وأما إذا تقاعدت الأُمّة الإسلامية عن تحقيق مطالب الأمر بالمعروف والنّهي
عن المنكر بحجة أنّ المسؤول عن ذلك هم العلماء أو الخطباء أو غير ذلك ، فقد
أصبحت مأثومة برمّتها ، سيّما وأنّها لا تملك دليلاً على هذا التّبرير الفارغ ، وأنّى لها
بالدّليل الذي يؤكد لها : أنّ العلماء أو الخطباء أو غير ذلك هم المسؤولون ـ
فقط ـ عن هذه المهمّة الإصلاحية الكبرى ، بل ما ذنب هذه الفئة المخلصة لكي
تتحمّل كلّ مشقّة في سبيل تحقيق شعار الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر إذا
كانت غير مكلّفة تكليفاً شرعيّاً في كتاب أو سنّة ؟. والأدلّة الشرعيّة التي وردت في
الكتاب والسنّة تدلُّ دلالة واضحة على أنّ هذه المسؤوليّة ـ مسؤوليّة الأمر
بالمعروف ـ مكلّفة بها كلُّ الجماعات التي تحمل شارة التبعية لرسالة محمد ( صلى الله عليه وآله ) ،
فالقرآن الكريم يعلن : « والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون
بالمعروف وينهون عن المنكر ... »(1).
وقوله تعالى « كنتم خيرَ أُمّةٍ أُخرجَت للنّاس تأمرونَ بالمعروف ، وتنهونَ عن
المنكر ... »(2).
وهذا يدلّ على أنّ صفة الأمر بالمعروف صفة ملازمة لمعسكر الإيمان ، وكذلك
إنكار المنكر ، رجاله ونسائه ـ لا تنفكّ عنهم بأي حال من الأحوال.
كما أنّ السُّنة الشّريفة تدل على هذه الحقيقة لقول الرسول ( صلى الله عليه وآله ) : « ما زال
الناسُ بخير ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ».
وقد ورد كذلك عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قوله : « لا تتركوا الأمرَ بالمعروف والنّهي
عن المنكر ، فيولّى عليكم شراركم ثم تدعون ، فلا يستجاب لكم ... ».
وهذا النّداء موجّهٌ لجميع أفراد الأُمة دون استثناء أو تخصيص ، ولم يول
التشريع الإسلامي هذه العملية ـ عملية الأمر بالمعروف ـ هذه العناية إلاّ لأنه
سياج متين وإطار حديدي يحفظ المجتمع من كل أدران الجاهليّة التي ترفض منهج
الله سبحانه وتقصيه عن واقع الإنسان فهو مصلحة لطبقات الأُمة كافّة ، وكيف لا
____________
(1) سورة التّوبة آية | 71 يلاحظ تفسير هذه الآية في ( تفسير التبيان للطوسي ) ليتّضح إطار الأمر
بالمعروف والنّهي عن المنكر.
(2) سورة آل عمران | آية | 110.
( 171 )
يكون كذلك ، وهو الذي : تقام به الفرائض ، وتأمن المذاهب ، وتحلّ المكاسب ،
وتمنع المظالم ، وتعمّر الأرض وينتصف للمظلوم من الظالم ، ولا يزال النّاس بخير ما
أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ، وتعاونوا على البرّ ، فاذا لم يفعلوا ذلك نزعت
منهم البركات وسلّط بعضهم على بعض ، ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في
السّماء(1).
وإذا كانت هذه المهام الكبار من منع للمظالم واعمار الأرض والعدالة بين
الناس والضرب على أيدي الظلمة من التلاعب بمقدّرات الأُمة وإقامة للفرائض
وإحلال للمكاسب.
اذا كان الأمر بالمعروف يتحمّل هذه المسؤولية الجسيمة في إنقاذ المجتمع
وإصلاح أوده ، فقد تجلّت الغاية التي من أجلها أعلنت فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) كونه ،
مصلحة للعامّة ، فهو مصلحة للعامّة ؛ لعامّة أبناء الأُمة ، به تحفظ حقوقها وتدوم
كرامتها ويقوم اعوجاجها ، فهو الى جانب كونه تشريعا عباديا كلّف الله به
الإنسان المسلم إلاّ أنّ ما يدرّه من أرباح وما يحقق من نتائج إيجابية وما يوفّره من
مصالح ، كلُّ ذلك تجنيه الأُمّة الإسلامية برمّتها ، ولهذا الهدف أصبح ـ على حد
تعبير الزّهراء ( عليها السلام ) مصلحةً للعامة يتفيئون ظلاله ويرتفعون على أساسه إلى
مستوى الكرامة والعزّة ـ مهما تراكمت المحن وادلهمّت الخطوب ـ
وبرُّ الوالدين وقاية من السُّخط:
وهنا تلتفت الزهراء ( عليها السلام ) إلى الخليّة الأُولى التي ينشأ منها المجتمع الإنساني ،
هذه الخلية : هي الأُسرة ، ولا تتناول الزهراء الأسرة برمّتها ، وإنّما تتناول العمود
الفقريّ والأساس الذي تستند عليه في بناء كيانها ، فتناولت البرّ بالوالدين الأب والأُم ، لما لهما من فاعليّة ضخمة في بناء الكيان الإجتماعي ، والوالدان ـ وإن
اختلفا في عملهما في إطار الأُسرة ـ إلاّ أنّ هناك تمازجاً عضوياً بين عملهما البنّاء ،
فالوالد يتناول البيت من الخارج فيكدح ويثابر لكسب الرّزق وإدخال السرور
على أُسرته ، والأُم تتناول البيت من الدّاخل بحكم تركيبها الفسيولوجيّ والنفسيّ
____________
(1) منهاج الصالحين | الامام الحكيم.
( 172 )
والروُّحيّ الذي وفرّتها مسؤوليّة تناول البيت من داخله ، فهي تنجب الأطفال
وتتولّى رعايتهم وتسهر لمصلحتهم وتديير البيت من الدّاخل لتكمل عمل الوالد
الخارجيّ.
وحين يكون عمل الوالدين هذا شأنه على مرّ الأجيال والعصور ، فلا بد
للإسلام ـ وهو منهج الله الخالد ـ أن يقيّم عملهما هذا ، فإذا به يرفعهما إلى أعلى
الآفاق : « وقضى ربُّك ألا تعبدوا إلاّ إياه وبالوالدين إحسانا إمّا يبلغنّ عندكَ
الكبر أحدُهما أو كلاهما فلا تقل لهما أُفّ ولا تنهرهما وقل لهما قولاً
كريماً ... »(1).
فيشترط برهما ورعايتهما وعدم إيذائهما بأدنى الأُمور حتى بالإشارة أو التضجر.
وحين يقرّر الإسلام وجوب رعاية الوالدين ، فقد أصبح عقوقهما أمراً محظوراً
يستلزم غضب الله وسخطه ، ولهذا السّر عينه راحت الصّدّيقة الزّهراء ( عليها السلام ) ترسم
هذه الحقيقة حين أعلنت أنّ برّ الوالدين يتحقّق على يديه الإبتعاد عن مغبّة سخط
الله وإغضابه الذي يجر إلى الدّمار والبوار.
وصلة الأرحام منسأة في العمر ومنماة في العدد:
وهنا تتّسع الدّائرة لتكون أكثر شمولاً وأوسع مداراً حيث تلتفت الزهراء ( عليها السلام )
إلى أرحام الإنسان وأقربائه لتقرر مفهوماً اجتماعياً رائعاً يقضي بالتّكاتف
والتّكامل الإجتماعي والتوادد ، ليكون عوناً على تحقيق المجتمع المتراص الموحّد
الذي يصبو الإسلام إلى تحقيقه ، وهل في الأرض من إنسان لا ينتمي إلى قوم أو
عشيرة ؟ فإذا توثّقت عرى الصّلة بين الأرحام تحقّقت المعجزة الإجتماعية الكبرى في
الواقع الإنساني ، لأنّ النّاس كلّهم في واقع الأمل أرحام ينتهون إلى أصل واحد
وأب واحد ، والزهراء ( عليها السلام ) حين تعلن هذا المفهوم الإسلامي فإنّما تستقيه من منبعه
____________
(1) سورة الإسراء | آية 23.
( 173 )
الأصيل : كتاب الله العزيز ، حيث يعلن هذا المفهوم الشامخ بقوله : « واتقوا الله
الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً ... »(1).
ولكنّ الزهراء ( عليها السلام ) لا تريد أن تستعرض مفهوم صِلة الأرحام ـ فحسب ـ
وإنّما شاءت ـ من وراء ذلك ـ تبيان فلسفة تشريعه ، فأعلنت أنّه « منسأة في
العمر ، ومنسأة في العدد ».
حيث رسمت واقعاً غيبيّاً واجتماعياً في آن واحد ، فأوضحت أنّ المكافأة التي
يصيبها الإنسان المسلم الذي يرفع شعار صِلة الأرحام في حياته ، هي زيادة له في
عمره كجائزة له من خالق هذا الوجود سبحانه.
وهذا ما قرّره الإمام الصّادق ( عليه السلام ) بقوله : « ما نعلم شيئاً يزيد في العمر إلاّ صِلة
الرحم »(2).
ثم تعلن الزّهراء ( عليها السلام ) المنقبة الثانية التي تتحقّق في ظلال صلة الأرحام فتقول :
« ومنماةً في العدد ».
ولعلّ الزيادة في العدد هنا تتأكّد من طريقين : إمّا عن طريق غيبيّ يتُّم بإفاضة
البركة والزيادة في النّسل من الله سبحانه ، أو عن طريق التّكاتف وجمع الكلمة
ورصّ الصُّفوف الذي يتُّم عند الإلتزام بمبدأ صِلة الأرحام الشامخ.
والقصاص حقنا للدّماء:
وهنا ترسم الزهراء ( عليها السلام ) حقيقةً كبرى من حقائق التّشريع الإسلامي الرّصين ،
تلك : هي مفهوم القصاص ، فالرسالة الإسلامية وإن كانت في أساسها ديناً يربّي
النّفس ويصقل الوجدان ويقوّم السُّلوك حتى يحمل إنسانه على تطبيق متطلّبات
الرسالة بصورة تلقائية ـ إلا أنّه لا يقف عند هذا الحدّ ، لأنّه يعلم أنّ المجتمع
الإنساني مهما ارتفع إلى مستوى المثاليّة والنبل ، إلاّ أنّه لا يخلو من طفيليات يهمُّها
التّلاعب بمقدّرات الرسالة وأتباعها ، ولذا وضع إلى جانب التربية التي يسبغها على
أبنائه رصيداً تشريعياً يمثّل عمليّة علاجيّة لمن يحاول التلاعب بمقدّرات الأُمّة
____________
(1) سورة النساء | آية | 1.
(2) الأخلاق | عبد الله شبر.
( 174 )
ومبدئها القويم ، وفي طليعة هذا الرّصيد التّشريعي رسم الإسلام بنود القصاص التي
تفضي بالمعاقبة بالمثل ، فالأنف بالأنف ، والأُذن بالأُذن ، والنّفس بالنّفس ، وهلّم
جرّاً ، وهذا التّشريع الإسلامي الرّصين يكسب المجتمع مناعة فعلية على مواجهة
التّلاعب والإعتداء ، سواءً أوقع ذلك خطأ أم عمداً.
وحين يضع الإسلام هذه القاعدة في دستوره ، فإنّما وصفها حقناً لدماء أبنائه
وحفظاً للتّوازن والإستقرار في مجتمعه ، لأنّ الإنسان إذا وجد نظاماً يكفل له صدّ
الإعتداء عليه ويأخذ بثأره ، فإنّه يلجأ إليه ـ دوماً ـ دون اللجوء لمفهوم الثأر
الجاهلي أو الإخلال بالأمن الذي يؤدّي ـ غالباً ـ إلى فقدان الهدوء والطمأنينة
وتمزيق الوحدة الإجتماعية وقيام البلبلة والصّراع الدائم.
وهكذا أفصحت الزهراء ( عليها السلام ) عن فلسفة ، تشريع حكم القصاص ، فعبّرت عنه بأنّه
حقنٌ للدّماء فهو ـ لعمر الحق ـ الوسيلة الوحيدة التي تُحقن الدّماء على
أساسها وتصان حرمتها ، أمّا إذا تُرك الحبل على الغارب للمعتدين دون
الإقتصاص منهم فقد وقعت الكارثة ، وقد فسّر هذا السّر كتاب الله العزيز بقوله :
« ولكم في القصاص حياةٌ يا أُولي الألباب »(1).
والوفاء بالنّذر تعريضاً للمغفرة:
وهنا بادرةٌ لطيفة تواجهنا بها الزّهراء ( عليها السلام ) ، وهي تقطع أشواطاً بعيدةً في
حديثها عن معالم الرسالة الإسلامية المقدسة ، فالنّذر في حقيقته لم يكن فرضاً
كلّفت الرسالة الإسلامية أتباعها بإتيانه كبقيّة الفرائض(2) ، وإنّما هو عمل يباح
للمرء تعاطيه أو ممارسته ، والنّذرُ في واقعه لا يباح إلاّ إذا كان لله سبحانه ، وسوى
ذلك فإنّه محظور على المرء ارتياده.
وحين يمارس الإنسان المسلم هذا العمل ، فإنّما يعني أنّه قد قيّد نفسه بنفسه
بأداء فريضة لم يفرضها الله سبحانه ، لأنّه ـ هو نفسه ـ قد أعلن طواعيّة هذا
اللون من السُّلوك دون تكليف من السماء.
____________
(1) سورة البقرة | آية | 179.
(2) الكشاف في تفسير سورة الدّهر.
( 175 )
وحين يكون النّذر بمثابة سلوك يكلّف المرء به نفسه تقرُّباً إلى الله ، فإنّ الوفاء
به كوعد يقطعه الإنسان على نفسه يحقّق للإنسان ثواب الله ورضوانه ، وهذه
الحقيقة عينها قد حملت الزّهراء ( عليها السلام ) على إعلان فلسفة الوفاء بالنذر وأهدافه
بقولها : « إنّه تعريض للمغفرة والرّضوان».
وتوفية المكائيل والموازين تغييراً للبخسة:
وهنا التفاتة حكيمة من الزهراء ( عليها السلام ) حين تنتقل لمفهوم اقتصادي كبير لا
يستغني عنه مجتمعٌ من المجتمعات ـ إطلاقاً ـ وهو يتعلّق بالبيع والشّراء
والمكيال والميزان ، لأنّ المعاملات الإقتصادية في المجتمعات الإنسانية لا تخرج عن
هذه الإطارات الثابتة.
وحين تملك المكاييل والموازين اليد الطّولى في توجيه المعاملات الإقتصادية
المهمّة في المجتمعات الإنسانية ، فقد أصبح لزاماً عليها أن تهتم بموازينها حفظاً
لاستقامة البيع والشّراء ، وابتعاداً عن التّلاعب وابتزاز الأموال والعبث بالمصالح
الخاصّة أو العامة. والإسلام الحنيف بوصفه التّشريع الإلهي القويم الذي فهرس
الحياة الإنسانيّة برمّتها ، قد التفت إلى هذه الواقعة وأعطى رأيه الحاسم فيها ،
فأعلن على لسان دستوره الخالد تهديداته وإنذاراته للمتلاعبين بالأوزان
والمكاييل بقوله : « ويل للمطفّفين * الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفونَ * وإذا
كالوهم أو وزَنوهم يُخسِرون»(1) .
كما أصدر تعليماته بضرورة الإلتزام بالعدل بالكيل والوزن بقوله تعالى
« وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان»(2) .
وحين يملك مفهوم توفية المكاييل والموازين هذه القدرة الإيجابية على حفظ
التّوازن والعدل في المجتمع ورفع الحيف والتّلاعب بالأموال عن الناس ، فقد
أصابت الزهراء ( عليها السلام ) كبد الحقيقة بهذا الإعلان الرّصين الذي أوضحت فيه فلسفة
تشريع توفية المكاييل والموازين الهادفة إلى تخليص المجتمع من المظالم وابتزاز
الأموال.
____________
(1) سورة المطففين | آية | 1 ـ 3.
(2) سورة الرحمن آية | 9.
( 176 )
والنّهي عن شرب الخمر تنزيهاً عن الرجس:
واحتساء الخمر عادةٌ جاهلية ، أعلن منهج الله سبحانه وتعالى على لسان أنبيائه
وكتبه منع تعاطيها بأيّ شكل من الأشكال ، والإسلام ـ وهو الحلقة الخاتمة من
حلقات الرّسالة الإلهية المباركة للنّوع الإنساني ـ قد أعلن هذه الحقيقة ، فحمل
دستوره الخالد بنداً تشريعيّاً ينص على اعتبار شرب الخمر أمراً محظوراً على النّوع
الإنساني.
وحين يعلن الإسلام رأيه الحاسم في الخمر ، فإنّما استهدف بذلك أن يحجب
مجتمعه المبارك عن كثير من ألوان السُّلوك الشّاذ الذي يتمخّض عن احتساء
الخمر : من ذهاب للعقل والشُّعور ، وانهيار للأعصاب ، وذهاب للمال ، ووقوع
للعداوة والبغضاء بين جماعة المحتسين للخمر.
والإسلام ـ وهو منهج الله سبحانه ـ ليس في منطقه أمر محظور سوى ما
يجلب الضّرر للإنسان ، فرداً كان أم جماعة وسواءً أكان الضرر عقليّاً أم جسميّاً
أم اجتماعيّاً ، ولما كان الخمر يجرُّ إلى كثير من المشكلات كالعداوة بين الناس أو
اذهاب للمال دون مبرر أو غير ذلك ، فقد حكم الإسلام بتحريمه تحريماً قاطعاً على
لسان كتابه المجيد : « ... إنّما الخمرُ والميسرُ والأنصابُ والأزلامُ رجسٌ من عمل
الشّيطان فاجتبوه لعلّكم تُفلحون * إنّما يُريدُ الشيطان أن يوقع بينكم العداوة
والبغضاء في الخمر والميسر ويصدّكم عن الصّلاة ، فهل أنتم مُنتهون »(1).
فتحريمه كان بسبب ما يجرُّه من قبائح الأعمال التي تمثّل سلوكاً شيطانيّاً لا
يقرُّه منطق منهج الله تعالى.
والزهراء ( عليها السلام ) ترسم بهذه العبارة الرائعة فلسفة تحريم الخمر حين تقول : إنّ
تحريمه بمثابة تنزيه وتخليص للإنسان عن كلّ عواقبه الوخيمة التي تمثّل نشاطاً
جاهليّاً وعملاً شيطانيّاً نجساً لا يرتضيه منطق الإسلام الحنيف الذي يتماشى
مع الفطرة ، ويوائم المصلحة.
____________
(1) سورة المائدة ، آية | 90 ـ 91.
( 177 )
واجتناب القذف حجاباً عن اللعنة وترك السّرقة ايجاباً للعفّة:
مهما ارتفعت المجتمعات البشريّة إلى آفاق المثالية ، فإنّها لا يمكن أن تخلو من
نفرٍ لم يبلغوا درجة الإستقامة بعد ، وقد يبدو داء الإعوجاج في فكرهم أو في
سلوكهم أو في عواطفهم فيصبحوا على هذا الأساس عضواً مغايراً في طابعه
للطّابع الاصيل في المجتمع ، وقد ينعكس هذا الإعوجاج في كثير من ألوان
نشاطهم في المجتمع وبأنماطٍ مختلفة وفي مجالات متباينة.
والمجتمع الإسلامي ـ وإن كان هو المجتمع الوحيد الذي يقف تحت راية
خالق الوجود سبحانه ـ إلا أنّه ليس بدعاً من الأمر لأنّه لا يخلو من نفرٍ لم
تنضج العقيدة في نفوسهم بعد ، ولم تصقل عقليّاتهم ونفسيّاتهم بالمفاهيم الإسلامية
المقدّسة فيندفعوا بعد ذلك ليزاولوا نشاطاً مخالفاً لما يرسمه الإسلام الحنيف من
تعليماتٍ وأحكام.
ومن هذه النشاطات التي شدّد الإسلام على محاربتها قذف المحصنات
والسّرقة ، لأنّ هذين النّشاطين ـ كليهما ـ اعتداءٌ على الآخرين ، فالأول
اعتداء على عرض ، والآخر اعتداءٌ على الملكيّة ـ خاصّة كانت أم عامّة ـ.
وقذف المحصنات هو تهمة يثيرها نفر من المغرضين حول بعض المسلمات
المحصنات إحداثاً للبلبلة وإيقاعاً للفتنة. وقد منع الإسلام هذه المفسدة وشدّد
على مرتكبيها وجعل اللعنة نصيبهم.
وعلى هذا الأساس ، فإنّ التخلُّص من غضب الله ولعنته يتحقق باجتناب
القذف ، وهذه الحقيقة قد أشارت لها الزّهراء ( عليها السلام ) في هذا المقطع القصير من
خطبتها بقولها : « واجتناب القذف حجاباً عن اللعنة ».
ولعلّ الزّهراء أرادت بذلك الإشارة إلى قول الله تعالى بهذا الشأن الذي ورد
في كتابه العزيز : «إنّ الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمناتِ لعنوا في
الدُّنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم...» (1) .
____________
(1) سورة النور ، آية | 23.
( 178 )
فباجتناب القذف ورمي المحصنات تحجب اللعنة وينجلّي سخط الله سبحانه.
والسّرقة عمليّة لابتزاز أموال الغير بصورة سرّية أو بطريقة القوّة ، وقد
حكم الإسلام الحنيف بإبطال هذه الجريمة الإجتماعية ومحو شبحها من قاموس
الحياة الإنسانية ؛ وشدّد على مرتكبيها بقوله : « والسّارق والسّارقة فاقطعوا
أيديهما جزاءاً بما كسبا نكالاً من الله والله عزيزٌ حكيم ... »(1).
وحين يعلن الإسلام هذا التّشريع الصّارم بحقّ السّارق بصفته معتدياً على
أموال النّاس بغير حقًّ ، فإنّما أراد أن يجعل من مجتمعه مثلاً رائعاً للعفّة
والطّهارة التي ينبغي أن تطبع حياة المجتمع الإسلامي المبارك.
وعلى هذا الأساس الرّصين أعلنت الزهراء ( عليها السلام ) فلسفة منع السّرقة وعدم
مزاولتها كسلوك شاذ ، بكونها إيجاباً للعفّة والنبل والطّهارة والخلق الإسلامي
الكريم . وهذا ما تجلّى بقولها : « وترك السّرقة إيجاباً للعفّة ».
____________
(1) سورة المائدة ؛ آية | 38.