الأرشاد الجزء الثاني
وتبغِيني الغوائلَ ؟ !
* فقالَ له أَبو عبدِاللهِ عليهِ السّلامُ : «واللهِ ما فعلتُ ولا أَردتُ ، فإِن كانَ بلغَكَ فمن كاذب ، (ولوكنتُ)(1) فعلت لقد ظُلِمَ يوسفُ فغَفرَ، وابتُليَ أَيّوبُ فصَبرَ، وأعطِيَ سليمانُ فشَكرَ، فهؤلاءِ أَنبياءُ اللهِ أليهم يرجعُ نَسبُكَ ».
فقالَ له المنصورُ: أجل ، ارتفِعْ هاهنا، فارتفعَ ؛ فقالَ له : إِنّ فلانَ ابنَ فلانٍ أَخبرَني عنكَ بما ذكرتُ .
فقالَ : «أحضِرْه - يا أميرَ المؤمنينَ - ليوُاقِفَني على ذلكَ » فأُحضِرَ الرجل المذكورُ.
فقالَ له المنصورُ: أَنتَ سمعتَ ما حكيتَ عن جعفرٍ ؟ قالَ : نعم ؛ فقالَ له أَبوعبدِاللهِ عليه السّلامُ : «فاستحلِفْه على ذلكَ » .
فقالَ له المنصورً: أَتَحْلِفُ ؟
قالَ : نعم ؛ وابتدأ باليمينِ .
فقالَ له أبو عبدِاللهِ عليهِ السّلامُ : «دَعْني - يا أميرَ المؤمنينَ - أُحَلِّفه أنا» .
فقالَ له : افعَلْ .
فقالَ أَبو عبدِاللهِ للسّاعي : «قلْ : بَرِئْتُ مِنْ حَولِ اللهِ وقوّتهِ ، والتجأْتُ إِلى حَولي وقوّتي ، لقد فعلَ كذا وكذا جعفرٌ ، وقالَ كذا وكذا جعفرٌ».فامتنعَ منها هُنَيْهةً ثمّ حلفَ بها، فما برحَ حتّى ضَرَبَ برِجلِه .
____________
(1) في «م » وهامش «ش » : وان كنت .
(184)

فقالَ أَبوجعفرٍ : جًرُّوا برِجلِه ، فأَخْرِجوه لعنَه اللهُ .
قالَ الرّبيعُ : وكنت رأَيتَ جعفرَ بنَ محمّدٍ عليهما السّلامُ حينَ دخلَ على المنصور يحرِّكُ شَفَتَيْه ، فكلَّما حرّكَهما سكنَ غضبُ المنصور، حتّى أَدناه منه وقد رضيَ عنه . فلمّا خرجَ أبو عبدِاللهِ عليه السّلام من عندِ أَبي جعفرٍ اتّبعتهُ فقلتُ : إنّ هذا الرّجلَ كان من أَشدِّ النّاس غضباً عليك ،فلمّا دخلتَ عليه دخلتَ وأَنتَ تُحرِّكُ شَفَتَيْكَ ، وكلَما حرّكْتَهما سكنَ غضبهُ ، فبأَيَ. شيءٍ كنتَ تحرِّكُهما؟ قالَ : «بدعاءِ جدِّي الحسينِ بنِ عليٍّ عليهما السّلامُ » قلتُ : جُعلت فداكَ ، وما هذا الدُّعاءُ؟ قالَ : «يا عُدّتي (عندَ شدّتي)(1) ، ويا غَوْثي عندَ كُربتي ، احْرُسْني بعينِكَ الّتي لا تَنامُ ، واكنُفْني برُكنِكَ الّذي لا يُرامُ » .
قالَ الرّبيع : فحفظتُ هذا الدُّعاءَ، فما نزلتْ بي شِدّةٌ قطُّ إِلا دعوتُ به ففُرِّجَ عنِّي .
قالَ : وقلتُ لجعفرِ بنِ محمّدٍ : لِمَ مَنَعْتَ السّاعيَ أَن يَحلفَ باللهِّ ؟ قالَ : «كَرِهتُ أَنْ يَراهُ اللهّ يُوَحِّدهُ ويُمجِّدهُ فيَحلُم عنه ويُؤَخِّرَ عقوبتَه ، فاستحلفتهُ بما سمعتَ فأَخذَه اللهُ أخذةً رابية » (2) .
وروي أَنّ داوُدَ بنَ عليِّ بنِ عبدِاللهِ بن عبّاسٍ قَتلَ المُعلّى بن خُنَيْسٍ - مولى جعفرِ بنِ محمّدٍ عليهما السّلامُ - وأَخَذَ مالَه ، فدخلَ عليه جعفرٌ وهو
____________
(1) في «م » وهامش «ش» : في شدّتي .
(2) رواه ابن الصباغ في الفصول المهمة : 225 ، باختلاف يسير، واشار الى الواقعة باختصار سبط ابن الجوزي في تذكرة الخواص : 309، والكنجي الشافعي في كفاية الطالب : 455 ، ونقله العلامة المجلسي في البحار 47 : 174| 21 .

(185)
يَجُرُّ رداءه فقالَ له : «قتلتَ مولاي وأَخذتَ مالي ، أَما علمتَ أَنّ الرّجلَ يَنامُ على الثُّكلِ ولا يَنامُ على الحَرب ، أَما واللهِ لأدْعُوَنَّ الله عليكَ » فقالَ له داوُدُ : أَتَتَهدّدُنا(1) بدعائكَ ؟ كالمستهَزئ بقولهِ . فرجعَ أَبو عبدِاللهِ عليه السّلامُ !لى دارِه ، فلم يَزلْ ليلَه كلَّه قائماً وقاعداً، حتّى إِذا كانَ السّحرُ سُمعَ وهو يقولُ في مُناجاتِه : «ياِذا القوة القوية،وياِذا المحال الشّديدِ، وياذا العزّةِ الّتي كلُّ خلقِكَ لها ذليلٌ ، اكْفِني هذا الطّاغيةَ وانتقِمْ لي منه » فما كانَ إِلا ساعة حتّى ارتفعتِ الأصواتُ بالصِّياحِ وقيلَ : قد ماتَ داوُدُ ابنُ عليٍّ السّاعةَ(2) .
وروى أَبو بصير قالَ : دخلتُ المدينةَ وكانتْ معي جويرية لي فأَصبت منها، ثمّ خرجتُ إِلى الحمّام فلقيتُ أَصحابَنا الشِّيعةَ وهم متوجِّهونَ إِلى جعفرِ ابنُ محمّدٍ عليهما السّلامُ فخِفتُ أَن يَسبقوني ويفوتَني الدُّخولُ إِليه ، فمشيتُ معَهم حتّى دخلتُ الدّارَ، فلمّا مثلتُ بينَ يَدَيْ أَبي عبدِاللهِّ عليه السّلامُ نظرَ إِليَّ ثمّ قالَ : «يا أَبا بصيرٍ ، أَما علمتَ أَنّ بيوتَ الأنبياءِ وأَولاد الأنبياءِ لا يَدخلُهُا الجُنُبُ » فاستحيَيْتُ وقلتُ له : يا ابنَ رسولِ اللهِّ ، إِنِّيَ لقيتُ أَصحابَنا فخشيتُ أَن يفوتَني الدُّخولُ معَهم ، ولن أَعودَ إِلى مثلِها ؛ وخرجتُ (3) .
وجاءَتِ الرِّوايةُ عنه مُستفيضةً بمثلِ ما ذكرْناه منَ الآياتِ والإخبارِ بالغُيوب ممّا يطولُ تعدادُه .
____________
(1) في «م » وهامش «ش » : أتُهدٌدنا .
(2) رواه مختصراً ابن الصباغ في الفصول المهمة : 226 ، وأشار الى نحوه الكليني في الكافي 2 : 372| 5 ، وابن شهراشوب في المناقب 4 : 0 23 ، والراوندي في الخرائج 2 : 711|6 .
(3) روى نحوه الصفار في بصائره : 261 |23 ، والطبري في دلائل الامامة : 137 ، وابن شهرآشوب في مناقبه 4 : 226 .

(186)

* وكانَ يقولُ عليه وعلى آبائه السّلامُ : «عِلْمُنا غابِرٌ ومزبور، ونَكْتٌ في القلوبِ ، نَقرٌ في الأَسماعِ ؛ وانّ عندَنا الجَفْرَ الأحمرَ والجَفْرَ الأبيضَ ومُصحَفَ فاطمةَ عليها السّلامُ ، ِوانّ عندَنا الجامعةَ فيها جميعُ ما يَحتاجُ الناسُ إِليه » .
فسئلَ عن تفسيرهذا الكلام فقالَ : «أَمّا الغابرُ فالعلمُ بما يكونُ ، وأَمّا المزبورُ فالعلمُ بما كانَ ، وأمّا النّكتُ في القلوبِ فهوالإلهامُ ، والنَقرُ في الأسماع حديث الملائكةِ ، نَسمعُ كلامَهم ولا نرى أَشخاصَهم ، وأَمّا الجفرُ الأَحمر فوعاء فيه سلاح رسولِ اللهِ صلّى اللهُّ عليهِ والهِ ولن يظهرَ (1) حتّى يقوم قائمنا اهل البيتِ ، وأَمّا الجفرُ الابيضُ فوعاءٌ فيه توراةُ موسى وإِنجيل عيسى وزبورُ داودَ وكُتُبُ اللهِ الأولى ، وأَمّا مُصحَفُ فاطمةَ عليها السلام ففيه ما يكونُ كل حادثٍ وأَسماءُ كلِّ من يَملكُ (2) إِلى أَن تقومَ الساعة، ؟أَمّا ألجامعةُ فهي كتابٌ طولهُ سبعونَ ذراعاً، املاءُ رسولِ اللهِّ صلى اللهّ عليهِ والهِ من َفلْقِ فِيْه وخطُّ عليِّ بنِ أَبي طالبٍ عليهِ السّلامُ بيدِه ، فيه - واللهِّ - جميعُ ما يَحتاجُ النّاسُ إِليه إِلى يوم القيامةِ، حتّى انّ فيه أَرْش الخَدْشِ والجَلْدةَ ونصفَ الجَلْدة»(3) .
وكانَ عليه وآبائه السّلامُ يقولُ : «حديثي حديثُ أَبي ، وحديثُ أَبي حديثُ جدِّي ، وحديثُ جدِّي حديثُ علي بنِ أَبي طالبٍ أَميرِ المؤمنينَ ، وحديث علي أميرِ المؤمنينَ حديث رسولِ اللهِّ صلّى اللهُّ عليهِ وآلهِ ،
____________
(1) في هامش «ش» و«م»: يخرج.
(2) في هامش «ش» و«م »: ملك .
(3) رواه مختصراً ألكليني في الكافي 1 :207 |3 ، والصفار في بصائر الدرجات : 2|338 .

(187)
وحديثُ رسولِ اللهِ قولُ اللهِ عزّ وجلَّ »(1) .
وروى أَبو حمزةَ الثُّماليُّ ، عن أَبي عبدِاللهِّ جعفرِ بنِ محمّدٍ عليهما السّلامُ قالَ : سمعتُه يقولُ : «أَلواحُ موسى عليهِ السّلامُ عندَنا، وعصا موسى عندَنا، ونحن وَرَثَةُ النّبيِّينَ »(2) .
وروى معاويةُ بنُ وهبِ ، عن سعيدٍ السّمّانِ قالَ : كنت عندَ أَبي عبدِاللهِّ عليه السّلامُ إِذْ دخلً عليه رجلانِ منَ الزّيديّةِ فقالا له : أَفيكم إِمامٌ مفتَرَضٌ طاعته ؟ قالَ : فقالَ : «لا» قالَ : فقالا له : قد أَخْبَرَنا عنكَ الثِّقاتُ أَنّكَ تقولُ به - وسمَوْا قوماً - وقالوا : هم أَصحاب وَرَعٍ وتشمير (3) وهم ممّن لا يَكذِبُ؛ فغضبَ أَبو عبدِاللهِّ عليه السّلامُ وقالَ : «ما أَمرتُهم بهذا» فلمّا رأَيا الغضبَ في وجهِه خَرَجا.
فقالَ لي : «أتعرفُ هذينِ ؟» قلت : نعم ، هما منِ أَهلِ سُوقِنا، وهما منَ الزّيديّةِ وهما يَزعمانِ أَنّ سيفَ رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ عندَ عبدِاللهِ بنِ الحسنِ بنِ الحسنِ فقالَ : «كذبا لعنَهما اللهُ ،واللهِ ما راه عبدُالله ابن الحسنِ بعينيه ولا بواحدةٍ من عينيه ، ولا راه أَبوه ، اللهمَّ إِلا أَن يكونَ رآه عندَ عليِّ بنِ الحسينِ عليهما السّلامُ ، فإن كانا صادقينِ فما علامةٌ في مقبضهِ ؟ وما أَثرُ في مضربِه ؟ فإِنّ عندي لسيفَ رسولِ اللّهِ صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ ، وإنّ عندي لدرعَ رسولِ اللهِ ، وإنّ عندي لرايةَ رسولِ اللهِ ولامتَه ومغفره ، فإِن كانا صادقَينِ فما علامةٌ في درعِ رسولِ اللهِ ؟ وِانّ
____________
(1) الكافي 1 : 42 : 14 .
(2) الكافي 1 : 180 |2 ، بصائر الدرجات : 203 |32، مناقب ابن شهرآشوب 4 : 276 .
(3) التشمير: الجدّ في الشيّء «الصحاح - شمر- 2 : 703» . وفي «ش » وهامش «م » : التمييز.

(188)
عندي لرايةَ رسولِ اللهِ المُغَلِّبةَ (1) ،وانّ عندي ألواحَ موسى وعصاه وِانّ عندي لخاتمَ سليمان بن داوُدَ، وِان عندي الطّستَ التي كانَ موسى يُقرِّب فيها القربانَ ،وانّ عندي الاسمَ الّذي كانَ رسولُ اللهِّ صلّى اللهُ عليهِ والهِ إِذا وضعَه بينَ المسلمينَ والمشركينَ لم تَصِلْ منَ المشركينَ إِلى المسلمينَ نُشّابةٌ ، وانّ عندي لمثلَ الّذي جاءتْ به الملائكة ؛ ومثلُ السِّلاح فينا كمثلِ التّابوتِ (2) في بني إِسرائيلَ ، كانتْ بنو إِسرائيلَ في أَيِّ بيتٍ وُجِدَ التّابوتُ على أَبواَبهم أُوتوا النُبوّةَ، ومَنْ صارَ إِليه السلاحُ منّا أُوتيَ الإمامةَ، ولقد لبسَ أَبَي درعَ رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ والهِ فَخطتْ عليه الأرضَ خَطِيطاً ولبستُها أنا فكانت وكانتْ ، وقائمُنا مَنْ إذا لبسَها ملأها إن شاءَ اللهُ »(3) .
وروى عبدُ الأعلى بن أَعيَنَ قالَ : سمعتُ أبا عبدِاللهِّ عليه السّلام يقولُ : «عندي سلاحُ رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ لا أُنازَعُ فيه ؛ ثمّ قالَ : إِنّ السلاحَ مدفوعٌ عنه (4) ، لو وُضِعَ عندَ شرِّ خلقِ اللهِ كانَ خيرَهم . ثمّ قالَ : إِنّ هذا الأمرَ يصيرُ إِلى مَنْ يًلْوى له الحَنَكُ (5) ، فإِذا كانتْ منَ اللهِ فيه المشيئةُ خرجَ ، فيقولُ النّاسُ : ما هذا الّذي كانَ ؟!
____________
(1) ضبطناها كما في نسخة «ش » و«م » ، وفي مرآة العقول : «المغلبة» اسم آلة من الغلبة كانها اسم احدى راياته صلّى الله عليه وآله .
(2) في هامش «ش » : قال الشيخ المفيد (رحمه الله) : يعني التابوت الذي جاءت به الملائكة الى طالوت .
(3) الكافي 1 : 181 | 1 ، بصائر الدرجات : 194 | 2 .
(4) في مرآة العقول : أي تدفع عنه الآفات .
(5) في هامش «ش » و«م» : اي يُستحقر.

(189)
ويضعُ اللهُّ له يداً على رأْسِ رعيّتهِ »(1) .
وروى عُمَرُ بنُ أَبان قالَ : سأَلتُ أَبا عبدِاللهِ عليه السّلام عمّا يتحدّثُ النّاسُ أَنّه دُفِعَ إِلى أُمِّ سلمةَ - رضيَ اللهُ عنها - صحيفةٌ مختومةٌ فقالَ : «إِنّ رسولَ اللهِّ صلّى اللهً عليهِ وآلهِ لمّا قُبضَ ورثَ عليٌّ عليه السّلامُ علمَه وسلاحَه وما هناكَ ، ثمّ صارَ إِلى الحسنَ ، ثمّ صارَ إِلى الحسينِ عليهما السّلامُ » .
قالَ : فقلتُ : ثم صارَ إِلى علي بنِ الحسينِ ، ثم إلى ابنهِ ، ثم انتهى إليكَ ؟
قالَ :«نعم »(2) .
والأخبارُ في هذا المعنى كثيرةٌ ، وفيما أَثبتْناه منها كفايةٌ في الغرضِ الّذي نَؤُمُّه إِن شاءَ اللهُّ .
____________
(1) الكافي 1 : 182 | 2 ، بصائر الدرجات : 204 | 39 .
(2) الكافي 1 : 183 |8 ، بصائر الدرجات : 206 | 45 .

(190)
باب
ذكر طرفٍ من أَخبارِ أَبي عبدِاللهِ
جعفرِ بنِ محمّدٍ الصّادِقِ عليه السلامُ وكلامهِ

وجدتُ ، بخطّ أَبي الفرجِ عليِّ بنِ الحسينِ بنِ محمّدٍ الأصفهانيِّ في أَصلِ كتابِه المعروفِ بمقاتلِ الطّالبيِّينَ :
أَخبرَني عمر بنُ عبدِاللهِ العَتَكيّ قالَ : حدّثَنا عُمَرُ بنُ شبّةَ قالَ : حدّثَني الفضلُ بنُ عبدِالرّحمن الهاشميّ وابنُ داحةَ .
قالَ أَبو زيدٍ (1) ، وحدّثَني عبدُ الرّحمن بن عمرو بنِ جَبَلَةَ قالَ : حدّثَني الحسنُ بنُ أَيُّوبَ - مولى بني نُميرٍ - عن عبدِ الأَعلى بن أَعَينَ .
قالَ : وحدّثَني إِبراهيمُ بنُ محمّدِ بنِ أَبي الكرامِ الجعفريّ ، عن أَبيه .
قالَ : وحدّثَني محمّدُ بنُ يحيى، عن عبدِاللهِّ بنِ يحيى.
قالَ : وحدّثَني عيسى بن عبدِاللهِّ بنِ محمّدِ بنِ عمر بن عليٍّ ، عن أَبيه ، وقد دخلَ حديثُ بعضِهم في حديثِ الآخرينَ :
أَنّ جماعةً من بني هاشمٍ اجتمعوا بالأبواءِ، وفيهم إِبراهيمُ بنُ محمّدِ بنِ عليِّ بنِ عبدِاللهِ بنِ العبّاسِ ، وأَبو جعفرٍ المنصورُ، وصالحُ بنُ
____________
(1) أبو زيد : هو عمر بن شبة كما في هامش «ش »، وقد عنونه في تاريخ بغداد 11 : 208 وذكر ولادته في اول رجب سنة 173 ووفاته في جمادى الآخرة سنة 262 هـ.
(191)
عليّ ، وعبدُاللهِ بن الحسنِ ، وابناه محمّدٌ وإبراهيمُ ، ومحمّدُ بنُ عبدِالله بن عمرِوبنِ عُثمانَ ؛ فقالَ صالحُ بنُ عليٍّ : قد علمتم أَنّكم الّذين يَمدُّ النّاسُ إِليهم (1) أَعينَهم ، وقد جمعَكم اللهُ في هذا الموضعِ ، فاعقدوا بيعةً لرجلٍ منكم تُعطونَه إِيّاها من أَنفسِكم ، وتَواثَقوا على ذلكَ حتّى يفتحَ اللهُ وهو خيرُ الفاتحينَ .
فحمدَ اللهَ عبدُالله بن الحسنِ وأثنى عليه ثمّ قالَ : قد علمتم أنّ ابني هذا هو المهديُّ ، فهلَم فلنبايعْه .
قالَ أبو جعفر: لأيِّ شيءٍ تخدعونَ أنفسَكم ؟ واللهِ لقد علمتم ما النّاسُ إِلى أحدٍ أصور(2) أعناقاً ولا أسرع إِجابةً منهم إِلى هذا الفتى - يريد به محمّدَ بنَ عبدِاللهِ -.
قالوا : قد - واللهِ - صدقتَ ، إِنّ هذا الّذي نعلمُ .
فبايعوا محمّداً جميعاً ومسحوا على يدِه .
قالَ عيسى : وجاءَ رسولُ عبدِاللهِ بنِ حسنٍ إِلى أبي : أنِ ائتِنا فإِنّا مجتمعونَ لأمرٍ ، وأرسلَ بذلكَ إلى جعفرِ بنِ محمّدٍ عليهما السّلامُ .
وقالَ غير عيسى (3) : إِنّ عبدَاللهِ بن الحسنِ قالَ لمن حضرَ: لا تُريدوا جعفراً، فإنّا نخافُ أن يُفسِدَ عليكم أمرَكم .
قالَ عيسى بن عبدِاللهِ بنِ محمّدٍ : (فأرسلَني أبي أنظرُ ما اجتمعوا له ، فجئتُهم)(4) ومحمّدُ بنُ عبدِاللهِ يُصلِّي على طنفسةِ رحلٍ مَثْنيّةٍ فقلتُ لهم :
____________
(1) في «ح » وهامش «ش » : اليكم .
(2) الصَوَر: الميل . «الصحاح - صور- 2 : 716 » .
(3) هو عبدالله الاعلى، كما صرح به في مقاتل الطالبيين .
(4) في مقاتل الطالبيين هكذا : انظر الى ما اجتمعوا عليه ، وارسل جعفر بن محمد عليه السلام ،

=


(192)
أرسلَني أبي إِليكم أسأَلُكم لأيِّ شيءٍ اجتمعتم ؟
فقالَ عبدُاللهِ : اجتمعْنا لنبايعَ المهديَ محمّدَ بنَ عبدِاللهِ .
قالَ : وجاءَ جعفرُ بنُ محمّدٍ فأَوسعَ له عبدُاللهِّ بن حسن إِلى جنبِه ، فتكلّمَ بمثلِ كلامِه .
فقالَ جعفرٌ : «لا تَفْعلوا ، فإِنّ هذا الامرَ لم يأْتِ بَعدُ ، إِن كنتَ ترى - يعني عبدَاللهِ - أنّ ابنَكَ هذا هو المهديُ ، فليسَ به ولا هذا أوانهُ ،وان كنتَ إِنّما تريدُ أَن تخرِجَه غضباً للهِ وليأْمرَ بالمعروفِ وينهى عنِ المنكرِ، فإِنّا واللهِ لا نَدَعُكَ - وأنتَ شيخُنا - ونبايع ابنَكَ فَي هذا الأمرِ» .
فغضبَ عبدُاللهِ وقالَ : لقد علمتُ خلافَ ما تقولُ ، وواللهِ ما أَطْلَعَكَ اللههً على غيبِه ، ولكنّه يَحْمِلُكَ على هذا الحسد لابْني.
فقالَ : «واللهِّ ما ذاكَ يَحمِلُني ، ولكنْ هذا وِاخوتُه وأَبناؤهم دونَكمِ » وضربَ بيدِه على ظهرِ (أبي العبّاسِ)(1) ثمّ ضربَ بيدِه على كتفِ عبدِاللهِّ ابن حسنٍ وقالَ : «إِنّها - والله - ما هي إِليكَ ولا إِلى ابنَيْكَ ولكنّها لهم ، وِانّ ابنيْكَ لمَقتولانِ » ثمّ نهضَ وتوكّأ على يدِ عبدِ العزيزِ بنِ عِمْرانَ الزُّهْريِّ فقالَ : «أَرأَيتَ صاحبَ الرِّداءِ الأصفرِ؟» يعني (أَبا جعفر) (2) فقالَ له : نعم ، فقالَ : «إِنّا واللهِّ نَجِدُه يَقتله» قالَ له عبدُ العزيزِ: أَيَقتِلُ محمّداً؟ قالَ : «نعم » .
فقلتُ في نفسي : حَسَدَه وربِّ الكعبةِ! قالَ : ثُمَّ واللهِ ما خرجتُ
____________
=
محمد بن عبدالله الارقط بن علي بن الحسين فجئناهم . . . الخ .
(1) في هامش «ش » : كأنه أبو العباس السفاح .
(2) هو أبو جعفر المنصور.

(193)
منَ الدُّنيا حتّى رأَيتُه قَتَلَهما.
قالَ : فلمّا قالَ جعفرٌ ذلكَ ونهضَ القومُ وافترقوا، تَبعَه عبدُ الصمدِ وأَبو جعفرٍ فقالا : يا أَبا عبدِاللهِ أَتقولُ هذا؟ قالَ : «نعم ، أقولُه - واللهِ - وأَعْلَمُه ».
قالَ أَبو الفرج : وحدّثَني عليُّ بنُ العبّاسِ المَقانعيّ قالَ : أَخبرَنا بكّارُ بنُ أَحمدَ قالَ : حدّثَنا حسنُ بنُ حسينٍ (1) عن (عَنْبَسَة بن بجادٍ)(2) العابدِ قالَ : كانَ جعفرُ بنُ محمّدٍ عليهما السلامُ إِذا رأَى محمّدَ بنَ عبداللهِ ابن حسنٍ تَغَرْ غَرَتْ عيناه ، ثمّ يقولُ : «بنفسي هو، إِنّ النّاسَ لَيقولونَ فيه ، وإِنّه لَمقتولٌ ، ليسَ هو في كتابِ عليٍّ من خلفاءِ هذه الأمّةِ»(3)‏.
فصل

وهذا حديثٌ مشهورٌ كالّذي قبلَه ، لا يَختلفُ العلماء بالأخبار في صحّتِهما، وهما ممّا يَدُلاّنِ على إمامةِ أبي عبدِاللهِ الصّادقِ عليه السلامُ وأن المعجزاتِ كانتْ تظهرُ على يدِه لإخبارِه بالغائباتِ والكائناتِ قبلَ كونِها ، كما كانَ يُخبرُ الأنبياءُ عليهم السلامُ فيكونُ ذلكَ من اياتِهم وعلاماتِ
____________
(1) كذا في «ش » و«ح »، وحكاه. في هامش «م » عن نسخة ، وفي متنه : حسن ، ومثله هامش «ش » وعليه علامة (س)، وهو تصحيف ، والمراد منه هو الحسن بن الحسين العرني الذي مر في ص 171 برواية بكّار بن أحمد عنه ، انظر ترجمة العرني في رجال النجاشي : 51| 111 .
(2) أثبتناه من «م » وهامش «ش » وهو محتمل «ح»، وفي «ش» : نجاد، وهو تصحيف ، انظر ايضاح الاشتباه : 247 | 501 ، رجال العلامة : 129 |3، رجال ابن دارد : 147 | 1154 .
(3) مقاتل الطالبيين : 205 - 208 ، ورواه مرة اخرى في ص 253 - 257 ، ونقله العلامة المجلسي في البحار 46 : 187 |53و 47 : 18|276 .

(194)
نبوّتِهم وصدقهِم على ربِّهم عزَ وجلَّ .
* أَخبرَني أَبو القاسمِ جعفرُ بنً محمّدِ بنِ قولويه ، عن محمّدِ بنِ يعقوبَ الكُليْنيَ ، عن عليِّ بنِ إِبراهيم بن هاشمٍ ، عن أَبيه ، (عن جماعةٍ من رجالهِ)(1) ، عن يونس بن يعقوبَ قالَ : كنتُ عندَ أَبي عبدِاللهِ الصادقِ عليهِ السلامُ فوردَ عليه رجلٌ من أَهلِ الشّام فقالَ له : إِنِّي رجلٌ صاحبُ كلامٍ وفقهٍ وفرائضَ ، وقد جئت لمناظرةَِ أَصحابِكَ؛ فقالَ له أَبو عبدِاللهِ عليهِ السلامُ : «كلامُكَ هذا من كلام رسولِ اللهِ صلّى اللهُّ عليهِ وآلهِ أَو من عندِكَ ؟» فقالَ : من كلام رسولِ اللهِ بعضُه ، ومن عندي بعضُه؛ فقالَ له أَبو عبدِاللهِ عليهِ السَلامُ : «فأَنتَ إِذنْ شريكُ رسولِ اللهِ ؟!» فقالَ : لا؛ قالَ : «فسمعت الوحيَ عنِ اللهِ ؟ »قالَ : لا، قلَ : «فتَجبُ طاعتكَ كما تجَبُ طاعةُ رسولِ اللهِ ؟ » قالَ : لا؟ فالتفتَ أَبوعبدِاللهِّ عليهِ السلامُ إِليَّ فقالَ : «يا يونسَ بنَ يعقوبَ ، هذا قد خَصَمَ نَفْسَه قبلَ أَن يتكلّمَ ».
ثمّ قالَ : «يا يونسُ، لوكنتَ تُحْسِنُ الكلامَ لكلّمْتَه ».
قالَ يونسُ : فيالهَا من حَسرة؛ ثمّ قلتُ :جُعِلْتُ فداكَ ، سمعتُكَ تَنْهى عنِ الكلام وتقولُ : «ويلٌ لأصحابِ الكلام ، يَقولونَ هذا يَنْقادُ وهذا لا يَنْقادُ، وهذاَ ينساق وهذا لا يَنْساقُ ، وهذا نَعقِلُه وهذا لا نَعْقِلُه » .
فقالَ أَبو عبدِاللهِّ عليه السلامُ : «إِنمّا قلتُ : ويلٌ لقومٍ تركوا قولي وذهبوا إِلى ما يُريدونَ ؛ ثمّ قالَ : اخرُجْ إِلى البابِ فانظُرْ مَنْ ترى منَ المتكلِّمينَ فأَدْخِلْه » .
____________
(1) في الكافي : عمّن ذكره .
(195)

قالَ : فخرجتُ فوجدتُ حُمرانَ بنَ أَعْينَ - وكانَ يُحْسِنُ الكلامَ - ومحمّدَ بنَ النًّعمانِ الأحْوَلَ (1) - وكان متكلِّماً - وهِشامَ بنَ سالمٍ وقيسَ الماصرَ - وكانا متكلِّمَيْنِ - فأَدخلْتُهم عليه ، فلمّا استقرَّ بنا المجلس - وكنّا في خيمةٍ لأبي عبدِاللهِ عليهِ السلامُ على طرفِ جبلٍ في طرفِ الحرمِ ، وذلكَ قبلَ الحجِّ بأَيّامٍ - أَخرجَ أَبو عبدِاللهِ رأْسَه منَ الخيمةِ، فإِذا هو ببعيرٍ يَخُبُ (2) فقالَ : «هشامٌ وربِّ الكعبةِ».
قالَ : فظننّا أَنّ هِشاماً رجلٌ من ولدِ عقيلٍ كانَ شديدَ المحبّةِ لأبي عبدِاللهِ ، فإِذا هشامُ بنُ الحكمِ قد وردَ، وهو أَوّل ما اختطّتْ لحيتُه ، وليسَ فينا إِلا من هوأَكبرُسنّاً منه ، قالَ : فوسّعَ له أَبوعبدِاللهِ عليهِ السلامُ وقالَ : « ناصِرُنا بقلبِه ولسانِه ويدِه » .
ثمّ قالَ لحُمرانَ : «كلِّم الرّجلَ » يعني الشّاميَّ ، فكلّمَه حُمرانُ فظَهَرعليه .
ثمّ قالَ : «يا طاقيُّ كلِّمْه » فكلّمَه فظَهَرعليه محمّدُ بنُ النُّعمانِ .
ثمّ قالَ : «يا هشامَ بنَ سالمٍ كلِّمْه » فتعارفا.
ثمّ قالَ لقيسٍ الماصرِ: «كلِّمْه » فكلّمَه ، وأَقبل أَبو عبدِاللهِ عليهِ السلامُ يتبسّمُ من. كلامِهما، وقدِ استخذلَ الشّاميُّ في يدِه .
ثمّ قالَ للشّاميِّ : «كلِّمْ هذا الغلامَ » يعني هشامَ بنَ الحكمِ.
فقالَ : نعم ، ثمّ قالَ الشّاميُّ لهشامٍ : يا غلامُ ، سَلْني في إِمامةِ
____________
(1) في هامش «ش »: يعني مؤمن الطاق .
(2) الخبب : ضرب من العدو، وخب الفرس إذا راوح بين يديه ورجليه . «الصحاح - خبب - 1: 117».

(196)
هذا - يعني أَبا عبدِاللهِ عليهِ السلامُ - فغَضبَ هشامٌ حتّى ارتعدَ(1) ثمّ قالَ له : أَخبِرْني يا هذا ، أَربُكَ أَنظَرُ لخلقِه أَم هم لأنفسِهم ؟
فقالَ الشّاميُ : بل ربي أَنظرلخلقِه .
قالَ : ففعلَ بنظرِه لهم في دينِهم ماذا؟
قالَ : كلّفهم وأَقامَ لهم حجّةً ودليلاً على ما كلّفهم ، وأَزاح في ذلكَ عللهم .
فقالَ له هشامٌ : فما الدّليلُ الّذي نَصَبَه لهم ؟
قالَ الشّاميُّ : هو رسول اللهِّ صلّى اللهُ عليهِ والهِ .
قالَ له هشامٌ : فبعدَ رسولِ اللهِ مَنْ ؟
قالَ : الكتابُ والسُّنّةُ .
قالَ له هشامٌ : فهل نَفَعَنا اليومَ الكتابُ والسُّنّةُ فيما اختلفْنا فيه ، حتّى رفعَ عنّا الاختلاف ومَكّننا منَ الاتّفاقِ ؟
قالَ الشّاميُّ : نعم .
قالَ له هِشامُ : فَلِم اخْتَلَفْنا نحن وأَنتَ ، وجئتَنا منَ الشّامِ تُخالِفُنا وتزعمُ أَنّ الرّأْيَ طريقُ الدِّينِ ، وأَنتَ مُقِرٌ بأنّ الرّأْيَ لا يَجمعُ على القولِ الواحدِ المُختلفين ؟
فسكتَ الشّاميُّ كالمفكِّر.
____________
(1) في «ش » : اُرْعِدَ، وما أثبتناه من «م » وهامش «ش » وهو موافق للكافي والاحتجاج ونسخة البحار.
(197)

فقالَ له أَبوعبدِاللهِّ عليهِ السلامُ : «ما لَكَ لا تتكلّمُ ؟»
قالَ : إن قلتُ إنّا ما اختلفْنا كابرتُ ، ِوإن قلتُ إنّ الكتابَ والسُّنّةَ يَرْفَعانِ عنّا الاختلافَ أَبْطَلْتُ ، لأنّهما يحتملانِ الوجوهَ ، ولكن لي عليه مثل ذلكَ .
فقالَ أَبوعبدِاللهِ : «سَلْه تَجِدْه مَلِيّاً».
فقالَ الشّاميُّ لهشامٍ : مَنْ أَنْظَرُ للخلقِ ، ربُّهم أَم أَنفسهم ؟ فقالَ هشامٌ : بل ربُّهم أَنظرُ لهم .
فقالَ الشّاميُّ : فهل أَقامَ لهم من يَجمَعُ كلِمَتَهَم ، ويَرفَعُ اختلافَهم ، ويُبِّينُ لهم حقَهم من باطلِهم ؟.
قال هشام : نعم .
قالَ الشّاميُّ : مَنْ هو؟
قالَ هشامٌ : أمّا في ابتداءِ الشّريعةِ فرسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ والهِ ، وأَمّا بعدَ النّبيِّ عليه السلامُ فغيرهُ .
قالَ الشّاميُّ : ومَنْ هو غير النّبيِّ عليه السلامُ القائمُ مَقامَه في حجّتِه ؟
قالَ هشامٌ : في وقِتنا هذا أَم قبلَه ؟
قالَ الشّاميُّ : بل في وقتِنا هذا.
قالَ هشامٌ : هذا الجالسُ - يعني أَبا عبدِاللهِّ عليهِ السلامُ - الّذي تشدَّ إِليه الرِّحالُ ، ويُخبرنُا بأَخبارِ السّماءِ ، وراثةً عن أَبٍ عن جدٍّ .
(198)

قالَ الشّاميُّ : وكيفَ لي بعلمِ ذلكَ ؟
قالَ هشامٌ : سَلَهْ عمّا بدا لكَ .
قالَ الشّاميُّ : قطعتَ عُذْري ، فعليَ السُّؤالُ .
فقالَ أبو عبدِالله عليهِ السلامُ : «أَنا أكفِيكَ المسألةَ يا شاميُّ ، أخبِركَ عن مسيركَ وسفرِكَ ، خرجتَ يومَ كذا، وكانَ طريقُكَ كذا، ومررتَ على كذا، ومرَّ بكَ كذا» .
فأَقبلَ الشّاميُّ كلّما وَصفَ له شيئأ من أَمرِه يقولُ : صدقتَ واللهِّ .
ثمّ قالَ له الشّاميُّ : أَسلمتُ للهِ السّاعةَ .
فقالَ له أَبو عبدِاللهِ عليهِ السلامُ : «بل آمنتَ باللهِّ السّاعةَ، إِنَ الإسلامَ قبلَ الإيمانِ ، وعليه يتوارثونَ ويتناكحونَ ، والإيمان عليه يُثابونَ » .
قالَ الشّاميُ : صدقتَ ، فأَنا السّاعةَ أَشهدُ أَن لا إِلهَ إلا اللهُ وأَنّ محمّداً رسولُ اللهِ وأنكَ وصيُّ الأوصياءِ.
قالَ : فأَقبلَ أَبو عبدِاللهِ عليه السلامُ على حُمران بن أَعيَنَ فقالَ : «يا حُمرانُ ، تُجْرِي الكلامَ على الأثَرِ فتُصيبُ » .
والتفَت إِلى هِشامِ بنِ سالمٍ فقالَ : «تُريدُ الأثَرَولا تَعْرِفُ » .
ثمّ التفتَ إِلى الأحولِ فقالَ : «قَيّاسٌ رَوّاغٌ (1) ، تَكسرُ باطلاًً بباطلٍ ، إِلا أَنّ باطلَكَ أَظهرُ» .
____________
(1) راغ الثعلب : ذهب يمنةً ويسرةً في سرعة خديعةً، فهولا يستقرفي جهة «مجمع البحرين - راغ -5 : 10».
(199)

ثمّ التفتَ إِلى قَيْسٍ الماصِر فقالَ : «تُكَلِّمُ وأَقربُ ما تكونُ منَ الخبرِعنِ الرّسولِ صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ أَبعدُ ما تكونُ منه ، تَمْزِجُ الحقَّ بالباطلِ ، وقليلُ الحقِّ يكفي من كثيرِ الباطلِ ، أَنتَ والأحولُ قَفّازانِ حاذقانِ » .
قالَ يونسُ بنُ يعقوبَ : فظننتُ واللهِ أَنّه يقولُ لهشامٍ قريباً ممّا قالَ لهما، فقالَ : «يا هشامُ ، لا تكاد تَقَع ، تَلْوِي رجلَيْكَ ، إِذا هَمَمْتَ بالأرضِ طِرْتَ ، مثلُكَ فليُكَلِّمِ النّاسَ ، اتّقِ الزّلّةَ، والشّفاعةُ من ورا ئكَ » (1) .
فصل

وهذا الخبرُمعَ ما فيه من إثباتِ حجّةِ النّظر ودلالةِ الإمامةِ ، يتضمنُ منَ المعجزِ لأبي عبدِاللهِ عليهِ السلامُ بالخبرِ عنِ الغائبِ مثلَ الّذي تضمّنَه الخبرانِ المتقدِّمانِ ، ويوافقُهما في معنى البرهان .
أخبرَني أَبو القاسمِ جعفرُ بنُ محمّدٍ القميّ ، عن محمّدِ بنِ يعقوبَ الكُلينيِّ ، عن عليِّ بن إِبراهيمِ بن هاشمٍ ، عن أَبيهِ ، عنِ العبّاسِ بنِ عمرٍو(2) الفقيمي: أَنَّ ابنَ أَبي العوجاءِ وابنَ طالوتَ وابنَ الأعمى وابنَ
____________
(1) الكافي 1 : 130 | 4 ، وذكره مختصراً ابن شهرآشوب في المناقب 4 : 243 ، وروى الطبرسي في الاحتجاج : 364، مثله ؟ ونقله العلامة المجلسي في البحار 48 : 203| 7 .
(2) كذا في نسخة البحار والمطبوع ، وفي النسخ الثلاث : عُمَرَ بدل عمرو، وفي «م » : العباس عن عمر الفقيمي ، والظاهر صحة ما اثبتناه ، انظر: توحيد الصدوق : 60 ، 104 ، 144 ، 169 ، 243 ، 293 ، معاني الأخبار: 8 ، 20 ، الكافي 1 : 80 ، 108 ، وان كان في ص 168 منه : العباس بن عمر الفقيمي ، لكن حكى عن الطبعة القديمة(ابن عمرو). لاحظ معجم رجال الحديث 9 : 237 .

(200)
المقفع، في نفرٍ منَ الزنادقةِ، كانوا مجتمعينَ في الموسمِ بالمسجدِ الحرامِ ، وأَبو عبدالله جعفرِ بنِ محمّدٍ عليهما السلامُ فيه إِذ ذاكَ يُفتي النّاسَ ، ويُفسِّرُ لهم القرآن ، ويجيبُ عنِ المسائل بالحججِ والبيِّناتِ.
فقالَ القومُ لابنِ أَبي العوجاءِ: هل لكَ في تغليطِ هذا الجالسِ وسؤاله عمّا يفضحُه عندَ هؤلاءِ المحيطينَ به ؟ فقد ترى فتنةَ النّاسِ به ، وهو عَلامةُ زمانهِ ، فقالَ لهم ابنُ أبي العوجاءِ : نعم؛ ثمّ تقدّمَ ففرّقَ النّاسَ وقالَ : أَبا عبدِاللهِ ، إِنّ المجالسَ أَماناتٌ، ولا بدَّ لكلِّ مَنْ كانَ به سُعالٌ أَن يَسْعَلَ؛ فتأْذن في السُّؤالِ ؟ فقالَ له أَبوعبدِاللهِ عليه السلامُ : «سَلْ إِن شئتَ » .
فقالَ له ابنُ أَبي العوجاءِ :إِلى كم تَدُوسونَ هذا البَيْدَرَ، وتَلوذونَ بهذا الحَجَر، وتَعبدونَ هذا البيتَ المرفوعَ بالطُّوْب والمَدَرِ، وتُهَرْولونَ حولَه هَرْوَلَةَ البعيرِ إِذا نفرَ؟! من فكّرَ في ذلكَ (1) وقَدّر، عَلِمَ أَنّه فعلُ غيرِ حكيمٍ ولا ذي نظرٍ؛ فقُلْ فإِنّكَ رأْسُ هذا الأمرِ وسنامُه ، وأَبوك أُسُّه ونظامُه .
فقالَ له الصّادقُ عليهِ وآبائه السلامُ : «إِنّ مَنْ أضلَّه اللهُ وأَعمى قلبَه استوْخَمَ الحقَّ فلم يَسْتَعْذِبْه ، وصارَ الشّيطانُ وليَّه وربٌه ، يُورِده مَناهلَ الهَلَكةِ، وهذا بيتٌ استعبدَ اللهُّ به خلقه ليختبرَ طاعتَهم في إتيانه ، فحثَّهم على تعظيمِه وزيارتِه ، وجعلَه قبلةً للمصلِّينَ له ، فهو شُعبةٌ من رضوانِه ، وطريقٌ يؤدِّي إِلى غُفرانهِ ، منصوبٌ على استواءِ الكمالِ ومجمع العظمةِ والجلالِ ، خَلقَه قبلَ دَحْوِ الأرضِ بأَلْفَيْ عامٍ ، فأَحقُّ مَنْ
____________
(1) في «م » وهامش «ش » : هذا .
(201)
أُطِيعَ فيما أَمرَ وانْتُهِيَ عمّا زَجَرَ، اللهًّ عزَ وجلَّ المنشىءُ للأرواحِ والصُّورِ» .
فقالَ له ابنُ أَبي العوجاءِ : ذكرتَ -أَبا عبدِاللهِّ - فأَحَلْتَ على غائِبٍ .
فقالَ الصّادقُ عليهِ السلامُ : «كيفَ يكونُ - يا ويلَكَ - عَنَّا غائباً من هو معَ خلقِه شاهدٌ ،وِاليهم أقربُ من حبلِ الوريدِ؟! يسمعً كلامَهم ويعلمُ اسرارَهم ، لا يخلو منه مكانٌ ، ولا يشتغل به مكانٌ ، ولا يكونُ إِلى مكانٍ أَقربَ من مكانٍ ، تشهدُ له بذلكَ آثارُه ، وتدلُّ عليه أَفعالهُ ، والّذي بعثَه بالآياتِ المُحكَمةِ والبراهينِ الواضحةِ محمّد صلّى اللهُ عليهِ والهِ جاءَنا بهذه العبادةِ، فإِن شككتَ في شيءٍ من أَمرِه فاسأَل عنه أُوْضِحْه لكَ » .
قالَ : فأَبلسَ ابنُ أَبي العوجاءِ ولم يَدرِ ما يقولُ ، فانصرفَ من بينِ يديه ، وقالَ لأصحابه : سأَلتكُم أَن تلتمسوا لي خُمرة فالقَيتموني على جَمرةٍ ، قالوا له : اسكَتْ ، فواللهِّ لقد فَضَحْتَنا بِحَيْرتِكَ وانقطاعِكَ ، وما رأَيْنا أحقرَ مِنكَ اليومَ في مجلسِه فقالَ : أَلي تَقولونَ هذا؟! إِنه ابنُ من حلقَ رؤوسَ من تَرَوْنَ ، وأَومأ بيدِه إِلى أَهلِ الموسم (1) .
وُرويَ : أنّ أبا شاكرِ الدّيصانيّ وقفَ ذاتَ يومٍ في مجلسِ أَبي عبدِاللهِ عليه السلامُ فقالَ له : إِنّكَ لأحدُ النجُّومِ الزّواهرِ، وكانَ آباؤكَ بُدوراً بَواهِرَ، وأُمّهاتكَ عقيلاتٍ عَباهِرَ(2) ، وعُنصرُكَ من أَكرمِ العناصرِ، وإذا
____________
(1) روى الكليني قطعة منه في الكافي 4 : 197 | 1 ، والصدوق في الامالي : 493 | 4 ، والعلل : 4|403، والطبرسي في الاحتجاج : 335، ونقله العلامة المجلسي في البحار 10: 209| 11.
(2)ألعبهرة :هي المرأة التى جمعت الحُسْن والجسم والخُلق «لسان العرب - عبهر- 4 : 536» .

(202)
ذُكِرَ العلماءُ فبكَ ثَنْيُ الخناصِرِ(1) خَبِّرنا أَيُّها البحرُ الزّاخرُ، ما الدّليل على حدوث(2) العالم َ؟
فقالَ أَبو عبدِاللهِّ عليه السلامُ : «مِنْ أقرب الدّليلِ على ذلكَ ما أَذكرهُ لكَ ؛ ثمّ دعا ببيضةٍ فوضعَها في راحتهِ وقالَ :َ هذا حصنٌ مَلمومٌ ، داخله غِرْقئ(3) ، رقيقٌ ، تُطيفُ به كالفضّعةِ السّائلةِ والذّهبةِ المائعةِ، أَتشكُّ في ذلكَ ؟
قالَ أَبو شاكرٍ : لا شكَّ فيه .
قالَ أَبوعبدِاللهِّ عليهِ السلامُ : «ثمّ إِنّه يَنْفَلقُ عن صورةٍ كالطّاووسٍ ، أَدَخَلَه شيءٌ غيرُما عرفتَ ؟».
قالَ : لا .
قالَ : «فهذا الدّليلُ على حَدَثِ العالمِ » .
فقالَ أَبو شاكرٍ : دَلَلْتَ - أَبا عبدِاللهِّ - فأَوضحتَ ، وقلتَ فأحسنتَ، وذكرتَ فأَوجزتَ ، وقد علمتَ أَنّا لا نَقبلُ إِلا ما أَدركْناه بأَبصارِنا ، أَو سمعْناه بآذانِنا ، أَوذقناه بأَفواهِنا ، أَو شممنْاه بأُنوفِنا ، أَو لمسْناه ببشرتِنا .
فقالَ أَبو عبدِاللهِّ عليهِ السلامُ : «ذكرتَ الحواسَّ الخمسَ وهي لا
____________
(1) ثني الخناصر: بفلان تثنى الخناصر أي تُبتدأ به اذا ذكر أشكاله . «لسان العرب - خنصر- 4 : 261 » .
(2) في «ش » و«م »: حَدَثَ ، وما في المتن من نسخة «ح ».
(3) الغرقئ : قشر ألبيض الرقيق الذي تحت القشر الصلب «الصحاح -غرقا- 1 : 61 ».