*
شاكٍ ، فقالَ : لو علمتُ بمرضِه لَعُدْته ، ودعا محمّدَ بنَ الأشعثِ
وأسماءَ بنَ خارجةَ وعمرو بنَ الحجّاجِ الزُّبيديّ ، وكانتْ رُوَيحةُ بنتُ عمرو
تحتَ هانئ بنِ عُروةَ وهي أُمُّ يحيى بن هانئ ، فقالَ لهم : ما يمنعُ هانئ بنَ
عُروةَ من إِتيانِنا؟ فقالوا : ما نَدري وقد قيلَ إِنّه يشتكي ؟ قالَ : قد
بلغَني أنّه قد بَرِىءَ وهو يجلسُ على بابِ دارِه ، فالْقَوْه ومروه ألاّ يَدَعَ ما
عليه من حقِّنا، فإِنِّي لا أحبُّ أن يَفسدَ عندي مثلُه من أشرافِ
العرب .

فأتَوْه حتّى وقفوا عليه عشيّةً وهو جالسُ على بابه ، فقالوا : ما يمنعُكَ
من لقاءِ الأمير؟ فإِنّه قد ذكرَكَ وقالَ : لو أعلمُ أَنّه شاكٍ لَعُدْته ، فقالَ
لهم : الشّكوى تَمنعُني ، فقالوا له : قد بلغَه انّكَ تجلسُ كلَّ عشيّةٍ
على باب دارِكَ ، وقدِ استبطأكَ ، والإبطاءُ والجَفاءُ لا يحتملُه السًّلطانُ ،
أقسَمْنَا عليكَ لمّا ركبتَ معَنا. فدعا بثيابه فلبسَها ثمّ دعا ببغلتِه
فركبَها، حتّى إِذا دنا منَ القصرِ كأنّ نفسهَ أحسّتْ ببعضِ الّذي
كانَ ، فقالَ لحسّان بن أسماء بن خارجة : يا ابن أخي إِنِّي واللّهِ لهِذا
الرّجلِ لَخائفٌ ، فما تَرى؟ قال : أيْ عمّ ! واللهِّ ما أَتخوّفُ عليكَ شيئاً،
ولَمْ تَجعلْ على نفسِك سبيلاً، ولم يكنْ حسّان يعلمُ في أَيِّ شيءٍ
بعثَ إِليه عبيدُاللّهِ .

فجاءَ هانئ حتّى دخلَ على ابنِ زيادٍ ومعَه القومُ ، فلمّا طلعَ قالَ
ابنُ زيادٍ : أتَتْكَ بحائنٍ
(1) رِجلاه . فلمّا دنا من ابنِ زيادٍ - وعندَه شُريحٌ
القاضي - التفتَ نحوَه فقالَ :
____________
(1) مثل يضرب لمن يسعى الى مكروه حتى يقع فيه . «جمهرة الامثال للعسكري 1 : 119 ت
114 » ، والحائن : الهالك . «لسان العرب - حين - 13 : 136 » .
( 48)
أُريدُ حِبَاءهُ وَيُرِيْدُ قَتْلي * عَذِيْرَكَ مِنَ خَلِيْلِكَ مِنْ مُرَادِ(1)

وقد كانَ أوّل (مادخلَ)
(2)عليه مُكرِماً له مُلطِفاً، فقالَ له هانئ :
وما ذلكَ أيًّها الأَميرُ؟ قالَ : إٍ يهٍ يا هانئ بنَ عُروِةَ، ما هذهِ الأمورُ الّتي
تَرَبّصُ في دارِكَ لأَميرِ المؤمنين وعامّةِ المسلمين ؟ جئتَ بمسلم بنِ
عقيلٍ فأَدخلتَه دارَك وجمعتَ له السِّلاحَ والرجالَ في الدُّورِ حولَكَ ،
وظننتَ أَنّ ذلكَ يخفى عليّ ، فقالَ : ما فعلتُ ، وما مسلم عندي ،
قالَ : بلى قد فعلتَ . فلمّا كثرَ ذلكَ بينَهما، وأَبى هانئ إلاّ مجاحَدَتَه
ومنُاكَرتَه ، دعا ابنُ زيادٍ مَعْقِلاً - ذلكَ العَيْنَ
(3) - فجاءَ حتّى وقفَ بين
يديه ، فقالَ : أَتعرفُ هذا؟ قالَ : نعم ، وعلمَ هانئ عندَ ذلكَ أَنّه
كانَ عيناً عليهم ، وأَنه قد أَتاه بأَخبارِهم ، فأُسقطَ في يدِه ساعةً ثم
راجعتْه نفسه فقالَ : اسمعْ مني وصدَقْ مقالتي
(4)، فواللهِّ لا كذبتُ ، واللهِ
ما دعوتُه إِلى منزلي ، ولا علمتُ بشيءٍ من أَمرِه حتّى جاءَني يسأَلني
(5)
النُزولَ فاستحيَيْتُ من ردِّه ، ودخلنَي من ذلكَ ذمامٌ فضيَّفْتُه واويتُه ، وقد
كانَ من أَمرِه ما كانَ بلغَكَ ، فإِن شئتَ أن أعطيَكَ الآنَ مَوْثقاً مُغَلَّظاً ألاّ
أَبغيَكَ سوءاً ولا غائلةً، ولآتِيَنَّكَ حتّى أَضعَ يدي في يدِكَ ، ِوان شئتَ
أَعطيتُكَ رهينةً تكونُ في يدِكَ حتّى آتيَكَ ، وأَنطلق إِليه فآمره أن يخرجَ
من داري إِلى حيثُ شاءَ منَ الأَرضِ ، فأَخرج من ذمامِه وجوارِه . فقالَ له
____________
(1) البيت لعمرو بن معدي كَرب : كتاب سيبويه 1 : 276 ، الاغاني 10 : 27 ، العقد
الفريد 1 : 121 ، جمهرة اللَغة 6 : 361.
(2) في هامش «ش » نسخة اخرى : ما قدم .
(3) العين : الجاسوس « الصحاح - عين - 6 : 2170 » .
(4) في هامش «ش »: قولي .
(5) في «م » : ليسالني .
( 49)
ابنُ زيادٍ : واللهِّ لا تفارقني أبداً حتّى تَأْتِيَني به ، قالَ : لا واللهِ لا آتيكَ
(1) به
أبداً، أجيئُكَ بضيفي تَقتلُه ؟ ! قالَ : واللّهِ لَتَأْتِيَنَّ
(2) به ، قالَ : لا واللّهِ لا
آتيكَ به .

فلمّا كثرَ الكلامُ بينَهما قامَ مسلمُ بنُ عمرو الباهليّ - وليسَ بالكوفةِ
شاميٌ ولا بصريٌّ غيره - فقالَ : أصلحَ اللهُّ الأميرَ، خلِّني وِايّاه حتّى
أُكَلِّمَه ، فقامَ فخلا به ناحيةً من ابنِ زيادٍ ، وهما منه بحيثُ يَراهما ، وِاذا
رفعا أصواتَهما سمعَ ما يقولانِ ، فقالَ له مسلمٌ : يا هانئ إِنِّي أنْشُدُكَ
اللهَ أن تقتلَ نفسَكَ ، وأنْ تُدخِلَ البلاءَ على عشيرتِكَ ، فواللّهِ إِنّي لأنْفَسُ
بكَ عنِ القتلِ ، إِنّ هذا الرّجلَ ابنُ عمِّ القوم وليسوا قاتِليه ولا
ضائريه ، فادفعْه إِليه فإِنّه ليسَ عليكَ بذلكَ مَخزاةٌ ولا مَنقصةٌ ، إِنّما
تَدفعُه إِلى السُّلطانِ . فقالَ هانئ : واللهِّ إِنّ عليَّ في ذلكَ للخزي
والعار، أنا أدفعُ جاري وضيفي وأنا حيٌّ صحيحٌ أسمعُ وأرى،
شديدُ السّاعدِ، كثيرُ الأعوانِ ؟ ! واللهِّ لو لم أكن إلاّ واحداَ ليسَ لي
ناصرٌ لم أدفعْه حتّى أموتَ دونَه . فأخذَ يُناشدُه وهو يقولُ : واللّهِ لا
أدفعُه أبداً .

فسمعَ ابنُ زيادٍ ذلكَ فقالَ : أدْنُوه منِّي ، فادْنيَ منه فقالَ : واللّهِ
لَتَأْتِيَنِّي به أو لأضْربَنَ عُنقَكَ ، فقالَ هانئ : إِذاً واللّهِ تكثر البارِقة حولَ
دارِكَ فقالَ ابنُ زيادٍ : والهفاه عليكَ ! أبالبارِقةِ تُخوِّفُني ؟ وهو يظنُّ أنّ
عشيرتَه سيمنعونه ؛ ثّم قالَ : أدْنُوه منيِّ ، فادنِيَ ، فاعترضَ وجهَه
بالقضيبِ فلم يَزَلْ يَضربُ وجهَه وأنفَه وجبينَه وخدَّه حتّى كَسرَ
____________
(1) في «م » وهامش «ش » : لا أجيئك .
(2) في هامش «ش » و«م » : لتأتيني .
( 50)
أَنفَه وسَيَّلَ الدِّماءَ على ثيابِه ، ونثرَلحمَ خدِّه وجبينهِ على لحيتهِ ، حتّى
كسرَ القضيب . وضربَ هانئ يدَه إِلى قائم سيفِ شُرَطِيٍّ ، وجاذبَه
الرّجلُ ومنَعه ، فقالَ عبيدُاللّهِ : أَحَرُوْرِيٌّ سائرَ اليوم ؟ قد حلَّ لنا
دمُكَ ، جرُّوه ، فَجرَّوه فألقَوْه في بيتٍ من بيوتِ الدّارِ، وأَغلقوا عليه بابَه ،
فقالَ : اجعلوا عليه حَرَساً، ففُعِلَ ذلكَ به ، فقام إِليه حسّانُ بنُ
أَسماء فقالَ له : أرُسُلُ غَدْرٍ سائرَ اليوم ؟ أَمرْتَنا أَن نجيئكَ بالرّجلِ ،
حتّى إِذا جئناك به هَشَمْت وجهَه وسيَّلتَ دماءه على لحيتِه ، وزعمتَ
أَنّكَ تقتلُه . فقالَ له عُبيدُاللهِّ : ِوانّكَ لَهاهنا، فأَمَرَ به فلُهِز
(1) وتُعْتِعَ
(2) ثمّ
أُجلسَ ناحيةً . فقالَ محمّدُ بنُ الأشعثِ : قد رَضِيْنا بما راه
(3) الأَميرُ، لنا
كانَ أَو علينا ، إِنّما الأميرُ مؤدِّبٌ.

وبلغَ عمرو بنَ الحجّاجِ أَنّ هانئاً قد قُتِلَ ، فأَقبلَ في مَذْحِج حتّى
أَحاطَ بالقصرِ ومعَه جمعٌ عظيمٌ ، ثمّ نادى : أَنا عمرو بنُ الحجّاجِ ،
وهذه فُرسانُ مَذْحِج ووُجوهُها ، لم تَخلعْ طاعةً ، ولم تُفارقْ جماعةً ، وقد
بلغَهم أَنّ صاحبَهم قد قُتِلَ فأَعظَموا ذلكَ . فقيلَ لعبيدِاللّهِ بنِ زيادٍ :
هذه مَذْحِج بالباب ، فقال لشريحٍ القاضي : ادخلْ على صاحبهم
فانظُرْ إِليه ، ثمّ اخرُجْ وأَعلِمْهم أَنّه حيٌّ لم يُقتَلْ . فدخلَ فنظرَ
شُريحٌ إِليه ، فقالَ هانئ لمّا رأَى شُريحاً : يا للهِّ ! يا للمسلميمنَ ! أَهَلَكَتْ
عشيرتي ؟ ! أَينَ أَهلُ الدِّين ؟ ! أَينَ أَهلُ البَصَر
(4)؟ ! والدِّماءُ تَسيلُ على
____________
(1) اللهز: الضرب بجمع اليد في الصدر «الصحاح - لهز- 3 : 894» .
(2) تعتعه : حرّكه بعنف . «القاموس - تعع - 3 : 9» .
(3) في « م » وها مش « ش » رأ ى .
(4) في « م » وهامش « ش » : المصر .
( 51)
لحيتِه ، إِذ سمعَ الرّجّةَ
(1) على باب القصرِ فقالَ : إِنِّي لأَظنُّها أَصواتَ
مَذْحِج وشيعتي منَ المسلمينَ ،َ إِنّه إِن (دَخَلَ عليّ)
(2) عشرةُ نفرٍ
أَنقذوني . فلمّا سمعَ كلامَه شُريحٌ خرجَ إِليهم فقالَ لهم : إِنّ الأميرَ لمّا
بلغَه مكانُكم ومقالتُكم في صاحبكم ، أَمرَني بالدُّخولِ إِليه فأتيتُه فنظرت
إِليه ، فأَمرَني
(3) أَن أَلقاكم وأَن أًّعلمَكم أنّه حيٌ ، وأَنّ الّذي بلغَكم من
قتلِه باطل ، فقالَ عمرُو بنُ الحجّاجِ وأَصحابُه : أَمّا إِذْ لم يُقْتَلْ
(4)
فالحمدُ للّهِ ، ثمّ انصرفوا .

وخَرجَ عبيدُاللّهِ بن زيادٍ فصعدَ المنبرَ، ومعَه أَشرافُ النّاس وشُرَطهُ
وحَشَمُه ، فقالَ :

أَمّا بعدُ : أَيُّها النّاسُ فاعتصِمُوا بطاعةِ اللّهِ وطاعةِ أئمّتِكم ، ولا
تَفرقوا فتَهلِكُوا وتَذِلُّوا وتُقْتَلوا وتُجْفَوا وتًحرَبوا
(5)، إِنَّ أَخاك منْ
صَدَقَكَ ، وقد أَعذَرَ مَنْ أنذَرَ. ثمّ ذهبَ لِيَنزلَ فما نزلَ عنِ المنبرِحتّى
دخلتِ النّظّارةُ المسجدَ من قِبَلِ باب التّمّارينَ يَشتدُّون ويَقولونَ : قد
جاءَ ابنُ عقيلٍ !قد جاءَ ابنُ عقيلٍ !فدخل عبيدُاللّهِ القصرَمُسرِعاً
وأَغلقَ أبوابَه .
قالَ عبدُاللّه بن حازمٍ : أنا واللهِّ رسولُ ابنِ عقيلٍ إِلى القصرِ
لأنظرَ ما فعلَ هانئ، فلمّا حُبِسَ وضُرِبَ ركبتُ فرسي فكنتُ أَوّلَ أَهل
____________
(1) في هامش «ش » و «م » : الوجبة. وهي الصوت الساقط . «القاموس » وجب - 1 :
136 » .
(2) في «ش » : دخل الي .
(3) في «م » وهامش «ش » : وأمرني .
(4) في هامش «ش » و«م»: اما اذا كان لم يقتل .
(5)الحرب : أخذ المال قهراً . «الصحاح - حرب - 1: 108» .
( 52)
الدَّارِ دخلَ على مسلمِ بنِ عقيلٍ بالخبرِ، فإِذا نِسوةٌ لِمُرَاد مُجتمعات
يُنادِيْنَ : يا عَبرتاه ! يا ثُكلاه ! فدخلتُ على مسلمِ بنِ عقيلٍ فأخبرتُه
فأَمرَني أَن أُناديَ في أصحابِه وقد ملأ بهم (1) الدُّورَ حولَه ، وكانوا
فيها أَربعةَ آلافِ رجلٍ ، فناديتُ : يا منصورُ أمِتْ ، فتَنادى أهل الكوفةِ
واجتمعوا عليه ، فعقدَ مسلمٌ لرؤوسِ الأرباعِ على القبائل كِنْدَةَ ومَذْحِجَ
وأسَدَ وتَمِيْمَ وهَمْدَانَ ، وتَداعى النّاسُ واجتمعوا، فما لبثْنا إلاّ قليلاً حتّى
امتلأ المسجدُ منَ النّاسِ والسُّوقُ ، وما زالوا يَتَوَثَّبون حتّى المساءِ ، فضاقَ
بعبيدِاللهّ أمرُه ، وكانَ أَكثر عملِه أن يُمسِكَ بابَ القصر وليسَ معَه في
القصرِ إلاّ ثَلاثونَ رجلاً منَ الشُّرَطِ وعشرونَ رجلاً من أشرافِ النّاسِ
وأهلِ بيتهِ وخاصّته ، وأقبلَ مَنْ نأَى عنه من أشرافِ النّاسِ يأْتونَه من قِبَل
الباب الّذي يلي دارَ الرُّوميِّينَ ، وجعلَ مَنْ في القصرِ معَ ابن زيادٍ يُشرِفونَ
عليهِمَ فينظرونَ إِليهم وهم يرمونَهم بالحجارةٍ ويَشتمونَهم ويَفترونَ على
عبيدِاللهِّ وعلى أبيه.
*
ودعا ابنُ زيادٍ كَثِيرَ بنَ شهابِ وأمرَه أن يَخرجَ فيمن أطاعَه من مَذْحِج ،
فيسيرَ في الكوفةِ ويخذِّلَ النّاَسَ عنِ ابن عقيلٍ ويخوِّفَهم الحربَ
(2)
ويحذِّرَهم عقوبةَ السُّلطانِ ، وأَمرَ محمّدَ بنَ الأشعثِ أن يَخرجَ فيمن أطاعَه
من كِنْدةَ وحَضْرَمَوْتَ ، فيرفعَ رايةَ أمانٍ لمن جاءه منَ النّاسِ ، وقالَ مثلَ
ذلكَ للقَعْقاعِ الذُّهْليِّ وشَبَثِ بنِ رِبعيٍّ التّميميِّ وحَجّارِبن أبجَر العِجليِّ
وشمرِ بنِ ذي الجوشنِ العامريِّ ، وحبسَ باقيَ وجوهِ النّاسِ عندَه
استيحاشاً إِليهم لقلّةِ عددِ من معَه منَ النّاس.
____________
(1) في «م » وهامش «ش »: منهم .
(2) في هامش «ش » و «م » : بالحروب .
( 53)

فخرجَ كَثيرُبنُ شِهابٍ يُخذِّلُ
(1) النّاسَ عنِ ابنِ عقيلٍ ، وخرجَ محمّدُ
ابنُ الأشعثِ حتّى وقفَ عندَ دُورِ بني عُمارةَ، فبعثَ ابنُ عقيلٍ إِلى محمّدِ
ابن الأشعثِ منَ المسجدِ عبدَ الرّحمن بن شريحٍ الشِّباميّ ، فلمّا رأَى ابنُ
الأشعثِ كثرةَ من أَتاه تأَخّرَ عن مكانِه ، جعلَ محمّدُ بنُ الأشعثِ وكثِيرُبنُ شِهابِ
والقَعْقَاعُ بنُ شَوْر الذُّهليّ وشَبَثُ بنُ رِبعيٍ يَرُدُّونَ النّاسَ عنِ اللحوقِ
بمسلمٍ ويخوِّفونَهمُ السُّلطانَ ، حتّى اجتمعَ اليهم عددٌ كثيرٌ من قومِهم
وغيرهم ، فصاروا إِلى ابنِ زيادٍ من قِبَلِ دارِ الرُّومييّنَ ودخلَ القوم
معَهم ، فقالَ له كَثِيرُبنُ شهابٍ : اصلح اللهُّ الأَميرَ، معَكَ في القصرِ ناسٌ
كثيرٌ من أشرافِ النّاسِ ومن شُرَطِكَ واهلِ بيتِكَ ومَواليكَ ، فاخرُجْ بنا
إِليهم ، فأبى عُبيدُاللّهِ ؟ وعقدَ لشَبَث بن رِبْعيٍّ لواءً فأَخرجَه .

وأقامَ النّاس معَ ابنِ عقيلٍ يَكثرونَ حتّى المساءِ وأَمرُهم شديدٌ ،
فبعثَ عُبيدُاللهِّ إِلى الأَشرافِ فجمعَهم ، ثمّ أَشرفوا على النّاسِ فَمَنَّوا أَهلَ
الطّاعةِ الزِّيادةَ والكرامةَ ، وخَوَّفوا أهلَ العصيانِ
(2) الحرمانَ والعقوبةَ ،
وأَعلَموهم وصولَ
(3) الجندِ منَ الشّام إِليهم . وتكلّمَ كَثِيرٌ حتّى كادتِ
الشّمسُ ان تَجبَ ، فقالَ : أيُّها النّاسَُ الحقوا بأهاليكم ولا تَعَجَّلوا الشّرَّ،
ولا تُعَرِّضواَ أنفسَكم للقتل ، فإِنَّ هذه جنودُ أميرِ المؤمنينَ يزيدَ قد
أقبلتْ ، وقد أعطى اللهَّ الأميرُ عهدا ً: لئن تَمَّمْتًم على حربه ولم
تَنصرِفوا من عشيّتِكم (أن يَحْرِم)
(4) ذُرِّيَّتَكم العطاءَ، ويُفرِّقَ مُقاتِلتًكم في
مَغازي الشّامِ ، وأن يأخذَ البريءَ بالسّقيمِ والشّاهدَ بالغائبِ ، حتّى لا
____________
(1) في النسخ : فخذّل ، وما في المتن من هامش «ش » و «م ».
(2) في « م » وهامش « ش » : المعصية .
(3) في «م » وهامش « ش » : فصول .
(4) في هامش «ش »: ليحرمن .
( 54)
تبقى له بقيّةٌ من أَهلِ المعصيةِ إلاّ أذاقَها وبالَ ما جنتْ أيديها . وتكلّمَ
الأشرافُ بنحوٍ من ذلكَ .
*
فلمّا سمعَ النّاسُ مقالَهم أخذوا يتفرّقونَ ، وكانتِ المرأةُ تأْتي ابنَها
أَو أَخاها فتقولُ : انْصَرِفْ ، النّاسُ يَكفونَكَ ؛ ويجيءُ الرّجلُ إِلى ابنهِ
وأَخيه فيقولُ : غداً يأْتيكَ أَهلُ الشّام ، فما تَصنعُ بالحرب والشّرِّ؟
انْصَرِفْ ؛ فيذهبُ به فينصرفُ . فما زالَوا يتفرّقون حتّى أمسَى ابنُ
عقيلِ وصلّى المغربَ وما (معَه إلاّ ثلاثونَ)
(1) نَفْساً في المسجدِ، فلمّا رأى
أَنّه قد أًمسى وما معَه إلاّ أُولئكَ النّفرُ، خرجَ منَ المسجدِ متوجِّهاً نحوَ
أَبواب كِنْدةَ، فما بلغَ الأَبوابَ ومعَه منهم عشرة، ثمّ خرجِ منَ الباب
فإذا لَيسَ معَه إِنسانٌ ، فالتفتَ فإِذا هو لا يُحِسُّ أَحداًَ يَدُلّه علىَ
الطّريقِ ، ولا يَدُلًّه على منزلِه ، ولا يُواسيه بنفسِه إِن عرضَ له عدوّ.

فمضى على وجهِه مُتَلدَداً
(2) في أَزِقّةِ الكوفةِ لا يدري أينَ يذهبُ ،
حتّى خرجَ إِلى دورِ بني جَبَلَةَ من كنْدَةَ، فمشى حتّى انتهى إِلى بابِ امرأةٍ
يُقالُ لها : طَوْعَةُ، أُمُّ ولدٍ كانتْ للأَشعثِ بنِ قيسٍ فأعتقَها، فتزوّجَها
أسَيْدٌ الحضرميُّ فولدتْ له بِلالاً، وكان بِلالٌ قد خرجَ معَ النّاسِ فأُمُّه
قائمةٌ تنتظرة ؛ فسلّمَ عليها ابنُ عقيلٍ فردّت عليه فقالَ لها: يا أَمةَ اللّهِ اسقيني
ماءً، فسقتْه وجلسَ وأَدخلتِ ألإناءَ، ثمّ خرجتْ فقالتْ : يا عبدَاللّهِ
ألم تشربْ ؟ قالَ : بلى، قالتْ : فاذهبْ إِلى أَهلِكَ ، فسكتَ ثمّ
أعادتْ مثلَ ذلكَ ، فسكتَ ، ثمّ قالتْ له في الثّالثةِ : سُبحانَ اللهِّ ! يا
____________
(1) في «م » وهامش «ش » : معه ثلاثون .
(2) في هامش «ش » : التلدد : النظر الى أليمين والشمال .
( 55)
عبدَاللّهِ قُمْ عافاكَ اللّهُ إِلى أَهلِكَ فإِنّه لا يَصلحُ لكَ الجلوسُ على بابي ،
ولا أُحِلُّه لكَ .

فقامَ وقالَ : يا أَمةَ اللهِّ ما لي في هذا المِصر منزلٌ ولا عشيرةٌ ، فهل
لكِ في
(1) اجرٍ ومعروفٍ ، لعلِّي مُكافئًكِ بعدَ اليوم ، فقالتْ : يا عبدَاللّهِ
وما ذاكَ ؟ قالَ : أَنا مسلمُ بنُ عقيلٍ كَذَبَني هؤَلاءِ القومُ وغَرُّوني
وأَخرجوني ؟ قالتْ : أَنتَ مسلمٌ ؟ قالَ : نعم ؛ قالتْ : ادخُلْ ، فدخلَ
بيتاً في دارِها غيرِ البيتِ الّذي تكونُ فيه ، وفرشتْ له وعرضتْ عليه
العَشاءَ فلم يَتَعَش .

ولم يكنْ بأَسرعَ أَن جاءَ ابنها، فرآها تُكثِرُ الدُّخولَ في البيتِ
والخروجَ منه ، فقالَ لها: واللّهِ إِنّه لَيَرِيبُني كثرةُ دخولكِ هذا البيتَ منذُ
الليلةِ وخروجِكِ منه ؛ إِنّ لكِ لَشأناً؛ قالتْ : يا بُنَيَّ الْه عن هذا؛
قالَ : واللهّ لَتخبرينني
(2)؛ قالتْ : أَقبلْ على شأْنِكَ ولا تسأَلنْي عن
شيءٍ ، فَألح عليها فقالتْ : يا بُنَيّ لاَ تُخْبرَنَ أَحدآً منَ النّاسِ بشيءٍ مما
أُخبركُ به ؛ قالَ : نعم ، فأَخذتْ عليه اَلأَيمانَ فحلفَ لها، فأَخبرتْه
فاضطجعَ وسكتَ .

ولمّا تفرّقَ النّاسُ عن مسلمِ بنِ عقيلٍ طالَ على ابنِ زيادٍ وجعلَ
لا يَسمعُ لأَصحاب ابن عقيل صوتاً كما كانَ يَسمع قبلَ ذلكَ ؛
قال لأصحابه : أشرِفُوا فانظُرُوا ، هل تَرَوْنَ منهم أحداًَ؟ فأشرفوا فلم
يَرَوْا أَحداً ، قالَ : فانظُرُوا لعلّهم تحتَ الظلالِ وقد كَمنوا لكم ،
____________
(1) في هامش «ش» و«م »: الى.
(2) في هامش «ش» و«م » : لَتُخْبرنِّي .
( 56)
فنزعوا تَخاتجَ
(1) المسجدِ وجعلوا يخفضونَ شُعَلَ النّارِ
(2) في أَيديهم ويَنظرونَ ،
فكانتْ أَحيانا تُفيءُ لهم واحياناً تُضيءُ كما يُريدونَ ، فدلَّوُا
القناديلَ (وأَطنانَ القصب تًشَدُّ)
(3) بالحبالِ ثمّ تُجعلُ فيها النيرانُ ثمّ
تُدلّى حتّى تنتهيَ إِلى الأَرَض ، ففعلوا ذلكَ في أقصى الظَلال
(4) وأَدناها
وأَوسطِها حتّىٍ فُعِلَ ذلكَ بالظُّلّةِ الّتي فيها المنبر، فلمّا لم يَرَوْا شيئاً أعلموا
ابنَ زيادٍ بتفرّقِ القومِ ، ففتحَ بابَ السُّدّةِ
(5) الّتي في المسجدِ ثمّ خرجَ
فصعدَ المنبرَ وخرجَ أَصحابهُ معَه ، فأمرَهم فجلسوا قُبَيل العَتَمةِ وأَمرَ
عمرو بنَ نافع فنادى : أَلا بَرِئَتِ ألذِّمّةُ من رجلٍ منَ الشّرَطِ والعُرفَاءِ
والمنَاكب
(6) أَو المقاتِلةِ صلّى العتمة إلاّ في المسجدِ، فلم يكنْ إلاّ ساعة
حتى امتَلأ المسجدُ منَ النّاسِ ، ثمّ أَمرَ مناديَه فأَقامَ الصّلاةَ ، وأَقامَ
الحرسَ خلفَه وأَمرَهم بحراسته من أَن يَدخلَ عليه أَحدٌ يَغتالهُ ، وصلىّ
بالنّاس ثمّ صعدَ المنبرَ فحمدَ اللهَّ وأَثنى عليه ثمّ قالَ :

أمَّا بعدُ : فإِنّ ابن عقيلٍ السّفيهَ الجاهلَ قد أَتى ما قد رأَيتم منَ
____________
(1) قال العلامة المجلسي في البحًار 44 : 362 : التختج : لعله معرب «تخته » اي نزعوا
الأخشاب من سقف المسجد لينظروا هل فيه أحد منهم . وان لم يرد بهذا المعنى في
اللغة.
(2) في هامش «ش» : النيران .
(3) في هامش «ش » و «م » : وانصاف الطنان تشد .
والطنان والأطنان : جمع طُنّ ، وهو حزمة القصب «الصحاح - طنن - 6 :
2159» .
(4) الظلال : جمع ظلة وهي السقيفة يستتر بها من الحر والبرد انظر «مجمع البحرين -
ظلل - 5: 417».
(5) السدّة : السقيفة فوق الباب ، وقيل هي الساحة بين يدي الباب . «مجمع
ا لبحرين - سدد - 3 : 167 .
(6) المناكب : جمع منكب ، وهو رئيس العرفاء«الصحاح - نكب - 1 : 228 » .
( 57)
الخلافِ والشِّقاقِ ، فبَرئَتْ ذمّةً اللهِّ من رجلٍ وجدناه في دارِه ، ومن جاءَ به
فله دِيَتُه ، واتّقوا
(1) اللّهَ عبادَ اللّهِ والزموا طاعتَكم وبيعتَكم ، ولا تجعلوا
على أنفسِكم سبيلاًَ. يا حُصَينَ بنَ نُميرٍ ، ثكلتْكَ أُمُّكَ إِن ضاعَ باب
سكّةٍ من سككِ الكوفةِ، أوخرجَ هذا الرجلُ ولم تأْتِني به ، وقد سلّطتُكَ
على دورِ أَهلِ الكوفةِ، فابعثْ مراصدَ على أهلِ السِّككِ ، وأصبحْ غداً
فاسْتبِرِ
(2) الدُّورَ وجُسْ خلالَها حتّى تأْتيني بهذا الرّجلِ . وكانَ الحُصينُ بنُ
نُميرٍ على شرَطِه وهومن بني تميم .

ثمّ دخلَ ابنُ زيادٍ القصرَ، وقد عقدَ لعمرو بنِ حُرَيثٍ رايةً وأمَّره
على النّاسِ . فلمّا أصبحَ جلسَ مجلسَه وأَذنَ للنّاسِ فدخلوا عليه ،
وأقبلَ محمّدُ بنُ الأَشعثِ ، فقالَ : مرحباً بمن لا يُسْتَغَشُّ ولا يُتَّهَمُ ، ثمّ
أقعدَه إِلى جنبِه.
*
وأصبحَ ابنُ تلكَ العجوز فغدا إِلى عبدِ الرحمنِ بنِ محمّدِ بن الأشعثِ
فأخبره بمكانِ مسلمِ بنِ عقيلٍ عندَ أُمِّه ، فأَقبلَ عبدُ الرّحمنِ حَتّى أَتى أباه
وهو عندَ ابنِ زيادٍ فسارَّه ، فعرفَ ابنُ زيادٍ سِراره فقالَ له ابنُ زيادٍ
بالقضيب في جنبِه : قُمْ فائتني به السّاعةَ، فقامَ وبعثَ معَه قومه ، لأنّه
قد علمَ أنَّ كلَّ قومٍ يَكرهونَ أن يصابَ فيهمِ (مسلمُ بنُ عقيل)
(3)،
فبعثَ معَه عبيدَاللّه بن عبّاسٍ السُّلميّ في سبعين رجلاً من قيسٍ ، حتّى
أتَوُا الدّارَ الّتي فيها مسلمُ بنُ عقيلٍ رحمَه اللهًّ ، فلمّا سمعَ وَقْعَ حوافرِ
____________
(1) في «م » وهامش «ش» : اتقوا .
(2) في هامش «ش » و«م» : فاستبرئ ، أو استَبرْأمر من استبار، وبار اذا اختبر أو اشتَبرْ
افتعل من السَبر .
(3)في هامش «ش »و«م »: مِثل ابن عقيل .
( 58)
الخيلِ وأَصواتَ الرِّجالِ علمَ أَنّه قد أُتيَ ، فخرجَ إِليهم بسيفِه ،
واقتحموا عليه الدًارَ، فشدَّ عليهم يَضرِبُهم بسيفهِ حتّى أَخرجَهم منَ
الدّارَ، ثمّ عادوا إِليه فشدَّ عليهم كذلكَ ، فاختلفَ هو وبكرُ بنُ حُمرانَ
الأَحمريّ فضربَ فمَ مسلمٍ فشقً
(1) شفتَه العُليا وأَسرعِ السّيفُ فِى
السًّفلى ونَصَلَتْ
(2) له ثَنِيَّتاه ، وضربَه مسلمٌ في رأسِه ضربةَ مُنكَرةً وثنّاه
بأخرى على حبلِ العاتقِ
(3) كادتْ تَطلعُ على جوفِه ، فلمّا رأوا ذلكَ أشرفوا
عليه من فوقِ البيتِ فأَخذوا يَرمونَه بالحجارةِ ، ويُلهِبونَ النّارَ في أطنانِ القصبِ
ثمّ يُلقونَها عليه من فوقِ البيتِ ، فلمّا رأَى ذلكَ خرجَ عليهم مُصلِتاً بسيفِه
في السِّكّةِ، فقالَ له محمّدُ بنُ الأشعثِ : لكَ الأمانُ ، لا تَقتلْ نفسَكَ ؟
وهو يُقاتِلهُم ويقولُ :
أقْسَمْــــتُ لا أُقـْـتَلُ إِلا حـــُرُّا * إِنِّيْ (4) رَأَيْتُ المْوَتَ شَيْئَاً نُكْرَاُ
ويجعَلُ (5)الْبَارد َسُخْنَا ًمُرًا * رُدَّ(6) شُعَــاعُ الـشَّمْسِ فــاستقرَّا
كلّ امْرِىءٍ يَوْمَاً مُلاَقٍ شــرًّا * أَخــَـافُ أَنْ أُكـــْذَبَ أَوْ أُغـــــَرَّا
*
فقالَ له محمّدُ بنُ الأَشعثِ : إِنّكَ لا تُكذَب ولا تُغَّرُ، فلا تَجزعْ ، إِنّ
القومَ بنو عمِّكَ وليسوا بقاتِليكَ ولا ضائريكَ
(7) . وكانَ قد أُثْخِنَ بالحجارةِ
____________
(1) في «م » وهامش «ش » : فقطع .
(2) نصل : أي زال . انظر«الصحاح - نصل - 5: 1830».
(3) في هامش «ش » و«م »: عاتقه .
(4) في هامش «ش » و«م »: وان .
(5) في هامش «ش » و«م »: ويخلط .
(6) في هامش «ش » و«م » : ذر.
(7) في «م » وهامش «ش » : ولاضاربيك .
( 59)
وعجزَ عنِ القتالِ ، فانبهرَ وأَسندَ ظهرَه إِلى جنب تلكَ الدّارِ، فأَعادَ ابنُ
الأَشعثِ عليه القولَ : لكَ الأَمانُ ، فقالَ : آمِنٌ أَنا؟ قالَ : نعم . فقالَ
للقوم الّذينَ معَه : لي
(1) الأمانُ ؟ فقالَ القومُ له : نعم ، إلاّ عبيدَاللّه بن
العبّاسَِ السُّلميّ فإِنّه قالَ : لا ناقةَ لي في هذا ولا جَمل ، وتنحّى؟ فقالَ
مسلمٌ : أَما لو لم تُؤَمِّنوني ما وضعتُ يدي في أَيديكم .

وأُتِيَ ببغلةٍ فحُمِلَ عليها، واجتمعوا حولَه وانتزعوا سيفَه ، فكأَنّه
عندَ ذلكَ أيِسَ
(2) من نفسهِ ودمعتْ عيناه ، ثمّ قالَ : هذا أوّلُ الغدرِ،
قالَ له محمّدُ بنُ الأشعثِ : أَرجوألاّ يكونَ عليكَ باْسٌ ، فقالَ : وما هوإلاّ
الرّجاءُ ، أَينَ أمانُكم ؟ إِنّا للهِّ وِانّا إِليه راجعونَ ! وبكى ، فقالَ له عبيدُاللّه
ابن العبّاسِ السُّلمي :إنّ من
(3) يَطلبُ مثلَ الّذي تطلبُ ، إِذا نزلَ به مثلُ
الّذي نزلَ بكَ لم يبك . قالَ : إنِّي واللّهِ ما لنفسي بكيت ، ولا لها منَ القتل
أرثي ، ِوان كنتُ لم أحبّ لها طرفةَ عينٍ تلفاً، ولكنْ
(4) أبكي لأهلي
المُقبِلينَ إِليّ ، أَبكي للحسينِ عليه السّلامُ والِ الحسين .

ثمّ أقبلَ على محمّدِ بنِ الأشعثِ فقالَ : يا عبدَاللّهِ إِنِّي أَراكَ واللّهِ
ستعجزُ عن أَماني ، فهل عندَكَ خيرٌ ؟ تَستطيعُ أَن تَبعثَ من عندِكَ رجلاً
على لساني أَن يُبلِّغَ حسيناً؟ فإنِّي لا أَراه إِلاّ قد خرجَ إِليكمُ اليومَ مقبلاً
أو هو خارجٌ غداً وأَهل بيتهِ ، ويقولَ له : إِنّ ابنَ عقيلٍ بعثَني إِليكَ وهو
أسيرٌ في أيدي القوم ، لا يرى أَنّه
(5) يمسي حتّى يُقتَل ، وهو يقولُ :
____________
(1) في هامش «ش » : الّي.
(2) في هامش «ش » و«م » : أحس .
(3) في هامش «ش » و«م »: ان الذي .
(4)في هامش «ش » و«م »: لكني .
(5)في هامش «ش » : ان .
( 60)
ارجعْ فداكَ أبي وأُمِّي بأهلِ بيتِكَ ولا يَغُرَّكَ
(1) أهلُ الكوفةِ، فإِنّهم
أصحابُ أَبيكَ الّذي كانَ يتمنّى فراقَهم بالموتِ أوِ القتلِ ، إِنّ أهلَ
الكوفة قد كَذَبوكَ وليسَ لمكذوب
(2) رأْيٌ . فقالَ ابنُ الأشعثِ : واللّهِ
لأفعلَنَ ولأعْلِمَنَّ ابنَ زيادٍ أنِّي قد آمنْتُكَ.

وأقبلَ ابنُ الأشعثِ بابنِ عقيلٍ إِلى باب القصرِ، فاستاْذنَ فأُذِنَ
له فدخلَ على ابنِ زيادٍ فأَخبرَه خبرَ ابنِ عقيلٍَ وضَرْبَ بَكْرٍ إِيّاه وما كانَ
من أَمانِه له ، فقالَ له عبيدُاللهِّ : وما أنتً والأمانَ ، كأنّا أرسلناكَ لِتُؤمنَه ! إِنمّا
أرسلناكَ لتأْتينا به ، فسكتَ ابن الأَشعثِ ، وانتُهِيَ بابنِ عقيلٍ إِلى بابِ
القصرِ وقدِ اشتدَّ به العطشُ ، وعلى باب القصرِ ناسٌ جلوسٌ
ينتظرونَ الإذنَ ، فيهم عُمارةُ بنُ عقبة بن أبي مُعَيْطٍ ، وعمرُو بن حُرَيثٍ ،
ومسلمُ بنُ عمرو، وكثيرُ بنُ شهابِ ؛ ِواذا قُلّةٌ باردةٌ موضوعة على الباب ،
فقالَ مسلمٌ : اسقوني من هذا المَاء ِ، فقالَ له مسلمُ بنُ عمرو: أتَراها؟َ ما
أبردَها! لا واللّهِ لا تذوقُ منها قطرةً أبداً حتّى تذوقَ الحميمَ في نار ِجهنّمَ .
فقالَ له ابنُ عقيلٍ رضيَ اللّهُ عنه : ويلَكَ مَنْ أنت ؟ قالَ : أنا مَنْ عَرفَ
الحقَّ إِذ أنكرتَه ، ونصحَ لإمامِه إِذ غَشَشْتَه ، وأطاعَه إِذ خالفتَه ، أنا مسلمُ
ابنً عمرو الباهليّ ، فقالَ له مسلمُ بنُ عقيلٍ : لأمِّكَ الثّكلُ ، ما أجفاكَ
وأفظَّكَ وأقسى قلبَكَ ! أنتَ يا ابنَ باهلةَ أولى بالحميمِ والخلودِ في نارِ
جهنّمَ منِّي . ثمّ جلسَ فتساندَ إِلى حائطٍ.
وبعثَ عمرُو بنُ حُرَيثٍ غلاماً له فجاءه بقُلّةٍ عليها مِنديلٌ وقدح ،
____________
(1) في «م » وهامش «ش » : يغررك .
(2) في هامش «ش» : لمن كذب.
( 61)
فصبَّ فيه ماءً فقالَ له : اشربْ ، فأخذَ كلما شَربَ امتلأ القدحُ دماً
مِنْ فيه فلا يقدر أن يشربَ ، ففعلَ ذلكَ مرّةً ومرّتينِ ، فلمّا ذهبَ في
الثّالثةِ ليشربَ سقطتْ ثَنِيَّتاه في القدحِ ، فقالَ : الحمدُ للّهِ ، لوكانَ لي
مِنَ الرِّزقِ المقسوم شربتهُ .
*
وخرجَ رسول ابَنِ زيادٍ فأمرَ بإِدخالهِ إِليه ، فلمّا دخلَ لم يستَمْ
عليه بالأمرةِ، فقالَ له الحَرسِيُّ : ألا تُسلَمُ على الأميرِ؟ فقالَ : إِن كانَ
يُريدُ قتلي فما سلامي عليه ؟ وِان كانَ لا يُريدُ قتلي لَيَكثُرَنَ سلامي
عليه . فقال له ابنُ زيادٍ : لَعَمْري لَتُقْتَلَنَّ ؛ قالَ : كذلكَ ؟ قالَ : نعم ؛
قالَ : فدَعنْي أُوصِ
(1) إِلى بعضِ قومي ؛ قالَ : افعلْ ، فنظرَ مسلمٌ إِلى
جُلَسائه وفيهم عُمَرُ بن سعدِ بنِ أبي وقّاصٍ فقالَ : يا عمر، إِنّ بيني
وبينَكَ قرابةً، ولي إِليكَ حاجة، وقد يَجِبُ لي عليكَ نُجْحُ حاجتي وهي
سِر؛ فامتنعَ عُمَرُ أن يَسمعَ منه ، فقالَ له عُبيدُاللّهِ :ِ لمَ تَمتنعُ أن تنظرَ في
حاجةِ ابنِ عمِّكَ ؟ فقامَ معَه فجلسَ حيثُ يَنظرُ إِليهما ابنُ زيادٍ ، فقالَ
له : إِنَ عليَّ ديناً بالكوفةِ استدنتُه منذُ قَدمتُ الكوفةَ سبعمائةِ دِرهمٍ »
فاقْضِها عنِّي ، ِواذا قُتِلْتُ فاستوهِبْ جُثّتي من ابنِ زيادٍ فوارِها ، وابعثْ إِلى
الحسينِ من يَرُدُّه ، فإِنِّي قد كتبتُ إِليه أُعْلِمُه أنّ النّاسَ معَه ، ولا أراه
إلاّ مُقبلاًَ؟ فقالَ عُمَرُ لابنِ زيادٍ : أتَدري أيُّها الأميرُ ما قالَ لي ؟ إِنّه ذَكرَ
كذا وكذا، فقالَ له ابنُ زيادٍ : إِنّه لا يَخونُكَ الأمين ولكنْ قد يؤتَمَنُ
(2)
الخائنٌ ! أمّا مالُكَ فهو لكَ ولسنا نَمْنَعُكَ أن تَصنعَ به ما أحببتَ ، وأمّا
جُثّتًه فإِنّا لا نُبالي إِذا قتلْناه ما صُنِعَ بها، وأمّا حسينٌ فإِنْ هو لم يُرِدْنا لم
____________
(1) في «ش » وهامش «م » : أوصي .
(2) في «م » وهامش «ش »: يُتمَن .
( 62)
نرده .

ثمّ قالَ ابنُ زيادٍ .إِيهٍ يا ابنَ عقيلٍ ، أَتيتَ النّاسَ وهم جميعٌ
فشتَّتَّ بينَهم ، وفرّقتَ كلمتَهم ، وحملتَ بعضَهم على بعضٍ .

قالَ : كلاّ، لستُ لذلكَ أتيتُ ، ولكنّ أهلَ المصرِ زعموا أنّ
أباكَ قتلَ خيارَهم وسفكَ دماءهم ، وعملَ فيهم أعمالَ كِسرىَ
وقَيْصَر، فأتيْناه لنأْمرَ بالعدلِ ، وندعوَ إِلى حكمِ الكتابِ .

فقالَ له ابن زيادٍ : وما أنتَ وذاكَ يا فاسقَ ؟ِ َلم لَمْ تَعملْ فيهم بذاك
إِذ أَنتَ بالمدينةِ تشربُ الخمرَ؟

قالَ : أنا أَشربُ الخمرَ؟! أَمَ واللّهِ إِنّ اللهَّ لَيَعلم أَنّكَ تَعلمُ أَنّكَ غيرُ
صادقٍ ، وأنَّكَ قد قلتَ بغيرعلمٍ ، وانِّي لستُ كما ذكرتَ ، وانّكَ
أحقُّ بشرب الخمرِ منِّي ، وأَوَلى بها من يَلِغُ في دماءِ المسلمينَ وَلْغاً،
فيقتلُ النّفس الّتي حرّمَ اللّه قتلَها، ويسفكُ الدّم الحرامَ على الغصب
والعداوةِ وسوء الظّنِّ ، وهو يلهو ويلعبُ كأَنْ لم يصنعْ شيئاً .

فقالَ له ابنُ زيادٍ : يا فاسقُ ، إِنّ نفسَكَ تُمنِّيكَ ما حالَ اللّه دونَه ،
ولم يرك الله له أهلاً.

فقالَ مسلمٌ : فمَنْ أَهلُه إِذا لم نكنْ نحن أَهلَه ؟!

فقالَ ابنُ زيادٍ : أَميرُ المؤمنينَ يزيدُ .

فقالَ مسلمٌ : الحمدُ للّهِ على كلِّ حالٍ ، رضيْنا باللّهِ حَكَماً . بينَنا
وبينَكم.

فقالَ له ابنُ زيادٍ : قتلَني اللّه إن لم أَقتلْكَ قِتلةً لم يُقتَلْها أحدٌ في .
(63)
الإسلام منَ النّاسِ.

قالَ له مسلمٌ : أَما إِنّك أَحقًّ مَنْ أَحدثَ في الإسلام ما لم
يكنْ ، وِانّك لاتَدَعُ سوءَ القِتلةِ وقُبحَ المُثلةِ وخبثَ السِّيَرةِ ولُؤْمَ
الغلبةِ.

فأَقبل ابن زيادٍ يشتمُه ويشتمُ الحسين وعليّاً وعقيلاً عليهم
الصّلاةُ والسّلامُ ، وأَخذَ مسلمٌ لا يُكَلِّمُه .
*
ثمّ قالَ ابنُ زيادٍ : اصعدوا به فوقَ القصرِ فاضربوا عُنقَه ، ثم
أتبعوه جسدَه . فقالَ مسلمُ بنُ عقيلٍ رحمة اللهِ عليهِ : لو كانَ بيني
وبينَكَ قرابةٌ ما قَتَلْتَني ؛ فقالَ ابنُ زيادٍ : أَينَ هذا الّذي ضَربَ ابنُ عقيلٍ
رَأْسَه بالسّيفِ ؟ فدًعِيَ بكرُ بنُ حُمرانَ الأحمريّ فقالَ له : اصعدْ فلتكنْ
(1)
أنتَ الّذي تضربُ عُنقَه . فصُعِدَ به وهو يُكبِّرُ ويَستغفرُ اللهَ ويُصلِّي على
رسولِه ويقولُ : اللّهمّ احكمْ بينَنا وبينَ قومٍ
(2) غَرُّونا وكَذَبونا وخَذَلونا.
وأَشرفوا به على موضع الحَذّائيينَ اليومَ ، فضُرِبتْ عُنقُه وأتبعَ (جسدُه
رَأُسَه)
(3)
.
وقامَ محمّدُ بنُ الأشعثِ إِلى عُبيدِاللهِّ بنِ زيادٍ فكلّمهَ في هانئ بنِ عُروةَ
فقالَ : إِنّكَ قد عرفتَ منزلةَ هانئ في المصرِ وبيته في العشيرةِ، وقد
علمَ قومُه أنِّي أنا وصاحِبَيَّ سُقناه إِليكَ ، فأَنْشُدُكَ اللّهَ لمّا وهبتَه لي ، فإِنَي
أكرهُ عداوةَ المصرِ وأَهلِه . فوعدَه أَن يفعلَ ، ثمّ بدا له فأَمرَ بهانئ في
____________
(1) كذا في النسخ ، وهو استعمال نادر، والاولى «فكن » . كما في الطبري 5: 378 ، ومروج
الذهب 3 : 69 .
(2) في هامش «ش » و«م »: قومنا.
(3) في هامش «ش » و«م » : رأسه جسده .
( 64)
*
الحالِ فقالَ : أَخرِجوه إِلى السُّوقِ فاضربوا عنقَه . فأخرِجَ هانئ حتّى
انتهِيَ به إِلى مكانٍ منَ السُّوقِ كانَ يُباعً فيه الغنمُ ، وهو مكتوفٌ ، فجعلَ
يقولُ : وامَذْحِجَاه ! ولا مَذْحِجَ لي اليومَ ، يا مَذْحِجَاه ! يا مَذْحِجَاه ! وأَينَ
مَذْحِجُ ؟! فلمّا رأَى أنّ أحداً لا ينصرُه جَذبَ يدَه فنزعَها مِنَ الكِتافِ ،
ثمّ قالَ : أَما من عصاً أَوسِكِّين أوحجرٍ أَو عظمٍ يُحاجِزُ به رجلٌ عن
نفسِه ؟ وَوثبوا إِليه فشدُّوه وَثاقاً، ثمّ قيلَ له امدُدْ عُنقَكَ ، فقالَ : ما أَنا بها
سخيٌّ ، وما أَنا بمُعِينكم على نفسي ، فضربَه مولىً لعُبيدِاللّهِ - تركيٌ يقُالُ له
رُشَيد - بالسّيفِ فلم يَصنعْ شيئاً، فقالَ هانئ : إِلى اللهِ المعَادُ، اللّهمّ إِلى
رحمتِكَ ورضوانِكَ ؟ ثمّ ضربَه أُخرى فقتلَه .

وفي مسلمِ بنِ عقيلٍ وهانئ بن عروة ـ رحمة الله عليهما ـ
يقولُ عبدُاللهّ بن الزّبيرِ الأَسديّ :
إِنْ كُنْتِ لا تَدْرِيْنَ مَا اْلمَوْتُ فَانْظُري * إِلى هانئ فِيْ السُّوْقِ وَابْنِ عَقِيْلْ
إِلــى بــــَطَلٍ قَدْ هَشَّمَ السَّيــْفُ وَجْهَه * وآخَــرَ يَهْوِيْ مِنْ طَمَارِ(1) قَتِيْلُ
أصـابـَهما أَمـْــرُ الأَمِيــرِ فأَصْبَـحَــا * أحَــادِيْثَ مــَنْ يـَسْرِيْ بكُلِّ سَبِيْلِ
تَرَيْ جَسَدَاً قَدْ غَيَّرَاْلموتُ وَجْههُ (2) * ونَضــْحَ دَم قــَد ْسَـالً كُـلَّ مَسِيْلِ
فـَتَىً هـُوَ أَحْيــَا مــــِنْ فَتــَاةٍ حَــــيِيّة * وأقْطَـع مِـنْ ذًيْ شـَفْرَتَيْنِ صَقِيْلٍِ
أيَرْكَبُ أسْمَاءُ(3) الْهَمَالِيْجَ (4) امِنَا * وَقــَــدْ طَلـَبَـتْهُ مَذحــِجٌ بِذُحـُــوْلًِ
____________
(1) في هامش «ش » و «م »: يقال هوى فلان من طَمَارِ اذ سقط من مكان عال . قال
الاصمعي : انصب عليه من طمار اي من مكان عال مثل قَطام .
(2 ) في «م » وهامش «ش » : لونه .
(3) هوأسماء بن خارجة أحد الثلاثة الذين ذهبوا بهانئ إلى ابن زياد.
(4) الهملاج : من البراذين الحسنة السير في سرعة وبخترة .
«تهذيب اللغة - هملج - 6 :
514 ، لسان العرب 2 : 393» .
( 65)
تُطِيْفُ حَوَالَيْهِ مُرَادٌ وكلهُمْ * عَلَى رِقْبَةٍ (1) مِنْ سَائِلٍ وَمَسُوْلِ
فَإِنْ أَنـْتُمُ لَمْ تَثْـأَرُوْا بِأَخِيْكُمُ * فَكُوْنُــوْا بَغَــايَــا أُرْضـِيـَتْ بِقَلِيْل
*
ولمّا قُتِلَ مسلمٌ وهانئ - رحمةُ اللّهِ عليهما- بعثَ عُبيدُاللّهِ بن زيادٍ
برؤوسِهما معَ هَانئ بنِ أبي حيَّةَ الوادعيّ والزُّبير ِبنِ الأرْوَحِ التّميميّ إِلى يزيد
ابن معاويةَ، وأمرَ كاتبَه أن يكتبَ إلى يزيدَ بما كانَ من أمرِ مسلمٍ
وهانئ ، فكتبَ الكاتبُ - وهو عمرو بنُ نافعٍ - فأطالَ ، وكانَ أوّلَ من
أطالَ في الكَتْب ، فلمّا نظرَ فيه عُبيدُاللهِ تكرّهَه
(2) وقالَ : ما هذا التّطويلُ ؟
وما هذه الفُصَول
(3)؟ اكتبْ :

أَمّا بعدُ: فالحمدُ للّهِ الّذي أَخذَ لأميرِ المؤمنينَ بحقِّه ، وكفاه مُؤْنةَ
عدوه ؛ أخبرُ أميرَ المؤمنينَ أنّ مسلمَ بنَ عقيلٍ لجأ إِلى دارِ هانئ بنِ عروةَ
المراديِّ ، وأَنّي جعلتْ عليهما العيونَ ودسستُ إِليهما الرِّجالَ وكِدتُهما حتّى
استخرجتُهما ، وأمكنَ اللّهُ منهما ، فقدّمتُهما وضربتُ أعناقَهما ، وقد بعثتُ
إِليكَ برؤوسِهما معَ هانئ بنِ أَبي حَيَّةَ والزُّبيربنِ الأَرْوَحِ التّميمِّي ، وهما من
أهلِ السّمعِ والطّاعةِ والنّصيحةِ، فليسأَلْهما أَميرُ المؤمنينَ عمّا أحب
من أمرِهما ، فإِنّ عندَهما علماً وصدقاً وورعاً ، والسّلامُ .

فكتبَ إِليه يزيدُ :

أمّا بعدُ: فإِنّكَ لم تَعْدُ أن كنتَ كما أُحبُّ ، عملتَ عملَ
الحازمِ ، وصُلْتَ صَوْلةَ الشُّجاعِ الرّابطِ الجَأْشِ ، وقد أغنيتَ وكفيت
____________
(1) في هامش «ش» : اي هم يراقبون احوال من يسألهم ويسألونه عن هذه الواقعة .
(2) في «م» وهامش «ش» : كرهه .
(3) في الطبري : الفضول ، ولكل وجه.
(66)
وصدّقْت ظنِّي بك ورأْيي فيك، وقد دعوتُ رسولَيْكَ فسألتهما وناجيتهما،
فوجدتُهما في رأْيهما وفضلِهما كما ذكرتَ ، فاستوصِ بهما خيراً، وِانّه
قد بلغني أنّ حسيناً قد توجّهَ إِلى
(1) العراقِ فضَعِ المنَاظِرَ والمسَالحَ
واحترِسْ ، واحبسْ على الظِّنّةِ واقتُلْ على التُّهمةِ ، واكتُبْ إِليَّ فيما يَحدثُ من
خبرٍ إن شاءَ اللّهُ
(2).
فصل

وكانَ خروجُ مسلمِ بنِ عقيلٍ - رحمةُ اللّهِ عليهما- بالكوفةِ يومَ
الثُّلاثاءِ لثمانٍ مضينَ من ذي الحجّةِ سنةَ سِتِّينَ ، وقَتْلُه يَومَ الأربعاءِ
لتسعٍ خلونَ منه يومَ عرفة؛ وكانَ توجُّهُ الحسينِ عليه السّلامُ من
مكّةَ إِلى العراقِ في يومِ خروجِ مسلمٍ بالكوفةِ- وهو يومُ التّرويةِ-
بعدَ مُقامِه بمكّةَ بقيّةَ شعبانَ
(3) وشهرَ رمضانَ وشوّالاً وذا القعدةِ وثمانيَ
ليالٍ خلونَ من ذي الحجّةِ سنةَ سِتِّينَ ، وكانَ قدِ اجتمعَ إِليهِ مدّةَ مُقامِه
بمكّةَ نفرٌ من أهلِ الحجازِ ونفرٌ من أَهلِ البصرة، انضافوا إِلى
أهلِ بيتهِ ومَواليه .
____________
(1) في «م» وهامش «ش» : نحو.
(2) كل ما مر في هذا الفصل فهو في تاريخ الطبري 5 : 347- 381، ومقاطعه في فتوح
ابن اعثم 5: 31 الاخبار الطوال : 227 ، وقعة الطف : 77، مقاتل الطالبيين : 95 ،
مقتل الخوارزمي 1 : 180 ، مناقب ابن شهرآشوب 4 : 87، ونقله العلامة المجلسي في
البحار 44 : 324 | 2 .
(3) مبدؤه ليلة الجمعة لثلاث مضين من شعبان ، وهويوم دخوله مكة.