فهرس الكتاب

مكتبة فاطمة الزهراء

 

أسْبَابُ انحراف صَحّتِهَا

انتشر خبر مرض السيدة فاطمة الزهراء في المدينة، وسمع الناس بانحراف صحتها، ولم تكن تشكو السيدة فاطمة الزهراء من داء عضال. بل الهموم والمصائب والآلام هي التي ساعدت على استيلاء الهزال والذبول عليها.

وكثرة البكاء على أبيها وعلى حياتها ساعدت على زوال الطراوة والنضارة عن وجهها.

والجفاء والخشونة والمواقف غير المشرفة التي شاهدتها من بعض المسلمين، وانقلاب الأمور، وتبدّل الأحوال وتغيّر الأوضاع المفاجئ السريع في حياتها.

وقد حدث لها بين حائط دارها والباب حوادث أدّت إلى سقوط جنينها، والسياط التي أدمت جسمها الطاهر، وتركت في بدنها آثاراً عميقة.

والضرب المبرّح الذي ألَّم جسمها ونفسها وروحها.

كل هذه الأمور ساهمت في انحراف صحتها، وقعودها عن ممارسة أعمالها وكان زوجها العطوف هو الذي يتولى تمريضها، وتعينه على ذلك أسماء بنت عميس، جاءت نسوة من أهل المدينة لعيادتها وخطبت فيهن تلك الخطبة التي مرت عليك، وأعادت النسوة كلامها على رجالهن، فجاء الرجال يعتذرون، فزيّفت السيدة فاطمة أعذارهم وطردتهم من بيتها.

إن الأمر لا ينتهي هنا، بل انتشر خبر استياء السيدة فاطمة من السلطة، ونقمتها على الذين أزروا تلك السلطة، ونبذوا وراءهم جميع المفاهيم والقيم، وتناسوا كل آية من القرآن نزلت في آل الرسول.

وأعرضوا عن كل حديث سمعوه من شفتي الرسول في حق السيدة فاطمة الزهراء وزوجها وولديها.

وأخيراً تولَّد شيء من الوعي عند الناس، وعرفوا أنهم مخطئون في تدعيم السلطة الحاكمة التي لا تعترف بها أسرة رسول الله (صلى الله عليه وآله).

تلك السلطة التي كان موقفها تجاه بنت الرسول موقفاً غير حسن.

وأخيراً انتبه أفراد السلطة للاستياء العام المستولي على القلوب من سوء تصرفاتهم.

أرادت السلطة تغطية أعمالهم واستدراك ما فات، فقرروا أن يعودوا السيدة فاطمة الزهراء لاسترضائها، وعند ذلك ينتهي كل شيء، وتكون المأساة نسياً منسياً، هكذا تفكروا وتدبروا.

وقد رأينا في زماننا هذا الكثير من المجرمين الذين يعتدون على الأبرياء بالإهانة والتحقير والاستخفاف وأنواع الظلم والتعذيب، ثم يأتون إلى المظلوم ويعتذرون منه سرّاً، وهم يحسبون أنهم يغسلون أعمالهم بالاعتذار.

ولكن السيدة الزهراء كانت تعرف هذه الأساليب وتعلم كل هذه الأمور، وإليك الواقعة كما ذكرها ابن قتيبة في (الإمامة والسياسة ج1 ص14) و(أعلام النساء) ج3 ص1314:

إن عمر قال لأبي بكر (رضي الله عنه): انطلق بنا إلى فاطمة فإنّا قد أغضبناها فانطلقا جميعاً، فاستأذنا على فاطمة فلم تأذن لهما، فأتيا عليّاً فكلَّماه فأدخلهما عليها فلما قعدا عندها حوّلت وجهها إلى الحائط فسلَّما عليها، فلم ترد عليهما السلام، فتكلم أبو بكر فقال: يا حبيبة رسول الله ‍!! والله إن قرابة رسول الله أحبُّ إليَّ من قرابتي وإنك لأحبّ إلي من عائشة ابنتي، ولوَددت يوم مات أبوكِ أني متُّ ولا أبقى بعده، أتراني أعرفكِ وأعرف فضلك وشرفك، وأمنعك حقك وميراثك من رسول الله؟

إلاّ أني سمعت أباك رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: لا نورّث، ما تركناه فهو صدقة.

فقالت: أرأيتكما أن حدّثكتما حديثاً عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) تعرفانه وتفعلان به؟ فقالا: نعم. فقالت: نشدتكما الله: ألم تسمعاً رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: رضا فاطمة من رضاي، وسخط فاطمة من سخطي، فمن أحب فاطمة ابنتي فقد أحبني، ومن أرضى فاطمة فقد أرضاني، ومن أسخط فاطمة فقد أسخطني؟ قالا: نعم، سمعناه من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، قالت: فإني أُشهد الله وملائكته أنكما أسخطتماني وما أرضيتماني، ولئن لقيت النبي (صلى الله عليه وآله) لأشكونكما إليه. فقال أبو بكر: أنا عائذ بالله تعالى من سخطه ومن سخطك يا فاطمة. ثم انتحب أبو بكر يبكي، حتى كادت نفسه أن تزهق، وهي (فاطمة) تقول: والله لأدعونَّ عليك في كل صلاة أصليها. ثم خرج باكياً، فاجتمع الناس إليه فقال لهم: يبيت كل رجل معانقاً حليلته، مسروراً بأهله وتركتموني وما أنا فيه، لا حاجة لي في بيعتكم، أقيلوني بيعتي.

العيادة بصورة أخرى

في علل الشرائع: لما مرضت فاطمة (عليها السلام) مرضها الذي ماتت فيه أتاها أبو بكر وعمر عائدين، واستأذنا عليها فأبت أن تأذن لهما، فلما رأى ذلك أبو بكر أعطى الله عهداً أن لا يظلّه سقف بيت حتى يدخل على فاطمة ويترضّاها، فبات في الصقيع، ما أظلّه شيء، ثم إن عمر أتى عليّاً (عليه السلام) فقال له: قد أتيناها (فاطمة) غير هذه المرة مراراً نريد الإذن عليها وهي تأبى أن تأذن لنا حتى ندخل عليها فنترضّى، فإن رأيت أن تستأذن لنا عليها فافعل.

قال: نعم، فدخل عليّ على فاطمة فقال: يا بنت رسول الله قد كان من هذين الرجلين ما قد رأيت، وقد تردّدا مراراً كثيرة ورددتهما ولم تأذني لهما، وقد سألاني أن أستأذن لهما عليك؛ فقالت: والله لا أأذن لهما، ولا أُكلمهما كلمة من رأسي حتى ألقى أبي فأشكوهما إليه بما صنعاه وارتكباه مني.

قال علي: فإني ضمنت لهما ذلك. قالت: إن كنت ضمنت لهما شيئاً فالبيت بيتك، والنساء تتبع الرجال، لا أُخالف عليك بشيءِ فأْذن لمن أحببت.

فخرج عليّ فأذن لهما، فلما وقع بصرهما على فاطمة سلّما عليها، فلم تردّ عليهما، وحوَّلت وجهها عنهما، فتحوّلا واستقبلا وجهها حتى فعلت مراراً وقالت: يا عليّ جافِ الثوب وقالت - لنسوة حولها -: حّوّلن وجهي !! فلما حوّلن وجهها حوّلا إليها فقال أبو بكر: يا بنت رسول الله إنما آتيناك ابتغاء مرضاتك واجتناب سخطك، نسألك أن تغفري لنا وتصفحي عما كان منا إليك. قالت: لا أُكلّمكما من رأسي كلمة واحدة حتى ألقى أبي وأشكوكما إليه، وأشكو صنيعكما وفعالكما وما ارتكبتما مني. ثم التفتت إلى عليّ وقالت: إني لا أُكلمهما من رأسي حتى أسألهما عن شيء سمعاه من رسول الله، فإن صدقا رأيت ر أيي.

قالا: اللهم ذلك لها، وإنا لا نقول إلاَّ حقاً ولا نشهد إلاَّ صدقاً، فقالت: أنشدكما بالله: أتذكران أن رسول الله استخرجكما في جوف الليل بشيء كان حدث من أمر عليّ فقالا: اللهم نعم، فقالت: أُنشدكما بالله هل سمعتما النبي يقول: فاطمة بضعة مني وأنا منها، من آذاها فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذاها بعد موتي كان كمن آذاها في حياتي، ومن آذاها في حياتي كان كمن آذاها بعد موتي؟

قالا: اللهم نعم. فقالت: الْحمد لله. ثم قالت: اللهم إني أُشهدك فاشهدوا يا من حضرني: أنهما قد آذياني في حياتي وعند موتي. والله لا أُكلِّمكما من رأسي كلمة حتى ألقى ربي فأشكوكما إليه بما صنعتما به وبي، وارتكبتما مني.

فدعا أبو بكر بالويل والثبور وقال: ليت أمي لم تلدني !! فقال: عمر: عجباً للناس كيف ولّوك أُمورهم وأنت شيخ قد خرفت!! تجزع لغضب امرأة وتفرح برضاها؟ وما لمن أغضب امرأة؟ وقاما وخرجا.

أقول: لا حاجة إلى هذا البكاء المرّ الذي أوشك على إزهاق الروح - على حد تعبير رواية ابن قتيبة - ولا حاجة إلى الاستقالة ما دام العلاج مقدوراً للخليفة، ولا داعي بأن ينادي أبو بكر بالويل والثبور وبإمكانه أن يُرضي السيدة فاطمة بأن يردّ إليها حقوقها، ويرفع يده عن أراضيها، ويعتذر عن أعماله.

ولكن الخليفة يريد أن يبقى على اعتدائه وعلى موقفه الذي عرفته بدون أي تنازل، وفي نفس الوقت يريد أن ترضى عنه فاطمة الزهراء!؟

لا أظن أن أيَّ إنسان أو مسلم أو قانون أو شعب يرضى بهذا، ولا أظن أن شريعة أو ديناً أو ضميراً أو وجداناً أو منطقاً يقول بهذا سوى منطق العنف والضغط، ومنطق القوة والقدرة، ولكن السيدة فاطمة أقوى نفساً وروحاً من أن تخضع لهذا المنطق أو بالأحرى: أن تنخدع بهذه المظاهر!؟

بقيت هنا كلمة: قد يتبادر إلى ذهن القارئ أن يتصور ويسأل ما دعا أبا بكر أن يلين ويخضع هكذا؟

وما دعا الزهراء أن تثبت على رأيها، ولا تتضعضع عن موقفها؟

لقد أجاب الجاحظ على هذا السؤال، وكفانا مؤونة الجواب قال في رسائله ص300 (.. فإن قالوا: كيف تظن به ظلمها والتعدي عليها، وكلما ازدادت عليه غلظة ازداد لها ليناً ورقّة حيث تقول له: والله لا أُكلمك أبداً، فيقول: والله لا أهجرك أبداً، ثم يتحمل منها هذا الكلام الغليظ والقول الشديد في دار الخلافة وبحضرة قريش والصحابة مع حاجة الخلافة إلى البهاء والتنزيه، وما يجب لها من الرفعة والهيبة، ثم لم يمنعه ذلك عن أن قال معتذراً متقرباً كلام المعظَّم لحقها، المكبِّر لمقامها، الصائن لوجهها، المتحنِّن عليها: ما أحد أعز عليَّ منك فقراً ولا أحب إليّ منك غنى، ولكن سمعت رسول الله يقول: إنا معاشر الأنبياء لا نورِّث ما تركناه صدقة؟؟

قيل لهم: ليس ذلك بدليل على البراءة من الظلم والسلامة من الجور. وقد يبلغ من مكر الظالم ودهاء الماكر إذا كان أريباً وللخصومة معتاداً أن يظهر كلام المظلوم وذلَّة المنتصف، وحدب الوامق ومقت المحقّ.. الخ.