
وقولُه عليهِ السّلامُ : «مَنْ قَنعَ باليسيرِ استغنى عنِ الكثير، ومَنْ لم
يَستغنِ بالكثيرِ افتقرَ إِلى الحقيرِ» .

وقولُه عليهِ السّلامُ : «مَنْ صَحَتْ عرُوقُه أثمرَتْ فرُوعُه».

وقولُه عليهِ السّلامُ : «من أمِلَ إِنساناً هابَه ، ومن قَصُرَ عن معرفةِ
شيءٍ عابَه».
ومن كلامِه عليهِ السّلامُ في وصفِ الإنسانِ

قولُه : «أعجب ما في الإنسانِ قلبُه ، وله مواد من الحكمة وأضدادها ،
فإِنْ سَنَحَ له الرّجاء أذَلهَ الطَّمَعُ ، وإنْ هاجَ به الطَّمَع أهلكه الحِرصُ، وِان
مَلَكَة اليأْسُ قَتلَه الأسَفُ ، وإن عَرَضَ له الغَضَبُ اشتدَ به الغَيْظُ ، وإن
أسْعِفَ بالرِّضا نَسِيَ التّحفُّظَ ، وِانْ ناله الخوفُ شَغلَه الحَذَرُ، وإنِ اتّسعَ
له الأمنُ استولتْ عليه الغِرَّةُ
(1) ، وإنْ جُددَتْ له نِعْمةٌ أخذتْه العِزّةُ، وِانْ
أصابتْه مُصيبةٌ فَضَحَه الجَزَعُ ، وانْ أفادَ مالاً أطغاه الغِنى ، وِان عَضَّتْه فاقةٌ
شَغلَه البَلاءُ ، وِانْ أجهده الجُوعُ قَعَدَ به الضعفُ ، وإن أفرطَ في الشَبَعِ
كَظَّتْه البِطْنةُ، وكلُّ تقصيرٍ به مضِرٌّ ، وكلُّ إِفراطٍ له مُفْسِدٌ»
(2) .
_________
(1) الغِرة : الغفلة . « الصحاح - غرر - 2 : 768».
(2) الكافي 8 : 21 ، علل الشرائع : 109 /7 ، خصائص الأئمة للرضي : 97 ، دستور
معالم الحكم : 139 ، نثر الدرّ 1 : 276 .
( 302 )

ومن كلامِه عليهِ السّلامُ وقد سَأل شَاهْ زَنانَ بنتَ كِسْرى حينَ
أُسِرَتْ : «ما حَفِظْتِ عن أبيكِ بعدَ وَقْعةِ الفِيْل ؟» قالتْ : حَفِظْنا عنه أنّه
كانَ يقولُ : إِذا غَلَبَ الله على أمرٍ ذَلَّتِ المَطامعُ دونَه ، وإذا انقضَتِ المُدّةُ كانَ
الحَتْفُ في الحِيْلةِ . فقالَ عليهِ السّلامُ : «ما أحسَنَ ما قالَ أبوكِ ! تَذِلُّ
الأمورُ للمَقاديرِ حتّى يكونَ الحَتْفُ في التدبيرِ»
(1) .

ومن كلامه عليهِ السّلامُ : «مَنْ كانَ على يَقينٍ فأصابَه شكّ
فليَمْضِ على يقينهِ ، فإِنَّ اليقينَ لايُدفَعْ بالشّكِّ»
(2) .

ومن كلامِه عليهِ السّلامُ : «المؤمنُ مِنْ نفسِه في تَعَبٍ ، والنّاسُ منه
في راحةٍ»
(3) .

وقالَ عليهِ السّلامُ : «مَنْ كَسِلَ لم يُؤَدِّ حقّاً للّهِ تعالى عليهِ»
(4) .

وقالَ عليهِ السّلامُ : «أَفضل العِبادةِ : الصّبرُ، والصّمتُ ، وانتظارُ
الفرجَ»
(5) .

وقالَ عليهِ السّلامُ : « الصّبرُعلى ثلاثةِ أوْجُهٍ : فصبرٌ على المًصيبةِ ، وصبرٌ
عَنِ المعصيةِ ، وصبرٌ على الطّاعةِ»
(6) .
_________
(1) ذيله في نثر الدرّ 1 : 285 ، تحف العقول : 223 .
(2) تحف العقول : 109 .
(3) الخصال : 620 ، تحف العقول : 110 .
(4) الخصال : 620، تحف العقول : 110 ، كنز الفوائد 1 : 278 .
(5) تحف العقول : 201 ، ومثله في نثر الدر 1 : 279 ، وليس فيه : «الصبر» .
(6) الكافي 2 : 75، التمحيص : 64 / 149 ، تحف العقول : 206.
( 303 )

وقالَ عليهِ السّلامُ : «الحِلْمُ وَزيرُ المؤمنِ ، والعِلْمُ خَليلهُ ، والرِّفْقُ
أخوه ، والبرُّ والدهُ ، والصّبرُ أميرُ جُنودِهِ»
(1) .

وقالَ عليهِ السّلام : «ثلاثةٌ من كنوز الجنّةِ : كِتمانُ الصّدَقةِ ، وكِتمانُ
المُصيبةِ ، وكِتمانُ المَرَضِ»
(2) .

وقالَ عليهِ السّلامُ : «احْتَجْ إِلى مَنْ شِئْتَ تَكُنْ أسيرَه ، واستغنِ عمّنِ
شِئتَ تكنْ نَظيرهَ ، وأفْضِلْ على مَنْ شِئتَ تكنْ أميرهَ»
(3) .

وكانَ يقول عليهِ السّلامُ : «لا غِنى معَ فُجورٍ ، ولا راحةَ
لِحَسودِ ، ولا مَوَدّةَ لملول» .

وقالَ للأحْنَفِ بنِ قَيْس : «السّاكِتُ أخو الرّاضي ، ومَنْ لم يكنْ
معَنا كانَ علينا» .

وقالَ عليهِ السّلامُ في «الجُوْدُ مِنْ كَرَم الطّبيعةِ ، والمَنُّ مَفْسَدةٌ
ِلصّنيعةِ».

وقالَ عليهِ السّلامُ : «تَرْكُ التّعاهُدِ للصَّديقِ داعِيَةُ القَطِيعةِ» .

وكانَ عليهِ السّلامُ يقولُ : «إِرجافُ العامّةِ بالشّيّءِ دَليلٌ على
مقذَماتِ كَوْنه» .

وقالَ عليهِ السّلامُ : «اطلُبوا الرِّزقَ فإِنّه مضمون لطالبِه» .
_________
(1) تحف العقول : 203 و 222 باختلاف يسير.
(2) دعوات الراوندي : 164 نحوه عن رسول الله صلى الله عليه وآله .
(3) ذكره الصدوق في الخصال : 420 بتقديم وتأخير، والكراجكي في كنزه 2 : 194،
ورواه المسعودي باختلاف يسيرفي مروج الذهب 2 : 420 ضمن وصية الامام لابنه
الحسن عليهما السلام .
( 304 )

وقالَ عليهِ السّلامُ : «أربعةٌ لا تُرَدَّ لهم دَعوة : الإمامُ العادِلُ
لرعيّتِه ، والوالد البار لولده ، والولدُ البارُ لوالدِه ، والمظلومُ ، يقول اللّهُ
عزّ اسمُه : وعزّتي وجَلالي ، لأنتصرَنَّ لكَ ولوبعدَ حينٍ».

وقالَ عليهِ السّلامُ : «خيرُ الغِنى تركُ السُّؤالِ ، وشر الفقرِ لزُوم
الخضوعَ».

وقالَ عليهِ السّلامُ : «ضاحِك مُعترِفٌ بذنبِه ، أفضلُ من باكٍ
مُدِلًّ على ربه».

وقالَ عليهِ السّلامُ : «المعروفُ عِصمةٌ منَ البَوارِ، والرِّفقُ نَعْشةٌ
منَ العِثارِ» .

وقالَ عليهِ السّلامُ : «لا عُدَّةَ أنفعُ منَ العَقْلِ ، ولاعَدُوَ أضرُ منَ
الجَهْلَ».

وقالَ عليهِ السّلامُ : «لولا التّجارِبُ عَمِيَتِ المَذاهِبُ» .

وقالَ عليهِ السّلامُ : «مَنِ اتّسعَ أمَلهُ قَصرُ عَمَلهُ» .

وقالَ عليهِ السّلامُ : «أشكر الناس أقنعهم ، وأكفرهم للنّعم
أجْشَعُهم».

في أمثالِ هذا الكلامِ المفيدِ للحِكمةِ وفَصْلِ الخِطاب ، لم
نَستوفِ ما جاء في معناهُ عنه عليهِ السّلامُ ، لئلا يَنتشرَ الخِطاَبُ ،
ويطولَ الكتابُ ، وفيما أثبتناهُ منه مقنعٌ لذوي الألبابِ .
( 305 )
فصل
في آياتِ اللّهِ تعالى وبراهينِه الظّاهرةِ على
أمرِ المؤمنينَ عليهِ السلامُ ، الدّالّة على مكانِه من
اللّهِ عزّ وجلّ واختاصهِ من الكراماتِ بما انَفردَ به ممّن سواه ،
لِلدّعوةِ إِلى طاعتهِ ، والتّمسُّكِ بِولايتهِ ، والاستبصارِ بحقه ،
واليَقِين بامامَتِهِ ، والمَعرِفَةِ بِعصمَتِهِ وكمالِه وظهورِ حُجَتِهِ .

فمن ذلكَ ما ساوى به نبيَّيْنِ من أنبياءِ اللّهِ ورُسلِه وحُجّتينِ له على
خلقِه ، ما لا شُبهةَ في صحّتِه ولا ريبَ في صوابه ، قالَ اللّهُ عزّ اسمُه في
ذكرِالمسيحِ عيسى بنِ مريَم رُوحِ اللّهِ كلمتِه ونبيِّه ورسولهِ إلى خليقتِه ، وقدذكرَ قصتةَ
والدتِه في حَمْلِها له ووضعِها إِيّاه والأعجوبة في ذلك (
قَالَتْ أنّى يَكُوْن ليْ
غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنيْ بَشَر وَلَمْ أكُ بغِيّاً * قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُكِ هُوَ عَلًيَّ
هَينٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيةًَ لِلنّاسِ وَرَحْمةً مِنَّا وكَانَ أمْراً مَقْضِياً)
(1) وكانَ من
اياتِ اللّهِ تعالى في المسيحِ عيسى بنِ مَرْيمَ عليهِ السّلامُ نُطقه في المهدِ،
وخَرقُ العادةِ بذلكَ ، والأعجوبةُ فيه ، والمُعجِزُ الباهرُ لعقولِ الرِّجالِ ،
وكانَ من اياتِ اللهِ تعالى في أميرِ المؤمنينَ عليِّ بنِ أبي طالبِ عليهِ السّلامُ
كمالُ عقلِه ووَقارتُه ومعرفتُه باللّهِ وبرسولهِ صلّى الله عليهِ والَهِ معَ تَقارُب
سِنِّه وكونه على ظاهرِ الحالِ في عِدادِ الأطفالِ حينَ دعاه رسولُ الله صلّىَ
الله عليهِ وآلهِ إِلى التّصديقِ به والأقرارِ، وكلّفه العلمَ بحقَه ، والمعرفةَ
_________
(1) مريم 19: 20/21.
( 306 )
بصانعِه ، والتّوحيدَ له ، وعَهدَ إِليه في الاستسرارِ بما أودعه من دينهِ ،
والصيانةِ له والحفظِ وأداءِ الأمانةِ فيه .

وكانَ إِذْذاكَ عليهِ السّلامُ على قولِ بعضِهم من أبناءِ سبعِ
سنينَ ، وعلى قولِ بعضٍ آخرَمن أبناءِ تسعٍ ، وعلى قولِ الأكثرِمن
أبناءِ عشرٍ ، فكانَ كمالُ عقلهِ عليهِ السّلامُ وحصولُ المعرفَةِ له باللهِ
وبرسولهِ صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ ايةً للّهِ فيه باهرةً خَرَقَ بها العادةَ، ودَلَّ بها
على مكانهِ منه واختصاصِه به وتأهيلِه لما رشّحه له من إِمامةِ المسلمينَ
والحجّةِ على الخلقِ أجمعينَ ، فجرى في خرقِ العادةِ لِما ذكرناه مجرى
عيسى ويحيى عليهما السّلامُ بما وصفناه ، ولولا أنّه عليهِ السّلامُ كانَ
في تلكَ الحالِ كاملاً وافراً وباللّهِ عزّ وجلّ عارفاً، لمَا كلّفه رسولُ اللهِ
صلّى اللّهُ عليهِ وآلهِ الإقرارَ بنبوّته ، ولا ألزمه الإيمانَ به والتّصديقَ
لرسالتهِ ، ولا دعاه إِلى الاعترافِ بحقِّه ، ولا افتتحَ الدّعوةَ به قبلَ كل أحدٍ
منَ النّاسِ سوى خديجةَ عليها السّلامُ زوجتهِ ، وَلماُ
(1) ائتمنَه على سرِّه الّذي
أُمِرَ بصيانتهِ ؛ فلمّا - أفرده النّبيُّ صلّى اللّهُ عليهِ والهِ بذلكَ من أبناءِ سنَه
كلَهم في عصرِه ، وخصّه به دون من سواه ممّن ذكرناه ، دلّ ذلكَ على أَنّه
عليهِ السّلامُ كانَ كاملاً معَ تقارُبِ سنِّه ، وعارفاً باللّهِ تعالى ونبيّه صلّى اللّهُ
عليهِ وآلهِ قبلَ حُلْمِه ، وهذا هومعنى قولِ اللهِ عزّوجلّ في يحيى عليهِ
السّلام (
وآتيْنَاهُ الحُكْمَ صَبِيّاً)
(2) إِذ لا حكمَ أوضحُ من معرفةِ اللّهِ ، وأظهرُ
منَ العلمِ بنبوّةِ رسولِ اللهِ صلّى اللّهُ عليهِ وآلهِ ، وأشهرُ منَ القدرةِ على
_________
(1) في «م» وهامش «ش» : ولا.
(2) مريم 19 : 12 .
( 307 )
الاستدلانِ ، وأيينُ من معرفةِ النّظرِ والاعتبارِ، والعلمِ بوجوهِ الاستنباطِ ،
والوصولِ بذلكَ إِلى حقائقِ الغائباتِ ؛ وإذا كان الأمرُعلى ما بيّنّاه ، ثبتَ
أنّ اللّهَ سبحانَه قد خَرَقَ العادةَ في أميرِ المؤمنينَ عليهِ السّلامُ بالآيةِ الباهرةِ
التّي ساوى بها نبيّه اللذَيْن نطقَ القرآنُ بآيتهِ
(1) العظمى فيهما على ما
شرحناه .
فصل

ومن ايات الله عزّ وجلّ الخارقةِ للعادةِ في أمير المؤمنينَ عليهِ السّلامُ
أنّه لم يُعْهَدْ لأَحدٍ من مبارزةِ الأقرانِ ومنازلةِ الأبطالِ ، مثلُ ما عُرِفَ
له عليهِ السّلام من كثرةِ ذلكَ على مرِّ الزّمانِ ؛ ثمّ إنّه لم يوجدْ في مُمارسي
الحروب إلاّ من عَرَتهُ
(2) بشرٍّ ونِيلَ منه بجراحٍ أو شَينٍ إِلاّ أميرُالمؤمنينَ ،
فإنّه لمَ يَنَلْه معَ طولِ مدّةِ زمانِ حربه ُ
(3) جراح من عدوٍّ ولا شينٌ ، ولا
وصلَ إِليه أحدٌ منهم بسوء ، حتّى كانَ من أمرهِ معَ ابنِ مُلْجَمٍ لَعنَه اللّهُ
على اغتيالهِ إِيّاه ما كانَ ، وهذهِ أُعجوبةٌ أفردَه الله تعالى بالآيةِ فيها،
وخصّه بالعَلَمِ الباهرِ في معناها، فدلّ بذلكَ على مكانهِ منه ،
وتخصُّصِه بكرامتهِ التّي بَانَ بفضلِها من كافّةِ الأنامِ .
_________
(1) في «م» وهامش «ش» : بأياته .
(2) اي اصابته «اقرب الموارد 2 : 774» .
(3) في هامش «ش» : حروبه .
( 308 )
فصل

و من آياتِ الله تعالى فيهِ عليهِ السّلام أنّه لا يُذكَر مُمارِسٌ للحروب
التي لقيَ فيها عدوّاً إلاّ وهو ظافرٌ به حيناً وغيرُ ظافرٍ به حيناً، ولا نالَ أحدٌ
منهم خصمَه بجراح إِلاّ وقضى منها وقتاً وعوفي منها زماناً، ولم يُعهَدْ من لم
يُفْلِتْ منه قِرْنٌ في الحرب ، ولا نجا من ضربتِه أحدٌ فصَلَحَ منها إلاّ أميرُ
المؤمنينَ عليهِ السّلامُ ، فَإِنّه لا مِرْيةَ في ظَفَرِه بكلّ قِرْنٍ بارَزَه ، وإهلاكِه
كلّ بطلٍ نازَلَه ، وهذا أيضاً ممّا انفردَ به عليهِ السّلام من كافّةِ الأنام ،
وخَرَقَ اللّهُ عزّ وجلّ به العادةَ في كلَ حين وزمانٍ ، وهومن دلائلهِ الواضحَةِ
عليهِ السّلامُ .
فصل

ومن اياتِ اللّهِ تعالى فيهِ أيضاً، أنّه معَ طولِ ملاقاتِه للحروب
ومُلابَستِه إِياها، وكثرةِ من مُنيَ به فيها من شُجعانِ الأعداءِ وصناديدِهم ،
وتَجَمُّعِهم عليه واحتيالهِم في الفَتْكِ به وبذلِ الجهدِ في ذلكَ ، ما ولّى قطٌ
عن أحدٍ منهم ظَهْرَه ، ولا انهزمَ عن أحدٍ منهم ، ولاتَزَحْزَحَ عن مكانِه ،
ولا هابَ أحداً من أقرانِه ، ولم يلقَ أحدٌ سواه خصماً له في حربٍ إلاّ
وثَبَتَ له حيناً وانحرفَ عنه حيناً، وأقدمَ عليه وقتاً وأحجمَ عنه زماناً .

وإذا كانَ الأمرُ على ما وصفناه ، ثبتَ ما ذكرناه من انفرادِه بالآيةِ
( 309 )
الباهرةِ والمعجزةِ الزّاهرةِ، وخَرْقِ العادةِ فيه بما دلّ اللّهُ به على إِمامتِه ، وكَشَفَ
به عن فرضِ طاعتِه ، وأبانَه بذلك من كافّةِ خليقتهِ.
فصل

ومن آياتِه عليهِ السّلام وبيِّناتِه التّي انفردَ بها ممّن عداه ، ظُهورُ
مَناقبِه في الخاصّةِ والعامّةِ، وتَسخير الجمهورِ لنقلِ فضائلِه وما خصّه
الله به من كرائمِه ، وتسليم العدوِّ من ذلكَ بماُ
(1) فيه الحجّةُ عليه ، هذا
معَ كثرةِ المنحرفينَ عنه والأعداءِ له ، وتَوَفُّرِ أسبابِ دواعيهم إِلى
كتمانِ فضلهِ وجَحْدِ حقِّه ، وكونِ الدُّنيا في يدِ خًصومِه وانحرافِها
عن أوليائه ، وما اتّفقَ لأضدادِه من سُلطانِ الدُّنيا، وحَمْلِ الجمهورِ
على إِطفاءِ نورِه ودَحْضِ أمرِه ، فخَرَقَ اللهُ العادةَ بنشرِفضائله ، وظُهورِ
مَناقبِه ، وتسخيرِ الكلِّ للاعترافِ بذلكَ والإقرارِ بصحّتهِ ، واندِحاضِ ما
احتالَ به أعداؤه في كتمانِ مَناقبه وجَحْدِ حقوقِه ، حتّى تمّتِ الحجّةُ له
وظَهَرَ البرهانُ لحقِّه .

ولمّا كانتِ العادةُ جاريةً بخلافِ ما ذكرناه فيمنِ اتّفقَ له من
أسباب خُمولِ أمرِه ما اتّفقَ لأميرِ المؤمنينَ عليهِ السّلامُ فانخرقتِ العادةُ
فيه ، دلّ ذلكَ على بَينونتِه من الكافّةِ بباهرِ الآيةِ على ما وصفناه .

وقد شاعَ الخبرُ واستفاضَ عنِ الشّعْبِيِّ أنّه كانَ يقولُ : لقد كنتُ
أسمع خطَباءَ بني أُميّةَ يَسُبُّونَ أميرَ المؤمنينَ عليَّ بنَ أبي طالبٍ على
_________
(1) في هامش «ش» : ما.
( 310 )
مَنابرِهم فكأنماُ
(1) يُشال بضَبْعهِ إِلى السّماءِ، وكنتُ أسمعهُم يَمدحونَ
أسلافَهم على مَنابرِهم فكأنمّاُ
(2) يَكشِفونَ عن جِيفةٍ ُ
(3) .

وقالَ الوَليدُ بنُ عبدِ المَلِكِ لبنيه يوماً : يا بَنيَّ عليكم بالدِّينِ فإِنِّي لم
أرَ الدِّينَ بنى شيئاً فهَدَمَتْه الدُّنيا ، ورأيتُ الدُّنَيا قد بَنَتْ بُنياناً هَدَمَهُ
(4)
الدِّينُ . ما زِلتُ أسمعُ أصحابَنا وأهلَنا يَسُبُونَ عليَّ بنَ أبي طالبِ ويَدفِنونَ
فضائلَه ، يحَمِلونَ النّاسَ على شَنآنِه ، فلا يَزيدُه ذلكَ منَ القَلوب إلاّ
قُرباً، ويجَتهدونَ في تَقرييِهمُ
(5) من نُفوسِ الختقِ فلايَزيدُهم ذلكَ إلاّ بُعداًُ
(6) .

وفيما انتهى إِليه الأمرُ في دفنِ فضائلِ أميرِ المؤمنينَ عليهِ السّلامُ
والحيلولةِ بينَ العلماءِ ونشرِها، ما لا شبهةَ فيه على عاقلٍ ، حتّى كانَ
الرّجلُ اذا أرادَ أن يَرويَ عن أميرِ المؤمنينَ روايةً لم يَستطعْ أن يُضيفَها
إِليه بذكرِ اسمِه ونَسَبِه ، وتَدعوه الضّرورةُ إِلى أن يقولَ : حدَّثَني رجلٌ من
أصحابِ رسولِ اللهِ صلّى اللّهُ عليهِ وآلهِ ، أو يقولَ : حدَّثَني رجلٌ من
قًريْشٍ ، ومنهم من يقولُ : حدَّثَني أبوزينبَ .

وروى عِكْرِمَةُ عن عائشةَ - في حديثِها له بمرضِ رسولِ اللّهِ صلّى
اللّهُ عليهِ والهِ ووفاتِه - فقالتْ في جملةِ ذلكَ : فخرجَ رسولُ اللّهِ صلّى
الله عليهِ وآلهِ متوكَّئاً على رجلَينِ من أهلِ بيتهِ ، أحدُهما الفَضْلً بنُ
_________
(1) في هامش «ش» و«م» : وكانّما .
(2) في «م» وهامش «ش» : وكانما .
(3) نقله العلامة المجلسي في البحار 42 : 18 ضمن حديث 6 .
(4) في هامش «ش» فهدمه.
(5) كذا في الاصل ، ولعل الانسب : تقربهمِ .
(6) نقله العلامة المجلسي في البحار 42 : 18 / ذيل الحديث 6 .
( 311 )
العَبَّاسِ . فلما حَكَى عنها ذلكَ لعبدِاللّهِ بن عبّاسٍ رَحِمه اللّهُ قالَ له :
أتعرف الرّجلَ الآخرَ؟ قال : لا، لم تسمًّهِ لي ، قالَ : ذلكَ عليُّ بنُ
أبي طالبٍ ، وما كانتْ أُمُّنا تَذكرُه بخيرٍ وهي تَستطيعُُ
(1) .

وكانتِ الوُلاةُ الجَوَرةُ تَضرب بالسِّياطِ من ذكره بخيرِ، بل
تَضرب الرِّقابَ على ذلكَ ، وتَعترضُ النّاسَ بالبراءةِ منه ؛ والعادةَ جاريةٌ
فيمنِ اتّفقَ له ذلكَ إلا يُذْكَرَ على وجهٍ بخيرٍ ، فضلاً عن أن ْتذكَرَله فضائلٌ
أوتُروى له مَناقبٌ أو تُثْبَتَ له حجّةٌ بحقٍّ . وإذا كانَ ظهورُ فضائلِه عليهِ
السّلامُ وانتشارُ مناقبِه على ما قدَّمنا ذِكرهَ من شياع ذلكَ في الخاصّةِ والعامّةِ
وتسخيرِ العدوِّ والوليِّ لنقلِه ، ثَبتَ خرقُ العادِة فيه ، وبانَ وجهُ البرهانِ في
معناه ، بالآيةِ الباهرةِ على ما قدَّمناه .
فصل

ومن آياتِ اللّهِ تعالى فيهِ عليهِ السّلامُ أنّه لم يمْنَ أحدٌ في ولدِه
وذًريَّتهِ بما منيَ عليهِ السّلامُ في ذريَّتِه ، وذلكَ أنّه لم يُعْرَفْ خوفٌ شَمِلَ
جماعةً من ولدِ نبيٍّ ولا إِمامٍ ولا مَلِكِ زمانٍ ولا بَرٍّ ولا فاجرٍ ، كالخوفِ
الّذي شَمِلَ ذرِّيَّةَ أميرِ المؤمنينَ عليهِ السّلام ، ولا لحقَ أحداً منَ القتلِ
والطّردٍ عن الدِّيارِ والأوطانِ والإخافةِ والإرهاب ما لحقَ ذُرِّيَّةَ أميرِ
المؤمنين عليهِ السّلامُ وولدَه ، ولم يَجْرِ على طائفةٍ منَ الَنّاسِ من ضروبِ
_________
(1) اخرجه البخاري في صحيحه 6 : 13 ، وباختلاف يسير في صحيح مسلم 1 :
311 / 418. ونقله العلامة المجلسي في البحار 42 : 18 ضمن حديث 6 .
( 312 )
النّكالِ ما جرى عليهم من ذلكَ ، فقُتِلوا بالفَتْكِ والغِيْلةِ والاحتيالِ ،
وبُنيَ على كثيرٍ منهم -وهم أحياءٌ - البُنيانُ ، وعُذِّبوا بالجوعِ والعطشِ
حتَّى ذهبتْ أنفسُهم على الهلاكِ ، وأحوجَهم ذلكَ إِلى التّمزُّقِ في البلادِ،
ومُفارقةِ الدِّيارِ والأهلِ والأوطانِ ، وكتمانِ نَسَبهم عن أكثرِ النّاسِ .
وبلغَ بهم الخوفُ إِلى الاستخفاء من أحبّائهم فضلاً عنِ الأعداءِ،
وبلغَ هربُهم من أوطانِهم إِلى أقصى الشّرق والغربِ والمواضعِ النّائيةِ
عنِ العُمْرانِ ، وزَهِدَ في معرفتِهم أكثرُ النَّاسِ ، ورَغِبوا عن تقريبِهم
والاختلاطِ بهم ، مخافةً على أنفسِهم وذراريِّهم من جبابرةِ الزّمانِ.

وهذهِ كلها أسبابٌ تقتضي انقطاعَ نظامِهم ، واجتثاثَ أُصولهِم ،
وقلّةَ عددِهم . وهم معَ ماوصفناه أكثرُ ذرِّيَّةِ أحدٍ منَ الأنبياءِ والصّالحينَ
والأولياءِ ، بل أكثرُ من ذراريِّ كلِّ أحدٍ منَ النّاسِ ، قد طبقوا بكثرتِهم
البلادَ، وغَلَبوا في الكثرةِ على ذراريِّ أكثرِ العِبادِ، هذا معَ اختصاصِ
مَناكحِهم في أنفسِهم دونَ البُعَداءِ، وحصرِها في ذوي أنسابهم دِنْيةً منَ
الأقرباءِ ، وفي ذلكَ خرقُ العادةِ على ما بيّنّاه ، وهو دليلُ الآَيةِ الباهرةِ
في أمير المؤمنينَ علي بن أبي طالب عليهِ السّلامُ كما وصفناه وبيّنّاه ، وهذا
ما لا شُبْهَةَ فيه ، والحمدُ لله .
فصل

ومن آياتِ اللّهِ عزّ وجلّ الباهرةِ فيه عليهِ السّلامُ والخواصِّ التي
أفردَه بها ، ودلَّ بالمعجزِ منها على إِمامتِه ووجوبِ طاعتِه وثبوتِ حجّتِه ، ما
( 313 )
هومن جملةِ الخرائج
(1) التي أبانَ بها الأنبياءَ والرُّسُلَ عليهم السّلامُ وجَعَلَها
أعلاماً لهم على صدقِهم .

فمن ذلكَ ما استفاضَ عنهُ عليه السّلامُ من إِخبارِه بالغائباتِ
والكائنِ قبلَ كونه ، فلا يَخْرِمُ من ذلكَ شيئاً، ويُوافِقُ المُخْبَرُمنه خَبَرَه
حتّى يُتَحَقَّقَ الصدقُ فيه ، وهذا من أبهرِ مُعجزاتِ الأنبياءِ عليهم
السّلامُ .

ألا تَرى إِلى قولهِ تعالى فيما أبانَ به المسيح عيسى بن مريمَ عليهِ
السّلامُ منَ المعجزِ الباهرِ والآيةِ العجيبةِ الدّالّةِ على نبوّته :(
وَأُنبِّئُكُمْ بِمَا
تَأْكُلُوْنَ وَمَا تَدخِروْنَ فيْ بيُوْتِكُمْ )
(2) . وجعلَ عزّاسمُه مثلَ ذلكَ من
عجيب آياتِ رسولِ اللّهِ صلّى الله عليهِ وآلهِ فقالَ عندَ غَلَبةِ فارسٍ الرُّومَ :
(
آلمَ *غُلبَتِ الرُّومُ * فيْ أدْنَى الأرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبوْنَ * فيْ
بِضْعِ سِنِين )
(3) فكانَ الأمرُفي ذلكَ كما قالَ .

وقالَ عزّ وجلّ في أهلِ بَدْرٍ قبلَ الوَقعةِ : (
سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّوْنَ
الدُّبُرَ)
(4) فكانَ كما قالَ من غيرِ اختلافٍ في ذلكَ .

وقالَ عزّ قائلاً : (
لَتَدْخُلُنَّ اْلمَسْجِدَ الْحَرَامَ إنْ شاء اللّهُ امِنِيْنَ مُحَلِّقِيْنَ
_________
(1) في هامش «ش» و «م» : «الخرائج : هي المعجزات ، يقال : خرائج الشريعة وهي التي
تخرج على ايديهم مصححة لدعاويهم وكذلك هي في كتاب الجليس والانيس للمعافي
ابن زكريا من خ رج» .
(2 ) آل عمران 3 : 49 .
(3) الروم 30 : 1 - 4 .
(4) القمر 54 : 45 .
( 314 )
رُءُؤْسَكُمْ وَمُقَصِّرِيْنَ لا تَخَافُوْنَ )
(1) فكانَ الأمر في ذلكَ كما قالَ .

وقالَ جلّ وعزّ: (
إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأيتَ النَّاسَ
يَدْخُلُوْنَ فِيْ دِيْنِ اللّهِ أفْوَاجَاً)
(2) فكانَ الأمرُ في ذلكَ كما قالَ .

وقالَ مُخبِراً عن ضمائرِقومِ من أهلِ النِّفاقِ : (
وَيَقُوْلُوْنَ فِيْ
أَنْفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ )
(3) فخبَّرَعن ضمائِرِهم وما أخفَوْه في
سرائرِهم .

وقالَ عزّ وجلّ في قصّةِ اليهود ِ: (
قُلْ يا أيُّهَا الَّذِيْنَ هَادُوْا إِنْ
زَعَمْتُمْ أثَكُمْ أوْليَاءُ للّهِ مِنْ دُوْنِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا اْلمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِيْنَ * وَلاَ
يَتَمَنَّوْنَهُ أبَدَاً بِمَا قَدَّمَتْ أيْدِيْهِمْ وَاللُّه عَلِيْمٌ بالظَّاِلمِيْنَ )
(4) فكانَ الأمر كما قالَ ، ولم
يجسر أحد منهم أنْ يَتمنّاه ، فحقّقَ ذلك خبرَه ، وأبان عن صدقِه ، ودلّ به على
نبوته عليهِ السّلامُ ؛ في أمثالِ ذلكَ ممّا يطول به
(5) الكتابُ .
فصل

والّذي كانَ من أمير المؤمنينَ عليهِ السلامُ من هذا الجِنْس ، ما لا يُستطاعُ
إِنكارُه إلاً معَ الغَباوةِ والجهلِ وألبَهْتِ والعِناد ؛ ألا ترى إِلى ما تظاهرتْ به
الأخبار، وانتشرتْ به الآثارُ، ونقلتْه الكافّةُ عنه عليهِ السّلامُ من قوله قبلَ
_________
(1) الفتح 48 : 27 .
(2) النصر 110 : 1 - 2 .
(3 ) المجادلة 58 : 8 .
(4) الجمعة 62 : 6 - 7 .
(5) في «م» وهامش «ش» : باثباته .
( 315 )
قتالِه الفِرَقَ الثّلاثَ بعدَ بيعتِه : «أُمرتُ بقتالِ النّاكِثينَ والقاسِطينَ والمارِقينَ»
(1)
فقاتلَهم عليهِ السّلامُ وكانَ الأمرُ فيما خبر به على ما قالَ .

وقالَ عليهِ السّلامُ لطلحةَ والزُّبير حين استأذناه في الخروجِ إِلى
العُمرةِ : «لا واللّهِ ما تريدانِ العُمرةَ، وإنمّا ترَيدانِ البَصرةَ»
(2) فكان الأمرُ كما
قالَ .

وقالَ عليهِ السّلامُ لابنِ عبّاسٍ وهويخبرُه عنِ استئذانِهما له في العُمرةِ :
«إِنّني أذِنت لهما معَ عِلمي بما قدِ انطويا عليه منَ الغدرِ، واستظهرتُ باللّهِ
عليهما، وإنّ اللّهَ تعالى سيردُّ كيدَهما يُظفِرُني بهما»
(3) فكانَ الأمرُ كما قالَ .

وقالَ عليه السّلامُ بذي قارٍ وهوجالسٌ لأخذِ البيعةِ : «يأتيكم من
قِبَل ُ
(4) الكُوفةِ الفُ رجلٍ ، لا يَزيدونَ رجلاً ولا يَنقُصون رجلاً ، يُبايعوني
على الموتِ» قال ابنُ عبّاسٍ : فجزِعتُ لذلكَ ، وخِفْتُ أن يَنقُصَ القومُ
عنِ العددِ أو يَزيدوا عليه فيَفسُدَ الأمرُ علينا ، ولم أزَلْ مهموماً (دَأبي
إِحصاءُ)
(5) القومِ ، حتّى وردَ أوائلهم ، فجعلتُ أُحصيهم فاستوفيتُ
عددَهم تسعَمائةِ رجلٍ وتسعةً وتسعينَ رجلاً، ثمّ انقطعَ مجئ القومِ ،
فقلتُ : إِنّا للّهِ وإنّا إِليهِ راجعونَ ، ماذا حملَه على ما قالَ ؟ فبينا أنا مفكّرٌ في
ذلكَ إذ رأيتُ شخصاً قد أقبلَ ، حتّى دنا فإِذا هو راجلٌ عليهِ قَباءُ
_________
(1) رواه الصدوق في الخصال : 145 .
(2) ذكره المصنف في الجمل : 89 .
(3) ذكره المصنف في الجمل : 89 .
(4) في «ش» : اهل .
(5) في «م» وهامش «ش» : واني احصي .
( 316 )
صوفٍ معَه سيفُه وتُرْسُه وإداوتُهُ
(1) ، فقَربَ من أميرِ المؤمنينَ عليهِ السّلامُ
فقالَ له : امدُدْ يدَكَ أُبايِعْكَ ، فقالَ له أميرُ المؤمنين عليهِ السّلامُ :
«وعلامَ تبايعُني ؟» قالَ : على السّمعِ والطّاعةِ، والقتالِ بينَ يَدَيْكَ حتى
أموتَ أو يَفتحَ اللّهُ عليكَ ، فقالَ له : «ما اسمُك ؟» قالَ أُويرٌ ، قالَ : «أنتَ أُويسٌ
القَرَنيُّ ؟» قالَ : نعم ، قالَ : «الله أكبرُ، أخبرَني حبيبي رسولُ اللّهِ صلّى
اللّهُ علَيهِ وآلهِ أنِّي أُدرِكُ رجلاً من أُمّتِه يُقالُ له أُويسٌ القَرَنِيَّ ، يكونَ من
حزبِ اللهِ ورسوله ، يموت على الشّهادةِ ، يدخلُ في شفاعتِه مثلُ ربيعةَ
ومُضَرَ». قالَ ابنُ عبّاسٍ فسُرِّيَ عنِّيُ
(2) .

ومن ذلكَ قولُه عليهِ السّلامُ وقد رفعَ أهلُ الشّام المصاحفَ ،
وشكَّ فريقٌ من أصحابه ولَجَؤوا إِلى المسالمةِ ودَعَوْه إِليها : «ويَلَكم إِنّ هذهِ
خديعة، وما يُريدُ القَومُ القرآن ، لأنّهم ليسوا باهلِ قرآني ، فاتّقوا اللّهَ
وامضُوا على بصائرِكم في قتالِهم ، فإِنْ لم تفعلوا تفرّقتْ بكم السبُلُ ،ونَدِمتم
حيثُ ُ
(3) لا تنفعُكم النّدامةً»
(4) فكانَ الأمرُ كما قالَ ، وكفرَ القومُ بعدَ
التّحكيمِ ، ونَدِموا على ما فَرَطَ منهم في الإجابةِ إِليه ، وتفرّقتْ بهم السُّبُلُ ،
وكانَ عاقبتهم الدَّمار.

وقالَ عليهِ السّلامُ وهومتوجِّهٌ إِلى قتالِ الخوارج : «لولا أنّني أخافُ
_________
(1) الاداوة : اناء يحمل يستفاد من مائه في التطهير. «الصحاح - ادا - 6 : 2266» .
(2) اخرجه الكشي في اختيار معرفة الرجال 1 :56/315، ونقله العلامة المجلسي في
البحار 8 : 593 ( ط / ح ) .
(3) في «م» و«ح» : حين .
(4) ذكر الديلمي في الارشاد : 255 نحوه ، ونقله العلامة المجلسي في البحار 8 : 593 (ط /
ح ).
( 317 )
أن تتكلوا وتتركوا العملَ لأخبرتُكم بما قضاه اللّهُ على لسانِ نبيًه صلّى اللّهُ
عليهِ وآلهِ فيمن قاتلَ هؤلاءِ القومَ مستبصِراً بضلالتهِم ، وإنّ فيهم لَرجلاً
مَوْدُوْنَُ
(1) اليدِ ، له كثَدْي المرأةِ ، هم شرُّ الخَلقِ والخليقةِ ، قاتِلهُم أقربُ
الخلقِ إلى الله وسيلة» ولم يكنِ المُخْدَجً معروفاً في القومِ ، فلمّا قُتلوا جعلَ
عليهِ السّلامُ يطلًبُه في القتلى ويقولُ : «واللّهِ ما كَذَبْت ولا كُذِبْت» حتّى
وُجِدَ في القومِ ، فشُقَّ قميصُهُ
(2) فكانَ على كتفهِ سِلْعَةٌ ُ
(3) كثَدْي المرأةِ،
عليها شَعَراتٌ إذا جُذِبَتِ انجذبَ ُ
(4) كتفُه معَها، وإذا تُرِكَتْ رجعَ كتفُه إِلى
موضعِه . فلما وجدَه كبر ثمّ قالَ : «إِنّ في هذا لَعبرةً لمنِ استبصرَ»
(5) .
فصل

وروى أصحابُ السيرة عن جُندب بنِ عبدِاللهِ الأزْدِيِّ قالَ : شَهِدتُ
معَ عليٍّ عليهِ السّلامُ الجَمَلَ وصِفَيْنَ لاَ أشُكُّ في قتالِ من قاتَله ، حتى
نزلْنا النهروَانَ فدخلني شكّ وقلتُ : قُراؤنا وخِيارُنا نقتلهُم !؟ إِنّ هذا لأمرٌ
عظيمٌ . فخرجت غُدْوَةً أمشي ومعي إداوةُ ماءٍ حتّى برزتُ عنُِ
(6)
_________
(1) المودون : القصير العنق والالواح واليدين الناقص الخلق الضيق المنكبين « القاموس
- ودن - 4 :275».
(2) في «م» وهامش «ش» : عن قميصه .
(3) السلعة : هي غدة تظهر بين الجلد واللحم اذا غمزت باليد تحركت «النهاية 2 :
389» .
(4) في «م» وهامش «ش» : انجذبت .
(5) اشار الى نحوه ابو يعلى في مسنده 1 : 371 ، 374،421 ، وابن ابي الحديد في شرح النهج
2 : 276، ونقله المجلسي في البحار 41 : 2/283 .
(6) في «م» وهامش «ش» : من .
( 318 )
الصًّفوفِ ، فرَكَزتُ رُمحي ووضعتُ تُرسي إليه واستترت منَ الشّمس ، فإِنّي
لَجالسٌ حتّى وردَ علي أميرُ المؤمنينَ عليهِ السّلامُ فقالَ لي : «يا أخا الأزدُ
(1) ،
أمعَكَ طَهورٌ ؟» قلت : نعم ، فناولتُه الإداوةَ، فمض حتّى لم أرَهُ ثمّ أَقبلَ
وقد تَطَهَّرَ فَجَلَسَ في ظِلِّ التُرْسِ ، فإِذا فارسٌ يَسألُ عنه ، فقلتُ : يا
أميرَ المؤمنينَ هذا فارسٌ يُريدُكَ ، قالَ : «فأشِرْ إِليه» فأشرتُ إِليه فجاءَ
فقالَ : يا أميرَالمؤمنينَ قد عبرَالقومً وقد قطعوا النّهرَ، فقالَ : «كلا ما عبروا»
قالَ : بلى واللّهِ لقد فعلوا، قالَ : «كلا ما فعلوا» قالَ : فإِنّه لكذلكَ إذ
جاءَ آخرُ فقالَ : يا أميرَ المؤمنينَ قد عبرَ القومُ ، قالَ : «كلا ما عبروا»
قالَ : ِوالله ما جئتًكَ حتّى رأيت الرّاياتِ في ذلكَ الجانبِ والأثقالَ ،
قال : «واللّهِ ما فعلوا ، وِإنّه لَمصرعُهم ومُهراقُ دمائهم» ثمّ نهضَ ونهضتُ
معه .

فقلتُ في نفسي : الحمدُ للهِّ الّذي بصّرني هذا الرّجلَ ، وعرّفني
أمرَه ، هذا أحدُ رجلينِ : إِمّا رجلٌ كذّابٌ جريء أوعلى بيِّنةٍ من ربِّه وعهدٍ
من نبيِّه ، اللّهمّ إِنّي أُعطيك عهداً تسألني عنه يومَ القيامِة، إن أنا وجدتُ
القومَ قد عبروا أنْ أكونَ أوّلَ من يقاتلُه وأوّلَ من يَطعنُ بالرُّمحِ في عينهِ ،
وِانْ كانوا لم يَعبروا (أنْ أُقيمَ )ُ
(2) على المناجزةِ والقتالِ . فدُفِعْنا إِلى الصُّفوفِ
فوَجَدْنا الرّاياتِ والأثقالَ كما هي ، قالَ : فأخذَ بقَفايَ ودَفعَني ثمّ قالَ :
«يا أخا الأزْدُ
(3) ، أتبينِّ لكً الأمرُ؟» قلتُ : أجلْ يا أميرَالمؤمنينَ ، قالَ : «فشأْنكَ
_________
(1) في « م» وهامش « ش» : أزد .
(2) في هامش «ش» و «م» نسخة ثانية : ان اُتِم ، وفي متن «ش» هكذا : اَثِم ، واثبتنا ما في
نسخة «م» ونسخة من هامش «ش» .
(3) في هامش «ش» نسخة اخرى : اخا أزد.
( 319 )
بعدوِّكَ» فقتلتُ رجلاً، ثم قتلتُ اخرَ، ثمّ اختلفتُ أنا ورجلٌ آخر أضربُه
ويَضرِبُني فوَقعْنا جميعاً ، فاحتملني أصحابي فأفقتُ حينَ أفقتُ وقد فَرغَ
القومُُ
(1) .

وهذا حديثٌ مشهورٌ شائعٌ بينَ نَقَلةِ الآثارِ، وقد أخبرَ به الرّجلُ
عن نفسِه في عهدِ أميرِ المؤمنين عليهِ السّلامُ وبعدَه ، فلم يَدفعْه عنه
دافع ولا أنكرَ صدقَه فيه مُنكِر، وفيه إِخبارٌ بالغيب ، وِابانةٌ عن علمِ
الضّميرِ ومعرفة ما في النَفوسِ ، والايةُ باهرةٌ فيه لا يُعادِلهُا إِلاّ ما ساواها
في معناها من عظيمِ المعجزِوجليلِ البرهانِ .
فصل

ومن ذلكَ ما تواترتْ به الرِّواياتُ من نعيِه عليهِ السّلامُ نفسَه قبلَ
وفاتِه ، والخبرِ عنِ الحادثِ في قتلِه ، وأنه يَخرجُ منَ الدُّنيا شهيداً بضربةٍ في
رأْسهِ يَخضِب دمُها لحيتَه ، فكانَ الأمرُ في ذلكَ كما قالَ.

فمنَ اللفظِ الّذي رواه الرواة في ذلكَ قولُه عليهِ السّلامُ : «واللهِ لتُخْضبَنَّ
هذهِ من هذا» ووضع يدَه على رأْسِه ولحيتهِ ُ
(2) .

وقولهُ عليهِ السّلامُ : «واللهِ لَيَخْضِبَنَّها من فوقِها» وأومأَ إِلى شيبتهِ «ما
_________
(1) الكافي 1 : 280 / 2 نحوه ، وكذا كنز العمال 11 : 289 عن الطبراني في الوسيط ، وابن
ابي الحديد في شرح النهج 2 : 1 27 ، ونقله العلامة المجلسي في البحار 41 : 284 / 3.
(2 ) الطبقات الكبرى 3 : 34 ، الغارات 2 : 443 ، الكنى للدولابي : 143 ، الاستيعاب
61:3 .
( 320 )
يَحبِسُ أشقاها ! ؟»
(1) .

وقولُه عليهِ السّلامً : «ما يَمنعُ أشقاها أن يَخضِبَها من فوقِها
بدم ؟!»
(2) .

ًوقولُه عليهِ السّلامُ : «أتاكم شهر رمضانَ ،وهوسيد الشهور
وأوّلُ السّنةِ، وفيه تَدورُ رَحَى السُّلطانِ ، ألا وانّكم حاجُّوا العام صفّاً
واحداً ، وآيةُ ذلكَ أنّي لستُ فيكم» فكانَ أصحابُه يقولونَ : إِنّه يَنعى
إِلينا نفسَه ُ
(3) ، فضُرِبَ عليهِ السّلامُ في ليلةِ تسعَ عَشرةَ، ومضى في ليلةِ
إِحدى وعشرينَ من ذلكَ الشّهرِ.

ومنها ما رواه الثِّقات عنه :أنّه كانَ يُفطِرُ في هذا الشّهرِ ليلةً عندَ
الحسنِ ، وليلةً عندَ الحسينِ ، وليلةً عندَ ابنِ عبّاسُ
(4) ، لا يَزيدُ على
ثلاثِ لُقَمٍ ، فقالَ له أحدُ ولديه - الحسنُ أو الحسينُ عليهماَ السلامُ - في
ذلكَ ، فقالَ : «يا بُنيَّ ، يأْتي أمرُ اللّهِ وأنا خَميصٌ ، إِنّما هي ليلة أو
ليلتانِ» فاُصيبَ منَ الليلُِ
(5) .

ومنها ما رواه أصحابُ الأثارِ: أنّ الجَعْدَ بنَ بَعْجَةُ
(6) - رجلاً منَ
_________
(1) الغارات 2 : 444 .
(2) الغارات 1 : 30 ، الاستيعاب 3 : 61 .
(3) نقله العلامة المجلسي في البحار 42 : 193 /9 .
(4) في هامش «ش» و «م» نسخة اخرى : عبدالله بن جعفر. وهو الاولى ، انظر اوائل
الارشاد .
(5) اخرجه الخوارزمي في المناقب : 392 / 410 ، وابن الأثير في اُسد الغابة 4 : 35، وابن الصباغ في
الفصول المهمة : 139 ، وانظر مصادر اُخرى في أوائل الكتاب في فصل آخر من
الاخبار التي جاءت بنعيه .
(6) في «ش» و«م» : نعجة، وفي هامشها : بعجة وليس منهم نعجة .