وقد خابَ مَنِ افترى، ونَجا مَنِ اتَّقى وصَدَّقَ بالحُسنى .

يا أهلَ الكُوفةِ، دعوتُكم إِلى جهادِ هؤلاءِ ليلاً ونهاراً وسِرّاً
وإعلاناً، وقلتُ لكُمُ اغزوهم ، فإِنّه ما غُزِيَ قومٌ في عُقْرِ دارِهم إِلا
ذَلُّوا، فتَواكَلتُم وتَخاذَلتُم ، وثَقُلَ عليكم قولي ، واستصعبَ عليكم
أمري ، واتخذتمُوه وراءَكم ظِهْرِيّاً، حتّى شُنَّتْ عليكُمُ الغاراتُ ،
وظَهَرَتْ فيكُمُ الفَواحِشُ والمنُكَراتُ تُمَسِّيكم وتُصَبِّحُكم ، كما فُعِلَ
بأهلِ المَثُلاتِ من قَبْلِكم ، حيثُ أخبرَ الله تعالى عنِ الجَبابِرةِ والعُتاةِ
الطّغاةِ، والمُستضعفينَ
(1) الغُواةِ، في قولهِ تعالى (
يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ
وَيَسْتَحْيُوْنَ نِسَاءَكُمْ وَفِيْ ذلِكُمْ بَلاَءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيْمٌ )
(2) أَمَ والّذي
فَلَقَ الحبَّةَ وبَرَأ النَّسَمةَ، لقد حَلَّ بكُمُ الّذي تُوعَدونَ .

عاتَبتُكم - يا أهلَ الكُوفةِ - بمَواعِظِ القُرآنِ فلم أنتفعْ بكم ،
وأدبتُكم بالدِّرَةِ فلم تَستقيموا، وعاقَبتُكم بالسَّوطِ الّذي يُقامُ بهِ
الحدُودُ فلم تَرعَوُوا
(3)، ولقد علمتُ أنّ الّذي يُصلِحُكم هو السّيفُ ، وما
كنتُ مُتحرِّياً صَلاحَكم بفَسادِ نَفْسي ، ولكن سَيُسَلَّطُ عليكم من
بعدي سُلطانٌ صَعْبٌ ، لا يُوقِّرُكبيركم ، ولا يَرحَمُ صغيركم ، ولا يُكرمُ
عالِمَكم ، ولا يَقسِمُ الفَيءَ بالسَّوِيَّةِ بينَكم ، ولَيَضرِبنًّكم ويُذِلَّنَّكم
ويجَمِّرَنَّكم
(4) في المَغازي ويَقْطَعَنَّ سبيلَكم ، ولَيَحْجُبَنَكم على بابه ،
_________
(1) وردت (المستضعفين ) بفتح العين وكسرها في النسخ وفي هوامش «ش» و «م» :
المستضعفون هم المعاقبون بالذبح والقتل ، وفي هامش «ش» : المستضعف : المستكبر.
(2) البقرة 2 : 49 .
(3) في هامش «ش» : الارعواء ة وهو الندم على الشيء والانصراف عنه والترك له .
(4) في هامش «ش» و «م» : التجمير: ترك العسكر في وجه العدو.
( 282 )
حتى يأْكُل قويُكم ضعيفَكم ، ثمّ لا يُبعِد الله إلاّ من ظَلَمَ منكم ،
وَلَقَلَّما أدبرَ شيءٌ ثمّ أقبلَ
(1) ، وإنّي لأظنُّكم في فَترةٍ ، وما عَلَيَّ إِلاّ
النُّصحُ لكم .

يا أَهلَ الكوفةِ، مًنِيتُ منكم بثلاثٍ واثنتينِ صُمٌّ ذَوو أَسماع ،
وبكمٌ ذَوو ألسُنٍ ، وعُميٌ ذَوو أَبصارٍ ، لا إِخوانُ صدقٍ عندَ اللقاءِ ، ولا
إِخوانُ ثقةٍ عندَ البلاءِ. اللّهمّ إِنّي قد مَللتُهم ومَلًّوني ، وسئمتُهم وسئموني .
اللّهمّ لا تُرْضِ عنهم أَميراً ولا تُرْضِهم عن أميرٍ ، وأَمِثْ قلوبَهم كما
يماثْ الملحُ في الماءِ . أمَ واللهِ ، لو أجِدُ بُدَّاً من كلامِهَم ومُراسلتكم ما
فعلتُ ، ولقد عاتبتُكم في رُشدِكم حتّى لقد سئمتُ الحياةَ؛ كلّ ذلكَ
تُراجِعونَ بالهُزء
(2) منَ القولِ فِراراً منَ الحقِّ ، وإلحاداً
(3) إِلى الباطلِ
الّذي لا يُعِزُّ اللّهُ بأهلهِ الدِّينَ ، وانّي لأعلمُ أنّكم لا تَزيدونَني غيرَ تَخْسيرٍ ،
كلّما أمرتُكم بجهادِ عدوِّكمُ اثّاقلتُم إِلى الأرضِ ، وسمألتمُوني التّأْخيرَدِفاعَ
ذي الدَّينِ المَطولِ . إِنْ قلتُ لكم في القيظِ : سِيروا، قلتم : الحَرُّ
شديدٌ ، وإنْ قلتُ لكم في البردِ : سِيروا ، قلتمُ : القًرُّ شديدٌ ؟ كلَّ ذلك
فِراراً عنِ الجَنَّةِ . إِذا كنتُم عنِ الحرِّ والبرد تَعجِزونَ ، فأنتم عن حرارةِ
السّيفِ أعجزُ وأعجزُ، فإِنّا للهِ وِانّا إِليهِ راجعونَ .

يا أهلَ الكُوفةِ، قد أتاني الصرِيخُ يُخبِرُني أنَّ أخا غامِدٍ
(4) قد نَزَلَ
_________
(1) في هامش «ش» : فاقبل .
(2) في هامش «ش» و «م» : بالهذر.
(3) في «ح» وهامش «ش» و «م» : اخلاداً .
(4) أخا غامد ، هو سفيان بن عوف بن المغفل الغامدي ، امّره معاوية على جيش لغارة على
أهل الانبار والمدائن في ايام علي عليه السلام ، وقتل حسان بن حسان عامل علي عليه
=
( 283 )
الأنْبَارَ على أهلِها ليلاً في أربعةِ آلافٍ ، فأغارَ عليهم كما يُغارُ على الرًّوْمِ
والخَزَرِ، فقَتَل بها عامِلي ابنَ حَسَّان وقَتلَ معَه رجالاً صالحِينَ ذَوِي
فَضْلٍ وعبادةٍ ونَجْدةٍ ، بوأ اللّهُ لهم جَنّاتِ النّعيم ؟ وأنه أباحَها ، ولقد
بَلَغَني أنّ العصبَةَ من أَهلِ الشّامِ كانوا يَدخلونَ على المرأةِ المُسلِمةِ
والأخرى المُعاهَدَةِ، فيَهتِكه سترها، ويأخُذونَ القِناعَ من رأسها ،
والخُرصَ
(1) من أُذنِها، والأَوْضاحَ
(2) من يَدَيْها ورِجلَيْها وعَضُديْها ،
والخَلْخالَ والمِئزَرَ من سُوْقِها، فما تَمْتَنِعُ إِلاّ بالاسترجاع والنِّداءِ :
ياللمُسلِمينَ ، فالأيُغيثها مُغيث ، ولا يَنصُرُها ناصِرٌ . فلو أَنّ مؤمِناً َماتَ من
دونِ هذا أسفاً ما كانَ عندي مَلُوْماً
(3) ، بل كانَ عندي بارّاً مُحسِناً.
واعجباً كلَّ العَجَبِ ، مِن تضافر هؤلاءِ القومِ على باطِلهم وفَشَلِكم عن
حقِّكم ! قد صِرتُم غَرَضاً يُرمى ولا تَرْمُون ، وتُغْزَوْنَ ولا تَغْزُوْنَ ،
ويُعصى اللّهُ وتَرْضَوْنَ ، تَرِبَتْ
(4) أيديكم يا أشباهَ الإبلِ غابَ عنها
رُعاتها، كلَّما اجتمعتْ من جانبٍ تَفرَّقتْ من جانب»
(5) .
_________
=
السلام على الانبار.
(1) الخرص : الحلقة من الذهب والفضة . «الصحاح - خرص - 3 : 1036» .
(2) الاوضاح : حلي من الفضة. «الصحاح - وضح - 1 : 416».
(3) في هامش «ش» و «م» : مليماً .
(4) في «م» وهامش «ش» : فتربت .
(5) ورد مقطعاً في : الغارات 2 : 474 ، 483 ، 494 ، ومعاني الأخبار : 309/ 1 ، ونثر
الدر 1 : 291، 298، ونهج البلاغة ا : 26/63 و 88 93/1، وأورده الطبرسي في
الاحتجاج : 173 ، ونقله العلامة المجلسي في البحار 8 : 697 (ط / ح ) .
( 284 )
فصل
ومن كلامهِ عليهِ السّلامُ في
تظلُّمهِ من أعدائه ودافِعيه عن حقِّه

ما رواه العباسُ بنُ عُبَيْدِاللّهِ العَبدْيّ ، عن عَمْرو بنِ شِمْرٍ ، عن
رجالهِ ، قالوا: سَمِعْنا أميرَ المؤمنين عليَّ بنَ أبي طالبِ عليهِ
السّلامُ يقولُ : «ما رأيتُ منذُ بَعَثَ الله محمّداً صلّى الله عليَهِ وآلهِ
رَخاءً فالحمدُ الله ، واللّهِ لقد خِفْتُ صغيراً وجاهدتُ كبيراً، أُقاتِلُ
المشركينَ وأُعادي المنافقينَ ، حتّى قَبَضَ اللّهُ نبيَّه عليهِ السّلامُ فكانتِ
الطّامّةُ الكُبرى ، فلم أزَلْ حَذِراً وجِلاً أَخافُ أنْ يكونَ ما لا يَسَعُني معَه
المُقام ، فلم أرَ بحمدِ اللّهِ إلاّ خيراً . واللهِ ما زِلْتُ أضرِبُ بسيفي
صبيّاً حتّى صرْت شيخاً، وإنّه لَيُصَبًّرُني على ما أنا فيه أنّ ذلكَ كلَّه في
اللّهِ ورسولهِ . وأنا أرجو أن يكونَ الروح عاجلاً قريباً، فقد رأيتُ
أسبابَه» .

قالوا: فما بَقِيَ بعدَ هذهِ المقالةِ إِلاً يسيراً حتى أُصيبَ عليهِ
السّلامُ
(1) .

وروى عبدُالله بن بُكَيْرٍ الغَنَوِيّ ، عن حَكِيمِ بن جُبيرٍ قالَ : حَدَّثَنا
من شَهِدَ عليّاً بالرَّحبةِ يَخطُبُ ، فقالَ فيما قالَ : «أيُّها النّاسُ ، إِنّكم
قد أبَيْتُم إِلاّ أنْ أقولَ ، أمَا وربِّ السّمواتِ والأرضِ ، لقد عَهِدَ إِليَّ
_________
(1) أشار الى بعض فقراتها ابن ابي الحديد في شرح النهج 4 : 108 باختلاف .
( 285 )
خَليلي أنّ الأمّةَ سَتغدِرُ بِكَ مِن بعدي»
(1) .

وروى إِسماعيلُ بنُ سالم، عن أبي إِدْرِيسَ الأوْدِيِّ قال : سَمِعْتَ
عليّاً يقولُ : «إِنّ فيما عَهِدَ إِليَّ النّبي الأمِّيُّ أنَّ الأمّةَ ستَغْدِرُ بِكَ مِن
بعدي»
(2) .
فصل
ومن كلامهِ عليهِ السّلامُ
عندَ الشُورى وفي الدّارِ

ما رواه يَحيى بنُ عبدِ الحَميدِ الحِمّاني ، عن يَحيى بنِ سَلَمة بنِ
كُهَيْل ، عن أبيه ، عن أبي صادِقٍ قالَ : لمّا جَعلَها عُمَرُ شُورى في
ستّةٍ ، وقالَ : إِنْ بايَعَ اثنان لواحدٍ واثنان لواحدٍ ، فكونوا معَ الثلاثّةِ
الّذينَ فيهم عبدُ الرّحمنِ ، واقتُلوا الثّلاثَة الّذينَ ليسَ فيهم عبدُ الرّحمنِ ؟
خرجَ أميرُ المؤمنينَ عليهِ السّلامُ منَ الدّارِ وهو مُعتمِدٌ على يدِ عبدِاللهِ بنِ
العبّاسِ فقالَ له : «يا ابنَ عبّاس ، إِنّ القومَ قد عادَوْكم بعدَ نبيكم
كمُعاداتِهم لنبيِّكم صلّى اللّهُ عليهِ والهِ في حياتِه ، أمَ واللهِ ، لا ينيبُ بهم
إِلى الحقِّ إِلاّ السّيفُ».

فقالَ له ابنُ عبّاسٍ : وكيفَ ذاكَ ؟ .
_________
(1) شرح ابن أبي الحديد 4 : 107 باختلاف يسير، ونحوه في الغارات 2 : 486، ومرسلاً في
اعلام الورى : 43 .
(2) المستدرك على الصحيحين 3 : 140 ، تاريخ بغداد 11 : 216 .
( 286 )

قالَ : «أما سَمِعتَ قولَ عُمَرَ: إِنْ بايَعَ اثنان لواحدٍ واثنان لواحدٍ ،
فكونوا معَ الثلاثةِ الّذينَ فيهم عبدُ الرّحمنِ ، واقتُلوا الثّلاثةَ الّذينَ ليسَ
فيهم عبدُ الرَّحمن ؟».

قالَ ابنُ عبّاسٍ : بلى .

قالَ : «أَفَلا تَعلم أَنّ عبدَ الرحمنِ ابنُ عمِّ سَعْدٍ ، وأَنّ عُثمانَ
صِهْرُ عبدِ الرّحمنِ ؟» .

قالَ : بلى، قالَ : «فإِنّ عُمَرَ قد عَلِمَ أَنّ سَعْداً وعبدَ الرّحمنِ وعُثمانَ
لا يَختلفونَ في الرّأْيِ ، وانه من بويع منهم كانَ الاثنانِ معَه ، فأَمَرَ بقتلِ
من خالفَهم ولم يُبالِ أَن يَقتُلَ طَلحةَ إِذا قَتَلَني وقَتَلَ الزبير. أَمَ
واللّهِ ، لَئنْ عاشَ عمَرُ لأُعَرِّفَنَّه سُوءَ رأَيِه فينا قديماً وحديثاً، ولَئنْ ماتَ
لَيَجْمَعَنِّي وِايّاهُ يومٌ يكونُ فيه فَصْلُ الخِطابِ»
(1) .
فصل

وروى عَمْرُو بن سَعيدٍ ،عن حَنَشٍ الكِنانيِّ قالَ : لمّا صَفَقَ عبدُ الرّحمن
على يدِ عُثمانَ بالبيعةِ في يومِ الدّارِ، قالَ له أَميرُ المؤمنينَ عليهِ السّلامُ :
«حَرَّكَكَ الصِّهْرُ وبَعَثَكَ على ما صنعتَ ، واللّهِ ما أَمّلتَ منه إِلاّ ما أَمّلَ
_________
(1) نقله العلامة المجلسي في البحار 8 : 351 (ط / ح ) .
( 287 )
صاحبُكَ من صاحبِه ، دق الله بينَكما عِطْرَمَنْشِمَ
(1)»
(2) .
فصل

وروى جماعةٌ من أهلِ النّقلِ من طرقٍ مختلفةٍ ، عنِ ابنِ عبّاسٍ
قالَ : كنتُ عندَ أمير المؤمنينَ عليهِ السّلامُ بالرَّحْبَةِ، فذُكِرَتِ الخِلافةُ
وتقدُّمُ من تقدم عليه فيها فتنفَّسَ الصُّعَداءَ ثمّ قالَ : «أمَ
واللهِ لقد تقمصَها ابنُ أبي قُحافةَ، وإنّه لَيَعلمُ أنّ مَحَلِّي منها مَحَلُّ القُطْب
مِنَ الرَّحى، يَنحدِرُ عنِّي السَّيلُ ، ولا يَرقى إِليَّ الطَيرُ، لكنِّي سَدَلْتُ
دونَها ثَوْباً، وطَوَيْتُ دونَها
(3) كَشْحاً
(4) ، وطَفِقْتُ أرتئي بينَ أنْ أَصولَ بيدٍ
جَذَّاءَ
(5) ، أو أَصبرَ على طَخْيةٍ
(6) عَمياءَ، يَهرَمُ فيها الكبيرُ، ويَشيبُُ
فيها الصَغير
(7) ، ويَكَدَحُ فيها مؤمنٌ حتّى يَلقى ربَّه ، فرأَيتُ الصّبرَعلى
_________
(1) مَنْشِم : اسم مرأة عطارة كانت بمكة، وكانت خزاعة وجرهم اذا أرادوا القتال
تطيبوا من طيبها، وكانوا اذا فعلوا ذلك كثّرت القتلى فيما بينهم ، فتشاءموا به .
«الصحاح - نشم - 5: 2041» وذكر الميداني في مجمع الامثال أقوال اًخر فراجع 1 : 381
حرف الشين .
(2) ذكره المصنف في الجمل : 61 باختلاف يسير، ونقله العلامة المجلسي في البحار 8 :
351.
(3) في هامش «ش» : عنها.
(4) طوى كشحه على الأمر: اذا أضمره وستره «مجمع البحرين - كشح - 2 : 407» .
(5) الجذّاء : المقطوعة . «الصحاح - جذء -2: 561».
(6) الطخية : الظلمة. «لسان العرب طخا- 15 : 5».
(7) في «ش» و«ح» : يرضع فيها الصغير، ويدب فيها الكبير، وفي « م» وهامش «ش» : يهرم
فيها الصغير ويشيب فيها الكبير. وما أثبتناه من نسخة العلامة المجلسي في البحار وبقية
المصادر .
( 288 )
هاتا أحجى ، فَصَبَرت وفي العينِ قَذىً، وفي الحَلْقِ شَجاً من أنْ أرى
تُراثي نَهْباً، إِلى أن حَضرَهُ أجَلُه فأدلى بها إِلى عُمَرَ، فيا عجبا! بَينا هو
يَستقيلها في حياتِه إِذ عَقَدَها لاخَرَ بعدَ وفاتِه . لشَدما تَشَطَّرا ضَرْعَيْها .
شَتَّانَ مَا يَوْمِيْ عَلى كُوْرِهَا * وَيَوْمُ حَيّانَ أخِيْ جَابرِ(1)

فصَيَّرها واللهِ في ناحيةٍ خَشناءَ، يجفو مَسُّها، ويَغلُظُ كَلْمُها
(2)
فَصاحِبُها
(3) كراكِب الصعبِةِ إِنْ أشْنَقَ
(4) لها خَرقَ
(5) وِإن أسْلَسَ لها
عَسَفَ
(6) ، يَكثُرُ فيها العِثارُ ويَقِلُّ منها الاعتذار، فَمُنيَ النّاسُ - لَعَمْرُ الله -
بخَبْطٍ وشماسٍ
(7) وتَلوُّنٍ واعتراضٍ ، إِلى أَن حَضَرَتْه الوَفاةُ فجَعَلَها شورى
بينَ جماعةٍ زَعَمَ أَنَي أَحدُهم .

فيا للشورى وللهِّ هُمْ ، متى اعترضَ الرّيْبُ فيَّ معَ الأوَّلينِ
(8) منهم
حتّى صِرتُ الآنَ (أُقْرَنُ بهذهِ النّظائر)
(9) لكني أسْفَفْتً إِذ أسَفُّوا
وطِرْتُ إذْ طارُوا، صَبراً على طًولِ المحنةِ وانقضاءِ المُدَّةِ، فمالَ رجلٌ
لضِغْنِه ، وصَغَا
(10) آخَرُ لصهْرِهِ ، معَ هَنٍ وهَنٍ ، إِلى أن قامَ ثالِثُ
_________
(1) البيت للأعشى الكبير، اعشى قيس . : وهو ابو بصير ميمون بن قيس بن جندل . ديوانه :
96 .
(2) الكلْم : الجرح . « الصحاح - كلم - 5 : 2023» .
(3) في «م» وهامش «ش» نسخة اخرى : صاحبها .
(4) اشنق الراكب دابته : اذا كفّها بالزمام وهو راكب . « الصحاح - شنق - 4 : 1504» .
(5) في «م» وهامش «ش» : خَرَم .
(6) عسف : أي أخذ على غير الطريق . «الصحاح - عسف - 4 : 1403» .
(7) شمس الفرس : منع ظهره . «الصحاح - شمس - 3: 940».
(8) في « م» وهامش « ش» : الأول .
(9) في «ش» وهامش «م» : تًقرن بي هذه النظائر.
(10) صغا: مال . «الصحاح - صغا -6 : 2401».
( 289 )
القومِ نافجاً حِضْنَيهِ
(1) بين نَثِيْلِهِ
(2) ومُعْتَلَفِهِ
(3) ، وأسرعَ معَه بنو أبيه
يَخضمونَ مالَ اللّهِ خَضْمَ الإبِلِ نِبْتةَ الرّبيعِ ، إِلى أن نزَتْ بهِ بِطْنَتُه
وأجهزَ عليهِ عَمَلُه ، فما راعَني مِنَ النّاسِ إِلا وهم رسل إِليَّ كعُرْفِ الضبع
يَسألونَني أن أُبايعَهم ، وانثالوا عَلَيَّ حتّى لقد وُطئ الحَسَنانِ وشقَّ
عِطْفَايَ
(4) ، فلمّاَ نَهَضتُ بالأمرِ نَكَثَتْ طائفةٌ ومَرَقَتْ أُخرى وقَسَطَ
آخَرونَ ، كأنَّهم لم يَسمعوا الله تعالى يقولُ : (
تِلْكَ الدَّارُ اْلأخِرَةُ نَجْعَلُهَا
لِلَّذِيْنَ لا يُريْدُوْنَ عُلوّاً في الأرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَقِيْنَ )
(5) بلى واللّهِ ،
لقد سَمِغوها ووَعَوْها، ولكنْ حَلِيَتْ دُنياهم في أعيُنِهم ورَاقَهم زِبْرِجُها،
أمَا والّذي فَلَقَ الحبّةَ وبَرَأ النَسَمةَ ، لولا حُضورُ النّاصِرِ
(6) ، ولزُومُ الحجّةِ
بوجودِ النّاصِر، وما أخَذَ اللّه على أولياءِ الأمرِ ألآَ يَقِرُوا على كِظَةِ ظالمِ أو
سَغَب مظلومٍ ، لأَلقيتُ حَبْلَها على غارِبها، ولَسَقَيْتُ آخِرَها بكأس
أوَّلِها،َ ولالفَوْا دُنياهم أزهدَ عندي من عَفْطَةِ عَنَزٍ» .
قال : وقامَ إِليه رجلٌ من أهل السواد فناوَلَه كتاباً ، فقَطَعَ كلامَه .

قالَ ابن عبّاس : فما أسِفْتُ على شيءٍ ، ولا تَفجَّعتُ كتفجُعي
على ما فاتَني من كلامِ أًميرِالمؤمنينَ عليهِ السّلامُ ، فلما فَرَغَ من قراءةِ
_________
(1) نافجاً حضنيه : كناية عن التكبروالخيلاء . «لسان العرب - نفج - 2 : 381» .
(2) النثيل : الروث . «الصحاح - نثل - 5 : 1825» .
(3) المعتلف : مكان العلف .
(4) في «م» وهامش «ش» : عطافي .
(5) القصص 28 : 83 .
(6) في « م» وهامش « ش» : الحاضر .
( 290 )
الكتاب قلتُ : يا أميرَ المؤمنين ، لَوِ اطّرَدت مَقالتكَ من حيثُ انتهيتَ
(1)
إِليها؟ قَالَ : «هَيْهاتَ هَيْهاتَ يا ابنَ عبّاس ، كانتْ شقْشقَةً هَدَرَتْ
ثم قَرَتْ»
(2) .

وروى مَسْعَدَةُ بنُ صَدَقَةَ قالَ : سَمِعتُ أبا عبدِاللّهِ جَعْفَرَ بنَ محمّدٍ
عليهِ السّلامُ يقولُ : «خَطَبَ أميرُ المؤمنينَ عليهِ السّلامُ النّاسَ
بالكُوفةِ، فحَمِد والله وأثنى عليهِ ، ثمّ قالَ : «أنا سيدُ الشَيْب ، وفيَ سُنّةٌ
من أيُّوبَ ، وسيَجمعُ الله لي أهلي كما جَمَعَ لِيَعْقُوبَ ، وذلكََ إِذا استدارَ
الَفلَكُ وقُلتُم ضلَ أَو هَلَكَ ، أَلا فاستشعِروا قبلَها الصّبرَ، وتوبوا
(3) إِلى
اللّهِ بالذَنْبِ ، فقد نَبَذْتُم قُدْسَكم ، وأَطفأْتُم مَصابيحَكم ، وقلَدْتُم
هِدايتكم منْ لا يَملِكُ لنفسِه ولا لكم سَمْعاً ولابَصَرَاً، ضَعُفَ - ِوالله -
الطّالِبُ والمطلوبُ ؛ هذا ولو لم تَتَواكَلوا أَمرَكم ، ولم تَتَخاذلوا عن
نُصْرةِ الحقِّ بينَكم ، ولم تَهِنوا عن تَوهينِ الباطلِ ، لم يَتشجَّعْ
عليكم مَنْ ليسَ مِثلَكم ، ولم يَقْوَ مَنْ قَوِيَ عليكم وعلى هَضْم الطَاعةِ
وِازوائها عن أهلِها فيكم .

تِهتُم كما تاهتْ بنو إِسرائيلَ على عهدِ موسى ، وبحقٍّ أقولُ
لَيُضعَفَنَ عليكُمُ التِّيْهُ من بعدي - باضطهادِكم ولدي - ضعفَ ما تاهت
_________
(1) في هامش «ش» و«م» : افضيت .
(2) وردت الخطبة المشهورة بالشقشقية في علل الشرائع : 150 ، ومعاني الأخبار: 360،
وأمالي الطومي 1 : 382، ونهج البلاغة 1 :25/3، ومناقب ابن شهرآشوب 2 : 204
باختلاف يسير، وأوردها الآبي في نثر الدر 1 : 274 باختلاف في اللفظ .
(3) في «م» وهامش «ش» : بوؤا.
( 291 )
بنو إِسرائيلَ ، فلو قَدِ استكملتم نَهَلاً
(1) ًوامتلأتهم عَلَلاً
(2) من لسُلطانِ
الشّجرةِ الملعونةِ في القُرآنِ ، لقدِ اجتمعتُم على ناعِق ضَلالٍ ولأجَبْتُمُ
الباطِلَ ركْضاً، ثمّ لَغادَرْتُم داعيَ الحقِّ ، وقَطَعْتُمُ الأدنى من أهلِ بدْرٍ ، ووَصَلْتُمُ
الأبعدَ من أبناءِ حَرْبِ . ألا ولو ذابَ ما في أيديهم ، لقد دنا التّمحيصُ
للجزاءِ ، وكُشِفَ الغِطاءُ ، وانقضَتِ المُدةُ، وأزِفَ الوَعيد
(3) ، وبدا لكُمُ
النّجمُ من قِبَلِ المَشرِقِ ، وأشرقَ لكم قَمرُكم كملء شَهْرِهِ وكَلَيْلَةِ
تِمِّهِ ، فإِذا استتَم ذلكَ فراجِعوا التوبةَ وخالِعوا الحَوْبةَ
(4) ، واعلَموا أنّكم إِنْ
أطَعْتُم طالِعَ الَمشرِقِ سَلَكَ بكم مِنهاجَ الرّسولِ صلّى اللّهُ عليهِ وآلهِ وسلمَ
فتداويتُم مِنَ الصَّمَمِ ، واستشفيتُم مِنَ البَكَمِ ، وكُفِيْتُم مَؤونةَ
التّعسُّفِ والطّلب ، ونَبَذْتُم الثِّقْلَ الفادحَ عَنِ الأعناقِ ، فلا يُبْعِدِ اللّهُ
إلاّ مَنْ أبى الرّحمةً«وفارَقَ العِصمةَ، وسَيَعْلمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أيَ مُنْقَلَب
يَنْقَلِبُونَ»
(5) .

وروى مَسْعَدَةُ بنُ صَدَقَةَ - أيضاً - عن أبي عبدِالله الصّادقِ جعفرِ بنِ
محمّدٍ عليهما السلام قالَ : «خَطبَ أميرُ المؤمنينَ عليهِ السّلامُ بالمدينةِ
فقالَ بعدَ حمدِ اللّهِ والثّناءِ عليهِ :« أمّا بعد : فإِن اللّه لم يَقصمْ جبّاري دهرٍ
قطُ إِلا من بعدِ تمهيلٍ ورخاءٍ ، ولم يَجبُرْكَسْرَعظمِ أحدٍ منَ الاُممِ إِلاّ من بعدِ
أزْلً
(6) وبلاءٍ .
_________
(1) النهل : الشرب الأول . «الصحاح - نهل - 5: 1837» .
(2) العلل : الشرب الثاني . «الصحاح - علل - 5: 1773».
(3) في «م» وهامش «ش» : الوعد .
(4) الحوبة : الخطيئة «مجمع البحرين - حوب - 2 : 47» .
(5) نقله العلامة المجلسي في البحار 8 : 701(ط /ح ).
(6) الأزْل : الضيق والجدب. «الصحاح - أزل - 4 : 1622» .
( 292 )

أيّها النّاسُ ،وفي دونِ ما استقبلتُم من خَطْب واستدبرتُم منِ عَصْرِ
مُعْتَبَرٌ وماكل ذي قَلْبِ بلَبيبٍ ، ولا كل ذي سَمْع بسميعٍ ، ولاكلُّ
ذي ناظِرِ عَيْنٍ ببصيرٍ. أَلا فأحسنوا النَظَرَ- عبادَ الله - فيما يَعنيكم ، ثم
انظُروا إِلى عَرَصاتِ من قد أقادَه
(1) الله بعملهِ ، كانوا على سُنّتن من آلِ
فِرعَونَ ، أهلَ جنّاتٍ وعُيونٍ وزُروعٍ ومَقامٍ كَريمٍ ، فها هي عَرْصةُ
(2)
المتوسمينَ وإنّها لَبِسبيلٍ مُقيمٍ ، تُنذرُ مَنْ نابَها
(3) من الثُّبور بعدَ النَضْرة
والسُرورِ ومَقيلٍ مِنَ الأمنِ والحُبور، ولمنْ صَبَرَ منكمُ العاقبةُ ولدِّ عاقبةً
الأ مور . .

فواهاً لأهلِ العُقول كيف أقاموا بَمدْرَجَةِ السُيولِ ! واستضافوا
غيرَ مَأمونٍ! وَيْساً
(4) لهذهِ الأمَّةِ الجائرة في قصدِها الرّاغبةِ عن رُشدِها ! لا
يقتفون أثَرَ نبيٍّ ، ولا يَقتدونَ بعمل وصيٍّ ، ولا يُؤمنونَ بغَيْبِ ، ولا
يَرْعَوُوْنَ عن عَيْبٍ . كيفَ ومَفزعُهم في المُبهَماتِ إِلى قُلوبِهم ، فكلَُ امرِئ
منهم إِمامُ نفسِه ، آخِذٌ منها فيما يَرى بعرى ثِقاتٍ ، لا يَألونَ قَصْداً،
ولن يَزدادوا إِلاّ بًعْداً، لَشَد أنْسُ بعضِهم ببعضٍ وتصديقُ بعضِهم
بعضاً، حِياداً كل ذلكَ عمّا وَرَّثَ الرّسولُ صلّى الله عليهِ والهِ ، ونُفوراً
مما اُدِّيَ إليهِ من فاطرِ السّماواتِ والأرَضِينَ العليمِ الخبير، فهم أهل
_________
(1) في هامش «ش» و «م» : أباده .
(2) في هامش «ش» و «م» : عُرْضَة .
(3) في هامش «ش» : أصابها.
(4) ويس : كلمة تستعمل في موضع الرأفة. «القاموس المحيط - ويس - 2 : 258» ، وفي
«م» : وويساً.
( 293 )
غَشَوَاتٍ
(1) ، كُهوف شُبُهاتٍ ، قادة حَيْرِة ورِيبةٍ . مَنْ وُكِلَ إِلى نفسِه
فاغرورقَ في الأضاليلِ ، هذا وقد ضَمِنَ اللهُ قَصْدَ السّبيلِ (
ليَهْلِكَ مَنْ
هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَانَّ اللّهَ لَسَمِيْعٌ عَلِيْمٌ )
(2) .

فيا ما أشبهَها أُمّةً صَدَّتْ عن وُلاتِها ورَغِبَتْ عن رُعاتِها، ويا
أسفاً أسَفاً
(3) يَكلِمُ القلبَ ويُدْمِنُ الكَرْبَ من فَعَلاتِ شيعتِنا بعد
مَهلكي على قرب مودتّهِا وتأشُب
(4) ألفَتِها، كيفَ يَقتُلُ بعضها بعضاً وتَحُوْرُألفَتُها
بُغْضاً . فللّهِ الأسْرَةُ المُتَزَحزِحةُ غَداً عَنِ الأصلِ ، المُخَيِّمةُ بالفَرْعِ ، المؤمَلةُ
للفتحِ من غيرِجهتهِ ، المُتوَكِّفَة الرَّوْحَ من غيرِمَطْلعِه ، كلُّ حزب منهم
مُعتصِمٌ بغُصْنٍ آخِذٌ به ، أيْنَما مالَ الغُصْن مالَ معَه ، معَ أنّ اللّهَ - وله
الحمد - سيَجمعهم كقَزع
(5) الخَريفِ ، ويؤلِّفُ بينَهم ثمّ يَجعلهُم رُكاماً
كرُكامِ السّحابِ ، يَفتَحُ اللهُ لهم
(6) أبواباً يَسِيلونَ من مسْتَثارِهم إِليها
كَسَيْلِ العَرِمِ ، حيثُ لم تَسلَمْ عليه قَارةٌ
(7) ،ولم تَمنَعْ منه أكَمةٌ ، ولم يَردّ
رُكْن طَوْد سَنَنَه
(8) ، يَغرِسُهمُ اللهُ في بُطونِ أوديةٍ ، ويَسلُكُهم يَنابيعَ في ،
_________
(1) في هامش «ش» و«م» : عشوة .
(2) الأنفا ل 8 : 42 .
(3) هكذا في «م» وهامش «ش» وفي متن «ش» كتب هكذا : (يا اسَفَى) ولعله بملاحظة
ان الالِف هنا منقلبة عن ياء المتكلم وهي احدى اللغات في نداء المضاف الى ياء المتكلم .
(4) التاشب : الاجتماع والخلطة . «الصحاح - أشب - 1 : 88» .
(5) القزع : قطع من السحاب رقيقة . «الصحاح - قزع -3 : 1265».
(6) في هامش «ش» و«م» : يفتح لهم .
(7) القارة : الأكمة المرتفعة عن الأرض . «الصحاح - قرر - 2 : 800» .
(8) السنن : «الطريق لسان العرب - سنن - 13 : 226» . وفي هامش «ش» : سَيْبه ، وهو
جريان الماء «الصحاح - سيب - 1 : 150» وهو الاولى .
( 294 )
الأرضِ ، يَنفي بهم عن حُرُماتِ قومٍ ، ويُمَكِّن لهم في ديارِ قومٍ ، لكي
يَعْتَقِبواماغُصِبُوا، يُضَعْضِعُ اللّهُ بهم رُكْناً، ويَنقُضُ بهم طَيَّ الجَنْدَلِ
من إِرَمَ ، ويَملأ منهم بُطْنَانَ الزّيتونِ .

والّذي فَلَقَ الحبّةَ وبَرَأ النّسَمَةَ، لَيَذُوبَنَّ ما في أَيديهم من بعدِ
التّمكُّنِ
(1) في البلادِ والعُلُوِّ على العِبادِ كما يذوبُ القارُ والآنُكُ
(2) في
النّارِ، ولَعلَّ الله يَجمَعُ شيعتي بعدَ تَشتيتٍ لِشرِّ
(3) يومٍ لِهؤلاءِ، وليس
لأحدٍ على اللّهِ الخِيَرَةُ بل للهِّ الخِيَرةُ والأمرُجميعاً»
(4) .

وقد روى نَقَلةُ الآثارِ
(5) أنّ رجلاًً من بني أسَدٍ وَقَفَ على أَميرِ المؤمنينَ
عليهِ السّلام فقالَ : يا أميرَ المؤمنين ، العَجَبُ منكم يا بَني هاشمٍ ،
كيفَ عُدِلَ بهذا الأمرِ عنكم ، وأَنتُمً الأعلَوْنَ نَسَباً، نَوْطاً
(6) بالرّسولِ ،
وفَهْماً للكتاب
(7) ! ؟ فقالَى أميرُ المؤمنين عليهِ السّلامُ : «يا ابنَ دوْدَانَ
(8) ،
إِنّكَ لَقَيقُ الوَضِينِ
(9) ، ضَيِّقُ المَحزمِ
(10) ، تًرسِلُ غيرَ ذي
_________
(1) في هامش «ش» : التمكين .
(2) الأنك : الرصاص . «لسان العرب - انك - 10 : 394».
(3) في هامش «ش» و«م» نسخة اُخرى : بشر.
(4) ورد بعض كلامه الشريف في نهج البلاغة 1 : 154 /84 و 2 : 95 / 161.
(5) في هامش «ش» و «م» : الأخبار.
(6) النوط : التعلق والاتصال . «لسان العرب - نوط - 7 : 418» .
(7) في «ح» وهامش «ش» : بالكتاب .
(8) دُودان : أبو قبيلة من أسد، وهو دُودان بن أسد بن خزيمة . «الصحاح - دود - 2 :
471» .
(9) الوضين للهودج بمنزلة الحزام للسرج . «الصحاح - وضن - 6 : 2214».
(10) في هامش «ش» و«م» : المجمّ . والمجم : الصدر. «القاموس - جمم - 4 : 91».
( 295 )
مَسَدٍّ
(1) . لَكَ ذِمامةُ الصِّهْر وحقُّ المسألةِ، وقد استعلمتَ فاعلَمْ ،
كانتْ أثرةً سَخَتْ بها نُفوسُ قومٍ وشَحَّتْ عليها نُفوسُ آخرين ، فدَعْ عنكَ
نَهْبأ صِيْحَ في حُجُراتِه
(2) وهلمّ الخَطْبَ في أمرِابن أبي سُفيانَ ، فلقد
أضحَكَني الدّهرُ بعدَ إِبكائه
(3) ولا غَرْوَ، يَئِسَ القومَ - واللّهِ - من خَفْضِي
وهِيْنَتي ، وحاوَلوا الإدهانَ في ذاتِ اللّهِ ، وهيهاتَ ذلكَ منِّي ، فإِنْ تَنْحَسِرْ
عنّا مِحَنً البَلوى أحْمِلهم مِنَ الحقِّ على مَحْضِه ؛ لم وِانْ تَكُنِ الأخرى فلا
تَذْهَبْ نفسُكَ عليهم حَسَراتٍ ، ولا تَأْسَ على القومِ الفاسِقينَ»
(4) .
فصل
ومن كلامهِ عليهِ السّلامُ في الحِكمةِ والمَوعِظَةِ

قولُه : «خُذوا - رَحِمكمُ اللّهُ - من مَمَرّكم لِمَقَرِّكم ، ولا تَهتِكوا
_________
(1) في هامش «ش» و «م» : يجوز ان يكون نصباً مفعولاً لترسل ويجوز أن يكون حالاً أي غير
ذي سداد .
(2) مثل سائر، ذكره الميداني في مجمع الامثال 1 :267 / 1403، وقال : «النهب المال
المنهوب ، وكذلك النًهبى، والحجرات : النواحي . يضرب لمن ذهب من ماله شيء ثم
ذهب بعده ما هو أجل منه » ثم ذكر قصة المثل ، وهو شطر من بيت لامرئ القيس يقول
فيه :
ودع عنك نهباً صيح في حجراته * ولكن حديثاً ما حديث الرواحلِ .
(3) في هامش «ش» «م» : ابكائيه .
(4) رواه الصدوق في علل الشرائع :145 /2 ، والأمالي : 494 /5 ، والابي في نثر الدر 1 :
287 ، وأورده الشريف الرضي في نهج البلاغة 2 : 79 / 157 باختلاف يسيرفي الفاظه .
( 296 )
أستارَكم عندَ مَنْ لا يَخفى عليهِ اسرارُكم ، وأخرِجوا مِنَ الدُّنيا قُلوبكم قبلَ
أن تُخْرَجَ منها أبدانُكم ، فلِلآخِرةِ خًلِقتُم وفي الدُّنيا حُبِسْتُم ، إنّ المرءَ إِذا
هَلَكَ قالتِ الملائكةُ : ما قَدَّمَ ؟ وقالَ النّاسُ : ما خَلَّفَ ؟ فلِلّهِ اباؤكم
(1) ،
قَدِّموا بعضاً يَكُنْ لكم ، ولا تخلفوا كلاً فيكونَ عليكم ، فإِنّما مثلُ الدُّنيا
مثل السّمِّ ، يأْكًلُه من لا يَعرِفُه»
(2) .

ومن ذلكَ قولهُ عليهِ السّلامُ : «لا حياةَ إلاً بالدِّينِ ، ولا موتَ إِلا
بجحُودِ اليقينِ ، فاشرَبوا العَذْبَ الفُراتَ يُنَبِّهْكم من نَوْمةِ السُّباتِ ،
وِإيّاكم والسّمائم المُهْلِكاتِ» .

ومن ذلكَ قولُه عليهِ السّلام : «الدُّنيا دارُ صِدْقٍ لمن عَرَفَها،
ومِضّمارُ الخَلاصِ لمن تَزَوَّدَ منها، هي مَهبطُ وحي اللهِ ، ومَتْجَرُ أوليائه ،
اتَّجَرُوا فَرَبِحُوا الجنّة» .

ومن ذلكَ كلامُه عليهِ السّلامُ لرجلٍ سَمِعَه يَذُمُّ الدُّنيا من غيرِ
مَعرِفةٍ بما يجبُ أن يَقولَ في معناها : «الدُّنيا دارُ صدقٍ لمن صَدقَها ، ودارُ
عافيتن لمن فَهِمَ عنها، ودارُغِنىً لمن تَزوَّدَ منها، مَسجِدُ أنبياءِ اللّهِ ، ومَهبط
وحيهِ ، ومُصَلَّى ملائكتِه ، ومَتْجَر أوليائه ، اكتسبوا فيها الرَّحمةَ ، ورَبِحوا فيها
الجنَّةَ . فمن ذا يَذُمُّها، وقد اذَنَتْ ببينِها، ونادتْ بفراقِها، ونَعَتْ نفسَها،
فشوَّقَتْ بسُرورِها إِلى السُّرور، وببلائها إِلى البلاءِ ، تخويفاً وتحذيراً وترغيباً
_________
(1) في «م» وهامش «ش» : أبركم .
(2) رواه الصدوق في أماليه : 97 ، وعيون أخبار الرضا عليه السلام 1 : 298 ، واورده
الشريف الرضي في نهج البلاغة 2 : 209 / 198 باختلاف يسير.
( 297 )
وترهيباً. فأيُّها الذّامُّ للدُّنيا والمُعتلُّ
(1) بتغريرها، متى غَرَّتْكَ ؟
أبمصارِعِ آبائكَ منَ البلى! أم بِمضاجِعِ أمّهاتِكَ تحتَ الثَّرى! كم عَللْتَ
بكفَّيْكَ ! ومَرَّضْتَ بيَديكَ ! تبتغي لهمُ الشِّفاءَ، وتَستوصِفُ لهمُ الأطبّاءَ،
وتَلتمِس لهمُ الدّواءَ، لم تَنفَعْهم بِطَلِبَتِكَ ، ولم تُسْعِفْهم
(2) بشفاعتِكَ .
مَثَّلَتِ الدُّنيا بهم مَصْرَعَكَ ومَضْجَعَكَ ، حيثُ لايَنفَعُكَ بكاؤكَ ، ولا
يُغني عنكَ أحِبّاؤكَ»
(3) .

ومن ذلكَ قولُه عليه السّلامُ : «أيُّها النّاسُ ، خذوا عنِّي خمساً ، فواللّهِ
لو رَحَلْتُمُ المَطِيَّ فيها لأَنضيتمُوها قبلَ أن تَجدوا مِثلَها: لا يَرْجُوَنَّ أحدٌ
إلاّ ربَّه ، ولا يَخافَنَّ إلاّ ذنْبَه
(4) ، ولا يَسْتَحْيِيَنًّ العالِم إِذا سُئلَ عمَّا لا
يَعلَمُ أن يقولَ :الله أعلمُ ، (ولا يستحيين احد اذا لم يعلم الشيء
ان يتعلمه )
(5) والصَّبرُمِنَ الإِيمان بمنزلةِ الرأس ، منَ الجسدِ ، ولا إِيمان لمن لا صبرَله»
(6) .

ومن ذلكَ قوك عليهِ السّلامُ : «كلُّ قولٍ ليس للهِّ فيهِ ذِكرٌ فلَغْوٌ ،
_________
(1) كذا في «م» وهامش «ش» وفي «ش» والمعتبر وفي النهج ومروج الذهب : «والمغتر» .
(2) في «ش» و«ح» : تَشْفِهم ، وفي هامش «ش» و«م» : تُشَفّعهم .
(3) رواه ابن قتيبة في عيون الأخبار 2 : 329 ، واليعقوبي في تاريخه 2 : 208 ، والمسعودي في
مروج الذهب 2 : 419 ، والشريف الرضي في النهج 3 : 181 / 131 ، والآبي في نثر الدر
1 : 273 ، وابن شعبة في تحف العقول : 186 باختلاف يسير في ألفاظه .
(4) في «ش» : عذابه .
(5) لم ترد في «م» و«ش» ، واثبتأها من هامش «ش» وهي موافقة لما في جميع المصادر.
(6) صحيفة الامام الرضا عليه السلام : 81 / 177 ، العقد الفريد 4 : 169 ، عيون
أخبار الرضا عليه السلام 2 : 44 ، الخصال :315 / 96 ، نهج البلاغة 3 : 168 / 82 .
( 298 )
وكلُ صمتٍ ليس فيه فِكَرٌ فسَهْوٌ ، وكلُّ نَطَرٍ ليس فيه اعتبارٌ فلَهْوٌ»
(1) .
وقولُه عليهِ السّلامُ : «ليس مَنِ ابتاعَ نقسَه فأعتَقَها كمن باعَ
نفسَه فأوبقَها»
(2) .

وقوله عليهِ السّلامُ : «من سُبِقَ إِلى الظِّلِّ ضَحِيَ ، ومن سُبِقَ إِلى الماءِ
ظَمِئ».

وقوله عليهِ السّلامُ : «حُسْنُ الأدَبِ يَنوبُ عَنِ الحَسَب» .

و قوله عليهِ السّلام : « الزّاهِدُ في الدُّنيا ، كلَّما ازدادتْ له تَحَلًّياً
(3) ازدادَ
عنها تَوَلِّياً» .

وقوله عليهِ السّلام : «المَوَدّةُ أشبَكُ الأنسابِ ، والعِلمُ أشرَفُ
الأحسابِ» .

وقولهُ عليهِ السّلامُ : «إِنْ يَكُنِ الشُّغْلُ مَجْهَدةً ، فاتًصال الفَراغِ
مَفْسَدة».

وقوله عليهِ السّلامُ : «من بالَغَ في الخُصومة أثِمَ ، ومن قَصَّرَ
فيهَاخصِمَ».

وقولهُ عليهِ السّلامُ : «العَفْو يُفسدُ مِنَ اللئيمِ بقَدرِ إِصلاحِه مِنَ
الكريم» .
_________
(1) رواه الصدوق في أماليه : 96 ، والخصال : 98 ، ومعاني الأخبار: 344 ، وابن شعبة في
تحف العقول : 215 باختلاف يسير.
(2) نثر الدر 1 : 295، ونحوه في نهج البلاغة 3 : 183 / 133.
(3) في هامش «ش» و«م» : تجلّياً.
( 299 )

وقولُه عليهِ السّلام : «مَن أحبَّ المَكارِمَ اجتنبَ المَحارِمَ» .

وقولُه عليهِ السّلامُ : «من حَسُنَتْ بهِ الظُّنونُ ، رَمَقَتْهُ الرِّجالُ
با لعُيونِ».

وقولُه عليهِ السّلامُ : «غاية الجُودِ ، أن تُعطيَ من نفسِكَ
المَجهودَ».

وقولُه عليهِ السّلامُ : «ما بَعُدَ كائنٌ ، ولا قَرُبَ بائنٌ».

وقولًه عليهِ السّلامُ : «جَهْلُ المرءِ بعيُوبِه من أكبرِذُنوبِه» .

وقولُه عليهِ السّلامُ : «تَمامُ العَفافِ الرِّضا بالكَفافِ».

وقولهُ عليهِ السّلامُ : «أتَمُّ
(1) الجُودِ ابتناءُ المكارمِ واحتمالُ المغارِمِ».

وقولُه عليهِ السّلامُ : «أظهر الكَرَمِ صِدقُ الإخاء ِفي الشِّدّةِ
والرَخاءِ».

وقولُه عليهِ السّلامُ : «الفاجرُ إِن سَخِطَ ثَلَبَ ، وإنْ رَضِيَ كَذَبَ ،
لمِ ان طَمعَ خَلَبَ».

وقولُه عليهِ السّلام : «مَنْ لم يكنْ أكثرَما فيه عقلُه ، كانَ بأكثرِما
فيه قتلُه».

وقولُه عليهِ السّلامُ : «احتملْ زَلّةَ وَليِّكَ ، لِوَقتِ وَثبْةِ عدوِّكَ» .

وقوك عليهِ السّلام : «حُسْن الاعترافِ يَهدِمُ الاقترافَ» .
_________
(1) في «ش» : أعم .
( 300 )

وقوله عليهِ السّلامُ : «لم يَضِعْ من مالِكَ ما بَصَّرَكَ صلاحَ
حالِكَ».

وقولُه عليهِ السّلامُ : «القَصْدُ أسهل مِنَ التّعسُّفِ ، والكَفُّ أودعُ
من التّكلُّفِ» .

وقولُه عليهِ السّلامُ : «شرُّ الزّادِ إِلى المَعادِ احتقابُ ظُلمِ العِبادِ» .

وقولُه عليهِ السّلامُ : «لا نَفادَ لِفائدةٍ إِذا شُكِرَتْ ، ولا بَقاءَ لِنعمةٍ إِذا
كُفِرَتْ».

وقولُه عليهِ السّلامُ : «الدّهرُ يومانِ ، يومٌ لكَ ويومٌ عليكَ ، فإِنْ
كانَ لكَ فلا تَبْطَرْ، وِانْ كانَ عليكَ فاصبِر».

وقولُه عليهِ السّلامُ : «رُبَّ عزيزٍ أذَلَّهُ خُلقُه ، وذليلٍ أعَزَّهُ خُلقُه» .

وقولُه عليهِ السّلامُ : «مَنْ لم يًجرِّب الأمورَ خُدعَ ، ومن صارعً
الحقَّ َصرُعَ» .

وقولُه عليهِ السّلامُ : «لو عُرِفَ الأجَلُ قَصُرَ الأمَلُ» .

وقولُه عليهِ السّلامُ : «الشُكرُ زِينةُ الغِنى ، والصّبرُ زِينةُ البَلوى» .

وقولُه عليهِ السّلام : «قِيمةُ كلِّ امرئ ما يحسن».

وقولُه عليهِ السّلامُ : «النّاسُ أبناءُ ما يُحسِنونَ».

وقولُه عليهِ السّلامُ : «المَرء مَخْبوء تحتَ لسِانهِ» .

وقولًه عليهِ السّلامُ : «مَنْ شاوَرَ ذَوي الألباب دلَّ على
ا لصّوابِ» .