، وفي الليلِ والنّهارِ، والغُدوِّ والآصالِ ، ما يَزيدُكم دُعائي إِلاّ فِراراً وإدباراً ، ما تَنفَعُكُمُ العِظَةُ والدًّعاءُ إِلى الهُدى والحِكمةِ، وِانّي لَعالم بما يُصلِحُكم ويُقيمُ لي أوَدَكم ،
_________
(1) في هامش «ش» و«م» : بينتي .
(2) البكار العَمِدة : ألابل ا لتي ينفضخ سنامها من الركوب . «الصحاح - عمد - 2 : 512» .
(3) متهتر: متمزق . «لسان العرب - هتر - 5 : 249» .
(4) في «م» وهامش «ش» : حيصت .
(5) الغارات 2 : 423 ، شرح النهج الحديدي 2 : 117 ، ونقله العلامة المجلسي في البحار 8 : 700 (ط /ح ).

( 273 )

ولكني والله لا أُصلِحُكم بفسادِ نَفْسي ، ولكنْ أمهلوني قليلاً فكأنّكم واللهِ بامرئٍ قد جاءَكم يَحْرِمُكم ويُعذَبُكم فيعذًبُه الله كما يُعذَبُكم ، إِنّ مِنْ ذلَ المسلمينَ وهَلاكِ الدِّين أن بني أبي سُفيانَ يَدعو الأرذالَ (1)الأشرارَ فيجابُ ، وأدعُوكم وأنتمُ الافضلُونَ الأخيارُ فترُاوِغُونَ وتُدافِعونَ ، ما هذا بفعلِ المُتقِينَ !»(2).


فصل
ومن كلامهِ عليهِ السّلامُ أيضاً
في استبطاءِ مَنْ قَعَدَعن نُصرتهِ
«أيًّها النّاسُ المجتمعةُ أبدانُهم ، المُختلِفةُ أهواؤهم ، كلامُكم يُوهن(3) الصُّمَ الصِّلابَ ، وفعلُكم يُطْمعُ فيكُم عدوَّكمُ المُرتاب . تَقولونَ في المجالسِ كَيْتَ وكَيْتَ ، فإِذا جاءَ القتالُ قُلتم : حِيْدِيْ حَيَادِ(4)، ما عَزَتْ دَعوةُ مَنْ دَعاكم ، ولا استراحَ قَلْبُ مَنْ قاساكمِ ، أعاليلَ أضاليلَ ، سألتُموني التاخيرَ دِفاعَ ذِي الدَّينِ المَطُولِ . لا يَمنعُ الضيْمَ الذّليلُ ، ولا يدرَكُ الحقُّ إلاّ بالجِدِّ . أيَ دارٍ بعدَ دارِكم تَمنَعونَ ؟
_________
(1) في هامش «ش» : الأراذل .
(2) رواه الثقفي في الغارات 2 : 624 ، وأورده مختصراً البلاذري في انساب الاشراف 2 : 458 ، واليعقوبي في تاريخه 2 : 198 نحوه ، ونقله العلامة المجلسي في البحار 8 : 701 (ط /ح ).
(3) في «م» وهامش «ش» : يوهي .
(4) في هامش «ش» : حيدي حيدي .

( 274 )

أمْ مَعَ أيَ إِمامٍ بَعْدي تُقاتِلونَ ؟ المَغرورُ والله مَنْ غَرَرْتُموهُ ، ومَنْ فازَ بكم فازَ بالسهم الأخْيَبِ . أصبحتُ والله لا أُصَدِّقُ قولَكم ، ولا أطمَعُ في نُصرتكم ، فَرَّقَ الله بيني وبينَكم ،وأبدلني بكم مَنْ هوخيرٌ لِى منكم . واللهِ لَوَدِدْتُ أنَّ لي بكلّ عَشرهَ منكم رجلاً من بني فِرَاس بن غَنْمٍ ، صَرْفَ الدًينارِ بالدَرْهمِ» (1)


فصل
ومن كلامهِ عليهِ السّلام ايضاً في هذا المعنى
بعدَ حمدِ اللهِ والثّناءِ عليهِ : «ما أظنُّ هؤلاءِ القومَ - يعنى أهلَ الشّام - إِلاّ ظاهِرينَ عليكم» .
فقالوا له : بماذا يا أَميرَ المؤمنينَ ؟ .
قال : «أرى أُمورَهم قد عَلَتْ ، ونيرانُكم قد خَبَتْ ، وأراهم جادِّينَ ، وأراكم وانِينَ ، وأراهم مجتمِعينَ ، وأراكم متفرِّقينَ ، وأراهم لِصاحبهم مُطيعينَ ، وأراكم لي عاصِينَ . أمَ واللهِ لَئنْ ظَهَرُوا عليكم لتجدُنَّهم اربابَ سوءِ من بعدي لكم ، لكأنّي أنظُرُ إِليهم وقد شاركوكم في بلادِكم ، وحَمَلوا إِلى بلادِهم فيئَكم ، وكأنّي أنظُرُ إِليكم تَكِشُّونَ
_________
(1) روي مثله في البيان والتبيين 2 : 26 ، والعقد الفريد 4 : 161 ، ونثر الدر 1 : 272 ، وفي نهج البلاغة 1: 69 / 28 الى قوله : لا اطمع في نصرتكم ، وامالي الطوسي 1 : 183 إلى قوله : من هو خير لي منكم ، ونحوه في الامامة والسياسة 150:1 ، انساب الاشراف 2 : 380، دعائم الاسلام 1 : 391، ونقله العلامة المجلسى في البحار 8 : 684 (ط / ح ) .

( 275 )

كَشِيْشَ (1) الضِّباب (2)، لا تَأخُذونَ حقَاً ولا تَمنَعونَ لله حُرْمةً، وكأنّي أنظُرُ إِليهم يَقتُلونَ صالِحِيكم ، ويًخيفونَ قُرَّاءَكم ، ويحرِمونَكم يحَجُبونَكم ، ويُدْنُونَ النّاسَ دونَكم ، فلو قد رأيتُمُ الحِرمانَ والأَثَرَةَ ، ووَقْعَ السّيفِ ونُزولَ الخَوفِ ، لقد نَدِمتم وخَسِرتُم على تفريطِكم في جهادِهم ، وتَذاكَرْتُم ما أنتم فيهِ اليومَ مِنَ الخفضِ والعافيةِ ، حينَ لا يَنفَعُكُم التذكار»(3).


فصل
ومن كلامهِ عليهِ السّلامُ لمّا نَقضَ
معاوية بنُ أبي سُفيانَ شرْطَ الموادَعة ،
وأقْبلَ يَشُنُّ الغاراتِ على أهلِ العِراقِ
فقالَ بعدَ حمد الله والثّناءِ عليه : «ما لِمعاويةَ قاتَلَهُ اللّهُ!؟ لقد أَرادني على أمرٍ عظيمٍ ، أَرادَ أَن أَفعلَ كما يَفعلُ ، فأَكونَ قد هَتكْتُ ذِمًتي ونَقَضْتُ عَهْدي ، فيتَخِذَها عَلَيَّ حجةً، فتكونَ عليَّ شيْناً إِلى يوم القيامةِ كلَما ذُكِرْتُ . فإِنْ قيلَ له : أَنتَ بدأتَ ، قالَ : ما علمتُ ولاَ أَمَرتُ ، فمن قائلٍ يقولُ : قد صَدَقَ ، ومن قائلٍ يقولُ : كَذَبَ . أمَ واللّه ، إِنّ الله لَذو أناةٍ وحلمٍ عظيمٍ ، لقد حَلُمَ عن كثيرٍ من فَراعِنةِ الأَوّلينَ
_________
(1) الكشيش : صوت جلد الافعى وغيرها من الحيوان . انظر «الصحاح - كشش - 3 : 1018».
(2) الضباب : جمع ضب ، وهو دابة برية . «مجمع البحرين - ضبب - 2 : 104» .
(3) رواه الثقفي في الغارات 2 : 511باختلاف يسيرفي الالفاظ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار 8 : 701 (ط /ح ).

( 276 )

وعاقَبَ فَراعِنةً ، فإِنْ يُمهِلْهُ اللّهُ فلن يفوتَه ، وهو له بالمِرصادِ على مَجازِ طريقِه ، فليصنع ما بدا له فإِنّا غيرُ غادِرينَ بذِمَّتِنا، ولا ناقِضينَ لعهدِنا، ولا مُرَوِّعينَ لمُسلمٍ ولا مُعاهَدٍ ، حتّى ينقضيَ شرطُ الموادَعةِ بينَنا، إِن شاء الله»(1).


فصل
ومن كلامهِ عليهِ السّلام في مَقامٍ آخرَ
«الحمدُ لله ، وسلامٌ على رسولِ اللّهِ .
أمّا بعدُ : فإِنّ رسولَ الله صلّىاللهُ عليهِ وآلهِ رَضِيَني لنفسِه أخاً، واختصَني (2) له وَزيراً . أيُها النّاسُ ، أنا أنفُ الهُدى وعيناه ، فلا تَستوحِشوا من طريقِ الهُدى لقلَةِ من يَغشاه ؛ من زَعَمَ أنّ قاتلي مؤمنٌ فقد قَتَلَني ، ألا وِانَّ لكلِّ دمٍ ثائراً يوماً ما، وِانَّ الثائرَ في دمائنا والحاكِمَ في حقِّ نفسِه وحقِّ ذوي القُربى واليتامى والمساكينِ وابنِ السّبيلِ الّذي لا يُعجِزُه ما طَلَبَ ولا يَفوته من هَرَبَ (وَسَيَعلَمُ ألّذِيْنَ ظَلَمُوا أيَّ مُنْقَلَبِ يَنْقَلِبونَ )(3). فأُقسم باللّهِ الّذي فَلَقَ الحبّةَ وبَرَأ النَّسَمةَ، لَتَنْتَحِرُنَّ (4) عليهَا يا بَني اُمية، ولَتَعرِفُنَّها في أيدي غيرِكم ودارِ عدوِّكم عمّا قليلِ ، وليَعَلَمُنَّ (5)
_________
(1) نقله العلامة المجلسي في البحار 8: 701 (ط /ح ).
(2) في هامش «ش» و«م» : نصبني .
(3) الشعراء 26 : 227 .
(4) التناحر: الاقتتال . انظر « الصحاح ـ نحر ـ 2 : 824» .
(5) في «م» وهامش «ش» : وستعلمن .

( 277 )

نَبَأهُ بعدَ حينٍ»(1).


فصل
ومن كلامهِ أيضاً في معنى ما تقدّمَ
«يا أهلَ الكُوفةِ ، خُذوا أُهْبَتَكم لجهادِ عدؤِّكم مُعاويةَ وأشياعهِ». قالوا : يا أميرَ المؤمنينَ ، أمهِلْنا يذَهبْ عنّا القًرُ.َ
فقالَ : «أمَ واللهِ الّذي فَلَقَ الحبّةَ وبَرَأ النَّسَمةَ ، لَيَظهَرَنَ هؤلاءِ القومُ عليكم ، ليسَ بأنّهم أولى بالحقِّ منكم ، ولكنْ لطاعتِهم مُعاويةَ ومَعصيتِكم لي . واللّهِ لقد اصبحَتِ الأممُ كلُّها تَخافُ ظُلْمَ رعاتِها، وأصبحْتَ انا أخاف ظُلمَ رعييّتي . لقدِ استعملتُ منكم رجالاً فخانوا وغَدَروا، ولقد جَمَعَ بعضُهم (2) ما ائتمنتُه عليه من َفيْءِ المسلمينَ فَحَمَلَه إِلى مُعاويةَ ، واخرُ حَمَلَه إِلى منزلي ، تَهاوُناً بالقرانِ ، وجُرأةً على الرّحمنِ ، حتّى لو أنَني ائتمنتُ أحدَكم على عِلاقةِ سَوْطٍ لَخانني (3)، ولقد أعييتُموني».َ
ثمّ رَفَعَ يدَه إِلى السّماءِ فقالَ : «اللّهمَّ إِني قد سَئمتُ الحَيَاةَ بينَ ظَهْرانيْ هؤلاءِ القوم ، وتَبرَّمتُ الأمَلَ (4)فأتحْ لي صاحِبي حتى أستريحَ منهم ويَستريحوا منّي ، وَلن يُفلحوا بَعدي»(5)

_________
(1) نقله العلامة المجلسي في البحار 8 : 701 (ط /ح ).َ
(2) في هامش «ش» : بعضكم .َ
(3) في «م» وهامش «ش» : لخان .َ
(4) في هامش «ش» و«م» : الأجل .َ
(5) نقله العلامة المجلسي في البحار 8 : 701(ط /ح ).

( 278 )

فصلَ
ومن كلامهِ عليهِ السّلامُ في مَقامٍَ آخر
«أيُّها النّاسُ ، إِنّي استنفرتُكم لجهادِ هؤلاءِ القوم فلم تَنفِروا، وأَسمعتُكم فلم تُجيبوا، ونَصَحتُ لكم فلم تَقْبَلوا، شُهودٌ كالغُيَّب ، أتلو عليكُمُ الحِكمةَ فتُعرِضونَ عنها، وأعِظُكم بالموعظة(1) البالَغة فَتَتفَرقونَ عنها، كأنّكم حُمُرٌ مُستنفِرةٌ فَرَّتْ من قَسْوَرةٍ ؛ وأحُثّكم على جهادِ أَهلِ الجَوْرِ فما اتي على آخِر قولي حتَّى أراكم متفرِّقينَ أياديَ سَبَأ، تَرجِعونَ إِلى مَجألِسِكم تتربّعونَ حَلَقاً ، تَضرِبونَ الأمثالَ ، وتَناشَدونَ (2) الأشعارَ، وتَجَسَّسونَ الأخبارَ، حتّى إِذا تَفرَّقتُم تَسألونَ عَنِ الأسعارِ، جَهلةً(3) من غيرِ عِلْمٍ ، وغَفلةً من غير وَرَع ، وتَتَبُّعاً(4) في غيرِخَوْفٍ ، نَسِيتُمُ الحربَ والاستعدادَ لها ، فأصبحَتْ قلوبكَم فارِغةً من ذكرِها ، شَغَلتُموها بالأعاليلِ والأباطيلِ .فالعَجَب كُلَّ العَجَب وما لي لا أعجَبُ مِن اجتماعِ قومٍ على باطلِهم ، وتخاذُلِكم عن حقِّكم ! .
يا أهلَ الكُوفةِ، أنتم كاُمِّ مُجالِدٍ ، حَملَتْ فأملَصَتْ ، فماتَ قيِّمُها ، وطالَ تأيُّمُها ، ووَرِثَها أبْعَدُها .
والّذي فَلَقَ الحبّةَ ،وبرأ النَّسَمةَ، إِنّ من ورائكم للأعور
_________
(1) في هامش «ش» : الموعظة .
(2) في « م» و «ح» : تنشدون .
(3) في «ش» : جهالة .
(4) في هامش «ش» و«م»: تثبطاً.

( 279 )

الأدبر(1) جَهنّم الدُّنيا لا يُبقي ولا يَذَرُ، ومن بعدِه النهّاسُ الفرَّاسُ(2) الجَموعُ المنَوعُ ، ثمّ لَيَتوارثَنّكم من بني أُميّةَ عِدّةٌ ، ما الآخرُ بأرأَفَ بكم مِنَ الأوّلِ ، ما خلا رجلاًَ واحداً(3)، (بلاءٌ قضاهُ اللهُ )(4) على هذهِ الأُمّةِ لا محالةَ كائنٌ ، يَقتلونَ خِيارَكم ، ويَستعبدونَ أراذلَكم ، ويَستخرِجونَ كنوزكم وذَخائرَكم من جَوْفِ حِجالِكم(5)، نِقْمةً بما ضيَّعتُم من أُمورِكم وصَلاحَ أنفسِكم ودينكم .
يا أهلَ الكُوفةِ، أُخبركم بما يَكون قبلَ أَن يَكونَ ، لِتَكونوا منه على حَذَرٍ ، ولِتُنذِروا بهِ مَنِ اتّعظَ واعتبرَ. كأني بكم تَقولونَ : إِنَّ عليّاَ يَكذِبُ ، كما قالتْ قريشٌ لنبيِّها - صلّى اللّهُ عليهِ والهِ - وسيِّدِها نبيِّ الرّحمةِ محمّدِ بنِ عبدِاللّهِ حبيب اللهِ ، فيا وَيْلَكم ، أفَعلى مَنْ أَكذِبُ ! ؟ أَعَلَى اللّهِ ، فأنا أوّلُ من عَبَدَه ووَحًّدَه ، أم على رسولهِ ، فأنا أوّلُ من امنَ بهِ وصدَّقَه ونَصَرَه ! كلا، ولكنَّها لَهْجَة خَدْعَة كُنتُم عنها أغبياءَ(6).
والّذي فَلَقَ الحبّةَ وبَرَأ النّسَمةَ ، لَتَعْلَمنَّ نَبَأهُ (7) بعدَ حينٍ ، وذلكَ إِذا صَيَّركم إِليها جهلُكم ، ولا يَنفَعُكم عندَها علمُكم ، فقبحاً لكم يا أشباهَ الرِّجالِ ولا رجالَ ، حُلومُ الأطفالِ وعُقولُ رَبّاتِ الحِجالِ ، أمَ والله أيُّها الشّاهدة أبدانُهم ، الغائبةُ عنهم عُقولُهم ، المختلفةُ أهواؤُهم ،
_________
(1) في هامش «ش» و«م» : يعني : الحجاج بن يوسف .
(2) في هامش «ش» و«م» : كانه هشام بن عبد الملك .
(3) في هامش «ش» و«م» : عمر بن عبد العزيز.
(4) في هامش «ش» : فما قضاه اللّه .
(5) الحجال : جمع حجلة، وهي بيت يزين بالثياب والأسرّة والستور، يهيأ للعروس . انظر « الصحاح - حجل - 4 : 1667» .
(6) في «م» : أغنياء. .
(7) في «م» : وهامش «ش» : نبأها.

( 280 )

ما أعزَّ اللهُ نَصْرَ من دعاكم ، ولا استراحَ قلبُ من قاساكم ، ولا قرَّتْ عينُ من اواكم ، كلامُكم يوهي (1) الصمّ الصِّلابَ ، وفِعلُكم يطمع فيكم عدوكَم المرتاب. ياويَحْكُمْ ، أيَّ دارٍ بعدَ دارِكم تَمنعونَ ! ومعَ أي إِمامٍ بعدي تُقاتِلونَ ! المغرورُ- واللهِ - من غَرَرْتُموه ، من فازَ بكم فازَ بالسّهمِ الأخْيَبِ ، أصبحْت لا أطمَعُ في نَصرِكم ، ولا أُصدِّقُ قولَكم ، فَرَّقَ اللّهُ بيني وبينَكم ، وأعقَبَني بكم من هوخيرٌ لي منكم ، وأعقَبَكم من هو شرٌّ لكم مني .
إِمامُكم يُطيعُ اللّهَ وأنتم تَعصُونَه ، وِامامُ أهلِ الشّامِ يَعصي الله وهم يُطيعونَه ، واللّهِ لَوَدِدْتُ أنّ معُاويةَ صارَفَني بكم صرْفَ الدِّينارِ بالدِّرْهَم ، فأخَذَ منّي عَشرةً منكم وأَعطاني واحداً منهم . واللهِ لَوَدِدْتُ أنّي لم أعَرِفْكم ولم تَعرِفوني ، فإِنّها مَعرِفةُ جَرَّتْ نَدَماً. لقد وَريتُم صَدْري غَيظاً، وأفسدتُم عليَّ أمري بالخِذلانِ والعِصيانِ ، حتّى لقد قالتْ قُريشٌ : إِنَّ عليّاً رجلٌ شجاعٌ لكنْ لا علمَ له بالحروب ، للهِّ دَرُّهمِ (2)، هل كانَ فيهم أحدٌ أطولَ لها مِرَاساً منّي ! وأ شدَّ لها مُقاَساةً! لقد نهَضْتُ فيها وما بَلَغْتُ العِشرينَ ، ثَم ها أنا ذا قد ذَرَّفْتُ (3)على السِّتِّينَ ، لكنْ لا أمْرَ لمن لا يُطاعُ . أمَ واللّهِ ،لَوَدِدْت أنّ ربِّي قد أخرجَني من بينِ أظْهُرِكم إِلى رِضوانِه ، وإنَّ المنيّةَ لَتَرصُدُني فما يَمنَعُ أشقاها أن يَخضبَها - وتَرَكَ يدَه على رأسِه ولحِيتِه - عهدٌ(4)عَهِدَه إِليَّ النّبيُّ الأمِّيًّ
_________
(1) في «م» و«ح» وهامش «ش» : يوهن .
(2) في «م» وهامش «ش» : هم .
(3) في هامش «ش» و «م» : نيّفت .
(4) في «م» وهامش «ش» : عهداً .