الإرشاد الجزء الثاني
تنفعُ فِى الاستنباطِ إِلا بدليلٍ ، كما لا تقطعُ الظُّلمةُ بغيرِ مصباح »(1) يُريدُ عليه السلامُ أَنّ الحواسَّ بغيرِعقلٍ لا تُوصِلُ إِلى معرفةِ الغائباتِ ، وأَنّ الّذي أراه من حُدوثِ الصُّورةِ معقولٌ ِبنيَ العلمُ به على محسوسٍ .
فصل
وممّا حُفِظَ عنه عليهِ السلامُ في وجوبِ المعرفةِ باللهِّ تعالى وبدينهِ ، قولُه : «وجدتُ علمَ النّاسِ كلِّهم في أَربعٍ : أَوّلها: أَنْ تَعرفَ ربَّكَ ؛ والثّاني : أَن تَعرفَ ما صَنعَ بكَ ؛ والثّالثُ : أَن تَعرفَ ما أَرادَ منكَ ؛ والرّابعُ : أَن تعرفَ ما يُخرجًكَ عن دينكَ »(2) .
وهذه أقسامٌ تُحيط بالمفروضِ منَ المعارفِ ، لأنه أَوِّلُ ما يجبُ على العبدِ معرفةُ ربَه - جلَّ جلالُه - فإِذا علمَ أَنّ له إِلهاً، وجبَ أَن يَعرفَ صُنعَه إِليه ، فإِذا عرفَ صُنعَه عرفَ به نعمتَه ، فاذا عِرفَ نعمتَه وجبَ عليه شكرُه ، فإِذا أَراد تأْديةَ شُكرِه ، وجبَ عليه معرفةُ مُرادِه ليُطِيعَه بفعلِه ، واذا وجبَ عليه طاعته، وجبَ عليه معرفةُ مايخرجه من دينهِ ليجتنبَه فتَخْلُص له طاعة ربِّه وشُكرُ إِنعامِه .
____________
(1) رواه الصدوق في التوحيد : 292 | 1 ، باختلاف يسير، وروى الكليني قطعة منه في الكافي1: 63| ذيل ح 4 ، ونقله العلامة المجلسي في البحار 10 : 211| 12 .
(2) الكافي1: 40| 11 ، الخصال : 87| 239 .

(204)
فصل
وممّا حفظ عنه عليه السلامُ في التّوحيدِ ونفيِ التّشبيهِ قولهُ لهشام بنِ الحكمِ رحمهَ اللهُّ : «إِنَّ اللهَّ لا يشبهُ شيئاً ولايُشْبِهُه شيءٌ، وكلُّ ماوقعَ في الوهمِ فهو بخلافهِ »(1) .
فصل
وممّا حفِظُ عنه عليهِ السلامُ من موجزِ القولِ في العدلِ قولُه لزُرارة بن أَعْينَ رحمَه اللهُ : «يا زرارةُ، أُعطيكَ جملةً في القضاءِ والقَدَرِ» .
قالَ له زرارة : نعم ، جُعِلْتُ فداكَ .
قالَ له : «إِنّه إِذا كانَ يومُ القيامةِ وجمعَ اللهُّ الخلائقَ سأَلهم عمّا عَهِدَ إِليهم ولم يسأَلْهم عمّا قضى عليهم »(2) .

فصل
وممّا حُفِظَ عنه عليهِ السلامُ في الحكمةِ والموعظةِ قولُه : «ما كُلُّ مَنْ
____________
(1) توحيد الصدوق : 80|ذح 36، عن المفضل بن عمر.
(2) توحيد الصدوق : 25|36 ، إعتقادات الصدوق : 71، وفيهما من قوله : اذا كان يوم

=


(205)
نَوى شيئاً قَدرَعليه ، ولا كل مَنْ قَدرَ على شيءٍ وُفقَ له ، ولا كل مَنْ وُفِّقَ أصابَ له مَوْضِعاً ، فإِذا اجتمعتِ النِّيّةُ والقُدرةُ والتّوفيق والإصابةُ فهنالكَ تمّتِ السّعادةُ»(1) .
فصل
وممّا حُفِظَ عنه عليهِ السلامُ في الحثِّ على النّظرِ في دينِ الله ، والمعرفةِ لأولياءِ اللهِ ، قولُه عليهِ السلامُ : «أحسِنوا النّظرَ فيما لايَسَعُكم جَهْلهُ ، وانْصَحُوا لأنفسِكم وجاهِدوها(2) في طلب معرفةِ ما لا عُذْرَ لكم في جهلهِ ، فإِنّ لدينِ اللهِ أركاناً لا يَنفعُ مَنْ جَهِلَهَا شِدّةُ اجتهادِه في طلب ظاهرِ عبادتِه ، ولا يَضُرُّ مَنْ عَرفَها فدانَ بها حسنُ اقتصادِه ، ولا سبيلَ لأحدٍ إِلى ذلكَ إِلا بعونٍ منَ اللهِّ عزَ وجلَّ »(3) .
فصل
وممّا حُفِظَ عنه عليهِ السلامُ في الحثِّ على التّوبةِ قولُه : «تاْخيرُ التّوبةِ اغترارٌ ، وطولُ التّسويفِ حَيْرَةٌ ، والاعتلالُ على اللهِ هلكة، والإصرارُ على الذّنبِ أَمن لمكرِ اللهِ ، ولا يأْمنُ مكرَ الله إلا القومُ
____________
=
القيامة . . .
(1)الفصول المهمة لابن الصباغ : 228 .
(2) في هامش «ش » و«م» : وجاهدوا .
(3) كنز الفوائد 2 : 33 .

(206)
الخاسرون » (1) .
والأخبارُ فيما حُفِظَ عنه عليهِ السلامُ منَ العلمِ والحكمةِ والبيانِ والحجّةِ والزهدِ والموعظةِ وفنونِ العلمِ كلِّه ، أكثرُمن أَن تُحصى بالخطاب أَو تُحْوى بالكتاب ، وفيما أَثبتْناه منه كفايةٌ في الغرضِ الّذي قصدْناه ، واللهُ الموفِّقُ للصّوابِ .

فصل
وفيه عليهِ السلامُ يقولُ السّيِّدُ ابنُ محمّدٍ الحِمْيرّي - رحمهَ اللهُ - وقد رجعَ عن قولهِ بمذهب الكيْسانيةِ(2) ، لمّا بلغَه إِنكارُ أبي عبدِالله عليهِ السلامُ مقالَه ،ودعاؤه له إِلى القولِ بنظام الإمامةِ :
يَا رَاكِبــــاً نَحْوَ المَدِ يْنَةِ جَسْرَةً (3) * عُذَافِرَةً(4) (يَطويْ بهَا)(5) كُل سَبْسَب (6)
إِذا مــَا هَدَاكَ اللهُ عَايَنْت جَــعْفـَراً * فَقــُلْ لِوَلــيِّ اللهِ وابـْـنِ الــمُهَذَّبِ
أَلا يَاوَلـيَ اللـهِّ وابــْنَ وَلـِـــيِّه * أَتــُوْبُ إِلـَى الرحـْمـانِ ثـُم تأوبـيْ
إِلَيْكَ مِنً الذَّنْبِ الـّذِيْ كُنْـتُ مُطْنِبَــاً * أجــَاهِدُ فِيـْـهِ دَائِبـَاً كُلً مـُعــْرِبِ

____________
(1) الفصول المهمة : 228 .
(2) الكيسانية : هم القائلون بامامة محمد بن الحنفية، وانه وصي الامام علي بن أبي طالب عليه السلام . «فرق الشيعة : 23 » .
(3) الجسرة : العظيمة من الابل . «الصحاح -جسر - 2 : 613» .
(4) العذافرة : العظيمة الشديدة من الابل . «الصحاح - عذفر- 2 : 742» .
(5)في هامش «ش »: تطوي له .
(6) السبسب : المفازة أو البادية «الصحاح - سبب -145:1 » .

(207)
وَمَا كانَ قَوليْ في (ابْنِ خَوْلَة)(1) دَائِبَاً * مُعَانَدَةً مِــنِّيْ لِنَسـْـلِ المـُطَيٌبِ
وَلكِنْ رَوَيْنــَاَ عَـنْ وَصِيِّ مُحمــَدٍ * وَلــَمْ يَكُ فـِيْمَا قـَالَ بالْمُتَكَذّبِ
بِأنَّ وَلــيَّ الأمــْرِ يـُفْقدُ لا يـُرى * سنِيْنَ كـــَفِعْلِ الخائف المُتَرَقًّب
فَتــُقْسَـمُ اَمـْـوَالُ الـْفَقِيْد كأنَّمَــا * تَغـَيُّبَه (2) بَيْنَ الصفيح المُنَصَّبَ
فَإِنْ قُلْتَ : لا، فـَالْحـَقُّ قـوْلُكَ وَالَّذِيْ * تَقُوْلُ فَحَتْمٌ غَيْرُ مَا مُتَغَضّبِ (3)
وُأشْهِد رَبِّيْ أَنَ قـوْلَكَ حُــجـّـــَةٌ * عَلَى الْخَلقِ طُرَّاًمِنْ مُطِيْعٍ وُمُذْنِبِ
بأَنَّ وَلــِيَّ الأمْـرِ وَالْقَائـِمَ الّـــَذِيْ * تَطَلُّعُ نَفْسِيْ نَحــْوَهُ وَتـَطَربيْ
لهُ غـَيْبَـةٌ لا بُـــد أَنْ سيغيبـــها * فَصلَىَّ عَلَيــْهِ اللهُّ مِنْ مُتَغَيـِّب
فَيَمْكُثُ حِــيْنـَاً ثــُم يَظــْهَرُ َمْرُهُ * فَيَمْلأعَدْلا كُلَّ شرقٍ وَمَغْرِبِ (4)

وفي هذا الشَعرِ دليلٌ على رجوعِ السّيِّدِ رحمهَ اللهُّ عن مذهبِ
____________
(1) في هامش «ش»: محمد بنِ الحنفية- رحمة الله عليه -.
(2) في هامش «ش»و«م »: نغيٌبه .
(3) في هامش «ش »: متعصٌب .
(4) روى الصدوق هذه القصيدة في إكمال الدين : 34 ، باضافة خمسة ابيات بعد قوله : تغيبه بين الصفيح المنصب :
فيمكث حيَناً ثــم ينبـــع نـــبعةً * كـنبعـة جدي من الافق كوكب
يســير بنــصر اللــه من بيت ربه * على سؤدد منه وأمر مــسبب
يـــسير الــى اعــدائه بلــوائه * فــيقتلهم قتلاً كحران مغضب
فلما رَوى ان ابـن خولـة غــــائب * صرفنا الــيه‌قـولنا لم نكذب
وقلنا هوالمهــدي والــــقائم الـذي * يعيش بـه من عدله كل مجدب
وفي اخر القصيدة زاد آخر:
بذاك أدين الله سراً وجهرة * ولست وان عوتبت فيه بمعتب

(208)
الكَيْسانيّةِ ، وقولهِ بإِمامةِ الصّادقِ عليهِ السلامُ ووجودِ الدّعوةِ ظاهرةً منَ الشَيعةِ في أَيّام أَبي عبدِاللهِ عليهِ السلامُ إِلى إِمامتهِ والقولِ بغيبةِ صاحب الزّمانِ عليهِ الَسلامُ ، وأنّها إِحدى علاماتهِ ، وهو صريحُ قولِ الإماميّةَ الأثنَى عشريّة .
* * *

(209)
باب
ذكر أَولادِ أَبي عبدِاللهِ عليه السلامُ
وعددِهم وأَسمائهم وطرفٍ من أَخبارِهم
وكان لأبي عبدِاللهِّ عليهِ السلامُ عشرةُ أَولادٍ : إسماعيلُ وعبدُاللهِّ وأُمُّ فَرْوَةَ، أُمهم فاطمةُ بنت الحسينِ بنِ عليِّ بنِ الحسينِ بنِ عليِّ بنِ أبي طالبٍ عليهم السلامُ (1) .
وموسى واسحاقُ ومحمّدٌ ، لأمِّ ولدٍ .
والعبّاسُ وعليٌّ وأَسماءُ وفاطمةُ، لأمّهاتِ أَولادٍ شتّى .
وكانَ إِسماعيلُ أَكبرَ إِخوتهِ ، وكانَ أَبوه عليهِ السلامُ شديدَ المحبّةِ له والبرِّ به والإشفاقِ عليه ، وكانَ قومٌ منَ الشِّيعةِ يظَنُون أَنّه القائمُ بعدَ أبيه والخليفةُ له من بعدِه ، إِذْ كانَ أكبرَ إِخوتهِ سِنّاً، ولميلِ أَبيه إِليه وِاكرامِه له ؛ فماتَ في حياةِ أَبيه بالعُرَيْض (2) ، وحُمِلَ على رقاب الرِّجال إِلى أَبيه بالمدينةِ حتّى دُفِنَ بالبقيع.
ورُويَ :أَنّ أَبا عبدِاللهِّ عليهِ السلامُ جَزعَ عليه جَزَعاً شديداً، وحَزِنَ عليه حُزْناً عظيما، َوتقدم سريره بلا(3) ،حِذاءٍ ولارِداءٍ ، وأمَرَ بوضع سريرِه على الأرضِ قبلَ دفنهِ مِراراً كثيرةً، وكان يَكْشِفُ عن وجهِه وينَظُرُ إِليه ،
____________
(1) ذكر في عمدة الطالب (ص 233) انها: فاطمة بنت الحسين الاثرم بن الامام الحسن بن علي ابن ابي طالب عليهم السلام ، والظاهر انه هو الصواب .
(2) العريض : واد بالمدينة فيه بساتين نخل ، انظر «معجم البلدان 4 : 114 » .
(3)في «م » وهامش «ش » : بغير.

(210)
يُريد عليهِ السلامُ بذلكَ تحقيقَ أمر وفاتهِ عندَ الظّانِّينَ خلافتَه له من بعدِه ، وازالةَ الشُّبهةِ عنهم في حياتهِ (1) .
ولمّا ماتَ إِسماعيلُ رضيَ الله عنه انصرفَ عنِ القولِ بإِمامتهِ بعدَ أبيه من كانَ يَظُنُّ ذلكَ فيعتقدُه من أصحاب أبيه عليه السّلامُ ، وأقامَ على حياتِه شِرذمةٌ لم تكنْ من خاصّةِ أبيه ولا منَ الرُّواةِ عنَه، وكانوا منَ الأباعدِ والأطرافِ .
فلمّا ماتَ الصّادقُ عليهِ السلامُ انتقلَ فريقٌ منهم إِلى القولِ بإِمامةِ موسى بن جعفرٍ عليهِ السلامُ بعدَ أبيه ، وافترقَ الباقونَ فريقينِ : فريقٌ منهم رجعوا عن حياةِ إِسماعيلَ وقالوا بإِمامةِ ابنهِ محمّدِ بنِ إِسماعيلَ ، لظنِّهم أَنّ الإمامةَ كانتْ في أَبيه وأَنّ الابنَ أَحقًّ بمقامِ الإمامةِ منَ الأخ ؛ وفريقٌ ثبتوا على حياةِ إِسماعيلَ ، وهم اليومَ شُذّاذٌ لا يُعرَفُ منهم أحدٌ يومَأُ إِليه . وهذان الفريقانِ يُسَمَّيانِ بالإسماعيليّةِ، والمعروفُ منهم الانَ من يزعمُ أَنّ الأمامةَ بعدَ إِسماعيلَ في ولدِه وولدِ ولدِه إِلى اخرِ الزّمانِ .
فصل
وكانَ عبدُاللهِ بن جعفرٍ أكبرَ إِخوته بعدَ إِسماعيلَ ، ولم تكنْ منزلتُه عندَ أَبيه منزلةَ غيرِه من ولدِه في الإكرام ، وكانِ مُتّهَماً بالخلافِ على أَبيه في الاعتقادِ، ويُقالُ أَنّه كانَ يُخالِط الحًشْويّةَ(2) ، ويَميلُ إِلى مذاهبِ
____________
(1) حكاه الطبرسي في اعلام الورى : 284 ، ونقله العلامة المجلسي في البحار 47 : 242 .
(2) الحشوية: هم القائلون ان علياً وطلحة والزبير لم يكونوا مصيبين في حربهم وأن المصيبين هم الذين قعدوا عنهم ، وأنهم يتولونهم جميعاً ويتبرؤون من حربهم ويردون امرهم الى الله عز وجل

=


(211)
المُرْجِئةِ(1) ، وادّعى بعدَ أبيه الأمامة ، واحتَجٌ بأَنّه أكبرُ إِخوته الباقينَ ، فاتّبعه على قوله جماعةٌ من أَصحاب أَبي عبدِاللهِّ عليه السلامُ ثمّ رجعَ أكثرُهم بعدَ ذلكَ إِلى القولِ بإِمامةَِ أخيه موسى عليه السّلامُ لمّا تبيّنوا ضعفَ دعواه ، وقوّةَ أمرِ أبي الحسنِ عليه السّلامُ ودلالة حَقِّه وبراهين إِمامتِه؛ وأقامَ نفرٌ يسير منهم على أَمرِهم ودانوا بإِمامةِ عبدِاللهِّ ، وهم الطّائفةُ الملقّبةُ بالفطحِيةِ،وأنما لزمَهم هذا اللقبُ لقولهم بإِمامةِ عبدِاللهِ وكانَ أفَطحَ الرِّجْلين ، ويُقالُ إِنّهم لُقِّبوا بذلكَ لأنّ داعِيَتَهم إِلى إِمامةِ عبدِاللهِ كانَ يُقالُ له عبدُاللهِّ بنَ أفطحَ .
* وكانَ إِسحاقُ بنُ جعفرٍ من أَهلِ الفضلِ والصّلاحِ والوَرَع وِالاجتهادِ، وروى عنه النّاسُ الحديثَ والآثارَ، وكانَ ابن كاسبٍ إِذا حَدَّثَ عنه يقولُ : حدّثَني الثِّقةُ الرّضِيُ إِسحاقُ بنُ جعفرٍ . وكانَ إِسحاقُ يقولُ بإِمامةِ أَخيهِ موسى بن جعفرٍ عليه السّلامُ ، وروى عن أَبيه النّصَّ بالإمامةِ على أَخيه موسى عليه السلامُ (2) .
وكانَ محمّدُ بنُ جعفرٍ شجاعاً سخيّاً، وكانَ يصومُ يوماً ويُفْطِرُ يوماً، ويَرى رأْيَ الزّيديّةِ في الخروجِ بالسّيفِ .
ورُوُيَ عن زوجتهِ خديجةَ بنتِ عبدِاللهِ بنِ الحسينِ أَنّها قالتْ : ما
____________
=
«فرق الشيعة : 115 ».
(1) المرجئة : هم القائلون بأن أهل القبلة كلهم مؤمنون باقرارهم الظاهر بالايمان ، ويؤخرون العمل عن النية ويرجون المغفرة للمؤمن العاصي . «فرق الشيعة : 6».
(2) حكاه الطبرسي في اعلام الورى : 290 ، وياتي هنا في باب النص على الامام موسى بن جعفر عليهما السلام .

(212)
خَرجَ من عندِنا محمّدٌ يوماً قطُّ في ثوبٍ فرجعَ حتّى يكسُوَه (1) ، وكانَ يَذبَحَ في كل يومٍ كَبْشاً لأضيافِه .
وخرجَ على المأْمونِ في سنةِ تسع وتسعينَ ومائةٍ بمكّةَ، واتّبَعَتْه الزّيديّةُ الجاروديّةً ، فخرجَ لقتالِه عيسى الجَلوديُّ ففرّقَ جمعَه وأَخذَه وأَنفذَه إِلى المأْمونِ ، فلمّا وصلَ إِليه أكرمَه المأْمونُ وأَدنى مجلسَه منه ووَصَلَه وأَحسنَ جائزتَه ، فكانَ مُقيماً معَه بخراسانَ يركبُ إِليه في موكبٍ من بني عمٌه ، وكانَ الماْمونُ يحَتملُ منه ما لا يَحتملُه السُلطان من رعيّتهِ .
وروي :أَنّ المأْمونَ أنكرَ ركوبَه إِليه في جماعةٍ منَ الطّالبيِّينَ الذينَ خرجوا على المأْمونِ في سنة المِائَتَيْنِ فآمَنَهم ، فخرجَ التّوقيعُ إِليهم : لا تَركبوا معَ محمّدِ ابنِ جعفرٍ واركَبوا مع عُبَيْداللهِ بنِ الحسينِ ، فاَبَوْا أَن يَركبوا ولزِموا منازلَهم ، فخرجَ التّوقيعُ : اركَبوا معَ من أَحببتم ؛ فكانوا يَركبونَ معَ محمّدِ بنِ جعفرٍ إذا رَكِبَ إِلى المأْمونِ ويَنصرفونَ بانصرافِه (2) .
وذُكِرَ عن موسى بن سَلمةَ أنّه قالَ : أُتِيَ إِلى محمّدِ بنِ جعفرفقيلَ له: إِنّ غلمانَ ذي الرٌئاستينِ قد ضَربوا غلمانَكَ على حَطَبِ اشترَوْه ، فخرج مُؤتزِراً ببُردتينِ معَه هِراوة وهو يَرتجزُ ويقولُ :
الْمَوتُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ عَيْشٍ بِذلّ

____________
(1) مقاتل الطالبيين : 538 ، تاريخ بغداد 2 : 113 ، ونقله العلامة المجلسي في البحار 47 : 243 .
(2) اشار الى ذلك ابو الفرج الاصفهاني في مقاتل الطالبيين : 537 ، وحكاه الطبرسي في اعلام الورى :285 .

(213)

وتَبِعَه النّاس حتّى ضَربَ غلمانَ ذي الرِّئاستينِ وأَخذَ الحَطَبَ منهم. فرُفِعَ الخبرُ إِلى المأْمونِ ، فبَعثَ إِلى ذي الرِّئاستينِ فقالَ له : ائتِ محمّدَ بنِ جعفرٍ فاعْتَذِرْ إِليه ، وحَكِّمْه في غِلمانِكَ . قالَ : فخرَجَ ذو الرئاستينِ إِلى محمّدِ بنِ جعفرِ. قال موسى بن سَلَمَةَ : فكنت عندَ محمّدِ بن جعفرٍ جالساً حتّى أُتيَ فقيلَ له : هذا ذو الرِّئاستينِ ، فقالَ : لا يجلسُ إلا على الأرض ؛ وتَناولَ بَساطاً كانَ في البيتِ فرَمى به هو ومن معَه ناحيةً، ولم يبق في البيتِ إِلا وسادة جلسَ عليها محمّدُ بنُ جعفرٍ ، فلمّا دخلَ عليه ذو الرِّئاستينِ وسّعَ له محمّدٌ على الوسادةِ فأَبى أَن يَجلسَ عليها وجلسَ على الأرضِ ، فاعتذرَ إِليه وحَكَّمَه في غلمانِه (1) .
وتُوفِّي محمّدُ بنُ جعفرٍ بخُراسانَ معَ المأمونِ ، فرَكِبَ المأمونُ ليَشْهَدَه فَلقِيَهم وقد خرجوا به ، فلمّا نظرَ إِلى السّرير ِنزلَ فترجَّلَ ومشى حتّى دخلَ بينَ العمودَيْنِ ، فلم يَزَلْ بينَهما حتّى وُضِعَ فتقدّمَ وصلّى ثمّ حملَه حتّى بلغَ به القبرَ، ثمّ دخلَ قبرَه فلم يَزَلْ فيه حتّى بُنيَ عليه ، ثمّ خرجَ فقامَ على القبر حتّى دُفِنَ ، فقال له عًبيدُالله بن الحسينِ ودعا له : يا أميرَالمؤمنينَ ، إنّكَ قد تعبتَ فلو رَكِبْتَ ؛ فقالَ المأمونُ : إِنّ هذه رحم قُطِعَتْ من مِائَتَيْ سنةٍ .
ورُوِيَ عن إِسماعيلِ بنِ محمّدِ بنِ جعفرِأَنّه قالَ : قلتُ لأخي - وهو إِلى جنبي والمأمونُ قائم على القبر-: لو كلمناه في دَينِ الشّيخِ ، فلا نَجِدُه أقربَ منه في وقتِه هذا؛ فابتدأنَا المأمونُ فقالَ : كمْ تركَ أَبوجعفرمنَ الدَّينِ ؟ فقلتُ : خمسةً وعشرينَ أَلفَ دينارٍ؛ فقالَ : قد قَضى اللهُ عنه دينَه ؛ إِلى مَنْ أَوصى؛ قلنا : إلى ابنٍ له يقالُ له يحيى بالمدينةِ؛ فقالَ : ليس
____________
(1) نقله العلامة المجلسي في البحار 47 : 244 .
(214)
هوبالمدينةِ، وهوبمصرَ، وقد عَلِمْنا بكونه فيها، ولكنْ كَرِهْنا أَن نُعْلِمَه بخروجِه منَ المدينةِ لئلا يسوءه ذلكَ لعلمِه بكراهتِنا لخروجِه عنها(1) .
وكانَ عليُّ بنُ جعفرٍ - رضيَ اللهُ عنه - راويةً للحديثِ ، سديدَ الطّريقِ ، شديدَ الوِرَعَِ ، كثيرَ الفضلِ؛ ولزمَ أَخاه موسى عليهِ السلامُ وروى عنه شيئاً كثيراً .
* وكانَ العبّاسُ بنُ جعفرٍ - رضيَ اللهُّ عنه - فاضلاً نبيلاً.
وكانَ موسى بن جعفرٍ عليهِ السلامُ أَجلَّ ولدِ أَبي عبدِاللهِ عليهِ السلامُ قَدْراً وأَعظمهَم محلاً، وأَبعدَهم في النّاسِ صِيْتاً، ولم يرَ في زمانِه أسخى منه ولا أَكرمُ نفساً وعِشْرةً، وكانَ أَعبدَ أَهلِ زمانِه وأَورعَهم وأَجلَّهم وأفقهَهم ، واجتمعَ جمهورُ شيعةِ أبيه على القولِ بامامتِه والتّعظيمِ لحقِّه والتسليمِ لأمرِه .
ورووا عن أَبيه عليهِ السلامُ نصوصاً عليه بالإمامةِ، واشاراتٍ إِليه بالخلافةِ، وأَخذوا عنه معالِمَ دينِهم ، ورَوَوْا عنه منَ الآياتِ والمُعجزات ما يُقْطَعُ به على حجّتهِ وصوابِ القولِ بإِمامتِه .
____________
(1) نقله العلامة المجلسي في البحار 47 : 244 .
(215)
باب
ذكر الإمامِ القائمِ بعدَ أَبي عبدِاللهِ
جعفرِ بنِ محمد عليهما السّلامُ من ولدِه ،
وتاريخ مولدِه ، ودلالِ إمامتِه ، ومبلغ سنِّه ،
ومدّة خلافتهِ ، ووقت وفاتِه وسببها ، وموضع
قبرِه ، وعدد أَولادِه ، ومختصر من أَخبارِه
وكانَ الإمامُ - كما قَدّمْناه - بعدَ أَبي عبدِاللهِ ابنَه أَبا الحسنِ موسى ابنَ جعفرٍ العبدَ الصّالحَ عليهِ السلامُ ، لاجتماع خِلالِ الفضلِ فيه والكمالِ ، ولنصِّ أَبيه بالإمامةِ عليه وإشارتهِ بها إِليه . وكانَ مولده عليهِ السلامُ بالأبواءِ(1) سنةَ ثمانٍ وعشرينَ ومائةٍ . وقُبِضَ عليهِ السلامُ ببغدادَ في حَبْسِ السِّنْديِّ بنِ شَاهَكَ لستٍّ خَلَوْنَ من رجبٍ سنةَ ثلاثٍ وثمانينَ ومائةٍ ، وله يومئذٍ خمسٌ وخمسونَ سنةً .
وأُمًّه أُمُّ ولد يقالُ لها: حُمَيْدَةُ البَرْبَريّةُ . وكانتْ مُدّةُ خلافتِه ومقامه في الإمامةِ بعدَ أبيه عليهما السّلامُ خمساً وثلاثينَ سنةً .
وكان يُكنى أَبا إبراهيمَ وأَبا الحسنِ وأَبا عليٍّ ، ويُعرَفُ بالعبدِ
____________
(1) الأبواء : قرية من اعمال الفُرْع من المدينة، بينها وبين الجحفة مما يلي المدينة ثلاثة وعشرون ميلاً «معجم البلدان1: 79».
(216)
الصّالحِ ، وُينْعَتُ أَيضاً بالكاظِمِ .
فصل
في النّصِّ عليه بالإمامةِ من أَبيه عليهما السّلامُ
فمِمَّن روى صريحَ النّصِّ بالإمامةِ من أَبي عبدِاللهِ الصّادقِ عليهِ السلامُ على ابنهِ أَبي الحسنِ موسى عليهِ السلامُ من شيوخ أَصحاب أَبي عبدِاللهِ وخاصّتهِ وبطانتهِ وثِقاتِه الفقهاءِ الصّالحينَ - رضوانُ اللهِّ عليهم - المُفَضَّلُ بنُ عُمَرَ الجُعْفِيّ ، ومَعاذُ بنُ كثيرٍ ، وعبدُ الرحمن بن الحجّاجِ ، والفَيْضُ بنُ المختارِ، ويعقوبُ السَرّاجُ ، وسليمانُ بنً خالدٍ ، وصَفْوانُ الجمّال ، وغيرهم ممّن يطولُ بذكرِهم الكتابُ (1) .
وقد رَوى ذلكَ من إِخوتهِ إِسحاقُ وعليّ ابنا جعفرٍ وكانا منَ الفضلِ والوَرَعِ على ما لا يَختلفُ فيه اثنان .
فروى موسى الصّيْقلُ ، عنِ المُفَضّلِ بنِ عُمَر َرحمَه الله قالَ : كنتُ عندَ أَبي عبدِاللهِّ عليهِ السلامُ فدخلَ أَبو إِبراهيمَ موسى عليهِ السلامُ -وهوغلامٌ - فقالَ لي أَبو عبدِاللهِّ : «استَوْصِ به ، وضَعْ أَمرَه عندَ من تَثِقُ به من
____________
(1) ياتي تفصيل روايات هؤلاء بنفس الترتيب المذكور هنا، لكن قد ذكر بعد رواية الفيض ابن المختار رواية منصور بن حازم وعيسى بن عبدالله بن محمد بن عمر بن علي بن ابي طالب وطاهربن محمد ، ثم يذكر رواية يعقوب السراج وغيره ممن ذكروا هنا ، والمناسب ذكر منصور بن حازم ومن بعده هنا كما هو المعهود في سائر الابواب ، ولا يبعد وقوع سهو هنا في عدم ذكرهم .
(217)
أَصحابِكَ »(1) .
وروى ثُبيت ، عن معاذِ بنِ كثيرٍ ، عن أَبي عبدِاللهِ عليه السلامُ قالَ : قلتُ : أَسأَل اللهَ الّذي رزقَ أَباكَ منكَ هذه المنزلَة، أَنْ يَرزُقَكَ من عَقِبكَ قبلَ المماتِ مثلَها، فقالَ : «قد فعلَ الله ذلكَ » قلتُ : من هوجُعِلْت فداكَ؟ فأَشارَ إِلى العبدِ الصّالحِ وهو راقدٌ ، قالَ : «هذا الرّاقدُ» وهو يومئذٍ غلامٌ(2) .
وروى أَبو عليٍّ الأرجانيُّ عن عبدِ الرحمن بنِ الحجّاجِ قالَ : دخلتُ على جعفرِ بنِ محمّدٍ عليهما السلامُ في منزلِه ، فإِذا هوفي بيتِ كذا من دارِه في مسجدٍ له ، وهو يدعو وعلى يمينهِ موسى بن جعفرٍ عليهما السلاَمُ يُؤَمِّنُ على دعائه ، فقلتُ له : جعلَني اللهُّ فداكَ ، قد عرفتَ انقطاعي إِليكَ وخدمتي لكَ ، فمن وليًّ الأمرِ بعدكَ ؟ قال : «يا عبدَ الرحمن ، إِنّ موسى قد لبسَ الدِّرعَ واستوتْ عليه » فقلت له : لا أَحتاجُ بعدَها إِلى شيءٍ (3) .
وروى عبدُ الأعلى، عنِ الفيضِ بنِ المختارِ قالَ : قلتُ لأبي عبدِاللهِ عليه السلامُ : خُذْ بيدي منَ النّارِ، مَنْ لنا بعدَك ؟ قالَ : فدخلَ أَبو إِبراهيمَ - وهو يومئذٍ غلامٌ - فقالَ : «هذا صاحبُكم فتمسك به »(4) .
____________
(1) الكافي 1 : 246 | 4 ، ونقله العلامة المجلسي في البحار 48 : 17 | 13 .
(2) الكافي 1 : 245| 2 ، ونقله العلامة المجلسي في البحار 48 : 17 | 15 .
(3) الكافي 1 : 245 |3 ، الفصول المهمة : 231 ، ونقله المجلسي في البحار 48 : 17 | 17.
(4) الكافي 1 : 245| 1 ، الفصول المهمة : 231، ونقله العلامة المجلسي في البحار 48 : 18| 18.

(218)

وروى ابنُ أَبي نَجرانَ ، عن منصورِ بنِ حازم قالَ : قلتُ لأبي عبدِالله عليه السلامُ : بأَبي أَنتَ وأُمِّي ، إِنّ الأنفسَ يُغدى عليها ويُراحُ ، فإِذا كانَ ذلكَ فمَنْ ؟ فقالَ أَبو عبدِاللهِ عليه السلامُ : «إِذا كانَ ذلكَ فهو صاحبُكم » وضربَ على مَنْكِب أَبي الحسنِ الأيمن، وهو فيما أعلمُ يومئذٍ خماسيٌّ ، وعبدُاللهِّ بن جعفرٍ جاَلسٌ معَنا(1) .
وروى ابن أَبي نَجرانَ ، عن عيسى بن عبدِاللهِ بنِ محمّدِ بنِ عمر بن عليِّ بنِ أَبي طالبِ ، عن أَبي عبدِاللهِ عليه السلامُ؛ قالَ : قلتُ له : إن كانَ كَوْنٌ - ولا أَراني اللهُ ذلكَ - فبمن أئتمُّ ؟ قالَ : فأَوما إِلى ابنهِ موسى ، قلتُ : فإِن حَدَثَ بموسى حَدَثٌ ، فبمن أَئتمُّ ؟ قالَ : «بولدِه » قلتُ : فإِن حَدَثَ بولدِه حَدَثٌ؟ قالَ : «بولدِه » قلتُ : وإن حَدَثَ به حَدَثٌ وتركَ أَخاً كبيراً وابناً صغيراً؟ قال : «بولدِه ، ثمّ هكذا أَبداً»(2) .
وروى الفضلُ ، عن طاهرِ بنِ محمّدٍ ، عن أَبي عبدِاللهِّ عليه السلامُ ، قالَ : رأَيتُه يلومُ عبدَاللهِ ابنَه ويَعِظُه ويقولُ له : «ما يَمنعُكَ أَن تكونَ مثلَ أخيكَ ؟! فواللهِ إِنِّي لأعرف النُّورَ في وجهِه » فقالَ عبدُاللهِ : وكيفَ ؟ أَليس أَبي وأبوه واحداً ، وأَصلي وأَصلهُ واحداً؟ فقالَ له أَبو عبدِاللهِ عليه السلامُ : «إِنّه من نفسي وأَنتَ ابني »(3) .
____________
(1) الكافي1: 6|246، الفصول المهمة : 232 ، ونقله العلامة المجلسي في البحار 48 : 20|18.
(2) الكافي 1 : 246 |7 ، وباختلاف يسير في كمال الدين : 43|349 ، ونقله العلامة المجلسي في البحار 48 : 16 | 11 .
(3) الكافي1 : 247 | 10 ، الامامة والتبصرة : 210 |63 ، وفيهما : فضيل ، عن طاهر، ونقله العلامة المجلسي في البحار 48 : 18 |22 .

(219)

وروى محمّدُ بنُ سِنانٍ ، عن يعقوبَ السّرّاجِ قالَ : دخلتُ على أَبي عبدِاللهِّ عليهِ السلامُ وهو واقفٌ على رأْسِ أَبي الحسنِ موسى وهو في المهدِ، فجعلَ يُسارُّه طويلاً، فجلستُ حتّى فرغَ فقمتُ إِليه ، فقالَ لي : «ادنُ إِلى مولاكَ فسلِّمْ عليه » فدنوتُ فسلّمتُ عليه ، فردَّ عَلَيَّ بلسانٍ فصيحٍ ثمّ قالَ لي : «اذهَبْ فغيِّرِ اسمَ ابنتِكَ الّتي سمَّيْتَها أَمسِ ، فإنّه اسمٌ يُبغضه اللهُ » وكانتْ وُلدتْ لي بنتٌ فسمّيْتُها بالحُمَيراءِ، فقالَ أَبو عبدِاللهِ : «انْتَهِ إِلى أَمره تَرْشدْ» فغيّرتُ اسمها(1) .
وروى ابنُ مًسْكانَ ، عن سُليمان بن خالدٍ قالَ : دعا أَبو عبدِاللهِ أَبا الحسنِ عليهما السلامُ يوماً ونحن عندَه فقالَ لنا : «عليكم بهذا بعدي ، فهو واللهِ صاحبُكم بعدي »(2) .
وروى الوَشاءُ، عن عليِّ بنِ الحسينِ ، عن صَفوانَ الجّمالِ قالَ : سأَلتُ أَبا عبدِاللهِّ عليهِ السلامُ عن صاحب هذا الأَمرِ فقالَ : «صاحبُ هذا الأمرِ لا يَلهو ولا يَلعبُ » فأَقبلَ أَبو الحسنَ عليهِ السلامُ ومعَه بَهْمَةٌ (3) له ، وهو يقولُ لها : «اسجُدي لربِّكِ » فأَخذَه أَبو عبدِاللهِ عليهِ السلامُ وضمَّه إِليه وقالَ : «بأَبي وأُمِّي ، من لا يَلهو ولا يَلعبُ »(4) .
وروى يعقوبُ بنُ جعفرٍ الجعفريّ قالَ : حدّثَني إِسحاقُ بنُ جعفر
____________
(1)الكافي 1: 247| 11، دلائل الامامة : 161 ، ونقله العلامة المجلسي في البحار 48 :19| 24.
(2) الكافي 1 : 247| 12 ، ونقله العلامة المجلسي في البحار 48 : 19 | 25 .
(3) يقال لأولاد الغنم ساعة تضعها - من الضان والمعز جميعاً، ذكراً كان أو أنثى -: سخلة ثم هيّ البَهْمة . «لسان العرب - بهم - 12 : 56 ».
(4) الكافي1 : 548| 12 ، ونقله العلامة المجلسي في البحار 48 : 19 |27 .

(220)
الصّادقِ قالَ : كنتُ عندَ أبي يوماً فسأَلهَ عليُّ بنُ عمر بن عليٍّ فقالَ : جُعِلْتُ فِداكَ ، إِلى مَنْ نَفْزَعُ ويَفزعُ النّاس بعدَك ؟ فقالَ : «إِلى صاحب هذَيْنِ الثّوبينِ الأصفرينِ والغَدِيرتَينِ (1) ، وهو الطّالعُ عليكَ منَ الباب » قال :َ فما لَبِثْنا أَن طَلعَتْ علينا كفّانِ آخِذتانِ بالبابينِ حتّى انفتَحا، ودخَلَ علينا أبو إِبراهيمَ موسى عليه السلام وهو صبي وعليه ثوبانِ أَصفرانِ (2) .
وروى محمّد بن الوَليدِ قالَ : سمعتُ عليَّ بنَ جعفرِ بنِ محمّدٍ الصّادقِ عليه السلامُ يقولُ : سمعت أَبي - جعفرَ بنَ محمّدٍ - يقولُ لجماعةٍ من خاصتهِ وأَصحابِه : «استَوْصُوْا بابني موسى خيراً ، فإِنّه أَفضلُ ولدي ومن أُخلِّفُ من بعدي ، وهو القائمُ مَقامي ، والحجّةُ للّهِ تعالى على كافّةِ خلقِه من بعدي »(3) .
وكانَ عليُّ بنُ جعفرٍ شديدَ التّمسُّكِ بأَخيه موسى والانقطاعِ إِليه والتّوفّرِ على أَخْذِ معالمِ الدَينِ منه ، وله مسائلُ مشهورةٌ عنه وجواباتٌ رواها سماعاً منه .
والأخبارُ فيما ذكرْناه أَكثرُ من أَن تُحصى على ما بيّنّاه ووصفْناه .
____________
(1) الغديرة : الذؤابة التي تسقط على الصدر. «لسان العرب - غدر - 5: 10 » والذؤابة : هي العقيصة والمضفور من شعر الرأس . «لسان العرب - ذأب - 1 : 379» .
(2) الكافي 1 : 546|2 ، ونقله العلامة المجلسي في البحار 48 : 20| 29 .
(3) حكاه الطبرسي في إعلام الورى : 291 ، ونقله العلامة المجلسي في البحار 48 : 20 | 30 .

(221)
باب
ذكر طرفٍ من دلائلِ أبي الحسنِ موسى عليه السلامُ
وآياتِه وعلاماتِه ومعجزاتِه
أَخبرَني أَبو القاسمِ جعفرُ بنُ محمّدِ بنِ قولويهِ ، عن محمّدِ بنِ يعقوبَ الكلينيِّ ، عن محمّدِ بنِ يحيى، عن أَحمدِ بنِ عيسى، عن أبي يحيى الواسطيِّ ، عن هِشامِ بنِ سالم قالَ : كنّا بالمدينةِ بعدَ وفاةِ أَبي عبدِاللهِ عليهِ السلامُ أَنا ومحمّد بنُ النُعمانِ صاحبُ الطّاقِ ، والنّاسُ مُجْمعونَ (1) على عبدِالله بنِ جعفرٍ أَنه صاحبُ الأمرِ بعدَ أَبيه ، فدخلْنا عليه - والنّاسُ عندَه - فسأَلْناه عنِ الزّكاةِ في كمْ تجبُ ، فقالَ : في مِائَتي دِرهم خمسةُ دراهمَ ، فقلنا له : ففي مائةٍ ؟ قالَ : درهمانِ ونصفٌ ؟ قلنا : واللهِ ما تقولُ المُرجئةُ هذا؛ فقالَ : واللهِ ما أدري ما تقول المُرجِئةُ .
قالَ فخرجْنا ضُلالا لا ندري إِلى أَينَ نتوجّهُ ، أَنا وأبو جعفرٍ الأحْوَلُ ، فقعدْنا في بعضِ أَزِقّةِ المدينةِ باكِيَيْنِ لا ندري أَينَ نتوجّهُ وِإلى من نقصِدُ ، نقول : إلى المُرجئةِ ، اِلى القَدَريّة ، إلى المُعتزِلةِ ، اِلى الزّيديةِ ،[إلى الخوارج ](2) ، فنحن كذلكَ إذْ ريأَتُ رجلاً شيخاً لا أعرفه يومئ إِليَّ بيدِه ، فخِفْتُ أَن يكونَ عيناً من عيونِ أَبي جعفرٍ المنصورِ، وذلكَ أَنّه كانَ له بالمدينةِ جواسيسُ على من يَجتمعُ بعدَ جعفرٍ الناسُ ، ُفيؤخذ فيُضْرَبُ عنقُه ، فخِفْتُ أَن يكونَ منهم .
____________
(1) في هامش « م » : مجتمعون .
(2) ما بين المعقوفين أثبتناه من الكافي ورجال الكشي ، ليستقيم سياق ترديد الراوي مع جواب الامام عليه السلام فيما يأتي بعد من الحديث .

(222)
فقلتُ للأحولِ : تَنَحَّ فإِنِّي خائفٌ على نفسي وعليكَ ، وانّما يُريدُني ليس يُريدُكَ ، فتَنَحَّ عنِّي لاتَهْلكْ فتُعِينَ على نفسِكَ؛ فتنحّى عنَي بعيداً.
وتَبعتُ الشّيخَ ، وذلكَ أَنِّي ظننتُ أَنِّي لا أقدرُ على التّخلُّصِ منه ، فما زلتُ أَتبعهُ - وقد عُرِضْتُ على الموتِ -حتّى وَردَ بي على بابِ أبي الحسنِ موسى عليهِ السلامُ ثمّ خلاني ومضى، فإِذا خادمٌ بالبابِ فقالَ لي : ادْخُلْ رحمَكَ اللهُّ .
فدخلتُ فإِذا أَبو الحسنِ موسى عليهِ السلامُ فقالَ لي ابتداءً منه : «إِليَّ إِليَّ ، لا إِلى المُرجئةِ، ولا إِلى القَدَرِيّةِ، ولا إِلى المُعتزِلةِ، ولا إِلى الخوارجِ ، ولا إلى الزّيديّةِ»قلتَ : جعِلْتُ فداكَ ، مضى أَبوكَ ؟ قالَ : «نعم » قلتُ : مضى موتاً؟ قالَ : «نعم» قلتُ : فَمنْ لنا من بعدِه ؟ قالَ : «إِن شاءَ اللهُّ أن يَهديَكَ هداكَ » قلتُ : جُعِلْتُ فداكَ ، إِنّ عبدَاللهِّ أَخاكَ يَزعمُ أَنّه الإمامُ بعدَ أَبيه ؛ فقالَ : «عبدُاللهِ يرُيدُ أَلا يُعْبَدَ اللهُ » قالَ : قلت : جُعِلْتُ فدِاكَ ، فمَنْ لنا بعدَه ؟ فقالَ : «إِن شاءَ اللهُ أَن يَهديَكَ هداكَ » قالَ : قلتُ : جُعِلْتُ فداكَ ، فأَنتَ هو؟ قالَ : «لا أَقولُ ذلكَ » .
قال : فقلتُ : في نفسي : لم أُصِبْ طريقَ المسألةِ ؛ ثمّ قلتُ له : جُعلتُ فداكَ ، عليكَ إِمامٌ ؟ قالَ : «لا» قالَ : فدخلَني شيءٌ لا يَعلمهُ إلا اللهُّ إعظاماً له وهيبةً، ثمّ قلتُ : جُعلتُ فداكَ ، أَسأَلُكَ كما كُنتُ أَسأَلُ أَباكَ ؟ قالَ : «سَلْ تُخْبَرْ ولا تُذعْ ، فإِنْ أذعتَ فهو الذّبحُ » قالَ : فسأَلته فإِذا هو بحرٌ لا يُنْزَفُ ، قلتُ : جعلتُ فداكَ ، شيعةُ أَبيكَ ضلالٌ ، فأُلقي إِليهم هذا الأَمرَ وأَدعوهم إِليكَ ؟ فقد أَخذتَ عليَّ الكتمانَ ؛ قالَ : «من آنستَ منهم رُشداً فأَلقِ إِليه وخُذْ عليه بالكتمانِ ، فإِن أَذاعَ فهو الذّبحُ »
(223)
وأشارَ بيدِه إِلى حلقِه .
قالَ : فخرجتُ من عندِه ولقيتُ أَبا جعفرٍ الأحْوَلَ ، فقالَ لي : ما وراءَكَ ؟ قلتُ : الهُدى؛ وحدّثْتهُ بالقِصّةِ . قالَ : ثمّ لقيْنا زُرارَةَ(1) وأَبا بصيرٍ فدَخلا عليه وسَمِعا كلامَه وساءلاه وقَطَعا عليه ، ثمّ لقيْنا النّاسَ أَفواجاً، فكلُّ من دخلَ عليه قَطَعَ عليه ، إلا طائفَةَ عمّارٍ السّاباطيِّ ، وبقيَ عبدُاللهِّ لا يَدخلُ إِليه منَ النّاسِ إِلا القليلُ (2) .
أَخبرَني أَبو القاسمِ جعفرُ بنُ محمّدِ بنِ قولويهِ ، عن محمّدِ بنِ يعقوبَ ، عن عليِّ بنِ إِبراهيمَ ، عن أَبيه ، عنِ الرّافعيِّ قالَ : كانَ لي ابنُ عمٍّ يقالً له الحسنُ بنُ عبدِاللهِ ، وكانَ زاهداً وكانَ من أَعبدِ أَهلِ زمانِه ، وكانَ يتّقيه السُّلطانُ لجدِّه في الدِّين واجتهادِه ، وربمّا استقبلَ السُّلطانَ في الأمرِ بالمعروفِ والنّهيَِ عنِ المنكَرِ بما يغضِبُه ، فكان يَحْتَمِلُ ذلكَ له لِصَلاحِه ، فلم تَزَلْ هذه حاله حتّى دخلَ يوماً المسجدَ وفيه أبو الحسن موسى عليه السلامُ فأومأ إِليه فأَتاه ، فقالَ له : «يا أَبا عليٍّ ، ما أَحبَّ إِليَ ما أَنتَ فيه وأَسرَّني به ! إلا أَنّه ليستْ لكَ معرفةٌ ، فاطْلُب المعرفةَ» فقالَ له : جُعلتُ فداكَ ، وما المعرفةُ؟ قالَ : «اذهَبْ تفقَّهْ ، واطْلُب الحديثَ » قالَ : عمّن ؟ قالَ : «عن فقهاءِ أَهلِ المدينةِ، ثمَّ اعرِضْ عليَّ الَحديثَ ».
قالَ : فذهبَ فكتبَ ثمّ جاءَ فقرأه عليه فأسقطَه كلَّه ، ثمّ قالَ له :
____________
(1) في هامش البحار المطبوع قديماً نقلاً عن العلامة المجلسي رحمه الله : «ذكر زرارة هنا غريب ، إذ غيبته في هذا الوقت عن المدينة معروفة، والظاهر مكانه مفضل [بن عمر] كما مر[من الكشي] او الفضيل كما في الكافي .
(2) الكافي1: 7|285، رجال الكشي 2 :265| 505 ، وذكره مختصراً الصفار في البصائر: 270| 1 ، ونقله العلامة المجلسي في البحار 47 : 35|343 .

(224)
«اذهَبْ فَاعْرِفْ » وكانَ الرّجلُ مَعْنِيّاً بدينهِ ، قالَ : فلم يَزَلْ يَترصّدُ أَبا الحسنِ حتّى خرجَ إِلى ضيعتن له ، فلقيه في الطّريقِ فقالَ له : جُعلت فداكَ إِنِّي أحتجُ عليكَ بينَ يَدَي اللهِّ ، فدلني على ما تَجبُ عليِّ معرفتهُ ؛ قالَ : فاَخبرهَ أَبو الحسنِ عليهِ السلامُ بأَمرِأَميرِ المؤمنينَ علَيه السلامُ وحقَه وما يجبُ له ، وأَمرِ الحسنِ والحسينِ وعليِّ بنِ الحسينِ ومحمّدِ بنِ عليّ وجَعفرِ بنِ محمّد عليهم السلام ثمّ سكتَ . فقال له : جُعلتُ فداك ، فمَن الأمامُ اليومَ ؟ قالَ : «إنْ أَخبرتُكَ تَقبلْ ؟» قال : نعم ، قال : «أَنا هو» قال : فشيءٌ أَستدلُّ بهِ ؟ قال : «اذْهَب إلى تلكَ الشجرةِ - واشارَإِلى بعضِ شجرِأُمِّ غَيْلانَ (1) - فقل لها : يقولُ لك : موسى بن جعفر: اقبلي » قال : فأتيتُها فرأيتُها والله تَخدّ(2) الأرضَ خَدّاً حتى وَقَفَتْ بينَ يَديهِ ، ثم أَشارَ إَليها بالرجوعِ فَرَجَعَتْ . قال : فاَقرَّبهِ ، ثم لَزِمَ الصَّمْتَ والعِبادةَ، فكان لا يَراهُ أَحد يَتكلّم بعدَ ذلكَ (3) .
وروى أحمدُ بن مِهران ، عن محمدِ بن عليّ ، عن أَبي بصيرٍ ، قالَ : قلتُ لأبي الحسنِ موسى بنِ جعفرٍ : جُعِلْتُ فدِاكَ ، بمَ يُعْرَف الإِمام ؟ قال : «بخصالً :
أَمّا أَوّلُهُنَ فإِنّه بشيءٍ قدَ تَقدّمَ فيه من أَبيه ، واِشارَتُه إِليه ، ليكونَ حُجّةً، ويُسأَلُ فَيُجيبُ ، واِذا سُكِتَ عنهُ آبتدَأ، ويُخْبرُ بما في غَدٍ ، ويكلّمُ الناسَ بكلِّ لِسان ». ثم قال : «يا أَبا محمدٍ ، أُعطَيكَ عَلامة قبلَ أن
____________
(1) أُمً غيلان : من الأشجار المعروفة عند العرب ، وتسمّى أيضاً السمرة، أُنظر. « الصحاح - غيل ـ5 : 1788».
(2) تخدّ الأرض : تشقّها . « الصحاح - خدد - 2 : 468 ».
(3) الكافي 1 : 286 |8 ، بصائر الدرجات : 274 | 6 ، ونقله العلآمة المجلسي في البحار: 48 : 53 | 49 .

(225)
تَقومَ » فلم نَلْبِثْ أَن دَخلَ عليهِ رجل مِن أَهلِ خُراسانَ فكلّمهُ الخُراسانيّ بالعربية ، فأَجابه أَبو الحسن بالفارسيّة ، فقال له الخراسانيّ : واللهِ ما مَنَعني أَنْ أُكلّمكَ بالفارسيّةِ إلا أَنّه ظنَنْتُ أَنّك لا تُحسِنُها ، فقالَ : «سبحانَ اللهِ ، إِذا كنتُ لا أُحسِنُ أُجيبكَ ، فما فَضْلي عليكَ فيما يُستَحَقُّ به الإمامةُ!» ثم قال : «يا أبا محمد، إِنَّ الإمام لا يَخْفى عليهِ كلامُ أحَدٍ مِنَ النّاسِ ، ولا مَنْطِقُ الطَيْر(1) ، ولاكلامُ شيءٍ فيهِ رُوْحٌ »(2) .
وروى عبدُاللهِ بنُ إِدريسَ ، عن ابنِ سِنانٍ ، قال : حَمَلَ الرشيدُ في بعضِ الأيّام إِلى عليِّ بنِ يَقْطِين ثياباً أكرَمَهُ بها، وكانَ في جُمْلَتِها دُرّاعَةُ خَزٌ سَودْاءُ من لِباَسِ المُلوكِ مثْقَلَةً بالذَهَب ، فاَنفذَ عليُّ بنُ يقطين جًلَّ تلكَ الثياب إِلى موسى بن جعفرٍ وأَنفذَ في جَملتِها تلكَ الدُرّاعةِ، وأَضافَ إِليها مالاً كَان عندَهُ على رسمٍ لَهُ فيما يَحمِلُهُ إِليهِ مِنْ خُمْسِ مالِهِ .
فلمّا وصل ذلك إِلى أَبي الحسن عليهِ السلامُ قَبِلَ المالَ والثِيابَ ، ورَدّ الدُرّاعةَ على يدِ الرسولِ إِلى عليِّ بنِ يقطين وكتبَ إِليه : «إِحتفِظْ بها، ولا تُخْرِجْها عن يدِكَ ، فسيكونُ لكَ بها شأنٌ تَحتاجُ إِليها معَهُ » فآرتاب عليُّ بنُ يقطين بردِّها عليهِ ، ولم يَدْرِ ما سَببُ ذلكَ ، واحتفَظَ بالدُرّاعةِ .
فلمّا كان بعدَ أَيّامٍ تغيَّرَعليُّ بنِ يقطين على غلامٍ كانَ يختصُّ به
____________
(1) في الكافي وقرب الإسناد بعده إضافة : «ولا بهيمة» .
(2) الكافي 1 : 225 |7 ، ورواه الحميري في قرب الإسناد : 146 ، والطبري في دلائل الإمامة : 169 ، باختلاف يسير، وابن شهرآشوب في المناقب 4 : 299 ، ونقله العلامة المجلسي في البحار 48 : 47 | 35 .

(226)
فصرَفَهُ عن خدمَتِهِ ، وكان الغلامُ يَعْرِف ميلَ عليِّ بنِ يقطين إِلى أَبي الحسنِ موسى عليه السلامُ ، ويقِفُ على ما يحمِلهُ إِليه في كلِّ وقتٍ من مالٍ وثيابٍ وألطافٍ وغيرِ ذلكَ ، فسعى به إِلى الرشيدِ فقال : إِنّه يقول بإِمامةِ موسى ابنِ جعفرٍ ، ويَحْمِلُ إِليهِ خُمْسَ مالِهِ في كُلِّ سَنَةٍ ، وقَدْ حَمَلَ إِليهِ الدُرّاعةَ التي أَكْرَمَهُ بها أَميرُ المؤمنينَ في وقتِ كَذا وكَذا . فاستشاطَ الرشيدُ لذلكَ وغَضِبَ غَضَباً شديداً ، وقال : لأكْشِفَنّ عنْ هذهِ الحال ، فإِنْ كانَ الأَمرُ كما تقولُ أَزهَقْتُ نفسَهُ .
وأَنفذَ في الوقت بإِحضارعليِّ بنِ يقطين ، فلمّا مَثُلَ بينَ يديهِ قال له : ما فَعَلَتِ الدُرّاعةُ التي كَسَوتُكَ بها؟ قال : هي ياأمير المؤمنين عِندي في سفط مَختومٍ فيهِ طِيبٌ ، قد احتفظتُ بها، قَلَّما أَصبحتُ إِلا وفتحتُ السَفَطَ ونظرتُ إِليها تبرّكاً بها وقبّلتُها وردَدّتُها إِلى موضِعِها، وكلّما أَمسيتُ صنعت بها مثلَ ذلكَ .
فقال : أَحْضِرها الساعةَ، قال : نعم يا أَميرَالمؤمنينَ . واستدعى بعضَ خَدَمِهِ فقال له : إِمْضِ إِلى البيتِ الفُلانيّ من داري ، فَخُذْ مفتاحَه من خازنتي وآفتَحْهُ ، ثم افتحِ الصُندوقَ الفُلانيّ فجِئْني بالسَفَطِ الذي فيه بخَتْمِهِ . فلم يَلْبثِ الغُلامُ أَن جاءَ بالسَفَطِ مَختوماً، فَوُضِعَ بين يَدَيِ الرشيدِ فأَمرَ بكَسْرِخَتْمِهِ وفَتْحِهِ .
فلمّا فُتِحَ نَظرَ إِلى الدُرّاعةِ فيهِ بحالِها، مَطْوٌيَةٌ مدفونةٌ في الطيب ، فَسَكَنَ الرشيدُ من غَضَبهِ ، ثمّ قال لعليِّ بنِ يقطين : اُردُدْها إِلى مكاَنِها وانصرِفْ راشِداً ، فلنْ أُصدِّقَ عليكَ بعدَها ساعياً . وأَمرَ أَنْ يُتْبَعَ بجائِزةٍ سَنِيَّةٍ ، وتقدّمَ بضَرْبِ الساعي به أَلفَ سَوْطٍ ، فَضُرِبَ نَحوَ خمسمائةِ
(227)
سَوْطٍ فماتَ في ذلك (1) .
وروى محمدُ بن إِسماعيل ، عن (محمدِ بن الفضل)(2) قال : إِختلفَتِ الروايةُ مِن بينِ أَصحابنا في مسحِ الرجلَينِ في الوضوء، أَهوَ من الأصابِع إِلى الكَعْبَينِ ، أَمْ مِنَ الكَعبينِ إِلى الأصابِع ؟ فكتبَ عليُّ بن يقطين إِلى أَبي الحسن موسى عليهِ السلامُ : جُعِلْتُ فِداكَ ، إنّ أَصحابَنا قَدْ اختلفُوا في مسحِ الرجلينِ ، فإِن رأَيتَ أَنْ تَكتُبَ إِليَّ بخطِّكَ ما يكونُ عَملي بحَسَبِهِ (3) فَعَلْت إِنْ شاءَ اللهُ .
فكتبَ إِليهِ أَبو الحسنِ عليهِ السلامُ : «فَهِمْتُ ما ذَكَرْتَ مِنَ الاختِلافِ في الوُضوء، والذي امرُكَ بهِ في ذلكَ أَنْ َتتمضمض ثلاثاً، وتَستَنْشِقَ ثلاثاً، وتغسِلَ وَجْهَكَ ثلاثاً، وتُخَلِّلَ شَعْرَ لحيَتِكَ (وتَغْسِلَ يدَكَ إِلى المِرفقَينِ ثلاثاً)(4) وتمسَحَ رأسَكَ كُلَّه ، وتمسَحَ ظاهِرَ أُذُنَيْكَ وباطِنَهُما ، وتَغْسِلَ رِجْلَيْكَ إِلى الكَعْبَينِ ثلاثاً ، ولا تُخالفْ ذلكَ إلى غيرِه » .
فلمّا وصَلَ الكتابُ إِلى عليِّ بنِ يقطين ، تعجَّبَ ممّا رُسِمَ لَهُ فيهِ ممّا جميعُ العصابةِ على خلافهِ ، ثم قال : مولايَ أَعلمُ بما قال ، وأَنا ممتثلٌ
____________
(1) ذكره ابن الصباغ في الفصول المهمّة : 236 ، وأورده مختصراً ابن شهرآشوب في المناقب 4 : 289 ، والراونديَ في الخرائج والجرائح 1 : 334| 25 ، والطبرسي في إعلام الورى : 293 ، ونقله العلامه المجلسي في البحار 48 : 137 | 12 .
(2) كذا في إلنسخ والمتكرر في الاسناد رواية محمد بن اسماعيل المتحد مع محمد بن اسماعيل بن بزيع عن محمد بن الفضيل ، ولا يبعد وقوع التصحيف هنا أيضاً، لاحظ معجم رجال الحديث 17 : آخر 43 - 45 .
(3) في «م» وهامش «ش » : عليه .
(4) ما بين القوسين سقط من نسختي «م » و«ح » وموجودة في نسخة «ش » وأُشير إِليها بأنها مثبتة من نسخة أُخرى .

(228)
أَمرَهُ ، فكانَ يعملُ في وضوئهِ على هذا الحدِّ، ويخالفُ ما عليه جميعُ الشِيعةِ، امتثالاً لأمرِ أَبي الحسنِ عليهِ السلامُ .
وسُعِيَ بعَليِّ بنِ يقطين إِلى الرشيدِ وقيِلَ لَهُ : إِنّه رافِضي مخالِف لَكَ ، فقالَ الرشيدُ لِبعضِ خاصَّتِه : قَدْ كَثُر عِندي القولُ في عليِّ بن يَقطين ، والقرْفُ (1) له بخلافنا، ومَيْلُهَ إِلى الرَّفْضِ ، ولَسْتُ أَرى في خِدْمته لي تقصيراً، وقَدِ امْتَحَنْتُه مِراراً، فما ظَهَرْتُ منه على مايُقْرَفُ به ، وأُحبّ أَن أستَبرىءَ أَمرَهُ مِنْ حيثُ لايَشْعُرُ بذلك فَيَتَحرز منّي . فقيلَ له : إِنّ الرافِضَةَ - ياأَميرَ المؤمنين - تُخالِفُ الجماعةَ في الوُضوء فتُخَفِّفُه ، ولا ترى غَسْلَ الرِجْلين ، فامْتَحِنْهُ مِنْ حَيث لا يَعْلمُ بالوقوفِ على وضوئه . فقال : أَجَلْ ، إِنَّ هذا الوَجْهَ يَظْهَرُ به أَمْرُه .
ثم تركه مدَّةً وَناطَهُ بشيءٍ من الشُّغْلِ في الدارِ حتى دَخَلَ وَقْتُ الصلاة، وكانَ عليُّ بن يَقْطين يَخلُو في حُجْرةٍ في الدارِ لِوُضُوئهِ وَصَلاتِه ، فلَمّا دَخَلَ وَقْتُ الصلاةِ وَقَفَ الرشيد مِنْ وَراء حائطِ الحُجْرَةِ بحيث يَرى عَليَّ بن يقطين ولا يَراه هو، فَدَعا بالماءِ لِلْوُضُوء، فَتَمَضْمَضَ ثلاثاً، وَاسْتَنْشَقَ ثلاثأ، وغَسَلَ وَجْهَهُ ، وخَلَّل شَعْرَ لِحْيَتِه ، وغَسَلَ يَدَيْه إِلى المِرْفَقَيْن ثلاثاً، ومَسَحَ رَأْسَهُ وأُذنَيْه ، وغَسَلَ رِجْلَيْهِ ، والرشيدُ يَنْظُرُ إِليه ، فَلَمَا رآه قد فَعَلَ ذلك لَمْ يَمْلِكْ نَفْسَهُ حتى أشْرفَ عليه بحيث يَراه ، ثم ناداهُ : كَذبَ - يا عليّ بن يقطين - مَنْ زَعَمَ أَنّكَ مِنَ الرّافِضَةِ . وصلُحَتْ حالهُ عِنْدَه .
ووَرَدَ عليه كتابُ أَبي الحسن عليه السلامُ : « ابتدِئ من الان يا
____________
(1) القرف : الاتهام. «الصحاح - قرف - 4 : 1415 » .
(229)
عليَّ بن يقَطين ، تَوَضَأ كما أَمَرَ اللهُّ ، اغْسلْ وَجْهَكَ مَرّةً فريضةً وأًخْرى إِسباغاً، وَاغْسلْ يَدَيْكَ مِنَ المِرْفَقَيْنِ كذلكَ ، وَامْسَحْ بِمُقَدَمِ رَأْسِكَ وَظاهِرِ قَدَمَيْكَ مِنَ فَضلِ نَداوَةِ وُضُوئكَ ، فَقَدْ زالَ ما كان يُخافُ عَلَيْكَ، والسَّلام » (1) .
ورَوى عليُّ بن أَبي حَمْزةَ البطائني ، قال : خَرَجَ أَبو الحسن موسى عليه السلام في بَعْضِ الأيّام مِنَ المدينة إِلى ضَيْعَةٍ له خارجةٍ عنها، فصَحِبْتُهُ أَنا وكانَ راكباً بَغْلَةً وأَنَا على حِمارٍ لي ، فَلمّا صِرْنا في بَعْضِ الطريقِ اعْتَرَضَنا أَسَدٌ ، فأَحْجَمْتُ خَوْفاً وأَقْدَمَ أَبو الحسن موسى عليه السلام غيرَمُكْتِرثٍ به ، فَرَأَيْتُ الأسدَ يَتَذَلّلُ لأبي الحسن عليه السلام ويهُمْهِمُ ، فَوَقَفَ له أَبو الحسن عليه السلام كالمُصْغي إِلى هَمْهَمَتِهِ ، ووَضعَ الأسدُ يَدَهُ على كَفَلِ بَغْلَتِهِ ، وقَدْ هَمَّتني نَفْسي من ذلك وخِفْت خَوْفاً عظيماً، ثمَّ تَنَحّى الأسَدُ إِلى جانبِ الطريقِ وحَوَلَ أَبو الحسن وَجْهَهُ إِلى الْقِبْلَةِ وجَعَلَ يَدْعو، ويحَرِّكُ شَفَتَيْهِ بما لَمْ أَفْهَمْه ، ثم أَومَأَ إِلى الأسَدِ بيَدِهِ أَن امْضِ ، فَهَمْهَمَ الأسَدُ هَمْهَمَةً طويلةً وأَبو الحسن يَقُول : «آمينَ آمينَ » وَانصَرَفَ الأسَدُ حتّى غابَ مِنْ بَيْنِ أَعْيُنِنا .
ومَضى أَبو الحسن عليه السلام لِوَجْهِهِ وَاتَّبَعْتُه ، فَلمّا بَعُدْنا عَن المَوْضِعِ لَحِقْتُهُ فَقُلْتُ لَه : جعِلْت فِداكَ ، ما شأنُ هذا الأسدُ؟ فَلَقَدْ خِفْتهُ - واللهِ -عليكَ ، وعَجِبْتُ مِنْ شَأنِهِ معك . فقالَ لي أَبوالحسن عليه
____________
(1) ذكره مختصرا ابن شهرآشوب في المناقب 4 : 288 ، والراوندي في الخرائج والجرائح 1 : 26|335 ، وذكره مرسلاً الطبرسي في اعلام الورى : 293 ، ونقله العلامة المجلسي في البحار 48 :38 | 14 .
(230)
السلام : «إِنَّه خَرَجَ إِليَّ يَشكُو عُسْرَ الوِلادَةِ على لبُوءتِهِ (1) وسَأَلَني أَنْ أَسأَلَ اللهَّ أَنْ يُفَرِّجَ عنها ففَعَلْتُ ذلك ، وأُلقي في روْعي (2) أَنّها تَلِدُ ذَكَراً له ، فَخَبَّرتُهُ بذلك ، فقالَ لي : امْضِ في حِفْظِ الله، فلا سلٌطَ اللهُ عليك ولا على ذُرٌيتِك ولا على أحَدٍ من شيعتِكِ شَيْئاً مِنَ السباعِ ، فقُلْتُ : امينَ »(3) .
والأخبارُ في هذا البابِ كثيرةٌ ، وفيما أَثْبَتْناه منها كفايةٌ على الرَّسْم الذي تَقدَّمَ ، والمِنّة للّهِ .

* * *

____________
(1)اللبُوءة : انثى الأسد، واللبوة ساكنة الباء غيرمهموزة لغة فيها «الصحاح - لبأ- 1 : 70» .
(2) الروع : القلبَ . «الصحاح - روع - 3 : 1223 » .
(3) ذكره مختصراً ابن شهرآشوب في المناقب 4 : 298 ، والراوندي في الخرائج والجرائح 2 : 649| 1 ، ونقله العلامة المجلسي في البحار 48 : 57 | 67 .