مريم بنت عمران في القرآن والحديث
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (وَإِذْ قَالَتْ الْمَلَائِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) يَامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ) [آل عمران/ 43-45]
حديث الملائكة لها باصطفائها وتطهيرها دلت هذه الآيات الثلاث البينات من سورة آل عمران بكل صراحة ووضوح على ما لمريم بنت عمران من المنازل السامية والكرامات الخاصة العالية لها عند الله سبحانه، وعند قومها من بني إسرائيل، فالآية الأولى من هذه الآيات الثلاث دلت على ان مريم كانت محدثة قد حدثتها الملائكة ونادتها باسمها تبشرها بالبشارة العظمى وهي اصطفاء الله تعالى لها، وتطهيرها، واصطفاؤها أخيراً على نساء العالمين، ومعنى الاصطفاء هو الاختيار. وقد جاءت كلمة اصطفاك مكررة مرتين، ولا بد أن يكون التكرار لحكمة.
الحكمة في تكرار اصطفاءها وقد ورد عن أبي جعفر الباقر~ أن المراد من الاصطفاء الأول هو إن الله اختارها من ذرية الأنبياء، أما الاصطفاء الثاني فهو ان الله اختارها لولادة عيسى من غير فحل بعد أن طهرها من السفاح فخرج بهذا من أن يكون تكراراً بلا حكمة(1)، وبهذا نعلم أن كلاً من الاصطفائين يهدف إلى معنى مستقل غير المعنى الآخر وهما معاً غير التطهير من السفاح أو التطهير من الادناس والأقذار التي تعرض للنساء(2) وهذا كله يدل على أن مريم من المقربات عند الله، وقد شاءت حكمته زيادة قربها إليه فأعرب عن ذلك بالآية الثانية، حيث أمرها على لسان ملائكته بأن قالوا لها: يا مريم أقنتي لربك وأسجدي وأركعي مع الراكعين، إذ أن القنوت لله والركوع والسجود له تبارك وتعالى من أهم الأسباب المقربة للعبد إلى ربه. وأهم مظهر للقرب هو السجود ثم الركوع، وقد ورد: إن أقرب ما يكون العبد من الله عز وجل وهو ساجد(3) ولعل هذا هو السر في تقديم الأمر لها بالسجود قبل الركوع بالرغم من تقديم الركوع على السجود بالنسبة إلى الترتيب فذلك من وظائف النبيi وهو الذي يبين كيفية العبادة بأمر الله، بل ناظرة إلى أهم المقربات للعبد إلى ربه، وأهمها أولاً: العبادة لله والإخلاص له فيها، وهذا هو المراد من قوله تعالى "اقْنُتِي لِرَبِّكِ" أي اعبديه واخلصي له وحيث أن أهم مظهر للعبادة والإخلاص هو السجود أولاً والركوع ثانياً لذا قال "وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ"(4). وسمتها أمها بـ (مريم) لأن مريم في اللغة العربية العابدة والخادمة، لذلك اختارت لها أمها هذا الاسم بقولها: "وإني سميتها مريم"(5) ومريم مات أبوها عمران وهي حمل في بطن أمها، ثم ماتت أُمها واسمها (حنة) بعد مدة يسيرة من ولادتها فكفلها زكريا زوج خالتها من جهة ومن عشيرتها من بني إسرائيل من جهة أخرى، ومما يدل على مقامها السامي عند عشيرتها وقومها من بني إسرائيل اختصامهم فيمن يقوم بكفالتها، إذ كل واحد منهم أراد وأحب أن يقوم هو بكفالتها، وهذا ما أشارت إليه الآية الثالثة وهي قوله تعالى مخاطباً رسوله الأعظمi "ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ" قال الطبرسي في (مجمع البيان) ج1 ص44 ذلك إشارة إلى ما تقدم ذكره من حديث مريم وزكريا ويحيى "مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ" أي من أخبار ما غاب عنك وعن قومك "نُوحِيهِ إِلَيْكَ" أي نلقيه عليك معجزة وتذكيراً وتبصرة وموعظة وعبرة، ووجه الأعجاز فيه هو أن ما غاب عن الإنسان يمكن أن يحصل عليه بدراسة الكتب أو التعلم أو الوحي، والنبيi لم يشاهد هذه القصص ولا قرأها من الكتب ولا تعلمها من أحد إذ كان نشؤه بين أهل مكة ولم يكونوا أهل كتاب فوضح الله أنه أوحي إليه بها وفي ذلك صحة نبوته. قال (صاحب الميزان) ج3 ص206: وأما ما يوجد من ذلك عند أهل الكتاب فلا عبرة به لعدم سلامته من تحريف المحرفين كما أن كثيراً من الخصوصيات المقتضية في قصص زكريا غير موجودة في كتب العهدين على ما وصفه الله في القرآن، لذلك قال تعالى "ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ"
تقارع بني إسرائيل فيمن يقوم بكفالتها جاء في تفسير (القمي) ج1 ص102 قال: لما ولدت مريم اختصم آل عمران فيها فكلهم قالوا: نحن نكفلها فخرجوا وضربوا بالسهام بينهم فخرج سهم زكريا فكفلها. وفي هذه الآية دلالة على أن للقرعة مدخلاً في تعين الحقوق، وقد قال الإمام الصادق~: ما تقارع قوم ففوضوا أمورهم إلى الله تعالى إلا خرج بينهم المحق. وقال~: أي قضية أعدل من القرعة إذا فوض الأمر إلى الله تعالى يقول "فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ" [الصافات/ 141]. والحديث في (مجمع البيان) ج1 ص441 وفي كتاب (المحاسن) لأبي جعفر البرقي ص494.
نظير القرعة الاستخارة ونظير القرعة التي يرجع بها إلى الله تعالى في تمييز الحقوق الاستخارة بالقرآن أو السبحة المتعارفة عند الشيعة الإمامية تبعاً لأئمتهمc حيث قد وردت عدة أخبار عن أئمة الهدى في استعمال الاستخارة بالقرآن أو السبحة أو غيرها عند الحيرة والتردد في مقام العمل(6). حتى ورد عن الإمام الصادق~ أنه قال: إن الله قال: من شقاء عبدي أن يعمل الأعمال ولا يستخيرني. وحقيقة ذلك هي أن الإنسان إذا أراد أن يقدم على أمر ينبغي له أن يعرف أولاً وجه المصلحة فيه، فإن عرف ذلك قدم عليه متوكلاً على الله وإذا كان متردداً في وجه المصلحة فيه فله أن يستشير ذوي العقول والإيمان والتجربة فإذا رجحوا له اقدم وإلا ترك واحجم، وحيث أنه غالباً لا يتيسر للإنسان من يستشيره في أموره التي تحدث له مرة بعد أخرى فيرجع فيها إلى الله الذي هو بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير فيستخيره في كتابه المجيد أو في السبحة أو غيرها مع التوكل عليه والدعاء له في أن يختار له ما فيه الصلاح، ومعلوم أن الله لا يغش من استنصحه، فبعد الاستخارة ونتيجتها بالفعل أو الترك يخرج الإنسان عن الحيرة والتردد فيكون بإقدامه واحجامه على بصيرة من أمره فيما إذا كان مخلصاً بانقطاعه إلى الله تعالى، وعلى كل ان الاستخارة هي نوع من أنواع القرعة التي كانت مستعملة في الأمم الماضية، وقد استعملها زكريا مع بني إسرائيل عند اختصامهم فيمن يقوم بكفالة مريم، كما استعملت في نبي الله يونس بن متي مع جماعة اخرين كانوا قد ركبوا في السفينة التي اعترضها الحوت وإلى ذلك أشار تعالى بقوله: "فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ" وقد ورد عن الإمام الباقر~ أنه قال: أول من سوهم عليه مريم بنت عمران، ثم تلا ~ : "وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ" والسهام ستة، ثم استسهموا في يونس….الخ(7). فبالقرعة في مريم خرج سهم زكريا فقام بكفالتها وقد أظهر الله لها كرامات عديدة لزكريا. كرامات مريم بعد كفالتها منها: أنه كان إذا دخل عليها محرابها وجد عندها فاكهة الشتاء في أوان الصيف. وفاكهة الصيف في أوان الشتاء غضاً طرياً وهو قوله تعالى: "كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ"(8) ]آل عمران/ 37]. ومن كراماتها: أنها كانت قد خالفت عادة النساء في الطاعة والعبادة لأن النساء -الصالحات منهن فضلاً عن غيرهن- لا يأخذن بالطاعة والعبادة إلا بعد مضي الشباب، ومريم أخذت في العبادة والاعتكاف عن الناس وهي طفلة صغيرة، حتى روى شيخنا الطبرسي في (مجمع البيان) ج2 ص436 عن ابن عباس أنه قال: لما بلغت مريم تسع سنين صامت النهار وقامت الليل وتبتلت حتى غلبت الأحبار. بداية تكليف الذكور والإناث بالواجبات والحال ان بناتنا اليوم –في عرف كثير من الناس- أن بنت التسع سنين فما فوق لا يجب عليها شيء وتعتبر طفلة غير مكلفة، في حين أن الشرع الشريف يكلف البنت بالواجبات الشرعية منذ إكمالها التسع سنين من عمرها فيجب عليها الحجاب وتجب عليها الصلاة والصيام وسائر الواجبات الشرعية وأما الابن فيكلف بالواجبات بإكماله الخامسة عشر من عمره وهذا أقصى حد، ولو ظهرت عليه آثار البلوغ قبل هذا السن من احتلام أو ظهور شعر العانة فانه يصبح مكلفاً بالواجب عند ذلك. وجوب تربية الأولاد كما أن الشارع يوجب على آباء وأولياء الأولاد ذكوراً أو إناثاً أن يقوموا بتربيتهم وتعليمهم بما يلائم مداركهم من العقائد الإسلامية، والأخلاق والعبادات منذ نعومة أظفارهم حتى ينشأوا عليها نشأة صالحة، وقد ورد عن الإمام الصادق~ أنه قال: دع ابنك يلعب سبع سنين، ويؤدب سبعاً، وألزمه نفسك سبع سنين فإن فلح وإلا فلا خير فيه، وهذا المعنى وارد عن النبيi وعلي أمير المؤمنين~ كما ورد عن الإمام الصادق ~ (9) ويقول الشاعر العربي:- إن الغصون إذا قومتها اعتدلت ولا تلين إذا كانت من الخشب والتربية الصالحة هي من أهم حقوق الأولاد على الوالدين وبها نجاتهم ونجاة أولادهم، وإن تركوا وأهملوا كما هو شأن أكثر الناس –خصوصاً في هذا الزمان- فقد هلك الأولاد والوالدان، ولقد أجاد من قال: شبابنا من طيشه إن لم نوجه سيره***في كل وادٍ قد سلك أهلكنا كما هلك(10) . فمريم بنت عمران بالرغم من وفاة أبيها وهي في بطن أمها، ووفاة أمها وهي صغيرة فقد قام بنو إسرائيل بتربيتها من أول نشأتها وبالأخص زكريا زوج خالتها وهي أيضاً كانت مسددة ومؤيدة بالتأييد الإلهي لعلمه جل وعلا بطيب نفسها وطهارة مولدها حتى أن زكريا كان يتعجب من حالها ورغبتها في العبادة لله حال صباها ولم تزل معززة ومكرمة عند بني إسرائيل عامة وزكريا خاصة قد حفظوا فيها أباها عمران، باعتبار أن المرء يحفظ في ولده، وبهذا الحديث استشهدت الصديقة فاطمة الزهراء في خطبتها الكبيرة عند احتجاجها على الأنصار…الخ. فبنوا إسرائيل قد حفظوا عمران من بعده في أبنته مريم وقد عاشت في أوساطهم منذ ولادتها ونشأتها الأولى عزيزة مكرمة حتى إذا بلغت مبلغ النساء اكرمها الله تعالى بعيسى فكان آية من آياته، كما قص ذلك سبحانه في سورة مريم. خوارق العادات في ولادة عيسى قال تعالى: "وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذْ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا" [مريم/ 17-18]. استعرض الله تعالى في هاتين الآيتين وما بعدهما من الآيات كيفية خلقه لعيسى وحمل أمه به وكيفية ولادته وما في ذلك من عبر، وذلك أن مريم خرجت ذات يوم من أهلها إلى مكان شرقي من جهة الشرق قيل لتغسل رأسها وتمشطه، وقيل لتنفرد فيه للعبادة لئلا تشغل بهم، هذا وقد اتخذت من دون أهلها حجاباً يكون ستراً بينها وبينهم، فتمثل لها جبرئيل في صورة شاب جميل فلما نظرت إليه استعاذت بالله تعالى منه حيث "قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَانِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا" أي اعتصم بالرحمن منك إن كنت من المتقين الخائفين من الله، فأجابها جبرئيل "قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا" فأنكرت ذلك عليه مستغربة لأنه لم يكن في العادة أن تحمل امرأة من غير رجل لذا "قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكْ بَغِيًّا" أي كيف يكون لي ولد ومن أين يكون ولم يخالطني قبل هذا الحين رجل لا من طريق الحلال بالنكاح الشرعي، ولا من طريق الحرام بالزنا، "قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّاً" ثم نفخ جبرئيل في جيبها أي جيب مدرعتها فخلق الله من تلك النفخة عيسى في الوقت، وكمل في تلك الساعة في الرحم، وخرجت من موضع الاستحمام وهي حامل وقصدت مكاناً بعيداً عن أهلها وذلك قوله تعالى: "فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا" أي مكاناً بعيداً، واختلف المفسرون والمحدثون في المكان الذي انتهت إليه مريم وولدت فيه عيسى فقيل: أنه بيت لحم ويقع بناحية المقدس جاء هذا في حديث المعراج ورواه القمي في تفسيره لسورة الإسراء مسنداً عن أبي عبد الله الصادق~ ص3-4 ونقله المجلسي عنه في (البحار) ج14 ص208 وقيل أنه ولد في كربلاء، وقيل في الكوفة على الفرات وقيل غير ذلك، ولعل الأول هو الأصح والله أعلم واختلف المفسرون في مدة حملها والمشهور أن مدة الحمل كانت تسع ساعات، جعل الله لها الشهور ساعات وأنها حملت به في الليل فوضعته بالغداة أي أول النهار "فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا" أي دفعها وألجأها المخاض والطلق إلى جذع النخلة فالتجاءت إليها لتستند عليها ووضعت عيسى، وحينما نظرت إليه قالت: ياليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً، وحق لها أن تقول ذلك لأن وراءها مسؤولية كبرى من قومها من بني إسرائيل ومن زكريا بالخصوص، ومن سائر الناس من أولياء وأعداء فهي في حاجة ماسة إلى الخروج من هذه المآزق الحرجة، ولكن الله يبتلي ويدبر وهو الحكيم العزيز ولذلك جاءتها التسلية في الحال على لسان وليدها الجديد، "فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا" والمنادي لها هو أبنها عيسى، وقيل المنادي لها جبرئيل والأول أنسب لحال المولود مع والدته لأنه ناداها من تحتها وقرئت "مَن تحتها" وقد أنطقه الله ليزيل ما أصاب مريم من الحزن والغم الشديدين إذ لا مصيبة هي أمر وأشق على المرأة الزاهدة المتنسكة –وخاصة إذا كانت عذراء بتولاً- من أن تتهم في عرضها وخاصة إذا كانت من بيت نبوة ورسالة بيت معروف بالعفة والنزاهة في حاضر حاله وسابق عهده لذا اقتضت الحكمة الإلهية أن تنطق لها وليدها تسلية لها "فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا" والسري هنا هو النهر الجاري بعد أن كان قد يبس منذ زمن بعيد "وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا " والتعبير بجذع النخلة يشعر بكونها يابسة غير مخضرة، وقد ورد أن النخلة كانت قد يبست أيضاً منذ دهر طويل فلما مدت يدها إلى الجذع اخضرت وأورقت وأثمرت بالحال وتساقط عليها الرطب الطري وطابت نفسها، ويقال: أمرت بهزها تعاطياً للأسباب، وإلى هذا يشير بعض الأدباء حيث يقول: الــــم تــر أن الله قـال لـــمـريـــم*** وهزي إليك الجذع يساقط الرطب ولو شاء أن تجنيه من غير هزه*** جـنتــه ولكـــن كل شيء له سبب ثم قال لها "فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا" أي فكلي من الرطب واشربي من النهر وقري عيناً بالولد، ولكن هذا كله لا يحل لها مشكلتها وإنما كان لمجرد تسليتها فقط أما حل المشكلة فهي قوله تعالى لها: "فَإِمَّا تَرَيْنَ مِنْ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا" والمراد من الصوم هنا نية الإمساك عن الكلام، وقد أوضحه بقوله "فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا" أي لن أكلم اليوم أحداً من الأنس والمراد من القول التفهيم للسائلين لها بالإشارة لهم في أن يسألوا من المولود وأنه هو الذي يكفيها الجواب ويدافع الخصماء، هذا وقد افتقدها قومها من المحراب وخرجوا في طلبها وإذا هي قد اقبلت تحمله على صدرها "فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَامَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا" والفري الشيء العظيم البديع "يَاأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا" والظاهر أن المراد من قولهم يا أخت هارون أنه رجل من بني إسرائيل صالح كان يضرب به المثل وينسب إليه كل صالح، ولعل المراد به هارون أخو موسى الكليم إذ هي منتسبة إليه في نسبها وقولهم لها يا أخت هارون كما يقال للتميمي يا أخا تميم، وحين سمعت من قومها المعاتبة –وفيهم على ما قيل زكريا، "فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا" فأنطقه الله مرة ثانية "قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِي الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيّ َيَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا" من هو هذا المتكلم؟ "ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ" أي ذلك عيسى بن مريم الذي يختلفون فيه ويتنازعون، فهذا يقول، إنه ابن الله وهم الكثير من النصارى –تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً- وذلك يتهم أمه وينسبها إلى مالا يليق بها وهي البريئة العفيفة وهم الغالب من اليهود، وأن الحق هو هذا، إن الله خلقه بقدرته وأمره وأنه "مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ" (11) [مريم/ 18-35].
العلة في اختلاف كيفية خلق آدم وعيسى وسائر الخلق وبذلك يعلم الناس أن الله على كل شيء قدير وأنه لا يعجزه شيء فتارة يخلق الإنسان من أبوين ذكر وأنثى وبهذا جرت العادة المطردة في خلق بني الإنسان قال تعالى: "يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" [الحجرات/13]. وحيث أن لله خوارق العادات فقد خلق آدم لا من ذكر ولا أنثى بل خلقه من طين مكون من تراب وماء ونفخ فيه من روحه فسواه بشراً، قال تعالى: "إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ(71)فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ(72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ(73)إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ" [ص/72-75]. وتارة يخلق من اُنثى بلا ذكر كما خلق عيسى. قال تعالى: "وَمَرْيَمَ أبْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنْ الْقَانِتِينَ" [التحريم/ 12]. نرى هنا إن الله في خلق آدم: "وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي" وقال في خلق عيسى "فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا" فهل هاتان النفختان تخصان آدم وعيسى فقط؟ الجواب. لا. بل هذه النفخة حاصلة لكل بني الإنسان، قال تعالى: "الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِنْ طِينٍ(7)ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ(8)ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ" [السجدة/ 8-10]. فإذاً النفخة من روح الله لم تخص عيسى وحده حتى توجب القول بأنه ابن الله، ولا تخصه مع آدم فقط، بل تعم بني الإنسان جميعاً. وتارة يخلق من أبوين هرمين آيسين من الذرية كما خلق يحيى وقد استعرض قصته وولادته في سورة مريم قبل استعراض قصة عيسى قال تعالى حاكياً على لسان زكريا لما بشرهُ بيحيى: "قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتْ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنْ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُنْ شَيْئًا" [مريم/ 9-10]. وكذلك كانت ولادة اسحاق من أبوين هرمين وهما إبراهيم وزوجته سارة، قال تعالى في عرض بشارة الملائكة لسارة: "وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71) قَالَتْ يَاوَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ" [هود/72-74]. فهذا كله دال على قدرة الله الباهرة، وأنه لا يعجزه شيء. ويؤيد ذلك ما رواه شيخنا الصدوق في علل الشرائع بسنده عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله ~ لأي علة خلق الله عز وجل آدم من غير أب وأم، وخلق عيسى من غير أب، وخلق سائر الناس من الآباء والأمهات؟ فقال~ ليُعلمَ الناس تمام قدرته وكمالها، ويعلموا أنه قادر على أن يخلق خلقاً من انثى من غير ذكر، كما هو قادر على أن يخلقه من غير ذكر ولا أنثى، أنه عز وجل فعل ذلك ليعلم أنه على كل شيء قدير(12). ومن عظيم قدرته انه أنطق عيسى يوم ولادته مسلياً لأمه وشاهداً على براءتها وحين سمع بنوا إسرائيل كلامه علموا أنه آية من آيات الله تعالى. كما علموا بنطقه عفة مريم ونزاهتها، وكان نطقه خير عذر لأمه، وهو عذر حقيقي(13) لذلك برأها قومها من الزنا وحسن حالها عندهم.
تعبد عيسى ومريم في جبل لبنان، ووفاة مريم في الجبل ولم تزل في بني إسرائيل ملازمة للمحراب وللعبادة حتى نشأ عيسى وكبر. وقبل أن يبعث بالرسالة كان مع أمه يتعبدان في معزل عن الناس وجاء في بعض الكتب: أن عيسى بن مريم قال لأمه: يا أماه أني وجدت مما علمني الله أن هذه الدار دار فناء وزوال، والآخرة هي التي لا تخرب أبداً، تعالي نأخذ من هذه الدنيا الفانية إلى الآخرة الباقية، فانطلقا إلى جبل لبنان فكانا فيه يصومان النهار ويقومان الليل، يأكلان من ورق الأشجار ويشربان من ماء الأمطار فمكثا على ذلك زماناً، ثم ان عيسى هبط ذات يوم من الجبل إلى الوادي يلتقط الحشيش والبقول لإفطارهما فلما هبط عيسى نزل ملك الموت على مريم وهي معتكفة في محرابها فقال: السلام عليك يا مريم الصائمة القائمة…فقالت: وعليك السلام من أنت يا عبد الله؟ فقد اقشعر من صوتك جلدي وارتعدت فرائصي. فقال: أنا الذي لا أرحم الصغير لصغره، ولا اوقر الكبير لكبره، أنا الذي لا استأذن على الملوك ولا أهاب الجبابرة، أنا مخرب الدور والقصور وعامر القبور، والمفرق بين الجماعات والأخوة والأخوات والآباء والأمهات، أنا قابض الأرواح أنا ملك الموت، فقالت: جئتني زائراً أم قابضاً؟ قال: بل جئتك قابضاً فبكت وقالت: أمهلني حتى يجئ ولدي عيسى، فقال: لم أومر بذلك وقبض روحها في الحال، ولما جاء ابنها عيسى وإذا بها ميتة، فقضى عندها وطراً من البكاء، ثم مضى إلى قرية من القرى… وجاء بحنوط وكفن ثم عاد إلى أمه ليقوم بتجهيزها، فرأى عندها جبرئيل وميكائيل والحور العين فتولوا أمرها، فلما كفنها عيسى رمى بنفسه عليها وهو يبكي حتى بكت الملائكة لبكائه فجاء جبرئيل ورفعه عن أمه….الخ(14)
|
1- راجع (مجمع البيان) ج1 ص44 و(البحار) ج14 ص193. 2- هذا المعنى الذي ورد عن الإمام الباقر (ع) مؤيد بعديد من الآيات القرآنية كما أشار إلى ذلك صاحب تفسير (الميزان) ج3 ص205 فراجع لتعلم أن أهل البيت (ع) مع الكتاب والكتاب معهم لن يفترقا. وصرح به كثير من المفسرين كالفخر الرازي في (مفاتيح الغيب) ج2 ص452 وغيره. 3- (الكافي) في الفروع ج3 ص264 في الباب الأول من كتاب (الصلاة) والحديث عن أبي الحسن الرضا (ع) ط طهران، ورواه الفخر الرازي عن النبي (ص) راجع تفسير (مفاتيح الغيب) ج2 ص452. 4- راجع (مفاتيح الغيب) ج2 ص452. وقوله تعالى "مع الراكعين" قيل في معناه صل في جماعة مأمومة وقد ورد هذا عن الجبائي وقيل معناه: اركعي كما يركع الراكعون. والأول هو الأظهر ومنه نعلم تشريع صلاة الجماعة في الأمم الماضية. 5- (مجمع البيان) ج1 ص435 و(مفاتيح الغيب) ج2 ص443. 6- راجع موضوع الاستخارة بتفاصيلها في كتاب (مفتاح الجنات) للسيد محسن العاملي ج1 ص441-442. 7- راجع (مجمع البيان) ج1 ص441. وقد اخطأ كثيراً من توهم من أن الاستخارة من أنواع الازلام التي أمر الله باجتنابها، وأنها رجس، وأنها عمل الشيطان. راجع تحقيق هذا الموضوع في (الميزان) ج6 ص124-126. 8- راجع (مجمع البيان) ج1 ص436. وقد نقل هذه الكرامة عن كلٍ من ابن عباس وقتادة ومجاهد والسدي. وراجع (مفاتيح الغيب) ج2 ص445 للفخر الرازي فقد نقل تواتر الروايات بتلك الكرامة. وراجع (البحار) ج14 ص196 و(قصص الأنبياء) للثعلبي ص20. 9- راجع (مكارم الأخلاق) للطبرسي ص255. 10- راجع كتابنا (قبس من القرآن) الفصل الرابع منه تحت عنوان تأكد وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للنفس والأهل والبيتان لفضيلة المرحوم السيد صادق الهندي. 11- أختلف اليهود والنصارى في عيسى بين الإفراط والتفريط، كما أختلفت هذه الأمة في علي أمير المؤمنين (ع) وبهذا أخبر النبي (ص) علياً (ع) كما أخبر أمته حيث قال: يا علي فيك مثل من عيسى ، ابغضته اليهود حتى بهتوا أمه وأحبته النصارى حتى أنزلوه المنزل الذي ليس له، وقال علي (ع): يهلك فيّ رجلان محبٌ مفرط يفرطني بما ليس فيّ، ومبغض يحمله شنآني (أي بغضي) على أن يبهتني. وهذا الحديث من الأحاديث الشهيرة عن علي (ع) عن النبي (ص) فقد رواه أحمد بن حنبل في مسنده، كما نقله عنه محب الدين الطبري الشافعي في (ذخائر العقبى)= =ص92 ورواه ابن حجر في (الصواعق المحرقة) ص74 وهو الحديث رقم 20 وقد أخرجه عن البزار، وأبي يعلى والحاكم. كما رواه السيوطي في (تاريخ الخلفاء) ص117 ط لاهور عن المصادر الثلاثة السابقة التي نقل عنها ابن حجر، راجع احقاق الحق ج3 ص399 وج7 ص284-296 إلى غير ذلك من المصادر الكثيرة. 12- راجع (علل الشرائع) ج1 ص15. 13- راجع (علل الشرائع) ص79 باب 70 تحت عنوان. العلة التي من أجلها لم يتكلم النبي (ص) بالحكمة حين خرج من بطن أمه كما تكلم عيسى. ونقله عنه المجلسي في البحار ج14 ص215. 14- راجع (شجرة طوبى) ج2 ص165 نقلاً عن مواعظ (البحار). |