شرح أصول الكافي

مولي محمد صالح المازندراني

ج 2


[ 1 ]

شرح أصول الكافي للمازندراني

المعروف

كتاب الكافي

في الأصول والروضة

لثقة الإسلام ابى جعفر محمد بن يعقوب الكليني

مع

شرح الكافي الجامع

للمولى محمد صالح المازندراني

المتوفى 1081 ه‍

مع تعاليق الميرزا أبو الحسن الشعراني

 المجلد الثاني

ضبط وتصحيح : السيد علي عاشور

دار احياء التراث العربي

بيروت – لبنان


[ 2 ]

 

حقوق الطبع محفوظة

الطبعة الأولى

1421 هـ - 2000 م

دار احياء التراث العربي

للطباعة والنشر والتوزيع

DAR EHIA AL-TOURATH AL-ARABI

Publishing amp Distributing

Rue Dakkache  - Beyrouth  – LIBAN


[ 3 ]

كتاب العلم باب فرض العلم في كثير من النسخ كتاب فرض العلم (ووجوب طلبه) العطف للتفسير والتكرير للتأكيد (والحث عليه). * الأصل: 1 - أخبرنا محمد ين يعقوب، عن علي بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن الحسن بن أبي الحسين الفارسي (1)، عن عبد الرحمن بن زيد، عن أبيه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): طلب العلم فريضة على كل مسلم، ألا إن الله يحب بغاة العلم ". * الشرح: (أخبرنا محمد بن يعقوب) قد مر توجيهه في صدر كتاب العقل. (عن علي بن إبراهيم بن هاشم، عن الحسين بن أبي الحسن الفارسي (2) لم أجده في كتاب الرجال، وذكر الشيخ في الفهرست في باب الحسين، الحسين بن الحسن القمي الفارسي له كتاب، ولعل المذكور هنا سهو من الناسخين. (عن عبد الرحمن بن زيد) من أصحاب الصادق (عليه السلام). (عن أبيه) زيد بن أسلم. (عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) طلب العلم فريضة على كل مسلم)، أي واجبة عليهم والفرض والواجب سيان عندنا وعند الشافعي، والفرض آكد من الواجب عند أبي حنيفة، واختلف الناس في العلم الذي هو فرض على كل مسلم فقال الفقهاء: هو علم الفقه المشتمل على كيفية الصلاة والصوم وسائر العبادات والمعاملات التي بها يتم نظام الخلق في الدين والدنيا، وقال المتكلمون: هو علم الكلام الباحث عن الله تعالى وعن صفاته وما ينبغي له وما يمتنع عليه، وقال المفسرون والمحدثون: هو علم الكتاب والسنة، إذ بهما يتوصل إلى العلوم كلها، وقال المتصوفة: هو


1 - كذا في جميع النسخ التي بأيدينا من الكافي، وهكذا يظهر من جامع الرواة في ترجمة عبد الرحمن بن زيد. 2 - كذا. (*)

[ 4 ]

علم الشهود وعلم السلوك (1)، فقال بعضهم: هو علم العبد بحاله ومقامه من الله وعند الله، وقال بعضهم: هو علم الباطن يعني العلم بالأخلاق وآفات النفوس وتميز لمة الملك من لمة الشيطان، فكل حزب خصوه بما هو المعروف عندهم، وكل حزب بما لديهم فرحون، والحق أن تعميم الفرض بحيث يشمل العيني والكفائي، وتعميم العلم بحيث يشمل اصول الدين وفروعه وتعميم الطلب بحيث يشمل الطلب بالاستدلال والطلب بالتقليد أنسب بالمقام لأن التخصيص خلاف الظاهر، وتوضيح المقصود، أن كل مسلم مكلف بسلوك صراط الحق فوجب عليه معرفة الحق وصفاته ومعرفة الرسول، والصراط أعني الدين الحق والأحكام العينية والكفائية والأخلاق الموجبة للقرب منه تعالى والرذايل المؤدية إلى البعد عنه كل ذلك إما بالاستدلال إن كان من أهله أو بالتقليد إن لم يكن. فقد ظهر مما ذكرنا أن القضية المذكورة كلية. لا يقال: التقليد في الاصول لا يجوز. لأنا نقول: ذلك ممنوع (2)، والسند يعلم مما مر في الخطبة، وقد اكتفى رسول الله (صلى الله عليه وآله) والصحابة والتابعون ممن آمن من الأعراب وغيرهم بالتصديق والإقرار ولم يكلفهم بالاستدلال، وإنم اخص المسلم بالذكر، مع أن طلب العلم فرض على كل أحد لأنه القابل دون غيره، ولأن غيره لكونه بمنزلة الحشرات غير قابل لتوجه الخطاب إليه (ألا إن الله يحب بغاة العلم)، " البغاة " جمع الباغي، وهو الطالب من بغاه إذا طلبه. و " ألا " حرف يفتتح به الكلام للتنبيه عند الاهتمام بمضمونه، و " إن " واسمية الجملة من المؤكدات لمضمونها، ففيه مبالغة من وجوه شتى في محبة الله تعالى لطلبة العلم. والمحبة على تقدير صحة تفسيرها على الإطلاق بميل القلب إلى ما يوافقه يكون المراد بها هنا إرادة الإحسان والإنعام والإفضال آنا فآنا، أو على سبيل الاستمرار، أو نفس الإحسان والإنعام والافضال فهي على الأول صفة ذات وعلى الثاني صفة فعل. * الأصل: 2 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن محمد بن عبد الله، عن عيسى بن عبد الله العمري،


1 - كانوا يعدون علم التصوف شعبة من علوم الإسلام كالفقه والتفسير والكلام، ثم ادخلت فيه بدع دنسوه بها أكثر مما دنسوا علومهم الاخرى، وطريقتنا متابعة أهل البيت (عليهم السلام)، فإن وجدنا رواية عنهم تؤيد أصلا قبلناه وإلا فلا (ش). 2 - هذا عجيب من الشارح (رحمه الله) وقد سبق منه ذم التقليد في الاصول وحكم بوجوب النظر للآية الكريمة " أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون "، راجع ج 1، الصفحة 148، والصفحة 52. وكأنه أراد بالتقليد هنا متابعة المعصوم بعد ما تثبت حجيته إلا أن ذلك لا يسمى تقليدا، وما ذكره سابقا صريح وما ذكره هنا محتمل (ش). (*)

[ 5 ]

عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " طلب العلم فريضة ". * الشرح: (محمد بن يحيى عن محمد بن الحسين) بن أبي الخطاب على الظاهر أو ابن سعيد الصايغ على الاحتمال، الأول ثقة جليل القدر من أصحابنا، والثاني ضعيف، وقيل: إنه غال. (عن محمد بن عبد الله) أبي جعفر العمري أخي عيسى بن عبد الله العمري يروي عن أخيه عن الصادق (عليه السلام)، وعن الصادق (عليه السلام) أيضا، على ما ذكره الكشي، وأورده ابن داود في قسم الممدوحين. وقيل: ذكر الشيخ عيسى بن عبد الله في أصحاب الصادق (عليه السلام)، ولم يذكر أخاه محمد بن عبد الله فيهم. (عن عيسى بن عبد الله) العمري - بضم العين وفتح الميم - هو عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر ابن علي بن أبي طالب (عليه السلام). (عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: طلب العلم فريضة) قيل: فرض طلب العلم ينقسم إلى فرض عين، وفرض كفاية، أما الأول فهو يختلف باختلاف الأشخاص، فالفقير يجب عليه معرفة اصول العقائد ومعرفة الفروع العينية مثل الصوم والصلاة والوضوء والغسل وما يفسدها ومعرفة الحلال والحرام والخبيث والطاهر، والغني الذي يجب عليه الحج والزكاة، يجب عليه ما يجب على الفقير مع زيادة وهي معرفة أحكام الحج والزكاة والتاجر يجب عليه معرفة ما يصح به العقود وما يفسدها وكذلك كل من عمل عملا يجب عليه تعلمه علم ذلك العمل. وأما الثاني فهو معرفة الفروع الكفائية وتحصيل العلم بحيث يصير مجتهدا فإنه فرض كفاية لا فرض عين، فإذا وجد مجتهد في بلد أو ناحية سقط الفرض عن الباقين وإن لم يجد عصى أهل تلك الناحية حتى يصير واحد منهم مجتهدا. وقال الغزالي: العلم ينقسم إلى علم معاملة وعلم مكاشفة وليس المراد بهذا العلم يعني الذي وجب تعلمه إلا علم المعاملة والمعاملة التي كلف العبد العمل بها ثلاث: اعتقاد وفعل وترك، فإذا بلغ الرجل في ضحوة النهار مثلا فأول واجب عليه تعلم كلمتي الشهادتين وفهم معناهما ولو بالتقليد فإذا فعل ذلك فقد أدى ما هو الواجب عليه في هذا الوقت عينا ولو مات حينئذ مات مطيعا ولا يجب عليه غير ذلك ولو وجب فإنما يجب لعارض يعرض وليس ذلك ضروريا في حق كل شخص بل يتصور الانفكاك عنه وتلك العوارض، إما أن يكون في الفعل، وإما في الترك، وإما في الاعتقاد. أما الفعل فبأن يعيش من ضحوة النهار إلى زوال الشمس فيجب عليه عند الزوال تعلم الطهارة والصلاة ولو علم أنه لا يتمكن بعد الزوال من تمام التعلم والعمل في الوقت بل يخرج الوقت لو اشتغل بالتعلم لم يبعد القول بوجوب تقديم التعلم والعمل في الوقت، وهكذا في بقية الصلوات، فإن عاش إلى شهر رمضان تجدد بسبب دخوله وجوب تعلم الصوم وكيفيته فإن تجدد له مال وجب


[ 6 ]

عليه تعلم علم الزكاة لكن لا في الحال بل عند تمام الحول، وكذا الكلام في الحج والجهاد وغيرهما من الواجبات التي هي فروض الأعيان. وأما الترك فيجب عليه علم ذلك بحسب ما يتجدد من الأحوال، وذلك يختلف باختلاف الشخص فلا يجب على الأعمى تعلم ما يحرم من النظر، ولا على الأبكم تعلم ما يحرم من الكلام، ولا على البدوي تعلم ما لا يحل الجلوس فيه من المساكن. وأما الاعتقاد وأعمال القلوب فيجب تعلمها بحسب الخاطر فإن خطر له شك في المعاني التي دلت عليها كلمة الشهادة وجب عليه تعلم ما يتوصل به إلى إزالة الشك، فإن لم يخطر له ذلك ومات قبل أن يعتقد أن كلام الله قديم أوحادث إلى غير ذلك مما يذكر في المعتقدات فقد مات على الإسلام إجماعا، هذا حاصل كلامه. وأورد عليه بأن تخصيص ذلك العلم الذي وجب تعلمه بعلم الأعمال والمعاملات دون غيره من العلوم التي لا تتعلق بعمل أو كيفية عمل ليس بموجه لأن العلم بوحدانيته تعالى وبراءته من النقائص كلهايجب طلبه واكتسابه، وكذا العلم بكيفية صفاته وأفعاله وملائكته وكتبه ورسله وإحاطته بالأشياء كلها علما وحفظا، وكذا العلم بأحوال النفس وصفاتها وأحوالها ونشأتها وخلقها وبعثها إلى الله تعالى في النشأة الآخرة وسعادتها وشقاوتها مما يجب تعلمه وطلبه على كثير من الناس ولا يلزم أن يكون العلم الذي وجب تعلمه على كل مسلم علما واحدا بعينه هو الواجب على الآخر. * الأصل: 3 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس بن عبد الرحمن، عن بعض أصحابه قال: سئل أبو الحسن (عليه السلام): هل يسع الناس ترك المسألة عما يحتاجون إليه ؟ فقال: " لا ". * الشرح: (علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى) هو محمد بن عيسى بن عبيد بن يقطين، وقد اختلف العلماء في جرحه وتعديله وتوثيقه ومذهبه فضعفه بعضهم ومدحه بعضهم وقال: إنه ليس في أقرانه مثله، ونسبه بعضهم إلى مذهب الغلاة، ووثقه بعضهم وقال: إنه جليل في أصحابنا ثقة عين كثير الرواية حسن التصانيف، وقال العلامة: والأقوى عندي قبول روايته (عن يونس بن عبد الرحمن) كان وجها في أصحابنا متقدما عظيم المنزلة روى عن أبي الحسن موسى والرضا (عليهما السلام)، وكان الرضا (عليه السلام) يشير إليه في العلم والفتيا، وكان ممن بذل له على الوقف مال جزيل فامتنع من أخذه وثبت على الحق، وقد روي أن الرضا (عليه السلام) ضمن له الجنة ثلاث مرات، والروايات الدالة على ضعفه ضعيفة السند.


[ 7 ]

(عن بعض أصحابه قال: سئل أبو الحسن (عليه السلام)) يحتمل الكاظم والرضا (عليهما السلام). (هل يسع الناس ترك المسألة) أي هل يجوز ذلك ولم يضيق عليهم ؟ ومنه قولهم: لا يسعك أن تفعل كذا أي لا يجوز لأن الجايز موسع غير مضيق والمسألة والسؤال مصدران تقول: سألته عن الشئ سؤالا ومسألة. (عما يحتاجون إليه) من امور دينهم اصولا وفروعا أو من امور دنياهم أيضا. (فقال: لا) أي لا يسعهم ترك المسألة ولا يجوز لهم ذلك بل يجب عليهم سؤال العالم عن كل ما يحتاجون إليه فإن السؤال مفتاح لأبواب الكمالات وشفاء لأسقام الجهالات، وفي الآيات والروايات المتكثرة حث على السؤال وترغيب فيه قال الله تعالى: * (فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) *، وفي الخبر: " دواء العي السؤال " (1)، وينبغي للسائل الإنصات بعد السؤال ثم الاستماع ثم حفظ ما سمعه ثم العمل به إن كان متعلقا بالعمل ثم نشره، والمسؤول عنه أربعة على ما استفدت من كلام أهل العصمة (عليهم السلام)، الأول أن يعرف ربه، والثاني أن يعرف ما صنع به، والثالث أن يعرف ما أراد منه، والرابع أن يعرف ما يخرجه عن دينه فكل من لم يعرف أحد هذه الامور وجب عليه السؤال عنه لقصد التفهم والتعلم دون التعنت والتكلف، ثم المسؤول إن رأى مصلحة في الجواب ينبغي له الجواب على حسب ما يقتضيه الحال، وإن رأى مصلحة في تركه جاز له تركه، لما رواه الوشاء عن الرضا (عليه السلام) قال: " على شعيتنا ما ليس علينا أمرهم الله أن يسألونا قال * (فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) *، فأمرهم أن يسألونا وليس علينا الجواب، إن شئنا أجبنا، وإن شئنا أمسكنا " (2). * الأصل: 4 - علي بن محمد وغيره، عن سهل بن زياد، ومحمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى جميعا، عن ابن محبوب، عن هشام بن سالم، عن أبي حمزة، عن أبي إسحاق السبيعي، عمن حدثه قال: سمعت أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: " أيها الناس، اعلموا أن كمال الدين طلب العلم والعمل به، ألا وإن طلب العلم أوجب عليكم من طلب المال، إن المال مقسوم مضمون لكم، قد قسمه عادل بينكم وضمنه وسيفي لكم، والعلم مخزون عند أهله، وقد امرتم بطلبه من أهله فاطلبوه ".


1 - رواه الكليني في الكافي الفروع باب الكسير والمجدور من كتاب الطهارة تحت رقم 4 و 5. 2 - سيأتي في كتاب الحجة باب أن أهل الذكر الذين أمر الله الخلق بسؤالهم هم الأئمة (عليهم السلام) تحت رقم 3. (*)

[ 8 ]

* الشرح: (علي بن محمد وغيره، عن سهل بن زياد، ومحمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى جميعا، عن ابن محبوب، عن هشام بن سالم) الجواليقي الجعفي ثقة ثقة، كذا في الخلاصة، وقال ابن طاووس (قدس سره): الظاهر أنه صحيح العقيدة معروف الولاية غير مدافع، أقول: سيجئ روايات دالة على فساد عقيدته (1) في باب النهي عن الصفة بغير ما وصف به نفسه، وسنتكلم فيها إن شاء الله تعالى. (عن أبي حمزة الثمالي) ثابت بن دينار ثقة قال النجاشي: إنه لقي علي بن الحسين وأبا جعفر وأبا عبد الله وأبا الحسن (عليهم السلام) وروى عنهم وكان من خيار أصحابنا وثقاتهم ومعتمديهم في الرواية والحديث. (عن أبي إسحاق السبيعي) وهو ابن كليب ذكره الشيخ في كتاب الرجال في أصحاب أبي محمد الحسن بن علي بن أبي طالب (عليهما السلام) روى عنه أبو حمزة الثمالي، وقيل: هو عمرو بن عبد الله بن علي السبيعي، وهذا القول موافق لما في شرح الكرماني لصحيح البخاري، كما أشار إليه بعض الأفاضل، وقال في القاموس: السبيع - كأمير - ابن سبع أو بطن من همدان، ومنهم الإمام أبو إسحاق عمرو ابن عبد الله ومحلة بالكوفة منسوبة إليهم أيضا، وقال في النهاية الأثيرية: السبيع - بفتح السين وكسر الباء - محلة من محال الكوفة منسوبة إلى قبيلة وهم بنو سبيع من همدان. (عمن حدثه قال: سمعت أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: أيها الناس اعلموا): يجوز أن يكون بمنزلة اللازم بحذف مفعوله نسيا منسيا ففيه تغريب في تحصيل ماهية العلم وما بعده تعليل له استيناف. وأن يكون متعديا ومفعوله قوله: (إن كمال الدين طلب العلم والعمل به) الظاهر أن المراد بهذا العلم العلم المتعلق بكيفية العمل، ويحتمل أن يراد به العلم المتعلق بمعرفة الله وما يليق به ومعرفة النبي والأئمة (عليهم السلام) ومعرفة ما يجب معرفته عقلا وشرعا، وهو الذي يجب التدين به والاعتقاد له والعكوف عليه والمحافظة له، ثم العمل بمقتضاه إن كان المقصود منه العمل فيصير بذلك عالما ربانيا، قال الله تعالى: * (كونوا ربانيين) * قال الأزهري: هم أرباب العلم الذين يعملون بما يعلمون وبهما يتحقق كمال الدين وتمامه. أقول: وسر ذلك أن بالعلم يعرف واضع الدين وحدوده وأحكامه ولواحقه وشرايطه ومداخله ومخارجه ومصالحه ومفاسده، وبالعمل يحققه ويقيمه ويوجده ويضع كل واحد من أجزائه في موضعه ويخرجه من حيز البطون إلى حيز الظهور، فلولا العلم بطل العمل، ولولا العمل بطل العلم


1 - من أنه قال بالجسم أو الصورة. (*)

[ 9 ]

وصار بلا فائدة، وذلك كما إذا قصدت بناء دار معينة محدودة بحدود معينة وموصوفة بصفات مخصوصة وموضوعة على أركان وهيئة معلومة عندك وطلبت بناءها من زيد فلا بد لزيد من أن يعلم مقصودك المشتمل على تفاصيل مذكورة ثم يشتغل بالعمل ويبنيها على نحو ما قصدت ليتم على وجه الكمال كما أردت، فلو اشتغل بالبناء من غير أن يعلم مقصودك لكان ما يبنيه غير موافق لمقصودك غالبا، إذ الاتفاق نادر جدا، ولو علم مقصودك ولم يشتغل بالعمل لم ينفعه ذلك العلم ولم يستحق منك الثناء والأجر، ومن هاهنا ظهر أن كمال الدين وتمامه بالعلم والعمل، وقال بعض الناظرين إلى هذا الحديث: المراد بالدين الأعمال البدنية مثل الصلاة والصوم والحج ونحوها، والمراد بكماله غايته يعني أن غاية الأعمال البدنية والتكاليف الشرعية طلب العلم وذلك لأن الأعمال البدنية إنما تراد للأحوال أعني طهارة القلب وصفاءه عن الأخباث والشهوات والتعلقات وتلك الأحوال إنما تراد للعلم ثم هذا قسمان علم عقلي كالعلم بذات الله تعالى وصفاته وأفعاله، وعلم عملي وهو المتعلق بكيفية أعمال الطاعات وترك المعاصي والسيئات، فالقسم الأول إنما يراد لنفسه لا لغيره، والقسم الثاني إنما يراد للعمل به والعمل يراد للعلم أيضا، فالعلم هو الأول والآخر والمبدأ والغاية، فضرب من العلم وهو العملي وسيلة، وضرب من العلم وهو العقلي غاية، وهو الأشرف الأعلى والعمل لا يكون إلا وسيلة، فقوله (عليه السلام): " والعمل به " إشارة إلى ثمرة ضرب من العلوم وأوايلها ومباديها أعني العملي فلا خير في طاعة لا يكون وسيلة للعلم وكذا لا خير في علم متعلق بها إذا لم يكن وسيلة إلى العمل المؤدي إلى الحال المؤدي إلى العلم. (ألا وإن طلب العلم أوجب عليكم من طلب المال) فيه أمران: الأول: أن طلب المال يعني قدر الكفاف واجب وهو كذلك لأن فيه حفظا للبدن وقواه، وصيانة للعرض وماء الوجه من ذل السؤال، وقطعا للطمع عما في أيدي الناس، واستعانة بالعبادات والطاعات كما ورد " لولا الخبز ما صلينا ولا صمنا " (1)، وهذا لا ينافي الروايات الواردة للزهد في الدنيا والحث على تركها لأن الزهد في الدنيا ليس بإضاعة المال ولا تحريم اكتساب الحلال بل الزهد فيها أن لا تكون بما في يدك أوثق منك بما عند الله عز وجل (2)، وقد فسر الزهد فيها سيد الوصيين بقصر الأمل وشكر كل نعمة والورع عن كل ما حرم الله عز وجل (3) وكيف يكون الزهد عبارة عن ترك الحلال وقال الصادق (عليه السلام): " لا خير فيمن لا يحب جمع المال من حلال، يكف به وجهه، ويقضي


1 - الفروع من الكافي - كتاب المعيشة - باب الاستعانة بالدنيا على الآخره، تحت رقم 13. 2 - المصدر باب معنى الزهد. 3 - المصدر باب معنى الزهد. (*)

[ 10 ]

به دينه، ويصل به رحمه " (1). الثاني: أن طلب العلم أوجب وآكد من طلب المال ووجه ذلك أن العلم حياة القلب من العمى ونور البصيرة من الظلمة وقوة الأبدان من الضعف وغذاء الروح وحياته وقوته وكماله ونموه في الدنيا والآخرة، والمال سبب حياة البدن وبقائه في الدنيا والروح أشرف من البدن وحياته أدوم وأبقى من حياة البدن، لأن حياة البدن زايلة منقطعة وحياة الروح باقية أبدا لا نهاية لبقائه، فطلب ما يوجب حياة الروح وهو العلم أوجب من طلب ما يوجب حياة البدن وأفضل بقدر الفضل بين الروح والبدن، ويكفي للحكم بكون طلب العلم أوجب من طلب المال ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: " يا كميل، العلم خير من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال، والمال تنقصه النفقة والعلم يزكو ويزداد على الانفاق وصنيع المال يزول بزواله. يا كميل بن زياد، معرفة العلم دين يدان به يكسب الإنسان الطاعة في حياته وجميل الاحدوثة بعد وفاته، والعلم حاكم والمال محكوم عليه، يا كميل بن زياد، هلك خزان الأموال وهم أحياء والعلماء باقون ما بقي الدهر أعيانهم مفقودة وأمثالهم في القلوب موجودة " (2). ومن طرق العامة عنه (صلى الله عليه وآله) قال: " إن بابا من العلم يتعلمه الرجل خير له من أن لو كان أبو قبيس ذهبا فأنفقه في سبيل الله " (3) وبين (عليه السلام) كون طلبه أوجب بوجه آخر غير هذه الوجوه بقوله: (إن المال مقسوم مضمون لكم قد قسمه عادل بينكم) على حسب ما يقتضيه المصلحة وقوله: (قد قسمه) تأكيد للسابق أو حال عن فاعل مقسوم (وضمنه) وأكده بالقسم قال الله تعالى: * (نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا) *، وقال: * (وما من دابة إلا على الله رزقها) *، وقال: * (وفي السماء رزقكم وما توعدون فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون) *. (وسيفي لكم) ولو كنتم في جحر أو موضع منقطع من الناس ولا تموتون حتى تستكملوا أرزاقكم، قال الصادق (عليه السلام): " لو كان العبد في جحر لأتاه الله برزقه " (4)، وقيل لأمير المؤمنين (عليه السلام): لو سد على رجل باب بيته وترك فيه فمن أين كان يأتيه رزقه ؟ فقال (عليه السلام): " من حيث يأتيه أجله " (5)، وهذا مما يحكم به العقل ضرورة، لأن وجود الإنسان من غير رزق محال، فإذا قدر الله سبحانه وجوده في


1 - الكافي كتاب المعيشة - باب الاستعانة بالدنيا على الآخرة، تحت رقم 5. 2 - النهج - أبواب الحجم، تحت رقم 147. تحف العقول: ص 170. 3 - ما عثرت على أصل له إلا في منية المريد: ص 5، وعنه في المحجة البيضاء في تهذيب الأحياء ج 1، ص 18. 4 - الكافي - كتاب المعيشة - باب الإجمال في الطلب، تحت رقم 4. 5 - النهج - أبواب الحكم، تحت رقم 356. (*)

[ 11 ]

مدة فلا محالة يجب أن يأتيه رزقه في تلك المدة طلبه أو لم يطلب إلا أن الدار دار تكليف ودار امتحان، فقد ينبغي له الطلب ويجب عليه ليعلم أنه مطيع أو عاص في اكتسابه من طريق الحلال أو من طريق الحرام، وقد يكون الطلب لطلب الفضل كما يرشد إليه قول الباقر (عليه السلام): " ليس من نفس إلا وقد فرض الله لها رزقها حلالا يأتيها في عافية وعوض لها بالحرام من وجه آخر فإن هي تناولت شيئا من الحرام قاصها به من الحلال الذي فرض لها وعند الله سواهما فضل كثير وهو قوله عز وجل: * (واسئلوا الله من فضله) * " (1)، فأمر بطلب الفضل والرزق منه تعالى ولم يضطره إلى طلبه من الخلق مثله ولم يرتض له بذلك. (والعلم مخزون عند أهله) وهم (عليهم السلام) أهل الذكر ومن تمسك بذيل عصمتهم وأخذ العلم من مشكاة فضلهم. (وقد أمرتم بطلبه من أهله) لقوله تعالى: * (فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) *. (فاطلبوه) من أهله بعد تصفية الظاهر والباطن إلى غير ذلك من آداب التعلم وشروطه المذكورة في كتب الآداب ليحصل المناسبة بينكم وبينهم وتستعدوا بذلك لانعكاس أنوار العلوم من قلوبهم إلى قلوبكم وإلا فكل واحد ليس أهلا للعلم والحكمة، وقد ورد المنع من تعليمها لغير أهلها في كثير من الروايات، والغرض من هذا الحديث الترغيب في طلب العلم عند أهله والتنفير عن طلب الدنيا لما أن أبناء الزمان كلهم عاملين بالعكس، وملخصه أن الإنسان مضطر في قبول رزقه وليس له كثير مدخل في قبوله ورده ولذلك ترى رزقه معدا وهو في بطن امه من غير حيلة له وغير مضطر في قبول العلوم، ولذلك تراه في أول الفطرة خاليا عن العلوم كلها، إذ ليس العلم من شرائط وجوده وحياته وبقائه في هذه الحياة الدنيا، بل هو مختار في طلبه إن طلبه من أهله مع شرائطه وجده وإن لم يطلبه فقده فوجب عليه طلبه من أهله والسعي في تحصيله فوق طلب المال والسعي له، والله ولي التوفيق وإليه هداية الطريق. * الأصل: 5 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد البرقي، عن يعقوب بن يزيد، عن أبي عبد الله - رجل من أصحابنا - رفعه قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): طلب العلم فريضة ". وفي حديث آخر قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): طلب العلم فريضة على كل مسلم، ألا وإن الله يحب بغاة العلم ".


1 - الكافي - كتاب المعيشة - باب الإجمال في الطلب، تحت رقم 2. (*)

[ 12 ]

* الشرح: (عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد البرقي، عن يعقوب بن يزيد) هو الكاتب الأنباري، ويعرف بالقمي، ثقة صدوق. (عن أبي عبد الله) مشترك بين الضعفاء، ويحتمل أن يكون هو الذي ذكره الشيخ في باب الكنى من أصحاب الصادق (عليه السلام). (عن رجل من أصحابنا رفعه قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): طلب العلم فريضة "، وفي حديث آخر:) كأنه المذكور في أول هذا الباب، ويحتمل غيره بالإسناد صونا عن التكرار. (قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): طلب العلم فريضة على كل مسلم، ألا وإن الله يحب بغاة العلم ") قال بعض الناظرين فيه: قوله: " ألا وإن الله يحب بغاة العلم " يدل على أن العلم الذي طالبوه محبوبون لله تعالى ينبغي أن يكون علما شريفا مقصودا لذاته، وهو العلم المتعلق بالمعارف الإلهية لا الذي هو مقصود لغيره كالعلم المتعلق بالعمل، إذ العلم المتعلق بالعمل أدون منزلة من العمل، والعمل أمر جسماني خسيس فذلك العلم أخص منه فلا يكون شريفا، وأما العلم المطلق المجرد عن التعلقات فلا شبهة في أنه رفيع القدر شريف المنزلة فطالبه حري بأن يكون محبوبا للحق جل شأنه ومقربا له في الملأ الأعلى، انتهى. أقول: دلالته على كون العلم الذي طالبوه محبوبون له شريفا مسلمة، وأما دلالته على حصر ذلك العلم بما هو المقصود لذاته وخروج جميع العلوم المتعلقة بالعمل فغير مسلمة، بل الحق أن بعض العلوم المتعلقة بالعمل أيضا شريف من حيث أنه يوجب رفع درجات صاحبه في الآخرة، وأن المراد بهذا علم الشريعة وغيره، مما له مدخل في تحصيلها، والمراد بعلم الشريعة ما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله) من عند الله تعالى، وبينه في مدة عمره، وأودعه عند أهله، وهذا العلم ينقسم إلى أقسام: فمنها ما يتعلق بالمبدأ الأول تعالى شأنه وبصفاته وأفعاله، ومنها ما يتعلق بأحوال المعاد وتفاصيلها، ومنها ما يتعلق بأفعال المكلفين وما يتبعها من تقويم الظواهر بالسياسات البدنية، ومنها ما يتعلق بأحوال القلب وتطهيره عن الرذائل وتزيينه بالفضائل وكل هذه الأقسام محمود شريف طالبه محبوب الله تعالى، لكن بينها تفاوت، إذ بعضها واجب عينا وبعضها واجب كفاية، وبعضها مستحب، وقد بالغ الغزالي في العلم المتعلق بأحوال القلب وقال: هو فرض عين في فتوى علماء الآخرة، والمعرض عنها هالك بسطوة مالك الملوك في الآخرة كما أن المعرض عن الأعمال الظاهرة هالك بسيف سلاطين الدنيا بحكم فتوى فقهاء الدنيا، فنظر الفقهاء في فروض العين بالإضافة إلى صلاح الدنيا وهذا بالنظر


[ 13 ]

الى صلاح الآخرة، ولو سئل الفقيه عن معنى الإخلاص أو التوكل أو عن وجه الاجتراز عن الرياء مثلا لتوقف فيه مع أنه فرض عينه الذي في إهماله هلاكه في الآخرة، ولو سئل عن الظهار واللعان والسبق والرمي مثلا يسرد مجلدات من التفريعات الدقيقة التي ينقضي الدهور ولا يحتاج إلى شئ منها ولا يزال يتعب فيه ليلا ونهارا في حفظه ودرسه ويغفل عما هو مهم نفسه في الدين، ويزعم أنه مشتغل بعلم الدين ويلتبس على نفسه وعلى غيره والفطن يعلم أن ليس غرضه أداء الحق في فرض الكفاية وإلا لقدم فرض العين بل غرضه تيسر الوصول به إلى تولي الأوقاف والوصايا وحيازة أموال الأيتام وتقلد القضاء والحكومة والتقدم على الأقران والغلبة على الخصوم. هيهات قد اندرس علم الدين بتلبيس علماء السوء والله المستعان وإليه اللياذ في أن يعيذنا من هذا الغرور الذي يسخط الرحمن ويضحك الشيطان. أقول: لقد أفرط في ذم الفقهاء وكأنه ابتلى بالفقهاء الموصوفين بالصفات المذكورة أو أخبر عن حال من ينسب نفسه إلى الفقه في عصرنا هذا حيث يجعل ما التقطه من كتب العلماء ذريعة إلى التوسل بالسلاطين والتقرب إلى السفهاء وإخوان الشياطين، وليس هو أول من ذمهم بذلك، لأن ذم علماء السوء متواتر من طرق أهل العصمة (عليهم السلام) وليس غرضه ذم الفقهاء على الإطلاق، إذ الفقيه العالم بالدين العامل الزكي الأخلاق الورع الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر من ورثة النبيين ومعدود من الصديقين، وهو في الآخرة من المقربين. وأما العلوم الغير الشرعية وهو ما يستفاد من العقل أو الوضع فمنها ممدوح ومنها مباح ومنها مذموم، أما الممدوح فهو ما يرتبط به صلاح الدنيا أو يستكمل به النفس ولا يضر بالدين كعلم الطب وعلم الحساب وعلم الرياضي وعلم المنطق وعلم العربية، وأمثال ذلك، وقد يجب بعض هذه العلوم إذا كان له مدخل في العلوم الشرعية كعلم الحساب المتعلق بقسمة المواريث والوصايا وغيرها، وعلم العربية لأنه آلة لعلم الكتاب والسنة لكونهما عربيين وعلم المنطق لكونه آلة لمعرفة صحة الأدلة وفسادها (1)، ثم الواجب منها قدر الضرورة والزائد عليه فضيلة لا فريضة. وأما المباح: فهو ما لا يضر جهله ولا ينفع علمه عند العقلاء كعلم العروض والقوافي وعلم


1 - ولم يذكر الحكمة والتصرف، أعني العرفان في أقسام هذه العلوم، مع أن موضوعها موضوع العلوم الشرعية، فما كان موافقا للشرع فهو منها، وما لم يكن موافقا للشرع لم يكن بذلك داخلا في العلوم الغير الشرعية كاصول الفقه والفقه، فإنهما يشملان القياس ومسائل العول والتعصيب، وليس شئ منها عندنا موافقا للشرع وكذلك الكلام والحكمة والعرفان فاشتمالها على أقوال لا يوافق مذهبنا لا يخرجها عن كونها علوما شرعية، وأما الطبيعيات فالحق أنه كالرياضي والطب إن كان له دخل في العلوم الشرعية. (ش) (*)

[ 14 ]

الأشعار التي لا ذم فيها لمؤمن وعلم التواريخ والأنساب. وأما المذموم فهو ما يكون الغرض الأصلى منه مخالفا للقوانين الشرعية، ووقع النهي عنه شرعا مثل علم الموسيقى وعلم السحر والطلسمات وعلم الشعبذة وعلم النرد والشطرنج والطنبور والأوتار وأمثال ذلك. * الأصل: 6 - علي بن محمد بن عبد الله، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن عثمان بن عيسى، عن علي بن أبي حمزة قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: " تفقهوا في الدين، فإنه من لم يتفقه منكم في الدين فهو أعرابي، إن الله يقول [ في كتابه ]: * (ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) * ". * الشرح: (علي بن محمد بن عبد الله، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن عثمان بن عيسى) واقفي، قيل: أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنه. (عن علي بن أبي حمزة قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: " تفقهوا في الدين) المراد بالتفقه فيه طلب العلوم النافعة في الآخرة الجالبة للقلب إلى حضرة القدس دائما، بحيث يعد الطالب عرفا من جملة طلبتها ومشتغلا بها، وتلك العلوم هي المعدة لسلوك سبيل الحق والوصول إلى الغاية من الكمال كالعلوم الإلهية والأحكام النبوية وعلم الأخلاق وأحوال المعاد ومقدماتها. (فإن من لم يتفقه منكم في الدين فهو أعرابي) أي كأعرابي في عدم التفقه والجهل بالأحكام وحدودها، أو في كونه من الكفر أقرب ومن الإيمان أبعد، كما قال سبحانه: * (الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله) * والأعرابي منسوب إلى الأعراب، لأنه لا واحد له، وهم الذين يسكنون البادية ولا يتعلمون الأحكام الشرعية، والعرب خلاف العجم، وهم الذين يسكنون الأمصار فقط أو البوادي أيضا فبينهما إما تباين أو عموم مطلق. (إن الله يقول في كتابه: * (ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) * فيه دلالة على امور: الأول: وهو المقصود هنا، أن التفقه واجب، لأنه تعالى أوجب النفر له، ولو لم يكن واجبا لم يكن النفر له واجبا. الثاني: أن وجوبه كفائي بدليل تخصيص النفر بطائفة من كل فرقة، ولو كان وجوبه عينيا لنسبه إلى الجميع.


[ 15 ]

الثالث: أن العمل بخبر الواحد واجب (1)، لأنه تعالى أوجب الحذر على قوم كل طائفة عند إنذارها لهم، والطائفة عدد لا يفيد قولهم العلم لأن الطائفة بعض فرقة، والفرقة تصدق على ثلاثة، فالطائفة إما واحد أو اثنان. لا يقال: المراد بالفرقة أكثر من ثلاثة بحيث يكون النافر منهم في مرتبة التواتر. لأنا نقول: حمل الفرقة على ذلك تخصيص بلا مخصص، وقد بسطنا القول فيه في اصول الفقه. * الأصل: 7 - الحسين بن محمد، عن جعفر بن محمد، عن القاسم بن الربيع، عن مفضل بن عمر قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: " عليكم بالتفقه في دين الله ولا تكونوا أعرابا، فإنه من لم يتفقه في دين الله لم ينظر الله إليه يوم القيامة ولم يزك له عملا ". * الشرح: (الحسين بن محمد، عن جعفر بن محمد) بن مالك الكوفي. (عن القاسم بن محمد بن الربيع، عن مفضل بن عمر قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: " عليكم بالتفقه في دين الله ولا تكونوا أعرابا ") أي لا تكونوا كالأعراب جاهلين بالدين غافلين عن أحكامه، معرضين عن تعلمها. (فإن من لم يتفقه في دين الله لم ينظر الله إليه يوم القيامة) كناية عن سخطه وغضبه وعدم الاعتداد به وسلب رحمته وفيضه وإحسانه وإكرامه عنه، وحرمانه عن مقام القرب والاختصاص، فإن عدم نظرنا إلى أحد مستلزم لهذه الامور، وأمثال هذه الأفعال إذا نسبت إلى من لا يجوز فيه إرادة الحقيقة يراد بها اللوازم والغايات، فليس المراد بعدم النظر عدم الرؤية لأنه تعالى يراه كما


1 - التعليم والإنذار على ثلاثة وجوه: الأول: بيان المطلب والاستدلال عليه بطريقة المدرسين والطلاب. الثاني: الافتاء بلا دليل حتى يقبل العامة تقليدا كما بين المجتهدين ومقلديهم. الثالث: الرواية بأن ينقل الحديث عن الحجة وقبله السامع، وظاهر الآية يشمل الثلاثة، فيجب على جماعة من الناس كفاية الفقه وتعليم الناس في كل شئ على ما يليق به، فيبين اصول الدين من التوحيد والعدل والنبوة والإمامة والمعاد للناس بطريق برهاني واستدلال، ويجب على الناس التعلم بالدليل السهل لا تقليدا، وأما الفقه فيجب على الناس قبول قول المجتهد بغير دليل، والآية من هذه الجهة مجملة، إذ لا يعلم منه أنه يجب على الناس قبول قول المنذرين بدليل أو بغير دليل فيلتمس لذلك حجة اخرى، وأما قبول الرواية من المخبر العدل فشمول الآية الكريمة له وإن كان قريبا، ولكن دلالته على وجوب قبول الواحد ممنوعة، بل يجب تحصيل شرائطه من مواضع اخرى. (ش) (*)

[ 16 ]

يرى غيره، ولا يخفى عليه شئ ولا عدم تقليب الحدقة إلى جانب المرئي طلبا لرؤيته، لأن هذا السلب ثابت له تعالى بالنسبة إلى الجميع باعتبار أن التقليب المذكور من صفات الأجسام والله سبحانه منزه عنها. والوجه في عدم نظره إليه أن استحقاق العبد للكرامة يوم القيامة ليس باعتبار أنه خلق الله ولا باعتبار جسمه وحسن صورته وكثرة أمواله وأولاده وعشيرته، بل إنما هو لصفاء قلبه وإحاطته بالمعارف الإلهية واتصافه بالصور العلمية وإذعانه بالشرائع النبوية وانقياده للأحكام الشرعية، فكل من كان فيه شئ منها كان أبدا منعوتا بالحرمان موصوفا بالخذلان، ويرشد إليه أيضا ما روي من طريق العامة عنه (صلى الله عليه وآله) قال: " إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن إلى قلوبكم ونياتكم وأعمالكم " (1). (ولم يزك له عملا) أي لم يقبل له عملا، لأن قبول العمل لازم لتزكيته عن شوائب النقصان وانتفاء اللازم لانتفاء الملزوم، أو لم يوفق له في تزكيته لعدم استعداده لذلك، كيف وتزكية العمل متوقفة على العلم بكماله ونقصانه وشرائطه إلى غير ذلك من الامور المعتبرة فيه والمفسدة له، والمفروض أنه جاهل بجميع ذلك ؟ * الأصل: 8 - محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن ابن أبي عمير، عن جميل بن دراج، عن أبان ابن تغلب، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " لوددت أن أصحابي ضربت رؤوسهم بالسياط حتى يتفقهوا ". * الشرح: (محمد بن إسماعيل) هذا الاسم مشترك بين ثلاثة عشر رجلا، ثلاثة منهم ثقات معتمدون، وهم محمد بن إسماعيل بزيع، ومحمد بن إسماعيل بن ميمون الزعفراني، ومحمد بن إسماعيل بن أحمد البرمكي، والعشرة الباقية لم يوثق علماء الرجال أحدا منهم، ولما اتفق علماؤنا على تصحيح ما يرويه المصنف عن محمد بن إسماعيل (2)، وكان الظاهر أن روايته عنه بلا واسطة ولا حذف ظهر أن


1 - أخرجه مسلم وابن ماجة في السنن، تحت رقم 4143. 2 - إثبات اتفاق العلماء على تصحيح هذا الطريق مشكل جدا، ومحمد بن إسماعيل هذا من العشرة الباقية قطعا، والظاهر أنه لا حاجة إلى تصحيح شخص محمد بن إسماعيل، لأن كتب فضل بن شاذان كانت معروفة في عهد المؤلف، لعدم تخلل زمان طويل بينهما، وكانت قرائن الصحة وعدم الدس في كتبه كثيرة ممكنة، ومحمد بن إسماعيل من مشيخة إجازتها. (ش) (*)

[ 17 ]

ليس المراد أحد هؤلاء العشرة على أنهم عدوا ستة منهم من أصحاب الصادق (عليه السلام)، وبقاؤهم إلى زمان المصنف بعيد جدا، فتعين أن يكون أحدا من الثلاثة المذكورين أولا، فقيل: المراد به هو ابن بزيع وهو ليس بصحيح من وجوه: الأول: أن ابن بزيع أدرك عصر الكاظم (عليه السلام) وروى عنه، وكان من أصحاب الرضا والجواد عليهما السلام، فبقاؤه إلى عهد المصنف بعيدا جدا. الثاني: أن قول علماء الرجال أدرك أبا جعفر الجواد (عليه السلام) يعطي أنه لم يدرك أحدا من الأئمة بعده، فإن مثل هذه العبارة إنما يذكرونها في آخر إمام أدركه الراوي كما لا يخفى على من له انس بكلامهم. الثالث: أنه لو بقي إلى زمن المصنف لكان قد عاصر ستة من الأئمة (عليهم السلام)، وهذه مزية عظيمة لم يظفر بها أحد غيره، فكان ينبغي لعلماء الرجال ذكرها وعدها من مزاياه، وحيث لم يذكروا علم أنه غير واقع. الرابع: أنه من أصحاب الأئمة الثلاثة (عليهم السلام)، وقد سمع منهم أحاديث متكثرة بالمشافهة، فلو لقيه المصنف لنقل عنه شيئا منها بلا واسطة بينه وبين الأئمة (عليهم السلام)، لأن قلة الوسائط شئ مطلوب، وشدة اهتمام المحدثين بعلو السند أمر معلوم وحيث لم ينقل عنه كذلك علم أنه غيره، وإذا أظهر ضعف هذا القول بقي الاحتمال دائرا بين الزعفراني والبرمكي، لكن الزعفراني ممن لقي الصادق (عليه السلام)، كما نص عليه النجاشي فيبعد بقاؤه إلى عهد المصنف، فيبقى الظن في جانب البرمكي، ويتأكد بأن الصدوق يروي عن الكليني بواسطة، وعن البرمكي بواسطتين، وبأن الكشي وهو كان معاصر المصنف يروي عن البرمكي بواسطة وبدونها، وبأن محمد بن جعفر الأسدي المعروف بأبي عبد الله الذي كان معاصر البرمكي توفي قبل وفاة المصنف بقريب من ستة عشرسنة فيقرب زمان المصنف من زمان البرمكي جدا، هذا ملخص ما ذكره أفضل المتأخرين الشيخ بهاء الملة والدين في مشرق الشمسين، وقد بسط الكلام فيه بسطا عظيما، من أراد الاطلاع عليه فليرجع إليه. وقال ابن الشهيد الثاني: ويظهر من الكشي أن للفضل بن شاذان صاحبا اسمه محمد بن إسماعيل البندقي، ولا يبعد أن يكون هو. وقال السيد الداماد: هو أبو الحسين النيشابوري محمد بن إسماعيل بن علي بن سختويه (1) الذي ذكره الشيخ في باب " لم " (2) من كتاب الرجال، وقد علمنا من الطبقات أنه


1 - ما ذكره السيد الداماد (قدس سره) موافق لما نقل عن ابن الشهيد الثاني، وهو البندقي بعينه، والبندقي مصحف، وبالجملة فقول السيد متعين، ومحمد بن إسماعيل هذا هو النيسابوري صاحب فضل بن شاذان بغير شك، وقد اختار ذلك أيضا صاحب الوافي حيث يعبر عن محمد بن إسماعيل عن الفضل بن شاذان بقوله النيسابوريان. (ش) = (*)

[ 18 ]

يروي عن الفضل بن شاذان. (عن الفضل بن شاذان) ثقة جليل فقيه متكلم عظيم الشأن في هذه الطائفة، وقيل: إنه صنف مائة وثمانين كتابا، وترحم عليه أبو محمد (عليه السلام) مرتين. (عن ابن أبي عمير) قال العلامة: هو جليل القدر عظيم المنزلة فينا وعند المخالفين، وقال الكشي: إنه ممن اجتمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنه، وأقروا له بالفقه والعلم، وقال الشيخ الطوسي: هو أوثق الناس عند العامة والخاصة وأنسكهم وأورعهم وأعبدهم، أدرك من الأئمة ثلاثة: أبا إبراهيم موسى بن جعفر (عليهما السلام)، ولم يرو عنه، وروى عن أبي الحسن الرضا وأبي جعفر الثاني (عليهما السلام). (عن جميل بن دراج) وجه هذه الطائفة ثقة روى عن أبي عبد الله وأبي الحسن (عليهما السلام). (عن أبان بن تغلب) ثقة جليل القدر عظيم المنزلة في أصحابنا، لقي أبا محمد علي بن الحسين وأبا جعفر وأبا عبد الله (عليهم السلام) وروى عنهم. (عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لوددت أن أصحابي ضربت) بضم التاء على صيغة المتكلم، أو بسكونها، وضم الضاد على البناء للمفعول. (رؤوسهم بالسياط حتى يتفقهوا) السياط بكسر السين جمع السوط، وهو الذي يجلد به، والأصل سواط بالواو فقلبت ياء لكسرة ما قبلها ويجمع على الأصل على أسواط، وأما جمعه على أسياط فشاذ، وفي ذكر الرأس دون سائر الأعضاء مع أنه أشرفها، ولذلك ورد النهي عن ضربه في الحدود لما فيه من الوجه وأكثر القوى مبالغة في تأديبهم بترك التفقه، وفيه دلالة على أنه لا بد للحاكم من أن يحمل الرعية على المعروف إذا تركوه وإن احتاج إلى الضرب، وغيره من أنحاء التأديب والتعذيب. * الأصل: 9 - علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن محمد بن عيسى، عمن رواه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال له رجل: جعلت فداك، رجل عرف هذا الأمر، لزم بيته ولم يتعرف إلى أحد من إخوانه ؟ قال: فقال: " كيف يتفقه هذا في دينه ؟ ". * الشرح: (علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن محمد بن عيسى، عمن رواه عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال له رجل: جعلت فداك، رجل عرف هذا الأمر) أي أمر الإمامة واعتقد به اعتقادا صحيحا، والجملة صفة لرجل عند من لم يجوز الابتداء بالنكرة المحضة أو خبر عند من جوزه. وقوله: (لزم بيته) إما


= 2 - أي في باب من لم يرو عنهم (عليهم السلام). (*)

[ 19 ]

خبر وخبر بعد أخبر. (ولم يتعرف إلى أحد من إخوانه) أي لم يصر معروفا عنده لعدم تردده إليه حتى يعرفه من قولهم: ائت فلانا واستعرف إليه حتى يعرفك، أو لم يتطلب ما عند أحد حتى يعرفه من قولهم: تعرفت ما عند فلان، أي تطلبت حتى عرفت. (قال: فقال: كيف يتفقه هذا في دينه ؟) والسر فيه أن التفقه مطلوب من كل أحد وأنه لا يمكن إلا بالتعلم، لأن العلم بالدين متوقف على السماع من صاحبه وواضعه بواسطة أو بغيرها، والتعلم لا يمكن إلا بالتردد إلى من هو من أهل العلم وطول ملازمته وتكرر مصاحبته والسؤال عنه، فمن لزم بيته وترك التردد أورد نفسه مورد الهلاك كمريض لم يعرض مرضه على طبيب حاذق بل ذاك أشد لأن طبيعة المريض قدتعالج المرض وتدفعه بخلاف طبيعة الجاهل، فإن آثارها وأفعالها تعاضد الجهل وتزيده. لا يقال: هذا ينافي ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: " يا أيها الناس، طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس، فطوبى لمن لزم بيته وأكل قوته واشتغل بطاعة ربه وبكى على خطيئته " (1). لأنا نقول: المراد به المنع من الدخول في مجالس يذكر فيها عيوب الناس كما يشعر به صدر الحديث، أو المنع من التوغل في طلب الدنيا وزهراتها، كما يشعر به قوله: " وأكل قوته " يعني قوته المقدر له، أو نقول: هذا الحكم يعني المدح بلزوم البيت مختص بالعالم المستغني عن التعلم، كما يشعر به قوله: " واشتغل بطاعة ربه "، لأن الاشتغال بالطاعة فرع العلم بها وبشرائطها وأحكامها، أو نقول: المراد به الحث على الفرار من شرار الناس وفساقهم كما يشعر به قوله (صلى الله عليه وآله) حين سئل عن أفضل الناس قال: " رجل في شعب من الشعاب يعبد ربه ويدع الناس من شره " (2). وبالجملة كل من المصاحبة والمخالطة والاعتزال والمفارقة مطلوب في الجملة، والروايات فيها متكاثرة، ولعل السر في ذلك اختلاف الحكم والمصالح بحسب الأزمان والأشخاص، بل بحسب اختلاف حال شخص واحد بحسب الأوقات، فرب زمان يحسن فيه الالفة، وفي زمان آخر يحسن فيه الفرقة، ولذلك كان الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) مع كونهم مأمورين بإرشاد الناس ربما كانوا يفارقونهم


1 - النهج - في آخر خطبة له (عليه السلام)، أولها: " انتفعوا ببيان الله "، رقمها 174. 2 - رواه أحمد في مسنده ج 3، ص 477، من حديث كرز بن علقمة الخزاعي، قال: أتى النبي (صلى الله عليه وآله) أعرابي فقال: يا رسول الله، هل لهذا الأمر من منتهى ؟ قال: نعم، فمن أراد الله به خيرا من أعجم أو عرب أدخله عليهم، ثم تقع فتن كالظلل يعودون فيها أساود صبا يضرب بعضكم رقاب بعض وأفضل الناس يومئذ مؤمن معتزل في شعب من الشعاب.. الحديث. (*)

[ 20 ]

ويعتزلونهم لمصلحة، وإن شئت زيادة توضيح فارجع إلى ما ذكرنا في شرح بعض الأحاديث السابقة فإنا قد بسطنا الكلام هنا بما لا مزيد عليه.


[ 21 ]

باب صفة العلم باب صفة العلم وفضله وفضل العلماء * الأصل: 1 - محمد بن الحسن وعلي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن محمد بن عيسى، عن عبيدالله بن عبد الله الدهقان، عن درست الواسطي، عن إبراهيم بن عبد الحميد، عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) قال: دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله) المسجد فإذا جماعة قد أطافوا برجل فقال: " ما هذا ؟ "، فقيل: علامة، فقال: " وما العلامة ؟ ". فقالوا له: أعلم الناس بأنساب العرب ووقائعها وأيام الجاهلية والأشعار [ و ] العربية، قال: فقال النبي (صلى الله عليه وآله): " ذاك علم لا يضر من جهله، ولا ينفع من علمه، ثم قال النبي (صلى الله عليه وآله): " إنما العلم ثلاثة: آية محكمة، أو فريضة عادلة، أو سنة قائمة، وما خلاهن فهو فضل ". * الشرح: (محمد بن الحسن وعلي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن محمد بن عيسى، عن عبيد الله بن عبد الله الدهقان) قيل: الدهقان اسم أعجمي مركب من ده وقان، ومعناه سلطان القرية، لأن ده اسم القرية، وقان اسم السلطان. (عن درست الواسطي، عن إبراهيم بن عبد الحميد، عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) قال: دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله) المسجد فإذا جماعة قد أطافوا برجل فقال: ما هذا ؟) كلمة " ما " للاستفهام وطلب التصور، وهي على قسمين: الأول: أن يكون المطلوب بها شرح الاسم وحينئذ يجاب بلفظ دلالته على المطلوب أظهر وأشهر، سواء كان مفردا أو مركبا. الثاني: أن يكون المطلوب بها طلب مهية الشئ وحقيقته، سواء كان ذلك الشئ ذاتا مثل: ما الإنسان، أو وصفا مثل: ما العلم، أو مركبا منهما مثل: ما الإنسان العالم، والظاهر أن المراد هنا هو القسم الثاني المحقق في الاحتمال الأخير، لأن المقصود هو السؤال عن حقيقة ذلك الرجل المتصف بالوصف الباعث لاجتماع الخلق عليه، يعني عن حقيقة هذا المجموع. (فقيل: علامة) أي هو رجل موصوف بكثرة العلم، والتاء للمبالغة في وصف العلم، بناء على أن كثرة الشئ فرع تحقق أصله، كما أن التأنيث فرع التذكير، ويحتمل أن يكون لفظ " هذا " إشارة إلى الاجتماع، ويكون " ما " سؤالا عن سببه بمعنى لم، أي ما سبب هذا الاجتماع، فاجيب بأن سببه كثرة علمه، ولكنه بعيد.


[ 22 ]

(فقال: وما العلامة ؟) يحتمل أن يكون " ما " هنا لطلب شرح الاسم، لأن مفهوم العلامة له أفراد كثيرة باعتبار تعدد فنون العلم، فلم يعلم أن مرادهم من العلامة أي فرد منها، فاحتيج إلى السؤال ليعلم مرادهم. (فقالوا) لتفسير المقصود من بين تلك الأفراد وتعيينه. (أعلم الناس بأنساب العرب ووقائعها وأيام الجاهلية) أي أيام الوقائع الجاهلية أو أيام أزمنتها أو نحو ذلك، ولو كانت أيام معرفة باللام لما احتيج إلى هذا التقدير. (والأشعار والعربية) وفي بعض النسخ " والأشعار العربية " على الوصف بدون الواو، ويحتمل احتمالا ظاهرا أن يكون " ما " هنا لطلب الحقيقة ويكون المقصود من السؤال الاستكشاف عن حقيقة كون ذلك الرجل علامة، والجواب حينئذ ظاهر الانطباق عليه. لا يقال: المناسب هاهنا السؤال عن سبب كونه علامة لا عن حقيقة كونه علامة، فالمناسب إيراد كلمة لم بدل " ما " بأن يقال: لم هو علامة ؟ لأنا نقول: لا نسلم أن المناسب ذلك، لأنهم لما وصفوه بأنه علامة فقد ذكروا أن السبب هو العلم الموصوف بالكثرة والزيادة، والمناسب حينئذ السؤال عن حقيقة العلامة ليعلم هل علموا حقيقته في إطلاقه على ذلك الرجل أم لا ؟ ولو سلم فلا ريب أن السؤال عن حقيقته أيضا يناسب في الحصر غير معقول، والحق أن السؤال ههنا عن كل واحد منهما صحيح، وأن الجواب الصحيح عن كل واحد من السؤالين مستلزم للجواب عن الآخر مثلا إذا قيل: فلان ضارب صح أن يقال: لم هو ضارب ؟ كما صح أن يقال: ما الضارب ؟ فإن اجيب عن الأول بقيام الضرب به علم منه حقيقة الضارب أيضا بأنه الذي يقوم به الضرب، وإن اجيب عن الثاني بأنه الذي يقوم به الضرب علم سبب إطلاق الضارب عليه، وهو اتصافه بالضرب، وإن اجيب عنهما بغير ذلك مما لا يصح وجب تنبيه المجيب على خطئه كما فيما نحن فيه فإنهم أخطأوا وأجابوا عن السؤال المذكور بأنه أعلم الناس بالامور المذكورة، زعما منهم أن للامور المذكورة مدخلا في كونه علامة، ولذلك نبههم على الخطأ. (قال: فقال النبي (صلى الله عليه وآله): ذاك علم لا يضر من جهله ولا ينفع من علمه) في الآخرة، وإنما ذاك نوع فضيلة يصطاد به الحطام ويكتسب به صرف قلوب العوام، وما هذا شأنه لا يعتد به ولا يعد صاحبه علامة. (ثم قال النبي (صلى الله عليه وآله)) إرشادا لهم إلى العلم الذي يضر جهله يوم المعاد، وينفع يوم يقوم فيه الأشهاد ويصح أن يقال لصاحبه: علامة لوجود حقيقة هذا الاسم وجبت إطلاقه فيه. (إنما العلم) أي الذي يستحق إطلاق اسم العلم عليه وينفع في الدين والدنيا.


[ 23 ]

(ثلاثة: آية محكمة) أي غير منسوخة لأحكام معناها وعدم إزالة حكمها، أو غير متشابهة لأحكام بيانها بنفسها وعدم افتقارها في معرفة ما فيها من الحقائق والمعارف والأحكام إلى غيرها ذلك، وعدم احتياجها إلى تأويل أو غير مختلف فيها يقال: هذا الشئ محكم إذا لم يكن فيه اختلاف. (أو فريضة عادلة) أي العلم بالواجبات المتوسطة بين الإفراط والتفريط، وقيل: المراد بها العلم بالواجبات العادلة أي الباقية الغير المنسوخة، وقيل: المراد بها العلم بما اتفق عليه المسلمون، وقال في النهاية: أراد بالعادلة العدل في القسمة، أي فريضة معدلة على السهام المذكورة في الكتاب والسنة من غير جور، ثم قال: ويحتمل أنها مستنبطة من الكتاب والسنة، فتكون هذه الفريضة تعدل بما اخذ عنهما. (أو سنة قائمة) المراد بالسنة الطريقة النبوية، وبالقائمة الدائمة المستمرة التي العمل بها متصل لا يترك من: قام فلان على الشئ إذا ثبت عليه وتمسك به، والمراد بها العلم بما يكون ثبوته من السنة النبوية التي لا يطرأ عليها النسخ، سواء كان فريضة أو لا، وخص بعض بغير الفريضة بقرينة المقابلة، والأول إشارة إلى العلم بالمحكمات القرآنية المتعلقة باصول الدين وفروعه وبالمواعظ والنصائح والعبرة بأحوال الماضين، وإنما خص المحكم بالذكر لأن المنسوخ ليس للعلم بمضمونه كثير نفع، والمختلف فيه لا يعلم الحق منه قطعا إلا المعصوم، وكذا المتشابه لقوله تعالى: * (وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم) *. والثاني إشارة إلى العلم بكيفية العمل وجميع الامور المعتبرة فيه شرعا من غير إفراط وتفريط. والثالث إشارة إلى العلم بالأحاديث التي بعضها في التوحيد وما يليق به، وبعضها في المعاد وما يناسبه، وبعضها في الأخلاق وما يتعلق بها، وبعضها في الأحكام وما يعتبر فيها، وبعضها في عادات الرسول والأئمة صلى الله عليه وعليهم أجمعين، ويحتمل أن يكون الثاني إشارة إلى العلم بواجبات الأعمال البدنية والقلبية التي تشمل الأخلاق والمعارف الاصولية، وأن يكون الثالث إشارة إلى العلم بمستحباتها، ووجه حصر العلم في الثلاثة ظاهر، لأن العلوم النافعة إما متعلقة باصول العقائد أو بفروعها، والثانية إما متعلقة بأعمال الجوارح، أو بأفعال القلب من محاسن الأخلاق ومقابحها والاعتبار والاتعاظ وجميع ذلك مندرج في الثلاثة المذكورة. (وما خلاهن فهو فضل) أي زيادة لا خير فيه في الآخرة، سواء كان ممدوحا في نفسه كعلم الرياضي والهندسة ونحوهما، أو مذموما كعلم السحر والشعبذة ونحوهما، وعلم بعض مسائل الحساب والعربية والمنطق في هذا الحصر داخل في الثلاثة المذكورة بالعرض على سبيل المبدئية، فلا ينافي ما ذكرناه آنفا، وإنما قال: " وما خلاهن فضل " ولم يقل: حرام لوجوه:


[ 24 ]

الأول: أن الحكم بالحرمة ليس كليا. الثاني: أن للحاكم أن يمنع الناس عن الاشتغال بما لا ينفعهم كثيرا برفق وقول لين. الثالث: الإشارة إلى أن العلم من حيث إنه علم ليس بحرام (1)، وإن تعلقت به الحرمة والدم فإنما هو باعتبار العمل والآثار المقصودة منه كعلم السحر والأعداد والموسيقى والنجوم وأمثالها. أما الثلاثة الاول فأعظم منافعها هو الاضرار بالغير والتفريق بين الأحبة والعناد، وأما علم النجوم فالزجر عنه (2) مع قوله تعالى: * (إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لاولي الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار) *، وقوله تعالى: * (والشمس والقمر بحسبان) *، وقوله تعالى: * (والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم) *، وقوله تعالى: * (والنجوم مسخرات بأمره) *، فلوجوه ذكروها: الأول: أن العلم بالنجوم وأحكامها وعددها على ما هي عليه في نفس الأمر لا يحصل إلا للأنبياء والأوصياء (عليهم السلام)، وأما غيرهم فلا يحصل لهم إلا ظن وتخمين، فيكون الحكم بها حكما بظن بل بجهل، فيكون ذمه من جهة أنه جهل لا من جهة أنه علم، ويدل عليه بعض الأحاديث المروية في هذا الكتاب كحديث القلنسوة في كيفية دور الفلك (3)، وحديث المنجم مع أمير المؤمنين (عليه السلام) (4)،


1 - قال العلامة المجلسي (رحمه الله) في اعتقاداته في ترغيب طالب العلم وما يطلب: " لا يبالي - يعني طالب العلم - أن يعده أهل الزمان وجهلة الدوران حشويا أو قشريا أو زاهدا خشكا أو ينسبونه إلى الجهل "، وقال: " ينبغي أن يبغى معلما مستأنسا بكلام أهل البيت (عليهم السلام) وأخبارهم معتقدا لها - إلى أن قال: - وينبغي أن يحصل نبذة من العلوم الآلية لافتقار علم الحديث إليها كعلم الصرف والنحو، وقليلا من المنطق، وقليلا من علم الاصول، وبعض الكتب الفقهية، ثم يبذل غاية الجهد في علم الحديث " انتهى. وينبغي أن يكون علم الحديث مع تدبر وتفهم، لا حفظ الألفاظ، كما سيجئ إن شاء الله في حديث: " ألا لا خير في علم ليس فيه تفهم "، ومع ذلك فلا يوافقه أكثر العلماء، وما ذكره إنما هو وظيفة المحدث دون المفسر، والفقيه والمتكلم وغيرهم ممن بهم قوام أمر الدين. (ش) 2 - الآيات الكريمة تدل على مدح علم النجوم والترغيب فيه فلا بد أن يكون النهي واردا على شئ لا ينافي المدح والترغيب، والذي ذكره السيد المرتضى (رحمه الله) وجه جمع صحيح وبيناه في حواشي الوافي، وهو: أن الممدوح ما يتعلق بالتسييرات وضبط الحركات ومقادير الليل والنهار وعروض البلدان وأطوالها ومعرفة القبلة، وبالجملة ما يتعلق بالحساب وضبط المقادير والمنهي هو ما يتعلق بخواص الكواكب وأوضاعها وما هو معروف عندهم بعلم أحكام النجوم، والغرض منه التخرص على الغيب بغير علم ونهي عنه، لأنه لا دليل على ما ذكروه فيها، وهو تضييع للوقت بغير فائدة، وإنما يحرم الحكم بها على البت لا صرف تعلمها. (ش) 3 - الروضة من الكافي، تحت رقم 549.

[ 25 ]

وحديث الزهرة (1). الثاني: أن الخائض فيه ربما يقع في نفسه أن الكواكب والأوضاع الفلكية هي المؤثرات والآلهة المدبرات حقيقة فيلتفت إليها ويغفل قلبه عن بارئها وصانعها. الثالث: أن فيه غموضا ودقة، والخوض في علم لا يدركه الخائض مذموم، كما ورد النهي عن تعليم العلم لغير أهله، وعن الخوض في مسألة القدر، وبالجملة كل علم ورد النهي عنه فإنما هو لقلة نفعه، أو لقبح أثاره، أو لعدم إدراكه. * الأصل: 2 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن خالد، عن أبي البختري، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " إن العلماء ورثة الأنبياء، وذاك أن الأنبياء لم يورثوا درهما ولا دينارا، وإنما أورثوا أحاديث من أحاديثهم، فمن أخذ بشئ منها فقد أخذ حظا وافرا، فانظروا علمكم هذا عمن تأخذونه ؟ فإن فينا أهل البيت في كل خلف عدولا ينفون عنها تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين ". * الشرح: (محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن خالد، عن أبي البختري) بالخاء المعجمة، اسمه وهب بن وهب، قال العلامة: إنه كان قاضيا كذابا عاميا، ونقل الكشي عن الفضل بن شاذان أنه من أكذب البرية، وقال الشيخ: إنه ضعيف عامي المذهب. أقول: الحديث معتبر وإن كان الراوي كذوبا (2)، لأن الكذوب قد يصدق. (عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن العلماء ورثة الأنبياء) والوارث من يرث رجلا بعد موته. وقال ابن الأثير في أسماء الله تعالى: الوارث هو الذي يرث الخلائق بعد فنائهم، ومنه الحديث: " اللهم متعني بسمعي وبصري واجعلهما الوارثين مني " أي أبقهما صحيحين سليمين إلى أن أموت. وقيل: أراد بقاءها وقوتهما عند الكبر وانحلال القوى النفسانية، فيكون السمع والبصر وارثي سائر القوى والباقين بعدها، وقيل: أراد بالسمع وعي ما يسمع والعمل به، وبالبصر الاعتبار بما يرى، وفيه فضل عظيم وشرف جسيم للعلماء وترغيب بليغ في تحصيل العلم.


= 4 - راجع نهج البلاغة - من كلام له (عليه السلام)، تحت رقم 77. 1 - الروضة من الكافي، تحت رقم 233. 2 - اعتباره لمطابقة مضمونه للعقل بل الحس، ولما تواتر عنهم من مدح العلم والعلماء، والإجماع عليه، وإنما يطلب السند في الامور المخالفة للأصل والقاعدة. (ش) (*)

[ 26 ]

(وذاك أن الأنبياء لم يورثوا درهما ولا دينارا) هذا ينافي ظاهرا ما دل من الآيات والروايات على إيراثهم. والجواب: أن المراد أن الأنبياء لم يكن من شأنهم وعاداتهم جمع الأموال والأسباب كما هو شأن أبناء الدنيا، وهذا لا ينافي إيراثهم ما كان في أيديهم من الضروريات كالمساكن والمركوب والملبوس ونحوها، أو المراد أن الأنبياء من حيث إنهم أنبياء لم يورثوا ذلك يعني أن إيراث النبوة ومقتضاها ليس ذلك. (وإنما أورثوا أحاديث) الحديث في اللغة الخبر يأتي على القليل والكثير، ويجمع على أحاديث على غير قياس، وفي العرف قيل: هو ما يحكي قول النبي (صلى الله عليه وآله) أو فعله أو تقريره. وفيه: أنه لا يصدق على المسموع منه ومن العترة الطاهرة، وعلى ما يحكي قول العترة أو فعلهم أو تقريرهم. وقيل: هو ما يحكي قول المعصوم أو فعله أو تقريره. وفيه: أنه لا يصدق على المسموع منه غير محكي عن مثله، والقول بأنه ليس بحديث باطل قطعا. وقيل: هو قول المعصوم أو فعله أو تقريره أو حكاية هذه الامور، وأما ما لا ينتهي إلى المعصوم وإن انتهى إلى صحابي أو من رأى صحابيا فليس بحديث عندنا. (من أحاديثهم) " من " متعلق بأورثوا وصلة له، مثل قولهم: فلان أعطى من ماله كذا، أو للتبعيض على أنه صفة للأحاديث، أو حال عنها، والتبعيض يتحقق في أكثر الامة وإلا فأورثوا أوصياءهم (عليهم السلام) جميعها. (فمن أخذ بشئ منها) أخذ دراية وفهم لا مجرد أخذ رواية ونقل، لأن هذا ليس من باب وراثة العلم وإن كان له فضل أيضا، إلا أنه دون فضل الأول، لأن أصحابه من خدمة العلماء. (فقد أخذ حظا وافرا) لفضله وشرفه وكونه من تركة الأنبياء حتى يعد قليل منه خيرا من الدنيا وما فيها، ومن يؤت الحكمة فقد اوتي خيرا كثيرا، وقد نقل شيخ العارفين بهاء الملة والدين عن بعض أصحاب الكمال في تحقيق معنى الآل كلاما يناسب ذكره في هذا المقام، وهو: أن آل النبي (عليهم السلام) كل من يؤول إليه، وهم قسمان: الأول: من يؤول إليه أولا صوريا جسمانيا كأولاده ومن يحذو حذوهم من أقاربه الصوريين الذين يحرم عليهم الصدقة. والثاني: من يؤول إليه أولا معنويا روحانيا، وهم أولاده الروحانيون من العلماء الراسخين والأولياء الكاملين والحكماء المتألهين المقتبسين من مشكاة أنواره، سواء سبقوه بالزمان أو لحقوه (1)، ولا شك أن النسبة الثانية آكد من الاولى، وإذا اجتمعت النسبتان كان نورا على نور كما في


1 - كأنه أراد بالعلماء الراسخين علماء الشريعة، وبالأولياء الكاملين علماء الطريقة، أعني المتحققين

[ 27 ]

الأئمة المشهورين من العترة الطاهرة صلوات الله عليهم أجمعين وكما حرم على الأولاد الصوريين الصدقة الصورية كذلك حرم على الأولاد المعنويين الصدقة المعنوية، أعني تقليد الغير في العلوم والمعارف، ثم قال: هذا ملخص كلامه، وهو مما يستوجب أن يكتب بالتبر على الأحداق لا بالحبر على الأوراق. أقول: وإنما كانت النسبة الثانية آكد من الاولى، لأن التفاوت بين النسبتين مثل التفاوت بين الروح والبدن، ولذلك اتفق الحكماء على أن حق المعلم الروحاني على المتعلم أولى وأعظم من حق أبيه الجسماني عليه. (فانظروا علمكم هذا) أي الذي هو ميراث الأنبياء. (عمن تأخذونه) قيل: المقصود أنكم تأخذونه من النبي فينبغي لكم أن تهتموا بأمره ولا تساهلوا في طلبه، لأنه مما آثره خير الناس ومن مواريثه التي تركها لكم، والحق أن المقصود منه هو التنبيه على أنه ينبغي لكم أن تعرفوا أحوال الناس حتى تجدوا أهل هذا العلم لتأخذوه منه، لأن مدعي العلم بعد النبي (صلى الله عليه وآله) كثير والجميع ليسوا قائلين بالصواب ولا آخذين من مشكاة النبي (صلى الله عليه وآله)، بل أكثرهم يدعونه بمجرد الأهواء طالبين للتقدم والرياسة، تابعين للشيطان والنفس الأمارة بالسوء، وإنما القائلون بالحق الآخذون له من منبع الرسالة هم أهل البيت الذين عصمهم الله تعالى من الخطأ والخطل وطهرهم من الأرجاس والزلل، واختارهم لإرشاد الخلائق إلى الطريقة الغراء وهدايتهم إلى الشريعة البيضاء في كل عصر واحد بعد واحد لئلا يكون للناس عليه حجة فوجب أخذه عنهم إلى قيام الساعة، وقد نبه على هذا بقوله: (فإن فينا أهل البيت) " فينا " خبر " إن " قدم على اسمه وهو " عدولا " للحصر أو للتشويق إلى ذكره، أو لكونه ظرفا، وأهل البيت منصوب على المدح بتقدير أعني أو مجرور بتقدير " في " بقرينة المقام، وإن كان تقديرها شاذا على أنه بدل ل‍ " فينا " أو مجرور على أنه بدل عن ضمير المتكلم إن جوز. (في كل خلف) الخلف بالتحريك والسكون كل من يجئ بعد من مضى إلا أنه بالتحريك في


= بتهذيب النفس والعارفين بدقائق المعارف بنور إلهي وكشف قدسي، وبالحكماء المتألهين أصحاب النظر الذين علموا بعقولهم بعض ما يتعلق بالمبدأ والمعاد بقدر الطاقة البشرية، والذين سبقوه بالزمان نظير لقمان وسائر الموحدين من أوائل الحكماء، وفي اقتباسهم من مشكاة أنوارهم تحقيق لا يليق ذكره هنا، ومدح هؤلاء إنما هو إذا كانوا مقتبسين من مشكاة أنوار النبوة لا الفقهاء المعتمدون على الآراء والقياسات ولا المدعون من أهل الطريقة الناكبون عنها بالبدع، ولا الحكماء المعرضون عن الإلهيات والتاركون للعقل المقبلون على الحس، فإنهم ليسوا حكماء حقيقة. (ش) (*)

[ 28 ]

الخير وبالتسكين في الشر يقال: خلف صدق وخلف سوء، والمراد في هذا الحديث المفتوح والمعنى في كل قرن وفي كل من جاء من الامة بعده (صلى الله عليه وآله)، ويحتمل بعيدا في كل ما يخلف عنه (صلى الله عليه وآله) من الأحاديث والعلوم. (عدولا) أي امة وسطا لهم استقامة وثبات في منهج الحق وطريق الصدق من غير تحريف وجور وتقصير. (ينفون عنه تحريف الغالين) أي المجاوزين فيه عن الحدود، والتحريف تغيير الكلام عن موضعه. (وانتحال المبطلين) لاصول الدين وفروعه، يقال: فلان انتحل مذهب كذا إذا انتسب إليه، وانتحل قول غيره إذا ادعاه لنفسه، فالانتحال إما بمعنى الانتساب، أو بمعنى سرقة الشئ وإخراجه عن موضعه، والعدول من أهل البيت يحفظون بيت الشريعة ويمنعون المبطلين لأساسها المنتسبين إليها على وجه الباطل من الدخول فيها والتصرف فيها ويدفعون السارقين القاصدين لسرقة ما فيها من السرقة وتغيير الشئ من أصله وإخراجه عن وضعه. (وتأويل الجاهلين) بعلوم الكتاب والسنة على وفق آرائهم الفاسدة وظنونهم الباطلة من غير أن يكون لهم في ذلك نص صريح أو خبر صحيح، وهؤلاء العدول الأئمة (عليهم السلام) الراسخون في العلم الذين يعلمون معالم التنزيل ووجوه التأويل بإعلام نبوي وإلهام إلهي، ويشاهدون الحقائق بعين اليقين لصفاء طينتهم وضياء سريرتهم وخلوص عقيدتهم وكمال بصيرتهم، واولئك أهل الذكر واولئك اولوا الألباب، وفيه دلالة على أن ميراث العلم انتقل إليهم أولا ثم بوساطتهم إلى من شاء الله هدايته، وعلى أن عصرا من الأعصار لا يخلو عن معصوم وعلى حجية الإجماع ومثل هذا روي من طريق العامة عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: " يحمل هذا العلم من كل خلف عدول ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين " (1) (2).


1 - أخرجه البغوي في المصابيح ج 1، ص 23، والبيهقي في كتاب المدخل مرسلا كما في مشكاة المصابيح - كتاب العلم. 2 - قوله: " الغالي " هو من يجاوز الحد في الأئمة (عليهم السلام) ويقول فيهم ما لا يقولون في أنفسهم كالنبوة والالوهية، ولهم أحاديث منحولة نقلوها عن الأئمة (عليهم السلام)، وذكرهم علماء الرجال في كتبهم، و " المبطل " من له رأي باطل كالوعيدية والمجسمة والقدرية والحشوية، وبعضهم ينسب نفسه إلى الأئمة (عليهم السلام) ولهم أيضا روايات، وأما " الجاهل " فهو من لا معرفة له بالعلوم ولا يلتفت إلى القرائن، ويتكلم في كل حديث يسمعه بوجه يقتضيه جهله، يتبرؤون من أهل العلم والتحقيق، ويقعون فيهم، وإذا تتبعنا وجدنا ثلم الدين منحصرا في هؤلاء الثلاثة، ولا يقع بغيرهم ثلم يعتد به البتة، والغالي أيضا المتجاوز عن الحد في التقشف باسم الدين نظير الخوارج، والمبطل أهل البدعة، والجاهل معلوم.

[ 29 ]

* الأصل: 3 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الحسن بن علي الوشاء، عن حماد بن عثمان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " إذا أراد الله بعبد خيرا فقهه في الدين ". * الشرح: (الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الحسن بن علي الوشاء، عن حماد بن عثمان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا أراد الله بعبد خيرا فقهه في الدين) قال شيخ العارفين بهاء الملة والدين: ليس المراد بالفقه الفهم ولا العلم بالأحكام الشرعية العملية عن أدلتها التفصيلية، فإنه معنى مستحدث، بل المراد به البصيرة في أمر الدين والفقه أكثر ما يأتي في الحديث بهذا المعنى، والفقيه هو صاحب هذه البصيرة، وإليها أشار النبي (صلى الله عليه وآله) بقوله: " لا يفقه العبد كل الفقه حتى يمقت الناس في ذات الله ويرى للقرآن وجوها كثيرة " (1)، ثم يقبل على نفسه فيكون لها أشد مقتا ثم هذه البصيرة إما موهبية وهي التي دعا بها النبي (صلى الله عليه وآله) لأمير المؤمنين (عليه السلام) حين أرسله إلى اليمن بقوله: " اللهم فقهه في الدين " (2)، أو كسبية، وهي التي أشار إليها أمير المؤمنين (عليه السلام) حيث قال لولده الحسن (عليه السلام): " وتفقه يا بني في الدين " (3)، وفي كلام بعض الأعلام أن اسم الفقه في العصر الأول إنما كان يطلق على علم الآخرة ومعرفة دقائق آفات النفوس ومفسدات الأعمال، وقوة الإحاطة بحقارة الدنيا وشدة التطلع إلى نعيم الآخرة، واستيلاء الخوف على القلب، ويدل عليه قوله تعالى: * (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) *، فقد جعل العلة الغائية من الفقه الإنذار والتخويف، ومعلوم أن ذلك لا يترتب إلا على هذه المعارف لا على معرفة فروع الطلاق والمساقاة والسلم وأمثال ذلك.


= وقوله: " لا يخلو عن معصوم " لقوله: فينا أهل البيت، ويدل على حجية الإجماع لأنا إذا رأينا الطائفة مجمعين على شئ علمنا أنه ليس باطلا، إذ لو كان باطلا لنفاه المعصوم، فإما أن يقبل قوله الجميع فيتفقون على الحق، وإما أن يقبله بعض فيحصل الخلاف، ولا يحتمل الاتفاق على الباطل. وقال المجلسي (رحمه الله) في البحار: ولا يخفى أن في زمان الغيبة لا يمكن الاطلاع على الإجماع، إذ مع فرض إمكان الاطلاع على مذاهب جميع الإمامية مع تفرقهم وانتشارهم في أقطار البلاد والعلم بكونهم متفقين على مذهب واحد لا حجة فيه، وهذا الاعتراض الذي ذكره المجلسي (رحمه الله) نقله العلامة (قدس سره) في النهاية من بعض من تقدم عليه، وأجاب بجواب كاف مقنع، وكأنه لم يره المجلسي (رحمه الله) فجدد الاعتراض. (ش) 1 - منتخب كنز العمال (بهامش مسند أحمد) ج 4، ص 36، قال: " رواه الخطيب في المتفق والمفترق من حديث شداد بن أوس ". 2 - ذكره المؤرخون في حوادث السنة العاشرة. 3 - النهج - أبواب الكتب، تحت رقم 31. (*)

[ 30 ]

* الأصل: 4 - محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن حماد بن عيسى، عن ربعي بن عبد الله، عن رجل، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال: " الكمال كل الكمال التفقه في الدين، والصبر على النائبة، وتقدير المعيشة ". * الشرح: (محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن حماد بن عيسى) الجهني البصري، ثقة، روى عن أبي عبد الله وأبي الحسن والرضا (عليهم السلام)، ومات في حياة أبي جعفر الثاني (عليه السلام). (عن ربعي بن عبد الله) بصري، ثقة. (عن رجل، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال: الكمال كل الكمال) أي الكمال الكامل البالغ نهاية الكمال. (التفقه في الدين) أي العلم بما نطق به لسان الشرع والاعتقاد بما يقصد منه الاعتقاد، والعمل بما يقصد منه العمل مع الاتصاف بالخوف والخشية كما قال سبحانه: * (إنما يخشى الله من عباده العلماء) *، حيث جعل العلم موجبا لهما لتعلق الحكم على الوصف، فلو خلا العلم منهما لكان الجهل خيرا منه. (والصبر على النائبة) أي حبس النفس عليها وترك الجزع والشكاية منها، وهي ما ينوب الإنسان، أي ينزل به من المهمات والحوادث والمصيبات، وقد نابه ينوبه نوبا وانتابه: إذا قصده مرة بعد مرة، والصبر عليها من خصال الأنبياء والأوصياء ثم الأمثل فالأمثل، ومن صبر على النوائب يرى منه العجائب ويشاهد منه الغرائب، ومن عود نفسه على المكاره والبلاء هانت له المصائب وعظم له الجزاء، ومن جملة ذلك الصبر على تحمل الطاعات وترك المنهيات، وهذا أفضل من الصبر على المصيبات. (وتقدير المعيشة) في المغرب: معيشة الإنسان ما يعيشه من مكسبه، ومنها العياش، فقال: منها (1)، والمراد بتقديرها وزنها وتحصيلها على قدر الكفاف من غير زيادة ونقصان وإسراف وتقتير، إذ الإسراف والتقتير مذمومان عقلا وشرعا، والنقصان يوجب فوات القدر المحتاج إليه في البقاء والعبادة، وطلب الزيادة يوجب تضييع العمر فيما لا يحتاج إليه، ولا تظن أن قوله (عليه السلام): " كل الكمال " من باب المبالغة، بل هو من باب الحقيقة، لأن كل كمال فرض غير ما ذكر، فهو إما داخل فيه أو تابع له أو مقدم عليه ومبدأ له، فإذا اتصف الإنسان بهذا الكمال صار حقيقا بأن يطير بأجنحته


1 - كذا، لعله " فعال ". (*)

[ 31 ]

مع الملائكة المقربين، ويسير في عالم القدس مع الروحانيين، فيا عجبا من انحصار الكمال في هذا العصر في قول الزور والميل إلى دار الغرور ! * الأصل: 5 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن سنان، عن إسماعيل بن جابر، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " العلماء امناء، والأتقياء حصون، والأوصياء سادة ". وفي رواية اخرى: " العلماء منار، والأتقياء حصون، والأوصياء سادة ". * الشرح: (محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن سنان، عن إسماعيل بن جابر) الجعفي الكوفي، قال العلامة: هو ثقة ممدوح، وحديثه أعتمد عليه. (عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: العلماء امناء) الأمين هو المعتمد عليه الموثوق به فيما فوض أمره إليه، والعلماء امناء الله في بلاده وعباده وكتابه ودينه وحلاله وحرامه وناسخه ومنسوخه ورخصه وعزائمه وعامه وخاصه ومحكمه ومتشابهه ومجمله ومفصله ومطلقه ومقيده وعبره وأمثاله، لكونهم حملة لكتابه وخزنة لأسراره وحفظة لأحكامه، منحهم الله تعالى ذلك وأعطاهم هذه المنزلة الشريفة التي هي الخلافة العظمى والرياسة الكبرى ليجذبوا العقول الناقصة من تيه الضلال إلى جناب حضرته ويخلصوا الخلائق عما التفتوا إليه من اتباع الشهوات الباطلة واقتناء اللذات الزائلة ويبعثوهم على أداء ما خلقوا لأجله بالتنبيه على عظمة نعم الله عليهم وكثرة إحسانه إليهم وترغيبهم فيما عند الله مما أعده لأوليائه وتحذيرهم عما أعد لأعدائه. وفي تعريف المبتدأ باللام دلالة على الحصر مثل قولنا: " الأمير زيد " عند قصد حصر الإشارة فيه، فمن حصل له صور المعقولات الكلية وملكة الاقتدار بها على الإدراكات الجزئية وجعلها وسيلة لاكتساب الزخارف الدنية الدنيوية بالتسويلات النفسانية والتدليسات الشيطانية ولم يتصف بفضيلة الديانة والأمانة وعزل نفسه عن السلطنة والخلافة وترك تعليم الناس وإخراجهم من الضلالة والجهالة فهو ليس بعالم بالشريعة في الحقيقة، بل هو عالم خائن مفتون، والجاهل خير منه. (والأتقياء حصون) المراد أن الأتقياء هم الذين يجتنبون عما كره الله تعالى ويتورعون عما نهاه ولا يحومون حول ما ليس فيه رضاه وهم مع ذلك يقومون بما أمرهم الله به خائفين وجلين، حصون الإسلام يدفع الله بهم عن أهله عذابه كما روي عن أبي جعفر الثاني قال: " إن الله ليدفع بالمؤمن الواحد عن القرية الفناء " (1)، وفي رواية اخرى: " لو أن عبدا بكى في امة لرحم الله عز وجل تلك


1 - الكافي - كتاب الإيمان والكفر (باب فيما يدفع الله بالمؤمن)، تحت رقم 2. (*)

[ 32 ]

الامة ببكاء ذلك العبد " (1)، ويرشد إليه قوله تعالى: * (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم) *، أو المراد أن الأتقياء حصون للشريعة الطاهرة، لأنهم يمنعون عنها تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، كما أن الحصون تمنع من أهلها صدمات المعاندين، أو لأن مواظبتهم على التقوى والورع وفعل الطاعات وترك المنهيات تؤثر في قلوب الناس تأثيرا عظيما فلا يقدمون على هتك أستار الشريعة وهدم أركانها ونقض حدودها، أو المراد أن الأتقياء حصون وجب على الناس الرجوع إليهم والدخول في حمايتهم عند الخوف من طوارق شبهات الحدثان وتوارد نوائب الزمان كما أنهم يتحصنون عند الخوف من الأعداء، أو المراد أن الأتقياء الموصوفين بالعلم والحلم والشجاعة والعدالة المحدودين بهذه الأركان المحاطين بهذه الحيطان حصون لا يتسلط عليهم عساكر الشيطان ولا يتطرق إليهم غوائل الزمان. (والأوصياء سادة) السادة جمع السيد، على وزن فعيل أو فيعل، على اختلاف المذهبين، وأصلها سودة على فعلة بالتحريك، قلبت الواو ألفا، وسيد القوم أكبرهم وأكرمهم وأعظمهم وأميرهم الذي يرجعون إليه في جميع امورهم وينقادون له في أقواله وأفعاله، يعني أن أوصياء النبي (صلى الله عليه وآله) سادة الامة وكبراؤهم وعظماؤهم وامراؤهم وجب على الامة الأخذ بقولهم وفعلهم وأمرهم ونهيهم والانقياد لهم في امور الدنيا والآخرة لاختصاصهم بحق الولاية وانفرادهم في فضيلة الخلافة وامتيازهم بالوصية والوراثة، وتقدمهم بأمر إلهي وتأييد رباني، فلا يجوز لأحد التقدم عليهم في أمر من الامور، وللدلالة على هذا المعنى نسب (عليه السلام) السيادة إليهم، وإلا فما نسبه إلى العلماء والأتقياء فهو منسوب إليهم أيضا، لأنهم من أعاظم العلماء والأتقياء ورؤسائهم وكبرائهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. (وفي رواية اخرى: العلماء منار، والأتقياء حصون، والأوصياء سادة) المنار جمع المنارة، على غير قياس، وجمعها على القياس مناور، لأنها من النور، ومن قال: منائر فقد شبه الأصلي بالزائد وذلك لأن وزنها مفعلة وقياسها في الجمع مفاعل، والمنارة علم الطريق أي ما ينصب فيه ليهتدى به، وتطلق على ما يوضع فوقه السراج أيضا، واستعيرت للعلماء لأنهم محال أنوار الله وعلومه، والناس بفيض أنوارهم يهتدون إلى معالم دين الله وسبيل طاعته وطريق رضوانه، أو لأنهم أعلام للطريق إليه سبحانه واقفون على الصراط المستقيم حافظون للعوام في كل مقام عن مزال الأقدام. * الأصل: 6 - أحمد بن إدريس، عن محمد بن حسان، عن إدريس بن الحسن، عن أبي إسحاق الكندي،


1 - الكافي - كتاب الدعاء (باب البكاء)، تحت رقم 2. (*)

[ 33 ]

عن بشير الدهان، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): " لا خير فيمن لا يتفقه من أصحابنا، يا بشير، إن الرجل منهم إذا لم يستغن بفقهه احتاج إليهم، فإذا احتاج إليهم أدخلوه في باب ضلالتهم وهو لا يعلم ". * الشرح: (أحمد بن إدريس) أبو علي الأشعري، ثقة، فقيه في أصحابنا، صحيح الحديث، كثير الرواية. (عن محمد بن حسان، عن إدريس بن الحسن) قال بعض المحققين: هو أبو القاسم إدريس بن الحسن بن أحمد بن زيدويه من رجال الجواد أبي جعفر الثاني (عليه السلام)، وهو الذي ذكره الشيخ في كتاب الرجال في أصحابه (عليه السلام) بقوله: إدريس القمي، يكنى أبا القاسم، وأبوه الحسن بن أحمد بن زيدويه صاحب كتاب المزار، ثقة، ثبت من أعيان أصحابنا القميين. (عن أبي إسحاق الكندي، عن بشير الدهان، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): لا خير فيمن لا يتفقه من أصحابنا) لأن خير الدنيا عبارة عن السلوك في طريق الحق وعدم الانحراف عنه وهداية الناس إليه، وخير الآخرة عبارة عن الفوز بالسعادات الأبدية والنزول في ساحة العزة الإلهية، ولا يتصور حصول شئ منهما بدون التفقه في الدين ومعرفة الصانع وما يليق به ومعرفة الشريعة على اليقين. (يا بشير، إن الرجل منهم) أي من أصحابنا. (إذا لم يستغن بفقهه) في اصول الدين وفروعه من الاستعانة أو من الاستغناء، والثاني أظهر. (احتاج إليهم) أي إلى العامة المفتونين بالغواية المنتسبين إلى العلم والفقاهة، توجيه الشرطية أن غير الفقيه متحير في الدين محتاج إلى السؤال عنه، وأكثر الخلائق من أهل الأهواء المضلة، ولا تميز له بين المحق والمبطل، وبين الهادي والمضل، فإذا سأل فالغالب أن يسأل المضلين، وأما توجيهها بأنه قد يحتاج إليهم في شدة التقية أو عدم حضور الفقيه وتيسير الوصول إليه ففيه أنه لا مدخل لهذا التوجيه في إثباتها قطعا. (فإذا اجتاج إليهم) في معرفة الدين وتفاصيل اصوله وفروعه. (أدخلوه في باب ضلالتهم وهو لا يعلم) أنه باب ضلالة لعدم علمه تميزه بين الحق والباطل، فيخرج عن الدين من حيث لا يعلم، وقد أشار (عليه السلام) إلى مضمون هذا الخبر بقوله: " من أخذ دينه من كتاب الله وسنة نبيه صلوات الله عليه وآله زالت الجبال قبل أن يزول، ومن أخذ دينه من أفواه الرجال ردته الرجال "، وبقوله: " من لم يعرف أمرنا من القرآن لم يتنكب الفتن "، وبقوله: " من دخل في الإيمان بعلم ثبت فيه ونفعه إيمانه، ومن دخل فيه بغير علم خرج منه كما دخل فيه " (1)، فيجب


1 - تقدم كل ذلك في شرح المقدمة في المجلد الأول. (*)

[ 34 ]

على المتمسك بدين الحق أن يكون عارفا عالما بوجوه المصالح والمفساد ذا بصيرة كاملة في التمييز بين الحق والباطل ليكون ثابتا راسخا فيه بحيث لا تغيره رياح فتن المخالفين ولا يحركه صرصر شبهات المعاندين. * الأصل: 7 - علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، عن آبائه (عليهم السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " لا خير في العيش إلا لرجلين: عالم مطاع، أو مستمع واع ". * الشرح: علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، عن آبائه (عليهم السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لا خير في العيش) أي في الحياة الدنيوية والاخروية. (إلا لرجلين عالم مطاع، أو مستمع واع) أي حافظ من وعاه إذا حفظه وفهمه، تقول: وعيت الحديث أعيه وعيا فأنا واع إذا حفظته وفهمته، وفلان أوعى من فلان أي أحفظ وأفهم، فأما من حفظ ألفاظه وضيع حدوده فإنه غير واع له، ووجه الحصر أن الخير في عيش الدنيا هو الاستقامة والثبات على الحق وعدم التحير والاضطراب فيه وعدم الانخداع من العدو الداخلي، أعني النفس الأمارة والقوة السبعية والبهيمية، ومن العدو الخارجي أعني الشيطان وجنوده وأعوانه من الفرق الضالة المضلة، والخير في عيش الآخرة هو الفوز بمقام القرب في دار المقامة والوصول إلى نعيم الأبد في دار السلامة والسرور بما أعد الله تعالى لأهل الكرامة، وشئ من هذين الخيرين لا يتحقق إلا لعالم مهتد في نفسه مطاع هاد لغيره ومتعلم مستمع منه تابع له في عقائده وأعماله وأفعاله حافظ فاهم لما يسمعه ضابط لألفاظه ومعانيه وحدوده. وأما غيرهما فهو في معيشة ضنك يتبع كل مبتدع ينعق، وكل مضل ينهق، وكل مخترع يدعو الناس إلى باطل ويميل من دين إلى آخر بأدنى ريح وينتقل من الحق إلى الباطل بأدنى تدليس وتشكيك، فلا خير في عيشهم على اليقين ولهم في الآخرة عذاب أليم، ألا ذلك هو الخسران المبين. وقد أشار إلى مضمون هذا الخبر سيد الوصيين أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: " الناس ثلاثة: عالم رباني، ومتعلم على سبيل النجاة، وهمج رعاع يتبعون لكل ناعق، يميلون لكل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجأوا إلى ركن وثيق " (1). وفي الفائق: الهمج جمع الهمجة، وهي ذباب صغير يقع على وجوه النعم والحمير، وقيل: هو ضرب من البعوض شبه به الأراذل والسفلة، والرعاع طغام الناس وأوغادهم وأدانيهم الذين


1 - النهج - أبواب الحكم، تحت رقم 147. (*)

[ 35 ]

يخدمون بطعام بطونهم، وأي خير في عيشة هذا الصنف ؟ وما عيشتهم إلا كعيشة الكلب، بل هي أدنى منها وأخس. * الأصل: 8 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، ومحمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن أبي عمير، عن سيف بن عميرة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: " عالم ينتفع بعلمه أفضل من سبعين ألف عابد ". * الشرح: (علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، ومحمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن أبي عمير، عن سيف بن عميرة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: عالم ينتفع بعلمه) على البناء للفاعل والمفعول، والمراد بهذا العالم صاحب الحكمة النظرية والعملية. (أفضل من سبعين ألف عابد) لأن عقل العابد الجاهل راقد في مراقد الطبيعة، وعقل العالم سائر في معالم الشريعة، وأيضا نفع العابد لو تحقق يرجع إلى نفسه ونفع العالم يرجع إليه وإلى جميع الخلائق وأيضا العالم وارث الأنبياء قائم مقامهم فنسبته إلى غيره كنسبة الأنبياء إلى غيرهم، وأيضا العابد في مرتبة العقل الهيولاني والعالم في مرتبة العقل بالفعل أو فوقها ومزية الثانية على الاولى لا يخفى على ذي بصيرة وهذه الوجوه تفيد أن العالم أفضل من العابد، وأما كونه أفضل من خصوص هذا العدد أعني سبعين ألف عابد فعقولنا قاصرة عن إدراك سر ذلك، والعلم به مختص بأهل الذكر (عليهم السلام)، وإنما الواجب علينا التسليم، ويحتمل أن يكون الغرض من ذكر هذا العدد مجرد إفادة الكثرة الخارجة عن إحاطة الحصر كما هو المتعارف من استعمال أمثال هذه العبارة، ويؤيده ما مر عن النبي (صلى الله عليه وآله): " وما أدى فرائض الله... " الحديث. * الأصل: 9 - الحسين بن محمد، عن أحمد بن إسحاق، عن سعدان بن مسلم، عن معاوية بن عمار قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): رجل راوية لحديثكم يبث ذلك في الناس ويشدده في قلوبهم وقلوب شيعتكم، ولعل عابدا من شيعتكم ليست له هذه الرواية أيهما أفضل ؟ قال: " الرواية لحديثنا يشد به قلوب شيعتنا أفضل من ألف عابد ". * الشرح: (الحسين بن محمد، عن أحمد بن إسحاق) مشترك بين الرازي والقمي، وكلاهما ثقة جليل القدر، ويحتمل اتحادهما.


[ 36 ]

(عن سعدان بن مسلم، عن معاوية بن عمار قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): رجل راوية لحديثكم) أي كثير الرواية، والتاء للمبالغة، وفي المغرب: الراوية بعير السقاء، لأنه يروي أي يحمله، منه راوي الحديث وراويته، والتاء للمبالغة. يقال: روى الحديث والشعر رواية ورويته إياه حملته على روايته، ومنه إنا روينا في الأخبار. (يبث ذلك) أي ينشره. (في الناس ويشدده) أي يوثقه ويحكمه، والبناء للمبالغة، ويحتمل أن يكون بالسين المهملة، والمراد بتسديده جعله سديدا مستقيما. (في قلوبهم) أي في قلوب الناس، والظاهر أن المراد بالناس العامة أو المستضعفون منهم الذين يرجى رجوعهم إلى الحق. (وقلوب شيعتكم) شيعة الرجل أتباعه وأنصاره. (ولعل عابدا) لعل للترجي، وهي من الحروف العاملة في الجملة تنصب الاسم وترفع الخبر. (من شيعتكم) في محل النصب على أنه صفة العابد. (ليست له هذه الرواية) في محل الرفع على أنه خبر لعل. (أيهما أفضل ؟ قال: الرواية لحديثنا يشد به) أي يقوي بسبب حديثنا ونشره من شده إذا قواه، ومنه: * (سنشد عضدك بأخيك) *. (قلوب شيعتنا) في محبتهم لنا، وثباتهم على دين الحق وترك الناس في الجواب إما للاختصار بقرينة السؤال أو للإشعار بأن الأفضلية باعتبار نشره بين الشيعة لا بين الناس، أعني العامة أيضا، لأنه ربما يكون نشره بينهم حراما لشدة التقية، وعلى تقدير انتفائها ليس فيه هذه المزية. (أفضل من ألف عابد) يفهم منه مع ملاحظة السابق أن ثواب راوي الحديث من غير أن يكون له علم بحقيقته وقوته في فهم معناه وقدرة في التفكير في مغزاه وروية في استنباط مؤداه جزء من سبعين جزءا من (1) ثواب الفقيه المتصف بالصفات المذكورة. هذا إن اريد من هذا الخبر الأفضلية بمجرد الرواية، وإن اعتبر معها اتصاف الراوي بهذه الصفات ينبغي أن يراد بهذا العدد - أعني ألف


1 - بيان ذلك: أنه (عليه السلام) جعل العالم أفضل من سبعين ألف، وجعل الراوي المحدث أفضل من ألف فقط، فيصير العالم سبعين ضعفا للمحدث. والحق أن المراد من الراوي من يفهم الرواية ويقدر على تشديد قلوب شيعتهم وإلا فمحض نقل ألفاظ الحديث من غير فهم معناه لا يشد به القلوب، بل ربما أوجب الشك وزيادة الضلال. ففي بعض الروايات ما يدل على الجبر والتشبيه وامور لا تطابق العلم اليقين والقرآن المبين ونقله من غير فهم معناه ورفع الشبه عنه يزيد في حيرة الخلق وضعف إيمانهم، فالمراد هنا من الراوي هو العالم بعينه كما ذكره الشارح بعد ذلك. (ش) (*)

[ 37 ]

عابد - مجرد الكثرة، كما هو المتعارف في بيان التفاضل الفاحش بين الشيئين. أو يقال: لا دلالة فيه على نفي الأفضلية من الزائد إلا بمفهوم العدد ولا حجة فيه، أو يقال: ذلك الحكم - أعني الأفضلية يتفاوت بحسب تفاوت حالات الفاضل والمفضول، فقد يكون العالم أفضل من جميع العابدين كما في الحديث النبوي المذكور سابقا، وقد يكون أفضل من سبعين ألف كما في الحديث السابق، وقد يكون أفضل من ألف كما في هذا الحديث، وعلى التقادير لا تنافي بين الأحاديث، والله أعلم.


[ 39 ]

باب أصناف الناس باب أصناف الناس * الأصل: 1 - علي بن محمد، عن سهل بن زياد، ومحمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى جميعا، عن ابن محبوب، عن أبي اسامة، عن هشام بن سالم، عن أبي حمزة، عن أبي إسحاق السبيعي، عمن حدثه ممن يوثق به، قال: سمعت أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: " إن الناس آلوا بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى ثلاثة: آلوا إلى عالم على هدى من الله قد أغناه الله بما علم عن علم غيره، وجاهل مدع للعلم لا علم له معجب بما عنده وقد فتنته الدنيا وفتن غيره، ومتعلم من عالم على سبيل هدى من الله ونجاة، ثم هلك من ادعى وخاب من افترى ". * الشرح: (علي بن محمد، عن سهل بن زياد، ومحمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى جميعا، عن ابن محبوب، عن أبي اسامة زيد الشحام) بن يونس (1)، وقيل: ابن موسى. (عن هشام بن سالم، عن أبي حمزة، عن أبي إسحاق السبيعي، عمن حدثه ممن يوثق به، قال: سمعت أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: إن الناس آلوا) على وزن " قالوا " من آل يؤول أي رجعوا. ويحتمل فتح الهمزة واللام مع تخفيفها أو تشديدها، أي قصروا، يقال: ألى الرجل يألوا في الأمر، وألى فيه تألية إذا قصر وترك الجهد، لكن يحتاج حينئذ إلى تضمين معنى الرجوع أو الصيرورة، يعني أن الناس قصروا وتركوا الاجتهاد في طلب الدين. (بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)) راجعين أو صائرين. (إلى ثلاثة) أقسام ولو لم يقصروا رجعوا إلى القسمين يعني إلى عالم ومتعلم، لكن في هذين الاحتمالين تكلف لا يحتاج إليه. (آلوا إلى عالم على هدى من الله قد أغناه الله بما علم عن علم غيره) وهو العدل الذي أخذ العلم بإعلام نبوي وإلهام إلهي لاستعداد نفسه القدسية وقلبه المطهر عن الرذائل الخلقية للعلوم


1 - قال في جامع الرواة: زيد بن يونس أبو اسامة الأزدي مولاهم الشحام الكوفي ابن محمد بن يونس، والذي في " جش " و " ست " و " صه " و " ق " زيد بن يونس. وقيل ابن موسى أبو اسامة الشحام مولى شديد بن عبد الرحمن بن نعيم الأزدي الغامدي، كوفي، روى عن أبي عبد الله وأبي الحسن (عليهما السلام)، له كتاب يرويه جماعة منهم صفوان بن يحيى. (ش) (*)

[ 40 ]

والانتقاش بالأسرار الغيبية والصور الكلية والجزئية وكيفية انشعابها وتفاصيلها، واستفاد بذلك الأحكام والوقائع والأخلاق وأحوال المبدأ والمعاد وغيرها من الفضائل الشرعية ومقاصدها من الكتاب والسنة والعادات النبوية، فهو عارف عالم عامل منطقه الصواب ولباسه الاقتصاد، مشيه التواضع وصفته الصبر في الضراء والسراء، والرجوع إلى الله في الشدة والرخاء، له قوة في دين، وشجاعة في لين، وإيمان في يقين، وحرص في علم، وعلم في حلم، وقصد في غنى، وخشوع في عبادة، وتحمل في زهادة، وهو معلم العلوم والآداب النفسانية، ومأخذ جميع الكمالات ورسوم الحقيقة الإنسانية، قد أغناه الله تعالى بعلمه الكامل عن علم غيره من الامة لوجوب رجوع جميعهم إليه، فلو انعكس لزم أن يصير الرئيس مرؤوسا والأمير مأمورا والحاكم محكوما، ذلك يبطل نظام العالم. (وجاهل مدع للعلم لا علم له معجب بما عنده) من المفتريات التي اكتسبها رأيه الفاسد، أو أخذها من جاهل آخر، والجهل على قسمين: أحدهما عدم الاعتقاد بشئ لا اعتقادا صالحا ولا اعتقادا فاسدا، ويقال له: الجهل البسيط والغباوة. والثاني: الاعتقاد بشئ اعتقادا فاسدا، ويقال له: الجهل المركب والغي والغواية والضلالة، وهذا أشد من الأول، لأنه من الأمراض المهلكة للحياة القلبية والأسقام المبطلة للحقيقة الإنسانية، إذ المتصف به لا علم له مع ادعائه أن ذلك الاعتقاد الفاسد علم مطابق للواقع، وإعجابه به لتسويلات شيطانية وتخيلات نفسانية وتمويهات وهمية فيمنعه ذلك عن الرجوع إلى الحق وهو من شرار الناس رماه إبليس إلى غاية مقاصده بقول الزور وحداه إلى سبيل المهالك وأودية الشرور. (قد فتنته الدنيا وفتن غيره) الفاتن المضل عن الحق يعني قد أضلته الدنيا عن طريق الهداية بزهراتها، وقادته إلى سبيل الغواية بثمراتها، وزينت في نفسه حب الجاه والرياسة، وروجت فيها صفة الدناءة والخساسة، فجعل ما اكتسبه من الأباطيل وسيلة إلى تحصيل المشتهيات الدنية الزائلة وما اقترفه من الأقاويل ذريعة إلى تكميل المستلذات الخسيسة الباطلة فضل عن سواء السبيل وأضل غيره ممن اقتدى به من أهل الجهالة والبطالة، الذين طبائعهم مائلة إلى الفساد والعناد، وقلوبهم غافلة عن أحوال المبدأ والمعاد، فارتدوا بصرصر إضلاله عن منهج الصواب، واجتهدوا بنداء الغواية في الرجوع إلى الأعقاب، اولئك هم شر البرية، وعن قليل يتبرأ التابع من المتبوع، والقائد من المقود، فيتفارقون للبغضاء ويتلاعنون عند اللقاء. (ومتعلم من عالم على سبيل هدى من الله ونجاة) من عذاب الآخرة، أو من فتنة الدنيا، والظرف - أعني على ومدخولها - صفة أو حال لمتعلم أو لعالم، وهذا القسم هو الفرقة الناجية التابعة


[ 41 ]

للعترة (عليهم السلام) في الاصول والفروع، ولهم دعاء الملائكة وحملة العرش ودعاء أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: " رحم الله عبدا سمع حكما فوعى، ودعي إلى رشاد فدنا، وأخذ بحجزة هاد فنجا " (1)، وفيه دلالة على أنه لا بد للناس من استاذ مرشد عالم ليحصل به نجاتهم في مضائق سبيل الله وظلمات الطبائع البشرية، كما يحصل النجاة لمن سلك طريقا مظلما لم يعرف حدوده بسبب أخذ ذيل آخر عالم بحدوده. وبين أهل السلوك خلاف في أنه هل يضطر السالك إلى الشيخ العارف أم لا ؟ وأكثرهم يرى وجوبه ويفهم ذلك من كلامه (عليه السلام)، وبه يتمسك الموجبون له. ويؤيده أيضا أن طريق المريد مع شيخه العارف بالله أقرب إلى الهداية وبدونه أقرب إلى الضلالة، فلذلك قال (عليه السلام): " فنجا " يعني أن النجاة معلقة به (2)، ودلائل الفريقين مذكورة في مصباح العارفين، ثم أعاد (عليه السلام) الذم على القسم الثاني وتبين بعده عن الحق بقوله: (ثم هلك من ادعى) العلم والهداية ولا يكون عالما على هدى من الله ولا متعلما منه فضل لإضاعة الشرع وأضل لإعلان الباطل. (وخاب من افترى) أي خاب عن الرحمة الإلهية والشفاعة النبوية من افترى الكذب على الله وعلى رسوله بادعائه العلم من الله مع عدم اتصافه به وإفتائه في الدين برأيه أو بقول جاهل آخر وإضلاله للناس ووجه الهلاك والخيبة أن الكون على الهداية في الدنيا والسلامة في الآخرة والفوز بالرحمة والشفاعة متوقف على العلم بالله وبرسوله والإقرار بجميع ما أنزل إليه وعدم الافتراء في الدين، وهم قد أعرضوا عن جميع ذلك وجعلوه وراء ظهورهم وأحدثوا دينا غير دين الحق فاستحقوا بذلك الهلاك والخيبة وأبطلوا استعدادهم للحياة الأبدية وفوزهم بالسعادة الاخروية. وهذا الكلام يحتمل أن يكون إخبارا عن حالهم وسوء عاقبتهم، وأن يكون دعاء عليهم بالهلاك


1 - النهج - أبواب الخطب، تحت رقم 75. 2 - لا ريب أن الشارح كان مائلا إلى التصوف، وكما أن في الفقه طريقا يرضاه الشارع وهو طريق الأئمة (عليهم السلام) وطريقا لا يرضاه كطريق الرأي والقياس كذلك التصوف بعضه مشروع، وهو التعبد بالعبادات والرياضات الشرعية ولا يتوهم أن الشارح (رحمه الله) من الصوفية المبتدعة الجاهلة الذين لا يعرفون السلوك، ومعنى الشيخ والإرشاد والمريد وفائدة الإرادة، بل مراده السلوك الشرعي وتهذيب النفس وتكميل المعرفة والرياضة على وفق ما تجوزه الشريعة. والحق أنه يحتاج المريد إلى المرشد العارف، إذ المبتدئ إذا تصدى لتهذيب نفسه من الرذائل مثلا لا يعلم كيف يأخذ في السلوك ؟ وما الذي ينبغي أن يبتدأ به ؟ وكيف يحترز عما عنه ؟ وربما يكون له رذيلة العجب ولا يلتفت إليه حتى يجتنب عنه، ويحتاج إلى معلم ينبهه عليه، ويرشده إلى سبيل التخلص عنه، فكما أن في سائر الصنائع والمهن يحتاج إلى استاذ يهيمن على التلميذ حتى يمهر فيها ويحصل له الملكة كذلك ملكة تهذيب النفس بالرياضة بل هذا أشد احتياجا. (ش) (*)

[ 42 ]

والخيبة والخسران، ودليل حصر الناس في الثلاثة أن الناس إما ضال عن دين الحق خارج عنه أو لا، والثاني إما عالم على هدى من الله تعالى مؤيد من عنده محفوظ عن الخطأ أو لا، فالأول هو القسم الثاني ورؤساؤهم الثلاثة المنتحلون للخلافة، والثاني هو القسم الأول، وهم الأئمة المعصومون ورئيسهم علي بن أبي طالب (عليه السلام)، والثالث هو القسم الثالث وهم شيعتهم رضوان الله عليهم، والشيعة كلهم متعلمون على تفاوت درجاتهم في التعلم، لأنهم لما كانوا ثابتين في دين الحق سالكين فيما سلكه ذلك العالم لا محالة يكونون متعلمين مهتدين بهداه محبين له، وبما ذكرنا يندفع ما يقال من أن هاهنا قسما رابعا وهو الجاهل الغافل الذي ليس بضال ولا متعلم، لأن هذا القسم لما لم يكن ضالا كان تابعا لذلك العالم متعلما منه في الدين ولو بواسطة ومحبا له، والرجل مع من أحبه، كما يشعر به الحديث الآتي، ولو فرض أنه ليس بمتعلم فنقول: لعله خارج عن المقسم لجواز أن يراد بالناس المقسم الناس المنتسبون إلى العلم. ويؤيده تقييد الجاهل في القسم الثاني بكونه مدعيا للعلم فإنه يفيد خروج الجاهل بالجهل البسيط الذي لا ينتسب إلى العلم، وتقييد الأول والثالث بالعلم فعلم من ذلك اعتبار العلم في المقسم، وأما الجواب بأن هذا القسم خارج عن المقسم باعتبار أن المراد بالناس من له قوة تحصيل العلم وقدرة الارتقاء إلى درجة الكمال لا أعم منه، وممن هو من أهل الضرر والزمانة فليس بشئ، لأن كون هذا القسم مطلقا من أهل الضرر والزمانة الموجب لسقوط التكليف بالتعلم ممنوع، كيف وأكثر الجهال لهم قوة وقدرة على تحصيل العلم والكمال ؟ * الأصل: 2 - الحسين بن محمد الأشعري، عن معلى بن محمد، عن الحسن بن علي الوشاء، عن أحمد بن عائذ، عن أبي خديجة سالم بن مكرم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " الناس ثلاثة: عالم ومتعلم وغثاء ". * الشرح: (الحسين بن محمد الأشعري، عن معلى بن محمد، عن الحسن بن علي الوشاء، عن أحمد بن عائذ) بالذال المعجمة ثقة. (عن أبي خديجة سالم بن مكرم) قد اختلفت الأقوال فيه، قال سيد الحكماء: والأرجح عندي فيه الصلاح، كما رواه الكشي والثقة كما حكم به الشيخ في موضع وإن لم يكن الثقة مرتين كما نص عليه النجاشي وقطع به. (عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: الناس ثلاثة: عالم) مالك للحقيقة الإنسانية بالفعل، وهي الوصول إلى


[ 43 ]

ما خلق لأجله من المعارف الإلهية والطاعات البدنية والطهارة القلبية الموجبة لكمال قربه ورفع درجته عنده تعالى والخلوص عن كل ما يوجب البعد عنه. (ومتعلم) فاقد لتلك الحقيقة بالفعل مستعد طالب لها، ثابت في طريق تحصيلها، سائر في ظلمات الطبيعة بنور ذلك العالم وهدايته وإعلامه، منحرف عن الطرق المضلة بتعليمه وإفهامه. (وغثاء) إذا لم يكن هذا ولا ذاك، وهو بضم الغين المعجمة والثاء المثلثة والمد ما يجئ فوق السيل من الزبد والوسخ والحشيش البالي والنبات اليابس، والمراد به هنا أراذل الناس وأوباشهم وأدانيهم الذين أبطلوا قوتهم الاستعدادية المقدرة لطلب الكمال بسوء عقائدهم وقبح أعمالهم وأفعالهم وإنما شبههم به لاضطرابهم بسيول الشبهات وتقلبهم بصرصر الشهوات وتحركهم بريح المشتهيات من حال إلى حال، ومن وضع إلى وضع، وعدم علمهم بمال امورهم وموضع استقرارهم وعدم ثباتهم على محل واحد من الاصول والفروع مثل الغثاء، أو لأن إيجادهم بالعرض وإنما المقصود الأصلي إيجاد العالم والمتعلم لانتفاع الناس بهما كما أن إرسال الغثاء بالعرض، وإنما المقصود الأصلي إرسال السيل ليبقى في الأرض وينتفع الناس به، أو لأن حركتهم في امور الدين والدنيا ليست ذاتية بل بواسطة تحريك إبليس وجنوده كما أن حركة الغثاء ليست ذاتية بل بواسطة تحريك السيل له ولانتفاء القوة الاستعدادية التي بها يمكن الوصول إلى نهاية الكمال عنهم كانتفاء القوة الطبيعية الاستعدادية التي من شأنها أن تحرك الحشيش والنبات إلى غاية كمالهما عن الغثاء وفي الأخير بعد لا يخفى. والمراد بالقسم الأول الأئمة (عليهم السلام)، وبالثاني شيعتهم ومواليهم، وبالثالث أصحاب الملل الفاسدة، ويدل عليه ما سيجئ في حديث جميل عن أبي عبد الله (عليه السلام)، ووجه الحصر أن الإنسان في أصل الفطرة إما أن يكون جميع كمالاته بالفعل ويكون ذاته نورا صرفا وعقله مستفادا من المبدأ الأول على وجه الكمال أو تكون كمالاته بالقوة ويكون له قوة استعداد الحركة إلى الكمال، والأول هو الأولى، والثاني إما أن يكون مشغولا باستخراج الكمال من القوة إلى الفعل سالكا لطريق تحصيله، متمسكا بذيل ذلك العالم، أو يكون مشغولا بما ينافي ذلك الكمال ويبطل ذلك الاستعداد، فالأول هو الثاني والثاني هو الثالث. * الأصل: 3 - محمد بن يحيى، عن عبد الله بن محمد، عن علي بن الحكم، عن العلاء بن رزين، عن محمد بن مسلم، عن أبي حمزة الثمالي قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): " اغد عالما أو متعلما أو أحب أهل العلم ولا تكن رابعا فتهلك ببغضهم ".


[ 44 ]

* الشرح: (محمد بن يحيى، عن عبد الله بن محمد) الظاهر أنه عبد الله بن محمد بن الحصين الأهوازي، الثقة الراوي عن الرضا (عليه السلام)، ويحتمل عبد الله بن محمد بن خالد الطيالسي الثقة، وعبد الله بن محمد الأسدي الكوفي الثقة. (عن علي بن الحكم) الظاهر أنه الأنباري. (عن العلاء بن رزين، عن محمد بن مسلم، عن أبي حمزة الثمالي، قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): اغد) مثل ادع أمر من غدا يغدو غدوا، وهو الذهاب غدوة. والمراد هنا مطلق الصيرورة أي صر: (عالما أو متعلما أو أحب أهل العلم) عطف على اغدو الأمر للإيجاب والقضية منفصلة مانعة الخلو، لوجوب الاتصاف بأحد هذه الامور. (ولا تكن رابعا) هذا القسم لا محالة يبغض أهل العلم ويعانده، فلذلك فرع عليه قوله: (فتهلك ببغضهم) أي فتهلك بسبب بغضهم وعداوتهم في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فلا نغماسك في بحر الفضيحة المؤلمة بتحمل أثقال الرذائل والقبائح الشيطانية واحتباسك في سجن الطبيعة المظلمة بالقيودات الثقيلة الوثيقة النفسانية، وأما في الآخرة فلبعدك عن الرحمة الأزلية ونزولك في نار الجحيم وقربك من الشقاوة الأبدية وورودك في العذاب الأليم، وذلك لأن العلم وما يتبعه من حب أهله صراط الجنة والنعيم، والجهل وما يتبعه من بغض أهل العلم صراط النار والجحيم، ومن سلك صراطا وصل إلى غايته يوما ما. لا يقال: في هذا الخبر تربيع القسمة وفيما مر وما يأتي تثليثها. لأنا نقول: القسم الثالث في هذا الخبر داخل في المتعلم فيما مر وما يأتي، لأن " المرء مع من أحب " كما روى عن الباقر (عليه السلام) (1). فالمحب لأهل العلم منتسب إليهم كالمتعلم، وهما رفقاؤهم في الدنيا والآخرة وحسن اولئك رفيقا، هذا وقد جوز بعض المتأخرين أن يقرأ " ببعضهم " بالعين المهملة وقدر مضافا أي بعداوة بعضهم يعني بعض هذه الثلاثة، فانظر أيها اللبيب إلى قلة تدبره وخفة سير عقله حثيثا وقل: فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا (2) ؟


1 - الكافي - كتاب الإيمان والكفر (باب الحب في الله والبغض في الله)، تحت رقم 11. 2 - لا ريب في بعد هذا الوجه وهذه القراءة، لكن لا يستحق هذا التعنيف الشديد، وأما علة عدول القائل فلعله كان من الإخباريين المبغضين للعلماء والقادحين فيهم، فلم يرض بأن يجعل نفسه من الهالكين، فقال: إن الهلاك يحصل ببغض بعضهم ولا يحصل ببغض بعضهم الآخر، فلا يهلك إذا أبغض المجتهدين إنما = (*)

[ 45 ]

* الأصل: 4 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن جميل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: " يغدو الناس على ثلاثة أصناف: عالم، ومتعلم، وغثاء. فنحن العلماء، وشعيتنا المتعلمون، وسائر الناس غثاء ". * الشرح: (علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن جميل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: يغدو الناس على ثلاثة أصناف: عالم، ومتعلم) من ذلك العالم. (وغثاء، فنحن العلماء، وشعيتنا المتعلمون، وسائر الناس غثاء) واعلم أن الله سبحانه أنزل العلم من لدنه على قلوب تقية نقية طاهرة صافية مجلوة من الرين والغين وجعلها معادن لسره ومواطن لحكمته ومواضع لنوره ومشارع لرحمته، وأصحابه وهم العلماء الراسخون وأهل الذكر مأمورون بإرشاد العقول الناقصة المتحيرة في تيه الظلمات البدنية وإيقاظها في مراقد الطبائع البشرية وتذكيرها للفيوضات الأبدية وأخذ باعها في مزال الأقدام الفكرية وهم بعد نبينا (صلى الله عليه وآله) الأئمة المعصومون من الأرجاس والزلل والمحفوظون من الخطأ والخلل والمؤيدون بصدق القول وسلامة العمل، والواقفون على الصراط المستقيم لرد الخلائق عن سبيل الجحيم، وسائر الناس مأمورون بالرجوع إليهم والانقياد لهم والاسترشاد بهم والاعتماد عليهم في مصالح الدنيا والآخرة لينجوا بذلك عن الضلالة والحيرة والندامة ويدخلوا جميعا في مواضع الأمن ودار السلامة. ألا ترى أن سفر الدنيا وقطع مفاوزها لا يمكن بدون دليل فكيف سفر الآخرة مع كثرة العدو ودقة الطريق وضعف الاستعداد والبصرة ؟ ! وكل شئ من الآخرة له شاهد من الدنيا " رحم الله عبدا سمع فوعى "، ثم منهم من انقادوا لهم بحبل التسليم واختاروهم للإرشاد والتعليم واجتهدوا في السير عقب ندائهم وخلصوا من سبل الضلالة بنورهم وضيائهم وهم الشيعة المتعلمون في مدارس تعليمهم والنازلون في منازل تقويمهم وتفهيمهم رضى الله عنهم بما اختاروا لهم دينا، رحم الله عبدا قال: آمينا، ومنهم من أخذت منايا قلوبهم ذيول الشقاوة وأعمت بصائر ضمائرهم ميول الغواية = يهلك إذا أبغض الإخباريين. وقد رأينا فيهم من أبغض الشيخ الطوسي والعلامة الحلي وكل من قسم الأحاديث إلى الصحيح والسقيم، وكل من نظر في الروايات بنظر الدقة، وكل من حكم بضعف أحد الرجال وبعض الرواة، ومنهم من نسب علماء الرجال إلى ضعف الإيمان وعدم المعرفة بالأئمة (عليهم السلام). نعوذ بالله من الغرور. أو لعل القائل كان من الزهاد المعرضين عن الدنيا وأراد بكلامه أن بعض العلماء لا يهلك مبغضهم وهم أهل الرئاسة والمقبلون على حطام الدنيا والقائمون على أبواب الملوك المعاونون لهم، المقصرون في العلم على ما يزيد في جاههم، المعرضون عما يهذب النفس ويعرفهم طريق الآخرة. (ش) (*)


[ 46 ]

والغباوة واستمكنت الدنيا وزهراتها في قلوبهم واستخبأ الشيطان وجنوده في زوايا صدورهم فسلكوا مسلك الاستنكاف والاستنكار واجتهدوا في سبيل الغي والاستكبار وقدموا على العالم الرباني عجلا جسدا له خوار وصنما هو حطب جهنم في دار البوار اولئك مثل الغثاء يضطربون بسيول نفخات الشياطين حالا فحالا ويسقطون بكل ريح عن صراط الحق يمينا وشمالا، اللهم نور قلوبنا بمعرفة وصي نبيك، وثبت أقدامنا في سبيل طاعة وليك، وأنت أرحم الراحمين وخير الناصرين.


[ 47 ]

باب ثواب العلم والمتعلم باب ثواب العالم والمتعلم * الأصل: 1 - محمد بن الحسن وعلي بن محمد، عن سهل بن زياد ومحمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد جميعا، عن جعفر بن محمد الأشعري، عن عبد الله بن ميمون القداح وعلي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن القداح، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله به طريقا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا به، وإنه يستغفر لطالب العلم من في السماء ومن في الأرض حتى الحوت في البحر، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر النجوم ليلة البدر، وإن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما ولكن ورثوا العلم، فمن أخذ منه أخذ بحظ وافر " (1). * الشرح: (محمد بن الحسن وعلي بن محمد، عن سهل بن زياد ومحمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد جميعا، عن جعفر بن محمد الأشعري، عن عبد الله بن ميمون القداح وعلي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن القداح، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من سلك طريقا) أي من دخل في طريق. (يطلب فيه علما) والجملة في محل النصب على أنها حال عن فاعل سلك أو صفة لطريقا، والمراد بهذا العلم المعارف الربانية والنواميس الإلهية النبوية، وحمله على العموم بناء على أن العلم من حيث إنه علم له شرف وكمال بعيد جدا (2). ومن طريق هذا العلم النظر في مبادئ المطلوب


1 - هذا الحديث مروي من طرق العامة، رواه أبو داود في سننه ج 2، ص 285، وابن ماجة أيضا 223، والبغوي في المصابيح ج 1، ص 22، والترمذي ج 10، ص 154، والدارمي في سننه ج 1، ص 98، كلهم من حديث أبي الدرداء. 2 - العلم الممدوح في لسان الشارع هو علم الدين وما يتوقف علم الدين عليه، أما سائر العلوم مع كونها شرفا وكمالا في ذاتها لا يستحق صاحبها مدحا إلا إذا قرنت بشيئين هما من الدين: الأول: الإخلاص والصدق وحب العلم للعلم لا للدنيا. والثاني: التحرز من العناد والجهل المركب، إذ نعلم رجالا من اليونانيين أطباء ورياضيين وغيرهم مخلصين في علمهم مجدين صادقين في تجربياتهم متحرين للحقيقة في أعمالهم تطمئن النفس بإخبارهم عما رأوا وجربوا في الأمراض والأدوية والارصاد وغيرها، ولو كان أحدهم كاذبا في إخباره معاندا في = (*)

[ 48 ]

ومقدماته وصرف الفكر فيها، ومنها الرجوع في أخذه إلى العالم الرباني ولو بواسطة. (سلك الله به طريقا إلى الجنة) الباء للتعدية، أي أدخله الله في طريق يوصل سلوكه إلى الجنة، والمراد أن السلوك والعبور في طريق العلم سلوك وعبور في طريق الجنة ادعاء لكمال الأول في السببية حتى كأنه صار نفس المسبب، أو المراد أن من سلك في الدنيا طريق العلم سلك في الآخرة طريق الجنة، بيان الشرطية أن سلوك طريق الجنة لا يمكن بدون العلم وبكيفية سلوكه، إذ سلوكه يتوقف على امور وأسباب وأعمال لا يمكن تحصيلها بدون العلم بها، وأيضا كما أن طرق الدنيا متعددة بعضها طريق الهداية، وبعضها طريق الضلالة كذلك طرق الآخرة متعددة بعضها طريق الجنة وبعضها طريق النار، والمتعلم لما كان مشيه في الدنيا في طريق الهداية كان مشيه في الآخرة طريق الجنة، وغير المتعلم لما كان مشيه في الدنيا في طريق الضلالة كان مشيه في الآخرة في طريق النار، كما قال سبحانه: * (ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى) *، وأيضا كما أن لله تعالى جنة ونارا في الآخرة كذلك له جنة ونار في الدنيا كل واحدة منهما في سمت جنسها وليس بينهما إلا حجاب يمنع من المشاهدة لهذه العيون الكليلة يرحم ويعذب بهما من عباده من يشاء في الدنيا والآخرة، وجنته الدنيوية هي العلم إذ الجنة ما تلتذ به النفس ولا ينكره العقل والنقل ولا لذة فوق لذة العلوم الربانية والمعارف الالهية، والنار الدنيوية هي الجهل لأن النار ما يتألم به النفس ويستكرهه العقل ولا ألم فوق ألم الجهل، فمن سلك طريق الجنة الدنيوية يقال له بعد انقضاء أجله: اسلك طريق الجنة الاخروية، لأنك تعودت باللذات ومن سلك طريق النار الدنيوية يقال له بعد انقضاء مدته: اسلك طريق النار الاخروية، لأنك تعودت بالآلام، بل لا يرى الأول نفسه بعد انقضاء الأجل وزوال الحجاب إلا عند باب الجنة الاخروية، والثاني لا يرى نفسه إلا عند باب النار الاخروية، ثم الفوز بهذا المطلب العظيم والتنعم المقيم مشروط بخلوص النية في تحصيل العلوم عن الأغراض الدنياوية وهو أمر مشكل سيما للمبتدئ والله المستعان. (وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا به) أي لأجل رضائها به. قال ابن الأثير: تضعها لتكون وطاء له إذا مشى، وقيل: هو بمعنى التواضع له تعظيما لحقه، وقيل: أراد بوضع الأجنحة نزولهم عند مجالس العلم وترك الطيران، وقيل: أراد به إظلالهم بها، انتهى. وقال بعض أصحابنا: أراد بالملائكة النفس الناطقة، لأن لفظ الملائكة يطلق على الجواهر القدسية الغائبة عن الأبصار (1) وبأجنحتها قواها العملية على سبيل التشبيه بأجنحة الطيور التي بها


= آرائه غير خاضع لدليل المخالف لم يمدحه أحد، والمدح للعلم إنما هو إذا قارن الفضائل الخلقية. (ش) 1 - ظاهر هذا الكلام لا يطابق ما يتبادر إلى الذهن من الملائكة، فإن النفس الناطقة ليست ملكا في = (*)

[ 49 ]

يقع الطيران إلى فوق وبوضعها بسطها انقيادا لطالب العلم ليركبها وينتقل بها إلى عالم التوحيد وعالم المعارف. (وإنه يستغفر) أي يطلب من الله ستر الزلات وعفو الخطيئات. (لطالب العلم) وضع الظاهر موضع الضمير محبة لذكرهم وتصريحا بشرفهم، وبما هو باعث للاستغفار. (من في السماء ومن في الأرض حتى الحوت في البحر) لفظ " من " هنا ليس مختصا بذوي العقول على ما يقتضيه الوضع، بل يعم كل ذي حياة من باب التغليب بقرينة ذكر الحوت، وإنما ذكر الحوت بعد حتى (1) لبعد المناسبة المقتضية للاستغفار بينه وبين العالم في الطبيعة والتحيز والرية والتنفس، والمناسبة بينهما بمجرد الروح الحيواني، بخلاف المناسبة بين العالم ومن في السماء فإنها باعتبار القوة الروحانية والتجرد (2)، وبينه وبين من في الأرض فإنها بهذا الاعتبار وباعتبار الاشتراك في الروح الحيواني والطبيعة والتحيز أيضا، وإنما يستغفرون لطالب العلم، لأنه سالك لطريق الحق طالب للقرب منه والقيام بين يديه والذنوب من أعظم الأغلال والقيود المانعة من الحركة إليه فينصره الله بجنوده ويبعثهم لمدده بالاستغفار الموجب لفك هذه القيود والأغلال، أو لأنه من أحب المحبوبين له تعالى فيلقي محبته في قلوب خلقه فيطلبون غفران ذنوبه، لأنه أهم للطالب إذ من غفر الله له وجب له الجنة ومقام القرب، أو لأن هذا العالم على اختلاف أجزائه وتفاوت ميلها إلى حضرة القدس بمنزلة شخص واحد أجزاؤه مرتبط بعضها ببعض فإذا تحرك طالب العلم الذي هو أشرف أجزائه إلى حضرة الباري يستشعر به الباقي بحكم الارتباط (3) فيطلبون له محو ذنوبه الموجب لسهولة الحركة


= إطلاق اللفظ وإن كان مثله في التجرد والغيبوبة عن الأبصار، إلا أن يراد كون النفس متصلا بالملائكة نحوا من الاتصال واتحاده بهم نوعا من الاتحاد كشعاع الشمس للشمس، ومعنى كون طالب العلم على أجنحة الملائكة استعانته بهم في الطيران إلى عالم الملكوت بالتوفيق والتأييد وإلهام الغوامض والنفس تطير بجناج الملك في عوالم العقول والمجردات. (ش) 1 - كلمة " حتى " تدل على أن الحوت أبعد من الاستغفار، لأن كل حيوان له صوت يمكن أن يتصور له الاستغفار في صوته، والحوت لا صوت له. (ش) 2 - أراد الشارح بالسماء هنا العالم الروحاني والمجردات ومن في السماء الذين يسكنون ذاك العالم وهم العقول والملائكة المقربون. (ش) 3 - نظير بدن الإنسان المركب من أعضاء مختلفة لكل واحد منها قوة خاصة به كالمعدة لجذب الغذاء والكلية لدفع السموم، ومع ذلك إذا عرض لواحد من الأعضاء آفة أو مرض توجه سائر الأعضاء إليه وعمل ما يوافق مصلحته، وإذا عاد إلى الصحة حسن حال كل واحد واستراحوا إلى فعلهم، وكذا العالم كله لارتباط بعضه ببعض، ونسبة أفعال العقلاء إلى الجماد والحيوانات العجم غير عزيز تكرر مثله في = (*)

[ 50 ]

إليه، أو لأن طالب العلم يعرف قدرة الصانع بإبداعه للمخلوقات من الملائكة إلى آخر الموجودات، وهذه المعرفة في الحقيقة شكر للواجب وشكر لنعمة وجود هذه الموجودات فتقابل الموجودات شكره لوجودهم بالاستغفار له، أو لأن بقاء العالم وطالب العلم وصلاح حالهما وطهارة ظاهرهما وباطنهما من الذنوب سبب لبقاء الكائنات كلها وصلاح أحوالها وتمام نظامها كما دل عليه بعض الروايات فكل ذي حياة سواء كان عاقلا كاملا أو جاهلا ناقصا أو غير عاقل يطلب لهما مغفرة الذنوب وصلاح الأحوال. أما الأول فلعلمه بأن طلب ذلك راجع إلى طلب بقاء نفسه وصلاح حاله في الحقيقة، وأما كل واحد من الأخيرين فلأنه يحب وجوده وبقاءه وصلاح حاله قطعا، لأنه ذو حياة وكل ذي حياة يحب ذلك فهو يستغفر لطالب العلم من جهة أنه من أسباب وجوده وبقائه من حيث لا يعلم. (وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر النجوم ليلة البدر) تشبيه المعقول بالمحسوس في المقدار وبيان الحال أو بيان الإمكان زيادة للايضاح أو دفعا لتوهم عدم زيادة العلم على العبادة، بناء على أن كليهما نور يمشي به على صراط الحق، بيان الدفع: أن كونهما نورا لا ينافي زيادة أحدهما على الآخر كما في القمر وسائر النجوم. والمراد أن العالم من حيث إنه عالم أفضل من العابد من حيث إنه عابد على النسبة المذكورة، ومرجعه أن العلم من حيث هو أفضل من العبادة من حيث هي، فلا يرد أنه إن اريد به أن العالم العابد أفضل من العابد الغير العالم بتلك النسبة، فذلك لا يدل على أن العلم أفضل من العبادة، وإن اريد به أن العالم الغير العابد أفضل من العابد فذلك باطل، لأن العالم من غير عمل أسوأ من الفاسق فكيف يكون أفضل من العابد ؟ وفي اعتبار البدر الكامل في النور من طرق المشبه به إشعار بأن المراد بالعالم من جانب المشبه العالم الكامل في نور العلم وهو البالغ إلى حد العقل بالفعل القادر على استحضار الصور العملية والمعارف اليقينية متى شاء من غير تكلف ولا تجشم (1)، ولا يبعد فهم


= القرآن العزيز والأحاديث وكتب الحكماء وغيرها، مثلا قال أبو علي سينا: الطبيعة تتوخى النوع وتريد بقاءه بتلاحق الأفراد وغيره كثيرا، وقال: العلة الغائية أعرف عند الطبيعة من المعلول. (ش) 1 - يعني ليس العلم أن يحفظ الإنسان أقوال العلماء والأحاديث المروية حفظا من غير أن يكون له ملكة استخراج حكم ما لم يسمع كما كان دأب كثير من المحدثين في زمانه، والدليل على ما ذكره الشارح أن كل صنعة وحرفة إنما يطلق على صاحب هذه الملكة، فلا بد أن يكون العالم كذلك، مثلا لا يطلق الحذاء على من اشترى وجمع الأحذية التي صنعها غيره، ولا الصائغ على من جمع الحلي والحلل، والنجار على من جمع الدروب والكراسي من صنع غيره، بل على من له ملكة صنعة شئ جديد يقترح عليه، وأيضا لكل زمان بل لكل رجل في كل آن سؤال أو شبهة ليس لغيره ووظيفة العلماء الدفاع عن الدين = (*)

[ 51 ]

التفاضل فيما دون ذلك بالقياس إلى النسبة المذكورة، وفي اعتبار فضل نور القمر على جميع النجوم كما يفيد إضافة الجميع إلى الجمع المحلى باللام دلالة ما على أن المراد في جانب المشبه فضل العالم على جميع العابدين. ويؤيده أن العابد المحلى باللام يفيد العموم كما ذهب إليه جمع من المحققين، ومع ملاحظة المقايسة يفهم أن المراد بالعابد المجموع على أنا لو أردنا منه كل واحد يحصل المقصود هو زيادة فضل العالم على مجموع العابدين بالنسبة المذكورة بالأولوية، لأنه إذا فضل العالم على كل واحد من أفراد العابد بتلك النسبة فقد فضل على المجموع بالطريق الأولى، وقد دل عليه قوله (صلى الله عليه وآله): " ولا بلغ جميع العابدين في فضل عبادتهم ما بلغ العاقل، والعقلاء هم اولو الألباب " (1). ثم كون العبادة نورا وفيها فضل إنما هو باعتبار أنها مستندة إلى شائبة علم ولو بالتقليد عن العالم بواسطة أو بغيرها، وإلا فهي بدون ذلك ظلمة وتعب بلا نفع، إذ لا عبرة بعبادة صدرت بمجرد الأهواء الباطلة والآراء الفاسدة، وفي هذا التشبيه فوائد اخر غير الفوائد المذكورة، وهي التنبيه على أن العلم نور يهتدى به إلى المقصود في ظلمات الطبيعة، كما أن بنور القمر يهتدي المسافر إلى الطريق المقصود، وعلى أن ذلك النور يتفاوت بحسب تفاوت القرب والبعد من نور الحق، كما أن نور القمر يتفاوت بحسب تفاوت قربه وبعده من الشمس (2)، وبذلك التفاوت يتفاوت نورهم في القيمة، فمنهم من نوره بحيث لا يعرف قدره إلا الله سبحانه، ومنهم من نوره إلى مد بصره، ومنهم من نوره دون ذلك، وبحسب هذا التفاوت يتفاوت مرورهم على الصراط سرعة وبطئا، فمنهم من يمره كالبرق الخاطف، ومنهم من يمره كالطيران، ومنهم من يمره كعدو الفرس الجواد، إلى غير ذلك من مراتب الشدة والضعف، وعلى أن العالم بعد بلوغه حد الكمال لا بد أن يعود إلى نور الحق بالتدريج وحسن السير حتى يرى نوره مضمحلا في نوره بل يضل نفسه بين يديه ويمحو بالقرب منه، كما أن القمر بعد كماله يعود إلى الشمس حتى يضمحل نوره في نورها.


= وتعليم الجاهلين، فلو اقتصر العلماء على ما سمعوا من غير أن يكون لهم قدرة على إجابة ما يرد عليهم جديدا لم يمكن لهم أداء وظيفتهم فيها وأقبلوا على تعلم المراء والجدال لتحسن شهرتهم ويعرفهم الناس بالدقة لغلبته في المجالس على خصومهم ويتسمون بالعلم والتدقيق مع أنه ليس لهم الملكة المطلوبة البتة. (ش) (*) 1 - تقدم في كتاب العقل والجهل. 2 - التشبه في أصل التفاوت لا في كيفية القمر، كلما قرب من الشمس ضعف نوره، وكلما بعد عنها قوى، ففي حال الاجتماع مع الشمس ينمحي نوره والبدر عندما يكون بينهما نصف دور الفلك، وأما العقل فكلما قرب إلى الله تعالى ازداد نوره وقوي. (ش) (*)

[ 52 ]

(وإن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما ولكن ورثوا العلم، فمن أخذ منه أخذ بحظ وافر) قد مر شرحه مفصلا. * الأصل: 2 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسن بن محبوب، عن جميل بن صالح، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: " إن الذي يعلم العلم منكم له أجر مثل أجر المتعلم، وله الفضل عليه، فتعلموا العلم من حملة العلم وعلموه إخوانكم كما علمكموه العلماء ". * الشرح: (محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسن بن محبوب، عن جميل بن صالح، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: " إن الذي يعلم العلم منكم) بيان للموصول، أو حال عن فاعل يعلم يعني حال كون ذلك المعلم من أهل مذهبكم في التشيع، وفيه تنبيه على أن المعلم من غير الشيعة لا أجر له، إذ هو ضال مضل عليه وزره ووزر من تبعه وعمل بقوله من غير أن ينقص شئ من أوزار التابعين له. (له أجر مثل أجر المتعلم) الغرض من هذا التشبيه هو الحكم بتساوي الأجرين نظرا إلى نفس التعليم والتعلم المتلازمين لا بيان فرعية أحدهما وأصالة الآخر، وإنما جعل أجر المتعلم مقيسا عليه، لأن التعليم متوقف على وجود المتعلم مع ما فيه من الترغيب البليغ في التعلم، ويحتمل أن يكون الغرض منه بيان الفرعية والأصالة، لأن التعليم والتعلم من جملة الأعمال، وقد ورد أن أفضل الأعمال أشقها، والتعلم أشق من التعليم، فلذلك جعل أجر المتعلم أصلا شبه به أجر المعلم، ثم لما كان المعلم له فضيلة العلم والكمال بالفعل، وله حق التعليم والإرشاد والإفاضة على المتعلم بين ذلك بقوله: (وله الفضل عليه) أي والحال أن للمعلم الفضل على المتعلم من الجهات المذكورة، لأن الكامل بالفعل والمفيض أفضل من الكامل بالقوة القريبة والمستفيض، ثم لما كان مدعي العلم كثيرا وكله ليس من أهل العلم ولا يصلح للأخذ منه أرشد إلى من ينبغي الأخذ منه بقوله: (فتعلموا العلم من حملة العلم) أي من حملة علم الله تعالى وخزنة أسراره ومعارفه، وهم العترة (عليهم السلام)، ومن أخذ العلم منهم، وإنما قال ذلك لأنه لا يجوز التعلم من غيرهم، إذ ترك التعلم خير من التعلم من غيرهم، لأن غاية ترك التعلم هو الوقوع في الجهل البسيط، وغاية التعلم من غيرهم هو الوقوع في الجهل المركب، والجهل البسيط خير من الجهل المركب، لأن الجهل المركب مرض


[ 53 ]

يعجز أطباء النفوس عن معالجته (1)، ولمثل هذا يقال: عدم عمل المريض بمعالجة المتطبب الغير العارف أصلح له، إذ قد يداويه بما يوجب اشتداد مرضه وفساد قوته وفيه هلاكه. (وعلموه إخوانكم) في الدين، فيه دلالة على أن التعليم واجب لظاهر الأمر، ويؤيده أن التعلم واجب، كما مر مرارا، والتعليم مثله لما سيجئ من أن الله تعالى لم يأخذ على الجهال عهدا بطلب العلم حتى أخذ على العلماء عهدا ببذل العلم للجهال، لأن العلم كان قبل الجهل. ويؤيده أيضا الروايات الدالة على الوعيد والتعذيب بكتمان العلم. (كما علمكموه العلماء) يحتمل وجوها: الأول: وجوب تعليمه كما سمعه من العلماء من غير تغيير وتحريف لئلا يزول العلم ولا يصير جهلا بالتغير والتحريف. الثاني: وجوب رعاية الترتيب في التعليم، فيقدم تعليم الاعتقاديات الضرورية على تعليم العمليات، إذ لا ينفع العمل بالشرعيات إذا لم يكن العلم بالاعتقادات، كما يشير إليه قول أمير المؤمنين (عليه السلام): " ولا ينفع المسموع إذا لم يكن المطبوع ". الثالث: وجوب رعاية آداب التعليم، وهي الرفق وعدم التضجر والغضب على المتعلم ورعاية حاله في الضبط والحفظ فلا يعلمه ما لا يقدر على ضبطه وحفظه، لأن ذلك يكل الطبيعة ويجمد القريحة ورعاية حاله في العمل، فإن عمل بما تعلمه علمه غيره وإلا فلا كما فعله علي بن الحسين (عليهما السلام) فيمن سأله وسيجئ ذكره في باب استعمال العلم. الرابع: الزجر عن البخل بتعليمه للاخوان وبذله لهم كما لم يبخل العلماء بتعليمه وبذله لكم. * الأصل: 3 - علي بن إبراهيم، عن أحمد بن محمد البرقي، عن علي بن الحكم، عن علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: " من علم خيرا فله مثل أجر من عمل به "، قلت: فإن علمه غيره يجري ذلك له ؟ قال: " إن علمه الناس كلهم جرى له "، قلت: فإن مات ؟ قال: " وإن مات ". * الشرح: (علي بن إبراهيم، عن أحمد بن محمد البرقي، عن علي بن الحكم، عن علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: من علم خيرا فله مثل أجر من عمل به) علم بتشديد اللام على الأظهر، يعني معلم الخير من حيث إنه معلم، سواء كان هو البادي له ومنشأ لظهوره أو لا، مثل


1 - وأرى أن حب الدنيا أيضا داء عياء لا يقصر عن الجهل المركب، ولا بد للعالم أن يكون خاليا من المرضين حتى يسعد هو نفسه ويسعد به غيره. (ش) (*)

[ 54 ]

أجر العامل به من متعلمه أو مثل أجر كل من عمله، وهذا مع ملاحظة ما في الحديث السابق من أن الذي يعلم العلم منكم له أجر مثل أجر المتعلم يفيد أن أجر المتعلم مثل أجر العامل. (قلت: فإن علمه غيره يجري ذلك له ؟) علمه بتشديد اللام المقدمة على الميم قطعا، وغيره فاعله، أو فاعله ضمير مستكن عائد إلى الموصول العامل بذلك الخير و " غيره " مفعوله، ولما كان ذلك القول مجملا في إفادة تضاعيف أجر ذلك المعلم باعتبار تعليم متعلمه لآخر إذ قد حصل للمتعلم بتعليمه أجر آخر مثل أجر ذلك المعلم باعتبار تعليم متعلمه لآخر، إذ قد حصل للمتعلم بتعليمه أجر آخر مثل أجر العامل به لما مر استعلم السائل بأنه هل لذلك المعلم أجر مثل أجر العامل بهذا الاعتبار أم لا ؟ (قال: إن علمه الناس كلهم جرى له) أي جرى مثل أجر العامل لذلك المعلم بسبب كل تعليم وقع بعد تعليمه مثله إن علمت زيدا خيرا كان لك مثل أجر العامل به، فإن علمه زيد غيره كان لك مثله مرة اخرى، ثم إن علمه ذلك الغير غيره كان لك أيضا مثله، وعلى هذا القياس بالغا ما بلغ حتى لو وقع تعليم الناس كلهم كان لك مثل أجر جميع العاملين باعتبار أنك صرت منشأ لظهور ذلك الخير وانتشاره، ومن أظهر سنة حسنة وأفشاها فله أجر كل من تبعه من غير أن ينقص من اجورهم شئ، وكذلك الحكم فيمن علم شرا أو أبدع بدعة فإن له وزر كل من تبعه من غير أن ينتقص من أوزارهم شئ، ولما كان هذا الجواب مجملا في إفادة جريان مثل هذه الاجور له في حال حياته وموته جميعا سأل ثانيا بقوله: (قلت: فإن مات ؟ قال: وإن مات) يعني فإن مات ذلك المعلم فهل له مثل ذلك مرارا بالتعليمات المتعاقبة بعد موته ؟ قال: نعم له مثل ذلك وإن مات، ووجه ذلك ظاهر لأن حياته ليست شرطا للاستحقاق ولا سببا له، وإنما السبب له انتشار الخير منه، وقد تحقق بعد موته، وإنما قلنا: على الأظهر لاحتمال أن يكون " علم " بتخفيف اللام كما جوزه بعض المتأخرين، وحينئذ فاعل علمه في قول السائل: " فإن علمه غيره " ضمير يعود إلى الموصول الأول الذي هو العالم وغيره مفعوله، وفي هذا الاحتمال مناقشة من وجوه: الأول: أن هذا يفيد أن أجر العالم مثل أجر العامل، وهذا ينافي ما مر من أن أجره أفضل من أجر سبعين ألف عابد. الثاني: أنه ليس للفاء في قول السائل: " فإن علمه غيره " وجه ظاهر. الثالث: أنه لا محل للسؤال الأخير، أعني قوله: " فإن مات "، فليتأمل.


[ 55 ]

* الأصل: 4 - وبهذا الإسناد، عن محمد بن عبد الحميد، عن العلاء بن رزين، عن أبي عبيدة الحذاء، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: " من علم باب هدى فله مثل أجر من عمل به ولا ينقص اولئك من اجورهم شيئا، ومن علم باب ضلال كان عليه مثل أوزار من عمل به ولا ينقص اولئك من أوزارهم شيئا ". * الشرح: (وبهذا الاسناد، عن محمد بن عبد الحميد) نقل عن الفاضل المحقق الشوشتري أنه لا يظهر لهذا الاسناد مرجع، وقيل: كأنه أراد به علي بن إبراهيم، عن أحمد بن محمد البرقي، عن محمد بن عبد الحميد، قال العلامة محمد بن عبد الحميد بن سالم العطار أبو جعفر: روى عبد الحميد عن أبي الحسن موسى (عليه السلام)، وكان ثقة من أصحابنا الكوفيين، وقال زين المحققين: هذه عبارة النجاشي، وظاهرها أن الموثق الأب لا الابن، وقال بعض الأفاضل: كون الظاهر ذلك غير مسلم، بل الظاهر أن النعوت المذكورة في مثل هذا الموضع راجعة إلى الاسم. (عن العلاء بن رزين، عن أبي عبيدة الحذاء) زياد بن عيسى الكوفي، ثقة. (عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: من علم باب هدى) المراد بالباب هنا الطريق، والإضافة لامية، وقد اختلفوا في تفسير الهدى، ففي الصحاح: الهدى بالضم الرشاد والدلالة. وفي تاج المصادر: الهدى: راه يافتن وراه نمودن، وهذا موافق لما في الصحاح. وفي المغرب: الهدى خلاف الضلالة، يعنى راه يافتن. وقال المحقق الدواني: الهدى مطاوع الهداية، فإن فسرت الهداية بإراءة الطريق الموصل إلى المطلوب، فالهدى بمعنى رؤيته، وإن فسرت بالايصال إلى المطلوب فالهدى بمعنى الوصول إليه. وقال بعض الأفاضل: الهدى نور عقلي فائض من الله تعالى على قلب مستقيم به يرى الأشياء على ما هي عليه ويهتدي إلى الحق كما أن بالنور الحسي يرى المحسوسات ويهتدي إليها، وللهدى على أي معنى حمل من هذه المعاني أبواب متعددة وطرق متكثرة وقوانين مضبوطة، فمن علم بابا واحدا من هذه الأبواب وطريقا واحدا من هذه الطرق: (فله مثل أجر من عمل به) إلى يوم القيامة من جهة تعليمه ولو بواسطة أو وسائط، فيحصل له بهذا الاعتبار اجور غير متناهية تجب رفع درجته في الآخرة، فللعالم المعلم بعد إشراق نفسه القدسية بأنوار العلوم الحقيقية ثواب الأعمال الغير المتناهية، ذلك الفضل من الله والله ذو الفضل العظيم. (ولا ينقص اولئك) أي العالمون المعلمون لباب من أبواب الهدى.


[ 56 ]

(من اجورهم) أي من اجور العاملين به إلى يوم القيامة. (شيئا) أي نحوا من أنحاء النقصان أو بشئ يعني ليس المراد بقولنا: فله أجر من عمل به أن اجور العاملين كلها أو بعضها يكتب في ديوان حسنات ذلك المعلم، وأنه يستحق باجورهم دونهم كيف وقد اقتضت الحكمة الإلهية أن لا يضيع عمل عامل ؟ بل المراد أن له بسبب إرشادهم وهدايتهم الذي هو عمله مثل أجر العامل ولهم اجورهم كمالا من غير نقصان أصلا. (ومن علم باب ضلال كان عليه مثل أوزار من عمل به) إلى يوم القيامة فيجتمع عليه أوزار متراكمة ظلمات بعضها فوق بعض وتحتجب بذلك نفسه الشريرة عن ساحة عزة الحق وقبول رحمته فوق احتجاب التابعين له، وليس ذلك ظلما، لأنه مستند إلى عمله وهو إضلاله وإغواؤه لخلق الله، وإنما أفرد الأجر وجمع الوزر للتنبيه على قلة التابعين للهدى وكثرة التابعين للضلالة، لأن نفوس أكثر الناس لكونها فاقدة للقوة الفكرية تابعة للقوة الغضبية والشهوية كانت مائلة إلى الضلالة هاربة عن الهداية. (ولا ينقص اولئك من أوزارهم شيئا) قال الله تعالى: * (ومن يعمل مثال ذرة شرا يره) *، وقال: * (ولا تزر وازرة وزر اخرى) *، فالعاملون يحملون أوزارهم كاملة ومعلمهم يحمل وزره ومثل أوزارهم لإضلاله إياهم، قيل في قوله تعالى: * (وليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم) * دلالة على أنه ينقص اولئك من أوزارهم شيئا، لأن " من " للتبعيض، واجيب: بأنا لا نسلم أن من للتبعيض بل لبيان الجنس، سلمنا لكن المراد بعض أمثال أوزار التابعين لا بعض أعيان أوزارهم. لا يقال: هذا المضل ظالم للتابعين بسبب إضلالهم، وقد ثبت في الأخبار أن حسنات الظالم تنقل إلى ديوان المظلوم وسيئات المظلوم إلى ديوان الظالم. لأنا نقول: هذا حيث كان للمظلوم حق في ذمة الظالم، وما نحن فيه ليس من هذا القبيل، لأن التابع ظلم نفسه بسب اتباعه للمضل والمضل ظلم نفسه بسبب إضلاله، فكل واحد منهما يحمل وزر عمله. وفي هذا الحديث فوائد: الأول: أن للمعلم مثل أجر العامل بما علمه، وإن لم يكن للمعلم عمل فيه، لأنه سبب للعمل به. الثاني: أن له مثل ذلك الأجر، سواء نوى الاقتداء به أو لا. الثالث: أنه لا فرق بين أن يكون ذلك الهدى واضعه هو أو غيره، ولكن هو أفشاه بين جماعة جهلوه أو رغبهم فيه بعد ما تركوه.


[ 57 ]

الرابع: أنه لا فرق بين أن يكون ذلك الهدى علما أو عبادة أو أدبا أو غير ذلك، ومثل هذه الامور تجري في تعليم باب الضلال، فعلى هذا لقابيل قاتل هابيل وزر كل قتل وقع في العالم ظلما مثل وزر كل قاتل، وللثلاثة الذين انتحلوا الخلافة أوزار مثل أوزار من تبعهم إلى يوم القيامة. وهذا الحديث متفق عليه بين الخاصة والعامة ففي كتاب مسلم عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: " من سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من اجورهم شئ، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعمل بها بعده كتب عليه مثل وزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شئ " (1)، وعنه (صلى الله عليه وآله) أيضا: " من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل اجور من تبعه، ولا ينقص ذلك من اجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه ولا ينقص ذلك من آثامهم شيئا " (2). * الأصل: 5 - الحسين بن محمد، عن علي بن محمد بن سعد رفعه، عن أبي حمزة، عن علي بن الحسين (عليهما السلام) قال: " لو يعلم الناس ما في طلب العلم لطلبوه ولو بسفك المهج وخوض اللجج، إن الله تبارك وتعالى أوحى إلى دانيال: إن أمقت عبيدي إلي الجاهل المستخف بحق أهل العلم، التارك للاقتداء بهم، وإن أحب عبيدي إلي التقي الطالب للثواب الجزيل اللازم للعلماء، التابع للحكماء، القابل عن الحكماء ". * الشرح: (الحسين بن محمد، عن علي بن محمد بن سعد رفعه) هكذا في النسخ التي رأيناها، وقال سيد الحكماء: النسخ هنا مختلفة، ففي بعضها هذا، وفي بعضها: علي بن محمد بن سعد رفعه بإسقاط الحسين بن محمد، والمراد بعلي بن محمد بن سعد في النسخة الاولى هو علي بن محمد بن علي بن سعد الأشعري القمي المعروف بابن متويه، والمراد به في النسخة الثانية هو علي بن محمد بن سعد الأشعري وهو أحد شيوخ أبي جعفر الكليني. (عن أبي حمزة، عن علي بن الحسين (عليهما السلام) قال: لو يعلم الناس) أي علما يقينا. (ما في طلب العلم) من الشرف والكمال والمنافع والحياة الأبدية للنفس الناطقة بعد رقودها في مهد الطبيعة البشرية وركودها في مرقد القوى الإنسانية وصدودها عن مشاهدة ما عند الحضرة الربوبية، وفي هذا الإبهام تنبيه على عظمة قدر تلك المنافع وعلو منزلة هذه الحياة بحيث لا يبلغ


1 - صحيح مسلم ج 8، ص 61، من حديث جرير بن عبد الله. 2 - المصدر السابق ص 62، من حديث أبي هريرة. (*)

[ 58 ]

إليها إلا الوالهون في مقام التوحيد والسالكون في منهاج التجريد الذين حياة قلوبهم بأقوات المعارف والحقائق، وغاية مأمولهم الاستضاءة بأنوار اللطائف والدقائق وابتهاج أذهانهم بكشف الأسرار الربوبية واستنتاج أفكارهم بمشاهدة الأنوار الملكوتية، وهم الذين قد قطعوا منازل الطلب ووصلوا إلى المطلوب، وأما غيرهم وهم الأكثرون عددا فمنهم لا يعرفون العلم وفوائده أصلا ولا يجدون إلى منافعه دليلا اولئك كالأنعام بل هم أضل سبيلا، ومنهم لا يعرفون منه إلا الرسم ولا يفهمون منه إلا الاسم ولا يتصورونه إلا أن طلبه يوجب الخروج من حضيض الجهالة والضلال إلى أوج السعادة والكمال، ومن حد السمات البشرية إلى الاتصاف بالصفات الملكية ومن المنازل الجسمانية إلى المقامات الروحانية، ولا يعرفون كنه حقيقة تلك الحالات ولا يجدون في نفوسهم حلاوة تلك اللذات وإنما ينطقون باسمها ويغفلون عن حقيقتها ووصفها وذلك مبلغهم من العلم، وكم من فرق بين تصور اسم الكمالات وبين معرفتها بالوصول إليها كما هي والإحاطة بها، كما يظهر ذلك بالفرق بين تصور اسم الجنة مثلا وبين معرفتها كما هي، ومعرفة نسيمها وكثرة نعيمها بعين المشاهدة، فإن من حصل له هذه المعرفة يرى بدنه في هذه الدار وروحه في دار القرار وليس له هم إلا الوصول إليها بخلاف من حصل له ذلك التصور فإنه كثيرا ما يشتغل بزهرات الدنيا ومتمنيات النفس عن طلبها كما هو المشاهد من الأشرار ولو يعلم هؤلاء بعين البصيرة ما في طلب العلم: (لطلبوه ولو بسفك المهج) السفك الإراقة، والمهج جمع المهجة، وهي بضم الميم وسكون الهاء الدم مطلقا، أو دم القلب خاصة، ويطلق على الروح أيضا يقال: خرجت مهجته إذا خرجت روحه، ولعل الوجه فيه أن الروح الحيواني تابع للدم (1) لتكونه منه، فخروج الدم مستلزم لخروجه وسفك المهج كناية عن ارتكاب التعب والمشقة الشديدة في طلبه.


1 - الروح الحيواني في اصطلاح الأطباء بخار لطيف له مزاج خاص يستعذبه البدن لقبول النفس، وهو يجري مع الدم في الشرايين كثيرا، وفي الأوردة قليلا، والروح مطلقا في اصطلاحهم ثلاثة: الروح الطبيعي ومنشؤه الكبد وفائدته إحياء القوى النباتية، والدليل على وجوده أن انسداد مجاريه يورث موت تلك القوى كالغاذية والمولدة. والروح الحيواني منشؤه القلب، وفائدته تحريك القلب والشرايين والرئة والتنفس وإخراج الأبخرة الدخانية، والدليل على وجوده توقف هذه الأعمال بانسداد مجراه. والروح النفساني منشؤه الدماغ ويجري من الأعصاب إلى الأعضاء، وفائدته إحياء قوى الحس والحركة، وبانسداد مجراها يعرض الفالج والخدر، ومما يدل على وجوده أن الإنسان إذا دار على نفسها مرارا ثم سكن يحس بعد سكونه أن كل شئ يدور عليه مدة، لأن الروح في الدماغ يدور بعد سكون البدن بعد. (ش) (*)

[ 59 ]

(وخوض اللجج) الخوض في الماء الدخول فيه، واللجج - بالجيمين - جمع اللجة وهي معظم الماء، ويحتمل بعيدا من حيث اللفظ والمعنى أن يقرأ بفتح اللام وكسر الحاء المهملة والجيم بعدها، وهو بمعنى الضيق، يقال: مكان لجج، أي ضيق، وخوض اللجج أيضا كناية عن ارتكاب المكاره الكثيرة والشدائد العظيمة. وما ذكره (عليه السلام) من عدم طلبهم للعلم لعدم علمهم بشرفه وفضله ومنافعه حق صريح وكلام صحيح، لأن الناس مجبولون في طلب المنافع، ألا ترى أنهم يقتحمون الأسفار البعيدة والمفاوز المخوفة والبحار العميقة بمجرد ظن المنافع لهذه الحياة الفانية مع ضمان الله تعالى أرزاقهم ؟ ولو كان لهم مثل هذا الظن في منافع العلم التي هي سبب للحياة الأبدية بل هي عينها لطلبوه أيضا كما يطلبون الدنيا. (إن الله تبارك وتعالى أوحى إلى دانيال (عليه السلام)) ترك العطف لأنه بمنزلة التأكيد بما هو المقصود من السابق، وهو الحث على طلب العلم. (إن أمقت عبيدي إلي الجاهل) المقت الإبغاض، يقال: مقته مقتا إذا أبغضه فهو مقيت وممقوت، ومعنى مقت الله تعالى لعبده هو إبقاؤه له وراء الحجاب (1) وعدم تفضله عليه بالتوفيق على تحصيل الثواب ووكوله إلى نفسه المشتاقة للاقتحام في مسالك العصيان والاتصاف بصفة العدوان والطغيان حتى تؤديه إلى أبعد الأبعاد عن رحمة رب العالمين وتقوده إلى أقبح المنازل في أسفل السافلين. (المستخف بحق أهل العلم، التارك للاقتداء بهم) الظاهر أن كلا من المستخف والتارك وصف للجاهل، وعلة مستقلة لتعلق المقت به، ويحتمل أن يكون التارك وصفا للمستحف وبيانا له. ويؤيده إدراج لفظ الحق، لأن من حقوق أهل العلم على الجاهل اقتداؤه بهم، فإذا ترك الاقتداء فقد استخف بحقهم، وإنما وصف الجاهل بما ذكر لأن الجاهل المعظم لأهل العلم المقتدي بهم محب لهم ومتعلم منهم، وهما من أهل المحبة دون المقت. (وإن أحب عبيدي إلي) المحبة ضد المقت، وهي إحسانه تعالى للعبد بكشف الحجاب وتوفيقه في


1 - نسبة الحب والبغض والرضا والغضب وجميع التأثيرات النفسانية إلى الله تعالى مجاز باعتبار وجود آثارها، ولا ريب أن العالم الأدنى أخس الموجودات وأبعدها عن الله تعالى، ولذلك سميت الدنيا دنيا، والمنغمرون في الدنيا محجوبون عن الله تعالى، والجاهل منغمر في هذا العالم وشهواته، فهو بعيد عنه تعالى ومقته تعالى له بهذا الاعتبار، وإذا لاحظ العاقل أعمال أهل الدنيا وتهالكهم على تحصيل الشهوات الدنية حتى أنهم يرضون بقتل النفوس وهلاك الأموال وهدم الديار ليفوزوا بوصال امرأة وملك دار لا يعلمون هل يتمتعون بها سنة مثلا أو يموتون دون الوصول ؟ مقتهم وحكم بأنهم أخبث من كل حيوان كالذئب، وهذا علامة مقت الله بهم أيضا. (ش) (*)

[ 60 ]

تحصيل الثواب وحفظه عن مقام الزلة وإيقاظه عن نوم الغفلة وتأديبه بأدنى المخالفة، لجذبه بعنايته الأزلية إلى السعادة الأبدية حتى يطأ بقدم الإخلاص على بساط الاختصاص، ويمشي في منازل القرب مع خاص الخاص. (التقي) أي الخائف من الله تعالى، للتقوى مراتب: أولها: التحرز من الشرك، وهو يحصل بكلمة التوحيد. وثانيها: التجنب عن المعاصي، وهو يحصل بالتزام الأوامر واجتناب المناهي. وثالثها: التنزه عما يشغل القلب عن الحق. (الطالب للثواب الجزيل) أي العامل بما يوجبه، سواء قصد حصوله أو لا، وهذا الكلام وصف للتقي وتوضيح له يعني أن التقي هو الذي يطلب الثواب الجزيل بالتزام التوحيد والأوامر واجتناب الشرك والمناهي وتحلية الظاهر بالأفعال الجميلة وتخلية الباطن عن الأخلاق الرذيلة والتقوى بالمعنى المذكور من خواص العاقل وآثاره، ولأجل ذلك وقع مقابلا للجاهل مع القصد إلى ذكر ما هو المقصود من العاقل صريحا. (اللازم للعلماء) فيه ترغيب على دوام ملازمة العلماء ومجالستهم ومصاحبتهم ليتنور القلب بأنوار قلوبهم. (التابع للحكماء) فيه تنبيه على أن مجرد الملازمة لا يكفي في حصول المقصود، أعني إصلاح الحال، بل لا بد من أن يكون تابعا لأقوالهم وأعمالهم وعقائدهم مع ما فيه من الإيماء إلى أن العالم ما لم يكن حليما سليما عن مقتضيات القوة الغضبية والشهوية ليس له شرف الاقتداء به. (القابل عن الحكماء) فيه تحريض على قبول العلم وأخذه من الحكيم ولو بواسطة، وقد يقال: المراد بالحكماء الأنبياء وبالحلماء الأوصياء، وبالعلماء أهل العلم من الشيعة، وقد اختلفت أقوال الأكابر في الفرق بين العالم والحكيم فقيل: العالم طبيب الدين بأدوية الحق والصدق والتصفح والتعطف، وقيل: من يخلص الناس من أيدي الشياطين، وقيل: هو من لان قلبه وحسن خلقه ورق ذكره ودق فكره ولا يطمع ولا يبخل، وقيل: غير ذلك. مصابيح الأنام بكل أرض * هم العلماء أبناء الكرام فلولا علمهم في كل واد * كنور البدر لاح بلا غمام لكان الدين يدرس كل حين * كما درس الرسوم من الرهام (1) وقيل: الحكيم هو الذي يطلب ما ينفعه ويترك ما يضره ويقرب منه ما قيل هو العدل الآخذ بالحق والصواب قولا وعملا، وقيل: هو من لا يغضب على من عصى ولا يحقد على من جفا، وقيل:


1 - الرهام: جمع الرهمة - بكسر الراء -، وهي المطر الخفيف الدائم. (*)

[ 61 ]

هو من كان كل أفعاله صوابا ولا يدخل في اختياره خلل ولا فساد، وقيل: ليس الحكيم الذي يجمع العلم الكثير لكن الحكيم الذي يعرف صواب ما له وما عليه، وقيل: الحكماء للأخلاق كالأطباء للأجساد، وقيل لعالم: من الحكيم ؟ قال: من تعلق بثلاثة فيها علم الأولين والآخرين، قيل: وما هي ؟ قال: تقديم الأمر، واجتناب النهي، واتباع السنة. وكيف تريد أن تدعي حكيما * وأنت لكل ما تهوى ركوب ؟ لعل العمر أكثره تولى * وقد قرب الردى فمتى تتوب ؟ وروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: " العلم نهر والحكمة بحر والعلماء حول النهر يطوفون، والحكماء في وسط البحر يغوصون، والعارفون في سفن النجاة يخوضون " (1)، ولكون الحكماء أعظم شأنا وأرفع مكانا رغب في قبول العلم عنهم، والأخذ منهم، وأخرهم للتنبيه على وجوب انتهاء سلسلة العلوم إليهم، فانظر أيها اللبيب إلى ما في هذا الحديث من شرف فضيلة العلم وكماله حيث بالغ أولا بأن شيئا من شدائد الدهر ونوائبه وجب أن لا يكون مانعا من تحصيله، وجعل ثانيا استخفاف العلماء وعدم الاقتداء بهم من أعظم الكبائر الموجب لأعظم مقت الله وسخطه، وجعل ثالثا ملازمتهم من أعظم القربات الموجب لأعلى درجات محبته، هدانا الله وإياك إلى مرضاته. * الأصل: 6 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن القاسم بن محمد، عن سليمان بن داود المنقري، عن حفص بن غياث، قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): " من تعلم العلم وعمل به وعلم لله دعي في ملكوت السماوات عظيما، فقيل: تعلم لله وعمل لله وعلم لله ". * الشرح: (علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن القاسم بن محمد) الظاهر أنه القاسم بن محمد الأصبهاني المعروف بكاسولا لمشاركته مع سليمان في البلد كما في (صه)، ويحتمل القاسم بن محمد الخلقاني الكوفي.


1 - اصطلح الناس على إطلاق الحكمة على الفلسفة، وهي العلم بأحوال أعيان الموجودات بقدر الطاقة البشرية، وحيث لا يمكن الإحاطة بجميع الموجودات فكل واحد أخذ بشئ من الحكمة، ولذلك قالوا بقدر الطاقة البشرية، ولا ريب أن الحكمة في القرآن والحديث ليست نبوة إذ آتاها لقمان ولم يكن نبيا، وليس المراد بها أيضا أخذ أقوال جماعة خاصة من اليونانيين تقليدا من غير دليل بل الحكمة تحري الحقيقة بالعقل واتباع الدليل واختيار الأصلح في القول والفعل و " الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها أخذها " كما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولو كان في منافق فيجب أخذ الحق بالدليل أينما وجد في بابل أو في اليونان أو الهند أو غيرها، وبالجملة: الحكمة تحري الحقيقة وإصلاح العمل وكل ما ذكر يرجع إلى هذا. (ش) (*)

[ 62 ]

(عن سليمان بن داود المنقري) وثقه النجاشي والعلامة في (صه)، وضعفه ابن الغضائري. (عن حفص بن غياث) كان قاضيا عامي المذهب، له كتاب معتمد (صه). (قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): من تعلم العلم وعمل به وعلم لله) لله متعلق بالأفعال الثلاثة على سبيل التنازع، ولا وجه لتخصيصه بالأخير، لأن القربة الموجبة لرفع المنزلة وعلو الدرجة والوصف بالعظمة معتبرة في جميعها، ولدلالة آخر الحديث عليه وفي عطف بعض هذه الأفعال على بعض بالواو دلالة على أن الجزاء وهو وصف الرجل بالعظمة في الملأ الأعلى مترتب على جميعها، إما على التعلم فلأنه لا قدر للجاهل المعرض عنه أصلا فضلا عن أن يصفه المقربون، وإما على العمل فلأنه لا قدر للعالم التارك لعلمه، إذ هو أخس من الجاهل، وإما على التعليم الموجب لاتصال سلسلة العلم إلى يوم الدين وانتفاع المتأخرين مثل المتقدمين فلأن العالم وإن كان عاملا إذا لم يعلم غيره فهو ظالم لنفسه لفقده فضيلة التعليم، ومنعه زكاة العلم، وظالم لغيره لعدم تخليصه من طريق الضلالة والغواية بمنزلة من ترك إعانة الأعمى المشرف على الوقوع في البئر مع القدرة عليها. (دعي في ملكوت السماوات عظيما) الدعاء هنا بمعنى التسمية، وفي النهاية يقال: دعوته زيدا إذا سميته، وأما الدعاء بمعنى النداء المتعدي إلى مفعول واحد مثل قولك: دعوت زيدا إذا ناديته فليس بمراد هنا، لأنه يحتاج إلى تضمين معنى التسمية، وهو تكلف لا يحتاج إليه، والملكوت فعلوت من الملك للمبالغة، يقال: له ملكوت العراق أي ملكها، فالمراد بملكوت السماوات ملكها، وعبر عنه بالملكوت للدلالة على أنه ملك عظيم في نفسه لاشتماله على كثرة العجائب والغرائب البديعة الدالة على كمال سلطنة مالكه وعظمة صانعه وعلى كثرة جنوده التابعين لأوامره والداعي هو أهل السماوات من الروحانيين والملائكة المقربين وأرواح القديسين، وفي تنكير " عظيما " دلالة على التعظيم والتفخيم كأنه لا يبلغ إلى كنه عظمته إدراك الروحانيين فضلا عن غيرهم. (فقيل: تعلم لله وعمل لله وعلم لله) الفاء للتفصيل وتفسير الدعاء مثل الفاء في قوله تعالى: * (ونادى نوح ربه فقال إن ابني من أهلي) * ثم هذا القول إما من باب الإخبار والإعلام على من لا يعلمه من الروحانيين والملائكة المقربين كما وعد الله سبحانه بإظهار محاسن عباده عليهم ليمدحوهم ويثنوا عليهم ويدعوا لهم، وإما من باب التعجب في حسن هذه الأفعال وعظمة فاعلها وكثرة أجرها، ويحتمل أن يكون المراد أن الفاعل بسبب هذه الأفعال اتصل اتصالا معنويا بعالم المجردات (1)، والتحق بأهل ملكوت السماوات وسمي عظيما فيما بينهم بالنسبة إليهم، لاكتسابه هذه


1 - الاتصال بعالم المجردات الذي يسمى في عرف الحكماء بعالم العقول واتحاد النفس الناطقة به مشروح ومبين في كتب صدر المتألهين، وهذا مبني على كون المراد بالسماوات العالم الروحاني، إذ قد يطلق السماء = (*)

[ 63 ]

الصفات بالمجاهدات النفسانية، فما أعظم شأن فضيلة هذه الصفات حيث تجعل الإنسان السفلي أعظم من أهل الملكوت السماوي العلوي، ويحتمل أيضا أنه دعي في الآخرة عظيما بالتعبير عنها بملكوت السماوات، وهذا الاحتمال بناء على ما قيل من أن المراد بملكوت كل شئ باطنه، فإن لهذا العالم الحسي الشهادي صورة باطنة غيبية نسبتها إليه كنسبة الروح إلى البدن فهي أشرف من هذا العالم، وهي عالم الآخرة (1) عبر عنها بملكوت السماوات تسمية للشئ باسم أشرف أجزائه، فإن السماوات أشرف أجزاء هذا العالم الحسي، ثم هذا التعظيم على جميع الاحتمالات لأهل العلم العملي، ويستفاد منه التعظيم لأهل العلم الاعتقادي الإلهي بالأولوية، مع احتمال أن يراد بتعلم وعلم المعنى الشامل لهذين النوعين من العلم وذكر العمل لا ينافي هذه الإرادة لأنه معتبر في مطلق العلم باعتبار قسم منه، والله أعلم.


= على ذلك العالم. (ش) 1 - يعني أن عالم الآخرة بالنسبة إلى هذا العالم كالروح للبدن موجود وليس بمرئي، والملكوت باطن الشئ، ولكن لما كان المناسب أن يقال: ملكوت السماء والأرض إذ لا وجه لتخصيصه بالسماء، لأن الآخرة في باطن هذا العالم بجملته لا في باطن السماء فقط استدرك الشارح هذا التوهم بأن وجه التخصيص كون السماوات أشرف أجزاء العالم المحسوس، فإطلاق ملكوت السماء أولى من إطلاق ملكوت الأرض عليه. أقول: وذلك لأن الكلام في الجنة، ولو كان الكلام في النار لكان إطلاق ملكوت الأرض مناسبا، بل ورد أن جهنم تحت البحر، وهو أسفل مكان في هذا العالم مقابل السماء، ومع ذلك ففي مراد الشارح نوع غموض، وظاهر كلام بعضهم أن الآخرة هي هذه الدنيا في زمان متأخر وليس عالما آخر وراء هذه في نشأة اخرى، ولكن ما دل على وجود الجنة والنار فعلا وأن رسول الله (صلى الله عليه وآله) دخل الجنة واطلع على النار ليلة المعراج وأمثالها دل الشارح على وجود الآخرة في نشأة غير عالمنا المادي إذ لا يسعها. (ش) (*)

[ 65 ]

باب صفة العلماء باب صفة العلماء * الأصل: 1 - محمد بن يحيى العطار، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن معاوية بن وهب قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: " اطلبوا العلم وتزينوا معه بالحلم والوقار، وتواضعوا لمن تعلمونه العلم، وتواضعوا لمن طلبتم منه العلم، ولا تكونوا علماء جبارين فيذهب باطلكم بحقكم ". * الشرح: (محمد بن يحيى العطار، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن معاوية بن وهب قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: اطلبوا العلم وتزينوا معه بالحلم والوقار) هذه الامور الثلاثة من أعظم الاصول لتحصيل سعادة الدارين واستقامة أحوال الكونين، إذ بالأول يعرف الأحكام والحلال والحرام وأحوال المبدأ والمعاد، وأحوال السياسات البدنية والمنزلية والمدنية، وبالأخيرين تزين النفس بزينة الإناءة والرزانة وتحلى بحلية الصيانة والمتانة، وتجتنب عن تبعات الغضب من التضاغن (1) والسفه والخفة وغيرها، وهذا أصل عظيم في جلب طيب عيش الدارين وطلب نظام النشأتين. (وتواضعوا لمن تعلمونه العلم) ليكتسبوا منكم صفة التواضع أيضا لمن دونهم ويرغبوا في تحصيل العلم ولا يحتشموا عن السؤال عنكم، وبالجملة: التواضع حسن لكل أحد سيما للمتعلمين الذين هم أولياء الله وأحباؤه، ومن التواضع لهم: لين القول، والتكرار عليهم عند الاحتياج إليه، وعدم الضجر والقلق لكثرة سؤالهم، وترك الشتم والغلظة عليهم لو تكلموا بما لا يوافق المقصود، وهدايتهم إليه بلطائف التدبير وحسن التقرير. (وتواضعوا لمن طلبتم منه العلم) وذللوا نفوسكم بالاحتمال عنه، لأنكم قد أقررتم بفضله فوجب عليكم أن تعزروه وتوقروه وتعظموه وتتأدبوا بالخشوع والخضوع والتواضع والانقياد له، ولأنه أب روحاني لكم وسبب لحياة أرواحكم وكمال نفوسكم وتنور عقولكم يخرجكم من حضيض الجهالة والشقاوة إلى أوج الكرامة والسعادة ولا نعمة أعظم من ذلك، فوجب عليكم أن لا تهملوا شيئا من دقائق التواضع له كما وجب عليكم ذلك لأبيكم الجسماني بل ينبغي أن يكون التواضع له


1 - اضطغن وتضاغن القوم: انطووا على الأحقاد، وقابلوا الحقد بالحقد. (*)

[ 66 ]

أبلغ وأكمل لأن النسبة بينهما مثل النسبة بين الروح والبدن، ولذلك قال بعض الحكماء: حق المعلم الرباني والمربي الروحاني على المتعلم أعظم وأولى من حق أبيه الجسماني، وقال بعض الأكابر: العلماء أرحم بامة محمد (صلى الله عليه وآله) من آبائهم وامهاتهم، قيل: فكيف ذلك ؟ قال: لأن آباءهم وامهاتهم يحفظونهم من نار الدنيا والعلماء يحفظونهم من نار الآخرة (1) وقيل لاسكندر: ما بالك تحب معلمك أكثر مما تحب أبيك ؟ فقال: لأن معلمي سبب حياتي الروحانية الاخروية، وأبي وسيلة حياتي الجسمانية الدنيوية. وأيضا الغرض من هبوط النفس إلى هذا العالم هو استكمالها بالعلوم الإلهية واكتسابها للمعارف اليقينية الموجبة للقرب من الحضرة الربوبية والطيران إليه بأجنحة الكمال والجلوس على بساط العزة والجلال وذلك الغرض لا تتحصل بدون التعليم والتعلم المتوقفين على الاجتماع والتودد والتآلف والتعطف، وهذه الامور لا يتحصل بدون التواضع من المعلم والمتعلم، ولو وقع الطيش والخشونة وضد التواضع لبطلت الالفة ووقعت الفرقة وفات الغرض، فلذلك أمر (عليه السلام) كل واحد منهما بالتواضع لصاحبه حملا لهما على ما يعين في تحصيل ذلك الغرض ومنعا لهما عما يوجب فواته، ثم نهاهما عن التكبر والتجبر عموما بالنسبة إلى جميع الخلائق بقوله: (ولا تكونوا علماء جبارين) فيه مبالغة للنهي لا نهي للمبالغة، فلا يرد أن ليس فيه نهي عن التجبر رأسا: (فيذهب) منصوب بتقدير " أن " أي يذهب: (باطلكم) أي تجبركم، سماه باطلا، لأنه من الصفات المختصة بالله تعالى، فهو حق له وباطل في غيره ممن ادعاه لنفسه. (بحقكم) الباء للتعدية، وحقوق العالم كثيرة تعجز عن الإحاطة بها قلوب العارفين، وعن بيان شرفها ألسنة الواصفين، وعن ذكر عددها أقلام الحاسبين منها العلم، وهو الأصل للبواقي والكتب السماوية والسنة النبوية ونسخ الحكماء ودفاتر الادباء ومصنفات العلماء مشحونة بذكر فضائله:


1 - وجود النوع الإنساني من غير أن يكون فيهم علماء ربانيون يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويردعهم عن الشهوات ويمنعهم من الظلم والعدوان على أبناء نوعهم شر ليس بخير، لأن الإنسان إذا خلي وطباعه وفيه الشهوات العظيمة والآمال الطويلة والقدرة على امور يعجز عنها سائر الحيوانات أضر من السباع الضارية، لأن الذئب والأسد مثلا لهما شهوة محدودة وللإنسان شهوة السباع مع شهوة جمع الأموال والرياسة والجاه والمساكن والتجملات، وله أن يخترع آلات مخوفة في الحرب والسموم القتالة وله آمال في نفسه وأولاده وأهله في حياته وبعد وفاته ولا محيص لهذا النوع عمن يهديهم إلى الحق ويمنعهم من الباطل، ولو لم يكن فيهم ذلك كانوا كالأنعام بل هم أضل، وقد منع الشرع عن المقام في بلد ليس فيه عالم روحاني يؤخذ منه الدين. (ش) (*)

[ 67 ]

منها: أن سائر الناس مأمورون بتوقيره والانقياد له في عقائده وأقواله وأفعاله. ومنها: أنه أفضل من جميع العابدين. ومنها: أنه وارث الأنبياء. ومنها: أنه يستغفر له جميع الخلق ويبكي لموته طير الهواء ودواب الأرض وحيتان الماء وسكان السماء. ومنها: أنه استاذ الخلق ومعلمهم ونور الحق في طريقه يهتدون به في ظلمات الأرض. ومنها: أنه يطير بأجنحة الكمال مع الملائكة والروحانيين. ومنها: أنه يشارك النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) في الشفاعة. ومنها: أنه آمن عند الحساب والميزان والصراط وغيرها من العقبات. وبالجملة: حقه الرياسة العظمى والخلافة الكبرى في الدين والدنيا وكل هذه الحقوق تبطل وتضمحل بتجبره وتكبره، لأنه حينئذ منازع للباري عز اسمه في أخص صفاته فيدخله الله تعالى في جهنم ولا يبالي كما قال: * (وخاب كل جبار عنيد) *، وقال: * (أليس في جهنم مثوى للمتكبرين) *، وقال الصادق (عليه السلام): " الكبر رداء الله، فمن نازع الله شيئا من ذلك أكبه الله في النار " (1)، ومن خالج في نفسه خيال ذلك وانقدح فيها شراره فليرجع إلى الله سبحانه بالتخشع والتخضع وليواظب على التذلل والتواضع وليتفكر في أحوال الجبارين وشدة نكالهم في الدنيا ووخامة عقابهم في الآخرة مما نطق به القرآن الكريم وغيره. * الأصل: 2 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن حماد بن عثمان، عن الحارث بن المغيرة النصري، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: * (إنما يخشى الله من عباده العلماء) *، قال: " يعني بالعلماء من صدق فعله قوله، ومن لم يصدق فعله قوله فليس بعالم ". * الشرح: (علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن حماد بن عثمان، عن الحارث بن المغيرة النصري) بالنون والصاد المهملة من بني نصر بن معاوية، ثقة ثقة. (عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: * (إنما يخشى الله من عباده العلماء) *) ذكر الله سبحانه أولا شيئا من عجائب مخلوقاته وغرائب مخترعاته من إنزال الماء وإحياء الموات وإيجاد الثمرات وغيرها من اختلاف ألوان الجبال والناس والدواب والأنعام، ثم عقبها بهذه الآية الشريفة


1 - رواه الكليني في الكافي - كتاب الإيمان والكفر (باب التكبر)، تحت رقم 5. (*)

[ 68 ]

تنبيها على أنه لا يصلح للنظر في دلائل وحدته والمشاهدة لبراهين معرفته والقيام بأداء حق طاعته وعبادته إلا العالمون ولا يخشاه إلا الراسخون في العلم كما لا يخشى السلطان إلا المقربون، لأن الخشية على حسب العلم بالله وبنعوت كماله وصفات جلاله، وكلما كان العلم به أقوى كانت الخشية له أشد، كما روي " أن أعلمكم بالله أشدكم خشية له " (1). وفي تقديم المفعول دلالة على أن الذين يخشون من بين عباده هم العلماء دون غيرهم، ولو أخر لكان المفاد أن العلماء لا يخشون إلا الله، وهذا أيضا صحيح، إلا أن في الأول من المبالغة في مدح العلم ما ليس في الثاني. (قال: يعني بالعلماء من صدق فعله قوله) هذا التصديق من آثار العلم والخشية ولوازمهما، لأن العلم إذا صار ملكة راسخة في النفس مستقرة فيها صارت النفس نورا إلهيا وضوء ربانيا تنقاد لها القوة الشهوية والغضبية وسائر القوى الحيوانية، وينقطع عنه الهوى والوساوس الشيطانية فترى بنورها عالم الكبرياء والجلال والعظمة الإلهية فيحصل لها من مشاهدة ذلك خوف وخشية وهيبة موجبة للعمل له والجد في العبادة وغاية الخضوع وعدم الإهمال لشئ من أنحاء التعظيم ويخاف أن يؤمر بشئ ولا يعمل به، لأن ذلك إثم وخيانة ونفاق فيكون فعله مصدقا قطعا، ومما ذكرنا ظهر أن العمل والتصديق المذكور ثمرة الخشية، والخشية ثمرة العلم، فمن علم يخشاه ومن يخشاه يعمل له ويصدق فعله قوله، وإن أردت زيادة توضيح فنقول: للعلم سواء كان عمليا أو اعتقاديا (2) تأثير عظيم في نفس الإنسان، إذ هو نور يوجب مشاهدتها ما في العلوم اللاهوتية وهدايتها إلى سبيل النجاة من الطبائع الناسوتية وجناح يورث عروجها إلى مساكن القديسين وارتقاءها إلى منازل الروحانيين (3)، فإذا بلغت هذه المرتبة وشاهدت عظمة


1 - أخرج عبد بن حميد بن وابن أبي حاتم عن صالح أبي الخليل هكذا " أعلمهم بالله أشدهم خشية لله " راجع الدر المنثور، ج 5، ص 250. 2 - بل رأينا كثيرا من العلماء بغير الاصول والفروع كالطبيب والهيوى وأمثالهما أيضا أكسب لهم علومهم حظا من الوقار والمروءة وتقدير النفوس وتعظيم مقام الإنسانية أوجب لهم الإقرار بأن الأخلاق الرذيلة لا تناسب النفس الناطقة وتدنسها أشد وأفحش من تلويث الثياب بالأوساخ الظاهرة فلا يقدمون على علاج المرضى مثلا إلا بعناية تامة ودقة ولا يثبتون في كتبهم إلا ما حققوه بالتجربة ولا يصفون دواء ضارا بالنفع وهكذا، لأن نور العلم هداهم في الجملة فكيف العلم الإلهي الذي فائدته ذلك ؟ (ش) 3 - لا علم لمن حفظ الاصطلاحات ومارس الجدل والمراء ليتمكن من اسكات الخصوم في المجالس والتظاهر بالعلم عند العوام لتحصيل الجاه والمال، بل العلم كشف الحقائق والعثور على الواقع وتكميل النفس بالمعرفة، وهذا يستلزم العمل الصالح والاجتناب عن العجب والحسد والمراء والاقبال على = (*)

[ 69 ]

الرب وجلاله وكماله وقدرته بعين اليقين حدثت فيها نار الخوف والخشية واشتعلت فيها فينعكس شعاعها وضوؤها إلى ظاهر الإنسان لما بين الظاهر والباطن من المناسبة الموجبة لسراية أثر كل منهما إلى الآخر فيستضيئ كل عضو من أعضائه الظاهرة ويهتدي إلى ما خلق لأجله وما هو آلة لارتقائه وعروجه من الأفعال والأقوال ويصدق بعض أعضائه بعضا بالتوافق والتعاون ويوافق ظاهره باطنه وباطنه ظاهره فيفعل للحق ويقول له ويدعو إليه ويخشى منه، فهو إذن عالم رباني وجسم روحاني ونور إلهي كامل في ذاته مكمل لغيره. (ومن لم يصدق فعله قوله فليس بعالم) يعني كل من أمر بخير ودعي إليه ولم يعمل به فهو ليس بعالم، لأنك قد عرفت أن العمل ثمرة الخوف وأثره، والخوف ثمرة العلم وأثره، فانتفاء العمل دليل على انتفاء الخوف، وانتفاء الخوف دليل على انتفاء العلم، لأن انتفاء المسببات واللوازم دليل على انتفاء الأسباب والملزومات وأيضا ترك الأعمال الظاهرة والأمر بالخير مع عدم الإتيان به والنهي عن الشر مع الإتيان به ذنب وخيانة يوجب سواد مرآة القلب وظلمته فلا يقبل نور العلم، لأن الظلمة والنور لا يجتمعان في محل واحد ولو حصل له شئ من العلوم فهو نور مخلوط بالظلمة، وذلك ليس بعلم وصاحبه ليس بعالم حقيقة، بل هو منافق يقول بالحق ولا يعتقد به ويأمر بالخير ولا يعمل به. * الأصل: 3 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد البرقي، عن إسماعيل بن مهران، عن أبي سعيد القماط، عن الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): " ألا اخبركم بالفقيه حق الفقيه: من لم يقنط الناس من رحمة الله، ولم يؤمنهم من عذاب الله، ولم يرخص لهم في معاصي الله، ولم يترك القرآن رغبة عنه إلى غيره، ألا لا خير في علم ليس فيه تفهم، ألا لا خير في قراءة ليس فيها تدبر، ألا لا خير في عبادة ليس فيها تفكر ". وفي رواية اخرى: " ألا لا خير في علم ليس فيه تفهم، ألا لا خير في قراءة ليس فيها تدبر، ألا لا خير في عبادة لا فقه فيها، ألا لا خير في نسك لا ورع فيه ". * الشرح: (عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد البرقي، عن إسماعيل بن مهران، عن أبي سعيد القماط) اسمه خالد بن سعيد، كوفي، ثقة.


= حطام الدنيا، لأن العالم إن كان عالما حقيقة يرى قيمة علمه أكثر من كل جاه ومال وله أن يمتحن نفسه بأن يعرض عليها علمين: أحدهما يزيد في جاهه عند العوام والآخر يفيده في تهذيب نفسه، فإن رآه يرغب في الأول فليترك طلب العلم وإن كان راغبا في الثاني فهنيئا له. (ش) (*)

[ 70 ]

(عن الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): ألا اخبركم بالفقيه حق الفقيه) أي كامل الفقه. (من لم يقنط الناس من رحمة الله) من خبر مبتدأ محذوف، والقنوط اليأس والتقنيط للتعدية يقال: قنطه من رحمة الله إذا آيسه منها وذلك بأن يقول مثلا: من فعل كذا وكذا لن يغفر الله له أبدا، أو يقول لرجل: إنك فعلت ذنبا لا يغفر الله لك بعده وحرمت عليك الجنة. والمراد بالناس المؤمنون لما روي عن أبي جعفر (عليه السلام): " إياك أن تقنط المؤمنين من رحمة الله "، ولا ريب في أن التقنيط حرام لا يرتكبه الفقيه الكامل، لأنه من امارات الجهل بالله وبسعة رحمته، ومن الأدلاء بأن له عنده تعالى منزلة رفيعة ولذلك المذنب خسة وإهانة وبعد منزلة، وفيه أيضا إيذاء المؤمن وكسر قلبه وبعثه على المعاصي، كما هو شأن بعض القانطين، وكل ذلك مذموم لا يصدر من الفقيه. (ولم يؤمنهم من عذاب الله) بأن يقول مثلا: إن الله غفار يغفر الذنوب جميعا، ولا يعذب أحدا من المؤمنين أصلا وإن جاء بذنوب الثقلين، وحب الأئمة (عليهم السلام) يمنع من الدخول في النار ويدركه شفاعتهم قطعا وأمثال ذلك جهل بأنه تعالى قهار يغضب للذنوب وخلق النار للمذنبين ولمن خالفه، وبأنه قد لا يدركه الشفاعة على تقدير خروجه من الدنيا مع الإيمان إلا بعد مدة طويلة. لا يقال: قال الله تعالى: * (يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم) * وفيه وعد للمذنبين بالمغفرة وأمن لهم من العذاب وما أنزله الله تعالى يجوز أن يقرأ على كل أحد في كل آن وكل زمان. لأنا نقول: السالكون إليه سبحانه يخافون من هذه الآية الكريمة أشد خوف لاحتمال أن يكون إضافة العباد إليه تعالى للاختصاص الموجب لعدم التعميم ويؤيده عدم شمولها الكفار اتفاقا ولو سلم جاز أن تكون المغفرة مشروطة بالتوبة والإنابة. ويؤيده النهي عن القنوط الدال على شدة استيلاء الخوف عليهم، والأمر بالإنابة بعد هذه الآية حيث قال: * (وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون) * ولو سلم فليقرأ عليه أيضا قوله تعالى: * (إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم) *، وقوله تعالى: * (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) * إلى غير ذلك من الآيات الدالة على المؤاخذة بالذنوب. وبالجملة: الفقيه العارف بالله حق المعرفة من لا يقتصر في مقام نصح الخلائق بأحاديث الخوف وآياته لئلا يقنطوا من رحمة الله تعالى ولا بأحاديث الرجاء وآياته لئلا يجترئوا على المعاصي بل يجمع بين ما دل عليهما كما فعله الله تعالى في كتابه الكريم، ولو غلب منه التخويف والوعيد لا على حد يوجب القنوط كان أحسن كما يظهر ذلك لمن تدبر في القرآن، لأن


[ 71 ]

الفساد في النفوس البشرية أكثر وميلها إلى الراحة وترك الأعمال الصالحة أعظم وأشهر فيحصل لها بغلبة التخويف حالة متوسطة بين الخوف والرجاء. (ولم يرخص لهم في معاصي الله) الرخصة في الأمر خلاف التشديد فيه، وقد رخص له في كذا ترخيصا فترخص هو يعني الفقيه الكامل لا يتساهل ولا يتسامح معهم إذا مالوا إلى معصية الله تعالى بل يشدد عليهم ويمنعهم منها ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويجذبهم عن متابعة الشيطان في المعاصي والمقابح قبل صدورها منهم وقبل صيرورتها ملكات في جوهر النفس إلى تحصيل السعادة الاخروية. (ولم يترك القرآن رغبة عنه إلى غيره) من الكتب السماوية وغيرها يعني الفقيه الكامل بالأحكام وغيرها من كتاب الله (1)، وإن رجع في شئ من العلوم إلى غيره، فإن وجد موافقا للكتاب أخذه وإن وجده مخالفا له تركه، ولا يترك الكتاب رغبة عنه إلى غيره لعلمه بأنه نور الناظرين وسراج العارفين ومنهاج السالكين ومعراج السائرين ومظاهر علم الأولين والآخرين، فيه علم ما كان وما يكون وعلم الأخلاق وعلم الأحكام من الحلال والحرام وعلم أهوال القيامة والحشر والنشر وعلم الفصاحة والبلاغة بحيث تتروى بزلال معانيه قلوب الفقهاء وتتحير في عجائب مثانيه عقول العلماء وتعجز عن درك غرائب مبانيه أفهام الخطباء وتقر بمشاهدة شواهد مغانيه عيون الفضلاء وتنشرح بتلاوة زواهر آياته صدور القراء والصلحاء، فمن أعرض عنه كان ظالما جاهلا سفيها فضلا عن أن يكون عاقلا كاملا فقيها، فقد أخبر (عليه السلام) بأن الفقيه الكامل من كان بنور عقله هاديا للخلق ناصحا لهم جامعا بين الوعد والوعيد والأمر والنهي وتابعا للقرآن في العلم والعمل والقراءة، ثم أشار إلى أن هذه الصفات لا خير فيها ولا عبرة بها ما لم تقترن بفضيلة قلبية أعني التفهم والتدبر والتفكر بقوله: (ألا لا خير في علم ليس فيه تفهم) أي طلب فهم حقائقه وأغراضه، فإن من نظر إلى ظاهر هذا العالم مثلا واستدل به على وجود الصانع حصل له علم ظاهري يشاركه فيه سائر العوام، ولا خير فيه كثيرا، وإنما الخير فيما إذا تأمل فيه وفي كل واحد من أجزائه الساكنة والمتحركة والعلوية


1 - من الوساوس الشيطانية ما حدث واشتهر بين الناس في العصور المتأخرة من أن القرآن جميعه متشابه أو أكثره، ولا يفهمه أحد إلا أن يرد في معناه رواية من أهل البيت (عليهم السلام) فتركوا القرآن ولم يرد لأكثر الآيات تفسير صحيح عن أهل البيت (عليهم السلام)، لأن أكثر الآيات لا يحتاج إلى تفسير منصوص، وإذا بنينا على عدم تدبير الآيات إلا بنص لزم ترك القرآن أصلا، وليس من جمع بين القرآن والحديث والكلام من أهل النظر والاجتهاد تاركا للقرآن، بل التارك له المحدثون الذين لا يرون ظاهر القرآن حجة إلا بنص من الروايات. (ش) (*)

[ 72 ]

والسفلية والمركبة والبسيطة والنامية وغير النامية، وفي كيفية حركاتها ونشوئها واختلاف مقادير تلك الحركات ومسافاتها واقتراناتها واتصالاتها إلى غير ذلك من الأحوالات التي دلت على كمال قدرة صانعها (1)، وفي فوائد تلك الامور وأغراضها، وقد اشتمل على جملة من ذلك حديث هشام، فإن المتأمل فيه يستغرق في بحر التوحيد، وكذلك لا خير كثيرا في العلم بوجوب الصلاة بدون تفهم حقيقتها وحقيقة أجزائها من التكبير والقراءة والركوع والسجود وسائر الأفعال والأذكار والأغراض المترتبة عليها ويرشد إلى جملة منها ما ذكرناه في حديث جنود العقل، وقس عليهما سائر العلوم فإن كل معلوم له ظاهر وباطن وحقيقة وغرض، والخير الكثير إنما هو في العلم المتعلق به من جميع الوجوه، إذ هو مرقاة الحق ونوره في قلوب العارفين لا العلم بالظواهر، والفرق بين علماء الظاهر والباطن: أن علماء الباطن واصلون إلى الحق وعلماء الظاهر طالبون لطريقه، ويحتمل أن يراد بالعلم الذي ليس فيه تفهم العلم التقليدي والظني الذي ليس عليه برهان والنقلي الذي بمجرد الرواية دون الدراية، وقيل: هذه الفقرة متعلقة بالفقرة الاولى للتنبيه على أن من يقنط الناس بالوعيد ليس في علمه تفهم إذ العالم المتفهم يعلم أن الغرض من الوعيد جذب عباد الله إلى الطاعة والانقياد له، والتقنيط يبعده عنها. (ألا لا خير في قراءة ليس فيها تدبر) للقرآن فينا منازل ولنا باعتبار كل واحد منها خير وثواب إلا أنه في بعضها أكمل وأوفر منه في بعض آخر، فمن تلك المنازل البصر فإنه منزل لنزول صوره وخطوطه ومحل لشهود جماله ونقوشه كما ورد " أن النظر في المصحف عبادة " (2). ومنها اليد فإنها منزل لحمله وكتابته وعدم ضرب بعضه ببعض كما ورد " ما ضرب رجل القرآن بعضه ببعض إلا كفر " (3). ومنها: اللسان فإنه منزل لتلاوته وقراءته بالترتيل والتعليم كما قال سبحانه: * (ورتل القرآن ترتيلا) *، وقال الصادق (عليه السلام): " اقرؤوا كما علمتم " (4). ومنها: القلب، وهو أعظم منازله، فإن المطلب الأعلى والمقصد الأقصى في سيره من عند الملك الجبار إلى هذا العالم وهو نزوله في هذا المنزل وقيامه فيه بالأمر والنهي وتعليم النفس الإنسانية


1 - هذا تصريح بحسن تعلم علم النجوم، ولا ينافي ما سبق منه في ذمه، كما يظهر بالتأمل. (ش) 2 - الكافي - كتاب فضل القرآن (باب فضل قراءة القرآن في المصحف)، تحت رقم 5. 3 - المصدر - كتاب فضل القرآن (باب النوادر)، تحت رقم 17 و 25. والظاهر أن الشارح (رحمه الله) حمل معنى الضرب على المعنى المعروف منه. وفي معاني الأخبار للصدوق قال: " سألت محمد بن الحسن عن معنى هذا الحديث فقال: هو أن يجيب عن تفسير آية بتفسير آية اخرى ". 4 - المصدر، تحت رقم 15. (*)

[ 73 ]

وتربيتها فوجب عليها استقباله والقيام بتعظيمه والإقبال إلى ما جاء به والتدبر في أحكامه وحلاله وحرامه وسننه ومواعظه ونصائحه والتفكر فيما نطق به من أحوال المبدأ والمعاد وأحوال ما كان وما يكون وأحوال الامم الماضية والقرون السالفة وكيفية أخذهم وإهلاكهم بسبب العصيان والاعتبار بحالهم حتى تستعد بذلك للرجوع من حضيض النقصان إلى أوج الكمال، ومن منازل الهجران إلى مقام الوصال، فلو أعرضت عنه ولم تستقبله عند نزوله في منزل اللسان ولم تنزله في منزل القلب والجنان ولم تستمع إلى ما جاء به ولم تتدبر فيه فات عنها الحظ الأوفر والخير الأكثر وحصل لها الخير القليل بتلاوة اللسان ومشاهدة البصر، بل هي مستحقة للتعذيب والتأديب، لأنها بمنزلة من عصى الملك العظيم ومنع رسوله الكريم من الوصول إلى غاية مقاصده أو بمنزلة منافق يتكلم بالحق ظاهرا ويغفل عنه باطنا، وقيل: هذه الفقرة متعلقة بالفقرة الثانية فإن من تدبر في قراءة القرآن وما فيه من إهلاك قوم بالمعاصي ومسخ آخرين علم أنه لا ينبغي لأحد أن يؤمن عباد الله من عذابه وأن يرخص لهم في معاصيه. (ألا لا خير في عبادة ليس فيها تفكر) لأن الغرض من العبادة هو التقرب للمعبود وطلب رضاه والوصول إليه والقطع عما عداه، وذلك لا يتحقق بمجرد اشتغال الجوارح بما يليق به مما هو آلة لذلك التقرب بدون يقظة القلب وتفكره فإن قلب غير المتفكر مظلم لا يهتدي إلى الحق دليلا ولا إلى الوصول إليه سبيلا بخلاف ما إذا تفكر فإنه يطلع حينئذ شوارق المعارف من مشارقه وينكشف الحجاب عنه فينظر إلى وجوه مطالبه ويرى خيره وشره ومنافعه ومضاره ويأخذ عنان الطبيعة عن يد النفس الأمارة بالسوء ويسعى في سبيل ربه ومرضاته حتى يبلغ غاية مقاصده ومتمنياته وفيه تفضيل العالم المتفكر في أمر العبادة وأجزائها وأحكامها وشرائطها ومصالحها ومنافعها وفي أحوال المعبود وصفاته اللائقة به على العابد كما مر مرارا، فمن آثر العبادة على العلم والتفكر والحركات البدنية على الحركات الفكرية فقد آثر الأدنى على الأعلى والأخس على الأشرف. وقيل: هذه الفقرة متعلقة بالفقرة الأخيرة، فإن التفكر في العبادة إنما يتحقق بأخذها من مأخذها وهو القرآن، وأما من رغب عنه إلى غيره وأخذها من ذلك الغير فقد ترك التفكر فيها. (وفي رواية اخرى: ألا لا خير في علم ليس فيه تفهم، ألا لا خير في قراءة ليس فيها تدبر، ألا لا خير في عبادة لا فقه فيها) لأن الفقه أصل للعبادة ولا خير في الفرع مع انتفاء الأصل واختلاف هذه الرواية مع السابقة في هذه الفقرة بحسب العبارة دون المعنى (1)، وفي زيادة فقرة اخرى وهي قوله:


1 - العالم بالعربية إذا نظر في الحديث عرف ظاهر معناه، وهو الذي يكون حجة على الناس، وليس المراد من التفهم المأمور به ذلك، إذ يستوي فيه الناظرون ولا فضل لأحد على أحد، فلا بد أن يكون معناه = (*)

[ 74 ]

(ألا لا خير في نسك لا ورع فيه) في الصحاح: النسك العبادة والناسك العابد. وفي المغرب: النسك الذبيحة، يقال: من فعل كذا فعليه نسك، أي دم يهريقه بمكة ثم قالوا لكل عبادة نسك، ومنه: * (إن صلاتي ونسكي) * (1) والناسك العابد الزاهد وهذا من الخاص الذي صار عاما، وفي هذا دلالة على أن النسك في الأصل هو الذبيحة ثم صار عاما، على أن معناه هو العبادة المقيدة بالزهادة لا مطلق العبادة. والظاهر هنا هو المطلق والورع هو الكف عن المحرمات والأغراض الدنيوية وزهراتها وشبهاتها وعن الطمع والحرص ومنشؤه العلم بحقارة الدنيا وما فيها وجلالة قدر الآخرة والجنة ونعيمها وإطالة الفكر في أحوال المبدأ والمعاد والعبادة إذا قارنت بهذه الفضيلة صارت خيرا محضا يترتب عليها ثمراتها وهي التقرب إلى الله والوصول إلى الله والفناء في الله (2)، وإن فارقت عنها بقي العابد محبوسا في سجن الدنيا ومغلولا بأغلال زهراتها ومقيدا بقيود شهواتها ولا خير في عبادة لا تنجي صاحبها عن هذه المزلة والجهالة ولا تدفع عنه هذه الخسة والرذالة. * الأصل: 4 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى ومحمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان النيسابوري جميعا، عن صفوان بن يحيى، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: " إن من علامات الفقه الحلم والصمت ". * الشرح: (محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى ومحمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان النيسابوري جميعا، عن صفوان بن يحيى، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: إن من علامات الفقه الحلم والصمت) لما كان الفقه أي العلم الذي هو نور القلب لهدايته إلى عالم القدس (3) ومشاهدته ما في


= فهم الشئ من غير ظاهر اللفظ والتنبه من قرائن مصحوبة مثلا إذا سمع رواية تدل على التجسم والجبر ظاهرا مثل أن ولد الزنا لا ينجب وأن الله لا ينظر إليه لا يكتفى بظاهر اللفظ وفهم بالقرائن العقلية ما يخرجه من الباطل، وبالجملة يدل الحديث على جواز التصرف في ظواهر الروايات بالقرينة العقلية. (ش) (*) 1 - هذا يدل على حجية ظواهر القرآن وإن لم يرد فيه تفسير. (ش) 2 - سبق ذكر الفناء في المجلد الأول، وذكرنا شرحه بقدر ما يناسب هذا الكتاب. (ش) 3 - يعني ليس المراد بالفقه هنا علم الفروع بل المراد هو العلم الذي ينور القلب ويهديه إلى عالم القدس، وهذا العلم يوجب الصمت إلا عن الضروري وما لا بد منه من الكلام، إذ صاحب هذا العلم ليس من جنس هذا الخلق المنغمرين في الحياة الدنيا ولا ريب أن المكالمة والتآنس يتوقف على التقارب في

[ 75 ]

علم الغيب ورؤيته حقائق المعارف الحقيقية وصور المعقولات اليقينية أمرا خفيا على الناس ومتعذرا إدراكه بعيون الحواس كانت له علامات دالة عليه من باب دلالة الأثر على المؤثر: منها: الحلم عن السفهاء والظلمة، وهو الأناة والرزانة وعدم حركة الجوارح إلى ما لا ينبغي أصلا كالضرب والبطش والشتم والمنازعة والمجادلة. ومنها: الصمت أي السكوت عما لا يليق بالعقلاء وذوي المروءات من الكلمات الواهية والألفاظ اللاغية وإن كانت من المباحات، ووجه كونهما أثرين للفقه دالين عليه ظاهر لأن نور الفقه إذا اشتعل في القلب وأحاط به ليس له إلا هم بالسير إلى حضرة القدس وتجهيز سفر الآخرة وحمل ما يحتاج إليه من الضروريات ورفض ما يمنع عنه أو لا يحتاج إليه، ولا شبهة في أن الحلم والصمت مما يحتاج إليهما وإن ضديهما أعني السفاهة الناشئة من طغيان القوة الغضبية والتكلم بالكلمات الناشئة من فساد القوة العقلية مانعان من ذلك فلا محالة يرفضهما، وبحكم المقابلة السفاهة والتكلم بما لا يعني من علامات الجهل، لأن من تمسك بمقتضيات القوة الغضبية سلبت عنه الحقيقة الإنسانية ومن التزم التكلم بما لا يعني فسد قلبه، ولذلك قال (صلى الله عليه وآله): " لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه " (1). * الأصل: 5 - أحمد بن عبد الله، عن أحمد بن محمد البرقي، عن بعض أصحابه، رفعه قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): " لا يكون السفه والغرة في قلب العالم ". * الشرح: (أحمد بن عبد الله) وهو ابن بنت أحمد بن محمد البرقي. (عن أحمد بن محمد البرقي، عن بعض أصحابه، رفعه قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): لا يكون السفه) السفه بالتحريك بيخردى وسبكى، وأصله الخفة والحركة الغير المنتظمة وسخافة رأي يقتضيها نقصان العقل. (والغرة) بكسر الغين المعجمة وتشديد الراء المهملة: الغفلة والغار الغافل، ومنها أتاهم الجيش وهم غارون، أي غافلون.


= الأخلاق والمآرب كما يصعب على الأطباء مؤانسة المعمارين مثلا ومؤانسة أهل كل صناعة مع أهل صناعة اخرى، وأيضا من علامته الحلم لأن الطيش والغضب من الجهل. (ش) 1 - أخرجه أحمد بن وابن أبي الدنيا في الصمت وكلاهما من رواية علي بن مسعدة الباهلي عن قتادة عن أنس كما في الترغيب والترهيب ج 3، ص 528. (*)

[ 76 ]

(في قلب العالم) لأن قلب العالم كونه منارا لسراج الحقائق ومشكاة لأنوار المعارف والدقائق كامل في حد ذاته ناظر إلى الحق والباطل، ومائز بينهما، منزه عن النقصان فلا يتطرق إليه السفه الذي من لوازم ظلمة الجهل وتوابع نقصان العقل ولا الغرة التي هي الغفلة عن الحق والاغترار به والنوم في مهد الطبيعة وما يشاهد فيمن اختلس اسم العالم وجمع بين الرطب واليابس من تعاطيه أفعال الجاهلين واتصافه بصفات السفهاء وسمات الغافلين وجعله ذريعة في الركون إلى الدنيا والتقرب إلى الطواغيت الذين هم فراعنة هذه الملة وهو دليل واضح على أنه ليس بعالم في الحقيقة وإنما هو مغرور بتسويلات النفس وسامري هذه الامة. * الأصل: 6 - وبهذا الاسناد، عن محمد بن خالد، عن محمد بن سنان، رفعه قال: قال عيسى بن مريم (عليه السلام): يا معشر الحواريين لي إليكم حاجة اقضوها لي ؟ قالوا: قضيت حاجتك يا روح الله، فقام فغسل أقدامهم فقالوا: كنا نحن أحق بهذا يا روح الله ! فقال: إن أحق الناس بالخدمة العالم إنما تواضعت هكذا لكيما تتواضعوا بعدي في الناس كتواضعي لكم، ثم قال عيسى (عليه السلام): بالتواضع تعمر الحكمة لا بالتكبر، وكذلك في السهل ينبت الزرع لا في الجبل. * الشرح: (وبهذا الاسناد) قال المحقق الشوشتري: لم يظهر لهذا مرجع، وكان مقصوده أحمد بن عبد الله. (عن محمد بن خالد، عن محمد بن سنان، رفعه قال) فاعل قال غير معلوم. (قال عيسى بن مريم (عليه السلام): يا معشر الحواريين) المعشر الجماعة، والجمع المعاشر. وفي الصحاح: احور الشئ ابيض وتحوير الثياب تبييضها، وقيل لأصحاب عيسى (عليه السلام): الحواريون كأنهم كانوا قصارين يعني يحورون الثياب ويبيضونها وقال أبو عبد الله الآبي: حواري الرجل خاصته وناصره والمفضل عنده ويقال لكل ناصر نبي، حواريه تشبيها له بحواري عيسى (عليه السلام) وهو خاصته وناصره والمفضل عنده وخليله. وقال عياض مثله. وقال الأزهري: الحواريون خلصان الأنبياء (عليهم السلام) أي الذين أخلصوا من كل عيب، والدقيق الحواري الذي نخل مرة بعد اخرى حتى نقي. (لي إليكم حاجة) حاجة مبتدأ وتنكيرها للتعظيم، و " لي " خبرها قدم عليها ليصح المبتدأ، وإليكم متعلق بها قدم للتعظيم لاشتماله على ضمير أحبائه وأنصاره أو للحصر مع ما فيه من حثهم وتحريضهم على قضائها ولذلك أردفه تأكيدا له بقوله: (اقضوها لي) على سبيل الالتماس أو الدعاء.


[ 77 ]

(قالوا: قضيت حاجتك يا روح الله) الظاهر أنه دعاء له بقضاء حاجته والتعبير عنه بالماضي للدلالة على وقوعه ويحتمل أن يكون إخبارا بأنهم قضوا حاجته والإتيان بصيغة المجهول دون قضينا رعاية للأدب وإظهارا لعجزهم وهضما لأنفسهم. (فقام فغسل أقدامهم) وفي بعض النسخ: " فقبل أقدامهم " وإنما استأذنهم في هذا الفعل لأنه لو بادر إليه ابتداء من غير استئذان لربما منعوه تعظيما له، وإنما سماه حاجة لاهتمامه وترقبه في تحصيله ولتوقيره في نفوسهم ولاحتياجه إليه في تعظيمهم وتحصيل الأجر وكسر النفس وإذلالها وإظهار آثار ملكة التواضع وتعليمها، وهذا الفعل أبلغ من التعظيم بالقول: (فقالوا: كنا نحن أحق بهذا يا روح الله !) لأن المريد المسترشد بالخدمة والتعظيم للعالم المرشد أولى من العكس قضاء لحق التعليم والإرشاد وأداء لما يقتضيه الشرف والكمال من التكريم والانقياد والنداء في الموضعين لمجرد التعظيم دون طلب الإقبال، وسمي (عليه السلام) بروح الله لأنه سبحانه خلقه بمجرد الإرادة بدون توسط بشر فقال: (إن أحق الناس بالخدمة العالم) لا غيره لأن منشأ الخدمة والتواضع هو العلم بكثرة منافعهما وصفاء النفس ونورانيتها وتحليها بالفضائل وتخليها عن الرذائل من الكبر والفخر والبغض والحسد وغيرها، وهذا حال العالم بالله وباليوم الآخر (1)، فكل من هو أعلم وأفضل واتصافه بهذه الصفات أتم وأكمل فهو بالتواضع أحرى وأجدر، وإنما أتى بهذا الحكم على وجه يفيد الحصر وصدره بالتأكيد لدفع ما اعتقدوه من أنهم أحق بهذا منه، وقد مر الأمر بتواضع كل من العالم والمتعلم للآخر، وهذا الحديث يفيد أنه في العالم آكد وأولى ثم ذكر (عليه السلام) لهذا التوضاع فائدتين: إحداهما راجعة إليهم والاخرى راجعة إليه، فأشار إلى الفائدة الاولى بقوله: (إنما تواضعت هكذا لكيما تتواضعوا بعدي في الناس كتواضعي لكم) هذه الفائدة وإن علمت بمجرد فعله (عليه السلام) لكنه صرح بها حرصا على إظهارها ورفعا لاحتمال غفلتهم عنها وتأكيدا في المبالغة على فضيلة التواضع التي يتم بها نظام الدنيا والآخرة " وكي " حرف تعليل تفيد سببية ما قبلها لما بعدها وينتصب المضارع بعدها بنفسها أو على إضمار " أن " على قول، واللام الداخلة عليها زائدة للتأكيد، لأنها بمعناها و " ما " زائدة. (ثم قال عيسى (عليه السلام)) للإشارة إلى الفائدة الثانية.


1 - وأما غيره فيطلب العلم للفخر ويبغض ويحسد ويتكبر ويترأس ويماري ويجادل وغرضه الجاه والمال والعالم بالله واليوم الآخر يعرض عن الدنيا وزخارفها ويتجنب عن الرذائل، لأن جميعها ناشئة عن حب الدنيا. (ش) (*)

[ 78 ]

(بالتواضع تعمر الحكمة لا بالتكبر) تقديم الظرف يفيد الحصر والنفي بلا تأكيد للجزء السلبي، بين (عليه السلام) ذلك الحكم بالتمثيل تشبيها للمعقول بالمحسوس لزيادة الإيضاح والتقرير فقال: (وكذلك في السهل ينبت الزرع لا في الجبل) السهل نقيض الجبل يعني كما أن الأرض إذا كانت سهلة لينة تقبل نبات الزرع ونموه وإذا كانت صلبة حجرية جبلية لا تقبله كذلك القلب إذا كان سهلا لينا بالتواضع والرقة والشفعة يقبل نبات زرع الحكمة وإذا كان صلبا غليظا بالتكبر والتفاخر والخشونة ونحوها لا يقبله. فإن قلت: هذا التمثيل يفيد أن الحكمة من آثار التواضع، وهذا ينافي ما ذكرت قبل من أن التواضع من آثار العلم والحكمة. قلت: هذا التمثيل يفيد أن زيادة الحكمة ونموها من آثار التواضع وما ذكرناه آنفا هو أن التواضع من آثار أصل الحكمة فلا منافاة وليس هذا مختصا بالتواضع بل يجري في سائر الأخلاق والأعمال أيضا، وإن أردت زيادة توضيح فنقول: للحكمة - وهي العلم بالحقائق والمعارف والأخلاق (1) - مراتب مختلفة في الشدة والضعف والكمية والكيفية والثبات وعدمه، كما أن لتلك المعلومات مراتب مختلفة وإذ القي بذر الحكمة الذي هو نور إلهي في القلب يهتدي القلب إلى الصفات الجميلة اللائقة به، وإلى الأعمال الصالحة المناسبة للجوارح، فإذا اتصف القلب بتلك الصفات واتصفت الجوارح بهذه الأعمال، لان القلب ورق وسهل وذل فحصل له حالة اخرى أشرف من الاولى فينبت بذر الحكمة وينمو ويزداد وهذه مرتبة اخرى من الحكمة موجبة لمشاهدة القلب حالة اخرى من الصفات ومنشأ لاتصافه بها، ثم هذه الحالة توجب قبول مرتبة اخرى من الحكمة أكمل من المرتبة المذكورة، وهكذا يتبادلان في التأثير إلى ما شاء الله. * الأصل: 7 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن علي بن معبد، عمن ذكره، عن معاوية بن وهب، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: " يا طالب العلم إن للعالم ثلاث علامات: العلم والحلم والصمت، وللمتكلف ثلاث علامات: ينازع من فوقه بالمعصية، ويظلم من دونه بالغلبة، ويظاهر الظلمة ".


1 - الحكمة هنا علم الحكمة الاصطلاحي المنقسم إلى النظري والعملي، وأشار إلى الأول بقوله: العلم بالحقائق والمعاني وإلى الثاني بالأخلاق. (ش) (*)

[ 79 ]

* الشرح: (علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن علي بن معبد) مجهول الحال. (عمن ذكره، عن معاوية بن وهب، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: يا طالب العلم) النداء لفرد من هذا الجنس أي فرد كان، والغرض إحضاره وإيقاظه في سبيل طلب العلم وإرشاده إلى من ينبغي طلبه منه وتنفيره عمن ينبغي الاجتناب عنه. (إن للعالم) يعني العالم الراسخ في العلم، وهو الرباني الذي يجب الاقتداء به والاهتداء بنوره، والاقتباس من مشكاة فضله. (ثلاث علامات) يعرف هو بها. (العلم والحلم والصمت) هنا إشكال، وهو أن العلم أمر قلبي لا يمكن الوقوف عليه إلا بعلامة، فالعلامة هذه دون العلم، وعلى تقدير الوقوف لا يصلح جعله علامة لأنه كتعريف الشئ بنفسه، والجواب: أن المراد بالعلم آثاره، أعني الأقوال والأفعال الواقعة على نهج الصواب، وبمثل هذا الجواب يندفع ما يمكن أن يقال من أن الحلم من الكيفيات النفسانية المستورة مثل العلم فكيف يجعل علامة له، ووجه الدفع: أن المراد به آثاره، أعني سكون الأعضاء وعدم حركتها بسهولة نحو الانتقام، وهذا الجواب أولى من الجواب بأن العلامة مجموع هذه الثلاثة من حيث المجموع، ولا يلزم منه أن يكون كل جزء علامة، لأن العلم إن لم يكن له مدخل في العلامة أصلا لا يفيد انضمامه كما لا يصح انفراده. ومن الجواب بأن المطلوب معرفة العالم الحقيقي الذي يصح الاقتداء به والعلم الذي هو إحدى علاماته ليس نفس العلم الذي هو به عالم حقيقي، فإن هذا العلم نور رباني يقذفه الله تعالى في قلب من يشاء من عباده وذلك العلم كرشحة من بحر ذلك النور وقطرة منه، فيجوز أن يكون من جملة علاماته ولا يكون من باب تعريف الشئ بنفسه، لأن التفاوت بينهما مثل التفاوت بين القطرة والبحر، وذلك لأن دلالة هذا العلم الناقص على العلم الكامل الحقيقي ممنوعة كيف ولا دلالة للقطرة على البحث ؟ على أن هذا الجواب لا يقطع مادة الإشكال بالكلية، فتأمل. (وللمتكلف) بالعلم المنتسب إليه الذي جمع شيئا من أقوال العلماء ومذاهب الحكماء وأخذ الرطب واليابس من كل صنف ويتكلف ويدعي أنه عالم راسخ في العلم ويجعله وسيلة لتورط الشبهات وارتكاب الخصومات وذريعة لنيل الشهوات. (ثلاث علامات: ينازع من فوقه) من أهل العلم الذي يجب عليه الإطاعة والانقياد له. (بالمعصية) وعدم الإطاعة والانقياد، فكلما تكلم هذا العالم الفوقاني بالمعارف الإلهية والنواميس الربانية والأحكام النبوية وسطع نور من افق جنانه ولمع ضوء من مشرق لسانه، وظهر


[ 80 ]

جوهر من معدن بيانه تصدى ذلك المتكلف لإطفائه بظلم الشبهات (1) وتعرض لإخفائه بأدخنة المزخرفات، وتلقى كسره بأحجار التخيلات، كل ذلك لتحصيل ما هو من أعظم مطالبه، وترويج ما هو من أفخم مآربه، وهو ظهور علو منزلته عند العوام ووضح سمو درجته عند اللئام باعتبار إلزامه أو مناظرته ذلك العالم النحرير واتصافه عندهم بكمال العلم وحسن التقرير. (ويظلم من دونه) في العلم والمعرفة. (بالغلبة) أي بغلبته عليه بالباطل الذي اقترفه ذهنه السقيم أو اكتسبه طبعه اللئيم مع عدم قدرة من دونه على إبطاله والتخلص عنه، أو المراد بظلمه له أنه يحقره ويجهله عند الناس ويسفهه في أعينهم وينسبه إلى قلة العلم والفهم والحماقة (2). وأما القول بأن معناه يظلم من دونه في القدر والاعتبار بسبب الغلبة عليه بالمال والجاه ونحوهما لا بسبب الغلبة في العلم فهو بعيد في ذاته، مع أنه يوجب فوات المناسبة بين هذه الفقرة والفقرة السابقة، إذ الظاهر أن الفوقاني والتحتاني من جنس واحد لا أن أحدهما في العلم والآخر في المال كما ظن، ويؤيد ما قلناه أنه وقع في بعض النسخ " ويلزم " بدل " ويظلم "، لأن المتبادر من الإلزام هو الإلزام بالعلم لا بالمال، والمراد من هذه النسخة أن مقصوده مجرد إلزامه وإظهار جهله وسفاهته وقلة علمه ودرايته لا إظهار الحق. (ويظاهر الظلمة) أي يعينهم على الظلم ويقويهم في أعمالهم وأقوالهم الفاسدة ويمدحهم على عقائدهم وأغراضهم الباطلة، ويجعل ذلك وسيلة للتقرب إليهم، ورفع المنزلة بين يديهم، والتفوق على الناس بسببهم وتحصيل الدنيا بوساطتهم (3).


1 - المتكلف للعلم ليس مقصوده الأصلي هو العلم، بل هو وسيلة له يتوسل بها إلى الغرض الدنيوي، ولا يحصل له الكمال والفهم والتدبر بقدر من يكون غرضه الأصلي العلم، لأن الأول يقتصر في العلم على مقدار الضرورة ولا يجتهد كما يجتهد الثاني، وغرض الثاني العلم وهو مطلوبه وهمته عليه، فلا جرم يجد المتكلف في مخالفة العلماء والإنكار عليهم كل الجد حتى يخلو له وجه العوام. (ش) 2 - وليس من شأن العلماء أن يستحقروا من دونهم لأن العالم يعلم أن الناس لا يزالون مختلفين ودرجاتهم لا تكاد تنحصر، وكما يحتاج الناس إلى الكامل في العلوم يحتاجون إلى من هو دونه. (ش) 3 - هذا من شر صفات المتكلفين الطالبين العلم للدنيا فإنهم إذا رأوا حصول مطلوبهم بمعاونة الظلمة لم يبالوا بها، فإنهم لا يريدون إلا الدنيا، فإذا حصل لهم مقصودهم بالظلمة تقربوا إليهم. ولا يخفى أن غرض الأنبياء والأوصياء لا يجامع أغراض الظلمة، لأنهم (عليهم السلام) بعثوا لتعظيم حقوق الأفراد ومنع الأقوياء عن التعدي ومنع الضعفاء عن الخيانة، والظلمة يدينون بتجويز منع الناس عن حقوقهم، فلا بد للعالم المتصدي لترويج طريق الأنبياء التبرئ عن الظلمة والتظاهر بالمخالفة عليهم حتى يعرفهم الناس بعدم موافقتهم ويعلموا أن طريقة الأنبياء غير طريقتهم. = (*)

[ 81 ]

والحاصل: أن المتكلف لما كان غاية مقصوده الوصول إلى الأغراض الدنيوية ونهاية مطلبه البلوغ إلى الأغراض النفسانية ورأى أن ذلك لا يتيسر له إلا بطلب المنزلة الرفيعة بين الناس والتمكن في قلوبهم والتفوق عليهم ارتكب الامور المذكورة ليصير مشارا إليه بالبنان، ومشهورا بالفضل والبيان، وينقاد له العوام، ويذعن له اللئام، وتتهيأ له بالسهولة مطالبه، وتحصل له كما ينبغي مقاصده ومآربه، وهذا وإن كان يمدحه الجاهلون لكن يذمه العارفون والعالمون ويلعنه الملائكة المقربون * (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون) *.


= وأما العلامة الحلي والمحقق الكركي وشيخنا البهائي وأمثالهم فقد تقربوا إلى السلاطين لترويج مذهب الشيعة لا لإعانتهم في الظلم، وبالجملة: من أعظم حاجات الناس وجود من يدفع الظلم عنهم، وليس من يتوقع منهم ذلك إلا علماء الدين، فعلى الناس أن يعظموهم في أعين الظلمة حتى يخافوهم ويأخذ هيبتهم قلوبهم وعلى العلماء أن يجتهدوا في دفع ظلمهم وإعانة المظلومين عليهم، ويتوسلوا إلى ذلك بجاههم الحاصل بإقبال الناس عليهم، فإن أعرض الناس عن العلماء أعانوا على أنفسهم بتجرئة الظلمة عليهم. (ش) (*)

[ 83 ]

باب حق العالم باب حق العالم * الأصل: 1 - علي بن محمد بن عبد الله، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن خالد، عن سليمان بن جعفر الجعفري، عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: " إن من حق العالم أن لا تكثر عليه السؤال، ولا تأخذ بثوبه، وإذا دخلت عليه وعنده قوم فسلم عليهم جميعا وخصه بالتحية دونهم، واجلس بين يديه ولا تجلس خلفه، ولا تغمز بعينك، ولا تشر بيدك، ولا تكثر من القول: قال فلان وقال فلان، خلافا لقوله، ولا تضجر بطول صحبته، فإنما مثل العالم مثل النخلة تنتظرها حتى يسقط عليك منها شئ والعالم أعظم أجرا من الصائم القائم الغازي في سبيل الله ". * الشرح: (علي بن محمد بن عبد الله) وجه من وجوه أصحابنا، ثقة. (عن أحمد بن محمد، عن محمد بن خالد، عن سليمان بن جعفر الجعفري) من أولاد جعفر الطيار (رضي الله عنه) ثقة من أصحاب الكاظم والرضا (عليهما السلام). (عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: إن من حق العالم أن لا تكثر عليه السؤال) لما كان العالم أبا روحانيا لك وله عليك حق التقدم والتعليم والتربية حيث يشفيك عن أسقام الضلالة والجهالة، وينجيك من آلام الغباوة والغواية، ويهديك إلى مجاورة المقدسين، ويدعوك إلى مصاحبة المقربين وجب عليك تعظيمه وتوقيره ورعاية أدبه وترك الإكثار في السؤال مطلقا، سواء كان زائدا على القدر الذي تحمل به أو تحفظه أو تضبطه أو لا، وسواء كان قصدك في الإكثار نفاد ما عنده أو إظهار خطئه أو عجزه أو لا، لأن ذلك قد يؤذيه ويؤلمه إلا أن تعلم أنه يريد ذلك، ومن جعل لفظ " عليه " متعلقا بالسؤال وجعل " على " للضرر، وقال: المراد بالسؤال عليه الإيراد والرد عليه، يرد عليه: أن السؤال على هذا الوجه قليله وكثيره، سواء في تعلق النهي به فلا وجه لتعلقه بالإكثار فقط. (ولا تأخذ بثوبه) لا في وقت السؤال ولا في غيره، لأن ذلك استخفاف له وسوء أدب منك. (وإذا دخلت عليه وعنده قوم فسلم عليهم جميعا وخصه بالتحية دونهم) بأن تخاطبه وتقول: السلام عليك ورحمة الله وبركاته يا فلان، وتسميه بأشرف أسمائه وتصبر حتى يرد عليك السلام،


[ 84 ]

ثم تخاطب القوم وتقول: السلام عليكم، وقد فعل مثل ذلك بعض الصلحاء المقربين حين دخل على الباقر (عليه السلام) وعنده جماعة كثيرة، أو تقول: السلام عليك وعليك خصوصا يا فلان، أو تقول: السلام عليكم جميعا والسلام عليك يا فلان، أو تقصدهم جميعا بالسلام وتخصه بالثناء والمدح بعد السلام، وفيه ترجيح العلماء والفضلاء بزيادة المدح والثناء كما كان ذلك شأن أصحاب الأئمة (عليهم السلام) حين كانوا يدخلون عليهم وعندهم جماعة. (واجلس بين يديه ولا تجلس خلفه) لما فيه من صعوبة نظره إليك وحرمانك عن شرف مواجهته ومشافهته والنظر إلى وجهه، وقد ورد " أن النظر إلى وجه العالم عبادة " (1)، وأيضا في الجلوس بين يديه رعاية الأدب، لأنه مجلس الخدم والعبيد والجلوس على اليمين واليسار داخل في الجلوس بين اليدين بقرينة تخصيص النهي بالخلف، ويحتمل أن يكون الجلوس في اليمين واليسار مثل الخلف لما فيه أيضا من صعوبة النظر وسوء الأدب، وقال أبو عبد الله الآبي - وهو من مشاهير العامة -: ينبغي أن لا يجلس على يمين الاستاذ إلا بإذن مقال أو حال، وقد جرت العادة بإقامة من لا يستحق ذلك. (ولا تغمز بعينك) أي لا تغمزه أو لا تغمز أحدا من أهل مجلسه، من غمزه بالعين أو بالحاجب من باب ضرب إذا أشار إليه بهما فحذف المفعول لكثرة الفائدة وشمول جميع الاحتمالات، ويحتمل أن يكون الفعل منزلا منزلة اللازم قصدا لنفي أصل الفعل ومثله قوله: (ولا تشر بيدك) أي لا تشر بيدك إليه أو إلى أحد من أهل مجلسه لا للرمز ولا لغيره لما في الإشارة باليد والغمز من الاستخفاف به وترك تعظيمه وتبجيله وعدم رعاية الأدب معه. (ولا تكثر من القول: قال فلان وقال فلان، خلافا لقوله) لأن فيه إيذاء له وترك تعظيمه وتوقيره، ومثله ما روي أيضا عن أمير المؤمنين (عليه السلام): " لا تجعلن بلاغة قولك على من سددك " (2)، يعني من يهديك إلى السداد والصواب لا تعارضه بفصاحة كلامك بل أطرق رأسك واسمع قوله بسمع قلبك إذا أردت معرفة ما عنده، ولما نهى (عليه السلام) عن إكثار السؤال على العالم وأخذ العلوم منه دفعة وفي زمان قليل حث على طول مصاحبته واستمرار ملازمته وأخذ ما فيه على سبيل التدريج بقوله:


1 - في نوادر الراوندي بإسناده عن موسى بن جعفر عن آبائه (عليهم السلام) قال: قال (صلى الله عليه وآله): " النظر في وجه العالم حبا له عبادة ". 2 - في النهج - أبواب الحكم، تحت رقم 411، قال (عليه السلام): " لا تجعلن ذرب لسانك على من أنطقك، وبلاغة قولك على من سددك ". (*)

[ 85 ]

(ولا تضجر بطول صحبته) الضجر القلق وقد ضجر فهو ضجر، وعلل ذلك بالتمثيل لإيضاح المقصود فقال: (فإنما مثل العالم مثل النخلة تنتظرها حتى يسقط عليك منها شئ) تنتفع به فكما أنك لا تحرك النخلة ولا تعلوها ولا تعطف أغصانها ولا تكسرها قبل أوان بلوغ ثمرتها بل تنظر بلوغ ثمرتها وبذلها لتلك الثمرة في وقتها فكذلك ينبغي أن لا تحرك العالم ولا تضطربه بكثرة السؤال ولا تكسر قلبه بالاقتراح والالحاح، بل لا بد من أن تنتظر حتى يبذلك العلم في وقته، ولا تضجر بطول الانتظار فإنه إذا وقع الانتظار لثمرة النخلة لأجل حياة البدن التي هي الحياة الزائلة الفانية فلا بد من الانتظار لثمرة العلم لأجل حياة القلب التي هي الحياة الباقية الأبدية بالطريق الأولى، ففيه مبالغة على لزوم الوقوف عند العلماء وترك الالحاح على السؤال. (والعالم أعظم أجرا من الصائم القائم الغازي في سبيل الله إن شاء الله) (1)، لأن العلم من الصفات الكاملة الروحانية، وهذه من الأعمال الفاضلة البدنية، والتفاوت بينهما مثل التفاوت بين الروح والبدن، وأيضا هذه الأعمال من فروعات العلم وتوابعه ولا خفاء في مزية الأصل على الفرع، وأيضا منافع الصوم والقيام بالعبادة إنما تعود إلى الصائم والقائم ومنافع العلم تعود إلى العالم وغيره إلى يوم الدين، فإنه يقيم نفسه وغيره بالعقائد الصادقة والأخلاق الفاضلة ويطهرهما عن القبائح كل ذلك بالدليل القاطع والبرهان الساطع والغازي يدفع تسلط الكفرة على المسلمين والعالم يدفع شبههم المبطلة لأصل الدين فأجر العالم أعظم من أجر الغازي، والحوالة على المشية كما تكون فيما يترقب وقوعه (2) مثل أفعل غدا إن شاء الله، كذلك تكون فيما يتحقق وقوعه قطعا مثل فعلت كذا إن شاء الله، وذلك للتبرك والتنبيه على أن الأمر الواقع إنما وقع بمشيته تعالى، لأن كل ما هو كان وما هو كائن وما يكون فهو بمشيته سبحانه.


1 - كذا في جميع النسخ التي بأيدينا، والظاهر أن في نسخة المؤلف زيادة " إن شاء الله "، وليست في النسخ التي عندنا من الكافي، ورواه البرقي في المحاسن ص 233 بدون تلك الزيادة والمفيد في الإرشاد أيضا. 2 - والأجر مما يتوقع حصوله في المستقبل. (*)

[ 87 ]

باب فقد العلماء باب فقد العلماء * الأصل: 1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن عثمان بن عيسى، عن أبي أيوب الخراز، عن سليمان بن خالد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " ما من أحد يموت من المؤمنين أحب إلى إبليس من موت فقيه ". * الشرح: (عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن عثمان بن عيسى، عن أبي أيوب الخراز) بالخاء المعجمة والراء المهملة، وقيل المعجمة والزاي المعجمة بعد الألف اسمه إبراهيم بن عيسى، وقيل ابن زياد، وقيل ابن عثمان، وفي " صه " ثقة. (عن سليمان بن خالد) بن دهقان ثقة صاحب القرآن. (عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما من أحد يموت من المؤمنين أحب إلى إبليس من موت فقيه) المفضل مقدر تقديره ما من موت أحد أو مستفاد من المقام من غير تقدير فلا يرد أن المفضل ليس من جنس المفضل عليه وإنما قيد الأحد بالمؤمنين لأن إبليس لا يحب موت الكافرين بل يغتم لأنهم من أعوانه وأنصاره، ولأن بقاءهم موجب لزيادة عقابهم فيحب بقاءهم. فإن قلت: هذا الحديث لا يدل على أن موت الفقيه أحب إليه من موت غيره، لأن فيه نفي لتفضيل موت غيره على موته ولا يلزم منه تفضيل موته على موت غيره. قلت: عدم الدلالة بحسب الوضع مسلم لكنه لا يضر لحصول الدلالة بحسب العرف كما في قولنا: ما من أحد في البلد أفضل من زيد إذا كان المقصود أن زيدا أفضل من غيره وسبب محبته - لعنه الله - موت المؤمن مع أنه لا شئ أشد عليه من خروج أحد من الدنيا مع الإيمان أن بقاء المؤمن وإكثاره للأعمال الصالحة والأفعال الفاضلة موجب لزيادة تقربه بالروحانيين ودخوله في زمرة المقربين وزيادة حسناته ورفع درجاته إذا مات انقطع عمله فلذلك يحب موته لينقطع عمله ويحرم عن فضيلة تلك الزيادة، وأيضا بينهما عداوة شديدة ومجادلة عظيمة والغلبة للمؤمن فهو يحب موته ليتخلص من غلبته وأيضا هو وإن كان مأيوسا من التصرف في المؤمن لكن يحمله شدة الحرص على تحمل المشقة في إغوائه، فإذا مات فرغ من تحمل تلك المشقة الغير النافعة، وأيضا المؤمن ناصر للمؤمن ومعين له فيحب ذلك الخبيث موته ليبقى المؤمن بلا ناصر، وأما سبب زيادة محبته موت


[ 88 ]

الفقيه فهو أن الفقيه روح قلوب المؤمنين إذ به حياتهم وهدايتهم إلى زمرة القديسين وفرقة المقربين وحصنهم، إذ به نجاتهم عن سنان غوائل الأعادي وسهام مكائد الشياطين وقائدهم في بيداء الطبيعة، إذ به رشادهم إلى الأخلاق والكمالات البشرية وأعمال الصالحين وحافظهم، إذ به خلاصهم عما يضعه إبليس من شرك الشرك وحبالة البدعة لاصطياد الناس أجمعين، فإذا مات ذلك الفقيه فكأنه مات بموته جميع المؤمنين لخروج روحهم عن أجساد قلوبهم وانهدام حصنهم وموت قائدهم وفقد حافظهم، فيبقون متحيرين لا يجدون إلى سبيل الحق دليلا ولا إلى منزل القرب سبيلا فيستولي عليهم خيول إبليس وجنوده الغاوين ولا شئ أحب من هذا عند ذلك الخبيث اللعين. * الأصل: 2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " إذا مات المؤمن الفقيه ثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها شئ ". * الشرح: (علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن بعض أصحابه) ذهب جماعة من الاصوليين إلى أن ابن أبي عمير لا يرسل إلا عن ثقة ورده المحقق وصاحب المعالم بأن المطعون في رجاله كثير، فإذا ارسل يحتمل أن يكون المطعون أحدهم، وأجاب عنه الشيخ بهاء الملة والدين بأن هذا لا يقدح إذ المنقول عدم إرساله عن غير الثقة لا عدم روايته عنه، وفيه نظر ذكرناه في موضعه من كتب الاصول. (عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا مات المؤمن الفقيه ثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها شئ) الثلمة بالضم فرجة المهدوم والمكسور والخلل الواقع في الحائط وغيره، وفيه استعارة مكنية وتخييلية لشتبيه الإسلام بالبناء كما في قوله (عليه السلام): " بني الإسلام على خمس " (1)، وإثبات الثلمة له ووقوع الثلمة في الإسلام بموت الفقيه ظاهر، لأن الإسلام مجموع العقائد الحقة العقلية والقوانين الكلية الشرعية والعالم بها والحافظ لها بالبراهين والدافع عنها شبه المنكرين هو الفقيه الرباني، فإذا مات وقع فيها ثلمة يتوجه إليها خيول أوهام الضالين المضلين ويدخلونها بلا مانع ولا دافع ويفعلون ما يريدون فتتغير بذلك تلك القواعد والقوانين آنا فآنا وينثلم شيئا فشيئا إلى أن يندرس بالكلية. فإن قلت: ثلم قد يجئ متعديا تقول: ثلمت الشئ أثلمه فانثلم من باب ضرب، وقد يجئ لازما تقول: ثلم الشئ يثلم من باب علم فهو أثلم بين الثلم فأي المعنيين مراد هنا ؟


1 - الكافي - كتاب الإيمان والكفر (باب دعائم الإسلام). (*)

[ 89 ]

قلت: يحتمل أن يكون ثلم هنا لازما وثلمة فاعله، أي وقع في الإسلام ثلمة، ويحتمل أن يكون متعديا وفاعله ضمير فيه يعود إلى الموت وثلمة مفعوله. فإن قلت: يجوز أن يوجد بدلا لمن مات فقيه آخر يسد الثلمة ؟ قلت: الثلمة الحاصلة بموت الفقيه التي هي عين موته في الحقيقة، لأنه كان حصنا للإسلام وأهله لا يسدها شئ قطعا، بل لا يمكن سدها أبدا، ولو وجد فقيه آخر كان حصنا آخر غير الحصن المهدوم، وقيل في الجواب عنه: اللام في المؤمن الفقيه للجنس وقد ثبت أن رفع الجنس موجب لرفع جميع أفراده، فكذا حكم الموت، لأنه عدم، وفيه نظر لأن المقصود من الحديث بيان وقوع الثلمة بموت كل واحد من أفراد المؤمن الفقيه لا بموت مجموع الفقهاء، فليتأمل. * الأصل: 3 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن علي بن أبي حمزة قال: سمعت أبا الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام) يقول: " إذا مات المؤمن بكت عليه الملائكة وبقاع الأرض التي كان يعبد الله عليها، وأبواب السماء التي كان يصعد فيها بأعماله، وثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها شئ، لأن المؤمنين الفقهاء حصون الإسلام كحصن سور المدينة لها ". * الشرح: (محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن علي بن أبي حمزة قال: سمعت أبا الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام) يقول: إذا مات المؤمن) لا يبعد تقييده بالفقيه، كما يرشد إليه آخر الحديث: (بكت عليه الملائكة) قيل: الملائكة أجسام لطيفة، وقيل: إنهم روحانيون منزهون عن الجسمية (1) ولا يبعد تخصيصهم بالكتبة لأعماله والحافظين لها والصاعدين بها إلى محل القبول


1 - أما من قال: إنهم أجسام لطيفة فنظر إلى ما ورد في الكتاب والسنة من وصفهم بصفات الأجسام كالنزول والصعود وكونهم اولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع، وكونهم بحيث لا يراهم أحد إلا الأنبياء والأولياء، ولولا لطافتهم لرآهم جميع الناس، ومن قال: إنهم منزهون عن الجسمية نظر إلى وصفهم بصفات يستحيل ثبوتها للأجسام مثل عدم تزاحمهم في الأمكنة ودخولهم مكانا لا منفذ له كبيت مغلق، وتمكنهم في مكان ضيق كمقام ملكين على طرفي فم الإنسان يكتبان ما ينطق به وغير ذلك مما لا يحصى. والحق أن أصل وجودهم روحاني مجرد كالإنسان فإنه إنسان بروحه المجردة وله تعلق ببدن، وكذا للملائكة تمثل بصورة مع تجردهم يراهم الأنبياء والأولياء بتلك الصورة كما تمثل لمريم بشر سويا، وقال تعالى: * (لو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا) *، وهذه الصورة المتمثلة توصف بصفات الأجسام كالأجنحة ولا يمتنع عليها ما يمتنع على الأجسام المادية كالتزاحم والدخول في بيت مغلق، وإذا كانت الصور المنامية تتصف بصفات الأجسام كما قال تعالى: * (سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف) *، و * (أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه) * فما يراه الأنبياء يقظة أولى بأن يتصف بها، ولا يوجب = (*)

[ 90 ]

والثبت كما يشعر به تقييد أبواب السماء بمصعد عمله، ويحتمل إرادة جميعهم أيضا، ولعل وجه بكائهم مع أن المؤمن إذا مات فرغ من التعب والآلام الدنيوية وخرج من السجن إلى النعيم واللذات الدائمة الاخروية امور: الأول: طول مصاحبتهم له في هذه الدار وكمال انسهم به في هذا البدن فيشد عليهم مفارقته. الثاني: فراغهم عن كتب حسناته الموجبة لرفع درجاته. الثالث: انقطاع إعانته للمؤمنين وزوال نصرته لهم. الرابع: مقاساته لكرب الموت وتحمله لشدائده واشتد ذلك عليهم فبكوا لأجله ترحما له. (وبقاع الأرض التي كان يعبد الله عليها) الموصول مع صلته إما صفة للبقاع أو صفة للأرض، وعلى التقديرين " يعبد " إما مبني للفاعل وفاعله ذلك المؤمن أو مبني للمفعول، فهذه احتمالات أربعة، فعلى الاحتمال الأول يكون البكاء مختصا بالبقاع التي هي مصلاه ومعبده في وقت من الأوقات أو في غالبها كما يشعر به لفظ كان، وعلى الاحتمالات الثلاثة الأخيرة يكون البكاء عاما لجميع البقاع وإن لم تكن مصلاه وقتا ما ووجه بكائها عليه محبتها له وفقدها لعلمه ومشيه على ظهرها ووجدها وحزنها على مفارقته. (وأبواب السماء التي كان يصعد فيها بأعماله) فيه رد على الفلاسفة القائلين بأن الأفلاك متصل واحد لا يقبل الخرق (1)، والقول بأن المراد بأبواب السماء ما يوصل أعماله إلى مقرها من العلويات ويكون وسيلة لانضباطها ملكا كان أو روحا أو نفوسا كاملة شريفة قدسية أو نفسا علوية وإن كان


= الاتصاف بها كونها أجساما مادية. (ش) 1 - من الوساوس الشيطانية الموجبة لتضليل الجهال وتشكيكهم في العقائد الدينية خلط اصطلاحات الفلسفة فيها فإنه مزلة خطرة فإذا سمع الجاهل هذا الحديث وأن العمل ترفعه الملائكة إلى أبواب السماء وتعرج به من تلك الأبواب إلى الله تعالى، فأول ما يتشكك فيه أن العمل ليس جسما يرفع وينقل من مكان إلى مكان، بل هو حركات وأقوال لا يبقى أصلا ولو سلم فليس للسماء باب بل هي مصمت ومتصل واحد لا منفذ فيه ولا يقبل الخرق والالتئام، ولو كان الموسوس من مقلدة عصرنا ليقولن ليس للسماء وجود أصلا، وإنما كان الاعتقاد بالسماء مذهب بطلميوس، وقد بطل بالهيئة الجديدة، ثم لا فائدة في رفع العمل إلى السماء مع أن الله تعالى في كل مكان، والجواب: أن الله تعالى ليس له مكان ولكن لما كانت السماء تدل على العلو والله متعال عن كل نقص ناسب عند ذكره ذكر السماء، ولو قال أحد: إن الله تحت قدمي فقد أساء الأدب، وإن كان قوله صحيحا مثل أن يقول: فوق رأسي، ورفع العمل إلى السماء عبارة عن تقريبه إلى الحق وقبوله، وهذا كما قال تعالى: * (لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة) * وليس السماء هنا ما كان يعتقده بطلميوس بل هي تعبير عن العالم الأعلى ولا يجوز حمل كلام الإمام على اصطلاح الفلاسفة. (ش) (*)

[ 91 ]

محتملا لكنه بعيد جدا ويجري في الموصول الاحتمالان المذكوران، وجاء هذا الحديث في كتاب الجنائز بإسناد آخر وفيه: " يصعد فيها أعماله " بدون الباء، والوجه في بكائها مثل ما مر، ويمكن أن يقال الوجه فيه وفيما سبق: إن المؤمن الفقيه ينظر بعين البصيرة إلى ما في عالم الجسمانيات والمجردات ويعرف حقائقها وأحوالاتها ثم ينتقل ذهنه الذكي إلى عالم الربوبية وعالم التوحيد ويشاهد ما فيه من الحقائق الصافية عن الكدورات المطهرة عن أدناس الأوهام والتخيلات فهو يسافر بقدم الأفكار من الخلق إلى الحق فيكون لكل موجود في عالم الأرض والسماء، سيما الامور المذكورة رابطة معنوية وعلاقة طبيعية إلى ذاته، فإذا مات بكى عليه من شدة الحزن وغلبة الوجع، ثم إنه يمكن أن يكون بكاء هذه الامور محمولا على الحقيقة كما قيل مثل ذلك في تكلم الكعبة ونطق جوارح الإنسان يوم القيامة وتكلم بعض الأحجار إلى غير ذلك، ولا يبعد ذلك بالنظر إلى قدرة الباري وإقداره عليه. وقيل: أراد المبالغة في تعظيم شأن المؤمن، لأن العرب كانت تقول في عظيم القدر إذا مات تبكيه السماء والأرض مبالغة في عظم قدره (1). وقيل: إطلاق البكاء على بقاع الأرض وأبواب السماء مجاز في فقدهما لما ينبغي أن يكون فيهما من مساجد المؤمن ومصاعد أعماله، فإن من فقد شيئا يحبه وينبغي له يبكيه فأطلقه عليه إطلاقا لاسم الملزوم على اللازم. وقيل: أراد بكاء أهل بقاع الأرض وأهل أبواب السماء من الملائكة والأرواح المقدسة والنفوس المجردة وغيرها - بحذف المضاف - وهم يبكون عليه تأسفا وتحزنا. (وثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها شئ) وقد علل الجميع أو الأخير فقط بقوله: (لأن المؤمنين الفقهاء) وهم العارفون بالمعارف الإلهية والعالمون بالشرائع النبوية والخالصون من الصفات الذميمة النفسانية والمنزهون عن الصفات الرذيلة الشيطانية والجامعون بين المعقول


1 - ومثله في الفارسي أيضا، مثاله في العربية قول الشاعر: لما أتى خبر الزبير تواضعت * سور المدينة والجبال الخشع وقول الفرزدق أو جرير: والشمس طالعة ليست بكاسفة * تبكي عليك نجوم الليل والقمرا وقال في الفارسية: ماتم سراى گشت سپهر چهارمين * روح الامين بتعزيت آفتاب شد گردون سر محمد يحيى بباد داد * محنت رقيب سنجر مالك رقاب شد وأما سائر التوجيهات فتكلف. (*)

[ 92 ]

والمنقول (1) والقادرون على ربط الفروع بالاصول والآخذون بأيدي القوة القدسية ربقة البدائع وأعناق الأسرار والطائرون بأجنحة الهمة العالية إلى حظائر القدس ومنازل الأبرار. (حصون الإسلام) الحصون جمع الحصن، بكسر الحاء. وفي المغرب: هو كل مكان محمي محرز لا يتوصل إلى ما في جوفه. وفي الكلام تشبيه بليغ بحذف الأداة وإنما شبههم بالحصون لأنهم يحفظون الإسلام بتسديد عقائده وتقويم قواعده ويذبون عنه وعن أهله صدمات الكافرين وشبهات الظالمين ويقطعون عنه أسنة مكايد الشياطين وألسنة مطاعن الطاعنين، ويمنعون من دخول شئ خارج عنه ومن خروج شئ داخل فيه بأسنة لسانهم وحدة أذهانهم وقوة عقولهم وذكاء قلوبهم. (كحصن سور المدينة لها) فإنه يدفع عن أهلها غوائل الأعادي والطغاة ويمنع عنهم هجوم الخصوم والعصاة، والحصن هنا أيضا بكسر الحاء، والسور حائط المدينة والإضافة بيانية، والمقصود أنهم حصون الإسلام كما أن سور المدينة حصن لها، ويحتمل أن يكون بضم الحاء بمعنى المنع مصدر حصن ككرم والإضافة من باب إضافة المصدر إلى الفاعل فإنه لما شبههم بأنهم حصون للإسلام شبه منعهم عن أهله بمنع سور المدينة عن أهلها. * الأصل: 4 - وعنه، عن أحمد، عن ابن محبوب، عن أبي أيوب الخراز، عن سليمان بن خالد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " ما من أحد يموت من المؤمنين أحب إلى إبليس من موت فقيه ". * الشرح: (وعنه، عن أحمد، عن ابن محبوب، عن أبي أيوب الخراز، عن سليمان بن خالد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما من أحد يموت من المؤمنين أحب إلى إبليس من موت فقيه) لأن الفقيه رئيس المؤمنين وأميرهم يسوقهم إلى سبيل الحق وشأن إبليس إضلالهم عنه فهو يحب موته أشد محبة ليجري عليهم أمره بلا معارض، وأما غير الفقيه من المؤمنين فلما لم يكن لهم بالفعل رتبة الهداية والإرشاد والإمارة مثل الفقيه بل إنما هي لهم بالقوة فلذلك يحب موتهم أيضا، لكن لا مثل محبته موت الفقيه. * الأصل: 5 - علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن علي بن أسباط، عن عمه يعقوب بن سالم، عن داود ابن فرقد قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): " إن أبي كان يقول: إن الله عز وجل لا يقبض العلم بعد ما


1 - إنما قال ذلك لئلا يتوهم أن المراد بالفقهاء المقتصرون على الفروع والمكتفون بالمنقول التاركون للمعقول، لأن الفقه في اصطلاح الكتاب والسنة أعم منه في اصطلاح المتأخرين. (ش) (*)

[ 93 ]

يهبطه، ولكن يموت العالم فيذهب بما يعلم فتليهم الجفاة فيضلون ويضلون ولا خير في شئ ليس له أصل ". * الشرح: (علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن علي بن أسباط، عن عمه يعقوب بن سالم) ثقة من أصحاب أبي عبد الله (عليه السلام). (عن داود بن فرقد) ثقة. (قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن أبي كان يقول: إن الله عز وجل لا يقبض العلم بعد ما يهبطه) إلى قلوب صافية طاهرة ذكية قابلة للعروج إلى معارج الحق يعني لا يمحوه عنها بعد ما نورها به كمحو الحال عن المحل، ولا يجعلها جاهلة، ويمكن أن يكون المراد أنه لا يقبض العلم من بين الناس بعد نزوله إليهم ولا يترك كلهم جاهلين، بل يكون فيهم من يعلمه على وجه الكمال، ثم أشار إلى كيفية قبضه بعد هبوطه بقوله: (ولكن يموت العالم فيذهب بما يعلم) يعني يقبض العلماء مع علومهم جميعا من غير أن يزول العلم عنهم وبعد انقراضهم عن هذه الدار وذهابهم مع العلم يبقى الناس متحيرين. (فتليهم الجفاة) أي يصيروا إليهم صاحب التصرف في امور دينهم ودنياهم، وفي بعض النسخ: فتامهم الجفاة، وهي جمع الجافي من الجفاء، وهو الغلظة والخرق التابعان للجهل يعني يتعاطى الجهال وأصحاب القلوب القاسية الذين لا يهتدون إلى سبيل الهداية أصلا ولا يعلمون طريق الصواب قطعا مناصب العلماء في الفتيا والتعليم فيفتون بمقتضى آرائهم السقيمة. (فيضلون) عن دين الحق. (ويضلون) الناس عنه فيقع الهرج والمرج وينتشر الظلم والجور ويرجع الناس إلى الجور بعد الكور، وقد ظهر ذلك في هذا الزمان إذ قد ولي الفتيا والتدريس كثير من الجهال والصبيان وتولى القضاء والحكومة جماعة من أهل الجور والطغيان (1) نعوذ بالله من غوائل هؤلاء العصاة ومن مخائل اولئك الغواة. (ولا خير في شئ ليس له أصل) أصل جميع الخيرات دنيوية كانت أو اخروية هو العلم وإذا انتفى العلم وشاع الجهل انتفت الخيرات كلها، وفيه إخبار بأن مبدأ جميع الخيرات هو العلم كما قال سبحانه: * (ومن يؤت الحكمة فقد اوتي خيرا كثيرا) *، فإذا ذهب العالم بعلمه ذهب بجميع


1 - لو كان الشارح (رحمه الله) رأى زماننا لم يشك من زمانه، ولعل من يأتي بعدنا يغبط زماننا، ولا حول ولا قوة إلا بالله. (ش) (*)

[ 94 ]

الخيرات، وحمله على الدعاء بعيد جدا، ونظير هذا الحديث موجود في كتب العامة بطرق متعددة، منها: ما رواه مسلم عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: " إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ولكن يقبض العلماء حتى إذا لم يترك عالما اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا " (1). * الأصل: 6 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن علي، عمن ذكره، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: كان علي بن الحسين (عليهما السلام) يقول: " إنه يسخى نفسي في سرعة الموت والقتل فينا قول الله: * (أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها) *، وهو ذهاب العلماء ". * الشرح: (عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد) يعني ابن عيسى. (عن محمد بن علي) يعني ابن النعمان البجلي أبا جعفر مؤمن الطاق. (عمن ذكره، عن جابر) بن يزيد الجعفي، جعفي أبو قبيلة من اليمن، وهو جعفي بن سعد العشيرة ابن مذحج، والنسبة إليه كذلك، وفي جابر مدح وتوثيق وذم من أراد الاطلاع عليه فليرجع إلى كتب الرجال (2). (عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: كان علي بن الحسين (عليهما السلام) يقول: إنه) الضمير للشأن. (تسخى نفسي في سرعة الموت والقتل فينا قول الله: * (أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها) *) حال عن الفاعل أو بيان لنأتي. (* (من أطرافها) *) أي نواحيها. (وهو ذهاب العلماء) من جعل تسخى على وزن ترضى من المجرد وجعل نفسي فاعله ورد عليه: أن سخاوة النفس فيما ذكر وقبولها إياه تامة لا يحتاج إلى ما بعده فلا يظهر لقوله: " قول الله " محل من الاعراب فاضطر إلى أن جعله مبتدأ وفينا خبره فورد عليه: أن هذا الكلام لا يظهر ارتباطه بما قبله ثم اضطر إلى أن قال: تسخى بمعنى تترك من سخيت نفسي عن الشئ بمعنى تركته، وقوله:


1 - صحيح مسلم ج 8، ص 60 من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص. 2 - اختلاف الناس في جابر بن يزيد لا يوجب عدم الاعتماد على هذا الحديث، فإن متنه لا يخالف شيئا معلوما، ومضمونه صحيح معلوم، فإن أراد أحد الاستدلال به على عدم خوف الأئمة من الموت والقتل فهو صحيح، وإن أراد الاستدلال به على أن المراد من الآية الكريمة سرعة الموت فيهم فلا يخالف أمرا معلوما، وإن لم يدل عليه بوجه واختلف العامة في جابر وثقه بعضهم وضعفه آخرون، وكذلك علماؤنا. وقال ابن الغضائري: ثقة في نفسه، ولكن جل من روى عنه ضعيف. (ش) (*)

[ 95 ]

" فينا قول الله " في قوة لكن فينا قول الله، ومعناه أنا لا نسارع إلى الموت والقتل مع زهادة أنفسنا في هذه الحياة الظاهرية إشفاقا على الناس من ذهاب العلم عنهم ووقوع النقص في أرضهم، لكن قول الله عز وجل فينا ذلك، جعل أنفسنا راضية في سرعة قبول الموت والقتل، والحق أن يسخي بتشديد الخاء من باب التفعيل والسخاوة الجود و " نفسي " مفعوله و " قول الله " فاعله و " فينا " متعلق بالسرعة، يعني مضمون هذه الآية وهو إتيان الله تعالى الأرض، ونقص أطرافها المراد به ذهاب العلماء يجعل نفسي سخية جوادا في قبول سرعة الموت والقتل فينا أهل البيت راغبة فيه. ويؤيد تفسير نقص الأرض بذهاب العلماء ما نقل عن ابن عباس في تفسير هذه الآية من أن المراد بنقص الأرض من أطرافها موت أشرافها وكبرائها وعلمائها، وذهاب الصلحاء والأخيار. فإن قلت: ما المراد من نقص الأرض من أطرافها ولم كان ذهاب العلماء سببا له ؟ قلت: الله يعلم كما كان وجود العلماء سببا لعمارة الأرض ونظام أهلها بارتكابهم لما ينبغي واجتنابهم عما لا ينبغي من الأعمال والأخلاق كذلك ذهاب العلماء سبب لخراب الأرض وانتفاء نظام أهلها أو ارتكابهم لما لا ينبغي واجتنابهم عما ينبغي وذلك يوجب تفشي الظلم والجور، وهذا هو المراد بالنقص المذكور. فإن قلت: لم كان مضمون الآية سببا لصيرورة نفسه القدسية سخية في الأمر المذكور ؟ قلت: أولا: العلماء الكاملين، سيما الأئمة المعصومون (عليهم السلام) يحبون بقاءهم في الدنيا لا لركونهم إليها وحبهم لها بل لهداية أهلها وتكميل نظامهم رأفة بهم وشفقة عليهم، فإذا تعلق إرادة الله سبحانه ضلالتهم وفسادهم بسبب من الأسباب بذهاب العلماء رضوا بقضائه أشد الرضا ترجيحا لإرادته على إرادتهم وجادوا بنفوسهم من صميم القلب طلبا لمرضاته. وثانيا: أن هذا الكلام منه (عليه السلام) ترغيب للمؤمن إلى الرضا بالموت أو القتل في تلك الحالة، أعني حالة أخذ العلماء وقبض نفوسهم الشريفة النورانية وإذهابهم عن وجه الأرض، لأن الأرض حينئذ ناقصة مظلمة مكدرة بالظلم والجور والفسق والشر ولا شبهة في أن موته في تلك الحالة ورجوعه إلى حضرة القدس خير له من بقائه فيها. وقيل: السبب لذلك هو أن الآية دلت على أن الله تعالى هو المباشر المتولي لتوفي العلماء وقبض أرواحهم إليه وأشرف العلماء هم الأئمة المعصومون (عليهم السلام) فلذلك سخوا بنفوسهم ورضوا بسرعة موتهم حبا لذلك وشوقا إليه، وفيه نظر لأن الإتيان عليه سبحانه محال، فالمراد إتيان الملائكة الموكلين بقبض الأرواح بأمره وإنما نسب الفعل إلى الآمر مجازا كما هو الشائع. هذا، وقال الواحدي وتبعه القاضي وغيره: المراد بالأرض أرض الكفرة، والمراد بنقصها من


[ 96 ]

أطرافها فتحها على المسلمين منها لأنهم استولوا على أطراف مكة وغيرها وأخذوها من الكفرة قهرا أو جبرا (1)، وقال الرازي: يليق أيضا أن يكون معناه أولم يروا ما يحدث في الدنيا من الاختلاف خراب بعد عمارة وموت بعد حياة وذل بعد عز ونقص بعد كمال، وإذا كانت هذه التغييرات محسوسة مشاهدة فما الذي يؤمن الكفرة أن يقلب الله الحال عليهم بأن يجعلهم ذليلين بعد أن كانوا عزيزين ومقهورين بعد أن كانوا قاهرين ؟ وقال بعض المفسرين: ننقصها من أطرافها بموت أهلها وتخريب ديارهم وبلادهم فهؤلاء الكفرة كيف أمنوا من أن يحدث أمثال هذه الوقائع فيهم ؟


1 - هذا هو الظاهر من الآية، والغرض منها دعوة الكفار إلى ترك اللجاج والعناد والتعصب بأن البلاد دخلت تدريجا في حيطة الإسلام وذكر موت العلماء ونقص العلم يناقض هذا الغرض، فإن قيل: كيف حكمت أولا بأن تفسير جابر لا يخالف أمرا معلوما مع أنه يخالف ظاهر الآية ؟ قلنا: ما حكمنا بأن تفسيره لا يخالف أمرا معلوما بل قلنا: الاستدلال به على موت العلماء لا يخالفه، لأن الآية وإن لم تكن مسوقة لبيان ذلك ولكن الشئ بالشئ يذكر مثل أن يستدل بقوله: * (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض) * الوارد في بني إسرائيل على نجاة أهل الحق في آخر الزمان. (ش) (*)

[ 97 ]

شرح الكافي: 2 / كتاب فضل العلم باب مجالسة العلماء باب مجالسة العلماء وصحبتهم * الأصل: 1 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، رفعه قال: قال لقمان لابنه: " يا بني، اختر المجالس على عينك، فإن رأيت قوما يذكرون الله جل وعز فاجلس معهم، فإن تكن عالما نفعك علمك وإن تكن جاهلا علموك، ولعل الله أن يظلهم برحمته فيعمك معهم، وإذا رأيت قوما لا يذكرون الله فلا تجلس معهم، فإن تكن عالما لم ينفعك علمك، وإن كنت جاهلا يزيدوك جهلا، ولعل الله أن يظلهم بعقوبة فيعمك معهم ". * الشرح: (علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، رفعه قال: قال لقمان لابنه:) الظاهر أن القائل الأول هو الإمام، واحتمال غيره بعيد. (يا بني، اختر المجالس) المنقول اختر أمر من الاختيار الأجوف، أي اطلب مختارها لا اختبر من الاختبار الصحيح بمعنى الامتحان، وإن كان معناه أيضا مناسبا هنا. (على عينك) أي على بصيرة منك ومعرفة لك بحالها أو بعينك، وقد يكون على بمعنى الباء كما صرح به في الصحاح، واستشهد له بقول أبي ذويب (1). (فإن رأيت قوما يذكرون الله جل وعز) يشمل مجلس العلم ومجلس ثناء الله تعالى ومجلس ذكر فضائل الأنبياء والأوصياء، وبالجملة مجالس الخير كلها. (فاجلس معهم، فإن تكن عالما نفعك علمك) فإن نفع العلم هو العمل والذكر والإرشاد والتعليم والتحريض على الخير والرجوع إلى الحق، وكل هذا قريب الوقوع في هذا المجلس. (وإن تكن جاهلا علموك) لأن استماع الذكر تعليم في الحقيقة، ولأن في مجالسة أهل الخير تأثيرا عظيما في اكتسابه وميل النفس إلى تعلمه وارتقائها إلى معارج الحق ولذلك قال أمير المؤمنين (عليه السلام): " قارن أهل الخير تكن منهم " (2). (ولعل الله أن يظلهم) أي يدنيهم.


1 - وهو قوله: " يسر يفيض على القداح ويصدع "، قال: معناه بالقداح، وهذا مصراع بيت لم يورده الجوهري بتمامه وأوله: " فكأنهن ربابة وكأنه ". (ش) 2 - النهج - المختار من الرسائل في كتاب له إلى ولده الحسن (عليه السلام) تحت رقم 31. (*)

[ 98 ]

(برحمته) من أظله فلان إذا دنا منه، كما في الصحاح أو يسترهم بها ويلقي ظلها عليهم كما في المغرب. (فيعمك معهم) لأن الله سبحانه كريم، فإذا نظر إلى جماعة بعين الرحمة رحمهم وغفر لهم جميعا، وإن لم يكن بعضهم مستحقا لها وهذا أحد التأويلات لقوله (صلى الله عليه وآله): " أهل الخير لا يشقى جليسهم " وقول أمير المؤمنين (عليه السلام): " قارن أهل الخير تكن منهم " وينبغي أن يعلم أن في مجالسة الذاكرين ومخالطة الصالحين منافع كثيرة غير هذه الثلاثة، ولكن جلها بل كلها راجعة إلى هذه الثلاثة، ولذلك اقتصر معدن الحكمة عليها. (وإذا رأيت قوما لا يذكرون الله) في إيراد " أن " في السابق و " إذا " هنا تنبيه على قلة الذاكرين وعدم تحقق وجودهم وكثرة الغافلين واشتهارهم. (فلا تجلس معهم، فإن تكن عالما لم ينفعك علمك) لأن أعظم منافع العلم هو الذكر والفكر والاتقاء من مواضع التهمة والامتياز عن الغافلين والتباعد من الجاهلين، ولا ريب في أن هذه المنافع تنتفي بالمجالسة معهم، وإن شئت زيادة توضيح فنقول: يجب عليك بعد تحصيل السعادة الأبدية واقتناء العلوم الحقيقية والمعارف اليقينية واكتساب النواميس الإلهية ضبطها وطلب استمرارها وزيادتها واستبقاء صحة النفس المتحلية بها كما يجب على الأصحاء حفظ صحة أمزجتهم مما يوجب فسادها وتغيرها. ومن جملة القوانين لحفظك صحة النفس الفاضلة بالفضائل المذكورة أن تعاشر من هو مثلك في الفضل أو هو أفضل منك وتجتنب عن الجهلة المشغوفين بالغفلة والجهالة والغافلين عن الحضرة الربوبية خصوصا عمن اشتهر بالشر والفساد واستعلن الاستهزاء والافتخار وافتخر بإصابة القبائح والشهوات ونيل الفواحش واللذات ونسج الأكاذيب والحكايات ونقل الأشعار والمزخرفات فإن في مشاهدة أمثال تلك واستماعها تأثيرا عظيما في انتكاس النفس وانعكاسها عن المبادئ العالية فربما يتعلق باستماع بعض هذه الامور بنفس الفاضل الكامل وسخ كثير وخبث عظيم بحيث لا يقدر على تطهيرها في مدة مديدة فكيف الطالب المستعد والمتعلم المسترشد فإنه بقبول ذلك أقرب لميل النفس بالذات إلى ما يلائمها من اللذات ؟ ولو لم يكن زمام العقل وقيد الحكمة مانعين من ذلك لكان جميع الخلائق مبتلين بهذه البلية. (وإن كنت جاهلا يزيدوك جهلا) لأن نفسك المستعدة للشر تأخذ منهم الشر سراعا إذ عليها بواعث من الطبع فإذا انضافت إليها تسويلات هؤلاء الشياطين الذين يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا تتأثر منها سريعا، ولذلك قال أمير المؤمنين (عليه السلام): " لا تصحب المائق فإنه


[ 99 ]

يزين لك فعله ويود أن تكون مثله " (1)، والمائق الأحمق، وقال أيضا: " باين أهل الشرتين منهم " (2). (ولعل الله أن يظلهم بعقوبة) لم يضف العقوبة إليه سبحانه كما أضاف الرحمة لرجحان الرحمة بالنسبة إليه تعالى فكأنها من مقتضى ذاته بخلاف العقوبة، وقد سبقت رحمته غضبه. (فيعمك معهم) إحاطة العذاب بشخص لكونه في الظالمين غير قليل والأخبار الدالة على الفرار منهم كثيرة. لا يقال: مؤاخذة البرئ ظلم. لأنا نقول: ليس هذا بريئا من جميع الوجوه، لأنه بسبب كونه معهم ظالم لنفسه على أن هذه عقوبة دنيوية نشأت من كونه معهم، ولعل الله أن يرحمه في الآخرة كما نطق بذلك بعض الروايات، فيا عجبا من أهل عصرنا الذين نموا أنفسهم إلى العلم كيف يسجدون لهؤلاء الظلمة الفسقة الفجرة ويعبدونهم ويمدحونهم بما لا يليق إلا بالله وبرسوله وبالأئمة الطاهرين ويقبضون وجوههم بعلة الاستحقار إذا رأوا واحدا من الصالحين في الفقراء ويكبسون رؤوسهم في ثياب الاستكبار إذا نظروا من بعد أحدا من الزاهدين في زي الفضلاء ! خذلهم الله في الدنيا وحشرهم مع هؤلاء الظالمين آمين يا رب العالمين. * الأصل: 2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه ومحمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى جميعا، عن ابن محبوب، عن درست بن أبي منصور، عن إبراهيم بن عبد الحميد، عن أبي الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام) قال: " محادثة العالم على المزابل خير من محادثة الجاهل على الزرابي ". * الشرح: (علي بن إبراهيم، عن أبيه ومحمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى جميعا، عن ابن محبوب، عن درست بن أبي منصور، عن إبراهيم بن عبد الحميد) قال العلامة في الخلاصة: وثقه الشيخ في الفهرست. وقال في كتاب الرجال: إنه واقفي من أصحاب الصادق (عليه السلام). وقال سعد بن عبد الله: أدرك الرضا (عليه السلام) ولم يسمع منه فتركت روايته لذلك. وقال الفضل بن شاذان: إنه صالح، انتهى. قال الشهيد (رحمه الله) في الحاشية: لا منافاة بين حكم الشيخ بأنه واقفي كما لا يخفى. وقال ابن داود: عندي أن الثقة من رجال الصادق (عليه السلام) وهو الذي في الفهرست، والواقفي من رجال الكاظم (عليه السلام) وليس بثقة.


1 - النهج - أبواب الحكم والمواعظ، تحت رقم 293. 2 - النهج - أبواب الرسائل، تحت رقم 30. (*)

[ 100 ]

(عن أبي الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام) قال: محادثة العالم على المزابل) جمع مزبلة، موضع الزبل بكسر الزاي، وهو السرقين. (خير من محادثة الجاهل على الزرابي) في النهاية: الزريبة الطنفسة، وقيل: البساط ذو الخمل وتكسر زاؤها وتفتح وتضم وجمعها زرابي. وفي الصحاح: الزرابي النمارق والنمرقة الوسادة، وقيل: الزرابي من النبت أصفر وأحمر وفيه خضرة وتطلق على البسط الملونة بالألوان تشبيها لها بالزرابي من النبت، ولعل السر في ذلك أن كمال الإنسان وشرفه إنما هو بكمال الروح وشرفه لا بهذا الهيكل والبدن فلا ضير في كون البدن على مكان خسيس إذا كان الروح مسرورا بمشاهدة الحكمة الإلهية ومتنعما بأغذية العلوم الربانية وسائرا بأجنحة الكمال في المقامات العالية، ولا خير في كون البدن على مكان نزيه بسط فيه السندس والاستبرق إذا كان الروح مسموما بسموم الغواية والجهالة ومغموما بغموم الغباوة والضلالة فهل ينفع الميت اضطجاعه على سرير مكلل بالدرر واليواقيت إذا كان روحه مغلولا بالسلاسل والأغلال ومعذبا بأنواع العذاب والنكال ؟ * الأصل: 3 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد البرقي، عن شريف بن سابق، عن الفضيل بن أبي قرة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " قال الحواريون لعيسى: يا روح الله، من نجالس ؟ قال: من يذكركم الله رؤيته، ويزيد في علمكم منطقه، ويرغبكم في الآخرة عمله ". * الشرح: (عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد البرقي، عن شريف بن سابق) بالباء المنقطة بنقطة قبل القاف أبو محمد التفليسي، أصله كوفي، انتقل إلى تفليس ونسب إليها. (عن الفضيل بن أبي قرة) ضعيف مضطرب الأمر (صه). (عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): قال الحواريون لعيسى: يا روح الله، من نجالس ؟) أي نجالسه بحذف العائد. (قال: من يذكركم الله رؤيته) لصفاء ذاته وضياء صفاته وحياء وجهه وسيماء جبهته ولواء زهادته وبهاء عبادته. (ويزيد في علمكم منطقه) أي كلامه ونطقه في العلوم الحقيقية والمعارف الإلهية والأحكام الشرعية والآداب النفسية والأخلاق القلبية وسائر الكمالات البشرية. (ويرغبكم في الآخرة عمله) الدال على إقباله إلى الامور الاخروية وإعراضه عن الشواغل الدنيوية، فإن رؤية الأعمال الصالحة والأفعال الفاضلة والعبادات الكاملة تؤثر في نفس الرائي


[ 101 ]

تأثيرا عظيما حتى تنفض عنها غبار الشهوات وتنقض منها خمار الغفلات وتبعثها على الأعمال الموجبة للارتقاء إلى معارج القدس والارتواء بزلال الانس، فقد ذكر لمن ينبغي مجالسته ثلاثة أوصاف (1) هي امهات جميع الصفات المرضية، إذ هي مشتملة عليها كاشتمال المجمل على المفصل، وفيه إشعار بأن من لم يكن فيه هذه الصفات أو كان فيه أضدادها لا ينبغي المجالسة معه بل الفرار والاعتزال منه لازم، فإن مجالسته تميت القلب وتفسد الدين وتورث النفس ملكات مهلكة مؤدية إلى الخسران المبين، والضابط في الجليس أنه إما أن يكون لك أو يكون عليك، أو لا يكون لك ولا عليك، والأول ينبغي مجالسته عقلا ونقلا دون الأخيرين، وأما الثاني فلأن مجالسته تضييع للأوقات بلا منفعة، وهذا الحديث جامع بين الأحاديث المختلفة في الحث على الاعتزال والمخالطة. * الأصل: 4 - محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن ابن أبي عمير، عن منصور بن حازم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " مجالسة أهل الدين شرف الدنيا والآخرة ". * الشرح: محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن ابن أبي عمير، عن منصور بن حازم) ثقة عين صدوق من أجلة أصحابنا وفقهائهم. (عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): مجالسة أهل الدين) الدين في الشرع عبارة عن الشرائع الصادرة بواسطة الرسول وأهله هم العالمون بها، الحافظون لأركانها العالمون بأحكامها وشرائطها الواقفون على حدودها. (شرف الدنيا والآخرة) الشرف العلو والرفعة (2) والسر في ذلك أن جليس أهل الدين إذا قابل


1 - قسم المعاشرة على ثلاث مراتب: الاولى: الرؤية، والثانية: المحادثة والمكالمة، والثالثة: المشاركة في الأفعال والأعمال، فينبغي أن يكون من تعاشره أولا في زي أهل التقوى والصلاح بحيث إذا رأيته ذكرت الله تعالى، ثم إذا قربت منه أكثر تكلم بما يزيد في علمك، وبعد ذلك إذا آنسته وأكثرت مراودته وجدته عاملا بأعمال أهل الآخرة ورغبت أنت في عمله. (ش) 2 - أما أنه شرف الآخرة فظاهر، وأما أنه شرف الدنيا فلما ذكره الشارح ولأن غالب أهل الدنيا وإن كانوا منغمرين في الشهوات طالبين للمال والجاه متهالكين على تحصيلهما ولا يرون لأهل الورع والتقوى فضلا بمقتضى طبيعتهم الشهوانية ولكن الحسن والقبح العقليين منطبعان في طبيعة الإنسان إذا خلي وطبعه وأنه حين ارتكاب الفحشاء معترف بقبحه باطنا وأن من لا يرتكب أفضل منه والمؤمن الصالح منظور إليه بنظر التعظيم حتى عند غير أهل نحلته وكذلك من يجالسهم، وكان في زماننا رجل من الهنود متقشفا متزهدا متمسكا بما دله عقله من الفضائل لو يؤت سعة من المال أوجب ذلك له شرفا وعزة = (*)

[ 102 ]

قلبه بقلبه تنعكس إليه أشعة العلوم وأنوار المعارف فيهتدي بذلك إلى الكمالات السنية والمقامات الرفيعة والدرجات العلية وتستولي قوته العاقلة على القوة الشهوية والغضبية ويقهر النفس الأمارة التي هي مبدأ الخطل في الأقوال والخلل في الأفعال والخطأ في الأعمال حتى يحصل له من ذلك ملكة في اجتناب المعاصي وترك الرذائل واكتساب الحسنات وكسب الفضائل وعند ذلك تطلع الأنوار الإلهية من مطالع قلبه ولسانه وتشرق الإشراقات الربانية من مشارق أركانه وجنانه فيصير نورا إلهيا يهتدي به الحائرون وبه يستضيئ به السالكون، ويقتدي به العابدون ويفتخر به الزاهدون ويلجأ إليه المؤمنون ويسعى نوره في الآخرة بين يديه حتى يورده إلى منازل الأبرار ومقام الأخيار ويشفع لمن يشاء، فله الرئاسة العظمى والخلافة الكبرى في الآخرة والدنيا ولا شرف أعظم من ذلك. * الأصل: 5 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن القاسم بن محمد الأصبهاني، عن سليمان بن داود المنقري، عن سفيان بن عيينة، عن مسعر بن كدام، قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: " لمجلس أجلسه إلى من أثق به أوثق في نفسي من عمل سنة ". * الشرح: (علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن القاسم بن محمد الأصبهاني) يعرف بكاسولا، قيل: حديثه يعرف وينكر لا فيه طعن في الغاية ولا نقاء عن الغميزة. (عن سليمان بن داود المنقري، عن سفيان بن عيينة) بالعين المهملة والنون بعد اليائين المثناتين من تحت، مجهول الحال، وليس من أصحابنا. (عن مسعر بن كدام) وهو أيضا ليس من أصحابنا. قال ابن حجر في التقريب: مسعر بن كدام بكسر أوله وتخفيف ثانيه ابن ظهير الهلالي أبو سلمة الكوفي، ثقة ثبت فاضل، وكدام بكسر الكاف وتخفيف الدال المهملة. ومثله في شرح البخاري للكرماني، وقال بعض أصحابنا: مسعر بن كدام المعروف فيه فتح الميم على صيغة اسم المكان وضبطه غير واحد من علماء العامة بكسر الميم وفتح العين على صيغة اسم الآلة، وقيل: مسعر شيخ السفيانين سفيان الثوري وسفيان بن عيينة. (قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: لمجلس أجلسه) أي أجلس فيه على الحذف والايصال. (إلى من أثق به) أي مع من أثق به، فإلى بمعنى " مع " أو " إلى " مواجهة من أثق بدينه واعتمد على


= الاتصاف بها كونها أجساما مادية. (ش) (*)

[ 103 ]

علمه وفضله وصلاحه أو راجعا أو مائلا إلى من أثق به على سبيل التضمين. (أوثق) أي الجلوس المستفاد من المجلس أو المجلس على أن يراد به مصدر ميمي على سبيل الاستخدام. (في نفسي من عمل سنة) لأن الجلوس معه يعين في أمر الدنيا والآخرة ولا فضيلة أعظم من ذلك، ولأن النظر إليه والتكلم معه والكون معه عبادات مقبولة قطعا، وعمل سنة لا يعلم أنه مقبول أم لا، فالوثوق بذلك أكثر وأعظم وفيه ترغيب بليغ في مصاحبة العالم المتدين لأنه (عليه السلام) مع صفاء الذات ونورانية الصفات وتقدم رتبته على جميع المخلوقات إذا كان يقول ذلك ويتمناه فنحن أولى بذلك.


[ 105 ]

باب سؤال العالم باب سؤال العالم وتذاكره * الأصل: 1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن مجدور أصابته جنابة فغسلوه فمات ؟ قال: " قتلوه، ألا سألوا فإن دواء العي السؤال ". * الشرح: (علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن مجدور أصابته جنابة فغسلوه فمات) المجدور ذو الجدري وهو - بضم الجيم أو فتحها وفتح الدال (1) - داء يتقوب به الجلد ويتقشر والغرض من هذا السؤال استعلام حكم هذه المسألة هل الغاسل مقصر ضامن أم لا ؟ (قال: قتلوه) لأن حكم من يتضرر باستعمال الماء هو التيمم، فإذا غسلوه فمات فقد قتلوه خطأ ولزمهم الضمان. (ألا سألوا) ألا بفتح الهمزة وتشديد اللام من حروف التحضيض وإذا دخلت في الماضي فهي للتنديم والتوبيخ على ترك الفعل، فقد عيرهم (عليه السلام) ووبخهم على ترك السؤال حتى وقعوا لجهلهم فيما وقعوا من إهلاك أنفسهم في الآخرة، ولو سألوا لما وقعوا فيه ولنجوا من مرض الجهل. (فإن دواء العي السؤال) العي - بكسر العين المهملة وتشديد الياء - التحير في الكلام والعجز عن البيان وعدم الاهتداء إلى وجه المقصود، والمراد هنا الجهل يعني أن الجهل داء شديد ومرض مهلك للقلب في الدنيا والآخرة وشفاؤه منحصر في السؤال من الفضلاء والتعلم من العلماء، فقد بالغ (عليه السلام) في الحث على سؤال العالم عن كل واقعة حيث حكم أولا بأن الغاسل للمجدور والمفتي له من غير علم قاتل له، وعير ثانيا على ترك السؤال الموجب للوقوع في الهلكة، وبين ثالثا أن الجهل مرض مهلك شفاؤه السؤال من العلماء.


1 - الجدري مرض يقال له عندنا: " آبله " ولم يكن يعرفه اليونانيون، ولم يذكره جالينوس في الستة عشر كما لم يذكر الحصبة وهو المعروف عندنا " بسرخجه " وقيل: إن هذين المرضين لم يعرفهما الناس قبل هجوم الحبشة وأصحاب الفيل على الكعبة والله العالم، وبالجملة تعبد الجاهل ربما أوجب له ارتكاب أكبر الكبائر وهو قتل النفس. (ش) (*)

[ 106 ]

* الأصل: 2 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن حماد بن عيسى، عن حريز، عن زرارة ومحمد بن مسلم وبريد العجلي قالوا: قال أبو عبد الله (عليه السلام) لحمران بن أعين في شئ سأله: " إنما يهلك الناس لأنهم لا يسألون ". * الشرح: (محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن حماد بن عيسى، عن حريز، عن زرارة ومحمد ابن مسلم وبريد العجلي) بضم الباء وفتح الراء. (قالوا: قال أبو عبد الله (عليه السلام) لحمران بن أعين في شئ سأله: إنما يهلك الناس) في الدنيا بالاحتباس في تيه الضلالة والتحير في أودية الجهالة، وفي الآخرة باستيهال العذاب واستحقاق العقاب، أو فيهما بموت نفوسهم من مرض الجهل. (لأنهم لا يسألون) معدن العلم النبوي ومخزن السر الإلهي ومن تبع أثره من العالم الرباني عما يحتاجون إليه في دينهم ودنياهم، وتوجيه حصر الهلاك بالمعنى الأول في عدم السؤال أن عدم السؤال لما كان مستتبعا للجهل المستلزم لجميع القبائح كان الهلاك بهذا المعنى منحصرا فيه مبالغة وبواقي الامور المهلكة تابعة له، وبالمعنى الثاني أن الجهل مرض مهلك ودواؤه منحصر في السؤال حقيقة كما عرفت ولا تظن أن نسبة الموت إلى النفوس مجاز وأن الموت حقيقة عبارة عن زوال اتصال الروح بالبدن على ما هو المتعارف عند الناس، لأن الأمر بالعكس عند العارفين (1)، إذ الحياة عندهم عبارة عن حياة النفس بالكمالات العلمية والعملية وهي الحياة الأبدية الباقية حال اتصال الروح بالبدن وحال افتراقه عنه، والموت عبارة عن كون النفس عارية عن تلك الكمالات مظلمة بظلمة الفقر والجهالات، سواء كان الروح متصلا بالبدن أو مفارقا عنه، وإنما يطلقون الحياة والموت على الاتصال والافتراق على سبيل المجاز دون الحقيقة، فالميت عندهم من مات قلبه وعرج عقله في طي منهج المعارف وإن كان حيا متحركا بالحياة الظاهرية.


1 - قد يكون المجاز اللغوي عن العارف حقيقة والحقيقة اللغوية مجازا بالتشبيه، فإن الحقيقة أصل والمجاز فرع عليه، مثلا الحيوان المفترس في اللغة أصل والرجل الشجاع فرع بالنسبة إلى لفظ الأسد والأصل أهم وأولى بإطلاق اللفظ. وأما عند العارف فموت النفس وحرمانه من الكمال أصل وهو أهم وأولى من موت البدن بأن ينزجر عنه ويخاف منه لا بمعنى أن إطلاق الموت على الثاني مجاز لغوي عند العرفاء وعلى الأول حقيقة عرفية. (ش) (*)

[ 107 ]

* الأصل: 3 - علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن جعفر بن محمد الأشعري، عن عبد الله بن ميمون القداح، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " إن هذا العلم عليه قفل ومفتاحه المسألة ". * الشرح: (علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن جعفر بن محمد الأشعري، عن عبد الله بن ميمون القداح، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن هذا العلم) الذي أنزله الله تعالى في صدر نبيه (صلى الله عليه وآله) وخزنه في صدور الطاهرين. (عليه قفل ومفتاحه المسألة) منهم والرجوع إليهم في تفسيره واستكشافه، لأنهم خزنة هذا العلم وعيبة هذا السر وسائر الناس مأمورون بالأخذ عنهم والتشبث بذيلهم وإظهار الافتقار إليهم، فمن طلبه من غيرهم فهو بمنزلة من توقع الإعانة من شخص عليل واكتسب الهداية من رجل ضليل، أو بمنزلة من فقد جوهرا في مكان وطلبه في مكان آخر، وفي الكلام استعارة مكنية وتخيلية بتشبيه العلم بالمال الخزون وإثبات القفل له والمفتاح ترشيح والسؤال تجريد، وفي جعل المفتاح مبتدأ والسؤال خبره دون العكس وجه لطيف، وهو أنه لما ذكر القفل أولا علم أن له مفتاحا ولم يعلم أنه السؤال. ومن المقرر في العربية أن المعلوم يجعل مبتدأ والمجهول خبره، وأنه لو انعكس الأمر لصار الكلام مقلوبا عن وجهه ومسوقا في غير منهجه. * الأصل: علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) مثله. * الشرح: ضعف سند هذه الرواية لا ينافي الجزم بصحة مضمونها، لأنه مؤيد بالعقل والنقل (1). * الأصل: 4 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى بن عبيد، عن يونس بن عبد الرحمن، عن أبي جعفر الأحول، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " لا يسع الناس حتى يسألوا ويتفقهوا ويعرفوا إمامهم


1 - وكذلك أكثر روايات هذه الأبواب، وإنما يطلب السند في المسائل الفرعية المخالفة للاصول والقواعد التي اختلف فيها أقوال العلماء، ولا حاجة إلى الاسناد في الاصول ولا في الفروع الموافقة للقواعد ولا في ما قام عليه الإجماع، وبذلك يندفع ما يتبادر إلى بعض الأوهام من أن أكثر أحاديث الكافي ضعيفة، والكتاب الذي نصفه ضعيف بل ثلثه بل عشره أيضا مما لا يعتمد عليه فكيف يعد من الكتب المعتبرة مثلا لو كان عشر لغات كتاب الصحاح والقاموس غلطا من المصنف لم يكن معتبرا وكذلك معجم البلدان والطبري وأمثال ذلك ؟ والجواب: أن الضعف بسبب الاسناد لا ينافي صحة المضامين. (ش) (*)

[ 108 ]

ويسعهم أن يأخذوا بما يقول وإن كان تقية ". * الشرح: (علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى بن عبيد، عن يونس بن عبد الرحمن، عن أبي جعفر الأحول) محمد بن علي بن النعمان الملقب بمؤمن الطاق، ثقة، والمخالفون يسمونه بشيطان الطاق، وكان كثير العلم، حسن الخاطر، حاضر الجواب. (عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لا يسع الناس) أن يأخذوا في الدين شيئا ويعتقدوه ويفعلوه ويتدينوا به أي لا يجوز لهم ذلك من وسعة المكان إذا لم يضق عنه، ومنه قولهم: لا يسعك أن تفعل كذا، أي لا يجوز، لأن الجائز موسع غير مضيق، فالناس مفعول والفاعل محذوف مقدر. (حتى يسألوا) العالم بالدين الحامل له بأمر الله تعالى أو حتى يتفحصوا ويسألوا طلبا للإمام المفترض الطاعة، وحتى غاية للنفي لا للمنفي. (ويتفقهوا) ليميزوا بين الحق والباطل. (ويعرفوا إمامهم) المراد به من يقتدى به في امور الدين والدنيا والمستحق للخلافة والمتقلد للرئاسة بأمر الله تعالى، ووجه ذلك أن الناس عقولهم ناقصة وقلوبهم متفرقة وآراؤهم متباينة ونفوسهم مائلة إلى الرئاسة والفساد وطبائعهم جالبة للشر والعناد فلا يجوز سؤالهم عن الدين ولا أخذ الفقه عنهم ولا الركون في المعارف إليهم لأن ذلك يوجب تهييج المذاهب والشرور وانتشار قول الزور وانقطاع الشرائع وفساد نظام العالم، فاقتضت المصلحة الإلهية وجود إمام مؤيد بتأييد الله وهاد مسدد بعصمة الله وناصح أمين لعباد الله هو يحفظ أساس الدين ويقوم عماد اليقين، إليه يرجع المتجاوزون عن حد الفضائل وبه يلحق الحائرون في تيه الرذائل، ومنه يأخذ الطالبون للفقه والمسائل. (ويسعهم) بعد ما عرفوه وتمسكوا بذيله واهتدوا بنوره. (أن يأخذوا) في الاعتقاديات والعمليات وغيرهما. (بما يقول وإن كان تقية) أي وإن وجدت في قوله تقية فكانت تامة أو وإن كانت أقواله تقية فكانت ناقصة، وذلك لأنه كما يكون لله تعالى على العباد حكم في نفس الأمر كذلك له عليهم حكم لدفع الضرر عنهم، والكل مشروع لمصالحهم فكما يجب عليهم الأخذ بالأول كذلك يجب عليهم الأخذ بالثاني لدفع الضرر، فالتقية أيضا دين يجب عليهم التدين به. * الأصل: 5 - علي، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول


[ 109 ]

الله (صلى الله عليه وآله): " اف لرجل لا يفرغ نفسه في كل جمعة لأمر دينه فيتعاهده ويسأل عن دينه ". وفي رواية اخرى: " لكل مسلم ". * الشرح: (علي، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): اف لرجل) في النهاية الأثيرية: الاف صوت يصوت به الإنسان حين التضجر. وفي الصحاح: يقال: افا له وافة أي قذرا له، والتنوين للتنكير، وافة وتفة، وقد أفف تأفيفا إذا قال: اف، قال تعالى: * (ولا تقل لهما اف) *، وفيه ست لغات حكاها الأخفش: أف، أف، أف، أف، أفا، أف، ويقال: افا له وتفا وهو اتباع له. وفي المغرب: أف تضجر، وقد أفف تأفيفا إذا قال ذلك، وأما أف يؤف تأفيفا فالصواب أفا. وقال عياض: الاف والتف وسخ الأظفار واستعملت فيما يستقذر، وفيها عشر لغات ضم الهمزة وفي الفاء الحركات الثلاثة منونة وغير منونة فهذه ستة، وضم الهمزة وسكون الفاء وكسر الهمزة وفتح الفاء وافا بالألف وافة بضم الهمزة فيهما، وقال محيي الدين: كلمة اف معناه الضجر وهو اسم فعل أتى بها اختصارا، ويستعمل للواحد والاثنين والجماعة بلفظ واحد، ومنه قوله تعالى: * (ولا تقل لهما أف) *، وفيها لغات كثيرة، وهي معرفة إن لم تنون ونكرة إن نونت، فمعنى المعرفة لا تقل لهما القول القبيح ومعنى النكرة لا تقل لهما قولا قبيحا، وهي تستعمل في كل ما يتضجر منه ويستقل وقيل: معناها الاحتقار اخذت من الافف وهو القليل. (لا يفرغ نفسه) إما من الفراغ، يقال: فرغ منه يفرغ فراغا، أو من التفريغ وتفريغ النفس بمعنى إخلائها فنفسه على الأول فاعل، وعلى الثاني مفعول يعني لا يفرغ نفسه من شواغل الدنيا وأسباب معيشتها وغيرها أو لا يخليها فارغة عنها. (في كل جمعة لأمر دينه) خص يوم الجمعة لأنه زمان العبادة (1)، وتحصيل الخيرات ولها فيه مزيد فضل وزيادة أجر، ولأنه محل اجتماع الناس فيمكن فيه تحصيل الدين والسؤال عن معالمه بسهولة من غير مشقة زائدة. (فيتعاهده ويسأل عن دينه). وفي رواية اخرى: (لكل مسلم) بدلا لرجل. في الصحاح: التعاهد والتعهد التحفظ بالشئ وتجديد العهد به، تقول: تعهدت ضيعتي وتعاهدتها. وفي المغرب: التعهد والتعاهد الاتيان، تقول: فلان تعهد الضيعة وتعاهدها إذا أتاها وأصلحها، وحقيقته جدد العهد بها، والضمير البارز في يتعاهده يعود إلى الجمعة باعتبار أنها في المعنى مذكر، أو إلى أمر الدين والتعاهد


1 - ويحتمل أن يكون المراد من الجمعة الاسبوع. (ش) (*)

[ 110 ]

هنا لأصل الفعل دون الاشتراك بين الاثنين، وفيه ترغيب في محافظة يوم الجمعة وحضوره والسؤال فيه من المسائل الدينية وإشعار بأن ترك ذلك مما يؤذي النبي (صلى الله عليه وآله) ويؤلمه. * الأصل: 6 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن الله عز وجل يقول: " تذاكر العلم بين عبادي مما تحيى عليه القلوب الميتة إذا هم انتهوا فيه إلى أمري ". * الشرح: (علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن الله عز وجل يقول: تذاكر العلم بين عبادي) التذاكر تفاعل من الذكر، يعني ذكر كل واحد منهم ما عنده من العلم للآخر وتكلمهم فيه لإظهار الحق لا للمجادلة والعلم شامل للاعتقاديات والعمليات والأخلاق جميعا. وفي بعض النسخ تذاكر العالم على صيغة الفاعل، أي ذكر العالم علومه بين العباد المستمعين لقوله: (مما تحيى عليه) أي به، وقد يجيئ " على " بمعنى الباء، كما مر، و " تحيى " إما مجرد معلوم أو مزيد مجهول من باب الأفعال، فعلى الأول قوله: (القلوب الميتة) فاعل، وعلى الثاني مفعول اقيم مقام الفاعل. ويحتمل أن يكون " على " في " عليه " بمعناها، ويكون الظرف حالا من " القلوب " أي حال كونها ثابتة مستقرة على العلم وتذاكره، ويجري على الفعل الاحتمالان المذكوران، إلا أن المزيد أيضا لازم، وتفصيل القول في ذلك: أن القلب في أوائل الفطرة وإن كان ذا حياة ظاهرية متعلقة بالبدن بها يتحرك البدن ويدخل في عالم الحيوان لكنه فاقد للحياة الغيبية الأبدية التي هي حياة في الحقيقة عند أهل العرفان وبها يستحق أن يطلق عليه اسم الإنسان، ويدخل في زمرة المقربين وينزل في منازل الروحانيين، وهذه الحياة الحقيقة الأبدية إنما تحصل له بتعلق روح العلم به وتذاكره، لأن العلم وتذاكره روح القلب وحياته ونوره الذي به يصير القلب نورا ربانيا حيا بعد ما كان جوهرا ظلمانيا ميتا. (إذا هم انتهوا فيه) أي في تذاكر العلم. (إلى أمري) جعل هذا من كلام رسول الله (صلى الله عليه وآله) والقول بأن معناه أن حياة قلوبهم بتذاكر العلم مشروطة برجوعهم في العلم إلي واقتباسهم مني، لأن العقول البشرية قاصرة عن درك المعارف والشرائع بدون توسط الرسول المؤيد بالوحي بعيد. والظاهر أنه من تتمة قول الله عز وجل، وهو يحتمل وجوها:


[ 111 ]

الأول: أن حصول حياة قلوبهم بذلك مشروط بانتهائهم فيه إلى الإتيان بالمأمور به من الفضائل والعبادات وترك المنهي عنه من الرذائل والمنهيات، وذلك لأن العلم بلا عمل ليس بعلم كما روي " العلم مقرون بالعمل " (1)، فلا يكون موجبا لحياة القلب. الثاني: أن حصولها مشروط بانتهائهم في العلم وتذاكره إلى أمري أي إلى من أمرتهم بالأخذ عنه، وهو النبي وأهل الذكر (عليهم السلام) كما قال سبحانه: * (فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) *. الثالث: أن حصولها مشروط بانتهائهم في ذلك إلى أمري أي إلى روحي الذي يكون مع النبي والأئمة (عليهم السلام) وستجئ الأحاديث الدالة على وجود الروح معهم. وقال سبحانه: * (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا) *، والمقصود منه الرجوع إليهم (عليهم السلام) فهذا يعود إلى الثاني. الرابع: أن حصولها مشروط بانتهائهم إلى أمر من اموري وصفاتي اللائقة بذاتي. الخامس: أن حصولها مشروط بانتهائهم إلى ما هو المطابق لنفس الأمر من الامور الكائنة فيها لا إلى خلافه، لأن الجهل المركب مرض قلبي يوجب موته لا حياته. * الأصل: 7 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن سنان، عن أبي الجارود قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: " رحم الله عبدا أحيا العلم "، قال: قلت: وما إحياؤه ؟ قال: " أن يذاكر به أهل الدين وأهل الورع ". * الشرح: (محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن سنان، عن أبي الجارود) اسمه زياد ابن المنذر الهمداني، تابعي، زيدي، وإليه تنسب الجارودية من الزيدية. (قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: رحم الله عبدا أحيا العلم، قال: قلت: وما إحياؤه ؟ قال: أن يذاكر به أهل الدين وأهل الورع) شبه تذاكر العلم بالإحياء في ترتب الآثار ثم اشتق من الإحياء الفعل فجاءت الاستعارة فيه بتبعية المصدر، ولما علم السائل أن ليس المراد بالإحياء هنا معناه الحقيقي المتعارف سأل بما عن معناه المراد ومفهومه المقصود هنا. ثم إن اريد بالمذاكر المحيي للعلم المتعلمون وبأهل الدين وأهل الورع العلماء الربانيون والحكماء الإلهيون فوجه تخصيصها بالذكر ظاهر لوجوب المذاكرة معهم والتعلم منهم والفرار عن غيرهم، لأن من ذاكر غيرهم كانت إمامتة العلم والضلالة أقرب منه من إحيائه والهداية، وإن اريد عكس ذلك فوجه تخصيصها هو التنبيه على أن مذاكرة العالم مع المتعلمين إنما يوجب إحياء العلم وحفظه عن الاندراس وحياة قلوبهم إذا


1 - سيأتي في باب استعمال العلم تحت رقم 2، عن الصادق (عليه السلام): " العلم مقرون بالعمل ". (*)

[ 112 ]

كانوا من أهل الدين وأهل الورع، وإلا فربما يفسدون العلم ويغيرونه من أصله فلا يتحقق في تذاكرهم إحياء العلم وحفظه، وربما لا تقبل قلوبهم القاسية الصور العلمية، لأن انتقاش الصور العلمية في مرآة القلب موقوف على صفائها وجلائها وخلوصها من الرين، ولذلك قال بعض العارفين: تحلية القلوب بالفضائل متأخرة عن تخليتها عن الرذائل، لأن مرآة القلب القاسي لا يصقل بمصقال العلم. وقال بعض المحققين: لا بد لطالب العلم من تقديم طهارة النفس عن رذائل الأخلاق وذمائم الأوصاف إذ العلم عبادة القلب وصلاته وكما لا تصح الصلاة التي هي وظيفة الجوارح الظاهرة إلا بتطهر الظاهر من الأحداث والأخباث كذلك لا تصح عبادة القلب وصلاته إلا بعد طهارته عن خبائث الأخلاق وأنجاس الأوصاف. وعلى هذا فمن كان قسي القلب معلنا بالفسق ولم يرد بالعلم وجه الله تعالى بل إنما أراد به الرياء والسمعة وجعله شبكة لاقتناص اللذات الدنية واقتباس المشتهيات الشنيعة وكان مأسورا (1) في أيدي القوى البهيمية ومقيدا بحب الجاه والمال وادخاره وجمعه وإكثاره فهو ليس من أهل العلم وتحمله وتذاكره وإحيائه. * الأصل: 8 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن عبد الله بن محمد الحجال، عن بعض أصحابه رفعه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " تذاكروا وتلاقوا وتحدثوا فإن الحديث جلاء للقلوب إن القلوب لترين كما يرين السيف وجلاؤها الحديث ". * الشرح: (محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن عبد الله بن محمد الحجال) ثقة ثقة ثبت من أصحاب الرضا (عليه السلام). (عن بعض أصحابه رفعه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): تذاكروا) أي تذاكروا العلم بينكم أو تذاكروا بعضكم بعضا بالخير. (وتلاقوا) إخوانكم بعضكم بعضا بالشفقة والتلطف. (وتحدثوا) بينكم يعني تكلموا بالحديث المرغب في أمر الآخرة والمنفر عن الدنيا. (فإن الحديث جلاء للقلوب) في الصحاح: جلوت السيف جلاء بالكسر أي صقلته. وفي المغرب: الجلاء بالفتح والقصر وبالكسر والمد الإثمد لأنه يجلو البصر. والأول أصح. وفي النهاية


1 - أي مأخوذا. (*)

[ 113 ]

الأثيرية: الجلاء بالكسر والمد الاثمد وقيل: هو بالفتح والمد والقصر ضرب من الكحل. إذا عرفت هذا فنقول: هذه الاحتمالات الثلاثة تجري في الجلاء هنا، والحمل على الأول لكونه مصدرا بمعنى الصقال يعني " روشن ساختن " على سبيل المبالغة والتجوز في الجلاء، وجعله بمعنى اسم الفاعل يعني الصاقل وعلى الأخيرين على التشبيه بحذف الأداة للمبالغة، وهذا الحكم وإن كان واضحا عند الكاملين لكن فيه نوع خفاء عند القاصرين، فلذلك أشار إلى بيانه على وجه التمثيل تشبيها للمعقول بالمحسوس لقصد زيادة الايضاح بقوله: (إن القلوب لترين) في الكنز: الرين والريون " زنگ گرفته شدن ". وفي الصحاح: الرين الطبع والدنس، يقال: ران على قلبه ذنبه يرين رينا وريونا، أي غلب. قال أبو عبيدة في قوله تعالى: * (بل ران على قلوبهم) * أي غلب. وقال الحسن: هو الذنب على الذنب حتى اسود القلب. وقال أبو عبيد: كلما غلبك فقد ران بك ورانك وران عليك. أقول: وله أسباب من خارج كاشتغال الجوارح بالذنوب أو بما يليق الإتيان به وإن لم يكن ذنبا فإن لذلك تأثيرا عظيما في كدرة القلب وظلمته لما بينه وبين الظاهر من المناسبة التي توجب جريان أحدهما في الآخر، وأسباب من داخل كارتماس القلب في مفاسد العقائد الباطلة وانغماسه في اجاج الرذائل القاتلة فإن ذلك يوجب انكسافه وانظلامه قطعا ثم يتدرج ذلك في القوة بحسب قوة تلك الأسباب إلى حد يصير القلب سوادا محضا لا يقبل الاصلاح بعده أبدا، كما تشاهد في كثير من الفاسقين والمنكرين للحق. (كما يرين السيف) بسبب من الأسباب الموجبة له، ومن جملة أسبابه عدم استعماله فيما هو الغرض منه. (وجلاؤها الحديث) الجملة في محل النصب على أنه صفة لمصدر محذوف أعني رينا، أو حال عن الفاعل والضمير راجع إلى القلب. وفي بعض النسخ (جلاؤه الحديد)، والضمير في هذه النسخ راجع إلى السيف، فكما أن الحديد يجلو السيف كذلك الحديث يجلو القلب ويصقله ويزيل عنه الأقذار والأخباث ويجعله صافيا خالصا من الرين، إذ الحديث لاشتماله على الحقائق والمعارف وأحوال المبدأ والمعاد وحقارة الدنيا وما فيها وعظمة الجنة ونعيمها ودوامها وكيفية حشر الخلائق وشدائد أحوالهم من مشاهدة أهوال القيامة وملاحظة سوء حال المذنبين ووخامة عذابهم ورداءة عاقبتهم يأخذ القلب المتفكر فيها عن أيدي الآمال الباطلة والمتمنيات الزائلة والأخلاق الفاسدة والذنوب القاتلة ويصرفها إلى جناب الحق وحضرته ويجعله منورا مجلوا طاهرا مطهرا من جميع الخبائث بحيث يصير مرآة الحق ويشاهد


[ 114 ]

في ذاته جماله وجلاله وكماله وصور الملك والملكوت. * الأصل: 9 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن فضالة بن أيوب، عن عمر بن أبان، عن منصور الصيقل، قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: " تذاكر العلم دراسة، والدراسة صلاة حسنة ". * الشرح: (عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن فضالة بن أيوب) الأزدي، الثقة. (عن عمر بن أبان) كوفي، ثقة. (عن منصور الصيقل، قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: تذاكر العلم دراسة) مصدر بمعنى القراءة. قال في الكنز: دراسة " علم خواندن وكتاب خواندن ". وقال ابن الأثير فيه: " تدارسوا القرآن " أي اقرؤوه وتعهدوه لئلا تنسوه يقال: درس يدرس درسا ودراسة، وأصل الدراسة الرياضة والتعهد للشئ، ولعل المقصود أن تذاكر العلم فيما بينكم مثل قراءته وأخذه من الاستاذ في الأجر أو المقصود أن تذاكره تعهد وتحفظ له وتجديد عهد به يوجب عدم نسيانه، لأن العلم صيد ومذاكرته قيد، وسر ذلك أن القلب لالفه بالمحسوسات بعيد عن المعقولات، فلا بد له من صارف يصرفه إليها وأفضل الصوارف هو المذاكرة. (والدراسة صلاة حسنة) حسنة صفة لصلاة لا خبر بعد خبر، إذ لا وجه لجعل الدراسة بمنزلة الصلاة على الإطلاق، وإن لم تكن حسنة مقبولة، وهذا الكلام يحتمل وجوها: الأول: أن فضل الدراسة على سائر الأعمال القلبية كفضل الصلاة المقبولة على سائر الأعمال البدنية. الثاني: أن الدراسة كالصلاة المقبولة في الأجر والتقرب منه تعالى أو في محو السيئات إن الصلوات يذهبن السيئات (1). الثالث: أن الدراسة صلاة مقبولة قلبية، إذ كما أن للجوارح صلاة كذلك للقلب صلاة هي المذاكرة.


1 - كذا. وفي المصحف: * (إن الحسنات يذهبن السيئات) *. (*)

[ 115 ]

باب بذل العلم باب بذل العلم * الأصل: 1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن إسماعيل بن بزيع، عن منصور بن حازم، عن طلحة بن زيد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " قرأت في كتاب علي (عليه السلام) إن الله لم يأخذ على الجهال عهدا بطلب العلم حتى أخذ على العلماء عهدا ببذل العلم للجهال، لأن العلم كان قبل الجهل ". * الشرح: (محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن إسماعيل بن بزيع، عن منصور بن حازم، عن طلحة بن زيد) عامي المذهب. ونقل عن الشيخ الطوسي أنه بتري. (عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قرأت في كتاب علي (عليه السلام) إن الله لم يأخذ على الجهال عهدا بطلب العلم) العهد الميثاق. وفي كنز اللغة: موثق وميثاق " پيمان ". (حتى أخذ على العلماء عهدا ببذل العلم للجهال) في بذل العلم منافع كثيرة: منها: التشبه بالأنبياء، لأنهم إنما بعثوا للتعليم. ومنها: الفوز بشرف الهداية والإرشاد. ومنها: الظفر بمرتبة الرئاسة الدينية والدنيوية التي هي الخلافة الكبرى. ومنها: إحياء النفس، وقد قال الله تعالى: * (ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا) * وفي منعه مضرة عظيمة ومفاسد كثيرة غير خفية على ذوي البصائر، ولذلك قال سيد الوصيين: " لا خير في علم لا ينفع " (1)، أي لا ينفع صاحبه غيره وقال (صلى الله عليه وآله): " من سئل عن علم ثم كتمه الجم يوم القيامة بلجام من نار " (2)، وهذا العهد إما وقع بمقتضى العقل وحكمه أو وقع في وقت الفطرة أو في وقت أخذ الميثاق من ذرية آدم بالربوبية له وبالنبوة لكل نبي وبالوصاية لعلي (عليه السلام)، ثم عهود الله تعالى متكثرة: منها عهد أخذه على جميع الخلائق بربوبيته، ومنها عهد أخذه على النبيين بأن يقيموا الدين ولا يتفرقوا فيه، ومنها عهد أخذه على العلماء بأن يبينوا على ذرية آدم بنبوة كل نبي سيما خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله)، ومنها عهد أخذه عليهم بخلافة سيد الوصيين. (لأن العلم كان قبل الجهل) تعليل


1 - النهج، في كتاب له (عليه السلام) إلى ابنه الحسن (عليه السلام)، تحت رقم 31. 2 - أخرجه الحاكم في المستدرك ج 1، ص 102. (*)

[ 116 ]

لتقدم أخذ العهد على العلماء (1) ببذل العلم على أخذ العهد على الجهال بطلبه. قيل: فيه إشكال لأن كل واحد من أفراد الناس في أول الخلقة جاهل ثم يكتسب العلم ويصير عالما أو لا يكتسبه فيبقى على جهله فكيف يكون العلم قبل الجهل ؟ أقول: لا دلالة فيه على أن العلم المتقدم والجهل المتأخر بالنسبة إلى محل واحد أو إلى شخص، بل إنما يدل على أن وجود حقيقة العلم قبل تحقق حقيقة الجهل (2) فيجوز أن يراد بالعلم المتقدم علم الواجب أو علم الروحانيين أو علم نبينا (صلى الله عليه وآله) وعلم الأئمة المعصومين (عليهم السلام) لأنهم أنوار إلهية ولم تكن علومهم مسبوقة بجهل أصلا، وقد ثبت أنهم كانوا معلمي الملائكة في علم التوحيد وصفات الحق. وهذا القدر كاف في التعليل، ولو فرض تحقق تلك الدلالة فقوله: كل واحد من أفراد الإنسان في أول الخلقة جاهل ممنوع، ولم يقم عليه برهان، وما اشتهر بينهم من أن النفس في أول الفطرة خالية عن العلوم كلها وقالوا: يظهر ذلك لذوي الحدس بملاحظة حال الطفل وتجارب أحواله فمدفوع بما ذكره ابن سينا من أن الطفل يتعلق بالثدي حال التولد بإلهام فطري، ولو قالوا: المراد بمبدأ الفطرة حال تعلق النفس بالبدن وهو سابق على تلك الحالة ورد عليهم: أنه كيف تحصل التجربة بخلو النفس عن العلم في حال تعلقها بالبدن على أنه لو تم فإنما يدل على خلوها عن العلم الحصولي دون الحضوري ؟ وقد صرحوا أيضا بذلك حيث قالوا: خلو النفس عن العلم بذاتها باطل، إذ المجرد لا يغفل عن


1 - الفيض يتخطى من الأشرف إلى الأخس، ووسائط فيض الحق تعالى أعاظم الوجود وأفاضلهم، فالتكليف والعهد يتوجه إلى العالم قبل أن يتوجه إلى الجاهل. (ش) 2 - العلم قبل الجهل في الجود كما أن الكامل قبل الناقص، والفعل مقدم على القوة، والصورة قبل الهيولى، والناس مختلفون في هذه القاعدة، فالماديون والملاحدة وأصحاب الحس قائلون بأن الجوهر الموجود المستقل بذاته هو الجسم المادي ليس قبله شئ ومنه ابتداء الأشياء وبسبب تركيب العناصر حدثت الصور، ومنه وجد الإنسان والعقل عارض حادث حال في الدماغ، وحاصل تركيب خاص ومزاج فيه. والإلهيون قائلون بخلاف ذلك وأن الجوهر المستقل الموجود أولا هو العقل والأجسام معلولة له ومتفرعة عليه، والهيولى - أعني المادة - متعلقة القوام بالصورة، والصورة متعلقة بموجود مجرد عاقل يقيم الصورة مع الهيولى والمظهر في خلقة الإنسان وتركيب أعضائه والمصالح التي روعيت فيها يدل دلالة واضحة على أن موجودها موجود عاقل مقدم على الدماغ، فكيف يكون العقل مطلقا فرعا على الدماغ ؟ وما هذا إلا دور صريح، فقوله (عليه السلام): " العلم قبل الجهل " قريب المفاد من قولهم: " أول ما خلق الله العقل ". وبالجملة الماديون قائلون بانحصار الوجود في قوس الصعود وتدرجه من الأخس إلى الأشرف، والإلهيون قائلون بقوس النزول والصعود معا وتدرج الوجود من الأشرف إلى الأخس ثم رجوعه من الأخس إلى الأشرف. (ش) (*)

[ 117 ]

ذاته ثم ظاهر القرآن مثل قوله تعالى: * (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم وذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى) *، وقوله تعالى: * (فطرة الله التي فطر الناس عليها) * وفسره الصادقون (عليهم السلام) بأنه فطرهم جميعا على التوحيد والمعرفة به، وظاهر الأحاديث مثل ما روي عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) ومضمونه: " أن الطفل في بطن الام يعرف عهده وميثاقه فإذا أكمل أجله بعث الله ملكا فزجره زجرة فيخرج قد نسي الميثاق " (1) يدل على أن العلم مقدم على الجهل وكلام الصادقين أولى بالاتباع من كلام غيرهم، وقد يجاب من أصل الإشكال بوجوه اخر: الأول: أن العلم كمال وخير والجهل نقصان وشر، والكمال والخير هو غاية كل شئ، فالعلم مقدم على الجهل تقدما بالغاية. الثاني: أن العلم أشرف من الجهل، فله تقدم بالشرف والرتبة لا تقدم بالزمان. الثالث: أن الجهل عدم العلم والأعدام إنما تعرف بملكاتها، فالجهل لا يعرف إلا بالعلم، والعلم يعرف بذاته لا بالجهل، فلا تقدم على الجهل بحسب الماهية. * الأصل: 2 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد البرقي، عن أبيه، عن عبد الله بن المغيرة ومحمد بن سنان، عن طلحة بن زيد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في هذه الآية: * (ولا تصعر خدك للناس) *، قال: " ليكن الناس عندك في العلم سواء ". * الشرح: (عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد البرقي، عن أبيه، عن عبد الله بن المغيرة) بضم الميم وكسر الغين المعجمة ثقة ثقة، لا يعدل به أحد في دينه وجلالته وورعه. قال الكشي: روي أنه كان واقفيا ثم رجع، وقال: إنه مما اجتمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنه وأقروا له بالفقه " صه ". (ومحمد بن سنان، عن طلحة بن زيد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في هذه الآية: * (ولا تصعر خدك للناس) *) في الصحاح: الصعر الميل في الخد خاصة، وقد صعر خده وصاعر أي أماله من الكبر. ومنه قوله تعالى: * (ولا تصعر خدك للناس) *. وفي المغرب: الصعر ميل في العنق وانقلاب في الوجه إلى أحد الشقين، ويقال: أصاب البعير صعر وصيد وهو داء يلوي منه عنقه ويقال للمتكبر: فيه صعر وصيد ومنه قوله تعالى: * (ولا تصعر خدك للناس) * أي لا تعرض عنهم تكبرا. وفي نهاية ابن الأثير: الصعار المتكبر، لأنه يميل بخده ويعرض عن الناس بوجهه. (قال: ليكن الناس عندك في العلم سواء) فيه دلالة على أن النهي عن الشئ أمر بضده والتسوية


1 - الفروع من الكافي - كتاب العقيقة (باب بدء خلق الإنسان) تحت رقم 3. (*)

[ 118 ]

بين المتعلمين في إفادة العلم والتكلم والنظر والنصيحة والبشاشة والتلطف مشعر بتواضع المعلم وحسن خلقه وخضوعه وكرم أصله وموجب لتآلفهم وتوددهم وعدم تحاسدهم وتباغضهم ونفاقهم وكسر قلب بعضهم ولو فرق بينهم والتفت إلى بعضهم دون بعض وأحن لم يكن ذلك استنكافا واستكبارا واستحقارا كان حاله شبيها بحال المتكبر، فكأنه مال عنه بوجهه متكبرا وذلك مذموم في نفسه مع ما فيه من المفاسد المذكورة، وتعميم الناس بحيث يشمل المتعلمين وغيرهم كما ذكره المفسرون وإن كان صحيحا لفظا ومعنى ولكن خصصه (عليه السلام) بالمتعلمين لعلمه إما بإلهام رباني أو بإعلام نبوي بأن مقصود لقمان كان ذلك. * الأصل: 3 - وبهذا الاسناد، عن أبيه، عن أحمد بن النضر، عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: " زكاة العلم أن تعلمه عباد الله ". * الشرح: (وبهذا الاسناد، عن أبيه، عن أحمد بن النضر) بالنون والضاد المعجمة كوفي ثقة. (عن عمرو بن شمر) كوفي ضعيف جدا. (عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: زكاة العلم أن تعلمه عباد الله) الزكاة في اللغة الزيادة والنماء، وقيل: الطهارة وفي العرف تطلق اسما ومصدرا، فهي اسما عبارة عن الجزء المخرج ومصدرا عبارة عن إخراج الجزء، والمناسبة بين المعنى اللغوي والعرفي متحققة، لأن المعنى العرفي وإن كان موجبا لنقص المال ظاهرا لكنه يعود إلى صلاحه وزيادته ونموه وطهارته وطهارة النفس المخرج بإزالة خباثتها وأوساخها، وهي هاهنا تحتمل كل واحد من هذه المعاني الثلاثة. وفي تسمية التعليم زكاة تنبيه على أنه حق لهم ينبغي لك إعطاؤه إياهم تاما، وعلى أنك مسؤول يوم القيامة عن ذلك كما يسأل صاحب المال عن أداء زكاته، وعلى أنك مأجور فيه كما يؤجر المزكي، وعلى أنه يوجب زيادته ونموه كما يوجب زكاة المال ذلك، بل الزيادة في العلم أظهر، لأنه مع عدم زواله عن محله يوجب حصول ملكة راسخة معدة لحصول علوم غير محصورة، وينبغي أن يعلم أن زكاة العلم أشرف ذاتا وأكثر نفعا من زكاة المال، لأن زكاة المال وسيلة إلى رعاية حال الفقراء في الحياة الدنيوية الفانية وزكاة العلم وسيلة إلى رعاية حال عباد الله في الحياة الاخروية الباقية، فالفضل بينهما كفضل الآخرة على الدنيا. * الأصل: 4 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى بن عبيد، عن يونس بن عبد الرحمن، عمن ذكره، عن


[ 119 ]

أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " قام عيسى بن مريم (عليه السلام) خطيبا في بني إسرائيل فقال: يا بني إسرائيل، لا تحدثوا الجهال بالحكمة فتظلموها، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم ". * الشرح: (علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى بن عبيد، عن يونس بن عبد الرحمن، عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قام عيسى بن مريم (عليه السلام) خطيبا في بني إسرائيل فقال: يا بني إسرائيل، لا تحدثوا الجهال بالحكمة فتظلموها) الظلم وضع الشئ في غير موضعه، والحكمة هي العلم بالمعارف والشرائع وتعليقها على أعناق الجهال وهم الذين يستنكفون منها (1) أو يفقدون قوة الاستعداد لإدراكها أو يضيعونها ويجعلونها وسيلة لنيل الشهوات النفسانية أو يستحقرون معلمها أو يؤذونه كان كتعليق الجوهر الثمين على أعناق الخنازير، بل أقبح منه عند أرباب البصائر الثاقبة، وهو ظلم على الحكمة، وعليه يحمل قوله (صلى الله عليه وآله): " لا تعلقوا الجواهر في أعناق الخنازير " (2)، والنهي عن كتمانها والوعيد عليه محمول على النهي عنه عن أهلها، كيف وقد كتمها النبي (صلى الله عليه وآله) في أول البعثة عن كفرة قريش، وفي تبليغ ولاية علي بن أبي طالب (عليه السلام) ؟ كما يرشد إليه قوله (عليه السلام): " ها إن هاهنا لعلما جما - وإشار بيده إلى صدره - لو أصبت له حملة " ؟ ! بلى أصبت لقنا غير مأمون عليه مستعملا آلة الدين للدنيا ومستظهرا بنعم الله على عباده وبحججه على أوليائه أو متقلدا لحملة الحق لا بصيرة له في أحنائه ينقدح الشك في قلبه لأول عارض من شبهة ألا لا ذا ولا ذاك أو منهوما باللذة سلس القياد للشهوة أو مغرما بالجمع والادخار ليسا من رعاة الدين في شئ أقرب شئ شبها بهما الأنعام


1 - فإن قيل: أليس وظيفة العلماء تعليم الجهال فكيف منعوا منه ؟ قلنا: ليس جميع ما يتعلق بالدين مما يجب أن يعرفه كل الناس، بل فيه ما لا تصل إليه عقول أكثرهم وليس ما يتبادر إلى أذهان بعضهم من أن ما لا يفهمه العامة فهو باطل، أو ليس من الدين صحيحا ؟ وحينئذ فالواجب على العلماء أن يكلموا الناس على قدر عقولهم، فمن وجده العالم أهلا لفهم الغوامض علمه إياها، وإلا فلا، مثلا تقرير شبهة الأكل والمأكول الجواب عنها والفرق بين الحادث الزماني والذاتي ومعنى إعادة المعدوم وأنه ممكن أو محال وتفسير الفناء في الله والبقاء به لا يناسب البدوي والقروي، ويجب الامساك عنه وعن أمثاله، ورأيت من بعض الناس ما يقضي منه العجب ولا يصدق به. قال: إن العلامة الحلي (رحمه الله) في شرح التجريد أنكر المعاد، فقلت: كيف يمكن ذلك وهو أعلم علماء الإسلام وما عرفنا هذا الدين إلا ببركته وبركة أمثاله ؟ قال: قد صرح بذلك وجاء بالكتاب وأراني قوله في استحالة إعادة المعدوم، فعلمت وجه خطئه وفي ذهن العوام لوازم وملزومات واصول مسلمة لا تخطر ببال العلماء ينصرف ذهنهم من اللفظ إلى امور لا دلالة لها عليه ويجب الاجتناب عن أمثال تلك الامور. (ش) 2 - رواه ابن النجار من حديث أنس كما في الجامع الصغير وكنوز الحقائق للمناوي هكذا: " لا تطرحوا الدر في أفواه الخنازير ". (*)

[ 120 ]

السائمة كذلك يموت العلم بموت حامله (1). إذا تأملت بمضمون هذا الكلام علمت أكثر الناس حري بكتمان الحكمة عنه، وكذلك كتمها جميع الأئمة والأنبياء (عليهم السلام) كما يظهر لمن تفكر في آثارهم ثم بناء التقية على الكتمان والتقية دين الله أمر بها عباده. وقال بعض الأكابر ونعم ما قال: صدور الأبرار قبور الأسرار. (ولا تمنعوها أهلها) وهم الطالبون لها، المستعدون لإدراكها، والجاعلون لها وسيلة لإدراك السعادة الدنيوية والاخروية (2) فتظلموهم، لأن تعليمها من حقوقهم ومن منع أحدا حقه فقد ظلمه، وينبغي أن يعلم أن العقول متفاوتة تفاوتا فاحشا في الضياء واستعداد العلوم وقبولها فبعضها لا يكون له نور واستعداد للعلوم أصلا، وبعضها له استعداد لبعض العلوم دون بعض، وبعضها له استعداد إلى حد لا إلى ما فوقه من اللطائف والدقائق (3)، وبعضها له استعداد لجميع العلوم وما فيه من الدقة والغموض والمعلم الحكيم ينبغي أن يراعي حال العقول وتفاوت مراتبها ويمنع العلم من يستحق المنع ويعلمه من يستحق التعليم ويضع كل عقل في موضعه ولا يتجاوز عنه لئلا يورده في مورد الهلكة، فإن من حمل أربعين منا على بعير لا يقدر إلا على حمل عشرين منا فقد أهلكه ومن بدل الشعير بالحنطة في الفرس فقد ضيعه يدل على ما ذكرنا قوله (صلى الله عليه وآله): " ما من أحد يحدث قوما بحديث لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة على بعضهم (4)، وقوله: " نحن معاشر الأنبياء نكلم الناس على قدر عقولهم " (5).


1 - النهج - الحكم والمواعظ، تحت رقم 147. 2 - في زماننا بل في كل زمان اناس ناقصوا الإدراك يزعمون أن كل شئ لا يفهمه أمثالهم فهو أباطيل وأوهام ملفقة وخيالات مزخرفة، والحقيقة هي ما يفهمه جميع الناس مما ينحصر في منال الحواس وأن عالم الملكوت وهم وولاية الأئمة (عليهم السلام) غلو وتهذيب النفس حتى يصل إلى مقام القرب مزلة والحديث صريح في ردهم وأن في الحقيقة امورا لا يدركها أكثر الناس ولا يجوز منع الأقل لإنكار الأكثر. (ش) 3 - تراهم ينكرون المعارف ولا يستدلون على إنكارهم إلا بأنهم لا يفهمونه وللدجالين منهم حيلة عجيبة يركبون ألفاظا شبيهة بألفاظ العرفاء وكلمات مشابهة لعبارات الحكماء من غير أن يكون لها معنى وأنت إذا فتشت كتب السيد الرشتي وأمثاله كشرح حديث عمران الصابي والخطبة التتنجية لم تجد فيها سوى ألفاظ كما ذكرنا، وإن قيل لهم: هذه مما لا يفهمه أحد تمثلوا بكلمات العرفاء. والجواب: أن كلامكم لا معنى له وكلامهم له معنى خفي على بعض ومثلهم كعربي فصيح يتكلم بعربية صحيحة لا يفهمها العجم ومثلكم كرجل مستهزئ يلفق ألفاظا شبيهة بكلمات العرب لا يفهمها العرب ولا العجم. (ش) 4 - أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه ص 9، بأدنى اختلاف في لفظه. 5 - رواه الكليني في كتاب العقل، وفيه: " إنا معاشر الأنبياء... " الحديث. (*)

[ 121 ]

باب النهي عن القول بغير علم باب النهي عن القول بغير علم * الأصل: 1 - محمد بن يحيى، عن أحمد وعبد الله ابني محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن سيف بن عميرة، عن مفضل بن يزيد (1)، قال: قال [ لي ] أبو عبد الله (عليه السلام): " أنهاك عن خصلتين فيهما هلاك الرجال: أنهاك أن تدين الله بالباطل، وتفتي الناس بما لا تعلم ". * الشرح: (محمد بن يحيى، عن أحمد وعبد الله ابني محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن سيف بن عميرة، عن مفضل بن يزيد (2)، قال: قال [ لي ] أبو عبد الله (عليه السلام): " أنهاك عن خصلتين فيهما هلاك الرجال: أنهاك أن تدين الله بالباطل) أي أن تتخذ دينا باطلا بينك وبينه تعالى تعبده به وتعتقد اعتقادا باطلا في أحوال المبدأ والمعاد أو الرسالة أو الإمامة أو الأحكام الشرعية، مثل الاعتقاد بأن الله تعالى مكانا أو كيفية أو ولدا أو شريكا أو صورة أو جسما أو مقدارا أو نحو ذلك مما لا يليق بجنابه، أو الاعتقاد بأنه لا سؤال في القبر أو لا حشر للأجساد أو لا عذاب على المشركين إلى غير ذلك، أو الاعتقاد بأن الرسول أو الإمام ليس بمعصوم وأن الخطأ يجوز لهما وأن الإمامة ليست بالنص وأنها مفوضة إلى تعيين البشر أو الاعتقاد بأن الأحكام التي أوجبها الشارع ليست بواجبة أو الامور التي نهى عنها ليست حرام. (وتفتي الناس بما لا تعلم) تأخذه من مأخذه الذي أوجب الله تعالى ورسوله الأخذ منه، والمفاسد الدنيوية والاخروية الموجبة للهلاك الأبدي في الافتاء بغير علم كثيرة وهو تارة يصدر عن ملكة الكذب، وتارة عن الجهل المركب وكلاهما من أكبر الرذائل وأعظم المهلكات في الآخرة، لكونهما من أعظم الأمراض القلبية الموجبة لفوات الحياة الأبدية والاستحقاق بأفظع العقوبات الاخروية ثم الرجال الهالكون هم الذين عدلوا عما نطق به الكتاب والسنة والنبي والإمام (عليهما السلام) وأخذوا اصول العقائد وفروعها من غير مأخذها فضلوا عن دين الحق ولم يهتدوا إليه وجعلوا لأنفسهم دينا باطلا وجمعوا شيئا من الرطب واليابس والحق والباطل ونسجوها كنسج العناكب وجعلوها شبكة لذباب العقول الناقصة وجلسوا حاكمين بين الناس ضامنين لتخليص الملتبسات وتنقيح المشتبهات فإذا وردت عليهم الدعاوي يبتدرون إليها بالفتاوي ويحكمون فيها بمقتضى


1 - كذا. (*)

[ 122 ]

عقولهم الناقصة ويفتون بحكم آرائهم الباطلة ولا يمسكون عن طريق الغواية ولا ينظرون إلى سبيل يتوقع منه الهداية ولا يعلمون أن كف النفس عند حيرة الضلال خير لهم من الاقتحام في الأهوال، فهم من الأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. * الأصل: 2 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى بن عبيد، عن يونس بن عبد الرحمن، عن عبد الرحمن ابن الحجاج قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): " إياك وخصلتين ففيهما هلك من هلك: إياك أن تفتي الناس برأيك، أو تدين بما لا تعلم ". * الشرح: (علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى بن عبيد، عن يونس بن عبد الرحمن، عن عبد الرحمن بن الحجاج) يرمى بالكيسانية (1)، ورجع إلى الحق، وكان ثقة ثقة ثبتا وجها. (قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): إياك وخصلتين) التركيب مثل إياك والأسد، فإياك منصوب بفعل مقدر أي بعد نفسك عن كل واحدة من خصلتين فحذف لضيق المقام أو لغرض آخر وابدل المفعول بالضمير المنفصل، وفيه تحذير له عنها، لأنها مهلكة. (ففيهما هلك من هلك) تقديم الظرف لقصد الحصر مبالغة أو ليقرب الضمير من المرجع و " في " يحتمل الظرفية والسببية. (إياك أن تفتي الناس برأيك) التركيب مثل إياك أن تحذف بتقدير من أن تحذف، وفيه تحذير للمخاطب وتبعيد له من إفتاء الناس بالقياس أو بحسب ظنه وتخمينه من غير أن يأخذ ذلك من الكتاب والسنة أو يسمعه من النبي والوصي أو ممن سمع منهما من الثقات ولو بواسطة، ووجه التحذير منه ظاهر لأن المفتي المخبر عن حكم الله تعالى وجب أن يكون آخذا له مما ذكر ومحترزا عن الإفتاء بالرأي غاية الاحتراز لأنه مهلك موجب للدخول في النار. (أو تدين بما لا تعلم) أي إياك أن تعبد الله بما لا تعلمه وتتخذ دينا بغير علم (2) مستند إلى ما ذكر فتخرج من دين الحق فتهلك، لأن دين الحق عبارة عن مجموع القوانين التي وضعها النبي (صلى الله عليه وآله)


1 - قال الفيروزآبادي: كيسان لقب المختار بن أبي عبيدة المنسوب إليه الكيسانية. انتهى. وقيل: المختار هو الذي دعا الناس إلى محمد بن علي بن أبي طالب ابن الحنيفة وسموا الكيسانية. 2 - فإن قيل: مذهب فقهائكم أن المسائل الفرعية ظنية، لأنها مأخوذة من أدلة ظنية الدلالة أو السند، وهو من التدين بما لا يعلم ! قلنا: الظن الذي قامت على حجيته الأدلة القطعية هو علم يشمله التدين بالعلم. (ش) (*)

[ 123 ]

لإصلاح الخلق بعلم إلهي وأمر رباني وله حدود كحدود الدار ولا يعلم ذلك إلا بتعليمه أو تعليم من يقوم مقامه، فمن اتخذ دينا واعتقده وعبد ربه به ولم يكن له علم مستند إليهم فهو خارج عن دين الحق مبتدع لدين آخر والمبتدع هالك. * الأصل: 3 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن علي بن رئاب، عن أبي عبيدة الحذاء، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: " من أفتى الناس بغير علم ولا هدى لعنته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ولحقه وزر من عمل بفتياه ". * الشرح: (محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن علي بن رئاب) ثقة جليل القدر، له أصل كبير (1)، كذا ذكره أصحاب الرجال واختلفوا في أنه روى عن المعصوم بلا واسطة أم لا، فذهب الحسن بن داود في ترجمته إلى الثاني، وذهب الشيخ في كتاب الرجال والنجاشي إلى الأول وقالا: إنه روى عن أبي عبد الله (عليه السلام) وسكت العلامة في الخلاصة والشيخ في الفهرست عن النفي والإثبات. (عن أبي عبيدة الحذاء، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: من أفتى الناس بغير علم) بالقوانين الشرعية من مأخذه. (ولا هدى) الهدى - بضم الهاء - الرشاد والدلالة يعني " راه رفتن وراه نمودن "، كما مرت الإشارة إليه، فذكره بعد العلم من قبيل ذكر السبب بعد المسبب لتوقف حصول العلم عليه ويجوز أن يراد به البصيرة الكاملة (2) التي لا تحصل إلا بعد ملكة العلم بالقوانين فيكون فيه إشارة إلى أنه لا بد في الإفتاء من أن يكون العلم بالقوانين ملكة يقتدر بها المفتي على إدراك جزئياته بسهولة. (لعنته ملائكة الرحمة) لبعده عن الرحمة الأزلية وملائكة الرحمة هم الموكلون على حسنات العباد، أو الكاتبون لها، أو الحافظون لها، أو المستغفرون لسيئاتهم، أو الدافعون عنهم صولة الشياطين، أو المدبرون لنفوسهم القابلة للارتقاء إلى المقامات العالية، أو الموكلون على أبواب الجنان


1 - بعض كتب الرواة تسمى أصلا ولفظه يدل على كون تلك الكتب في الاعتبار فوق سائر الكتب مما لا يسمى أصلا، وقد ميز بينهما الشيخ في الفهرست، وما صرح بكونه أصلا لا يجاوز ثمانين، ولكن ابن شهرآشوب في معالم العلماء ذكر أن الاصول أربعمائة، ولعلهم لم يكونوا متفقين فيعد بعضهم كتابا أصلا ولا يعده غيره. (ش) 2 - ذكرنا سابقا أن جميع ألفاظ الحرف والصنائع تدل على صاحب الملكة فيها فلا يطلق النجار إلا على من له ملكة العمل والصنع لا على من جمع الدروب والسرر (*)

[ 124 ]

الذين يقولون لأهلها: * (طبتم فادخلوها خالدين) *، أو الناقلون لرحمته سبحانه وإحسانه إلى عباده. (وملائكة العذاب) لاستحقاقه إياه وهم الموكلون على تعذيب العصاة وتأديب الغواة وتخريب البلاد وسوق الفسقة إلى الجحيم يوم التناد. (ولحقه وزر من عمل بفتياه) في أيام حياته وبعد موته إلى يوم القيامة لإضلاله إياه. وفي الصحاح: استفتيت الفقيه في مسألة والاسم الفتيا والفتوى وتفاتوا إلى الفقيه إذا ارتفعوا إليه في الفتوى. وفي المغرب: الفتى من الناس الشاب القوي الحدث، واشتقاق الفتوى من الفتى، لأنها جواب في حادثة أو إحداث حكم أو تقويته لبيان مشكل. * الأصل: 4 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن الحسن بن علي الوشاء، عن أبان الأحمر، عن زياد بن أبي رجاء، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: " ما علمتم فقولوا، وما لم تعلموا فقولوا: الله أعلم، إن الرجل لينتزع الآية من القرآن يخر فيها أبعد ما بين السماء والأرض ". * الشرح: (عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن الحسن بن علي الوشاء، عن أبان الأحمر) هو أبان بن عثمان الأحمر نقل الكشي أنه كان ناووسيا، وقال: أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنه. وقال العلامة: الأقرب عندي قبول روايته للإجماع المذكور وإن كان فاسد المذهب. (عن زياد بن أبي رجاء) كوفي ثقة صحيح، واسم أبي رجاء منذر. (عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: ما علمتم) من الدين، والخطاب للعلماء الذين حصل لهم علم بكثير من المسائل بالفعل، أو كانت لهم ملكة الاقتدار على استنباطها بالقوة القريبة، إذ ليس للجاهل أن يقول: الله أعلم كما يدل عليه الخبران الآتيان. (فقولوا) بعد السؤال، والأمر للاباحة أو للندب أو للوجوب، لأن إظهار العلم قد يكون واجبا. (وما لم تعلموا فقولوا: الله أعلم) هذا الأمر للاباحة أو للندب دون الوجوب، لأن الواجب مع عدم العلم هو السكوت عن الحكم دون هذا القول إلا أن هذا القول راجح في الجملة، إذ السكوت قد يكسر قلب السائل باعتبار أنه قد يتوهم استنكاف المسؤول من الخطاب معه، ولما كان المقصود من هذا الكلام هو النهي عن الحكم على تقدير عدم العلم به أشار إلى مفسدة الحكم وسوء عاقبته على هذا التقدير ترغيبا في الكف عنه بقوله: (إن الرجل لينتزع الآية من القرآن) أي ليقتلعها من انتزعت الشئ فانتزع أي اقتلعه فاقتلع،


[ 125 ]

والمقصود أن الرجل ليأخذ الآية من القرآن ويستخرجها منه ليستدل بها على مقصوده أو ليفسر معناها. (يخر فيها أبعد ما بين السماء والأرض) هذه الجملة حال عن فاعل ينتزع أو خبر بعد خبر، وللأصحاب هنا اختلاف فقرأ بعضهم يخر فيها بالخاء المعجمة والراء المشددة من خر يخر بالضم والكسر إذا سقط من علو يعني يسقط ذلك الرجل في انتزاع الآية وحملها على ما فهمه برأيه من علو إلى سفل بعد ما بينهما أبعد مما بين السماء والأرض، وفيه تشبيه المعقول بالمحسوس لقصد الايضاح وقرأ بعضهم: يخترقها من الاختراق بالخاء المعجمة والتاء المثناة الفوقانية والراء المهملة والقاف بمعنى قطع الأرض والذهاب فيها على غير الطريق. وفي المغرب: خرق المفازة قطعها حتى بلغ أقصاها، واخترقها مر فيها عرضا على غير طريق، يعني أن ذلك الرجل يخترق الآية ويعدل عن المقصود منها إلى غيره بحيث يكون المسافة بينهما أكثر من المسافة بين السماء والأرض، وقرأ بعضهم " يحرفها " بالحاء المهملة والراء المشددة والفاء من التحريف، وهذا أيضا صحيح، وقال بعض المحققين: إنه تحريف فليتأمل، وفي هذا الحديث دلالة على أنه لا بد من إظهار العلم وكف اللسان عن التكلم بما لا يعلم وعدم جواز تفسير القرآن بالرأي والحديث مثله (1). * الأصل: 5 - محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن حماد بن عيسى، عن ربعي بن عبد الله، عن محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " للعالم إذا سئل عن شئ وهو لا يعلمه أن يقول: الله أعلم، وليس لغير العالم أن يقول ذلك ". * الشرح: (محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن حماد بن عيسى، عن ربعي بن عبد الله، عن محمد ابن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: للعالم إذا سئل عن شئ وهو لا يعلمه أن يقول: الله أعلم، وليس لغير العالم أن يقول ذلك) لأن " الله أعلم " يفيد ثبوت أصل العلم وطبيعته للقائل، فالقائل إن


1 - تفسير القرآن بالرأي غير جائز نهى عنه متواترا، والكلام فيه يطول ليس هنا موضع إيراده، والمراد من التفسير كشف المبهم ورفع القناع، وأما الآيات الظاهرة بنفسها أو بقرائن عقلية أو عادية وعرفية. فلا يقال لتفسيرها أنه تفسير بالرأي. والجملة ما لا يفهم من القرآن بغير النقل وجب الرجوع فيها إلى النقل، وما يفهم منه بغير النقل فظاهر الكلام مع القرائن حجة، وما لا يفهم من ظاهر اللفظ شئ يجب التوقف فيه أو الرجوع إلى الخبر المتواتر عن أهل العصمة (عليهم السلام). (ش) (*)

[ 126 ]

كان عالما فهو صادق، وإن كان جاهلا فهو كاذب محيل. فإن قلت: الجاهل أيضا لا يخلو عن أصل العلم وطبيعته إذ ما من أحد إلا وهو عالم بشئ ما. قلت: المراد بالعلم العلم بالمعارف الإلهية والأحكام النبوية وبالعالم من حصل له علم بكثير منها لا مطلق العلم الشامل للعلم بشئ ما أيضا. وتفصيل المقام: أن من سئل عن شئ اما عالم أو جاهل في زي العالم فظن السائل أنه عالم والعالم إما عالم بذلك الشئ بالفعل أو لا، فإن كان عالما وعلم ذلك الشئ فله أن يجيب بمقتضى علمه وإن كان عالما ولا يعلم ذلك الشئ بالفعل فليس له أن يجيب، وله أن يقول: " الله أعلم " وإن كان جاهلا فليس له أن يجيب ولا أن يقول: " الله أعلم " وله أن يقول: " لا أدري " كما يجئ في الخبر الآتي. * الأصل: 6 - علي بن إبراهيم، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن حماد بن عيسى، عن حريز بن عبد الله، عن محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " إذا سئل الرجل منكم عما لا يعلم فليقل: لا أدري، ولا يقل: الله أعلم فيوقع في قلب صاحبه شكا، وإذا قال المسؤول: لا أدري فلا يتهمه السائل ". * الشرح: (علي بن إبراهيم، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن حماد بن عيسى، عن حريز بن عبد الله، عن محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا سئل الرجل منكم عما لا يعلم فليقل: لا أدري، ولا يقل: الله أعلم فيوقع في قلب صاحبه شكا، وإذا قال المسؤول: لا أدري فلا يتهمه السائل) يحتمل أن يراد بالرجل المسؤول الرجل الجاهل بالمعارف اليقينية والأحكام الدينية، لأن الرجل غير مقيد بالعلم، والأصل عدمه كما في أكثر أفراد البشر، ولأنه الذي ليس له أن يقول: الله أعلم كما سبق إذ لو قال ذلك لأوقع في قلب السائل شكا في أنه عالم بناء على أن " أعلم " اسم التفضيل ولا بد له من مفضل عليه يوجد فيه أصل الفعل وهو هاهنا مقدر، والتقدير الله أعلم مني أو أعلم من كل عالم. والأول صريح في ثبوت الفعل للمسؤول، والثاني يشمله على العموم فيشك السائل في ثبوته له ويتهمه بأنه عالم لم يجبه لغرض ما، وإذا قال: لا أدري لا يتهمه السائل، لأن هذا القول لا يدل على ثبوت العلم له أصلا. ويحتمل أن يراد به الجاهل والعالم جميعا. ويؤيده أن مثل محمد بن مسلم داخل في الخطاب المذكور على الظاهر وحينئذ شك السائل في علم الجاهل واتهامه كما عرفت، وفي علم العالم الغير العالم بالمسؤول عنه أيضا باعتبار أن الله أعلم يشعر في الجملة بأن له علما بالمسؤول عنه إلا أنه أعرض عن الجواب لغرض من الأغراض فيتوهم فيه ذلك بخلاف لا أدري فإنه صريح في أنه ليس له علم به، وعلى هذا الاحتمال ينبغي أن يكون النهي


[ 127 ]

بالنسبة إليه محمولا على الكراهة والأمر في الخبر السابق محمولا على الجواز لترتفع المنافاة بينهما. * الأصل: 7 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن علي بن أسباط، عن جعفر بن سماعة، عن غير واحد، عن أبان، عن زرارة بن أعين، قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) ما حق الله على العباد ؟ قال: " أن يقولوا ما يعلمون، ويقفوا عند ما لا يعلمون ". * الشرح: (الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن علي بن أسباط، عن جعفر بن سماعة) ثقة في الحديث، واقفي " صه ". (عن غير واحد، عن أبان) وهو مشترك بين ثقتين ابن عثمان وابن تغلب. (عن زرارة بن أعين، قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) ما حق الله على العباد ؟) وهو الذي يطالبهم به ووجب عليهم أداؤه والخروج عن عهدته. (قال: أن يقولوا ما يعلمون، ويقفوا عند ما لا يعلمون) خص هذا الحق من بين حقوق الله تعالى بالذكر، لأن الغرض من السؤال طلب ما هو أحرى وأجدر بإطلاق اسم الحق عليه من بين حقوق الله تعالى على العباد فأجاب (عليه السلام) بأن الحري بذلك الاسم والحقيق به هو القول بما يعلم والسكوت عما لا يعلم لأنه أجلها وأعظمها، وذلك لأن دين الحق الذي هو منهج العباد للوصول إلى قرب جنابه إنما يستقيم بنشر العلم وضبط النفس عن الكذب فيه، ولأن هذا حق مستلزم لأكثر الحقوق، إذ حصوله متوقف على صفاء النفس عن الرذائل وتحليها بالفضائل واستقرار القوى الفكرية والغضبية والشهوية في الأوساط وعدم انحرافها وميلها إلى جانبي التفريط والافراط ولأن في تكلم اللسان بالحق والاجتناب عن الكذب نظام الدين والدنيا. ألا ترى أن رئيس الكذابين الشيطان اللعين كيف أفسد نظام آدم وصاحبته وذريتهما بكذب واحد حين قال: * (ما نهيكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين) * ولأن هذا الحق متعلق باستقامة اللسان، وهي من أهم المطالب، إذ آفات اللسان ومعاصيه كثيرة، فإنه ما من موجود ومعدوم وخالق ومخلوق ومعلوم وموهوم إلا ويتناوله اللسان بنفي أو إثبات، وهذه الحالة لا توجد في بقية الأعضاء، لأن العين لا تصل إلى غير الأضواء والألوان والاذن لا تصل إلى غير الأصوات وقس عليها البواقي. وأما اللسان فميدانه واسع جدا، وله في كل من الخير والشر مجال عريض، فلذلك حق المتعلق به أعظم الحقوق وأجلها. وقد يقال: وجه التخصيص أن المراد بالعباد هنا العلماء من أهل الكتب


[ 128 ]

والفتاوي بقرينة حالية أو مقالية تحققت عند السؤال فلذلك اجيب بأخص صفاتهم، وفيه نظر: أما أولا فلأن تخصيص العباد بالعلماء غير ظاهر. وأما ثانيا فلأن حقوق الله على العلماء أيضا كثيرة فما وجه تخصيص هذا الحق بالذكر ؟ وأما ثالثا فلأن الوقوف عندما لا يعلمون من حق الله على الجهال أيضا فليس الجواب بأخص صفات العلماء. * الأصل: 8 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن يونس [ بن عبد الرحمن ] عن أبي يعقوب إسحاق بن عبد الله، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " إن الله خص عباده بآيتين من كتابه أن لا يقولوا حتى يعلموا، ولا يردوا ما لم يعلموا، وقال عز وجل: * (ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق) *، وقال: * (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله) * ". * الشرح: (علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن يونس، عن أبي يعقوب إسحاق بن عبد الله) هو إسحاق بن عبد الله بن سعيد بن مالك الأشعري القمي، ثقة. (عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله خص عباده بآيتين من كتابه) خص بالخاء المعجمة والصاد المهملة أو بالحاء المهملة والضاد المعجمة بمعنى حث، والمراد بالعباد جميعهم. ويحتمل أن يراد بهم العلماء العارفون بالكتاب والسنة والمستعدون لكسب الأحكام منهما استعدادا قريبا بقرينة الاضافة المفيدة للاختصاص وآيتين بالياء المثناة التحتانية ثم بالتاء المثناة الفوقانية. (أن لا يقولوا) على الله في أمر من امور الدين. (حتى يعلموا) ذلك على اليقين. (ولا يردوا ما لم يعلموا) أي لا يجعلوا ما لم يعلموه مردودا باطلا لاحتمال أن يكون حقا فيكون رده ردا على الله سبحانه، فوجب عليهم أن لا يقولوا شيئا إلا بعد العلم بأنه حق ولا يردوا شيئا إلا بعد العلم بأنه باطل. فإن قلت: ما موقع قوله: أن لا يقولوا ؟ قلت: هو متعلق بخص بتقدير الباء أو بحث بتقدير " على " أي خص عباده أو حثهم في آيتين من كتابه أو بواسطة آيتين منه بأن لا يقولوا أو على أن لا يقولوا، وحذف حرف الجر مع أن، وأن قياس مطرد ومن قرأ قوله باثنين بالثاء المثلثة والنون وقال: معناه خصهم بشيئين من كتابه وأمرين من اموره وبالغ في ترجيحه حتى قال: آيتين بالياء والتاء تصحيف لفظ اثنين بالثاء والنون وأيده بأن في الاولى مناقشة وهي أن الآيات المخصوص بها هؤلاء العباد


[ 129 ]

كثيرة زائدة على آيتين وذكر طائفة من الآيات فقد أخطأ لأن الباء في قوله: بآيتين ليست صلة للتخصيص كما أشرنا إليه. ولو سلم أنها صلة له باعتبار أن يجعل قوله: أن لا يقولوا بدلا لآيتين فلا خفاء في أن تخصيصهم بها لا ينافي تخصيصهم بغيرهما من الآيات أيضا إذ دلالة في ذلك التخصيص على حصرهم فيهما، بل إنما يدل على حصرهما فيهم كما لا يخفى على من له معرفة بالعربية. وقد أشار (عليه السلام) إلى الآية الاولى الدالة على أنه ليس لهم أن يقولوا حتى يعلموا بقوله: (وقال تعالى) عطف على " خص عباده بآيتين " على وجه التفسير والبيان له. (* (ألم يؤخذ عليهم) *) الضمير لأهل الكتاب كما يشعر به الآية المتقدمة عليها الدالة على أنهم ورثوا التوراة من أسلافهم وقرؤوها وعلموا ما فيها من الأوامر والنواهي والتحليل والتحريم ولم يعملوا بها، وأخذوا الرشى في الحكومة وعلى تحريف الكلم للتسهيل على العامة أو لغيره وأصروا على ذلك، وكانوا مع الاصرار وعدم التوبة يقولون من غير علم على البت والقطع: سيغفر لنا الله ولا يؤاخذنا به أصلا. (* (ميثاق الكتاب) *) الإضافة بتقدير في أي ميثاق مذكور في الكتاب يعني في التوراة. (* (أن لا يقولوا على الله إلا الحق) *) أي أن لا يقولوا على كتابه ودينه وشريعته إلا ما علموا أنه الحق الثابت الواقع من عند الله تعالى، وقوله: * (أن لا يقولوا) * متعلق بالميثاق، أي بأن لا يقولوا أو بيان وتفسير له لأن الميثاق قد وقع بهذا القول فصح أن يكون هذا القول تفسيرا له والمراد توبيخهم على التحريف والقول بالمغفرة مع عدم التوبة بدون علم وذمهم بأن ذلك افتراء على الله وتقول عليه ما ليس بحق وخروج عن ميثاق الكتاب وهذه الآية وإن نزلت فيهم وفي الحق المخصوص إلا أنها تحمل على العموم وتشمل علماء هذه الامة أيضا، والحق مطلقا فيكون منعا لهم عن القول بشئ إلا بعد ما علموا أنه حق، وذلك لأن هذا الحكم - أعني القول بالحق - دون غيره وعدم جواز الافتراء على الله تعالى غير مختص بامة دون آخرين، ولا بحق دون آخر. وقد تقرر في الاصول أن خصوص السبب لا يخصص عموم الحكم وبهذا الاعتبار وقع الاستشهاد بهذه الآية لما نحن فيه، وأشار إلى الآية الثانية الدالة على أنه لا يجوز الرد والتكذيب بدون علم بقوله: (وقال: * (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله) *) ذمهم على رد ما لم يعلموا وتكذيبهم به (1).


1 - وكان هذا خاص بالاعتقاديات ولا يشمل الفروع العملية، لأن التوقف والرد بالنسبة إلى العمل = (*)

[ 130 ]

قال في الكشاف: بل سارعوا إلى التكذيب بالقرآن وفاجأوه في بديهة السماع قبل أن يفقهوه ويعلموا كنه أمره، وقبل أن يتدبروه ويقفوا على تأويله ومعانيه، وذلك لفرط نفورهم على تخالف دينهم وفرارهم عن مفارقة دين آبائهم كالناشي على التقليد من الحشوية إذا أحس بكلمة لا توافق ما نشأ عليه وألفه وإن كانت أضوء من الشمس في ظهور الصحة وبيان استقامتها أنكرها في أول وهلة واشمأز منها قبل أن يحس إدراكها بحاسة سمعه من غير فكر في صحة أو فساد، لأنه لم يشعر قلبه إلا صحة مذهبه وفساد ما عداه من المذاهب. أقول: الآية وإن نزلت لذم المتسرعين إلى التكذيب بالقرآن قبل أن يتدبروا في نظمه الذي يعجز عن مثله مصاقع الخطباء وأن يتفكروا في معناه الذي يقصر عن الوصول إلى كنه حقائقه عقول العلماء لكن يندرج فيها باعتبار عموم اللفظ ذم من يتسرع إلى الرد والتكذيب بالأحاديث النبوية والروايات المنقولة عن الأئمة الطاهرين ولو بواسطة وغير ذلك من الامور الدينية قبل أن يعلم ذلك ويتدبر في معناه ويتفكر من مغزاه ويتأمل في صحة مضمونه ومؤداه كالناشي على الدين الباطل من مخالفينا المنكرين لكون الخلافة بالنص مع أن النصوص الواردة في كتبهم كثيرة ولكنهم لما لم يتدبروا فيها ولم ينصفوا من أنفسهم وقلدوا الآباء والأسلاف وعاندوا الحق ونشأوا على الباطل ردوها من غير علم بتأويلات فاسدة ومزخرفات باطلة تضحك عليهم العقول الكاملة ويسخر بهم القلوب الخالصة، وكبعض المجتهدين الذي يعتمد برأيه فتارة يحكم بشئ ويعمل به ويحمل غيره عليه، وتارة يرجع عن رأيه ويحكم بضد ذلك الشئ، وأحد هذين الحكمين كذب وافتراء لا محالة، فكأنه لم يسمع قوله تعالى: * (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون * متاع قليل ولهم عذاب أليم) *، فوجب على كل عاقل متدين أن يقول ما يعلمه ولا يرد ما لا يعلمه ويسكت ويطلب حقيقة أمره عن أهل العلم، وله في السكوت أجر جميل وثواب جزيل، ولذا قال بعض الأكابر: لا أدري نصف العلم، ومن سكت لله تعالى حيث لا يدري فليس أقل أجرا ممن نطق بعلم، لأن الاعتراف بالنقص أشد على النفس.


= متساويان مثلا، إذ أورد رواية في وجوب غسل الجمعة لا نعلم صحتها فالتوقف فيها بمعنى عدم العمل بها وردها كذلك، وأما بالنسبة إلى الاعتقاديات فالرد ربما يستلزم الكفر دون التوقف مثلا إذا ورد الحديث في أن الهواء يضغط على المصلوب كالقبر على المدفون، أو أن الصادق (عليه السلام) أرى أبا بصير الكوثر وأنها الجنة في مدينة الرسول (صلى الله عليه وآله)، فإن فهمت معناه فهو وإن لم تفهم فلا تسرع إلى التكذيب بأن الكوثر وأنهار الجنة عند العرش أو في الجنة أو لم يخلق بعد وليست في المدينة حتى يراه أحد بل توقف وسلم واعرف أن عند أهله حل كل شبهة مثل ذلك يرد في محله. (ش) (*)

[ 131 ]

* الأصل: 9 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن داود بن فرقد، عمن حدثه، عن ابن شبرمة قال: ما ذكرت حديثا سمعته عن جعفر بن محمد (عليهما السلام) إلا كاد يتصدع قلبي، قال: حدثني أبي عن جدي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال ابن شبرمة: واقسم بالله ما كذب أبوه على جده ولا جده على رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " من عمل بالمقاييس فقد هلك وأهلك، ومن أفتى الناس بغير علم وهو لا يعلم الناسخ من المنسوخ والمحكم من المتشابه فقد هلك وأهلك ". * الشرح: (علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن داود بن فرقد، عمن حدثه، عن ابن شبرمة) اسمه عبد الله، ذكره ابن داود في قسم الممدوحين من كتابه، وقال: كان قاضيا للمنصور على سواد الكوفة، وكان فقيها شاعرا، وأورده العلامة في الخلاصة في قسم المجروحين. وقال بعض العلماء: إنه مستقيم مشكور وطريق الحديث من جهته ليس إلا حسنا ممدوحا، ولست أرى لذكر العلامة له في قسم المجروحين وجها، إلا أنه قد تقلد القضاء من قبل الدوانيقي وهو شئ لا يصلح للجرح (1) كما لا يخفى. وشبرمة ضبطه ابن داود بالشين المعجمة والباء الموحدة الساكنة والراء وسكون الباء الموحدة. وقال بعض علمائنا: رأيت بخط من يعتد به من أصحابنا ضبطه بفتح الشين المعجمة. (قال: ما ذكرت حديثا سمعته عن جعفر بن محمد (عليهما السلام) إلا كاد يتصدع قلبي، قال: حدثني أبي عن جدي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال ابن شبرمة: واقسم بالله ما كذب أبوه على جده ولا جده على رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من عمل بالمقاييس) المقياس ما يقدر به الشئ ويوزن به، ومنه القياس، وهو إثبات حكم الأصل في الفرع لاشتراكهما في العلة (2)، وله أركان أربعة، كما يظهر من


1 - لا أدري من هذا الذي اجترأ على العلامة، والظاهر ممن تولى القضاء من قبل المنصور الضعف، إلا أن يعلم استقامته يقينا فيحمل عمله على الصحة، وقد ذكره المخالفون وأثنوا عليه ولم يتهموه بالرفض والتشيع كما هو دأبهم. وأما نفس تولي القضاء وسائر المناصب فليس بقادح إذا لم يكن إعانة للظلم، لأن متولي المنصب ربما يكون مستقلا في نظره وأعماله ويمكن أن يختار فعلا ليس فيه ظلم على أحد، وليس هذا محرما وإنما يحرم انفاذ أوامر الظالم والتصدي لمنصب هذا شأنه. وبالجملة: ليس كل ولاية من قبل الجائر إعانة بل النسبة بينهما عموم من وجه ولذلك جوز فقهاؤنا الولاية ولم يجوزوا الإعانة. (ش) 2 - لا ريب أن القياس ليس بحجة في الشرع، وقد استفاضت به الروايات، وقد شاع عن الشيخ أبي علي محمد بن أحمد بن الجنيد الاسكافي القول بحجيته في الجملة، وأن المانع عنه هم اغمار الشيعة لا أهل = (*)

[ 132 ]

التعريف والمراد بالعمل به اعتقاد حجيته وجعله دليلا على الأحكام الشرعية والعمل بمقتضاه وإفتاء الناس به ووضعه شريعة لهم. (فقد هلك) في نفسه هلاكا أبديا بتحريمه ما حلل الله وتحليله ما حرم الله، ومضادته لله في وضع الشرائع ومشاركته إياه في تعيين الأحكام وتركه طريقا قرره الله لعباده للوصول إلى أحكامه وهو الكتاب والسنة ومن عنده علم الكتاب. (وأهلك) غيره ممن تبعه، وعمل بسنته، وأفتى بفتياه، واعتقد بطريقته، وتمسك بحجية القياس بتبعيته، فهو ضال مضل مبين، عليه وزره ووزر من تبعه إلى يوم الدين من غير أن ينقص من أوزار التابعين. (ومن أفتى الناس بغير علم) في الأحكام الشرعية وبين لهم الحلال والحرام وتمسك في ذلك بالكتاب والسنة. (وهو لا يعلم الناسخ من المنسوخ) النسخ في اللغة الإزالة والتغيير. وفي العرف: رفع حكم شرعي بدليل شرعي متأخر، والمتأخر ناسخ والمتقدم منسوخ (1)، ومعنى الرفع أنه لولا المتأخر لثبت المتقدم، وقيل: المتأخر بيان لانتهاء الأول في ذاته. (والمحكم من المتشابه) المحكم في اللغة المتقن. وفي العرف: هو الخطاب الدال على معنى لا يحتمل


= التحصيل منهم. وقد نقل النجاشي من مصنفاته كشف التمويه والالتباس على اغمار الشيعة في أمر القياس، وظني أن القياس في اصطلاح الأئمة (عليهم السلام) أخص منه في اصطلاح الاصوليين ولا استبعاد في تغاير الاصطلاح كالاجتهاد والرأي في عرفهم (عليهم السلام). وفي عرفنا ومقصود ابن الجنيد التخطي عن بعض موارد النص مما قامت القرائن على عدم إرادة الخصوصية فيها مثل التمسح بثلاثة أحجار أو حجر واحد ذي ثلاث جهات وتطهير الثوب من البول أو تطهير الفراش من عرق الجنب عن الحرام والنهي عن شرب سؤر الكافر والاجتناب عنه في الصلاة، فإن الثاني في كل واحد من الأمثلة غير منصوص ملحق بالأول، فإذا نظرت في المسائل الفقهية رأيت أنها بجميع أطرافها وتفاصيلها غير مصرح به، فإذا ورد النص مثلا في الخمر لا تصل فيها استفيد منه النجاسة ويلحق سائر أحكام النجاسة مما لم يرد فيه نص به، ولا يحتمل أن يقال: لعل الخمر ليست بنجسة، وإنما يمنع من الصلاة فقط وإلحاق سائر الأحكام بها قياس. (ش) 1 - ينبغي أن يكون المراد من النسخ هنا أعم من النسخ المصطلح والتخصيص والتقييد، لأن النسخ في اصطلاح الروايات قد يطلق عليها كما يظهر للمتتبع، ولو كان المراد النسخ المصطلح فقط لم يستقم الكلام، إذ لا يعلم في جميع آيات القرآن حكما منسوخا إلا ثلاثة: عدة المتوفى عنها زوجها حولا كاملا نسخ بأربعة أشهر وعشرا، وإيذاء الزاني وحبسه نسخ بالجلد، وتقديم الصدقة على النجوى. وأما التقييد والتخصيص فكثير. (ش) (*)

[ 133 ]

غيره، والمتشابه بخلافه. والمحكم على هذا التفسير مختص بالنص، والمتشابه يتناول الظاهر والمأول والمجمل، فإن كل واحد من هذه الثلاثة يحتمل غيره إلا أن ذلك الغير في الظاهر مرجوح، وفي المأول راجح، وفي المجمل مساو. وقيل: المحكم ما اتضح دلالته، وهو بهذا المعنى يتناول النص. والظاهر المشتابه يتناول المأول والمجمل. (فقد هلك) (1) لأنه ربما يأخذ بالمنسوخ ويرفض الناسخ لعدم علمه بالنسخ ويجعله شريعة لمن تبعه، وربما يحمل المتشابه على أحد مدلوليه لظنه أنه محكم. والمقصود مدلوله الآخر كما فعلت المجسمة حيث تبعوا متشابهات القرآن والسنة، واعتقدوا أن الباري جل شأنه جسم له صورة ذات وجه ويمين وجنب ويد ورجل واصبع تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. (وأهلك) من تبعه وعمل بقوله وأخذ بفتواه، لأن تابع البدعة هالك كواضعها وإن كان الهلاك في واضعها أشد وأقوى.


1 - هلك - بتشديد اللام - وأهلك تستعملان لازما ومتعديا كما في القاموس. ويقال لمن ارتكب أمرا عظيما: " هلكت وأهلكت " من باب التفعيل والافعال كما في (أقرب الموارد). (*)

[ 135 ]

باب من عمل بغير علم باب من عمل بغير علم * الأصل: 1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن محمد بن سنان، عن طلحة بن زيد قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: " العامل على غير بصيرة كالسائر على غير الطريق لا يزيده سرعة السير إلا بعدا ". * الشرح: (عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن محمد بن سنان، عن طلحة بن زيد قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: العامل على غير بصيرة كالسائر على غير الطريق) شبه الجاهل العامل على غير بصيرة قلبية ومعرفة يقينية بما يعلمه بالسائر على غير الطريق المطلوب تنفيرا بذلك التشبيه عن الجهل الموجب لسقوط العمل عن درجة الاعتبار وإيضاحا للمقصود. وأشار إلى وجه التشبيه بقوله: (لا يزيده سرعة السير إلا بعدا) عن المطلوب، أو عن طريقه، إذ بعده عن المطلوب بقدر بعده عن طريق ذلك المطلوب. وسر ذلك أن الطريق الموصل إلى الحق واحد متوسط بين أضداد متعددة وطرق متكثرة موصلة إلى الباطل، ومن عميت قوة بصيرته وانطمست عين رؤيته يقع في أول قدم في طريق الضلال ثم لا يزيده سرعة سيره إلا بعده عن المطلوب وبخلافه العامل على معرفة وبصيرة في سلوكه وحركته من قربه من المطلوب، فإن العامل العالم يعلم بنور بصيرته وضوء معرفته طريق المطلوب فيبتدأ به ويترقب أحوال نفسه فيما ينفعه ويضره فيطلب الأول ويترك الثاني، وهكذا يراعي حاله دائما حتى ينتهي طريقه ويتم عمله على وجه الكمال ويحصل له القرب إلى المطلوب الحقيقي الذي هو لقاء الله سبحانه، والله الموفق والمعين. * الأصل: 2 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن سنان، عن ابن مسكان، عن حسين الصيقل قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: " لا يقبل الله عملا إلا بمعرفة، ولا معرفة إلا بعمل، فمن عرف دلته المعرفة على العمل، ومن لم يعمل فلا معرفة له، ألا إن الإيمان بعضه من بعض ". * الشرح: (محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن سنان، عن ابن مسكان) اسمه


[ 136 ]

عبد الله، ثقة عين. (عن حسين الصيقل قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: لا يقبل الله عملا إلا بمعرفة) أي بمعرفة ذلك العمل، لأن قبول العمل متوقف على معرفته تعالى، ومعرفة صفاته ورسوله المبلغ عنه، ومعرفة العمل ومأخذه الذي يجب الأخذ عنه، ومعرفة كيفيته وأجزائه وشرائطه ومفاسده وموانع صحته، فإذا حصلت تلك المعارف لأحد وعمل على وفقها كان عمله مقبولا وإلا فلا، ضرورة انتفاء الموقوف بانتفاء الموقوف عليه. (ولا معرفة إلا بعمل) يجوز أن يكون معطوفا على " عملا " و " لا " لتأكيد النفي و " معرفة " منصوبة منونة يعني لا يقبل الله معرفة بعمل إلا بعمل ما يتعلق به تلك المعرفة وأن يكون معطوفا على قوله " لا يقبل " و " لا " حينئذ لنفي صفة الجنس و " معرفة " مبنية على الفتح، يعني لا معرفة في الحقيقة أو على وجه الكمال إلا إذا كانت مقرونة بعمل لأن العالم إذا لم يعمل بعلمه فهو والجاهل سواء، كما دل عليه قول أمير المؤمنين (عليه السلام): " إن العالم العامل بغير علمه كالجاهل الحائر الذي لا يستفيق عن جهله " (1)، وهذا كما يقال للبصير بالآيات والسامع لها إذا لم يقر بها: صم بكم عمي، ولأن العلم سبب للعمل ومؤثر فيه إذا كان ملكة راسخة وانتفاء الأثر دليل على انتفاء المؤثر، وأيضا العمل سبب لبقاء العلم واستمراره، فإذا انتفى العمل انتفى العلم وزال بالكلية، كما دل عليه قول الصادق (عليه السلام): " العلم يهتف بالعمل فإذا أجابه وإلا ارتحل عنه " (2). (فمن عرف دلته المعرفة على العمل) إما نتيجة للسابق ومتفرع عليه، أو تفصيل له لما فيه من الإجمال في الجملة، والمقصود أن المعرفة إذا رسخت في النفس واستقرت فيها دلت العارف على العمل وتوصله إليه وتبعثه عليه والعمل من آثارها وتوابعها المترتبة عليها (3). توضيح ذلك: أن المعارف والعلوم الراسخة أنوار للنفس الناطقة، وبها ينكشف عند النفس جلال الله وجماله وعظمته وقدرته فتصير تلك المعارف من أجل ذلك دليلا لها في انتقالها من مقام الفرقة الذي لها في العالم الجسماني إلى مقام الشوق إلى الوصول بقرب الحق وحضرة القدس ومن


1 - تقدم، وسيأتي في باب استعمال العلم تحت رقم 6، والاستقامة: الرجوع إلى ما شغل عنه وشاع استعماله في الرجوع عن السقم إلى الصحة. 2 - سيأتي عن قريب في باب استعمال العلم، تحت رقم 2. 3 - هذا العلم الذي يدعو إلى العمل ليس حفظ الاصطلاحات والأقوال والأحكام بل هو الإيمان الراسخ بالمبدأ والمعاد. ألا ترى أنه يمكن للمسلم أن يحفظ جميع أحكام التوراة وشريعة موسى وعيسى (عليهما السلام) ويضبط أسامي رجالهم وعلمائهم ؟ وكذلك يمكن للنصارى أن يتعلموا كتب الفقه الإسلامي وأسامي رجالهم وقواعدهم الاصولية، ولا يوجب ذلك العمل لعدم الاعتقاد بصحتها، وإنما العلم الموجب للعمل هو أن يعتقد بالمبدأ والمعاد اعتقادا يقينيا غير مشوب بشك وترديد، ولذلك ترى كثيرا من أهل الدنيا متظاهرين بالعلم دون العمل وعلامتهم أن يقتصروا في تعلم ما يزيد في الجاه وحسن الشهرة. (ش) (*)

[ 137 ]

مقام الشوق إلى مقام العزم في السير إليه، ومن مقام العزم إلى مقام تهيئة الآلات والأعضاء والجوارح وتحريكها نحو الأعمال الموجبة للقرب واشتغالها بها، فالمعرفة إذن دليل على العمل، ومنه يظهر سر قول الكاظم (عليه السلام): " كثير العمل من أهل الأهواء والجهل مردود " (1)، لأن من أراد الوصول إلى مقام خفي الآثار بلا دليل كان خطؤه أكثر من الصواب. (ومن لم يعمل فلا معرفة له) لأن العارف أي الذي حصل له شئ من المعرفة ويظن أنه عارف إذا لم يعمل كان ذلك لعدم رسوخ تلك المعرفة وعدم استقرارها في نفسه لما عرفت أن المعرفة الراسخة دالة باعثة على العمل، فإذا انضاف إليه اتباعه للنفس الأمارة وهواها واقتفاؤه للقوة الشهوية والغضبية وسائر القوى الحيوانية ومقتضاها زالت عنه تلك المعرفة الناقصة الغير المستقرة بالكلية لظلمة نفسه وكدورة طبعه وسواد ذهنه. ويحتمل أيضا أن العمل مصقلة للذهن وسبب لصفائه ونورانيته فهو معد لحصول معرفة اخرى فيه أكمل وأفضل من المعرفة الباعثة على العمل، فمن لم يعمل لم يكن له تلك المعرفة الكاملة وهذه العبارة مع قوله: " لا يقبل الله عملا إلا بمعرفة " تفيد أن العلم والعمل متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر، كما يشعر به أيضا قول الصادق (عليه السلام): " العلم مقرون بالعمل، فمن علم عمل ومن عمل علم " (2). (ألا إن الإيمان بعضه من بعض) لأن الإيمان مركب من المعرفة والعمل، أعني التصديق بالجنان والإقرار باللسان والعمل بالأركان (3)، كما دل عليه بعض الروايات، وهو الشائع في ألسنة الشرع. وقد تقرر أن المعرفة باعثة على العمل، والعمل معد لحصول معرفة اخرى أكمل وأفضل، فالعمل من المعرفة وهكذا يتدرجان إلى أن يبلغ أقصى مراتب الإيمان وأيضا المعرفة سبب من أسباب تحقق العمل وحدوثه، والعمل سبب من أسباب بقاء المعرفة واستقرارها، فقد ظهر على التقديرين أن الإيمان بعضه من بعض، ويحتمل أن يكون معناه أن الإيمان بعضه الذي هو العمل من بعضه الذي هو المعرفة المقتضية له، ثم تتفاوت الأعمال بحسب تفاوت المعرفة، فأدنى مراتبها يدل على أدنى مراتب العمل، وأعلاها على أعلى مراتبه، والمتوسطات متوسطات في الدلالة والكمية والكيفية، وبحسب هذا التفاوت يتفاوت الإيمان كمالا ونقصانا. ويحتمل أن يراد بالإيمان هنا نفس المعرفة والتصديق، ويجعل العمل خارجا عنه معتبرا في كماله


1 - تقدم في كتاب العقل في حديث هشام بن الحكم، تحت رقم 12. 2 - سيأتي في باب استعمال العلم، تحت رقم 1. 3 - الإيمان كما صرح به علماؤنا هو نفس الاعتقاد، كما مر في المقدمة، والاقرار باللسان علامة، والعمل بالأركان نتيجة له. والمراد هنا الإيمان الظاهر الكامل، أما الزيادة والنقصان في الإيمان فباعتبار تأثيره في العمل. (ش) (*)

[ 138 ]

وزيادته، والمقصود حينئذ أن الإيمان بعض أفراده من بعض لا بعض أجزائه من بعض، كما في الأول. بيان ذلك: أن مراتب المعرفة متفاوتة بعضها فوق بعض، وكل مرتبة سبب لفيضان ما بعدها، إذ أصل المعرفة والتصديق مع اقتران شئ من العمل معها كالإقرار باللسان ينور القلب ويصقله حتى يستعد بذلك لفيضان معرفة اخرى أقوى وأكمل من الاولى. وهكذا تتدرج المعارف إلى أن تبلغ لغاية الكمال وهي الإيمان الحقيقي، فقد ظهر أن للإيمان أفرادا متكثرة بعضا ينشأ من بعض. * الأصل: 3 - عنه، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال، عمن رواه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " من عمل على غير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح ". * الشرح: (عنه، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال، عمن رواه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من عمل على غير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح) فيه ترغيب في تحصيل العلم وتنفير عن الجهل باعتبار أن أكثر أعمال الجاهل فاسد موجب لفساد حاله وخسران مآله وبعده عن ساحة الحق ورحمته، وذلك لأن الأعمال إما قلبية أو بدنية، وكل واحد منهما صحيحة موجبة للقرب من الله سبحانه والتشرف بشرف كرامته ورحمته أو سقيمة مؤدية إلى البعد عنه والحركة إلى مقام سخطه وغضبه والتمييز بين الصحيح والسقيم منها لا يتصور بدون العلم بحقائقها وخواصها ومنافعها ومضارها وكيفية العمل بها، فمن اشتغل بعمل من غير علم به فإن كان ذلك العمل فاسدا في ذاته كما إذا ظن مثلا بمعونة الوهم والقوة الشهوية والغضبية أن الرذائل فضائل فقد وقع في الفساد حين الإقدام عليه، وإن كان صحيحا في ذاته فلا شبهة في أن صحته متوقفة على امور بعضها داخل في حقيقته وبعضها خارج، ولكل من الداخل والخارج محل مخصوص وأجزاء مخصوصة معتبرة في التقديم والتأخير، وكيفيات مخصوصة ومنافيات مخصوصة، ولا شبهة أيضا في أن الإتيان بجميع هذه الامور على الوجه المعتبر شرعا على سبيل الاتفاق نادر جدا بل محال عادة فلا شبهة في أنه يقع في الفساد بعد الإقدام عليه، وأن ما يفسد أكثر مما يصلح نظير ذلك من اشتغل بإعمال الكيمياء من غير علم بها فإن إفساده أكثر من إصلاحه، بل إصلاحه محال بحسب العادة، أو من سلك في ليل مظلم من غير بصيرة بادية فيها آبار كثيرة فإن وقوعه فيها وصرعته في مهاوي الهلاك أغلب من نجاته.


[ 139 ]

باب استعمال العلم باب استعمال العلم * الأصل: 1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن حماد بن عيسى، عن عمر بن اذينة، عن أبان بن أبي عياش، عن سليم بن قيس الهلالي، قال: سمعت أمير المؤمنين (عليه السلام) يحدث عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال في كلام له: " العلماء رجلان: رجل عالم آخذ بعلمه فهذا ناج، وعالم تارك لعلمه فهذا هالك، وإن أهل النار ليتأذون من ريح العالم التارك لعلمه، وإن أشد أهل النار ندامة وحسرة رجل دعا عبدا إلى الله فاستجاب له وقبل منه فأطاع الله فأدخله الله الجنة، وأدخل الداعي النار بتركه علمه واتباعه الهوى وطول الأمل، أما اتباع الهوى فيصد عن الحق وطول الأمل ينسي الآخرة ". * الشرح: (محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن حماد بن عيسى، عن عمر بن اذينة) هو عمر ابن محمد بن عبد الرحمن بن اذينة، وكان ثقة صحيحا. (عن أبان بن أبي عياش) بالشين المعجمة، قال ابن الغضائري: هو ضعيف. وقال السيد علي بن أحمد: إنه كان فاسد المذهب ثم رجع، وكان سبب تعريفه هذا الأمر سليم بن قيس (1). (عن سليم بن قيس) الهلالي، سليم بضم السين، مجهول الحال. (قال: سمعت أمير المؤمنين (عليه السلام) يحدث عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال في كلام له: العلماء رجلان: رجل عالم آخذ بعلمه فهذا ناج) أي رجل عالم بالمعارف الإلهية والأحكام الشرعية من مأخذها وآخذ


1 - نقل ذلك تفصيلا العلامة (رحمه الله) في الخلاصة، وقال: الوجه عندي الحكم بتعديل المشار إليه والتوقف في الفاسد من كتابه. وأقول: كل ما رأيناه منقولا عن سليم فهو من هذا الكتاب المعروف، وقد طبع أخيرا، وفيه امور فاسدة جدا كما ذكروا، فلا عبرة بما يروى عنه إلا أن يؤيد بقرينة عقلية أو نقلية، وقد ذكر ابن الغضائري أنه وجد ذكر سليم في مواضع من غير جهة كتابه ورواية أبان بن أبي عياش عنه، ونقل عنه ابن عقدة أحاديث في رجال أمير المؤمنين (عليه السلام)، ولكنا ما رأينا في كتبنا التي بأدينا حديثا عنه وحينئذ فينحصر الأمر في الكلام على الكتاب الموجود، وهو ضعيف جدا، فكأنه نظير كتاب الحسنية وكتاب عبد المحمود النصراني الذي أسلم وتحير في المذاهب حتى هداه الله للتشيع موضوع لغرض صحيح، وإن لم يكن له واقع وحقيقة. (ش) (*)

[ 140 ]

بعمله يعني عامل بمقتضاه من تهذيب الظاهر والباطن عن الأعمال القبيحة والأخلاق الرذيلة، وتزيينهما بالأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة، واتصافه بالكمالات العلمية والعملية واستحقاقه للحياة الأبدية والخلافة الربانية، واستكماله في الحقيقة الإنسانية فهذا ناج من ألم الفراق والعقوبات الاخروية لكشف الحجاب بينه وبين الحضرة الربوبية * (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم) *. (وعالم تارك لعلمه) لتدنس ظاهره بالأعمال الباطلة وتوسخ باطنه بالأخلاق الفاسدة، واتباعه للقوة الشهوية والغضبية، وركوبه على النفس الأمارة حتى تورده في موارد طلب الدنيا وزهراتها، وجمع زخارفها ومشتهياتها وتحمله إلى الغلظة على الصلحاء والزهاد، وتسرعه إلى الفتاوي والحكومة بين العباد، وتمدحه لحكام الجور وتعبده لهم، والتياذه بهم، وبالجملة هو الذي وضع العلم على طرف اللسان ولم يصل أثره إلى القلب وسائر الأركان. (فهذا هالك) لابتلائه ألم الفراق وشربه كأسا مسمومة المذاق، واستماعه سحقا يوم التلاق حين يشاهد ربح العلماء العاملين ونور سيماء المقربين ألا ذلك هو الخسران المبين. (وإن أهل النار ليتأذون من ريح العالم التارك لعلمه) التابع للنفس وهواها، وهذا الريح ينشأ إما من قبح أفعاله ونتن أعماله، وهذا النتن موجود في الدنيا أيضا إلا أن الشامة القاصرة لا تدركها والآخرة محل بروز الكامنات والأسرار أو ينشأ من شدة تعذيبه بالنار لاستحقاقه إياها، إذ العلم ميزان يوزن به الدنيا والآخرة ويعرف به فضل الآخرة على الدنيا ومعرفة ذلك يستلزم ذكر الموت ودوام ملاحظته وذلك مستلزم للرهبة والعمل لما بعده، فالعالم إذا ترك العمل وآثر الدنيا على الآخرة مع العلم بالتفاضل وسوء عاقبة الركون إلى الدنيا ومتابعة النفس فهو بزيادة التعذيب أحرى وباستحقاق اللوم والعقوبة أجدر وأولى، نظير ذلك أنه لو وقع البصير والأعمى في البئر فهما متشاركان في الهلاك إلا أن البصير أولى باللوم والمذمة. (وإن أشد أهل النار ندامة وحسرة) يوم القيامة على التقصير في العمل الموجب للسعادة الاخروية والانهماك في الخسران الموجب للشقاوة الأبدية، والحسرة أشد التلهف على الشئ الفائت. (رجل دعا عبدا إلى الله فاستجاب له وقبل منه فأطاع الله فأدخله الله الجنة) وأكرمه بنعيمها الآجل قبوله الحق وعمله به. (وأدخل الداعي النار بتركه علمه) أي بسبب تركه علمه الداعي إلى الأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة الباعثة على لقاء الله ورحمته والدخول في سلك المقربين في حضرته، والجار في


[ 141 ]

قوله: " بتركه " متعلق بأدخل وتعلقه بالحسرة والندامة بعيد لفظا. (واتباعه الهوى) الهوى هو ميل النفس الأمارة بالسوء إلى مقتضى طباعها من اللذات الدنيوية على أنواعها حتى تخرج من الحدود الشرعية وتدخل في مراتع القوة السبعية والبهيمية. (وطول الأمل) لما لا ينبغي أن يمد الأمل فيه من المقتنيات الفانية والمشتهيات الزائلة الآنية. (أما اتباع الهوى فيصد عن الحق) أي يمنع عن العلم والعمل أو عما يتبعهما من السعادة التامة التي هي مشاهدة الجلالة والعظمة الربوبية ومجاورة الملأ الأعلى في مقعد صدق عند مليك مقتدر، وذلك لأن اتباع النفس في ميولها الطبيعية والانهماك في لذاتها الفانية أشد جاذب للإنسان عن قصد الحق وأعظم صاد له عن سلوك سبيله، وعن الترقي من المنازل الناسوتية إلى المقامات اللاهوتية، وأفخم باعث على نومه في مهد الطبيعة البشرية وانتقاله منه إلى حضيض جهنم وابتلائه بالعقوبات الأبدية، كما قال سيد المرسلين (صلى الله عليه وآله): " ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه " (1). (وطول الأمل ينسي الآخرة) لأن طول توقع الامور الدنيوية يوجب نسيان النفس وغفلتها عن الأحوال الاخروية، وهو مستعقب لانمحاء ما تصور في الذهن منها، وذلك معنى النسيان وبذلك يكون الهلاك الأبدي والشقاء الاخروي. * الأصل: 2 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن سنان، عن إسماعيل بن جابر، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " العلم مقرون إلى العمل، فمن علم عمل، ومن عمل علم، والعلم يهتف بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل عنه ". * الشرح: (محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن سنان، عن إسماعيل بن جابر، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: العلم مقرون إلى العمل) قيل: يعني العلم مقرون في كتاب الله مع العمل كقوله تعالى: * (الذين آمنوا وعملوا الصالحات) *، وعلق المغفرة والنجاة عليهما، والأظهر أنه إخبار بأن العلم لا يفارق العمل، لأن من رسخت معرفته وتنور قلبه بنور العلم زينت جوارحه وأركانه بحلل الأعمال لما عرفت من أن العلم دليل وباعث عليه وبهما تتم الحقيقة الإنسانية ويحصل الاستحقاق للكرامة الأبدية.


1 - رواه الصدوق في معاني الأخبار والخصال، وأخرجه أيضا أبو الشيخ ابن حبان في التوبيخ، والطبراني في الأوسط. (*)

[ 142 ]

(فمن علم عمل، ومن عمل علم) قيل: هذا أمر في صورة الخبر يعني يجب أن يكون العلم مع العمل بعده، والعمل مع العلم قبله، والأظهر أنه إخبار بأن كل واحد من العلم والعمل لا يفارق صاحبه، وقد شبه المحقق الطوسي العلم بالصورة والعمل بالمادة وقال: فكما لا وجود للمادة بلا صورة ولا ثبات للصورة بلا مادة فكذلك لا وجوده لعمل بلا علم ولا ثبات لعلم بلا عمل، وإذا اجتمعا حصل الغرض الأصلي من خلق الإنسان. أقول: سر ذلك أن المراد بالعلم العلم المعتبر عقلا وشرعا وهو الذي خرج من حد الحال إلى حد الرسوخ والملكة، وهذا العلم لا ينفك عنه آثاره قطعا ومن جملتها الأفعال والأعمال الحسنة. وكذلك المراد بالعمل العمل الموجب للقرب من الحق والدخول في زمرة المقربين، وهذا العمل لا يفارق عنه العلم أصلا فبينهما تلازم كما بين المادة والصورة، فكل علم لم يكن معه عمل فهو حال مقرون بالاستخفاف بالدين ومثل هذا العلم لكونه حالا ومشتملا على الاستخفاف مع إمكان زواله لحصول أسباب الزوال وموانع الرسوخ ليس بعلم حقيقة، وكل عمل لم يكن معه علم فهو متضمن للبدعة والفساد على اليقين، لأن ما يفسد العامل الجاهل أكثر مما يصلح، ومثل هذا العمل ليس بعمل حقيقة. (والعلم يهتف بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل عنه) في المغرب: الهتف الصوت الشديد من باب ضرب، وهتف به صاح به ودعاه، وتقول: سمعت هاتفا يهتف إذا كنت تسمع الصوت ولا تبصر أحدا، شبه العلم بمن يدعو صاحبه في محل موحش فاستعير الهتف والارتحال له. وحاصل الكلام: أن العلم باعث على العمل ودليل عليه، والعمل حافظ له وسبب لبقائه، فإن عمل العالم بمقتضى علمه دام نور قلبه من العلم وإلا زال عنه. توضيح ذلك: أن العلم نور إلهي وسراج رباني يتنور القلب به بالإفاضة، إما بالمكاشفة أو بالكسب والتعليم، وهو سبب لحالات اخرى للقلب مثل الشوق والعزم على العمل الموجب لقرب الحق والعمل له تأثير عظيم في صفاء القلب وإزالة الظلمة والحجاب عنه، وهو بذلك سبب لحفظ العلم وحراسته كما أن ترك العمل وهو ذنب له تأثير في ظلمة القلب وكدورته واحتجابه بالغشاوة الموجبة لزوال العلم، لأن إحاطة الظلمة وسواد الكدورة بجزء من القلب يوجب خروج نور العلم منه حتى إذا أحاطت الظلمة بجميع أجزائه خرج عنه نور العلم بالكلية، وبما ذكرنا يظهر حقيقة قوله (عليه السلام): " والعلم يهتف بالعمل "، لأن العلم سبب للعمل ودليل عليه، والسبب يدعو المسبب ويطلبه، فإن أجابه وتبعه بقي العلم واستمر ثباته، لأن العمل يصلح مرآة القلب ويكمل استقامته وينظم سياسته، وإن لم يجبه ولم يتبعه ارتحل العلم وزال لأن وجه المرآة مسود مظلم والظلمة ضد


[ 143 ]

النور، وإذا غلب أحد الضدين على الآخر وأخذ محله زال الآخر عنه قطعا. * الأصل: 3 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن علي بن محمد القاساني، عمن ذكره، عن عبد الله القاسم الجعفري، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " إن العالم إذا لم يعمل بعلمه زلت موعظته عن القلوب كما يزل المطر عن الصفا ". * الشرح: (عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن علي بن محمد القاساني) هو علي بن محمد القاضي الأصبهاني، الضعيف من ولد زياد مولى عبد الله بن عباس من آل خالد بن الأزهر لا علي ابن محمد بن شيرة القاشاني الفاضل الفقيه المحدث الذي مدحه النجاشي ووثقة الشيخ وعده من أصحاب أبي جعفر الثاني الجواد (عليه السلام)، وظن العلامة في الخلاصة أنهما واحد. وقال بعض أفاضل أصحابنا: إن هذا غيره، والله أعلم. (عمن ذكره، عن عبد الله القاسم الجعفري) غير معروف. (عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن العالم إذا لم يعمل بعلمه) أي ترك العمل بما يقتضيه علمه من الأعمال وركب النفس الأمارة المجبولة بالشهوات المردية والمغلوفة بالأهواء المضلة المغوية وحرك عنانها بيد الهوى في ميدان المقابح الشرعية والقبائح الدينية. (زلت موعظته عن القلوب) أي زلت موعظته ونصائحه عن قلوب السامعين، والوعظ: النصح والتذكير بالعواقب والواعظ من يمنع الدخول فيما منعه الله وحرمه ويدعو إلى ما أمر به ورغب فيه. (كما يزل المطر عن الصفا) الصفا مقصورة جمع الصفاة، وهي صخرة ملساء شبه المعقول بالمحسوس تشبيها تمثيليا لزيادة التقرير والايضاح، كما هو شأن الحكماء والبلغاء في التنبيه بالمحسوسات على المعقولات، ولزلة موعظته وجوه: الأول: أن الموعظة إذا جرت من قلب الواعظ على لسانه جرت من سمع السامع على قلبه وتستقر فيه ويتأثر قلبه بها ويربو وينبت منه زرع الحكمة ويحيى بحياة أبدية، وإذا صدرت من لسانه وحده من غير اتصاف قلبه وسائر جوارحه بها استقرت على سمع السامع ولا تتجاوزه إلى قلبه ولا تستقر فيه. وسر ذلك أن باطن السامع - يعني مرآة قلبه - مقابل لباطن الواعظ، وظاهره مقابل لظاهره، وما في أحد المتقابلين ينعكس إلى الآخر، وما في قلب الواعظ وسائر جوارحه ينعكس إلى قلب السامع وسائر جوارحه، وما في لسانه وحده ينعكس إلى سمع السامع فقط. الثاني: أن أعماله مكذبة لقوله فلا يبقى لقوله تأثير في القلب، إذ الكذب لا يؤثر فيه ولا نور له.


[ 144 ]

الثالث: أنه إذا نهى الناس عن امور وهو فاعلها فلهم أن يقولوا: ليست متابعتنا لقولك أولى من متابعتنا لفعلك، فلا يحصل لهم الاعتقاد بقوله نظير ذلك من منع الناس عن أكل الطعام وقال: إنه سم مهلك، ومع ذلك هو حريص على أكله سخر به الناس واتهموه ويزاد حرصهم عليه وقالوا: لولا إنه ألذ الطعوم وأطيبها لما كان يستأثر به ويمنعنا عنه. ثم الظاهر أن هذا الحكم أكثري، إذ قد يكون قلب بعض السامعين في قبول الضياء وشدة الاستعداد بحيث يقبل من الواعظ وإن لم يكن الواعظ عاملا كما يشعر به الحديث المذكور في أول هذا الباب، وإنما قلنا الظاهر ذلك لاحتمال أن يكون إقبال بعض السامعين إلى العمل لأجل رقة قلبه وصفاء طينته وميله بالذات إلى العمل الصالح لا لأجل تأثير موعظة ذلك الواعظ التارك لعلمه فيه. * الأصل: 4 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن القاسم بن محمد، عن المنقري، عن علي بن هاشم بن البريد، عن أبيه قال: جاء رجل إلى علي بن الحسين (عليهما السلام) فسأله عن مسائل فأجاب، ثم عاد ليسأل عن مثلها فقال علي بن الحسين (عليه السلام): " مكتوب في الإنجيل لا تطلبوا علم ما تعلمون ولما تعملوا بما علمتم، فإن العلم إذا لم يعمل به لم يزدد صاحبه إلا كفرا، ولم يزدد من الله إلا بعدا ". * الشرح: (علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن القاسم بن محمد، عن المنقري) اسمه سليمان بن داود. (عن علي بن هاشم بن البريد، عن أبيه قال: جاء رجل إلى علي بن الحسين (عليهما السلام) فسأله عن مسائل) أي عن مسائل متعلقة بالعمل بقرينة السياق. (فأجاب، ثم عاد ليسأل عن مثلها) أي عن مسائل مماثلة لها في تعلقها بالعمل. (فقال علي بن الحسين (عليه السلام): مكتوب في الإنجيل) فيه تنبيه على أن الحكم الآتي غير مختص بهذه الشريعة، بل كان في الشرائع السابقة أيضا. (لا تطلبوا علم ما تعلمون ولما تعملوا بما علمتم) أي الأولى والأنسب بحالكم ترك طلب العلم إذا تركتم العمل بما علمتموه، وفيه دلالة على امور: الأول: جواز ترك التعليم إذا لم يعمل المتعلم بما علمه، والنهي عنه في بعض الروايات مقيد بما إذا كان المتعلم عاملا. الثاني: أن ذلك الرجل السائل لم يعمل بما سأل عنه من المسائل، فكأن مجلس السؤال كان متعددا كما يشعر به لفظ " ثم "، ومضى وقت العمل بها، وإلا فلا وجه لزجره عن السؤال. الثالث: أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ينبغي أن يكونا بالرفق ولين القول.


[ 145 ]

(فإن العلم إذا لم يعمل به لم يزدد صاحبه إلا كفرا) أي جحودا وإنكارا لما علمه إذ لو كان له إقرار به لما تركه (1) وهذا أسوء حالا من الجاهل لخلو الجاهل عن الإقرار والانكار جميعا أو جحودا أو إنكارا لنعمة العلم، فإن العلم من جلائل نعم الله تعالى فشكره وهو العمل به واجب وتركه كفر وجحود لتلك النعمة. أو جحودا وإنكارا لاستحقاقه تعالى بالعبادة والعمل له، إذ لو كان له اعتقاد بذلك اعتقادا صحيحا ثابتا لما أقدم على ترك العبادة والعمل له، أو المراد بالكفر تغطية الحق وستره وإفشاء الباطل وإعلانه. ثم الظاهر أن هذا التعليل منه (عليه السلام) لما في الإنجيل ويحتمل أيضا أن يكون مكتوبا فيه، والله أعلم. (ولم يزدد من الله إلا بعدا) أي لم يزدد إلا بعدا من رحمته وإكرامه في الآخرة وقبول هدايته وإنعامه في الدنيا، وإنما قال: " ولم يزدد " من الازدياد لما فيه من المبالغة في البعد، لأن العمل موجب للقرب منه تعالى فتركه في نفسه مع وخامة ما يتبعه من الأمراض النفسانية المهلكة موجب لزيادة البعد فكيف إذا انضم معه العلم الموجب لزيادة السخط والغضب ؟ ! * الأصل: 5 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن عيسى، عن محمد بن سنان، عن المفضل بن عمر، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: بم يعرف الناجي ؟ قال: " من كان فعله لقوله موافقا فأثبت له الشهادة، ومن لم يكن فعله لقوله موافقا فإنما ذلك مستودع ". * الشرح: (محمد بن يحيى، عن أحمد بن عيسى، عن محمد بن سنان، عن المفضل بن عمر (2) عن أبي


1 - العمل إذا نسب إلى العلم بالفروع كوجوب الزكاة والحج فمعناه العمل إن كان مالكا للنصاب ومستطيعا للحج وإن نسب إلى الاصول كالعلم بالمبدأ والمعاد فمعناه العمل بمقتضى اليقين بهما من التقوى والزهد والرغبة في الآخرة، والمراد هنا الثاني. (ش) 2 - الكلام في رواية المفضل كالكلام في سائر الروايات الضعيفة الواردة في اصول الكافي من أن العبرة في هذه الامور بصحة المتن لا بصحة الاسناد، ويعرف صحة المتن بكونه موافقا للعقل والاعتبار وسائر الاصول المعلومة من الدين. فإن قيل: إن كان الاعتبار بالعقل فلم يوردون الروايات بالأسانيد ؟ قلنا: هذا وظيفة المحدث، بل والناقل مطلقا، ألا ترى أنهم في التواريخ واللغة والأدب يذكرون الاسناد والمحدث في التوحيد وإثبات الواجب والنبوة والإمامة، وليس ذلك لكون المسند فيها واجب القبول وغير المسند واجب الرد، بل لأن يقوى الظن بصحة النسبة إلى قائله وربما يتنبه الفطن لقرائن يحصل منه القطع واليقين، فعلى المحدث والناقل أن يجمع ما يمكن أن يستفاد منه قوة النقل وإن لم يجب القبول. (ش) (*)

[ 146 ]

عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: بم يعرف الناجي ؟) أي الناجي في الدنيا من سبيل الضلالة، وفي الآخرة من العذاب والبعد عن الرحمة، وإنما سأل عنه ليعرفه ويتمسك بذيل هدايته وإرشاده ويختار ملازمته ومجالسته ليتأدب بآدابه، والناجي المطلق هو الحكيم الكامل في ذاته وصفاته، أعني من قطع عالم المحسوسات بقدم الفكر ونظر إليها بعين التبصر وشاهد عالم المعقولات بعين البصيرة ولحظ إليها بنور التفكر ميز بين صحيحها وسقيمها وجيدها ورديها ومنافعها ومضارها والتزم محاسنها، وهو في جميع ذلك يقلد القوة الشهوية المسماة بالنفس البهيمية، والقوة الغضبية المسماة بالنفس السبعية بقلادة الطاعة والقياد ويعطي حظهما من جلب المنافع ودفع المضار على وجه الاعتدال ويمنعهما عن التوجه إلى ما لا يليق به ويغريهما إلى التعرض فيما ينبغي، وهكذا يسير بحزم واحتياط إلى أن يرفض عنه الهويات الجسمانية ويلبس لباس التجريد ويملك الحقيقة الإنسانية وينزل في عالم التوحيد ويصير من أولياء الله وأصفيائه ويرتفع الحجاب حينئذ بينه وبين المعبود الحق وله علامات يعرف بها في عالم الغيب وعلامات في عالم الشهادة، أما الاولى فمنها أنه في نظر الروحانيين كبدر يسير في الليلة الظلماء بل كشمس يتلألأ نوره في الأرض والسماء ويعرفه بذلك الملائكة المقربون، ويقولون: هذا نور فلان يسير في ظلمات الدنيا إلى حضرة القدس، فيستقبلونه بروح وريحان، ويبشرونه بنعيم ورضوان، ويمسحونه، وربما يجد في نفسه بل في ظاهر بدنه لذة لمسهم وأثر مسحهم، ولولا الحكمة الإلهية في إخفاء هذه الكرامة لرأى ما تقر به عينه. وأما الثانية فمنها خفية ومنها جلية، أما الخفية فهي مختصة بالخواص والزهاد، فإنهم يعرفونه لنور بصائرهم، وخلوص ضمائرهم وصفاء طينتهم وضياء عقيدتهم بمجرد ملاحظة سيماء وجهه ومشاهدة نورية ذاته وإن لم يشاهدوا كيفية أعماله وأقواله، فإنه نور محض في الواقع ينعكس نوره إلى قلوب صافية. وأما الجلية فهي عامة يعرفها الخواص وغيرهم، فلذلك أشار إليها (عليه السلام) لعموم نفعها حيث قال: (قال: من كان فعله لقوله موافقا) يعني من كان قوله في كل باب يتقوله صحيحا حقا غير مشوب بالباطل، ومن كان فعله موافقا لقوله في الصواب، وهو الحكيم الكامل، إذ الأول يدل على اتصافه بالحكمة النظرية وتنور قلبه بنور الحقائق والمعارف اليقينية، لأن اللسان دليل القلب فاستقامته تدل على استقامة القلب. والثاني: يدل على اتصافه بالحكمة العملية وغلبته على القوة الشهوية والغضبية. (فأثبت له الشهادة) الفاء لجواب الشرط، وأثبت من الإثبات، إما أمر أو ماض معلوم، أو ماض مجهول، أو متكلم.


[ 147 ]

ومعناه على الأول فأثبت أنت شهادتك له بالنجاة أو شهادة الشاهد له بها، وذلك الشاهد هو التوافق بين قوله وفعله الدال على أنه حكيم كامل ناج واصل إلى مطلوبه الذي هو غاية الغايات من خلق الإنسان. وعلى الثاني فأثبت التوافق المذكور له الشهادة بها لدلالته على أنه ثابت على دين الحق مستقر في الإيمان راسخ في العلم والعمل، ناج في الدنيا والآخرة. وعلى الثالث فاثبت له الشهادة الشاهد بها، وهو التوافق المذكور. وعلى الرابع فاثبت أنا له شهادتي بها، أو شهادة الشاهد المذكور بها. وفي بعض النسخ: فإنما ثابت له الشهادة، وفي بعضها: فإنما له الشهادة أي شهادة الشاهد المذكور بالنجاة، وفيهما مبالغة باعتبار حصر الشهادة بكونها له لا لغيره، وفي بعضها: فأبت له الشهادة بالباء الموحدة والتاء المنقطة بنقطتين. وفي المغرب: البت والابتات القطع يعني فقطع له شهادة الشاهد المذكور بأنه ناج آمن من الزلة وزوال الإيمان عنه. ويحتمل أن يقرأ: فأتت بالتائين المنقوطتين، يعني فجاءت له الشهادة بالنجاة. (ومن لم يكن فعله لقوله موافقا) أي من لم يكن مجموع قوله وفعله صوابا، سواء كان القول صوابا والفعل خطأ أو بالعكس، أو كان كلاهما خطأ ففيه ثلاثة احتمالات، والأول هو الأظهر. (فإنما ذلك مستودع) أي فإنما ذلك الرجل أو إيمانه واعتقاده مستودع غير ثابت مستقر (1)، فيحتمل أن يبقى على الحق فيحصل له النجاة بفضل الله تعالى. ويحتمل أن يزل عن الحق ويعود إلى الشقاوة فيستحق الويل والندامة في الآخرة، وهذا واسطة بين من علم ثباته على الحق ومن علم خروجه عنه، كما يدل عليه ما رواه محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) قال: سمعته يقول: " إن الله عز وجل خلق خلقا للإيمان لا زوال له، وخلق خلقا للكفر لا زوال له (2)، وخلق خلقا بين ذلك واستودع الله بعضهم الإيمان، فإن يشأ أن يتمه لهم أتمه، وإن يشأ أن يسلبهم إياه سلبهم " (3)، وقد حمل على الأول، والوسط قوله تعالى: * (فمستقر ومستودع) *، والله ولي التوفيق.


1 - هذا الرجل علمه تصور لا تصديق، ويمكن لكل أحد أن يحفظ مسائل العلم من غير تصديق بها، بل تصورا فقط، وهذا لا يبعث على العمل. (ش) 2 - تفسيره بحيث لا يلزم منه الجبر، يأتي في محله إن شاء الله. (ش) 3 - يأتي في كتاب الإيمان والكفر - باب المعارين. (*)

[ 148 ]

* الأصل: 6 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، رفعه قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في كلام له خطب به على المنبر: " أيها الناس، إذا علمتم فاعملوا بما علمتم لعلكم تهتدون، إن العالم بغيره كالجاهل الحائر الذي لا يستفيق عن جهله بل قد رأيت أن الحجة عليه أعظم والحسرة أدوم على هذا العالم المنسلخ من علمه منها على هذا الجاهل المتحير في جهله، وكلاهما حائر بائر، لا ترتابوا فتشكوا، ولا تشكوا فتكفروا، ولا ترخصوا لأنفسكم فتدهنوا، ولا تدهنوا في الحق فتخسروا، وإن من الحق أن تفقهوا، ومن الفقه أن لا تغتروا، وإن أنصحكم لنفسه أطوعكم لربه، وأغشكم لنفسه أعصاكم لربه، ومن يطع الله يأمن ويستبشر، ومن يعص الله يخب ويندم ". * الشرح: (عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، رفعه قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في كلام له خطب به على المنبر) بكسر الميم وفتح الباء، وفي الصحاح: نبرت الشئ أنبره رفعته. ومنه سمي المنبر. (أيها الناس، إذا علمتم فاعملوا بما علمتم) المراد بالعلم هنا العلم المتعلق بالأعمال، وإن كان هذا العلم لا يتم ولا ينفع بدون العلم بالله وصفاته وسائر المعارف الإلهية. (لعلكم تهتدون) أي لرجائكم أو حال كونكم راجين أن تكونوا من المهتدين، أي الثابتين على الهداية، لما مر من أن العلم مع العمل موجب للثبوت على سبيل الهداية وصراط الحق، وأن العلم بلا عمل مستودع. أو الطالبين لمرتبة اخرى من الهداية فوق ما كنتم عليه لأن مراتب العلم والهداية متفاوتة وكل مرتبة تعد القلب لقبول مرتبة اخرى فوقها، فمن علم شيئا أول مرة ظهر في قلبه نكتة بيضاء، وإذا عمل بما علمه ازدادت، وهكذا هلم جرا، وبعكس ذلك ترك العمل به. أو الواصلين إلى المطلوب الحقيقي الذي هو غاية الغايات ومبدأ الممكنات، وإليه تنتهي حركة كل عامل وطلب كل طالب (1)، لأن العلم مع العمل سبب لمحو الظلمات البشرية وشهود التجليات الصمدية فيستهلك في


1 - حركة كل طالب، سواء كان بإرادة أو بغير إرادة، وسواء كان عارفا بالله أو جاهلا به، وسواء نوى بعمله التقرب إليه أم لا، فهي إليه تعالى، وهو غاية حركته، كما أن من يتحرك إلى الجنوب يقرب من البحر المحيط وإن لم يعلم ذلك، لأن كل موجود يطلب بالحركة الكمال اللائق بحاله وبإدراك الكمال يقرب من الله تعالى الذي هو كل الكمال، ومعنى الغاية هو الكمال الذي يجتهد في التشبه به، ألا ترى أن = (*)

[ 149 ]

نظر الطالب الأغيار وتحترق الحجب والأستار، فلا ينظر إلا إليه، والتوفيق منه والتكلان عليه. ثم زاد في التنفير عن ترك العمل بقوله: (إن العالم بغيره) أي بغير علمه أو بغير ما يقتضيه علمه من الأعمال الصالحة. (كالجاهل الحائر) في عدم العلم، لأن العلم بلا عمل ليس بعلم، بل هو أسوء من الجهل، وفي الهلاك والضلال والأخذ على غير طريق الحق والجور عن قصد السبيل، سواء كان جهله بسيطا أو مركبا. (الذي لا يستفيق عن جهله) ولا يطلب الخروج منه، ولا يرجع من مرض الجهل إلى الصحة، وتشبيه الجهل بالسكران استعارة مكنية، وذكر عدم الاستفاقة تخييلية، ويلزم من هذا الكلام بطريق العكس أن الجاهل المتعلم كالعالم العامل كما يرشد إليه قول أمير المؤمنين (عليه السلام) في كلام له: " الجاهل المتعلم شبيه بالعالم، والعالم المتعسف شبيه بالجاهل " (1). (بل قد رأيت) أي بل قد علمت يقينا مثل المعاينة. (أن الحجة عليه أعظم والحسرة أدوم على هذا العالم المنسلخ من علمه) لإشراف علمه بترك العمل به إلى الزوال والفناء. (منها على هذا الجاهل المتحير في جهله) قوله: " منها " متعلق بأعظم وأدوم على سبيل التنازع، وأما أن الحجة على هذا العالم أعظم فلأن محاسبة الناس والاحتجاج عليهم يوم القيامة على قدر عقولهم، ولأنه لما ترك ما علم حقيقته وعمل بخلافه انقطع عذره، ولذلك قال أمير المؤمنين (عليه السلام): " قطع العلم عذر المتعللين " (2)، يعني أرباب التعلل العالمين بما يتعللون به لا عذر لهم بخلاف الجاهل والناسي فإن للجاهلين أن يقولوا: إنا كنا عن هذا غافلين. وقد روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: " العلم علمان: علم اللسان وذلك حجة الله على آدم، وعلم في القلب وذلك العلم النافع " (3)، أي الذي يستلزم الطاعة والعمل، وأما أن الحسرة عليه أدوم


= من يريد تعلم الخط الحسن أو الكتابة البليغة والشعر الجيد يختار خط أحد الأساتذة أو أحد الدواوين ويتشبه به، وهو غايته، وكذلك الله تعالى غاية كل وجود (ش). 1 - النهج - قسم الحكم والمواعظ، تحت رقم 320. 2 - المصدر، تحت رقم 284. 3 - رواه ابن أبي شيبة في المصنف، والحكيم الترمذي في النوادر عن الحسن مرسلا، والخطيب عنه عن جابر بسند حسن كما في الجامع الصغير. (*)

[ 150 ]

فلأنه كلما رأى يوم القيامة ربح العلماء العاملين وكرامة الله تعالى عليهم ازدادت حسرته وندامته على ترك العمل ولا ينفعه الندم، ولأن نفس الجاهل غير عالمة بمقدار ما يفوتها من الكمال بالتفصيل، فإذا فارقت بدنه فهي وإن كانت محجوبة عن نعيم الجنة وما أعد الله لأوليائه إلا أنها لما لم تجد لذتها ولم تذق حلاوتها ولم تعرف قدرها لم يكن لها كثير حسرة عليها ولا دوام أسف على التقصير في تحصيلها بالأعمال الصالحة، بخلاف العارف بها العالم بنسبتها إلى اللذات الدنيوية (1) فإنه بعد المفارقة إذا علم وانكشف له أن الصارف له والمانع عن الوصول إليها هو تقصيره بالعمل بما علم مع علمه بمقدار ما فاته من الكمالات والدرجات والكرامات كان أسفه وحسرته على ذلك أشد الحسرات وأدومها، وجرى ذلك مجرى من علم قيمة جوهرة نفيسة ثمينة تساوي جملة ماله بل الدنيا وما فيها، ثم اشتغل عن حفظها وضبطها ببعض لعبه حتى فاتته بخلاف الجاهل بقيمتها. (وكلاهما حائر بائر) الحائر إما من الحيرة، يقال: حار فلان يحير حيرة إذا تحير في أمره ولم يهتد إلى وجه مقصوده فهو حيران، أو من الحور وهو النقصان، يقال: نعوذ بالله من الحور بعد الكور، أي من النقصان بعد الزيادة، والحور أيضا الهلكة. والبائر والبور بالضم الرجل الفاسد الهالك الذي لا خير فيه. وفي الصحاح: بار فلان أي هلك، وأباره الله أهلكه، ورجل حائر بائر إذا لم يتجه لشئ وهو اتباع لحائر. إذا عرفت هذا فنقول: كذا وصفهما وحالهما في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فلتحيرهما وعدم توجهما إلى شئ ينفعهما


1 - اللذة فرع الإدراك، ولا ريب أن الإدراك ليس من صفات الأجسام الجامدة، بل هذه القوة المدركة شعاع من عالم الغيب، وكلما كان الإدراك أشد كانت اللذة والألم أشد، وكلما كان الكمال الذي يناله الإنسان أعظم وأكثر كان البهجة والالتذاذ به أعظم أيضا، ولا ينبغي أن يتوهم أن الموجود المجرد المدرك بذاته وله الكمالات العظيمة الكثيرة أقل لذة وأضعف سعادة من أفراد الإنسان الشهوي في الدنيا، ويزعم الجاهل أن سعادته في الدنيا عظيمة إذا كانت له شهوة يقضيها، وليس للملائكة والعقول سعادة ولذة أصلا، وليس كذلك بل الإنسان إذا لحق بهم يليق له كمالات والتذاذات من إدراكها وإفاضات من جانبهم يبتهج بها فوق ما يحصل له في الدنيا من شهواتها أضعاف مضاعفة وحسرته من فقدها والحرمان عنها أعظم من حسرة المحرومين في الدنيا كما تعلم، وقس عظم الابتهاج بعظم القدرة وكثرة العلم، فإن المجردات تقدر على حركة السماوات والشمس والقمر وينال علمهم كل شئ من الباطن والظاهر والبعيد والقريب والغيب والشهادة والماضي والمستقبل، والإنسان محروم من ذلك كله في الدنيا، ويليق أن يلحق بالمجردات فيبتهج ويلتذ بتلك النسبة. (ش) (*)

[ 151 ]

ونقصان منزلتهما عند العاملين وانحطاط مرتبتهما عند الصالحين وسقوطهما في تيه الضلالة وهبوطهما في وهدة الغواية وأسرهما في يد النفس الأمارة، وأما في الآخرة فلهلاك نفوسهما بالشرور والأمراض المهلكة وموت قلوبهما بالرذائل المذمومة المردية واستحقاقهما للعذاب الأليم ونار الجحيم. وقد حث على تحصيل العلم والأخذ على اليقين والعمل به والاجتناب عن الارتياب والشك الموجبين للكفر بقوله: (لا ترتابوا فتشكوا) الريبة بالكسر في الأصل القلق والاضطراب، ثم شاع استعمالها في الشك وسوء الظن والتهمة، كما يظهر من المغرب والنهاية لأن كل واحد من هذه الامور يستلزم المعنى الأصلي ويجوز إرادة كل واحد من هذه المعاني هنا. والمعنى على الأول لا توقعوا أنفسكم في قلق واضطراب بسبب ثقل العمل بما يقتضيه العلم، فإنه يؤدي بكم إلى تشكوا في العلم والعمل والمعلوم جميعا، أو بسبب صرف الفكر يعارض الحق ويدفعه من الشبهات فإنه يؤدي بكم إلى الشك فيه. وعلى الثاني لا تشكوا في العلوم المتعلقة بالامور الدينية ولا في العمل والمعلوم فإنه يؤدي بكم إلى أن تشكوا في الدين. وعلى الثالث لا تتهموا أهل العلم ولا تتصفوا بسوء الظن بهم ولا تنسبوهم إلى احتمال الكذب والافتراء، فإنه يؤدي بكم إلى الشك في صدقهم، وفيه زجر عن الارتياب في أمر صدر عن مشكاة النبوة ومعدن الخلافة وحث على قبوله بالطاعة والانقياد، سواء كان ذلك الأمر من باب المعارف الإلهية أو من باب الأحكام الشرعية، وسواء علم وجه مصلحته أو لم يعلم، فإن عليهم البلاغ وعلينا التسليم. (ولا تشكوا فتكفروا) أي تشكوا في شئ من الامور المذكورة فإنكم إن تشكوا فيه تكفروا، فإن الشك فيه كفر بالله العظيم وبما أنزله إلى رسوله الكريم، ثم حث على العمل بالطاعات والاجتناب عن المنهيات وغيرها مما يمكن أن يؤدي إليها بقوله: (ولا ترخصوا لأنفسكم فتدهنوا) الرخصة في الأمر خلاف التشديد، وقد رخص له في كذا ترخيصا فترخص هو فيه، والإدهان والمداهنة الملاينة والمساهلة وإظهار خلاف ما تضمر والغش، يعني لا تجعلوا أنفسكم مرخصة في ترك التعلم وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنكم إذا فعلتم ذلك تساهلوا في أمر الدين وإحياء نفوسكم، وفيه هلاك أبدي لكم ولهم، وكذا لا تجعلوها مرخصة في تنويع المآكل والمشارب والمناكح والمباحات والخروج فيها إلى حد الافراط والمشتهيات ولا في حضور مجالس الفاسقين ومعاشرة الظالمين بتأويلات وحيل تخيل أنها جائزة


[ 152 ]

في الشريعة إذ لو فعلتم ذلك تساهلوا في ارتكاب المحظورات وتلاينوا معهم في السكوت عما ترون من المنكرات فإن الانهماك في المباحات ربما يسهل عليكم ارتكاب المحظورات والانس بأهل الطغيان ومشاهدة العصيان ربما يوقعكم في حبائل الشيطان إذ الإنسان إذا توسع في الامور المباحة واستيفائها ربما شارف المكروهات ولحظ أنه لا عقاب في فعلها فقادته شهوته إلى فعلها والتجاوز عن حدودها إلى المحضورات، لأن العقل إذا أطاع النفس الأمارة فيما تأمر به مرة بعد اخرى لم يبق له نفار عما تقوده إليه لوقوع الانس به، وظاهر أن ارتكاب بعض مأموراتها يجر إلى ارتكاب بعض آخر فيؤدي ذلك إلى التجاوز عن حدود الشريعة وعبورها إلى الوقوع في حبائل الشيطان والتهور في المحظورات التي هي مهاوي الهلاك والخسران، ولذلك ورد: " من رتع حول الحمى أوشك أن يقع فيه " وكذلك إذا جالس أهل الشر وتساهل معهم في السكوت عما يراه من منكراتهم يأنس بالمعاصي ويألف بتكرارها، وربما يسوقه إلى فعل المنكر ومشاركته فيه. (ولا تدهنوا في الحق فتخسروا) أي لا تساهلوا فيما ثبت أنه حق، اعتقاديا كان أو عمليا، فعلا كان أو تركا، فتخسروا لذلك بنقصان الإيمان في الدنيا وحرمان الثواب في الآخرة، ثم شرع في ذكر أخبار متضمنة للأوامر والنواهي فقال: (وإن من الحق أن تفقهوا) يعني أن من حق الله تعالى عليكم الذي يجب عدم المساهلة فيه أن تفقوا في الدين، وتطلبوا اصوله وفروعه من أهله، إذ الغرض من إرسال الرسول وتقرير الشرائع حمل الخلق على التعبد والعقائد الصحيحة ولا يتم ذلك إلا بالتفقه وترك المساهلة فيه. (ومن الفقه أن لا تغتروا) بالعلم والعمل ولا تميلوا إلى الباطل، فإن الاغترار بهما من المهلكات، ويحتمل أن يقرأ بالفاء من الفتور فيكون زجرا عن الضعف والانكسار في العمل وحثا على الاجتهاد فيه، وحاصل القضية الاولى الأمر بالتفقه والثانية النهي عن الاغترار والفتور. (وإن أنصحكم لنفسه أطوعكم لربه) لأن الغرض من النصح جلب الخير والمنفعة إلى المنصوح، ولا ريب في أن أعظمهما هو تحصيل السعادة الباقية واقتناء الكرامات الأبدية والتحرز من العقوبات الاخروية ولا في أن هذه الامور إنما تنال بطاعة الله تعالى، ولا في أن من كانت طاعته له أكثر وأتم كانت سعادته أكمل وأعظم، فلا شبهة في أن أنصح الناس لنفسه من بالغ في طاعة ربه. (وأغشكم لنفسه أعصاكم لربه) وهو ظاهر مما قررناه، فإن الغرض من الغش جلب الشر والضر إلى المغشوش، ولا ريب في أن أعظمهما هو الشقاوة الأبدية، ولا في أن تلك الشقاوة إنما تحصل بمعصية الله تعالى، ولا في أن من كانت معصيته أتم كانت شقاوته أعظم، فلا شبهة في أن أغش الناس


[ 153 ]

لنفسه من بالغ في معصية ربه. وحاصل الفقرة الاولى هو الأمر بالطاعة والتعلم أتم ما يكون، والثانية هو النهي عن المعاصي أبلغ ما يتصور، ورغب في الطاعة بذكر نصيحة النفس لكون النصيحة محبوبة مرغوبة، ونفر عن المعصية بذكر غشها لكون الغش مستكرها مهروبا عنه، ولما أشار (عليه السلام) إلى أن المطيع ناصح لنفسه والنصح لا يكون إلا لخير يعود إليه أراد أن يشير إلى ذلك الخير إجمالا وتعظيما لشأنه، إذ التفصيل مما يعجز عنه إدراك عقولنا فقال: (ومن يطع الله يأمن ويستبشر) أي من يطع الله في حلاله وحرامه وأوامره ونواهيه وفي كل ما جاء به نبيه (صلى الله عليه وآله) يأمن العقوبات والمكروهات الاخروية والدنيوية ويستبشر عند الموت وما بعده بالتفضلات والمثوبات الاخروية مما لا عين رأيت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر (1)، وكذا لما أشار إلى أن العاصي غاش لنفسه والغش لا يكون إلا لضرر يعود إليه أشار إجمالا إلى ذلك الضرر: (ومن يعص الله يخب ويندم) أي من يعص الله تعالى في الامور المذكورة وآثر الرذائل على الفضائل والسيئات على الحسنات ورتفع في مراتع النفس الأمارة وتبع ميولها إلى مقتضيات القوة الشهوية والغضبية ولم يؤدبها بالتأديبات الشرعية والسياسات العقلية والنقلية فهو يخيب من الرحمة الإلهية والبشارات والكرامات الربانية، ولا ينال المثوبات الاخروية ويندم مما فرط في جنب الله من إيثار الامور المذكورة الزائلة الفانية على الامور الدائمة الباقية. هذا وأمثاله حين شاهدوا أهوال الآخرة واشتد فزعهم بها قالوا: * (ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا) * * (غير الذي كنا نعمل) * فيجيبهم رب العزة: * (أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا وما للظالمين من نصير) *. وفي العبارة الاولى أمر بالطاعة وترغيب فيها بذكر فوائدها ومنافعها. وفي الثانية نهي عن المعصية وتبعيد عنها بذكر مضارها ومقابحها، وينبغي أن يعلم أنهم (عليهم السلام) هم الحكماء الإلهيون البالغون ونحن الأطفال الناقصون فهم يكلموننا على قدر عقولنا ويرغبوننا في الطاعة بذكر منافعها ويبعدوننا عن المعصية بذكر مضارها، كما أنا نفعل مثل ذلك مع أولادنا وإلا فالله سبحانه بذاته مستحق للطاعة والعبادة والتقرب إليه وترك المعصية والمخالفة له كما أشار إليه (عليه السلام) بقوله: " ما عبدتك طمعا في جنتك، ولا خوفا من نارك، بل وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك "،


1 - كمية ولمية وكيفية وماهية، كما يتنبه له مما مر في الحاشية السابقة. (ش) (*)

[ 154 ]

اللهم ثبتنا على صراطك، وأقمنا على مرضاتك، إنك بالإعانة قدير وبالإجابة جدير. * الأصل: 7 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عمن ذكره، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبيه، قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: " إذا سمعتم العلم فاستعملوه ولتتسع قلوبكم، فإن العلم إذا كثر في قلب رجل لا يحتمله قدر الشيطان عليه، فإذا خاصمكم الشيطان فأقبلوا عليه بما تعرفون، فإن كيد الشيطان كان ضعيفا "، فقلت: وما الذي نعرفه ؟ قال: " خاصموه بما ظهر لكم من قدرة الله عز وجل ". * الشرح: (عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عمن ذكره، عن محمد بن عبد الرحمن ابن أبي ليلى، عن أبيه) وهو ممدوح مشكور، وصدوق مأمون، مات سنة ثمان وأربعين ومائة (1)، وعده الشيخ في كتاب الرجال من أصحاب أبي عبد الله (عليه السلام) وأبوه عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري الكوفي، من أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهو من خواصه، شهد معه مشاهده، وضربه الحجاج على


1 - اختلف المتأخرون في محمد بن عبد الرحمن، والشارح مدحه تبعا للعلامة وابن داود (رحمهما)، وأنكر ذلك أبو علي في منتهى المقال، فإنه بعد أن نقل عبارة الشارح هنا وذكر أن العلامة جعله في الممدوحين وابن داود كذلك، ونقل رواية ابن أبي عمير عنه قال: وكل هذا عجيب غريب، فإن نصب الرجل أشهر من كفر إبليس وهو من مشاهير المنحرفين، ومن أقران أبي حنيفة، وتولى القضاء لبني امية ثم لبني العباس برهة من السنين، كما ذكره غير واحد من المؤرخين، ورده شهادة جملة من أجلاء أصحاب الصادق (عليه السلام) غير مرة لأنهم رافضية مشهور، وفي كتب الحديث مذكور ويجب ذكره في الضعفاء، انتهى. وروي عنه في العيوب أنه رجع إلى محمد بن مسلم في جارية لم يكن على ركبها شعر، وأراد المشتري ردها بالعيب، وأنا لا أتجرأ على تخطئة العلامة وابن داود عليهما الرحمة. وتولي القضاء لهم وإن كان يوجب قدحا في الجملة كما مضى في ابن شبرمة لكن حيث قام الدليل على مدحه وجب حمله على الصحة ولا حجية في روايات استدل بها على نصبه. ويؤيد مدحه أنه لم يرو عنه البخاري ولا مسلم في صحيحيهما، وروى ابن أبي عمير عنه وأن أباه كان من خواص أمير المؤمنين (عليه السلام)، وقل أن يرجع أولاد الشيعة عن مذهب أبيهم ثم إن بعض الناس حكى ما نقل من قصة الجارية التي ردها المشتري عن أبي يوسف في شرح الحديث الأول من باب الرد إلى الكتاب والسنة، ولا عبرة به فإنه كثير المسامحة، وأما شهرة نصبه فلعلها كانت بين جماعة كان أبو علي يتردد إليهم وإلا فلم تكن تخفى على ابن داود والعلامة (رحمهما)، وأما رد شهادة جماعة من أصحاب الصادق (عليه السلام) فغير ثابت، بل نسب ذلك في بعض الروايات إلى شريك فدعا عليه الصادق (عليه السلام) بقوله: " شركه الله بشراك من النار "، فكأنه اشتبه شريك بابن أبي ليلى في أذهان بعض الرواة، لأن كليهما كان قاضيا فنسب ما سمعه بعد مدة إلى آخر. (ش) (*)

[ 155 ]

سبه حتى اسود كتفاه. (قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: إذا سمعتم العلم فاستعملوه) فيه دلالة ما على أن العلم المتعلق بالعمل ينبغي استماعه من أهله، وذلك لأن هذا العلم منوط بتعيين الواضع فلا بد من السماع منه ولو بواسطة، وعلى أنه ينبغي أن يكون مقرونا بالعمل، لأن العمل هو المقصود الأصلي منه، فمن طلبه ولم يعمل على مقتضاه فقد ضيع عمره فيما لا ينفعه، بل فيما هو حجة عليه وموجب لزيادة العقاب، وفي قوله: " فاستعملوه " إشعار بأنه يجب أن يكون المقرون بزمان الاستماع طلب العلم لا نفسه، لأن العمل قد يكون متأخرا عنه زمانا فينبغي للمؤمن قبل حضور وقت العمل القصد إلى فعله بعده وعلى أنه ينبغي أن لا يشتغل بطلب علم آخر قبل أن يعمل بما علمه. (ولتتسع قلوبكم) اتسع صار واسعا غير متضيق، أي لتصر قلوبكم واسعة قابلة لاحتمال العلم والعمل، قادرة على الإحاطة بهما غير عاجزة عن ضبطها. وفيه إرشاد للمتعلم إلى أنه ينبغي أن يقتصر في التعلم على قدر فهمه وضبطه ولا يطلب قبل تملكه ما يعجز عنه فهمه ويتكدر به ذهنه ولا يبلغ إليه عقله، فإن قلبه في أول الفطرة ميت خال عن العلوم كلها، وإنما يقبلها على سبيل التدريج حتى يصير نورا إلهيا ومصباحا ربانيا يشاهد به ما في عالم الملك والملكوت، وهذا كما قال بعض أصحاب الحال لمريده: ولتكن أنت حاكما على الحال، لا الحال حاكما عليك. (فإن العلم إذا كثر في قلب رجل لا يحتمله) أي يعجز عن احتماله واحتمال لما يتبعه من العمل، ويتحير فيه ويضعف عن الاحاطة به، وقوله: " لا يحتمله " صفة لقلب رجل أو لرجل. (قدر الشيطان عليه) بالاغواء والوسوسة بإلقاء الشبهات عليه فيما علمه وفي العمل به، وذلك لأن الرجل إذا تحير في العلوم ولم يعرف حقيقتها وحقيتها كان اقتدار الشيطان على تشكيكه فيها وفي العمل بها أكثر وأعظم من اقتداره على غيره والشرط والجزاء في محل الرفع على أنه خبر أن، ولما كان هنا مظنة شكاية بأن مخاصمة الشيطان وكيده لا يمكن دفعها مع العلم القليل الذي يتسع له القلب فإنه يشكك ويخاصم في تلك الحالة أيضا كما أنه يشكك ويخاصم في حال الاستكثار منه الذي لا يتسع القلب لاحتماله أشار (عليه السلام) إلى أن مخاصمة الشيطان لا أصل لها، ويمكن لكم رفعها بعلوم يقينية ومعارف قطعية وإن كانت قليلة بقوله: (فإذا خاصمكم الشيطان) في اصول العقائد وفروعها. (فاقبلوا عليه بما تعرفون، فإن كيد الشيطان كان ضعيفا) إذ كيده واعتماده على أضعف شئ وأوهنه عند من له أدنى معرفة وأدون تمييز فلا تبالوا به ولا تخافوه وأقبلوا عليه بما تعرفون من


[ 156 ]

العلوم المعتبرة في أصل الإيمان، فإن أدنى المعرفة يكفي لدفعه، وفيه ترغيب في محاربته وتشجيع على مقاتلته وتبشير بالغلبة عليه. (فقلت: وما الذي نعرفه ؟) حتى نخاصمه به، وفيه استقلال للمعرفة التي يقع بها التخاصم أو استفهام عنها. (قال: خاصموه بما ظهر لكم من قدرة الله عز وجل) في أنفسكم وفي خلق السموات والأرض، وما فيها من الأجرام العلوية والسفلية والمعادن الأرضية وغيرها، وفي تصديق النبي بالمعجزات والوصي بالكرامات. وهذا القدر من المعرفة التي هي كالأمر الضروري لحصوله بالمشاهدة لمن له أدنى تمييز كاف لمخاصمته ودفع كيده ومن تأمل يعلم أن هذا التعليم الذي صدر من معدن العلم النبوي حق وصدق، لأن كيد الشيطان إما متعلق بأحوال المبدأ والمعاد أو المعاش أو غير ذلك من الامور الدنيوية، وكل ذلك يمكن دفعه بالنظر إلى آثار القدرة الكاملة القاهرة على جميع الممكنات.


[ 157 ]

باب المستأكل بعلمه والمباهي به باب المستأكل بعلمه والمباهي به في الصحاح يقال: فلان ذو أكل إذا كان ذا خطر من الدنيا ورزق واسع والمأكل الكسب، وفلان يستأكل الضعفاء أي يأخذ أموالهم، والمراد من يجعل العلم آلة لأكله أموال الناس ويتخذه رأس مال يأكل منه ويتوسع به في معاشه (1). * الأصل: 1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى وعلي بن إبراهيم، عن أبيه جميعا، عن حماد بن عيسى، عن عمر بن اذينة، عن أبان بن أبي عياش، عن سليم بن قيس قال: سمعت أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " منهومان لا يشبعان: طالب دنيا وطالب علم، فمن اقتصر من الدنيا على ما أحل الله له سلم، ومن تناولها من غير حلها هلك، إلا أن يتوب أو يراجع، ومن أخذ العلم من أهله وعمل بعلمه نجا، ومن أراد به الدنيا فهي حظه ".


1 - فإن قيل: وضع كثير من العلوم وتدوينها لحوائج الدنيا ولا يتعلمها أحد إلا للتوسع في المعاش كالطب والحساب والأدب والرياضيات وإن كان قد يستفاد منها في العلوم الدينية فهل يحرم تعلمها بقصد الدنيا ؟ قلنا: العلم المبحوث عنه في الحديث والذي يتبادر الذهن إليه من الروايات هو علم الدين وهو الذي يحرم التوسل به إلى الدنيا، لا الذي وضع للدنيا، وعلم الدنيا أيضا يجب أن لا يكون مقرونا بالحرص والنهمة وعدم التميز بين الحلال والحرام. وبالجملة العلوم المتعلقة بالدنيا ليست محرمة ولا مرغوبا عنها ولا يحرم طلب الدنيا والمعاش بها باعتدال، ولكن ليست مما بعث لترويجها الأنبياء. فإن قيل: روي في الحديث النبوي، كما مر، أن علم ما سوى الكتاب والسنة فضل ؟ قلنا: لا يدل الفضل على الحرمة، بل المراد أن الفرض الواجب على كل أحد هو علم الدين، إذ يحتاج إليه القروي والبدوي والمتوحش والمتمدن والطبيب والمهندس، وكل ذي صنعة في صنعته، بمنزلة الستة الضرورية كالهواء والماء لحياة الحيوان، وأما سائر العلوم فنفل وزيادة ليس احتياج الإنسان إليه إلا كاحتياجه إلى التجملات وما يفيده في وقت دون وقت، وبعضهم دون بعض، وبذلك يندفع اعتراض الملاحدة على دين الإسلام بأن نبيهم حصر العلم في القرآن والحديث ومنع من هذه العلوم التي اخترعها البشر وقال: إنها فضل فإنه (صلى الله عليه وآله) لم يمنع منها بل جعل المهم علم الدين وجعلها بعده مرتبة ولو كان علم الدنيا أهم لبعث بها الأنبياء. (ش) (*)

[ 158 ]

* الشرح: (محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى وعلي بن إبراهيم، عن أبيه جميعا، عن حماد بن عيسى، عن عمر بن اذينة، عن أبان بن أبي عياش، عن سليم بن قيس قال: سمعت أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): منهومان لا يشبعان) المنهوم من النهم بالتحريك، وهو إفراط الشهوة في الطعام، وأن لا يمتلي عن الأكل ولا يشبع، نهم كفرح وعني فهو نهم ونهيم ومنهوم، أي به جوع شديد وشهوة مفرطة في الأكل لا من النهم بفتح النون وسكون الهاء، وهو بلوغ النهمة في الأمر والولوع به، لأن " لا يشبعان " لا يناسبه كثيرا، والمراد بالمنهومان طالب دنيا وطالب علم، كما وقع التفسير بهما على سبيل التوسع، ففيه استعارة تحقيقية وترشيح بذكر ما يلائم المشبه به، وهو " لا يشبعان ". (طالب دنيا) زائدا على قدر الحاجة والكفاف، لأن من طلب الدنيا زائدا على قدر الحاجة والكفاف كان ذلك لشدة حرصه على جمع زخارفها وطول أمله في تحصيل ما يتصور منها وكمال محبته لها بنفسها، فهو منهوم لا يشبع بتناول مرتبة من مراتبها، بل كلما حصلت له مرتبة اقتضى الحرص وطول الأمل بتناول مرتبة من مراتبها، بل كلما حصلت له مرتبة اقتضى الحرص وطول الأمل تناول مرتبة اخرى فوقها، وهكذا دائما إلى أن يموت جوعا. (وطالب علم) لأن ساحة العلوم أوسع من أن يحول حولها عقول البشر وشامخ المعارف أرفع من أن يطير فوقها طائر النظر، كما دل عليه قوله تعالى: * (وفوق كل ذي علم عليم) *، فكل من طلب العلم لتكميل النفس بما يمكن لها من الكمالات فهو منهوم لا يشبع بتناول مرتبة من مراتبه، بل كلما حصلت له مرتبة يستعد لتناول اخرى، وهكذا دائما إلى أن يتناول المرتبة التي هي غاية المراتب الممكنة له، ثم كل واحد منهما ينقسم إلى قسمين: أحدهما سالم ناج، والآخر خاسر هالك. أما الأول فلأنه إن طلب الدنيا من الوجوه المشروعة فهو سالم وإن طلبها من غيرها فهو هالك، وإليهما أشار بقوله: (فمن اقتصر من الدنيا على ما أحل الله له سلم) أي من اقتصر من تحصيل الدنيا على طريق اكتساب ما أحله الله له سلم من آفات الدنيا وعقوبات الآخرة، وإن كان فيه شهوة وميل إليها لأن جمع الدنيا من ممر الحلال حلال لا عقوبة فيه. (ومن تناولها من غير حلها) أي من غير الطرق التي أحل الله له الاكتساب منها كالغصب والنهب والسرقة والكذب إلى غير ذلك من الطرق المذمومة. (هلك) لاستحقاقه العقوبة والعذاب بخروجه عن طريق العدل في الاكتساب.


[ 159 ]

(إلا أن يتوب) إلى الله تعالى بالندم على ما فعل، والعزم على عدم العود إلى مثله، فإنه تعالى يقبل التوبة عن عباده وينجيهم من الهلاك إن وقع الظلم في حقه. (أو يراجع) من ظلمه ويرضيه إن وقع الظلم في حق الناس، ويحتمل أن يكون الترديد من الراوي، ويبعد أن يكون " أو " بمعنى الواو للتفسير، وقيل: يراجع على البناء للمفعول يعني إلا يراجعه الله بفضله وينجيه من الهلاك بدون توبته بمجرد التفضل، أو على البناء للفاعل يعني إلا أن يراجع الله ذلك المتناول من غير الحل، ويكون كثير المراجعة إليه سبحانه بالطاعات وترك أكثر الكبائر من المعاصي، فيرجع الله عليه بفضله لاستحقاقه له بكثرة المراجعة إلى الله تعالى فينجيه من الهلاك. وأما الثاني فلأنه إن طلب العلم من أهله وعمل به لقصد التقرب من الله تعالى وطلب علو الدرجة في الآخرة فهو ناج وإن طلبه للدنيا وجعله آلة للرئاسة فيها وجمع زخارفها فهو هالك وإليهما أشار بقوله: (ومن أخذ العلم من أهله وعمل بعلمه نجا) يعني من أخذ العلم من أهل العلم وهو النبي والوصي والتابع لهما في العلم ولو بوسائط وعمل بما يقتضيه علمه نجا من العقوبات الاخروية ومن كل ما يمنعه من التقرب من الحضرة الأحدية ويحبسه في سجن الطبيعة البشرية، فإنه حينئذ نور ساطع من ساحة القدس وضوء لامع من افق الحق ليس بينه وبين ما أعد الله للعلماء العاملين حجاب إلا هذه الحياة الفانية. (ومن أراد به الدنيا فهي حظه) يعني من أراد بعلمه وإن أخذه من أهله طلب الدنيا وجعله وسيلة إلى جمع زخارفها بالتقرب من الجبارين والتعزز عند الظالمين وجلب النفع من الفاسقين والتفوق على العالمين فهي حظه ونصيبه وثمرة علمه وماله في الآخرة من نصيب، لأن الزارع في الدنيا للدنيا يحصد زرعه فيها لا في الآخرة، ويدل على حكم هذين القسمين قوله تعالى: * (من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب) *. * الأصل: 2 - الحسين بن محمد بن عامر، عن معلى بن محمد، عن الحسن بن علي الوشاء، عن أحمد بن عائذ، عن أبي خديجة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " من أراد الحديث لمنفعة الدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب، ومن أراد به خير الآخرة أعطاه الله خير الدنيا والآخرة ".


[ 160 ]

* الشرح: (الحسين بن محمد بن عامر، عن معلى بن محمد، عن الحسن بن علي الوشاء، عن أحمد بن عائذ، عن أبي خديجة) اسمه سالم بن مكرم الجمال. قال الشيخ الطوسي في موضع: هو ضعيف (1)، وقال في موضع آخر: هو ثقة. وقال النجاشي: هو ثقة ثقة. وقال العلامة: والوجه عندي التوقف فيما يرويه لتعارض الأقوال فيه. (عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من أراد الحديث لمنفعة الدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب) إما مطلقا أو من أجل تحمل الحديث، وهذا تبعيد له من الفوز بالرحمة الإلهية والوصول إلى النعمة الاخروية، وتوقع ما أعد الله سبحانه لطلبة العلم من المقامات الرفيعة والدرجات العلية، لأنه بدل بسوء اختياره وقلة اعتباره وغلبة شهوته وضعف عقيدته النعماء الدائمة الباقية بالزهرات الزائلة الفانية حتى جعل ما هو باعث لطلب الدين وسبب لتحصيل اليقين آلة الدنيا ورذائلها وسبب لجمع زخارفها وباطلها، فلا جرم صار بتلك المعاملة الرديئة والمعاوضة الشنيعة محجوبا عن مشاهدة الأنوار الربوبية والفوز بالسعادة الاخروية. (ومن أراد به خير الآخرة أعطاه الله خير الدنيا والآخرة) أما خير الآخرة فلأنه لما عمل في الدنيا للآخرة وسعى لها سعيها كان سعيه مشكورا، لأن الله سبحانه لا يضيع عمل عامل ولديه مزيد، وأما خير الدنيا فلأن رزق الله يأتي عباده طلبوه أو تركوه والعزة والاعتبار بين الناس تابعان للفضيلة وإن لم يتعلق القصد بهما، لأن الله تعالى خلق قلوب عباده على تعظيم العلم وأهله وإن لم يكونوا من أهله. * الأصل: 3 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن القاسم بن محمد الاصبهاني، عن المنقري، عن حفص بن غياث، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " من أراد الحديث لمنفعة الدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب ". * الشرح: مر شرحه مفصلا في الحديث السابق. * الأصل: 4 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن القاسم، عن المنقري، عن حفص بن غياث، عن أبي


1 - وجه ضعفه أنه كان مع أبي الخطاب، ولما أراد السلطان قتله ودخلوا عليه وعلى أصحابه في المسجد ووضعوا فيهم السيف وجرح أبو خديجة تماوت فتركوه وخرج وسلم منه. (ش) (*)

[ 161 ]

عبد الله (عليه السلام) قال: " إذا رأيتم العالم محبا لدنياه فاتهموه على دينكم، فإن كل محب لشئ يحوط ما أحب ". وقال (صلى الله عليه وآله): " أوحى الله إلى داود (عليه السلام): لا تجعل بيني وبينك عالما مفتونا بالدنيا فيصدك عن طريق محبتي، فإن اولئك قطاع طريق عبادي المريدين، إن أدنى ما أنا صانع بهم أن أنزع حلاوة مناجاتي عن قلوبهم ". * الشرح: (علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن القاسم، عن المنقري، عن حفص بن غياث، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا رأيتم العالم محبا لدنياه) يعرف محبته لها بميله إليها ووثوقه بها واعتماده عليها بحيث لو فاتته تألم وجزع ولو أتته نشط وفرح، ولا يبالي من أين تأتيه. (فاتهموه على دينكم) أي اجعلوه متهما على الدين ضعيفا في اليقين بعيدا عن معرفة حقيقته (1) والأخذ بطريقته، واعتقدوا أن كل فعله مطابق لقوله، وكل قوله ناظر إلى امور الدنيا وفوائدها مائل عن الآخرة ومنافعها، فلا تتبعوه في أقواله وأعماله ولا تجالسوه ولا تسألوه فإنكم إن جالستموه يردكم إلى الدنيا فتكونوا مثله من الخاسرين وإن سألتموه يصدكم عن الحق فتكونوا مثله من الهالكين. (فإن كل محب لشئ يحوط ما أحب) أي يحفظ ويرعى ما أحبه، يقال: حاطه يحوطه حوطا، أي كلاه ورعاه. والحاصل: أن هذا العالم يحرس الدنيا ويحفظها، وكل من هو كذلك فهو متهم في الدين في كل ما يقول ويعمل، لأن حب الدنيا وحراستها لا يجامع حب الدين وحراسته في قلب واحد، إذ ميله إلى أحد المتقابلين يوجب إعراضه عن الآخر، كما يرشد إليه قول أمير المؤمنين (عليه السلام): " فمن أحب الدنيا وتولاها أبغض الآخرة وعادها " (2)، فهذا العالم أيضا متهم في الدين فصح التعليل.


1 - ظاهره يدل على عدم جواز تقليد من يحب الدنيا وإن لم يعلم منه الفسق، لأن حب الدنيا مظنة له وإن لم يكن بنفسه فسقا، ووجهه أن العدالة وضدها من الامور الباطنة التي يعسر الاطلاع عليها إلا بالظن فإذا حصل من بعض العلامات العلم بالعدالة لا تعارضه هذه الأمارة المفيدة للظن النوعي، وأما إذا اريد إثبات العدالة بالأمارات الظنية فحب الدنيا من الامارات المانعة عن حصول الظن بالعدالة. واعلم أن الرجوع إلى العالم إما في اصول الدين فللتعلم بالبرهان المناسب للسائل، وإما في الفروع فلتقليده فيها، وإما في الأخلاق فللتخلق بالأخلاق الحسنة بالمعاشرة. وتعلم العبادات والتأدب بآداب الدين وتذكر ما يغفل عنه الإنسان من الالتزام بلوازم الإيمان والتأثر بمواعظ الله ومواعظ أوليائه فإن استقرار الإيمان واطمئنان القلب بالتكرار. (ش) 2 - النهج - قسم الحكم والمواعظ، تحت رقم 103. (*)

[ 162 ]

(وقال (صلى الله عليه وآله): أوحى الله إلى داود (عليه السلام): لا تجعل بيني وبينك عالما مفتونا بالدنيا) يعني لا تتوسل لمعرفتي وإحساني بعالم مفتون أضلته الدنيا بزهراتها وأخرجته عن طريق محبتي بشهواتها وحبسته عن مشاهدة جلالي بلذاتها. (فيصدك عن طريق محبتي) أي يمنعك عن طريق يوصلك إلى محبتك إياي ومحبتي لك ويرغبك إلى الدنيا وزينتها فتصير مفتونا بها مثله. (فإن اولئك) هم المفتونون بالدنيا البعيدون عن الرحمة. (قطاع طريق عبادي المريدين) لمحبتي الطالبين لكرامتي القاصدين لسبيل مرضاتي، فإن اولئك يزينون الدنيا عندهم، ويرغبونهم إليها قولا وفعلا، ويمنعونهم من الرجوع إلى عالم إلهي ونحرير رباني، ولو لم يكن اولئك الضالون المضلون السارقون اسم العلم وزي العلماء جالسين في مسند الشرع وداعين للخلق إلى مفترياتهم لجال الناس إلى أن يجدوا هاديا مسددا وعالما مؤيدا. (إن أدنى ما أنا صانع بهم أن أنزع حلاوة مناجاتي عن قلوبهم) وكيف تكون قلوبهم قابلة لذوق مناجاته وهي مشغولة بغيره ملوثة بحب الدنيا وزينتها متنجسة بفضلة النفاق والعناد مظلمة بظلمة إضلال العباد ؟ ! والنجوى السر بين اثنين، يقال: نجوته نجوا أي ساررته، وكذلك ناجيته وهو إنما يكون بين المحبين فحلاوة مناجاته تعالى تابعة لمحبته ولا يوازيها شئ من نعمائه عند الصديقين الذين خلصوا من مقتضيات سجيتهم ومشتهيات طبيعتهم وأخذت العناية الأزلية والسعادة الأبدية زمام قلوبهم فبذلوا المجهود في السير إلى الله ولزوم أوامره ونواهيه وبالغوا في تصفية بواطنهم وصقال ألواح نفوسهم وإلقاء حجب الغفلة وأستار الحياة البدنية عنهم حتى أشرقت عليهم شموس المعارف الإلهية وسالت في أودية قلوبهم مياه المحبة الربانية، فإنهم يعدون نزع حلاوة المناجاة من ذائقة قلوبهم طرفة عين من أشد العذاب، وإذا كان نزعها أدنى ما يصنع بهؤلاء الظالمين فماذا قدر أعلاه (1) ؟ سبحانك نحن عبادك ولا ناصر لنا غيرك فانصرنا وثبت أقدامنا على صراطك إنك قريب مجيب.


1 - إن الإنسان يفتن بالدنيا فتكون السعادة عنده جمع المال وتحصيل الجاه والتلذذ باللذات الدنيوية، ومن كان هذا غاية غرضه ونهاية مقصوده لا يرى في السير إلى الله والمعارف الحقة سعادة أبدا، بل ليس تعبه في العلم إلا للمال والجاه وإن لم يحصلا له عد نفسه شقيا محروما ولا يزال محزونا على ما فاته، فإن كانت له الدنيا شغلته بوجودها وإن لم تكن شغلته بعدمها، ولا فراغ له للمناجاة، بل وإن توجه إلى الله تعالى فليس همه إلا الدعاء لطلب المال والجاه. (ش) (*)

[ 163 ]

* الأصل: 5 - علي، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " الفقهاء امناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا "، قيل: يا رسول الله، وما دخولهم في الدنيا ؟ قال: " اتباع السلطان، فإذا فعلوا ذلك فاحذروهم على دينكم ". * الشرح: (علي، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): الفقهاء امناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا، قيل: يا رسول الله، وما دخولهم في الدنيا ؟ قال: اتباع السلطان) يعني اتباع السلطان الجائر في أقواله وأعماله وأوامره ونواهيه، والركون إليه، وفعل ما يوجب رضاه ليتوصل به إلى تحصيل الجاه والأموال، ويترفع على الأقران والأمثال، ويصير مشارا إليه بين الخواص والعوام، ومدارا عليه بين الأوباش واللئام. (فإذا فعلوا ذلك فاحذروهم على دينكم) أي تحرزوا منهم محافظة على دينكم واستيقظوا من مكرهم واغتيالهم (1)، وخافوا من كيدهم وإضلالهم فلا تراجعوهم ولا تسألوهم عن العلوم الدينية لئلا يردونكم عن دينكم فتنقلبوا خاسرين. وفيه تحذير على اتباع أهل البدع والجائرين وتخويف عن الاقتداء بالعلماء الفاسقين، لأن جورهم على غيرهم أقرب وأولى من جورهم على أنفسهم، ومن كان بهذه الصفة فهو لا يستحق الخلافة النبوية والإمامة الدينية والدنيوية. * الأصل: 6 - محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن حماد بن عيسى، عن ربعي بن عبد الله، عمن حدثه، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: " من طلب العلم ليباهي به العلماء، أو يماري به السفهاء، أو يصرف به وجوه الناس إليه فليتبوأ مقعده من النار، إن الرئاسة لا تصلح إلا لأهلها ". * الشرح: (محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن حماد بن عيسى، عن ربعي بن عبد الله، عمن


1 - ولعل من يتبع السلطان ويعاشره لم يكن هذا عليه حراما، بل ربما كان واجبا لدفع مظلمة عن مظلوم أو لهداية السلطان إلى المذهب الحق، وقد ثبت في محله أن الولاية من قبلهم جائزة، ولكن أمر الناس بأن يتهموه لعدم علمهم بدخلة أمره، وكما يمكن أن تكون معاشرته معهم لمصلحة مشروعة راجحة يمكن أن تكون لتحصيل الدنيا. وبالجملة: هذا مظنة الشر والفساد، والكلام فيه كالكلام في حب الدنيا والإقبال عليها، فإن علم بالقرائن والامارات عدالته وصلاح قصده في معاشرة السلطان فهو وإلا فإن اريد الاعتماد على الظن فنفس الاتباع من أمارات الفساد، وهذه الروايات وأمثالها تدل على جواز تقليد العالم المأمون، وإن كان التقليد لا يحتاج إلى دليل لفظي. (ش) (*)

[ 164 ]

حدثه، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: من طلب العلم ليباهي به العلماء) أي ليفاخر به العلماء ويغلبهم ويتعظم عليهم بمأثرة العلم ومكرمته. (أو يماري به السفهاء) أي يجادل به السفهاء، وينازع به الجهلاء الظاهرين في زي العلماء والعاجزين عن استعمال القوة الفكرية على نحو ما ينبغي، وذلك ليقول العوام: إنه عالم فاضل ماهر في العلم مبارز في المناظرة غالب في المباحثة، وإنما ذكر (عليه السلام) مفاخرته بالنسبة إلى العلماء ومجادلته بالنسبة إلى السفهاء لأن العلماء يسكتون إذا بلغت المباحثة إلى حد المجادلة لعلمهم بقبحها، فتبقى له المفاخرة عليهم بالغلبة والاسكات، بخلاف السفهاء فإنهم لا يبالون بالمجادلة ولا يعلمون قبح المناقشة والمنازعة، فيقولون كما يقول ولا يسكتون تحرزا عن الالزام وإن قام بينهما القتال والجدال. (أو يصرف به وجوه الناس إليه) طلبا للحكومة بينهم والرئاسة عليهم، وقصدا إلى الغلبة والاشتهار، وتحصيلا للتفوق والاعتبار. (فليتبوأ مقعده من النار) فليهيئ وليعد منزله من النار، يقال: تبوأ منزلا إذا هيأه أو فلينزل منزله من النار، يقال أيضا: بوأه الله منزلا أي أسكنه إياه، وتبوأ منزلا أي نزل فيه وسكنه، وفيه وعيد لمن طلب العلم للأغراض الدنيوية ومنافعها، وإنما ذكر هذه الثلاثة لأن غيرها من الأغراض الفاسدة على تقدير تحققه يعود إليها، ثم أشار إلى التعليل للوعيد المذكور بقوله: (إن الرئاسة لا تصلح إلا لأهلها) وهم الفائزون بالنفوس القدسية، والعالمون بالقوانين الشرعية، والعاملون بالسياسات المدنية، والمتصفون بالملكات العدلية، والآخذون بزمام نفوسهم وقواها في سبيل الحق على نحو ما تقتضيه البراهين الصحيحة العقلية والنقلية. وبالجملة: إنما تصلح الرئاسة لمن يكون: حكيما عليما شجاعا عفيفا سخيا عادلا فهيما ذكيا ثابتا ساكنا متواضعا رقيقا رفيقا حييا سليما صبورا شكورا قنوعا ورعا وقورا حرا عفوا مؤثرا مسامحا صديقا وفيا شفيقا مكافيا متوددا متوكلا عابدا زاهدا موفيا محسنا بارا فائزا بجميع أسباب الاتصال بالحق، مجتنبا عن جميع أسباب الانقطاع عنه، فمن اتصف بهذه الفضائل وانقطع عن أضدادها من الرذائل وقعت الالفة بين عقله ونفسه وقواه، فيصير كل ما فيه نورا إلهيا، وتحصل لاجتماع هذه الأنوار هيئة نورانية يشاهد بها ما في عالم الملك والملكوت وينتظم بها نظام أحواله ويستحق الخلافة الإلهية والرئاسة البشرية في عباده وبلاده، ووجب عليهم الرجوع إليه في امور الدين والدنيا وأخذ العلوم منه والتسليم لأمره ونهيه والاتباع لقوله وفعله، ومن لم يبلغ إلى هذه الدرجة ولم ينزل في هذه المنزلة والمرتبة وتقلد أمر الرئاسة فهو من الجبت والطاغوت، حسبي الله ونعم الوكيل.


[ 165 ]

باب لزوم الحجة على العالم باب لزوم الحجة على العالم وتشديد الأمر عليه * الأصل: 1 - علي بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن القاسم بن محمد، عن المنقري، عن حفص بن غياث، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال: " يا حفص، يغفر للجاهل سبعون ذنبا قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد ". * الشرح: (علي بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن القاسم بن محمد، عن المنقري، عن حفص بن غياث، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال: يا حفص، يغفر للجاهل سبعون ذنبا قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد) إخبار بأنه قد تقع المساهلة في حق الجاهل دون العالم، والمقصود أنه يغفر للجاهل ذنوب كثيرة قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد، لأن العرب كثيرا ما تعبر بهذا العدد عن الكثرة، ويحتمل أن يراد هنا خصوص هذا العدد أيضا. والوجه فيه على التقدرين أنه قد تقرر في الحكمة العملية أن فعل الواحد قد يقع في مقابل أفعال كثيرة كحسن تدبير صاحب العسكر، فإنه يقع في مقابل محاربتهم ومقاتلتهم جميعا، بل قد يزيد ويغلب على أفعال كثيرة كسوء تدبيره، فإنه يغلب على أفعال العسكر ومقاتلتهم حتى أنهم يقتلون به جميعا وذلك إما لقوة سببه، أو لعظمة آثاره المترتبة عليه، أو لغير ذلك من الامور الخارجة عنه، إذا عرفت هذا فنقول: ذنب العالم في مقابل ذنوب كثيرة من الجاهل وأعظم منها بمراتب لقوة سببه وعظمة آثاره. أما الاولى فلأن ذنبه منبعث من شدة شوقه وميله إليه وقوة عزمه له وشدة قوته الشهوية والغضبية وكمال انقياده وإطاعته لهما حتى تغلب هذه الأسباب الوهمية والخيالية على قوته النظرية العاقلة العالمة بالقبح والشناعة وتعمى بصيرتها فسبب ذنبه أعظم من سبب ذنب الجاهل، إذ الجاهل يكفيه أدنى سبب لعدم المعارف. وأما الثانية فلأن أثر ذنبه - وهو مخالفة الباري المعروف عنده بصفاته وقدرته وجبروته وغلبته وغضبه وعلمه بجميع المعلومات كليها وجزئيها إلى غير ذلك من آثاره سبحانه - أعظم جدا من أثر ذنب الجاهل، لأنه لم يعرف سبحانه مثل معرفة العالم، وإنما سمع شيئا ولم يعرف حقيقته، وإذا تفاوتت الأسباب والآثار قوة وضعفا تفاوتت الأفعال أيضا لذلك فبهذا الاعتبار ذنب العالم يقابل ذنوبا


[ 166 ]

كثيرة من الجاهل. * الأصل: 2 - وبهذا الإسناد قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام) قال عيسى بن مريم على نبينا وآله وعليه السلام: " ويل لعلماء السوء كيف تلظى عليهم النار ! ". * الشرح: (وبهذا الإسناد قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام) قال عيسى بن مريم على نبينا وآله وعليه السلام: ويل لعلماء السوء) الويل: كلمة عذاب، تقول: ويل لزيد وويلا لزيد بالرفع والنصب، فالرفع على الابتداء والنصب على إضمار الفعل، هذا إذا لم تضفه، فإذا أضفته مثل ويله وويلك فليس إلا النصب، لأنك لو رفعته فليس له خبر. وقيل: الويل واد في جهنم لو ارسلت فيه الجبال لماعت من حره. والسوء بالفتح مصدر يقال: ساءه يسوؤه سوءا نقيض سره وبالضم الاسم تقول: هذا رجل سوء بالاضافة، ثم تدخل عليه الألف واللام وتقول: هذا رجل السوء. وقال الأخفش: ولا يقال: الرجل السوء، ويقال: الحق اليقين وحق اليقين، لأن السوء بالرجل واليقين هو الحق، وقال أيضا: لا يقال: هذا رجل السوء بالضم، فعلى هذا ينبغي أن يقرأ لعلماء السوء بالإضافة والفتح وما وجد في بعض النسخ: للعلماء السوء على التعريف والوصف فكأنه سهو من الناسخ، وقد يوجه بأن التركيب ليس من باب التوصيف، بل من باب إضافة العامل إلى المعمول مثل الضارب الرجل باعتبار تعلق علم العالم بالسوء كتعلق ضرب الضارب بالرجل. وفيه: أن المقصود ذم العلماء باعتبار اتصافهم بالسوء لا باعتبار علمهم به، والقول بأن التركيب وإن كان من باب الإضافة لكنه هنا في معنى التوصيف، أي المضاف موصوف بالمضاف إليه لا يخلو عن شئ، لأن التركيب الإضافي من حيث الإضافة وملاحظتها لا يدل على اتصاف المضاف بالمضاف إليه وإرادة الاتصاف بدون دلالة التركيب لا يجدي نفعا، فليتأمل. (كيف تلظى عليهم النار ؟) أي كيف تضطرم وتلتهب عليهم النار ؟ وتلظى أصله تتلظى حذفت إحدى التاءين للتخفيف من لظى، وهو اسم النار، واسم من أسماء جهنم أيضا، لا ينصرف للعلمية والتأنيث، و " كيف " ليس للاستعلام عن حالهم، بل للإعلام بشناعتها وفظاعتها وشدائدها، بحيث لا يمكن تصورها. ثم الظاهر أن المراد بالنار معناها الحقيقي، ويمكن أن يراد بها نار ألم الفراق بعد المفارقة عن الدنيا وانكشاف قبح السوء وآثاره على سبيل الاستعارة التحقيقية والترشيح، لأن الألم من باب الإدراك، وكلما كان الإدراك أقوى وأشد كان الألم كذلك، ولا ريب في أن إدراك العالم لشدائد الفراق أقوى من


[ 167 ]

إدراك الجاهل لها، فلذلك كان التهاب نار الفراق على العالم أعظم وأشد منه على الجاهل. * الأصل: 3 - علي بن إبراهيم، عن أبيه ومحمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان جميعا، عن ابن أبي عمير، عن جميل بن دراج، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: " إذا بلغت النفس هاهنا - وأشار بيده إلى حلقه - لم يكن للعالم توبة، ثم قرأ: * (إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة) * ". * الشرح: (علي بن إبراهيم، عن أبيه ومحمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان جميعا، عن ابن أبي عمير، عن جميل بن دراج، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: " إذا بلغت النفس هاهنا) النفس بالتحريك واحد الأنفاس، وهو ما يخرج من الحي حال التنفس، وبالتسكين الروح، وكلاهما مناسب. (وأشار بيده إلى حلقه) يعني قبل معاينة عالم الغيب قريبا من انقطاع زمان التكليف متصلا به. (لم يكن للعالم توبة) لتشديد الأمر عليه وعدم المساهمة معه في كثير من الامور وقبول توبته في هذا الوقت من جملتها، ويدل على هذا التفصيل ما يأتي (1) في باب ما أعطى الله تعالى آدم (عليه السلام) وقت التوبة " عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن جميل، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: " إذا بلغت النفس هذه - وأهوى بيده إلى حلقه - لم يكن للعالم توبة، وكانت للجاهل توبة "، ويبعد أن يراد بالعالم العالم بموته وبالجاهل الجاهل به، كما زعم، وقيل: الفرق بينهما أن ذنوب العالم امور باطنية وصفات قلبية وملكات ردية نفسانية لا يمكن محوها عن النفس دفعة في مثل هذا الزمان القليل، بل لا بد من مرور زمان يتبدل سيئاته إلى الحسنات، بخلاف ذنوب الجاهل الناقص فإنها من الأعمال البدنية والأحوال النفسانية الخارجة عن صميم القلب وباطن الروح فيمكن محوها في لحظة. (ثم قرأ: * (إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة) *) بعده * (ثم يتوبون من قريب فاولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما) * يعني قبول التوبة واجب على الله (2)


1 - في كتاب الإيمان والكفر. 2 - والحق عندنا: أن قبول التوبة تفضل من الله تعالى وليس بواجب، ولو كان واجبا لم يتأخر قبوله عن * (الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت) * لوجود المناط قبله، قد روي في بعض الروايات أنه لم يقبل توبتهم إلا بعد سبعة عشر يوما، إلا أن رحمة الله اقتضت أن يتفضل على الامة المرحومة في غالب الأمر على قبول توبتهم، وأيضا لو كان واجبا عقلا لم يكن فرق في الوجوب بين هذه الامة والامم السالفة ولأمكن قبول توبة بعض الأشقياء، فراجع شرح التجريد وسائر كتب الكلام، = (*)

[ 168 ]

للذين يعملون السيئات جاهلين أو متلبسين بالجهالة ثم يتوبون من زمان قريب بزمان حضور الموت ومعاينة أمر الآخرة. ثم أكد ذلك الحكم وأخبر بالوفاء بوعده المستفاد من قوله: * (إنما التوبة) * فقال: * (فاولئك يتوب الله عليهم) * أي قبل توبتهم * (وكان الله عليما) * بإخلاصهم بالتوبة * (حكيما) * لا يعذب التائب. والاستشهاد في قوله: " بجهالة " فإنه يفهم منه أن قبول التوبة في هذا الوقت القريب من الموت للجاهل دون العالم، وإلا لما كان لذكر الجهالة فائدة، وأما قبول التوبة قبل هذا الوقت فغير مختص بالجاهل لقيام الأدلة على قبولها من العالم أيضا، ومما قررنا ظهر اندفاع ما نقل عن الفاضل الشوشتري من أن في هذا الاستشهاد - يعني الاستشهاد بالآية - شيئا، ولعله ليس من الإمام (عليه السلام) أو يكون له معنى آخر غير ما نفهمه، انتهى، فتأمل. * الأصل: 4 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسين بن سعيد، عن النظر بن سويد، عن يحيى الحلبي، عن أبي سعيد المكاري، عن أبي بصير، عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله عز وجل: * (فكبكبوا فيها هم والغاوون) * قال: " هم قوم وصفوا عدلا بألسنتهم ثم خالفوه إلى غيره ". * الشرح: (محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسين بن سعيد) هو الحسين بن سعيد بن مهران الأهوازي مولى علي بن الحسين (عليهما السلام)، فقيه، جليل القدر (1). (عن النظر بن سويد) كوفي، ثقة، صحيح الحديث. (عن يحيى الحلبي) هو يحيى بن عمران بن علي بن أبي شعبة الحلبي، كانت تجارته إلى حلب فنسب إليه، وهو كوفي ثقة ثقة، صحيح الحديث. (عن أبي سعيد المكاري) اسمه هشام بن حيان الكوفي، لم يذمه أحد من أصحاب الرجال، وليس في كتبهم أيضا مدحه، وقيل في رواية الحلبي: وهو صحيح الحديث عنه دلالة على كونه ممدوحا، ولا يخفى ما فيه.


= وذكرنا في حواشي مجمع البيان وبعض كتب التفسير ما يتعلق بذلك. (ش) 1 - يعني أن مهران كان مولى لعلي بن الحسين (عليهما السلام)، وحسين بن سعيد هذا فقيه صنف ثلاثين كتابا عدها النجاشي، وهو في الشيعة معاصر للبخاري ومسلم، وكانت كتبه مشهورة بين أسلافنا نظير الصحيحين، وكان أخوه الحسن مشاركا معه في التصنيف، والذي يظهر من النجاشي أنه كان في نسخة كتبه بعض الاختلاف، والمعتمد هو نسخة أحمد بن محمد بن عيسى وروايته قال: فيجب أن يروي كل نسخة من هذا بما رواه صاحبها فقط ولا يحمل رواية ولا نسخة على نسخة لئلا يقع فيها اختلاف. (ش) (*)

[ 169 ]

(عن أبي بصير، عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله عز وجل: * (فكبكبوا فيها هم والغاوون) *) في الصحاح: كبه لوجهه، أي صرعه، فأكب هو على وجهه، وكبكبه، أي كبه، ومنه قوله تعالى: * (فكبكبوا فيها هم والغاوون) *. وقال القاضي: الكبكبة تكرير الكب لتكرير معناه، كأن من القي في النار منكب مرة بعد اخرى حتى يستقر في قعرها، والغاوون أي الضالون الخائبون من الغي وهو الضلال والخيبة، عطف على ضمير الجمع المتصل لتأكيده بالمنفصل. (قال: هم قوم وصفوا عدلا بألسنتهم) أي ضمير الجمع المتصل قوم من العلماء المائلين إلى الدنيا ولذاتها والتابعين للنفس الأمارة وشهواتها الذين وصفوا عدلا، أي نواميس إلهية وشرائع نبوية وبينوه للناس بألسنتهم وإطلاق العدل عليها شائع في الحكمة العملية، لأنها تأمر بالوسط الذي هو صراط الحق وتنهى عن الجور الذي هو سلوك أحد طرفي الافراط والتفريط، ومن زعم أن هذا التفسير أولى من تفسير المفسرين لهم بالآلهة وعبدتهم لأن ضمير الجمع للعقلاء بخلاف قوله تعالى: * (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم) * لجواز أن يكون وما تعبدون أصناما آلهة ورد عليه: أنه لا منافاة بين التفسيرين، لأن إطلاق الآلهة على العلماء شرعا باعتبار الطاعة والانقياد لهم في أفعالهم وأعمالهم والاستماع إلى أقوالهم شائع، وقد دل عليه قوله تعالى: * (واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) *، ودلت عليه الروايات المعتبرة. (ثم خالفوه إلى غيره) أي ثم خالفوا العدل لعدم استقراره في قلوبهم ومالوا إلى الجور واتبعوا القوة الوهمية والنفس الأمارة ومشتهياتهما واقتفوا القوة الشهوية والقوة الغضبية ومقتضياتهما، وهؤلاء أشباه العلماء وليسوا بمتصفين بالعلم والحكمة حقيقة، لأن العلم مقرون بالعمل، كما مر مرارا، ولذلك قال سقراط (1): إذا أقبلت الحكمة خدمت الشهوات العقول، فإذا أدبرت خدمت العقول الشهوات. وقال المحقق الطوسي: قد يصدر من بعض أقوال شبيهة بأقوال العلماء والحكماء مع أنه ليس بعالم ولا حكيم قطعا، لعدم اتصاف نفسه بمعنى العلم والحكمة، فإن من الناس من يجمع مسائل العلوم ويحفظها ويحفظ نكاتها ودقائقها التي أخذها بطريق التقليد ويؤديها إلى غيره في المحاورات والمناظرات على وجه يتعجب منه المستمعون ويحملون ذلك على وفور علمه وكمال فضله وهو


1 - تمسك بقول سقراط وهو استاذ إفلاطون، بل هو المؤسس للحكمة الإلهية بعد أن كان اليونانيون معتنين غالبا بالطبيعيات " والحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها أخذها "، سواء كان صاحبها يونانيا، أو بابليا، أو مصريا، بشرط أن لا يقلدهم من غير دليل ولا يتوهم حرمة تعلم الحكمة، إذ نظر فيها وأتقنها كثير من علمائنا مما لا يطعن فيهم كالسيد الداماد ونصير الدين الطوسي وآقا حسين الخوانساري وابنه آقا جمال الدين وغيرهم قدس الله أسرارهم. (ش) (*)

[ 170 ]

فاقد في نفس الأمر لثمرة العلم وفائدة الحكمة، أعني وثوق النفس وبرد اليقين وليس حاصل فوائده وخلاصة عقائده إلا التشكك والحيرة، ومثله في تقرير العلوم مثل بعض الحيوانات في حكاية أفعال الإنسان ومثل الأطفال في التشبه بأفعال البلغاء فأفعاله وآثاره شبيهة بأفعال العلماء وآثارهم وقلبه مباين لقلوبهم ثم لكون مصدر العلم والحكمة هو النفس دون الظواهر يقع الاشتباه بينهم وبين العالم الرباني وهو الحكيم العادل الذي أشرقت نفسه بإشراقات الحكمة الإلهية وتنو قلبه بأنوار العلوم الربانية ووقع التعديل في قواه الظاهرية والباطنية والتقويم في أفعاله وأحواله وأقواله الصادرة منه بحيث لا يخالف بعضها بعضا وطابق ظاهره باطنه وهو الذي ينطق بالحق ويعمل به ويدعو إليه، وأما المتشبه به فلعدم تأثر ذهنه بالحكمة وعدم انقياد قلبه للعلم صار عقله مغلوبا في الشهوات، خادما للنفس الداعية إلى اللذات فغاية همه الدنيا وما فيها ونهاية جهده طلب زخارفها الفانية بما يظهر منه الكمال وغيره، وهكذا حاله إلى أن يموت فيغرق في سوء أعماله وقبح آثاره. وما نقلناه منه (رحمه الله) أخذناه في مواضع من كلامه، والله ولي التوفيق وإليه هداية الطريق.


[ 171 ]

باب النوادر باب النوادر * الأصل: 1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حفص بن البختري، رفعه قال: كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: " روحوا أنفسكم ببديع الحكمة فإنها تكل كما تكل الأبدان ". * الشرح: (علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حفص بن البختري، رفعه قال: كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: روحوا أنفسكم) الترويح " راحت دادن وخوش بو كردن ". (ببديع الحكمة) أي بالحكمة البديعة المحدثة، يعني " به علم تازه "، والحكمة في ألسنة الشرع العلم النافع في الآخرة، وقد تطلق على ما هو أعم من ذلك. (فإنها تكل) بمزاولتها بعض العلوم وعكوفها عليه، والكلال الضعف والإعياء. (كما تكل الأبدان) من الحركات المتعاقبة من باب واحد، وفيه أمر بالمراوحة بين أنواع الحكمة والعلوم بأن يطلب هذا تارة، وذلك اخرى، لارتياح النفس ونشاطها، لأن لكل جديد لذة، وهذا من جملة آداب التعلم كما أشار إليه بعض الأفاضل في آداب المتعلمين. ولهذا الحديث وأمثاله مثل قوله (عليه السلام): " إن هذه القلوب تمل كما تمل الأبدان فابتغوا لها طرائف الحكم " (1)، وقوله (عليه السلام): " روحوا القلوب وابتغوا لها طرف الحكمة، فإنها تمل كما تمل الأبدان " محمل آخر أوجه وأحسن مما ذكرناه، ولا بد لبيانه من تقديم مقدمة، وهي: أنه لما كانت الغاية من وجود الخلق هي العبادة له تعالى كما قال عز سلطانه: * (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) * وكانت العبادة لا تتحصل إلا بالعلم، وكان المقصود منها هو الوصول إلى جانب عزته في حظائر قدسه بأجنحة الكمال كان ذلك هو الغاية لخلق الإنسان المطلوب منه والمأمور بالتوجه والسير إليها بوجهه الحقيقي، فإن سعى لها سعيها ولم يحصل له فتور وكلال أدركها وفاز بحلول جنات النعيم وإن قصر في طلبها وانحرف عن الصراط المستقيم كان من الهالكين، وكانت غايته النار فدخلها مع الداخلين. فقد ظهر أن غاية كل إنسان أمامه وهم يسيرون إليها وواجدون لها، إذا عرفت هذا فنقول: كما أن الأبدان في هذا العالم المحسوس يطرأ عليه الضعف والكلال بتوارد الأمراض البدنية والأسقام الحسية فيمنعها عن الأفعال المخصوصة بها والحركات الناشئة منها، ولا بد لتعديلها وتصحيحها وتقويمها وإرجاعها إلى الصحة من معالجات طبية واستعمال أغذية وأدوية مناسبة


1 - النهج - قسم الحكم والمواعظ، تحت رقم 91. (*)

[ 172 ]

كذلك النفس طرأ عليها في السير إلى الله والوصول إلى حضرته والفوز بكرامته والبلوغ إلى الغاية المذكورة كلال وملال وأمراض مانعة لها عن تحصيل هذه المطالب بعضها ينشأ من استشعارها ألم الجهل وبعضها من استشعارها ألم الخوف. أما الأول فلأن الجهل البسيط لازم لها غير منفك عنها، كما يريد إليه قوله تعالى: * (فوق كل ذي علم عليم) *، فهي وإن كانت صحيحة من وجه عليلة كليلة من وجه آخر. وأما الثاني فلأنها وإن بالغت في بذل الجهد في لزوم أوامر الله ونواهيه والتصفية عن الأدناس وإلقاء حجب الغفلة وأستار الهيئة البدنية لكنها ما دامت في هذه الأبدان فهي في أغطية من هيئاتها وحجب من أستارها وإن رقت تلك الحجب وضعفت تلك الأغطية وإنما تتخلص من شوائب تلك الحجب والأغطية وظلماتها بالخلاص عن هذه الأبدان، إذ حينئذ * (تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا) * فتكون مشاهدة بعين اليقين ما أد لها من خير وشر بحسب استعدادها بما كسبت من قبل، فأما قبل المفارقة فإن حجاب البدن مانع لها عن مشاهدة تلك الامور كما هي، وإن حصلت على اعتقاد جازم برهاني أو نوع من المكاشفة الممكنة كما في حق أولياء الله إلا أن ذلك الوقوف كالمشاهدة لا أنها مشاهدة حقيقية خالصة، إذ لا تنفك عن شائبة الوهم والخيال إذا كانت حالها قبل المفارقة هكذا فهي دائما كليلة عليلة من مرض الهم والخوف من سقوطها عن مدارج الحق ومن تحملها ما لا يحتاج إليه من الأعمال والعقائد أو ما يليق به تعالى ومن انتكاسها وانعكاسها بسبب غلبة العدو وقطاع الطريق ومن الرجوع إلى شهوات الدنيا بسبب تدليسات القوى الداعية إليها ومن انقطاع زادها الروحاني ومن عمي بصيرتها عن مشاهدة اللطف الرباني ومن موتها بسبب استيلاء مرض الجهل فهي دائما في كلال فلا بد من إمدادها وترويحها وتصحيحها بمعالجات حكمية واستعمال أغذية وأدوية روحانية بأن يطلب لها من طرائف الحكمة وحديثها ما يعجبها، ومن لطائف العلوم وجديدها ما ينشطها ومن شرائف المعارف وسديدها ما يحركها ويشفيها من هذه الأمراض والآلام، ومن طرائف الحكمة ما في هذا الكتاب من المواعظ والنصائح (1)، فطوبى لمن جعلها مفتاح قلبه ومصباح


1 - أشار بهذا الكتاب إلى كتاب الكافي، أو إلى هذا الشرح، وليس المراد من الطرائف التي أمر بها في الحديث الحكايات الكاذبة والقصص المخترعة وهزليات الأشعار التي يشتاقها العامة ولا يملون منها كحكايات ألف ليلة وليلة، بل ما يكون طريفا ومنشطا ومع ذلك مشتملا على عبرة وحكمة، أو ما يفيد فائدة ما كالأشعار والحكايات الموضوعة على ألسنة الحيوانات وكتب السياحة وتواريخ البلدان وأمثال ذلك، ومن أحسن المجاميع في ذلك كتاب الكشكول للشيخ بهاء الدين عليه الرحمة وجرب كثيرا أن من يهتم بشئ واحد ويصرف فكره فيه فقط ولا يتجاوز إلى غيره كمن يصرف عمره في كتاب واحد = (*)

[ 173 ]

لبه وويل لمن اتخذها ظهريا ونبذها من ورائه نسيا منسيا، وهذا - أي ارتياح النفس بطرائف الحكمة وبدائعها - إذا كانت النفس قابلة للعروج إلى المقامات العالية مستعدة لاكتساب الفيوضات الإلهية متحلية بحلية العلوم والفضائل متخلية عن الشرور والرذائل فإنها إذا كانت بهذه المنزلة تلتذ بإدراك طرائف الحكمة وحقائقها ونيل لطائف العلوم ودقائقها، وأما النفوس المعطلة الخالية عن شوائب الفضيلة كنفوس الأوباش والأوغام فإنها تستنكف من استشمام نسائم العلوم ويأخذ أنف نفسه من ريح شمائمها بل يزداد مرضها أو تموت فجأة لو استمع إلى خبر صحيح وأثر صريح، ولو أردت أن تحييها فاقرأ على سمعها زخارف الأقاويل وقبائح الأباطيل وحكايات السارقين وروايات الفاسقين والأقوال الواصفة للدنيا وباطلها التي تنفر عن الآخرة وتجذب عن الافق الأعلى فإنها تستريح بها وتستمع إليها وتنشط منها كنشاط العطشان من شرب الماء وتهتز كاهتزار الأرض من مطر السماء. * الأصل: 2 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن نوح بن شعيب النيسابوري، عن عبيدالله بن عبد الله الدهقان، عن درست بن أبي منصور، عن عروة ابن أخي شعيب العقرقوفي، عن شعيب، عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: " كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: يا طالب العلم، إن العلم ذو فضائل كثيرة: فرأسه التواضع، وعينه البراءة من الحسد، واذنه الفهم، ولسانه الصدق، وحفظه الفحص، وقلبه حسن النية، وعقله معرفة الأشياء والامور، ويده الرحمة، ورجله زيارة العلماء، وهمته السلامة، وحكمته الورع، ومستقره النجاة، وقائده العافية، ومركبه الوفاء، وسلاحه لين الكلمة، وسيفه الرضا، وقوسه المداراة، وجيشه محاورة العلماء، وماله الأدب، وذخيرته اجتناب الذنوب، وزاده المعروف، وماؤه الموادعة، ودليله الهدى، ورفيقه محبة الأخيار ". * الشرح: (عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن نوح بن شعيب النيسابوري، عن عبيدالله بن عبد الله الدهقان، عن درست بن أبي منصور، عن عروة ابن أخي شعيب العقرقوفي، عن شعيب) وهو العقرقوفي أبو يعقوب ابن اخت أبي بصير يحيى بن القاسم، عين، ثقة. (عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: يا طالب العلم، إن


= من الاصول والكلام والنحو ولا يتنوع ولا ينظر في الطرائف أنه يتبلد وينجمد ولا يفيد فائدة علمية كثيرة، وأما علم الحديث والقرآن فهو متنوع بنفسه ومشتمل على طرائف الحكم. (ش) (*)

[ 174 ]

العلم ذو فضائل كثيرة) نبههم على أن العلم إذا لم يكن معه هذه الفضائل التي بها يظهر آثاره فهو ليس بعلم حقيقة ولا يعد صاحبه عالما، وقد تصور العلم مجسما وشبهه بإنسان ذي اقتدار وانتزع منه ما يشبه بما يحتاج إليه ذلك الإنسان في اقتداره وإظهار آثاره مثل الرأس والعين والاذن واللسان إلى غير ذلك مما ذكره في الحديث. وبالجملة أخذ العلم شخصا روحانيا له أعضاء وقوى وصفات كلها روحانية بعضها بمنزلة الأعضاء الظاهرة للإنسان كالمذكورات، وبعضها بمنزلة الصفات الباطنية مثل الحفظ والعقل والهمة والحكمة. وأطلق هذه الألفاظ الموضوعة لما في الإنسان على ما اعتبره في العلم ترشيحا أو تخييلا أو تمثيلا أو تشبيها لأجل مناسبة يجدها الماهر في العربية كل ذلك لزيادة الايضاح والتقرير. (فرأسه التواضع) أي التخضع والتذلل لله تعالى ولعباده، شبه التواضع بالرأس لأن الرأس رئيس أعضاء الإنسان، لأنه محل لأكثر القوى البشرية فلذلك ينتفي وجوده بانتفائه وكذلك التواضع أعظم فضائل العلم، لأن التعليم والتعلم والتمدن والتعاون والارتقاء إلى عالم القدس الذي هو المقصود من العلم لا يتحقق بدونه، فالعلم المنفك عنه التواضع والمتصف بصفة الكبر والتجبر ليس بعلم حقيقة بل الجهل أشرف. (وعينه البراءة من الحسد) إذ كما أن العين آلة لمشاهدة المبصرات كذلك البراءة من الحسد آلة لإدراك المعقولات وحفظها، فإن الحسد يأكلها كما تأكل النار الحطب، وسر ذلك أن الحسد عبارة عن فرط حرص رجل على امتيازه في جميع الفوائد والمقتنيات من أبناء جنسه وشدة اهتمامه على إزالتها من غيره وجذبها إلى نفسه وهذه رذيلة عظيمة سببها مركب من الجهل والشره، لأن اجتماع الخيرات كلها في شخص واحد محال، وعلى تقدير الإمكان لا يتصور انتفاعه به، فجهله بتلك الحالة وإفراط الشره يحملانه على الحسد، ثم لما كان مطلوبه ممتنع الوجود فهو دائما في هم وغم وحزن وألم على فواته حتى يبلغ ذلك إلى حد يمنعه من تصور غير مطلوبه المحال، ويوجب ذلك من انمحاء ما في قلبه من الصور العلمية الحاصلة وعمية بصيرته من مشاهدة غيرها، وأيضا من جملة الخيرات وأعظمها هو العلم والحسد يمنعه من تعليم غيره، لأنه لا يقدر أن يرى حصول خير ونعمة لغيره وظاهر أن تعليم العلوم وتكرارها يورث ملكة للحاصل وجلبا لغير الحاصل، فإذا منع حسده من التعليم سلب عنه الحاصل، ومنع من مشاهدة غير الحاصل. (واذنه الفهم) لما شبه العلم بالإنسان الكامل في احتياجه إلى الامور المذكورة لتمشية أمره وتكميل نظامه أثبت له الاذن، فجاءت الاستعارة مكنية وتخييلية، إلا أنه تصرف في المشبه وانتزع


[ 175 ]

منه هيئة الفهم وشبهها بالاذن في أن من خوطب بعلم لا يفهمه فهو بمنزلة من خوطب بلفظ لا يسمعه، أو في أن حصول المعارف والنكات والحقائق في قلبه من طريق الفهم كما أن حصول معاني الأخبار والأقوال في قلب الإنسان من طريق الاذن، فأطلق لفظ الاذن على تلك الهيئة مجازا أو يمكن أن يكون إطلاقها على الفهم باعتبار أنه غايتها، وعلى التقديرين فهو مؤيد لما ذهب إليه صاحب المفتاح من أن الاستعارة التخييلية مجاز، وأما ما ذهب إليه صاحب التلخيص وغيره من أنها حقيقة مستعملة في معناها الأصلي فهذا لا ينطبق عليه إلا بتكلف بعيد جدا، ومثل ما ذكرناه في هذه الفقرة يجري في أكثر فقرات هذا الحديث، ولا يصعب اعتباره فيها لمن هو عارف بالعربية. (ولسانه الصدق) سمى الصدق لسانا لأن الصدق غايته أو لأنه شبه صدق العلم بمعنى مطابقته للواقع باللسان، لأن صدقه ينفع ويفيد كاللسان أو لأن صدقه سبب لزيادته إذ العلوم الحقة تتكامل بحسب تكامل الاستعداد ويتسبب بعضها لحصول بعض آخر كما أن اللسان سبب لزيادة الاقتدار بالوعد والوعيد والأمر والنهي. (وحفظه الفحص) أي البحث والتفتيش في حقيقة ما حصل وتحصيل ما لم يحصل، والتعبير عن الحفظ بالفحص تعبير عن المسبب بالسبب، بناء على أن العلم صيد والفحص عنه قيد سبب لبقائه وحفظه. (وقلبه حسن النية) من باب تسمية الحال باسم المحل أو من باب التشبيه إذ يفسد العلم بفساد النية وعدم خلوصها، ولا يترتب عليه ما هو الغرض من وجوده كما أن الرجل يفسد بفساد قلبه ولا يترتب عليه الآثار المطلوبة من وجوده. (وعقله معرفة الأشياء والامور) أي تصورها والتصديق بأحوالها على ما هي عليه في نفس الأمر، لأن قوام العلم بتلك المعرفة كما أن قوام الإنسان بالعقل، ويحتمل أن تكون العلاقة هي السببية. (ويده الرحمة) على المتعلمين، لأن الرحمة وهي الرقة والتعطف وسيلة لايصال العلم إلى غيره كما أن اليد وسيلة لايصال النعمة إلى الغير. (ورجله زيارة العلماء) لأنه بزيارتهم تقتبس المطالب، كما أن الإنسان بالرجل يكتسب المآرب، ولولا زيارتهم لما انتقل العلم من صدر إلى آخر كما أنه لولا الرجل لما انتقل الإنسان من موضع إلى موضع آخر، وبالجملة لما شبه العلم بالإنسان وليس للعلم رجل حقيقة اعتبر آثار الرجل، أعني الزيارة فيه وسماها رجلا إما على سبيل التشبيه أو على سبيل السببية. (وهمته السلامة) من الآفات أو من الجهالات أو من أسباب الانقطاع عنه تعالى أو من إيذاء


[ 176 ]

الناس بالتفاخر وغيره كما أن الإنسان الكامل همته ذلك. (وحكمته الورع) أي التحلي بما يوجب القرب منه سبحانه والتخلي عما يوجب البعد عنه والاجتناب عن المحظورات والمشتبهات، كما أن شأن الإنسان الكامل ذلك، وقراءة الحكمة بفتح الحاء والكاف، وتفسيرها بحكمة اللجام المانعة من خروج الفرس عن طريقه لا يناسب المقام، لأن الحكمة بهذا المعنى لم توجد في المشبه به أعني الإنسان. (ومستقره النجاة) المستقر المكان والمنزل باعتبار استقرار صاحبه فيه والنجاة مصدر نجوت من كذا، أي خلصت منه، والمقصود أن منزله الذي إذا وصل إليه سكن واستقر فيه نجاته عن شوائب المفاسد وتخلصه عن طريق الباطل والمهالك. (وقائده العافية) أي ما يقوده إلى مستقره ويجره إلى نجاته العافية من مرض الجهل والبراءة من طريان النقص والآفات، والعافية اسم بمعنى المصدر ويوضع موضعه يقال: عافاه الله عافية، وهي دفاع الله سوء المكاره. (ومركبه الوفاء) أي مركبه الذي إذا ركبه يوصله إلى مستقره، ومقصوده الوفاء بعهد الله تعالى والاتيان بما أمر به والاجتناب عما نهى عنه، شبه الوفاء وهو ضد الغدر والمكر المركب لأن الوفاء يوصل صاحبه إلى مأمنه ومقصوده وهو الفوز بالتقرب منه تعالى وينجيه من الأهوال والشدائد الدنيوية والاخروية، ولكل واحد من الوفاء والغدر وجوه متعددة وموارد متسعة، لأنهما يوجدان في العلم والمال والجاه والمودة وغيرها وشناعة الغدر من أجلى الضروريات ولذلك يعترف به من له أدنى شعور. (وسلاحه لين الكلمة) أي سلاحه الذي به يدفع تعرض المتعرضين له وإبطال المبطلين إياه لين الكلمة معهم، والتخضع في القول لهم، فإن ذلك يوجب عدم تعرضهم له، وإنما شبه لين الكلمة بالسلاح وهو آلة الحرب مثل الدرع والسنان والسهام ونحوها لأن كلا منهما يدفع عن صاحبه سورة المكاره وشر العدو. أما الأول فبالرفق والاستمالة، وأما الثاني فبالهيبة والاستطاعة. (وسيفه الرضا) أي سيفه الذي به يدفع صولة المعاندين له عند ملاقاتهم الرضا بما صدر منهم وعدم تعرضه لهم فإنه إذا رضي بذلك سلم عن آفاتهم وعن التضجر بجدالهم ومماراتهم أو سيفه الرضا بما آتاه الله تعالى، وبالقضاء والقدر، لأن الرضا به يقطع عنه سورة المشكلات كما أن السيف يقطع اتصال المتصلات، ولأن الرضا سبب لتسخيره الفضائل الروحانية في عالم الأرواح كما أن السيف سبب لتسخير الأمير البلاد والعباد في عالم الأشباح. (وقوسه المداراة) لأن صيت حسن الخلق ومداراة الناس وملاينتهم ومساترة عداوتهم يحفظ


[ 177 ]

صاحبها عن شر البعيد والقريب، ومنع وصول شرهم إليه كالقوس. (وجيشه محاورة العلماء) لأن محاورتهم يقويه ويحفظ مسالك قلبه عن توارد عساكر الجهالة (1)، كما أن الجيش يقوي السلطان ويحفظ ممالكه عن تسلط الأعادي بالطغيان والعداوة. (وماله الأدب) أي ماله الذي به يقوت ويطلب بقاءه وحياته رعاية الأدب مع معلمه ومتعلمه وسائر الناس، وإنما شبه الأدب بالمال لأن الأدب سبب لبقائه ولتآلف القلوب وجذبها ومكتسب مثل المال ولو قرأ مآله بمعنى مرجعه فالأمر ظاهر. (وذخيرته اجتناب الذنوب) كما أنه لا بد للإنسان من ذخيرة ليوم حاجته كذلك لا بد للعلم من ذخيرة وهي اجتناب الذنوب ليوم فقره وفاقته وهو يوم القيامة. (وزاده المعروف) الزاد طعام يتخذ للسفر، والمعروف ضد المنكر، وأيضا العطية، والمراد هنا الأعمال الموافقة للقوانين الشرعية يعني كما أن للإنسان زادا يتوسل به في السفر الجسماني إلى مقاصده ولولاه لهلك وفسد نظامه كذلك للعلم زاد، وهو المعروف يتوسل به في السفر الروحاني إلى مقام القرب، ولولاه لهلك وفسد. (ومأواه الموادعة) المأوى كل مكان تأوي إليه ليلا ونهارا والموادعة المصالحة ويجوز أن يكون من الوداع، والمعنى أن منزل العلم هو المصالحة بينه وبين الناس أو بينه وبين الخالق أو الوداع لهذه الدار دون القرار فيها والركون إليها. وفي بعض النسخ: " وماؤه الموادعة " يعني ما يدفع به عطشه (2)، وحرارة قلبه هو المصالحة. (ودليله الهدى) كما أن للإنسان المسافر في العالم الجسماني دليلا لولاه لضل عن سبيله كذلك للعلم في السفر في العالم الروحاني دليل هو الهدى، وهو خمسة أنواع: الأول: اتصاف القوة العقلية بما يتوسل به إلى الاهتداء بالمصالح. والثاني: الدلائل العقلية الفارقة بين الحق والباطل والصلاح والفساد. والثالث: الكتاب الإلهي والرسول والأئمة (عليهم السلام). والرابع: انكشاف السرائر الروحانية بالمنام والإلهام.


1 - رد على ما يتوهمه بعض الناس من أنه يكفي في استنباط الأحكام مطالعة الأحاديث وفهم مفاد الروايات، وذلك لأن مراتب الناظرين مختلفة، ولا يستغنى إلا دون من استشارة من فوقه لذلك ترى المتأخرين وإن بلغوا ما بلغوا في الاطلاع على الروايات ودقائق الاصول لم ينالوا معشار ما ناله أساطين العلم كالشهيد والشيخ والعلامة ولا يتجرؤون على الفتوى إلا إذا سبقهم هؤلاء. (ش) 2 - ويعين ما في هذه النسخة كونه مذكورا بعد الزاد. (ش) (*)

[ 178 ]

والخامس: محو الظلمات المانعة من البلوغ إلى وصاله وظور التجليات الموجبة للنظر إلى جلاله وكماله، ويمكن حمل الهدى هنا على كل واحد من هذه المعاني. (ورفيقه محبة الأخيار) كما أنه لا بد للإنسان المسافر في قطع المنازل الجسمانية من رفيق كما روي " الرفيق ثم الطريق " كذلك لا بد للعلم في قطع المنازل الروحانية حتى يبلغ إلى غاية مقصده من رفيق وهو محبته للأخيار أو محبة الأخيار له، وبينهما تلازم، لأن المحبة من الطرفين وهي من أعظم المطالب وأشرف المقاصد، وهي أربعة وعشرون فضيلة من فضائل العلم، فمن اتصف بالعلم واتصف علمه بهذه الفضائل فهو عالم رباني وعلمه نور إلهي متصل بنور الحق، مشاهد لعالم التوحيد بعين اليقين، ومن لم يتصف بالعلم أو اتصف به ولم يتصف علمه بشئ من هذه الفضائل هو جاهل ظالم لنفسه بعيد عن عالم الحق وعلمه جهل وظلمة يرده إلى أسفل السافلين، وما بينهما مراتب كثيرة متفاوتة بحسب تفاوت التركيبات في القلة والكثرة، وبحسب ذلك يتفاوت قربهم وبعدهم من الحق والكل في مشيئة الله تعالى سبحانه، إن شاء قربهم ورحمهم، وإن شاء طردهم وعذبهم. * الأصل: 3 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن حماد بن عثمان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " نعم وزير الإيمان العلم، ونعم وزير العلم الحلم، ونعم وزير الحلم الرفق، ونعم وزير الرفق العبرة ". * الشرح: (محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن حماد بن عثمان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): نعم وزير الإيمان العلم) الوزير من يحمل الثقل عن الأمير ويعينه في اموره، والإيمان هو التصديق بالله وبرسوله وبما جاء به الرسول على سبيل الإجمال، وكون العلم وزيرا له ظاهر لأن العلم التفصيلي بالمعارف الإلهية والمسائل الدينية يقوي نور الإيمان في القلب، ويدبر أمره، ويحفظ جميع القوى والأركان عن الجور والطغيان، وعن صدور ما ينافي استقراره وتمكنه في ملك الباطن، وهذا التركيب يحتمل وجوها: الأول: أن يكون فيه استعارة مكنية بتشبيه الإيمان بالسلطان، واستعارة تخييلية بإثبات الوزير له، والعلم كلام مستأنف بتقدير مبتدأ متضمن لتشبيهه بالوزير. الثاني: أن يكون فيه استعارة تحقيقية بتشبيه صفة من صفات القلب وناصر من أنصار الإيمان بمن يحمل الثقل عن السلطان واستعارة لفظ المشبه به وهو الوزير للمشبه وذكر الإيمان قرينة لها والعلم كلام مستأنف مبين للمشبه.


[ 179 ]

والثالث: أن يكون فيه مجاز مرسل بإطلاق لفظ الوزير على ناصر الإيمان ومعينه، وهو العلم من باب إطلاق اسم الملزوم على اللازم، ومثل هذه الوجوه يأتي في العبارات الباقية. (ونعم وزير العلم الحلم) وهو كون النفس مطمئنة بحيث لا يحركها الغضب بتوارد المكاره بسهولة، ولا تقع في شغب عند مشاهدتها بعين العلم بالخيرات، والشرور في التزام الأول، والاجتناب عن الثاني، إذ لولا العلم لوقعت النفس في مهاوي المهالك واختل نظامها ولا ينفعها مجرد العلم في ضبط الممالك الروحانية كما أن السلطان الظاهر لا ينفعه علمه بأحوال مصالح الرعايا ومضارهم إذا لم يكن له حلم وكانت له نفس ظالمة آمرة له بارتكاب مضارهم أو وزير مائل إلى الظلم آمر له به، وهو يتبعه في مفتريات أقاويله، فإن ذلك يؤدي إلى فساد أحوال مملكته وزوال نظام امور سلطنته. (ونعم وزير الحلم الرفق) الرفق هو فرع العفة التي هي الاعتدال في القوة الشهوية الجاذبة للمنافع، ونوع من أنواعها، يعين الحلم الذي هو فرع الشجاعة التي هي الاعتدال في القوة الغضبية ونوع من أنواعها، إذ لولا الرفق لوقع الجور في جلب المنافع وهو مستلزم للجور في القوة الغضبية الدافعة للمضار المتحركة نحو الانتقام ضرورة أن القوة الشهوية إذا تحركت إلى الجور في جلب المنافع تحركت القوة الغضبية إلى الجور في رفع المانع من حصول تلك المنافع، ويبطل بذلك بناء الحلم ونظامه، فظهر أن للرفق مدخلا عظيما في ثبات الحكم وبقاء نظامه، وهذا معنى وزارته للحلم. (ونعم وزير الرفق العبرة) العبرة - بالكسر والتسكين - اسم من الاعتبار بمعنى الاتعاظ، وهي تعين الرفق وتوجب ثبات ملكته وبقاء القوتين المذكورتين على الاستقامة والتوسط بين الإفراط والتفريط، فإن من اتعظ بأحوال السابقين ونظر إلى آثارهم وتأمل من أين انتقلوا وارتحلوا وإلى أين حلوا ونزلوا وكيف انقطعت أيديهم عن قنيات هذه الدار الفانية وأصابتهم العقوبات الشديدة الدنيوية بسبب سوء أعمالهم وقبح أفعالهم واتباعهم لخرق النفس وسفاهتها وجور القوى وشقاوتها واتعظ أيضا بنعيم الدنيا وسرعة زوالها وبمكارهها وقرب افولها وانتقالها تبرد في قلبه الدنيا وما فيها وتنكسر سورة القوى ودواعيها، ولهذه الخصلة مدخل تام في ثبات الرفق بعباد الله، إذ لولا تلك الخصلة لأمكن أن تميل النفس إلى الخرق بهم في جميع المشتهيات كما هو مقتضى طبيعتها وإلى الغلبة عليهم في جميع المقتنيات كما هو سجيتها، وقيل: المراد بالعبرة العبور العلمي من الأشياء إلى ما يترتب عليها وتنتهي إليه، وفي بعض النسخ وقع لفظ " الصبر " بدل العبرة وتوجيهه ظاهر لأن الصبر على المكاره والامور الشاقة على النفس سبب عظيم ومعين تام لبقاء الرفق وثباته ولولا الصبر لزال الرفق بورود أدنى المكاره والشدائد.


[ 180 ]

* الأصل: 4 - علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن جعفر بن محمد الأشعري، عن عبد الله بن ميمون القداح، عن أبي عبد الله (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) قال: جاء رجل إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: يا رسول الله، ما العلم ؟ قال: " الانصات "، قال: ثم مه ؟ قال: " الاستماع "، قال: ثم مه ؟ قال: " الحفظ "، قال: ثم مه ؟ قال: " العمل به "، قال: ثم مه يا رسول الله ؟ قال: " نشره ". * الشرح: (علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن جعفر بن محمد الأشعري، عن عبد الله بن ميمون القداح، عن أبي عبد الله (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) قال: جاء رجل إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: يا رسول الله، ما العلم ؟) " ما " الاستفهامية كثيرا ما تكون سؤالا عن التعريف الحقيقي، وقد تكون سؤالا عن التعريف الرسمي، وهذا هو المراد هاهنا، فلذلك اجيب بذكر سبب حصول العلم وسبب بقائه وفائدته وغايته المطلوبة منه. ويؤيده أيضا وقوع السؤال بها مكررا، إذ للشئ الواحد ليست إلا حقيقة واحدة، ولو كان المراد هو المعنى الأول كان الجواب من باب تلقي السائل بغير ما يتوقع تنبيها على أن ذلك الغير هو الأولى والأهم به بالسؤال عنه. (قال: الانصات) في الصحاح والقاموس: الانصات السكوت والاستماع للحديث، تقول: أنصتوه وأنصتوا له. وفي نهاية ابن الأثير: أنصت ينصت إذا سكت سكوت مستمع، وهو لازم ومتعد. وفي المغرب: أنصت سكت للاستماع، ولعل الإنصات هنا بمعنى السكوت فقط بقرينة ذكر الاستماع بعد. (قال: ثم مه ؟) أصل مه " ما " حذفت الألف وزيدت الهاء للوقف. (قال: الاستماع) للعلم وإلقاء السمع إلى المعلم طلبا لسماع الحديث وفهمه، وفيهما إشارة إلى سبب من أسباب حصول العلم، فإن المتعلم لا بد أن يسكت عند تلقين المعلم ويستمع لحديثه حتى تنتقش الصور العلمية في ذهنه. (قال: ثم مه ؟ قال: الحفظ) أي حفظ العلم وضبطه، وفيه إشارة إلى سبب بقائه ولا بد منه إذ لا ينفع الانصات والاستماع بدونه. (قال: ثم مه ؟ قال: العمل به) إن كان متعلقا بالعمل، وفيه إشارة إلى فائدة العلم وغايته، لأن الغرض من العلم العملي هو العمل به، والغرض من العمل هو التقرب منه تعالى، وهو مع ذلك سبب لبقاء العلم الحاصل وموجب لحصول غير الحاصل، إذ العلم يصفي القلب ويصقله فيوجب حفظه


[ 181 ]

للصورة الحاصلة واستعداده لقبول مرتبة اخرى من العلم. (قال: ثم مه يا رسول الله ؟ قال: نشره) بين الناس بالتعليم (1)، وفي الابتداء بالتعلم المستلزم للتعليم والختم بالتعليم المستلزم للتعلم حث على التعلم والتعليم مرارا مبالغة للاهتمام بهما، ولا يخفى ما في الحديث من حسن الترتيب بين هذه الامور الخمسة التي عليها مدار الحقيقة الإنسانية ونظام الدين وكمال العلم، أما بين الأربعة الاول فظاهر، وأما بين الرابع والخامس فللروايات الدالة على ذم من لم يعمل بعلمه واشتغل بالتعليم منها ما روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " إن العالم إذا لم يعمل بعلمه زلت موعظته عن القلوب كما يزل المطر عن الصفا " (2). * الأصل: 5 - علي بن إبراهيم رفعه إلى أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " طلبة العلم ثلاثة فاعرفهم بأعيانهم وصفاتهم: صنف يطلبه للجهل والمراء، وصنف يطلبه للاستطالة والختل، وصنف يطلبه للفقه والعقل، فصاحب الجهل والمراء مؤذ ممار متعرض للمقال في أندية الرجال بتذاكر العلم وصفة الحلم، قد تسربل بالخشوع، وتخلى عن الورع، فدق الله من هذا خيشومه وقطع منه حيزومه، وصاحب الاستطالة والختل ذو خب وملق يستطيل على مثله من أشباهه ويتواضع للأغنياء من دونه فهو لحلوانهم هاضم ولدينه حاطم فأعمى الله على هذا خبره وقطع من آثار العلماء أثره، وصاحب الفقه والعقل ذو كآبة وحزن وسهر قد تحنك في برنسه وقام الليل في حندسه يعمل ويخشى وجلا داعيا مشفقا مقبلا على شأنه عارفا بأهل زمانه مستوحشا من أوثق إخوانه فشد الله من هذا أركانه وأعطاه يوم القيامة أمانه ". * الشرح: (علي بن إبراهيم رفعه إلى أبي عبد الله (عليه السلام) قال: طلبة العلم ثلاثة) لأن طالب العلم إما عادل أو جائر، ونعني بالعادل من كانت حركة قوته الفكرية وقوته الغضبية وقوته الشهوية إلى مطالبها على وجه الاعتدال ووفق القوانين الشرعية والعقلية، وذلك بأن تشتغل النفس الناطقة باكتساب العلوم والمعارف حتى تحصل لها فضيلة العلم والحكمة وتشتغل القوة الغضبية والشهوية بمطالبهما ولا تتعديان في ذلك عن حكم العقل والشرع حتى تحصل للنفس فضيلة الحلم والعفة، والجائر جوره


1 - فائدة النشر الأخذ والعمل ولو لم يكن قبول قول العلماء واجبا على الناس لم يكن النشر واجبا، وهذا يدل على عدم جواز تقليد الميت، لأن نشر العلم يشمل الفروع كما يشمل الاصول والمواعظ وغيرها، ولا وجه لإخراج الفروع منه (ش) 2 - تقدم. (*)

[ 182 ]

إما في حركة قوته الغضبية التي هي مبدأ الإقدام على الأهوال ومنشأ الشوق إلى التسلط والترفع وطلب الجاه ونحوها، وإما في حركة قوته الشهوية التي هي مبدأ طلب المشتهيات من الأموال والأسباب والأطعمة اللذيذة ونحوها. وأما الجور في حركة القوة الفكرية فغير مراد هنا، لأنه خلاف الغرض، فهذه ثلاثة أصناف: الأول العادل وهو الصنف الثالث. الثاني الجائر في القوة الغضبية وهو الصنف الأول. الثالث الجائر في القوة الشهوية وهو الصنف الثاني. (فاعرفهم بأعيانهم) بالمشاهدة الذوقية والمعاينة القلبية، فإن أصحاب القلوب الصافية وأرباب المشاهدات الذوقية قد يعرفون خباثة ذات رجل بمجرد النظر إليه وإن لم يشاهدوا شيئا من صفاته. (وصفاتهم) الآتية وغيرها بالمشاهدات العينية وخباثة صفاتهم مظهر لخباثة ذواتهم والغرض من هذه المعرفة هو التمييز بين المحق والمبطل، وبين الهادي والمضل. (صنف يطلبه للجهل والمراء) المراء بكسر الميم مصدر بمعنى المجادلة، تقول: ماريت الرجل اماريه مراء إذا جادلته، والمراد بالجهل هنا الاستخفاف والاستهزاء، لأن ذلك شأن الجهال، ومنه قوله تعالى حكاية: * (أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين) * بعد قولهم: * (أتتخذنا هزوا) *، وقيل: المراد به الأنفة والغضب والشتم ونحوها مما يصدر من أهل الجاهلية، وقيل: هو أن يتكلف القول فيما لا يعلمه فيجهله ذلك، وقيل: هو المفاخرة والكبر والتجبر. (وصنف يطلبه للاستطالة والختل) استطال عليه أي تطاول وترفع من الطول في الجسم، لأنه زيادة فيه، والختل بفتح الخاء المعجمة والتاء المثناة من فوق الخدعة، يقال: ختله يختله من باب ضرب إذا خدعه وراوغه وختل الدنيا بالدين إذا طلبها بعمل الآخرة وختل الذئب الصيد إذا تخفى له، ولا يبعد أن يكون الاستطالة بالنسبة إلى العلماء والختل بالنسبة إلى العوام والجهلاء. (وصنف يطلبه للفقه والعقل) أي صنف يطلب العلم لتحصيل البصيرة الكاملة في الدين والتطلع إلى أحوال الآخرة وحقارة الدنيا وتكميل النفس بتحليها بالفضائل وتخليها عن الرذائل إلى أن يخرجها من حضيض النقص إلى أوج الكمال، ومن حد القوة إلى العقل بالفعل، ويمكن أن يكون الأول إشارة إلى تكميل القوة النظرية، فإن الفقه يعني معرفة الأشياء والبصيرة المذكورة من آثاره. والثاني إلى تكميل القوة العملية، إذ قد يطلق العقل عليها ويقال لها: العقل العملي، ولما ذكر الأصناف الثلاثة وغاية مقاصدهم من طلب العلم أراد أن يذكر جملة من أوصاف كل واحد منهم ليعرفوا بها فقال: (فصاحب الجهل والمراء مؤذ ممار) أي مؤذ بالحركات الشنيعة والأقوال الخشنة عند المباحثة


[ 183 ]

والمحاورة، منازع مجادل مع السفهاء، بل مع العلماء عند المناظرة، لأن نفسه سبع مشخص، لها جوارح مثله مع زيادة هي جارحة اللسان التي هي أقوى الجوارح فيؤذي غيره ويفرسه بالشتم والخشونة ويغضب عليه بأدنى سبب ويجادل العلماء والسفهاء كل ذلك لطلب التفوق عليهم، ونسبة الحقارة إليهم أو بمجرد التذاذه بالغلبة كما هو دأب أكثر السفلة والجهلة. (متعرض للمقال في أندية الرجال) المقال مصدر كالقول، والأندية جمع الندي على فعيل كأرغفة جمع رغيف، والندي والنادي والندوة مجلس القوم ومتحدثهم ما داموا يندون إليه أي يجتمعون، فإن تفرقوا فليس بندي، ومنه سميت دار الندوة التي بناها قصي لأن قريشا كانوا يندون ويجتمعون فيها للتشاور، ثم صار علما لكل دار يرجع إليها ويجتمع فيها، وإنما تعرض للمقال في أندية الرجال لعلمه بأن مقصوده وهو إظهار فضله وكماله ونشر منقبته وحاله وطلب ما يترتب عليها التفوق والتفاخر والجاه والمال لا يحصل إلا بجداله ومقاله فيها. (بتذاكر العلم وصفة الحلم) متعلق بالمقال أو حال عنه، يعني مقاله في الأندية بذكر العلوم الدينية والمسائل الشرعية والمعارف الإلهية، وذكر أوصاف الحلم وما يتبعه ويندرج فيه من أنواعه وذكر كماله في الإنسان، وغرضه من ذلك أن يظهر علمه بها وأن يخدع الرجال بأن قوته الفكرية وقوته الغضبية واقعتان على الاعتدال وواقعتان في الأوساط كما هو شأن العدول، يعني الاولى متحلية بالعلوم والحقائق، والثانية متحلية بالفضائل التي منها الحلم وتابعة للاولى غير متجاوزة عن حكمها. (قد تسربل بالخشوع) السربال بالكسر القميص وسربلته أي ألبسته السربال فلبسه والخشوع التذلل والخضوع وهو كما يكون للقلب بإعراضه عما سواه تعالى بحيث لا يكون فيه غير الميل إلى العبادة والمعبود كذلك يكون للجوارح بصرفها فيما خلقت لأجله، والمقصود أن صاحب الجهل يظهر أنه صاحب هذه الخصلة الفاضلة ومندرج في سلك الخاشعين ومتصف بزيهم، ولا يخفى ما في هذا الكلام من المكنية والتخييلية. (وتخلى عن الورع) بجميع أنواعه يعني عن ورع التائبين وهو ما يخرج به الإنسان عن الفسق ويوجب قبول شهادته ومن ورع الصالحين وهو التوقي من الشبهات لخوف سقوط المنزلة بارتكابها ومن ورع المتقين وترك الحلال الذي يتخوف منه أن ينجر إلى الحرام كترك التكلم بأحوال الناس لمخافة أن ينجر إلى الغيبة ومن ورع السالكين وهو الإعراض عن غيره سبحانه خوفا من صرف ساعة من العمر فيما لا يفيد زيادة القرب منه، فانظر أيها اللبيب إلى هذا الفقير المسكين كيف أغواه قرينه وحمله على غاية الجور وحيره في أمره بحيث يتشبث تارة بظاهر الجور لظنه أنه


[ 184 ]

أصلح له في تحصيل مقاصده الفاسدة فيؤذي ويمتري، ويتمسك تارة بظاهر العدل لزعمه أنه أنفع له في تكميل مطالبه الزائلة فيظهر العلم والحلم والخشوع، وهو في الحالتين يجعل القوة النطقية تابعة للسبع خادمة له في تنظيم متمنياته وتتميم مقتضياته. (فدق الله من هذا) أي من صاحب الجهل والمراء، أو من أجل عمله هذا العمل. (خيشومه) هذا دعاء عليه، وكناية عن جعله ذليلا خائبا خاسرا غير واجد لما قصده مثل رغم الأنف، والخيشوم الأنف ويجمع على خياشيم، وقيل: هي عظام رقاق في أصل الأنف بينه وبين الدماغ. (وقطع منه حيزومه) الحيزوم بفتح الحاء المهملة والياء المثناة من تحت، والزاي المعجمة وسط الصدر، وفي القاموس: هو ما استدار من الظهر والبطن وضلع الفؤاد ما اكتنف الحلقوم من جانب الصدر. وهذا أيضا دعاء عليه وكناية عن إهلاكه واستئصاله بالمرة لقطع ما هو مناط الحياة. (وصاحب الاستطالة والختل ذو خب وملق) الخب بكسر الخاء المعجمة والباء الموحدة المشددة مصدر بمعنى الخدعة والغش، تقول: خببت يا رجل تخب خبا مثال عملت تعلم علما، وأما الخب بالكسر أو الفتح بمعنى الرجل الخداع فغير مناسب هنا، ومنهم من ضبطه بضم الحاء المهملة والباء الموحدة المشددة، والملق بالتحريك اللطف الشديد والتودد فوق ما ينبغي باللسان وحده من غير أن يكون في القلب منه أثر، يقال: ملق بالكسر يملق ملقا ورجل ملق بكسر اللام يعطي بلسانه ما ليس في قلبه. (يستطيل على مثله من أشباهه) أي على من يماثله ويشابهه في الرتبة والعز أو في العلم والفضل. (ويتواضع للأغنياء من دونه) أي ممن هو دونه في الرتبة والمنزلة وخسيس بالنسبة إليه أو ممن هو دونه في العلم والفضل أو ممن هو غير صنفه الذي هو طلبة العلم ولفظ " من " مع مدخوله في الموضعين إما بيان لما يليه أو حال عنه، وإنما اعتبر المماثلة في طرف الاستطالة والأدونية في طرف المتلق والتواضع لأن ذلك أدخل في إظهار قبح فعاله وركاكة ذاته وشناعة صفاته. (فهو لحلوانهم هاضم) الحلوان بضم الحاء المهملة وسكون اللام ما يأخذه الحكام والقضاة والكهنة من الأجر والرشوة على أعمالهم، يقال: حلوته أحلوه حلوانا فهو مصدر كالغفران ونونه زائدة وأصله من الحلاوة. وفي بعض النسخ: فهو لحلوائهم هاضم بالهمزة بعد الألف والحلواء بالمد والقصر ما يتخذ من الحلاوة، والجمع الحلاوي، والمقصود على النسختين أنه يأكل ما يعطونه من أموالهم ولذيذ أطعمتهم وأشربتهم شبيها بالأجر لأجل عمله، وهو تملقه لهم وتواضعه إياهم كما هو دأب الأخساء وشأن الأذلاء.


[ 185 ]

(ولدينه حاطم) أي كاسر، من حطمته إذا كسرته، لأنه باع دينه بدنياهم، بل بلقمة يأكلها من مائدتهم تبعا لحكم قوته الشهوية الدنية، وإفراده الضمير في قوله: " ولدينه " متفق عليه في نسخ هذا الكتاب على ما اريت ورأيت أيضا في كلام بعض المتأخرين نقلا لهذا الحديث و " لدينهم حاطم " بضمير الجمع، وله أيضا وجه ظاهر، لأن فعله ذلك يحملهم على الحرام وهو إعطاء الرشوة لأجل ما يتوقعون منه عند الضرورة وإعطاء أجر الخدعة والتواضع، أو على استهانتهم للدين الذي هم متدينون به إذ ارتكاب العالم للقبائح يهونها في أعين الناس ويوجب ارتكابهم لها على أتم الوجوه. (فأعمى الله على هذا خبره) أي أخفى خبره، من عمي عليه الخبر أي خفي، مجاز من عمى البصر، كذا في المغرب، ففي الكلام استعارة تبعية أو جعل خبره متلبسا بحيث لا يعرفه أحد من عمي عليه الأمر التبس أو رمى خبره من هذا العالم من عمي الموج - بالفتح - يعمي عميا إذا رمى القذى والزبد، وقيل: خبره بضم الخاء المعجمة وسكون الباء الموحدة، أي علمه يعني أزال الله عنه نور بصيرته العلمية لئلا يتميز بين الحق والباطل ولا يهتدي إلى الحق أبدا، ولا ينتفع بعلمه في الدنيا والآخرة. (وقطع من آثار العلماء أثره) الأثر بالتحريك ما بقي من رسم الشئ بعده، يعني قطع الله من بين آثار العلماء التي تبقى بعدهم في الدهور، وتدل على كمال علمهم وفضلهم وتوجب اشتهارهم وحسن ذكرهم أثر هذا الرجل الملق المخادع المستطيل على مثله من العلماء المتواضع لمن دونه من الأغنياء حتى لا يبقى له بعده ما يدل على علمه وفضله، ويحتمل أن يكون كناية عن إهلاكه لأن إزالة أثره وذكره من بين آثار العلماء وذكرهم يستلزم إهلاكه، وإنما دعا على هذين الصنفين بالإذلال والفناء لأن مقصودهما من طلب العلم هو الدنيا، وطلب العزة والاعتبار بين الناس حتى فعلا ما فعلا مما لا يليق بالعالم، فدعا عليهما بأن يترتب على فعلهما ما هو نقيض مقصودهما، أعني الهوان والإذلال، وبأن يفنيهم الله تعالى لتخلص الدين وأهله من شرهما، لأنهما من أعاظم المنافقين واخوان الشياطين وضررهما يعود إلى العلماء الربانيين بل إلى جميع المسلمين، ومن كان وجوده كذلك كان عدمه أولى منه. (وصاحب الفقه والعقل) أي الصنف الذي يطلب العلم لتكميل القوة النظرية والقوة العملية وتسديدهما. (ذو كآبة وحزن وسهر) الكأبة بالتحريك والكأبة بالتسكين والكآبة بالمد سوء الحال والانكسار من شدة الهم والحزن، والحزن خلاف السرور، والسهر بالتحريك الأرق واتصافه بهذه الامور لاستشعار نفسه بالخوف والخشية من الله تعالى ومن أهوال الآخرة وعقابها وصعوبة أحوال


[ 186 ]

الناس فيها، ومن سوء العاقبة وقبح الخاتمة، ولانفعالها بمشاهدة قلة الأصدقاء وكثرة الأعداء ورفع حال الأراذل ووضع حال الأفاضل إلى غير ذلك من الأسباب. (قد تحنك في برنسه) يقال: تحنك فلان إذا أدار العمامة تحت حنكه، والحنك ما تحت الذقن، وفيه استحباب التحنك أو المعنى قد ارتاض بالعبادة وتهذب منها من حنكتك الامور بالتخفيف أو التشديد أي راضتك وهذبتك، والبرنس بالباء الموحدة المضمومة والراء المهملة الساكنة والنون المضمومة والسين المهملة. قال في النهاية: هو كل ثوب رأسه منه ملتزق به من دراعة أو جبة أو ممطر أو غيره. وقال الجوهري: هو قلنسوة طويلة كان يلبسها النساك في صدر الإسلام (1)، وهو من البرس بكسر الباء القطن والنون زائدة، وقيل: إنه غير عربي. (وقام الليل) بالصلاة والذكر والتلاوة إلى غير ذلك من العبادة، والليل منصوب بنزع الخافض. (في حندسه) الحندس بالحاء المهملة المكسورة والنون الساكنة والدال المسكورة والسين المهملتين الليل المظلم، والظلمة أيضا، والثاني هنا أنسب، والإضافة إلى ضمير الليل بتقدير اللام وقيام الليل معراج الصالحين ومنهاج الزاهدين، وفيه سرور السائرين إلى الله تعالى لتفرغ بالهم ونظام حالهم فيجدون في مناجاة ربهم سرورا ولذة لا يوازن بأحقرها الدنيا وما فيها. (يعمل ويخشى) لأنه لما شاهد نور جلال الله بعين الحقيقة ولاحظ عظمة كبريائه بنور البصرة رأى كل شئ لديه صغيرا، وكل موجود سواه حقيرا، فيرى نفسه مقصرا وعمله مضمحلا، فيخشى من التقصير، كما قال سبحانه: * (إنما يخشى الله من عباده العلماء) *. (وجلا) حال عن الفاعل أي يعمل ويخشى حال كونه وجلا خائفا من عدم القبول لعلمه بأن المقبول من الأعمال إنما هو العمل الصالح، ولا علم له بصلاح عمله، أو من سوء الخاتمة وانقلاب العاقبة وعدم استمرار عمله لعلمه بأن كثيرا من العباد انعكست حاله في آخر عمره، أو من خجالة دار المقامة وعذاب يوم القيامة لعلمه بأنه لا ينجو أحد من عذابه إلا بفضل رحمته ولا علم له بأن الرحمة تدركه قطعا. (داعيا) متضرعا طالبا لقبول عمله وحسن عاقبته ومغفرة ذنوبه ودخوله في سلسلة الصالحين وزمرة المقربين. (مشفقا) مع ذلك من عدم استجابته لعلمه بأن الدعاء أيضا من جملة الأعمال التي لا يقبل إلا


1 - تزيي أهل العلم والورع بزي خاص كان معهودا في صدر الإسلام، ولم ينه عنه الأئمة (عليهم السلام) بل قرره واستحسنه في هذه الرواية فيكون حسنا، ولأن من تزيا بلباس التقوى استحيى من حضور المعاصي ومجالسها وسبب الأمر الحسن حسن وكل حسن مندوب إليه شرعا. (ش) (*)

[ 187 ]

الصالح منها، ولا علم له بقبوله ورده، أو من اشتغال قلبه بغيره سبحانه طرفة عين من أجل تدليسات الشيطان ووساوسه. (مقبلا على شأنه) أي على إصلاح حاله وتهذيب ظاهره وباطنه عن الأعمال الذميمة والأخلاق الرذيلة وتزينهما بالأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة. (عارفا بأهل زمانه) بأحوالهم وصفاتهم وأعمالهم وعقائدهم وأغراضهم الباعثة لهم إلى حركاتهم يعرف بعضها بالمكاشفة القلبية وبعضها بالمشاهدة العينية. (مستوحشا من أوثق إخوانه) لعلمه بأن المرضى من الناس من كل وجه عزيز الوجود، وإن مجالستهم ومخالطتهم تميت القلب وتفسد الدين، ويحصل للنفس بسببها ملكات مهلكة مؤدية إلى الخسران المبين، فيختار الوحشة منهم والاعتزال عنهم لئلا ينخدع طبعه من طبعهم كما ورد " فر من الناس فرارك من الأسد ". (فشد الله من هذا أركانه) أي فثبت الله تعالى وأحكم غاية الإحكام من هذا العالم الذي هو صاحب الفقه والعقل جميع أركانه الظاهرة والباطنة في العلم والعمل ووفقه للوصول إلى نهاية مقاصده بإفاضة غاية كمال قوتيه النظرية والعملية. (وأعطاه يوم القيامة أمانه) من شر ذلك اليوم وأهواله، ولما كان هذا العالم عاملا في الدنيا للآخرة استحق خير الدنيا والآخرة فلذلك دعا (عليه السلام) له بنيله خيرهما جميعا، بخلاف الأولين فإنهما استحقا الذلة والفناء، فقد دعا (عليه السلام) لكل صنف ما يليق به ويستحقه. * الأصل: وحدثني به محمد بن محمود أبو عبد الله القزويني، عن عدة من أصحابنا منهم جعفر بن محمد (1) الصيقل بقزوين، عن أحمد بن عيسى العلوي، عن عباد بن صهيب البصري، عن أبي عبد الله (عليه السلام). * الشرح: (وحدثني به) أي بهذا الحديث. (محمد بن محمود أبو عبد الله القزويني، عن عدة من أصحابنا منهم جعفر بن محمد (2) الصيقل بقزوين) متعلق بقوله حدثني على الظاهر، والغرض من ذكره هو الإشعار باهتمامه في ضبط الرواية، والظاهر (3) أن هذه العدة غير عدة يروي عنهم المصنف بلا واسطة. ويؤيده أن جعفر بن محمد غير داخل في عدته.


1 - و (2) في أكثر النسخ: جعفر بن أحمد. 3 - مع أن أمثال هذه الرواية غير محتاجة إلى الإسناد. (ش) (*)

[ 188 ]

(عن أحمد بن عيسى العلوي) ثقة من أصحاب العياشي. (عن عباد بن صهيب البصري) قال الكشي: إنه بتري، وقال النجاشي: هو ثقة، وفي كتاب الايضاح جزم بأنه ثقة. (عن أبي عبد الله (عليه السلام)). * الأصل: 6 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن محمد بن يحيى، عن طلحة بن زيد قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: " إن رواة الكتاب كثير، وإن رعاته قليل، وكم من مستنصح للحديث مستغش للكتاب، فالعلماء يخزيهم ترك الرعاية، والجهال يخزيهم حفظ الرواية، فراع يرعى حياته، وراع يرعى هلكته، فعند ذلك اختلف الراعيان وتغاير الفريقان ". * الشرح: (علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن محمد بن يحيى، عن طلحة بن زيد قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن رواة الكتاب كثير، وإن رعاته قليل) يعني أن رواة كلمات كتاب الله تعالى، أو الكتاب المشتمل على العلوم الدينية مطلقا فيشمل كتب الأحاديث أيضا جمع كثير وحفاظ ألفاظه وعبارته عن الغلط والتحريف واللحن والتصحيف جم غفير، وأن رعاته المتروحين بروح معانيه، والوالهين إلى جمال غوانيه، والنازلين في منازل مغانيه، والمتأملين في مفاده ومعناه، والعالمين بمقصده ومغزاه، والعاملين بمراده ومؤداه قليل. (وكم من مستنصح للحديث مستغش للكتاب) استنصحه عده نصيحا خالصا، وأصل النصح الخلوص، تقول: نصحته ونصحت له إذا خلصته، والنصيحة للحديث التصديق به والعمل بما فيه، كما يظهر من نهاية ابن الأثير، واستغشه خلاف استنصحه، يقال: غشه إذا لم يمحضه النصح أو أظهر له خلاف ما أضمر، والغش بالكسر الاسم منه، والمغشوش الغير الخالص، والغشش محركة الكدر المشوب، و " كم " اسم ناقص مبهم مبني على السكون مخبر عن التكثير، وما بعده مميز له مخفوض للإضافة، ولأنه في التكثير نقيض رب في التقليل وهومع مميزه في محل الرفع على الابتداء، و " مستغش " خبره، والمعنى كثيرا ممن يستنصح الحديث ويصحح ألفاظه وعباراته عن الأغلاط والأسقام ويحفظ حروفه وكلماته عن توارد الشكوك والأوهام ويخلصها عن شوائب القصور في مر الدهور ويصدق به ويعمل بما فيه ويتفكر في معانيه وزواجره ويستخرج رغائب كنوزه وذخائره ويتمسك بمقتضى نواهيه وأوامره يستغش الكتاب ويتخذه مهجورا ويترك روايته وحفظه (1) كأنه


1 - هذا رد على بعض الإخباريين التاركين للقرآن المتمسكين بالروايات، وكأنهم كانوا في عصر = (*)

[ 189 ]

لم يكن شيئا مذكورا ولا يرعاه حق رعايته، ولا يتوجه إلى فهم معناه ودرايته، ولا يتأمل في غرضه وغايته، فلا جرم يكون نور بصيرته في إدراك مقاصده كليلا، ولا يجد إلى فهم مطالبه دليلا، ولا إلى التوفيق بينه وبين الحديث سبيلا، فهو متحير في تيه الضلالة، وحائر في سبيل الجهالة، وواله في أودية البطالة، لأنه ترك الأصل وتمسك بالفرع وأفسد الثمرة وتشبث بالشجرة. (فالعلماء يحزنهم ترك الرعاية) في النهاية: حزنه أمر أي أوقعه في الحزن، يقال: الأول لغة قريش، والثاني لغة تميم، وإنما يحزنهم ذلك لأن نفوسهم كاملة وعقولهم فاضلة وقلوبهم مائلة إلى حضرة القدس وجناب الحق ومنازل القرب فغاية همهم ونهاية قصدهم هو التخلص من العلائق النفسانية والتحلي بالفضائل الروحانية برعاية ما نطقت به الآيات القرآنية والروايات النبوية من الحلال والحرام والقصص والعبر والأخلاق والوعد والوعيد ثم العمل به على وجه يوجب قرب الحق ورضاه ويورث نور القلب وصفاه حتى يستحقون له بذلك كمال القوتين العلمية والعملية ورئاسة الدارين الدنيوية والاخروية، فلا جرم يحزنهم ترك التفكر والعمل والرعاية وعدم العلم والفهم والدراية في الدنيا لعلمهم بما يوجب ذلك الترك من وخامة العاقبة وسوء الخاتمة، وفي الآخرة لمشاهدتهم فوات ما يترتب على الرعاية من الأجر الجميل والثواب الجزيل. (والجهال) كذا في أكثر النسخ المعتبرة، وفي بعضها: " والجهلاء ". (يحزنهم حفظ الرواية) يخزيهم بالخاء والزاي المعجمتين من أخزاه إذا أذله وأهانه، يعني أن حفظ الرواية فقط وترك الرعاية والتفكر والعمل يوجب خزيهم ووبالهم ويورث هوانهم ونكالهم وقت الموت ويوم القيامة لعلمهم حينئذ بأن النافع فيه والسبب للنجاة من شدائده هو رعاية ما في الكتاب والتفكر فيه والعمل بمقتضاه لا مجرد الرواية فيخزيهم حفظ الرواية من أجل أنهم صاروا من أهل الكتاب ورواته ونقلة ألفاظه وعباراته مع ترك رعايته والتفكر فيه والعمل به. وفي بعض النسخ " يحزنهم " بالحاء المهملة والزاي المعجمة (1) والنون، وحزنه أو أحزنه، وفي هذه


= الأئمة (عليهم السلام) أيضا مع أن النبي (صلى الله عليه وآله) أمر بالتمسك بالثقلين، وكل واحد منهما حجة لا يجوز ترك أحدهما بالآخر، وهؤلاء يعدون الحديث ناصحا، والقرآن غاشا، فهو مثل الاستحسان يعني عد الشئ حسنا والاستكثار عده كثيرا ومن لا يعمل بالقرآن كأنه يعد مواعظه وأوامره كلام غاش يريد إضلاله، فإذا التفت إلى لفظه قال: إنه محرف وإذا توجه إلى معانيه قال: متشابه أو لعله منسوخ لا نعلمه، وأما الحديث فإن قيل: إنه موضوع أو محرف اللفظ أو منقول بالمعنى أو لعله منسوخ أنكر غاية الانكار. (ش) 1 - نقل العلامة المجلسي (رحمه الله) من مستطرفات السرائر عن كتاب انس العالم للصفواني عن طلحة بن زيد قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): " رواة الكتاب كثير ورعاته قليل، فكم من مستنصح للحديث مستغش للكتاب، والعلماء يحزنهم الدراية، والجهال يحزنهم الرواية " انتهى. والظاهر أن الروايتين واحدة وأن = (*)

[ 190 ]

النسخة وقع لفظ " الرعاية " بدل " الرواية " في بعض النسخ، والمعنى على تقدير الرعاية أن حفظ الرعاية يوجب حزنهم وغمهم لالفهم برواية الكتاب وانسهم بظواهره ومجرد نقله بحيث لو خطر ببالهم حفظ رعايته والتكفر فيه والعمل بمقتضاه الموجب للميل إلى ضد مأنوسهم يستوحشون منه ويحزنون لأن كل حزب بما لديهم فرحون، ومعناه على تقدير الرواية قريب مما ذكرناه أولا فإن مجرد حفظ الرواية يوجب حزنهم لما مر، وقيل: معناه أنه يهمهم حفظ الرواية ويحزنهم ما يتعلق بها من ترك الحفظ ومحوه، أو يكون على ترك المضاف وهو الترك وهذا تكلف مستغنى عنه بما ذكرناه. (فراع يرعى حياته) أي يرعى ويحفظ حياته الأبدية وهي حياة نفسه برعاية الكتاب والتدبر فيه والعمل به وتقويم حدوده وأحكامه واتباع جميع ما فيه. ومن جملة ما فيه الاقتداء بولاة الأمر وهداة الدين في القول والعمل. (وراع يرعى هلكته) الهلاك السقوط، وقيل: الفساد، وقيل: هو مصير الشئ إلى حيث لا يدري أين هو، والهلكة بضم الهاء وسكون اللام مثله، وضبطه بعضهم بضم الهاء وفتح اللام، أي وراع يرعى ويحفظ ما فيه هلكته الأبدية الاخروية، وهو نبذ الكتاب وتحريف حدوده وترك أحكامه والاقتصار على مجرد روايته من غير أن يتفكر فيه ويعمل به وكان من نبذة الكتاب وعدم العمل به أن ولي الذين لا يعلمون على الذين يعلمون فأوردوه على الهوى وأصدروه إلى الردى فهو مع السادة والكبراء من أهل الدنيا، وإذا تفرقت قادة الأهواء كان مع أكثرهم مالا وأعظمهم جاها، وذلك مبلغه من العلم ولا يزال كذلك في طمع وطبع حتى يسمع صوت إبليس من لسانه وهو معجب مفتون إلى أن يموت ويجد هلاكه ونكاله جزاء بما كسب وهو من الخاسرين. (فعند ذلك اختلف الراعيان وتغاير الفريقان) أي عند ظهور الحياة والهلاك وكمال انكشافهما برفع الحجب والأستار وهو وقت الموت أو يوم القيامة الذي تبرز فيه الخفيات وتظهر فيه الأسرار بحيث يشاهد كل نفس بعين اليقين ما قدمت من عمل حاضرا، اختلف الراعيان فكل راع مع ما يرعاه بحيث لا يبقى لراعي الهلاك مجال مناقشة مع راعي الحياة في ادعاء الحياة لنفسه " وتغاير الفريقان " أي فريق الحياة والهداية وفريق الهلاك والغواية، وهما اللذان أخبر الله سبحانه عنهما بقوله: * (فريق في الجنة وفريق في السعير) *، وأما الدنيا فلكونها دار التكليف والامتحان ومقام الجاب والالتباس، فربما يقع فيها التباس عند الجهلة بين الناجي والهالك ويدعي الهالك أنه الناجي إما لأنه أحب نفسه فلا يرى عيبها أو لأنه ألف بالباطل وأنس به فيراه حقا أو لأنه قادته = أصلها طلحة بن زيد، وكان من العامة إلا أن له كتابا رواه عن الصادق (عليه السلام) معتمدا عليه عندنا واختلاف الألفاظ في الروايات غير عزيز. (ش) (*)


[ 191 ]

الأهواء الباطلة إلى الدنيا ورأى أنه لا يمكنه الوصول إليها إلا بدعوى الصلاح والنجاة فادعاهما على سبيل الخدعة والتدليس فهذا بحسب الظاهر إنسان مثل أهل الحق وبذلك يقع التباس بينهما وبحسب الباطن سبع أو شيطان وأهل الحق في الباطن نور إلهي وعالم رباني فهما مختلفان في الحقيقة الإنسانية ومتغايران في الصورة الباطنية، وإذا قامت القيامة ظهر هذا الاختلاف والتغاير ظهورا تاما كظهور المحسوسات. * الأصل: 7 - الحسين بن محمد الأشعري، عن معلى بن محمد، عن محمد بن جمهور، عن عبد الرحمن بن أبي نجران، عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " من حفظ من أحاديثنا أربعين حديثا بعثه الله يوم القيامة عالما فقهيا ". * الشرح: (الحسين بن محمد الأشعري، عن معلى بن محمد، عن محمد بن جمهور) بصري، غال، ضعيف في الحديث. (عن عبد الرحمن بن أبي نجران، عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من حفظ من أحاديثنا أربعين حديثا) معتقدا بها من حيث إنها من أحاديثنا خرج بالقيد الأول من حفظها من المخالفين مع عدم الاعتقاد بها، وبالقيد الثاني من حفظها منهم مع الاعتقاد بها من حيث إنها موافقة لاصولهم. (بعثه الله يوم القيامة عالما فقهيا) العالم الفقيه هو العالم بأحكام الدين وأحوال النفس ومفاسد الأعمال ومنافعها ومنافع الآخرة والعامل لها على وجه البصيرة مع الخوف والخشية (1)، والمقصود أنه يحشره في زمرة الفقهاء وينزله في مرتبتهم ويثيبه بمثابتهم من غير تفاوت، والمقصود أنه معدود يوم الحشر من جملة الفقهاء والعلماء وإن كان بينهم تفاوت في الدرجات باعتبار التفاوت في الحالات (2) ومضمون هذا الحديث مستفيض مشهور بين الخاصة والعامة (3)، بل قال بعض أصحابنا بتواتره ونقله ابن بابويه في الخصال بطرق متعددة متكثرة مع اختلاف يسير في اللفظ والأحاديث المذكورة في هذه الرواية التي يترتب على حفظها الجزاء المذكور وإن كانت مطلقة شاملة لما يتعلق


1 - أشار بذلك إلى ما تكرر ذكره من أن الفقه في اصطلاح الأئمة (عليهم السلام) كان شاملا لجميع علوم الدين لا خاصا بالفروع، على ما هو متعارف في زماننا. (ش) 2 - يعني لا يمكن أن يكون الحافظ لأربعين حديثا من جميع الجهات مساويا لمن عرف خمسين ألف أو أكثر. (ش) 3 - أخرجه ابن عدي في الكامل من حديث ابن عباس وأنس، وابن النجار من حديث أبي سعيد الخدري، وفيه: " كنت له شفيعا وشهيدا يوم القيامة ". (*)

[ 192 ]

بالامور الدينية مثل الاعتقادات والعبادات والأخلاق وما يتعلق بالامور الدنيوية كسعة الرزق والأطعمة والأشربة ونحوها، لكن المراد بها هو القسم الأول لتقييدها في بعض الروايات بما يحتاجون إليه في أمر دينهم مثل ما رواه الصدوق في الخصال عن أحمد بن محمد، عن أبيه، عن علي بن إسماعيل، عن عبيد الله بن عبد الله، عن موسى بن إبراهيم المروزي، عن الكاظم موسى بن جعفر (عليهما السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " من حفظ على امتي أربعين حديثا فيما يحتاجون إليه في أمر دينهم بعثه الله عز وجل يوم القيامة فقيها عالما ". والقاعدة تقتضي حمل المطلق على المقيد، وإبقاء المطلق على إطلاقه أيضا محتمل، والمراد بحفظها ضبطها وحراستها عن الاندراس ونقلها بين الناس والتفكر في معناها والتدبر في مغزاها، والعمل بمقتضاها، سواء حفظها عن ظهر القلب ونقشها في لوح الخاطر أوكتبها ورسمها في الكتاب والدفاتر، وقال بعض الأصحاب: الظاهر أن المراد بحفظها الحفظ عن ظهر القلب فإنه كان متعارفا معهودا في الصدر السالف، إذ مدارهم كان على النقش في الخاطر لا على الرسم في الدفاتر. وفيه: أن الحفظ أعم من ذلك والتخصيص بلا مخصص وما ذكره للتخصيص ممنوع، إذ كتب الحديث في عهد النبي (صلى الله عليه وآله) (1) وعهد أمير المؤمنين (عليه السلام) ومن بعده من الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) معروف وأمرهم بالكتابة مشهور يظهر كل ذلك لمن تصفح الروايات وقال بعضهم: المراد بحفظها تحملها على أحد الوجوه المقررة في اصول الفقه، أعني السماع من الشيخ والقراءة عليه والسماع حال قراءة الغير والإجازة والمناولة والكتابة. وفيه: أن تحملها على هذه الوجوه اصطلاح جديد (2)، فحمل كلام الشارع عليه بعيد على أنه لم يثبت جواز تحملها بالثلاثة الأخيرة (3).


1 - ولكن لم تكن عادة في عهد النبي (صلى الله عليه وآله) وإنما كان يتفق نادرا. وفي اسد الغابة: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لما فتح مكة خطب خطبة فقام رجل من أهل اليمن يقال له: أبو شاه، فقال: يا رسول الله، اكتبوا لي فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " اكتبوا لأبي شاه " فقيل للأوزاعي: ما قوله: اكتبوا لأبي شاه ؟ قال: يقول: اكتبوا له خطبته التي سمعها، انتهى بتخليص. وممن كتب: أبو رافع مولى رسول الله (صلى الله عليه وآله) نقله النجاشي في أول فهرسته وفي عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) زيد بن وهب الجهني فإنه أول من كتب وجمع خطبه (عليه السلام) في الجمع والأعياد. (ش) 2 - والأصل فيه العامة وتبعهم أهل الحديث من الشيعة الإمامية، والعجب أن الإخباريين يطعنون في طرية المجتهدين بأنهم أخذوا اصولهم واصطلاحاتهم من العامة مع أن دأب المحدثين أيضا كان ذلك، والحق أنه لا ضير في أخذ الاصطلاح ولا المصطلح إذا كان حقا مؤيدا بالدليل. (ش) 3 - وهي الإجازة والمناولة والكتابة، وفي تحمل الرواية بها إشكال لاستلزامه الكذب ظاهرا، فإن معنى التحمل أن يستحق المتحمل ويستأهل لأن يقول حدثني فلان، والظاهر من هذا الكلام أنه شافهه مع أنه لم يشافهه بالحديث بل بالإجازة أو المناولة أي بإعطاء كتابه إياه أو بالكتابة. نعم إذا صرح بذلك = (*)

[ 193 ]

وقال الشيخ بهاء الملة والدين (رحمه الله): الظاهر من قوله: " من حفظ " ترتب الجزاء على مجرد حفظ الحديث، وأن معرفة معناه غير شرط في حصول الثواب، أعني البعث يوم القيامة فقيها عالما، وهو غير بعيد، فإن حفظ ألفاظ الحديث طاعة كحفظ ألفاظ القرآن، وقد دعا (صلى الله عليه وآله) لناقل الحديث وإن لم يكن عالما بمعناه كما يظهر من قوله (عليه السلام): " رحم الله امرءا سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها فرب حامل فقه ليس بفقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه " (1)، ولا بعد أن يندرج يوم القيامة بمجرد حفظ اللفظ في زمرة العلماء " فإن من تشبه بقوم فهو منهم ". هذا كلامه، واورد عليه (2): بأن كون حفظ ألفاظ الحديث طاعة يقتضي أن يكون للحافظ أجر كأجر سائر الطاعات البدنية لا كأجر الفقاهة التي هي من الصفات القلبية والطاعات العقلية ولا دلالة فيما نقله من الحديث النبوي إلا على كون الحافظ لألفاظ الحديث مرحوما لا على أن له في القيامة درجة العلماء والثاني هو المبحوث عنه دون الأول، وقوله: " من تشبه بقوم فهو منهم " (3) على تقدير جريانه في كل نوع لا يفيد هنا، لأن التشبه غير محقق هنا، إذ العلم من الامور العقلية الباطنية وأنى يحصل التشبه بالعالم بمجرد حفظ الألفاظ المسموعة ؟ والحق أن للحفظ مراتب كثيرة مرجعها إلى ثلاثة: الاولى: حفظ صور الألفاظ إما في الخيال أو في الكتابة. الثانية: ذلك مع حفظ معانيها الأولية التي تصل إليها أفهام أكثر الناس. الثالثة: ذلك مع حفظ معانيها العقلية وحقائقها العرفانية والعمل بها.


= جاز كقوله: أخبرني إجازة والأظهر عندي أن لفظ حدثني وأمثاله خرج في عرف المحدثين ونقل إلى معنى يشمل الإجازة ولا ضير فيه لوضوح المراد. (ش) 1 - رواه الترمذي في السنن ج 10، ص 25، وفيه: " نضر الله عبدا " وكذا رواه الحسن بن علي بن شعبة الحراني في تحف العقول ص 42، والبغوي في مصابيح السنة ج 1، ص 22. 2 - المورد هو صدر المتألهين (قدس سره) وكذلك كثير مما يعتنى به من تحقيقات الشارح مقتبس منه (قدس سرهما) فكفى بالرجل فخرا أن يليق بالاستفادة من ذلك العلم العيلم والبحر الخضم الذي حارت دون إدراك فضله عقول اولي الهمم، ومع ذلك فلا أرى كثير فرق بين كلام الشيخ بهاء الدين وتلميذه الصدر (قدس سرهما)، إذ لا يدل كلام الشيخ على تساوي المحدث والعالم من كل وجه، بل مراده التشابه بينهما في الجملة، لأنه استشهد بقول رسول الله (صلى الله عليه وآله): " رحم الله امرءا سمع مقالتي " انتهى، وعد المحدث من المتشبهين بالعلماء فهو بمنزلة العطار وتاجر العقاقير يجمعها للطبيب حتى يستعملها فيما يفيد، وعلى العطار أن يميز بين الدواء الجيد والردئ. (ش) 3 - أخرجه أبو داود في السنن من حديث ابن عمر، والطبراني في الأوسط من حديث حذيفة بسند حسن كما في الجامع الصغير. (*)

[ 194 ]

ولكل واحد من الحفظة أجر وثواب على حسب مقامه ومرتبته، والأظهر عند من له بصيرة قلبية أن المراد بالحفظ هنا الذي يستحق به الحافظ أن يبعثه الله يوم القيامة عالما فقهيا هو الحفظ بالمعنى الثالث. وأما غيره من أقسام الحفظ فيترتب عليه أجر وثواب ولكن أجره من قبيل أجر الأعمال البدنية ونحوها، ومما يدل على أن العلم والعمل داخلان في مفهوم الحفظ المترتب عليه الجزاء المذكور ما رواه الصدوق بإسناده في الخصال عن النبي (صلى الله عليه وآله) في وصية علي (عليه السلام) وهو حديث طويل من أراد الاطلاع عليه فليرجع إليه. بقي هنا شئ ذكره الشيخ (رحمه الله) وهو: أنه لو اشتمل الحديث الواحد على أحكام متعددة فلا شبهة ما في جواز الاقتصار على نقل البعض بانفراده إذا لم يكن متعلقا بالباقي، ونقل العلامة في نهاية الاصول الاتفاق على ذلك كقوله (صلى الله عليه وآله): " من فرج عن أخيه كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن ستر على أخيه ستر الله عليه في الدنيا والآخرة، والله تعالى في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه " (1)، فهذا حديث واحد ويجوز الاقتصار على نقل كل واحد من الأربع بانفراده منقطعا، فيقال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) كذا، وأما ما يرتبط بعضه ببعض فلا يجوز الاقتصار على بعضه كالاقتصار على نقل قوله (صلى الله عليه وآله): " لا سبق إلا في نصل " (2) من غير أن يضاف إليه " أو خف أو حافر " والاقتصار على قوله (صلى الله عليه وآله): " من نزل على قوم فلا يصومن تطوعا " (3) من غير أن يضاف إليه " إلا بإذنهم "، وعلى هذا فلو تضمن الحديث أربعين حكما مثلا كل واحد منهما مستقل بنفسه غير مربوط بما قبله وما بعده فلا شك في جواز نقل كل واحد منها بانفراده لكن هل يصدق على من حفظه أنه حفظ أربعين حديثا فيستحق الثواب المترتب على ذلك أم لا ؟ ميل الشيخ إلى الأول وكلام غيره خال عن ذكره نفيا وإثباتا، وهو محل تأمل، فتأمل. ثم العلم بلمية تأثير عدد الأربعين في ترتب ذلك الثواب دون ما تحته من الأعداد مختص بأهل الذكر (عليهم السلام) لأنهم العارفون بحقائق الأشياء وأسبابها كما هي ونحن من أهل التسليم، وما يخطر بالبال من أن تكميل آدم كان في أربعين يوما وانقلاب النطفة في الرحم إلى مبدأ الصورة الإنسانية يكون في


1 - أخرجه الترمذي في السنن ج 8، ص 116، أبواب البر والصلة من حديث أبي هريرة، وفيه: بدل قوله: " ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته " " من يسر على معسر في الدنيا يسر الله عليه في الدنيا والآخرة "، وروى الكليني في كتاب الإيمان والكفر من الكافي باب تفريج كرب المؤمن نحوه. 2 - الكافي - كتاب الجهاد (باب فضل ارتباط الخيل وإجرائها والرمي) تحت رقم 6 و 14. 3 - رواه الصدوق في كتاب من لا يحضره الفقيه - باب وجوه الصوم، تحت رقم 1. (*)

[ 195 ]

الأربعين، فلو تجزأ عمره قليلا كان أو أكثر بأربعين جزءا وحفظ في كل جزء منه حديثا واحدا كأنه كان في جميع أجزاء عمره طالبا للأحاديث، فلذلك يعد يوم القيامة من جملة العلماء فهو كلام تخميني وحديث تقريبي، وأما ما قيل من أن الوجه أن من استحفظ هذا العدد ظهر في قلبه ملكة علمية وفي نفسه بصيرة كشفية يقتدر بها على استحضار غيرها من العلوم والإدراكات فلذلك يبعث في زمرة العلماء والفقهاء فيرد عليه: أن ذلك مجرد دعوى بلا بينة (1). * الأصل: 8 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عمن ذكره، عن زيد الشحام، عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله عز وجل: * (فلينظر الإنسان إلى طعامه) *، قال: قلت: ما طعامه ؟ قال: " علمه الذي يأخذه عمن يأخذه ؟ ". * الشرح: (عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عمن ذكره، عن زيد الشحام، عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله عز وجل: * (فلينظر الإنسان إلى طعامه) *، قال: قلت: ما طعامه ؟ قال: علمه الذي يأخذه عمن يأخذه ؟) (2) الإنسان مركب من جوهرين يطلق هذا الاسم على كل منهما: أحدهما: هذا الهيكل المحسوس، وله عوارض مخصوصة به مثل حسن المنظر وقبحه وطول المقدار وقصره وسواد اللون وبياضه وصحة العضو وفساده، فإنه كلما يقال مثلا: هذا الإنسان حسن الوجه يراد به هذا الهيكل. وثانيهما: الجوهر العاقل، وهو النفس الناطقة، وله عوارض مخصوصة به مثل الإدراك والتعقل والنظر في المعقولات والتفكر فيها، فإنه كلما يقال: الإنسان نظر إلى كذا مثلا يراد به ذلك الجوهر، وكما أن كمالات هذا الهيكل التي تكون له عند تمام نشوئه ونموه بالقوة عند بدء فطرته وأوان طفوليته وهو يحتاج في حركته من القوة إلى الفعل إلى غذاء جسماني شبيه به في الجسمية لينضم به ويزيد


1 - لكن يكتفى بمثله في أمثال هذه المطالب، لأن الغرض إبداء وجه لإمكان ثبوت هذه المرتبطة الجليلة، إذ ربما يختلج ببال الإنسان أن الأربعين قليل بالنسبة إليها ولا يوجد نظيره في سائر العلوم، فإن من حفظ أربعين فرعا من الفروع الفقهية لا يعد فقيها، وكذلك أربعين حكما في النحو والطب وغيرهما، فكيف يعد بأربعين حديثا من العلماء في الآخرة ؟ (ش) 2 - الآية في سورة عبس، وبعده: * (إنا صببنا الماء صبا * ثم شققنا الأرض شقا * فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا * وزيتونا ونخلا) *، وقال العلامة المجلسي (رحمه الله) في بيانه: هذا أحد بطون الآية الكريمة، وعلى هذا التأويل المراد بالماء: العلوم الفائضة منه تعالى، فإنها سبب لحياة القلوب وعمارتها، وبالأرض: القلوب والأرواح، وبتلك الثمرات: ثمرات تلك العلوم. (*)

[ 196 ]

مقداره حتى يبلغ غاية كماله ولا يجوز له طلب هذا الغذاء وأخذه من أي طريق كان بل لا بد من أخذه من طريق خاص قدر له خالقه كذلك كمالات ذلك الجوهر المستور التي تكون له عند تمام نشوئه ونموه وبلوغه إلى الغاية القصوى بالقوة عند تعلقه بذلك الهيكل وأوان هيولانيته، وهو يحتاج في حركته من القوة إلى الفعل إلى طعام وغذاء روحاني شبيه به في الروحانية، وهو العلم والمعرفة ليقويه وينقله من حال إلى حال حتى يبلغ إلى غاية كماله، ولا يجوز له طلب هذا الغذاء وأخذه إلا ممن يجوز أخذه منه، وهو من عينه الخالق لتربية أرواح الخلائق وتغذية نفوسهم. إذا عرفت هذا فقد علمت أن تفسير الآية بما ذكر تفسير قريب، لأن النظر مختص بذلك الجوهر، والطعام هو ما يتغذى به ويلتذ به مشترك بين الجسماني والروحاني بل إطلاقه على الغذاء الروحاني أولى وأجدر من إطلاقه على الغذاء الجسماني، إذ النسبة بين الغذاءين كالنسبة بين الجوهر الروحاني والجسم فيحمل على الروحاني وهو العلم لأنه أشرف ولدلالة النظر عليه ثم إنه ينبغي أخذه من الأب الروحاني وهو النبي (صلى الله عليه وآله)، ومن يقوم مقامه من العترة الطاهرة ولو بواسطة، كما أن الطفل يأخذ طعامه الجسماني من الأبوين وهما يطعمانه أفضل ما عندهما بطيب الخاطر وكمال الشفقة لا من غيرهما بالسؤال ونحوه سيما إذا كان ذلك الغير أيضا فقيرا مضطرا محتاجا إلى السؤال وطلب الغذاء مثله. * الأصل: 9 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن النعمان، عن عبد الله بن مسكان، عن داود بن فرقد، عن أبي سعيد الزهري، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: " الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة، وتركك حديثا لم تروه خير من روايتك حديثا لم تحصه ". * الشرح: (محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن النعمان) ثقة ثبت صحيح واضح الطريقة. (عن عبد الله بن مسكان، عن داود بن فرقد، عن أبي سعيد الزهري) مجهول الحال. (عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة) الشبهة الالتباس، والمشتبهات الامور المشكلات، والمتشابهات المتماثلات، لأن بعضها يشبه بعضا، ومنه تشبيه شئ بشئ، وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): " وإنما سميت الشبهة شبهة لأنها تشبه الحق " (1)، ومن طريق العامة: " الفتنة تشبه مقبلة وتبين مدبرة "، يعني إذا أقبلت تشبهت على القوم وأراهم أنهم على الحق حتى


1 - النهج - قسم الخطب، تحت رقم 37. (*)

[ 197 ]

يدخلوا فيها ويركبوا منها ما لا يجوز، فإذا أدبرت وانقضت بان أمرها فعلم من دخل فيها أنه كان على الخطأ، والقحوم والاقتحام إلقاء النفس في مشقة والدخول فيها بلا روية، يقال: قحم في الأمر كنصر قحوما: رمى بنفسه فيه فجأة بلا روية، واقتحم عقبة أو وهدة: رمى بنفسه فيها على شدة ومشقة والهلكة بضم الهاء وسكون اللام، وقيل على مثال همزة الهلاك. وملخص القول في هذا المقام: أنه إذا ورد على أحد أمر من الامور الشرعية، سواء كان متعلقا بالعبادات أو بالمعاملات أو بالمناكحات أو بغيرها فإما أن يعلم بنور بصيرته رشده فيتبع أو غيه فيجتنب أو لا يعلم شيئا منها، واشتبه عليه الأمران مثلا لا يعلم أن هذا الفعل الخاص مما أحل له الشارع أو حرمه عليه، فإن الوقوف عليه وعدم الأخذ به من حيث الحكم ومن حيث العمل متعين حتى ينكشف له الحال بالرجوع إلى حديث أهل الذكر (عليهم السلام) ولو بواسطة، أما من حيث الحكم فلأنه لو حكم بحليته أو بحرمته ولا علم له بهما فقد رمى نفسه في الهلاك والضلال فإنه أدخل في الدين ما ليس له به علم، وأما من حيث العمل فلأنه إذا ترك المشتبه بالحرام فقد نجا من الحرام قطعا، وإذا فعله فقد دخله قطعا. لا يقال: القول بالوقوف عند الشبهة مشكل فيما إذا كان طلب أصل الفعل معلوما شرعا وله كيفيتان متضادتان لا يمكن انفكاكه عنهما ووقع الاشتباه في كل واحد منهما فإن ترك الأخذ بهما مع الإتيان بذلك الفعل محال كقراءة البسملة في الصلاة الإخفاتية إذا وقع الاشتباه في وجوب إجهارها وحرمته، وكذا في وجوب إخفاتها وحرمته. لأنا نقول: في هذا الفرض على تقدير تحققه يجب على المكلف الوقوف وترك العمل بكل واحدة منهما من حيث خصوصيتها لعدم علمه بأن الشارع طلبها على تلك الخصوصية، ولا ينافي ذلك فعل واحدة منهما من حيث التخيير بينها وبين ضدها بناء على أن طلب الفعل مستلزم لطلب الكيفية التي لا يوجد ذلك الفعل بدونها وإذا كانت تلك الكيفية أحد أمرين متضادين ولا دليل على خصوص أحدهما وقع التخيير بينهما، هذا حكم الوقوف من حيث العمل. وأما الوقوف من حيث الحكم فأمره واضح، لأن الوقوف عن حكم كل واحد منهما لا ينافي العمل بواحد منهما باعتبار أن أصل الفعل المطلوب لا ينفك عنهما. (وتركك حديثا لم تروه) الفعل إما مجرد معلوم، يقال: روى الحديث رواية أي حمله يعني أخذه من مأخذه وضبطه متنا وسندا وحفظه كلمة وحروفا من غير تبديل وتغيير مخل بالمعنى المقصود، أو مزيد معلوم من باب التفعيل أو الأفعال، يقال: رويته الحديث تروية وأرويته أي حملته على روايته أو مزيد مجهول من البابين ومنه روينا في الأخبار.


[ 198 ]

(خير من روايتك حديثا لم تحصه) " لم " مع مدخوله في الموضعين في محل النصب على أنه حال من ضمير الخطاب أو صفة لحديثا، والإحصاء العد والحفظ، تقول: أحصيت الشئ إذا عددته وحفظته، وكان استعماله في الحفظ باعتبار أنه لازم للعد إذ عد الشئ يستلزم العلم بواحد واحد معدود وحفظه على أبلغ الوجوه، فمعنى إحصاء الحديث علمه بجميع أحواله وحفظه من جميع جهاته التي ذكرناها في محله، والمعنى أن ترك رواية حديث لم تحمله على الوجه المذكور خير من روايتك إياه، لأنك إن رويته هلكت وأهلكت الناس بمتابعتهم لك فيما ليس لك به علم وإن تركت روايته سلمت وسلم الناس من الوقوع في الضلال، ويحتمل أن يكون المعنى تركك رواية حديث مضبوط محفوظ عندك (1) خير من روايتك حديثا غير محفوظ، ولفظة " خير " في هذه الفقرة على المعنيين، وفي الفقرة السابقة مجرد عن معنى التفضيل، إذ يعتبر أصل الفعل في المفضل عليه على سبيل الفرض والتقدير. فإن قلت: لا خير في ترك رواية الحديث المحفوظ فما الوجه لإثباته له ؟ قلت: الوجه هو المبالغة في نفي الخير عن رواية الحديث الغير المحفوظ والزجر عن نقله ونشره حيث جعل ما ليس خيرا خيرا بالنسبة إليه، ولعل سبب التفاوت بينهما أن الثاني بدعة وزيادة في الدين دون الأول. * الأصل: 10 - محمد، عن أحمد، عن ابن فضال، عن ابن بكير، عن حمزة بن الطيار، أنه عرض على أبي عبد الله (عليه السلام) بعض خطب أبيه حتى إذا بلغ موضعا منها قال له: كف واسكت، ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): " لا يسعكم فيما ينزل بكم مما لا تعلمون إلا الكف عنه والتثبت والرد إلى أئمة الهدى حتى حملوكم فيه على القصد ويجلوا عنكم فيه العمى ويعرفوكم فيه الحق، قال الله تعالى: * (فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) * ". * الشرح: (محمد، عن أحمد، عن ابن فضال، عن ابن بكير، عن حمزة بن الطيار، أنه عرض على أبي عبد الله (عليه السلام) بعض خطب أبيه حتى إذا بلغ موضعا منها) إذا اسم يدل على زمان ولا تستعمل إلا


1 - ولكن لا يعلم كيف تصور الشارح دلالة لم تروه على الحديث المحفوظ المضبوط وعدم الرواية تدل على عدم الضبط ؟ إلا أن يقال: قد يكون الحديث مضبوطا محفوظا بأن كتبه وقابله لكن لم يسمعه من شيخه، وقد لا يكون مضبوطا أيضا، فمعنى الكلام أن ترك الحديث المضبوط الغير المسموع خير من رواية غير المضبوط، وفيه بعد وتكلف. (ش) (*)

[ 199 ]

مضافة إلى جملة وكثيرا ما تستعمل في زمان ماض مثل قوله تعالى: * (حتى إذا بلغ مطلع الشمس) * * (حتى إذا بلغ بين السدين) * * (حتى إذا ساوى بين الصدفين) * * (حتى إذا جعله نارا) * وهاهنا من هذا القبيل. (قال له: كف واسكت) الأمر بالكف والسكوت إما لأن من عرض الخطبة فسر هذا الموضع وبينه برأيه وأخطأ فأمره (عليه السلام) بالكف عن تفسيره برأيه وبيانه بفهمه وأفاد أن مثل هذا يجب طلب تفسيره من الأئمة (عليهم السلام) أو لأنه كان في هذا الموضع غموض موجب لصعوبة فهم المقصود ولم يتثبت عنده القارئ، ولم يطلب تفسيره منه (عليه السلام)، وأراد المرور عليه فأمره (عليه السلام) بالكف عن العرض والسكوت عن القراءة، وأفاد أن في أمثال ذلك يجب التثبت وطلب فهم المقصود منهم (عليهم السلام) أو لأنه (عليه السلام) أراد إنشاد ما أفاد وبيان ما أراده لشدة الاهتمام به فأمره بالكف عن العرض والسكوت عن التكلم. (ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): لا يسعكم) أي لا يجوز لكم. (فيما ينزل بكم مما لا تعلمون) أي فيما ينزل بكم من قضية لا تعلمون حكمها أو من حديث لا تعلمون ما هو المقصود منه لغموضه وصعوبة فهمه لكونه دقيقا أو مجملا أو متشابها أو مأولا. (إلا الكف عنه والتثبت) أي عدم الأخذ به قولا وفعلا واعتقادا وعدم المبادرة إلى إنكاره بل اللازم عليكم التثبت. (والرد إلى أئمة الهدى) الذين حازوا كل كمال ومكرمة بإلهام إلهي وفازوا بكل فضيلة ومنقبة بتعليم نبوي وتقدسوا عن كل رذيلة ومقدرة بتقديس رباني فعلموا ما كان وما يكون وما تحتاج إليه الامة إلى قيام الساعة. (حتى حملوكم فيه على القصد) أي على العدل والعلم والقول والفعل والعقد وهو الوسط بين طرفي الإفراط والتفريط. (ويجلوا عنكم فيه العمى) أي يكشفوا عنكم عمى بصيرتكم ويوضحوا لكم سبيل هدايتكم لتشاهدوه بنظر صحيح وتأخذوه بنص صريح. (ويعرفوكم فيه الحق) لئلا تزيغ عنه قلوبكم ولا تميل إلى الباطل صدوركم فتخلصوا من الاقتحام في الشبهات والتورط في الهلكات، ثم علل وجوب الرد إليهم بقوله: (قال الله تعالى: * (فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) *) أهل الذكر هم العترة من نبينا (صلى الله عليه وآله) الذين جعلهم الله تعالى هداة إلى صراطه في بيداء الضلالة ودعاة إلى حضرة قدسه في ظلمات الجهالة وقارن طاعتهم بطاعة الرسول وطاعته، فقال جل شأنه: * (وأطيعوا الله وأطيعوا


[ 200 ]

الرسول واولي الأمر منكم) *، قال أبو عبد الله جعفر بن محمد (عليهما السلام) في تفسير هذه الآية: " الذكر محمد ونحن أهله المسؤولون " (1). * الأصل: 11 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن القاسم بن محمد، عن المنقري، عن سفيان بن عيينة، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: " وجدت علم الناس كله في أربع: أولها أن تعرف ربك، والثاني أن تعرف ما صنع بك، والثالث أن تعرف ما أراد منك، والرابع أن تعرف ما يخرجك من دينك ". * الشرح: (علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن القاسم بن محمد، عن المنقري) هو سليمان بن داود. (عن سفيان بن عيينة، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: وجدت علم الناس كله في أربع) أي العلم النافع الذي لا تحصل النجاة إلا به (2). (أولها أن تعرف ربك) ولمعرفته مراتب:


1 - سيأتي في كتاب الحجة إن شاء الله تعالى. 2 - جعل العلوم هنا منحصرة في أربعة، وسابقا في ثلاثة: آية محكمة وفريضة عادلة وسنة قائمة، ولا منافاة في اختلاف التقسيم باختلاف الاعتبارات. والحاصل من جميعها: أن العلم الذي يعتبر عند الله تعالى علما هو العلم به وبحكمه تعالى، وأما سائر العلوم فإن كان المقصود منها التوسل إلى معرفة الله وما يتبعها فهي منها، وإن لم يكن المقصود هنا إلا الدنيا وإصلاح أمرها فلا يعتد به وإن لم يفد فائدة في الدنيا ولا في الآخرة فالأمر واضح. مثلا العلوم الطبيعية إن استفيد منها معرفة الله تعالى بأن ينظر إلى آيات قدرته في المخلوق فيدرك عظمة الخالق فهو باب من معرفة الله استدل الفلاسفة الإلهيون بها على علمه وحكمته، والعلوم الرياضية إذا استفيد منها معرفة الوقت والقبلة وتقسيم المواريث والوصايا كان من علم الدين أيضا، وإذا اريد بها تكميل الصنائع والطب ومعرفة خواص الأشياء للدنيا ولم يستفد منها الفساد والقتل كان حسنا إلا أنها أدون من علم الدين في الحقيقة، وفي نظر الناس أيضا فإنهم مجبولون على تعظيم الأنبياء ونقل كلامهم وحفظ تاريخهم وذكرهم، لأنهم جاؤوا بمعرفة الله وترويج الأعمال الصالحة والأخلاق الحسنة، ولم يضبطوا تاريخ مخترعي الصناعات ومكتشفي قواعد العلوم، بل لا يعرفونهم ونسوهم ونسوا أسماءهم فلا يعلم أحد أول من اخترع الزجاج وأول من عرف كروية الأرض، وكان مثل ذين أهم في قديم الزمان من اختراع المكائن واكتشاف صناعات عصرنا، ويعرفون إبراهيم وموسى (عليهما السلام) ويصلون عليهما كلما ذكرا وكذلك من وافق قوله قول الأنبياء من الفلاسفة واشتهر أرسطو وإفلاطون وسقراط من الإلهيين ولم يشتهر غيرهم إلا من ناحيتهم حيث نقلوا أقوالهم للرد عليهم كذيمقراطيس، وهذا يدل على أن العلم الإلهي أهم وأقوم عند الناس وأنهم مجبولون على العناية به كما يدل عليه هذا الحديث. (ش) (*)

[ 201 ]

الاولى وهي أدناها: أن تعرف أن لهذا العالم صانعا. الثانية: أن تصدق بوجوده ووجوبه ظاهرا أو باطنا. الثالثة: أن تترقى إلى توحيده وتنزيهه عن الشركاء. الرابعة: أن تترقى إلى الإخلاص له وهو التعري عن كل ما سواه. الخامسة: أن تنفي عنه الصفات التي يعتبرها الأذهان له. وكل من الأربع الاولى مبدأ له بعدها. وكل من الأخيرة كمال وتمام لما قبلها. أما الاولى فلأن المتصور لمعنى صانع العالم عارف من جهة تصوره له، وهذه معرفة ناقصة تمامها وكمالها التصديق بوجوده ووجوبه بدليل أنه موجد للعالم وإليه تنتهي سلسلة الإيجاد وكل موجد كذلك فهو موجود واجب الوجود. وأما الثانية فلأن من صدق بوجوده الواجب ولم يصدق بكونه واحدا لا شريك له كان تصديقه ناقصا تمامه توحيده بدليل أن الوحدة المطلقة لازمة لوجوده الواجب، فإن طبيعة واجب الوجود بتقدير اشتراكها بين اثنين يستدعي تحقق ما به الامتياز في كل منهما فيلزم التركيب في كل منهما وكل مركب ممكن فيلزم الجهل بكونه واجب الوجود وإن تصور معناه وحكم بوجوده. وأما الثالثة فلأن العارف ما دام ملتفتا مع ملاحظة جلال الله وعظمته إلى شئ غيره يكون ذا شرك خفي ولا يكون موحدا مطلقا، فإذن التوحيد المطلق أن يبلغ العارف مرتبة الإخلاص ولا يعتبر معه غيره مطلقا. وأما الرابعة فلأن من أثبت له صفة زائدة على ذاته - والصفة مغايرة للموصوف - لزم أن لا يكون مخلصا لملاحظته مع غيره ولأنه يلزم حينئذ تجزئة الواجب، لأن الواجب من هو مبدأ لجميع الممكنات ومن البين أن كل واحدة من الذات والصفة المغايرة له بدون الآخر ليس مبدأ له فالمبدأ إذن هو المجموع فيلزم تجزئة الواجب فيلزم إمكانه فالمتصور ممكن الوجود لا واجب الوجود فلا يكون العارف به عارفا بل هو جاهل وإلى هذه المراتب أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: " أول الدين معرفته، وكمال معرفته التصديق به، وكمال التصديق به توحيده، وكمال توحيده الإخلاص له، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف، وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة، فمن وصفه فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثناه، ومن ثناه فقد جزأه، ومن جزأه فقد جهله " (1). (والثاني أن تعرف ما صنع بك) من إنشائك في ظلمات الأرحام وشغف الأستار وإعطاء الوجود والقدرة وإفاضة النفس وقواها وتحسين البنية وتهذيب الصورة وتقويم الاعتدال وتسوية المثال


1 - النهج - قسم الخطب، تحت رقم 1. (*)

[ 202 ]

وإيجاد الأعضاء الظاهرة والباطنة وتقدير منافعها من لسان لافظ وبصر لاحظ وقلب حافظ، ثم هدايتك بإرسال الرسول وإنزال الكتاب إلى المقامات العالية في الدار الباقية وما يعود إليك مما لا يعرف أحد قدره ولا يدرك وصفه لتفهم معتبرا وتصير مزدجرا وتنتقل إليه انتقالا من رحم هذه الدار وتسكن مع روح وراحة وسرور في منازل الأبرار، وأمثال هذه الامور التي صنعها بك وإن لم يمكنك أن تعرف كلها على التفصيل كيف وقد قال بعض المحققين إظهارا لعجزه: إني كتبت أزيد من ألف ورقة في تشريح الأعضاء وبيان منافعها (1) وبعد لم أذكر وصف قطرة واحدة من بحر إحسانه وإفضاله تعالى شأنه ؟ ولكن بحكم ما لا يدرك كله لا يترك كله ينبغي لك أن تصرف العمر في معرفة قدر يمكنك الإحاطة به بعون الله تبارك وتعالى. (والثالث أن تعرف ما أراد منك) من الإتيان بالطاعات والانتهاء عن المنهيات والإقرار بالرسول الأمين والأئمة الطاهرين والملائكة المقربين والكتاب المبين والاتصاف بالشجاعة والعفة والحلم والصبر والشكر والتوكل والرضا إلى غير ذلك من محاسن الأخلاق التي نطقت بها الشرائع النبوية. (والرابع أن تعرف ما يخرجك من دينك) مثل التهور والشره والغضب والحسد والكفر بالله وبرسوله وأئمته وملائكته وكتبه ورسله وإنكار الصلاة والزكاة والصوم والحج إلى غير ذلك من رذائل الصفات والأخلاق ومقابح العقائد والأعمال. وملخص القول في هذا الحديث: أن الإنسان في أول نشوئه إلى نهاية عمره سائر إلى الله تعالى فوجب عليه أن يعرفه أولا لأنه المقصد في هذا المسير وأن يعرف ما صنع به، لأن تلك المعرفة تبعثه على زيادة الرجاء والشوق إليه وأن يعرف ما يعينه في طريقه وينفعه عند الوصول إلى مقصده ويوجب القرب منه ليحمله معه وأن يعرف ما يضله عن طريقه ويضره عند الوصول إلى الغاية ويوجب البعد من المقصد ليرفضه عن نفسه لكن بتوسط استاذ مرشد وعالم مسدد وإمام مؤيد من عند الله تعالى، لأن العقول الناقصة لا تستقل بمعرفة الرب وصفاته وقوانين الشرع (2) بدون الرجوع إلى الشارع ومن نصبه، ولذلك أخطأ كثير من العلماء


1 - وألف في زماننا كتب في التشريح ومنافع الأعضاء أكثر من ألف ورقة أيضا في بلاد الافرنج، ولا أظنهم بلغوا شيئا، والعجب من بعضهم حيث رأوا عجائب صنعه تعالى فصرفهم النظر في الصنع عن التفكر في الصانع فلم يؤمنوا بالله الحكيم. (ش) 2 - الجمع بين كلامه هنا وما سبق من تعظيم مقام العقل والأمر بالاتكال عليه أن العقل حجة من حجج الرحمن ولكن ليس مستغنيا عن التعلم، وكما يحتاج المهندس إلى قراءة كتاب اقليدس ولا يمكن أن يتنبه لما فيه بفطنته كذلك يحتاج العالم الروحاني والحكيم الإلهي إلى الرجوع إلى الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) ليهتدي عقله في اصول المعارف إلى الحق وإن كان يأخذ عنهم الفروع تعبدا. (ش) (*)

[ 203 ]

المتكلين على عقولهم فيها فضلوا وأضلوا كثيرا وأوردوا قومهم دار البوار جهنم وساءت مصيرا. * الأصل: 12 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ما حق الله على خلقه ؟ فقال: " أن يقولوا ما يعلمون، ويكفوا عما لا يعلمون، فإذا فعلوا ذلك فقد أدوا إلى الله حقه ". * الشرح: (علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ما حق الله على خلقه ؟) أراد بحق الله ما يوجب الإقبال عليه من الأعمال النافعة في الآخرة، ونقيضه الباطل وهو ما يوجب الالتفات عنه إلى غيره مما يضر فيها لظهور أن الالتفات عنه إلى غيره مستلزم للنقصان الموجب للتخلف عن السابقين والهوي في درك الهالكين وذلك محض المضرة، فلذلك قصد السائل التميز بينهما ليتمسك بما ينفعه ويجتنب عما يضره، ويحتمل أن يراد بالحق هنا ما في قوله تعالى: * (ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق) *. (فقال: أن يقولوا ما يعلمون) من أحوال المبدأ والمعاد والشرائع والأحكام لما فيه من إصلاح الخلق وهدايتهم إلى طريق الحق، وذلك منصب الأنبياء والأوصياء وتابعيهم وذلك بعد تكميل نفوسهم وتهذيبها عن الرذائل وتزيينها بالفضائل من الأعمال والأخلاق لئلا يتوجه عليهم قوله تعالى: * (لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) *. (ويكفوا عما لا يعلمون) لأن الجاهل كسائر الحيوانات منتهى بصره علف الدنيا وغيره من المحسوسات وهو لفقد بصيرته لا يدرك شيئا من المعقولات كما يدرك فاقد البصر شيئا من المبصرات فلا علم له بشئ من المصالح التي ينبغي أن يكون الناس عليها، فلو تكلم بها أفسد عليهم نظام الدنيا والدين وأوردهم في منازل الهالكين، وأورثهم استعداد سوء العاقبة واستحقاق عذاب الآخرة وأهل الدنيا كذلك إلا من عصمة الله وقليل ما هم. (فإذا فعلوا ذلك) المذكور من القول والكف. (فقد أدوا إلى الله حقه) أي هذا الحق العظيم الذي وجب عليهم لحفظ الدين والدنيا ونظام الخلق أو جميع حقوقه لأن أداء هذا الحق موقوف على استقامة اللسان في حركاته وسكناته، واستقامته تابعة للاستقامة في القوة النظرية والعملية والقوة الشهوية والغضبية وسائر القوى الحيوانية واستقامة هذه القوى توجب أداء جميع حقوقه جل شأنه أو لأن أداء هذا الحق ينور قلوبهم بالإيمان الثابت حتى تستعد للعلم والعمل بما بعده فيهديهم توفيق الله تعالى إليهما، وهكذا إلى أن يؤدوا جميع


[ 204 ]

حقوقه، أو لأن كفهم عما لا يعلمون يقتضي رجوعهم فيه إلى إمام عادل ويبعثهم على ذلك بناء على أن النفوس البشرية لا ترضى بالبقاء على الجهل والتمسك بذيل إمام عادل يؤدي إلى أداء جميع حقوقه تعالى. * الأصل: 13 - محمد بن الحسن، عن سهل بن زياد، عن ابن سنان، عن محمد بن (1) عمران العجلي، عن علي بن حنظلة، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: " اعرفوا منازل الناس على قدر روايتهم عنا ". * الشرح: (محمد بن الحسن، عن سهل بن زياد، عن ابن سنان، عن محمد بن عمران العجلي، عن علي بن حنظلة، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: اعرفوا منازل الناس على قدر روايتهم عنا) فيه دلالة على أنه يجب التعلم منهم وأخذ الأحاديث عنهم لأنهم (عليهم السلام) خزان الأسرار الإلهية ومعادن الآثار النبوية، وعلى أنه لا قدر للناس برواياتهم عن السارقين اسم العلم والخلافة والمارقين عن الدين والناصبين لآل محمد (عليهم السلام) لأنهم بسبب الجهل المركب خرجوا عن القابلية للتعلم فضلا عن القابلية للتعليم، وعلى أن الشرف والكمال للناس بالعلم لا بالجاه والمال والنسب وعلى أن الأعلم وكل من كان أكثر رواية عنهم (عليهم السلام) ولو بواسطة ينبغي تقديمه على العالم والعالم على الجاهل (2) كل ذلك لترجيح الفاضل على المفضول والأشرف على الأخس، فلا قدر للجاهل لأنه رذل خسيس دني وإن كان ذا مال ونسب معروف لقول النبي (صلى الله عليه وآله): " ما استرذل الله عبدا إلا حظر عليه العلم والأدب " (3)، وقول أمير المؤمنين (عليه السلام): " إذا أرذل الله عبدا حظر عليه العلم " (4)، يقال: أرذل الله عبدا واسترذله أي جعله رذلا، وهو الخسيس الدني ولتشبيهه تعالى له تارة بالأنعام فقال: * (إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا) * وتارة بالكلب، فقال: * (مثلهم كمثل الكلب...) * الآية. وبالجملة: رذالة الجاهل وعدم اعتباره وسفالة حاله مما دل عليه كثير من الآيات الكريمة والروايات الصحيحة. وسر ذلك أن المقصود من خلق الإنسان ليس ذاته (5) من حيث هو بل العلم


1 - في بعض النسخ محمد بن مروان. 2 - خص الرواية بالعالم، وأما في اصطلاح أهل زماننا فليس من كثرت روايته أعلم ممن قلت روايته، والمقصود في الحديث كثرة الرواية مع التفهم والدراية لا الحفظ فقط. (ش) 3 - أخرجه ابن النجار من حديث أبي هريرة بسند ضعيف كما في الجامع الصغير. 4 - النهج - قسم الحكم والمواعظ، تحت رقم 288. 5 - فإن قيل: من أين عرف أن المقصود من خلق الإنسان ما هو وكيف علم أنه العلم بالأسرار الإلهية أو غيره ؟ = (*)

[ 205 ]

بالأسرار الإلهية والأحكام الربانية وتنوير القلب الإشراقات اللاهوتية والمكاشفات الملكوتية ثم سلوك طريق العمل بنور الهداية والاجتناب عن سبيل الضلالة والغواية والجاهل بمعزل عن هذا المرام وبعيد عن هذا المقام. وفي كلام الحكماء المتقدمين والمتأخرين أيضا دلالة على أن الشرف والتقدم للعالم. قال إفلاطون: المستحقون للتقديم هم العارفون بالنواميس الإلهية وأصحاب القوى العظيمة الفائقة. وقال أرسطاطاليس: المستحقون للتقديم هم الذين عناية الله بهم أكثر. وقال المحقق الطوسي: كل اثنين بينهما اشتراك في علم واحد وأحدهما أكمل فيه من الآخر فهو رئيس له ومقدم عليه، وينبغي للآخر الإطاعة والانقياد له ليتوجه إلى كمال لائق به، وهكذا يتدرجون إلى أن ينتهوا إلى شخص هو المطاع المطلق، ومقتدى الامم كلهم بالاستحقاق والملك على الإطلاق ولا نعني بالملك في هذا المقام من له خيل وحشم وتصرف في البلاد واستيلاء على العباد بل نعني أنه المستحق للملك في الحقيقة وإن لم يلتفت إليه أحد بحسب الظاهر، وإذا تقدم عليه غيره كان غاصبا جائرا ويوجب ذلك فشو الجور في العالم وفساد نظامه. = قلنا أولا: إن من الموجودات السفلية ما خلق لأجل غيره كالنبات لغذاء الإنسان مثلا، وحينئذ ففائدته انتفاع الإنسان به، ولا ضير في أن يفنى ويبطل لأجل موجود أعلى وأشرف، ولا يلزم من بطلانه وفساده العبث في فعل الحكيم ومن الموجودات ما ليس شئ أعلى وأشرف منه حتى يكون وجوده لأجل ذلك كالإنسان فإنا لا نعلم في هذا العالم شيئا يكون الإنسان لأجله فإن العناصر والمواليد كلها دونه فلا يمكن أن يقال: الإنسان خلق لأن يكشف أسرار النبات والحيوان وخواص المعادن وأعماق البحار وأبعاد الكواكب فإن ذلك يستلزم كون هذه الجمادات أشرف من الإنسان حيث سخر الإنسان لها على ما يذهب إليه الطيبون. ونقول ثانيا: الغرض من إيجاد الإنسان إن كان كشف أسرار الطبيعة لله تعالى والعقول فإنهم عارفون بها قبل الكشف، وإن كان الغرض كشفها للطبيعة نفسها فمعلوم أنها غير شاعرة فبقي أن يكون الغرض كشف أسرارها للإنسان نفسه أما بأن يكشفها السابقون للاحقين فننقل الكلام إلى اللاحقين وإلى نوع الإنسان جميعا، فإن كان في علمهم بأسرار الكائنات فائدة لأنفسهم كانوا هم الغرض والغاية. وبقي الكلام في غاية وجود الإنسان ولا نتعقل إلا العلم بالأسرار الإلهية، وأما سائر صفاته وعلومه ونعوته فهي لحفظه وبقائه فوجود الإنسان بأن يكون غاية لها أولى بالعكس، فالشهوة لبقاء الشخص أو النوع والغضب كذلك والعلوم الطبيعية والصنائع كذلك، ولم يبق شئ إلا معرفة الله تعالى والتقرب إليه لائقا بأن يكون غاية للإنسان ومع ذلك فبعض آيات القرآن الكريم يدل عليه مثل قوله تعالى: * (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون) * يعني لو لم يكن غاية وجود الإنسان الرجوع إلى الله كان خلقه عبثا، إذ لا شئ أعلى منه حتى يكون غايته. (ش) (*)


[ 206 ]

* الأصل: 14 - الحسين بن الحسن، عن محمد بن زكريا الغلابي، عن ابن عائشة البصري رفعه أن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال في بعض خطبه: " أيها الناس، اعلموا أنه ليس بعاقل من انزعج من قول الزور فيه، ولا بحكيم من رضي بثناء الجاهل عليه، الناس أبناء ما يحسنون وقدر كل امرئ ما يحسن فتكلموا في العلم تبين أقداركم ". * الشرح: (الحسين بن الحسن) الظاهر أنه أبو عبد الله الرازي الحسني الأسود الفاضل. (عن محمد بن زكريا الغلابي) مولى بني غلاب بالغين المعجمة واللام المخففة والباء الموحدة، وبنو غلاب قبيلة بالبصرة. وكان وجها من وجوه أصحابنا وكان خيارا واسع العلم له كتب كثيرة. (عن ابن عائشة البصري رفعه أن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال في بعض خطبه: أيها الناس، اعلموا أنه ليس بعاقل من انزعج من قول الزور فيه) أزعجه أي أقلعه من مكانه وانزعج بنفسه، ومنه ما روي من طرق العامة عن أنس قال: " رأيت عمر يزعج أبا بكر إزعاجا يوم السقيفة " أي يقيمه ويقلعه عن مكانه ولا يدعه يستقر حتى بايعه. والعاقل من يضع الأشياء في مواضعها ويعلم عاقبة الامور ومبادئها ومنافعها ومضارها، فلا محالة يتحمل الصبر على النوائب والسكون في المصائب ولا يضطرب من قول الزور والكذب فيه، ولا يجزع من الافتراء عليه وإن كان ذلك بلية عظيمة لعلمه بنور عقله بأن أمثال ذلك من المصائب بعد وقوعها لا ينفعه إلا الصبر والسكون واللجأ إلى الله تعالى وأن الحزن والجزع والاضطراب مصائب اخرى مهلكة فيصبر ويسكن ويفوض أمره وأمر خصمه الفاسق الكاذب إليه سبحانه ليكتسب بذلك أجر الصابرين ويحفظ نفسه عن الهلاك فمن انزعج واضطرب وتحرك نحو الانتقام علم أنه ليس بعاقل لجهله مضرة ذلك ومنافع الصبر. (ولا بحكيم من رضي بثناء الجاهل عليه) الحكيم من استكمل فيه الجوهر الإلهي بالعلم (1) والمعرفة، واتصف بالحلم والعفة وحصل له باجتماع هذه الامور هيئة العدالة ومن صفاته اللازمة أن


1 - أراد بالجوهر الإلهي روحه المجرد، فإن الروح من أمر الرب كما في القرآن الكريم، وكما له بالعلم والمعرفة أي بمعرفة الله وملائكته وكتبه ورسله والدار الآخرة لا بالعلم بالرياضيات والطبيعيات وأمثالها مما يفيده في استصلاح حياته الدنيوية فقط، لأن هذه غايتها الإنسان لأنها اخترعت لأجل الإنسان وليست غاية للإنسان، ولو كانت هي كمالا له كان أمثال ذيمقراطيس وبقراط أفضل من أبي ذر الغفاري وسلمان الفارسي، وقول الشارح: " لا يرى لغيره وجودا " معناه أن كل ممكن وجوده ربطي ولا ينظر إليه بنفسه كما حققه صدر المتألهين (قدس سره) وليس الوجود الحق الإله تعالى، فمن عرف ذلك لا يرضى بثناء الجاهل عليه لأن غيره تعالى ليس بشئ. (ش) (*)

[ 207 ]

يستحقر نفسه بملاحظة عظمة الله وكبريائه ولا ينظر إلى غيره تعالى بل لا يرى لغيره وجودا، فمن رضي بثناء الناس عليه - وعبر عنهم بالجاهل لأن من أثنى على الناس فهو جاهل - لم يتصف بالحكمة ولا يطلق عليه اسم الحكيم، لأن رضاه بذلك بسبب غلبة قوته الشهوية وطغيانها وميلها إلى مشتهياتها وذلك ينافي معنى الحكمة كما عرفت. وأيضا رأى لنفسه وجودا وعظمة وذلك مناف لصفاته اللازمة له، وأيضا الحكيم يعلم بنور حكمته أن ثناء الجاهل لا يزيده كمالا ولا يفيده شرفا وأن الشريف من جعله الله تعالى شريفا، فثناء الجاهل عنده كعدمه فلا يرضى به ولا يفتخر، وأيضا الحكيم يعلم أن بينه وبين الجاهل مباينة وتضادا وأن ضد أحد لا يميل إليه إلا لغرض ما فيعلم أن الجاهل لا يميل إليه ولا يثنيه إلا الاعتقاد أنه جاهل مثله أو لقصد استهزائه وسخريته أو لقصد خداعه، والحكيم لا يرضى بشئ من ذلك وأيضا الحكيم يعلم أن الجاهل لا علم له بمراتب الكمال فهو في المدح له والثناء عليه إما مفرط أو مفرط، والحكيم لكونه على الوسط لا يرضى بثنائه. (الناس أبناء ما يحسنون) أي ما يعلمونه أو يعدونه حسنا، فإن كانوا يعلمون العلم والعمل والآخرة فهم من أبناء الآخرة وإن كانوا يعلمون الدنيا وزهراتها ولا يتجاوز فهمهم إلى ما ورائها فهم من أبناء الدنيا، وهذا من لطائف كلامه وأوجز خطابه (عليه السلام)، وفيه استعارة مكنية وتخييلية. ووجه الاستعارة: أن الابن لما كان من شأنه أن يميل إلى أبيه إما ميلا طبيعيا أو ميلا عرضيا بحسب تصور المنفعة منه وكان الناس منهم من يحسن العلم والعمل والآخرة ويريدها، ومنهم من يحسن الدنيا وزهراتها ويريدها، ويميل كل واحد منهما إلى مراده تحصيلا لما يعتقده خيرا ولذة وسعادة شبه المراد المرغوب إليه بالأب وأثبت له الابن لإفادة تلك المشابهة، ويحتمل أن يكون المراد أن الناس أبناء ما يعلمونه فإن كان لهم علم ومعرفة ودين فلهم الشرف والحسب بهذا النسب الروحاني ولهم الافتخار به وإلا فلا شرف ولا حسب لهم وليس لهم إظهار النسب والافتخار بالنسب الجسداني والقصد فيه أن الشرف منحصر في النسب العلمي والديني ولا عبرة بشرف يدعى من جهة النسب الجسد. (وقدر كل امرئ ما يحسن) أي قدر كل رجل، والعزة والشرف في الدنيا والآخرة ما يعلمه، فإن لم يكن له علم فلا يقدر له، وإن كان له علم فله قدر وشرف بقدر علمه، وما يتبعه من العمل لله والمحبة له والميل إليه والإعراض عن الدنيا، ويتفاوت ذلك بحسب تفاوت درجات العلم والعمل والمحبة، وهذه الكلمة أيضا من جوامع الكلم التي جاءت على أشرف السياقة وألطف البلاغة، ولما أشار إلى أن قدر الرجل وشرفه بالعلم حث على إظهاره بقوله:


[ 208 ]

(فتكلموا في العلم تبين أقداركم) تبين مجزوم بالشرط المقدر بعد الأمر، وأصله تتبين حذفت إحدى التائين للتخفيف، وفي نهج البلاغة: " تكلموا تعرفوا، فإن المرء مخبوء تحت لسانه " أي حال المرء بحذف المضاف المخبوء المستور، يعني أن الرجل إذا تكلم يتضح حاله ويظهر كونه فصيحا أو معجما، عالما أو جاهلا، خيرا أو شرا، وإن لم ينطق كان جميع ذلك مستورا عليه عند العامة، وفيه رجحان المكالمة والمباحثة في العلم لإظهار القدر والمرتبة وكان ذلك إذا كان المقصود إظهار القدر لهداية بني نوعه إلى المقاصد الدينية، وهذا راجح قطعا بل قد يكون واجبا لأن العالم بعد تكميل جوهره بالعلوم والكمالات اللائقة وعلمه بصراط الحق كان مأمورا بهداية الخلق وإرشادهم إليه، وذلك لا يتم ولا يتمشى إلا بأن يعلموا أن له منزلة رفيعة وشرفا جسيما وقدرا عظيما في العلم، ولا يحصل لهم العلم بذلك إلا بأن يتكلم في العلوم والمعارف ليظهر قدره وشرفه بحيث لا يقدر أحد على إنكاره، وهكذا كانت حال الأنبياء والرسل في إظهار حالهم وقدرهم بالمعجزات والدلالات. * الأصل: 15 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الوشاء، عن أبان بن عثمان، عن عبد الله بن سليمان، قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول وعنده رجل من أهل البصرة يقال له: عثمان الأعمى، وهو يقول: إن الحسن البصري يزعم أن الذين يكتمون العلم يؤذي ريح بطونهم أهل النار، فقال أبو جعفر (عليه السلام): " فهلك إذن مؤمن آل فرعون، ما زال العلم مكتوما منذ بعث الله نوحا (عليه السلام) فليذهب الحسن يمينا وشمالا، فوالله ما يوجد العلم إلا هاهنا ". * الشرح: (الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الوشاء، عن أبان بن عثمان، عن عبد الله بن سليمان، قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول وعنده رجل من أهل البصرة يقال له: عثمان الأعمى، وهو يقول: إن الحسن البصري) قال المازري: اسم ام الحسن خيرة وكانت مولاة لام سلمة زوج النبي (صلى الله عليه وآله) روى عنها ابنها الحسن. (يزعم أن الذين يكتمون العلم يؤذي ريح بطونهم أهل النار) ذهب الحسن إلى أنه يجب على كل عالم إظهار كل علم على كل أحد في كل زمان وكأنه ادعى أن العلم منحصر فيما هو المشهور بين الناس وأن كل من ادعى أن عنده علما غير ذلك فهو كاذب أو تمسك بظاهر قوله تعالى: * (إن الذين يكتمون ما أنزل الله) *، وبما روي عنه (صلى الله عليه وآله): " من علم علما فكتمه الجم يوم القيامة بلجام من النار " (1).


1 - أخرجه الترمذي في سننه ج 1، ص 118، وفيه: " من سئل عن علم فكتمه... الخ ". (*)

[ 209 ]

(فقال أبو جعفر (عليه السلام): فهلك إذن مؤمن آل فرعون) لأنه كتم إيمانه بالله وبرسوله من فرعون وأتباعه مدة طويلة خوفا منهم كما قال سبحانة: * (وقال رجل من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله) *، والإيمان من أعظم أبواب العلم واصول العقائد ثم استأنف كلاما لإثبات كتمانه على وجه العموم ردا لما زعمه فقال: (ما زال العلم) أي العلم المتعلق بالامور الدينية، أو العلم المتعلق بالحوادث اليومية، أو العلم المتعلق بالأسرار الإلهية الذي أنزله إلى اولي العزم ولم يأذن لهم إظهاره بين الناس. (مكتوما منذ بعث الله نوحا (عليه السلام)) لعدم مصلحة في إظهاره، أو لعدم استعداد الناس لفهمه، أو لشدة التقية وكثرة العدو وفشو الإنكار والأذى، وقد كتمه رسول الله (صلى الله عليه وآله) في أول البعثة حتى كان يعبد الله مختفيا ولا يظهر علمه وحكمته إلا على من أخذ منه موثقا بل في آخر عمره الشريف حتى أخذ من الله تعالى العصمة من الناس، وقد كتمه أمير المؤمنين (عليه السلام) كما قال: " إن هاهنا - وأشار بيده إلى صدره - لعلما جما ولو وجدت له حملة "، وقد روي عنه (عليه السلام) أنه قال: " لا تؤتوا الحكمة غير أهلها فتظلموها " (1)، وقال أيضا: " لا تعلقوا الجواهر في أعناق الخنازير " (2)، وقال أيضا: " نحن معاشر الأنبياء نكلم الناس على قدر عقولهم " (3)، وقال أيضا: " ما أحد يحدث الناس بحديث لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة على بعضهم " (4)، وقد كان موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام قبل البعثة مؤمنا بالله تعالى وبصفاته وباليوم الآخر ولم يظهره على أهل الباطل وكلام المتقدمين من الحكماء في باب التعليم أيضا صريح في الكتمان (5). وبالجملة الاعتبار ومشاهدة السير والآثار ومطالعة القرآن والأخبار الواردة من طرق العامة والخاصة شواهد صدق على بطلان ما زعمه الحسن وضعف حاله وقلة معرفته وقع فيما وقع لاتكاله


1 - تقدم. 2 - تقدم. 3 - تقدم في ص 140 من هذا المجلد. 4 - تقدم في ص 140 من هذا المجلد. 5 - يدل صريحا على أن جميع ما يتعلق بالدين ليس مما يفهمه جميع الناس بل هنا امور يختص بها جماعة قليلة منهم وعلى العلماء أن يكلموا الناس بقدر ما يفهمون، وهذا رد على ما قد يتبادر إلى الأذهان العامية من أن بعض ما يتكلم به أهل المعرفة مما لا يفهمه غيرهم باطل، لأنهم لا يفهمون إذ لا يعترف أحد بنقصان عقله، وهذا لا يختص بالتوحيد واصول الدين بل يتفق في المسائل الفقهية أيضا، إذ منها ما لا يفهمه العامة ويوجب ضلالهم إلا إذا تكلم معهم على قدر عقولهم، وقد سبق بيان ذلك في الصفحة 139. (ش) (*)

[ 210 ]

بعقله وعدم أخذ العلم من أهله. (فليذهب الحسن يمينا وشمالا) لطلب العلم من الناس، فإن ذلك لا ينفعه أصلا ولا يورثه إلا حيرة وضلالا لعدوله عن الصراط المستقيم ورجوعه إليمن لا يعلم الأسرار الإلهية والشرائع النبوية، ثم بين ذلك الصراط، وحصر طريق أخذ العلم في غير ما سلكه على وجه المبالغة والتأكيد بقوله: (فوالله ما يوجد العلم إلا هاهنا) أشار به إلى صدره اللطيف أو إلى مكانه الشريف أو إلى بيت النبوة ومعدن الخلافة والإمامة، لأن فيهم كرائم الإيمان، وعندهم كنوز الرحمن، ولديهم تفسير الأحاديث والقرآن وهم شعار الرسالة والنبوة، وخزان العلوم والمعرفة، وبيوت الفضائل والحكمة، قد خصهم الله سبحانه بالنعمة الجزيلة، وكرمهم بالمقامات العالية الشريفة، وجعلهم هداة الأرواح في عالم الطبائع البشرية كما يرشد إليه قول أمير المؤمنين (عليه السلام) خطابا لمعاوية: " فدع عنك ما مالت به الرمية فإنا صنائع ربنا والناس صنائع لنا " (1)، ومراده (عليه السلام): أن من طلب العلم والحكمة وأسرار الشريعة فليرجع إلينا وليسأله عنا (2)، فإنا موارده والناس بتعليمنا يعلمون وبهدايتنا يهتدون.


1 - النهج - قسم الكتب والرسائل، تحت رقم 28، وقوله: " من مالت به الرمية " كالمثل يضرب لمن تميل به عن الحق أغراضه الباطلة، والرمية الصيد يرمى، وأصل المثل أن الرجل يقصد قصدا فيتعرض له الصيد فيتبعه فيميل بعد عن قصده الأصلي. 2 - قوله: " وليسأله عنا " والصحيح وليسألنا عنها، ولكن الشارح استعمل السؤال على طريقة العجم والعربي الفصيح أن يقال: سألت الرجل عن المسألة، والعجم قد تقول سألت المسألة عن الرجل وتركيب الكلمات في كل لغة توقيفي بوضع الواضع ولا يجوز كيف ما اتفق، وقال بعض الاصوليين من أهل عصرنا: إن المركبات لا وضع لها غير وضع المفردات، وليس كذلك وإنما نشأ خطؤهم من عدم التتبع وقلة التدبير ومثله كثير في اصولهم، وأما قوله: " صنائع ربنا " فالصنيع ليس بمعنى المخلوق، بل الخاص بالتربية والعناية وصنيعك من ربيته وعلمته وأحسنت إليه وعنيت بمصالحه من خواصك ومواليك وأولادك وغيرهم. (ش) (*)

[ 211 ]

باب رواية الكتب والحديث باب رواية الكتب والحديث وفضل الكتابة والتمسك بالكتب * الأصل: 1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن منصور بن يونس، عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) قول الله جل ثناؤه: * (الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه) * ؟ قال: " هو الرجل يسمع الحديث فيحدث به كما سمعه لا يزيد فيه ولا ينقص منه ". * الشرح: (علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن منصور بن يونس) بزرج بضم الباء والزاي وإسكان الراء المهملة والجيم أخيرا أبو يحيى، وقيل: أبو سعيد من أصحاب الكاظم (عليه السلام) صرح الشيخ بأنه واقفي والنجاشي بأنه ثقة. (عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) قول الله جل ثناؤه: * (الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه) * ؟ قال: هو الرجل يسمع الحديث فيحدث به كما سمعه لا يزيد فيه ولا ينقص منه) الظاهر أن المراد بالحديث المعنى المعروف بين العلماء، ويحتمل حمله على مطلق الكلام فيندرج فيه نقل كلام الناس وتبليغ رسالتهم أيضا، وفي صيغة التفضيل دلالة على أن نقله لا على اللفظ المسموع أيضا حسن لكن بشرط أن لا يتغير معناه كما يشعر بهذين الأمرين الحديث الذي يأتي ذكره على أنه يمكن أن يحمل قوله: " فيحدث به كما سمعه " على النقل بالمعنى الأعم الشامل للنقل بالمعنى أيضا، لأن من نقل معناه بلا زيادة ونقصان فقد حدث به كما سمعه، ولذلك صح لمترجم القاضي أن يقول: احدثك كما سمعته، ثم هذا التفسير لا يدل على انحصار المقصود بالآية فيما ذكر لجواز أن يكون لها معان اخر، وقد ذكرنا بعضها آنفا وذلك لأن للقرآن ظهرا وبطنا ولبطنه بطن حتى قيل: لكل آية ستون ألف فهم وما بقي من فهمها أكثر وعلم ذلك كله عند أهل الذكر (عليهم السلام). * الأصل: 2 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن ابن أبي عمير، عن ابن اذينة، عن محمد بن مسلم قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أسمع الحديث منك فأزيد وأنقص ؟ قال: " إن كنت تريد معانيه فلا بأس ". * الشرح: (محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن ابن أبي عمير، عن ابن اذينة، عن محمد بن مسلم قال:


[ 212 ]

قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أسمع الحديث منك فأزيد وأنقص ؟) عند روايته ونقله بين الناس. (قال: إن كنت تريد معانيه فلا بأس) هذا الحديث الصحيح حجة لمن قال بجواز نقل الحديث بالمعنى، ووضع أحد المترادفين موضع الآخر (1) مطلقا، سواء كانا من لغة واحدة أو لا، وله شروط: الأول: أن يكون الناقل عالما بالعربية عارفا بفنونها وآثارها. الثاني: أن يكون البدل مفيدا لمعنى المبدل منه بلا زيادة ولا نقصان. الثالث: مساواتهما في الجلاء والخفاء، لأن الشارع مخاطب بالمحكم والمتشابه لأسرار لا يعلمها إلا هو فلا يجوز تغييرها عن وضعها (2)، وقوله (عليه السلام): " إن كنت تريد معانيه فلا بأس " إشارة إلى هذه الشروط كلها مع ما فيه من الإيماء إلى أن المقصود الأصلي من اللفظ إنما هو المعنى واللفظ آلة لا حضارة فبأي آلة حصل الإحضار حصل المقصود، ألا ترى أن مفاد قولنا: رأيت إنسانا يضرب أسدا ورأيت بشرا يضرب ليثا (3)، و " ديدم آدمى را كه ميزد شير را " واحد من غير تفاوت، فقد


1 - وضع أحد المترادفين موضع الآخر ليس من نقل الحديث بالمعنى الذي اختلفوا فيه بل هو مما جوزه المانعون أيضا. قال العلامة في النهاية: والمانعون جوزوا إبدال اللفظ بمرادفه ومساويه في المعنى كما يبدل القعود بالجلوس والعلم بالمعرفة والاستطاعة بالقدرة والحظر بالتحريم. وبالجملة ما لا يتطرق إليه تفاوت في الاستنباط والفهم، انتهى. فعلم منه أن الفروق الدقيقة التي يدعيها بعض الناس بين الجلوس والقعود والعلم والمعرفة وأمثالها ليست مما يخرج اللفظ عن الترادف ويمنعه المانعون، بل يجوز مثل هذا التغيير على كل حال حتى عند من منع النقل بالمعنى. (ش) 2 - قال العلامة (رحمه الله) في نهاية الاصول: اختلف الناس في أنه هل يجوز نقل الحديث المروي عن النبي (صلى الله عليه وآله) بالمعنى ؟ فجوزه الشافعي وأبو حنيفة ومالك وأحمد والحسن البصري وأكثر الفقهاء، وخالف فيه ابن سيرين وبعض المحدثين والمجوزين شرطوا امورا ثلاثة: الأول: أن لا تكون الترجمة قاصرة عن الأصل في إفادة المعنى. الثاني: أن لا يكون فيها زيادة ولا نقصان. الثالث: أن تكون الترجمة مساوية للأصل في الجلاء والخفاء، لأن الخطاب قد يقع بالمحكم والمتشابه لحكمة خفية فلا يجوز تغييرها عن وصفها، انتهى ما أردنا نقله ليظهر به معنى كلام الشارح، إذ لا يخلو عن إبهام، وربما يتبادر إلى الذهن أن الشارح من المانعين وإن لهج بالجواز، لأن النقل بالشروط التي ذكرها الشارح مما يجوزه المانعون أيضا بخلاف الشروط التي ذكرها العلامة (رحمه الله) فإنها راجعة إلى حفظ حاصل المضمون وأصل معنى الحديث وشروط الشارح يدل على حفظ معنى كل كلمة منه وبينهما فرق عظيم. (ش) 3 - إن كان نقل الحديث بالمعنى نظير هذا المثال الذي ذكره الشارح فهو مما جوزه المانعون أيضا، لأنه تبديل لفظ بمرادفه، ومما يوضح الأمر الشرط الثالث، وبيانه: أن أصل الحديث قد يكون متشابه المعنى. وفي المراد منه خفاء فلا يجوز أن يبدل الناقل بلفظ ليس فيه خفاء، إذ يمكن خطأ الناقل في فهم معنى = (*)

[ 213 ]

دل العقل والنقل على جوازه وإن كان نقله باللفظ المسموع أولى وأحوط حفظا للحديث وصونا عن شائبة التغيير. وهنا مذاهب اخر: أحدها: جوازه مطلقا، لأن صحة الضم قد يكون من عوارض الألفاظ، ألا ترى أنه يصح أن تقول: مررت بصاحب زيد ولا يصح أن تقول: مررت بذي زيد مع أن " ذو " مرادفة لصاحب. والجواب: أن هنا مانعا بحسب القاعدة العربية فإن " ذو " لا يضاف إلى معرفة، والكلام فيما لا مانع فيه. وثانيها: الجواز في لغة واحدة لا في لغات مختلفة، وإلا لجاز " خدا أكبر " بدل " الله أكبر "، واللازم باطل قطعا. والجواب: منع الملازمة إن اريد بها تكبيرة الإحرام، لأن الشارع عين لها لفظا خاصا لا يجوز العدول عنه شرعا، ومنع بطلان اللازم إن اريد بها غيرها. وثالثها: الجواز في غير الأحاديث النبوية لا فيها، لأن في تراكيبها أسرارا ودقائق لا تعرف إلا بتلك الهيات التركيبية وقوله (صلى الله عليه وآله): " نضر الله عبدا سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأداها كما سمعها، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه " (1)، والحق أنه لا فرق بين الأحاديث النبوية وأحاديث الأئمة (عليهم السلام) وأن رواية اللفظ المسموع أولى وأفضل. * الأصل: 3 - وعنه، عن محمد بن الحسين، عن ابن سنان، عن داود بن فرقد قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إني أسمع الكلام منك فاريد أن أرويه كما سمعته منك فلا يجئ، قال: " فتعمد ذلك ؟ " قلت: لا، فقال: " تريد المعاني ؟ "، قلت: نعم، قال: " فلا بأس ". * الشرح: (وعنه، عن محمد بن الحسين، عن ابن سنان، عن داود بن فرقد قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إني أسمع الكلام منك) ومعناه محفوظ عندي. (فاريد أن أرويه) أي ذلك الكلام بعينه.


= المتشابه مثلا ورد: " أن الماء إذا بلغ كرا لم يحمل خبثا " فيروي الناقل: إذا بلغ الماء ألفا ومائتي رطل أو ورد في الحديث: " إذا أصابهم البول قطعوه " فيبدل قوله " قطعوه " بقوله: " قرضوا لحومهم بالمقاريض " فيبدل لفظا يحتمل وجوها على وجه واحد، وأما إن لم يغير المعنى مثل قوله (صلى الله عليه وآله): " البيعان بالخيار ما لم يفترقا " فيقول: يجوز للبائع والمشتري أن يفسخا البيع ما داما في المجلس، فيغير لفظ " ما لم يفترقا " بلفظ " ما داما في المجلس " فلا يعد من تغيير المعنى وإن كان النظر الدقيق يفهم من كل منهما ما لا يفهم من الآخر. (ش) 1 - رواه الصدوق في الخصال أبواب الثلاثة وغيره، وتقدم في الأبواب السابقة أيضا. (*)

[ 214 ]

(كما سمعته منك فلا يجئ) أي فلا يجئ ذلك الكلام بعينه أفيجوز لي أن أروي معناه بما يجئ من الألفاظ والعبارات ؟ (قال: فتعمد ذلك ؟) تتعمد بالتاءين، وفي بعض النسخ بحذف إحداهما للتخفيف. والتعمد: القصد، يقال: تعمدت الشئ أي قصدته، يعني أفتقصد ذلك الكلام وتريد أن ترويه كيف ما يجئ زائدا على إفادة المعنى المقصود أو ناقصا عنه ؟ (قلت: لا) نفي إرادة هذا الاحتمال لعلمه بأنه لا يجوز نقل معنى الحديث بلفظ لا يفيده أو يفيد الزيادة عليه. (قال: تريد المعاني ؟) أي تريد رواية المعاني ونقلها بألفاظ غير مسموعة وعبارات مفيدة لها من غير زيادة ونقصان فيها ؟ (قلت: نعم، قال: فلا بأس) في نقلها مع محافظتها عن الزيادة والنقصان، ويمكن أن يقال: لما كان قول السائل " فلا يجئ " (1) يحتمل أمرين:


1 - أقوى الأدلة على جواز النقل بالمعنى ما ذكره العلامة (رحمه الله) في النهاية، وهو خامس أدلته من: أنا نعلم قطعا أن الصحابة لم يكتبوا ما نقلوه ولا كرروا عليه بل كلما سمعوا اهملوا إلى وقت الحاجة إليه بعد مدة متباعدة وذلك يوجب القطع بأنهم لم ينقلوا نفس اللفظ بل المعنى، انتهى. وهذا معنى قول داود بن فرقد: " فلا يجئ " أي فلا يمكن لي ضبط الألفاظ بخصوصها، ونظير ذلك ما نرى من نقل العلماء أقوال غيرهم لا بألفاظهم ونقل الناس ما سمعوه من الوعاظ والناطقين ورسالة بعضهم إلى بعض شفاها فيحتج من الروايات بما يمكن ضبطه ونقله، وهو أصل المعنى المعقود له الجملة لا الدقائق التي تستنبط بفكر العلماء ومن خصوصيات الألفاظ، وقد سبق في الصفحة 146 و 147 من هذا المجلد حديث محمد بن مسلم برواية ربعي وبرواية حريز، ويحتمل قويا اتحادهما ومعناهما المعقود له الكلام أمر الناس بعدم الاستحياء من التصريح بعدم العلم إذا سألوا عن شئ لا يعلمونه، وهذا المعنى محفوظ في الروايتين وإن اختلفت ألفاظهما ومثله رواية " البيعان بالخيار ما لم يفترقا " كما مر فإذا بدل " ما لم يفترقا " بقوله: " ما داما في المجلس " فقد حفظ المعنى لكن يدل الافتراق على التباعد ولو خطوة، ولا يدل عليه قوله: ما داما في المجلس إذ يمكن التباعد خطوة مع كونهما في المجلس وحينئذ فنقول: أمثال هذه ليست بحجة إذ كما نعلم يقينا أنهم رووا الأحاديث بالمعنى نعلم أيضا أن الناس لا يقدرون على حفظ هذه الدقائق، بل لا يتفطنون لها حتى يحفظوها، فما هو شائع بين بعض فقهائنا المتأخرين خصوصا بين من تأخر عن الشيخ المحقق الأنصاري (قدس سره) من استنباط الأحكام من هذه الدقائق المستنبطة من ألفاظ الروايات بتدقيقاتهم غير مبتن على أساس متين خصوصا ما يدعونه من الظن الاطمئناني بصدور هذه الروايات وأنها حجة لا تعبدا بآية النبأ وأمثالها، بل لحصول الاطمئنان وأن الاطمئنان علم عرفا. والحق أنهم إن ادعوا حصول الاطمئنان بصدور هذه الألفاظ المروية بخصوصياتها كما يحتجون بها في الفقه فنحن نعلم يقينا عدم صدورها كذلك ولا حفظ خصوصياتها في = (*)

[ 215 ]

أحدهما أنه لا يجئ ذلك الكلام أصلا لنسيانه. وثانيهما: أنه لا يجئ بسهولة، والغرض من السؤال حينئذ طلب الإذن لنقل المعنى بعبارة اخرى أسهل استفهم (عليه السلام) بقوله: فتتعمد ذلك ؟ أي أفتقصد عدم المجئ وتريده عمدا وتترك اللفظ المسموع لأجل الصعوبة مع القدرة على الإتيان به، فأجاب السائل بقوله: " لا " وأشار به إلى أنه أراد الأمر الأول. وقيل: قوله (عليه السلام): " فتتعمد ذلك " مأخوذ من عمد البعير إذا انفضح داخل سنامه من الركوب وظاهره صحيح، والمقصود هل تفسد الباطن وهو المعنى وتصلح الظاهر يعني الألفاظ ؟ وما في بعض النسخ من قوله (عليه السلام): " فتعمد " بالتاء الواحدة، قيل: يجوز أن يكون من المجرد يقال: عمدت الشئ فانعمد أي أقمته بعماد يعتمد عليه، أو من باب الإفعال يقال: أعمدته أي جعلت تحته عمادا والمعنى في الصورتين أفتضم إليه شيئا من عندك تقيمه وتصلحه كما يقام الشئ بعماد يعتمد عليه ؟ فقال السائل: لا هذا وفيه على جميع الاحتمالات دلالة على جوازه نقل الحديث بالمعنى فهو حجة لمن جوزه. لا يقال: الجواز على الاحتمال الثاني الذي ذكرته مشروط بعدم القدرة على الأداء باللفظ المسموع والنزاع في جوازه مطلقا. لأنا نقول: لم يقل أحد من المجوزين والمانعين بالفرق المذكور فمن جوزه جوزه مع القدرة وعدمها، ومن منعه منعه كذلك، فإذا دل الحديث على الجواز مع عدم القدرة فهو حجة للمجوز على المانع على أن الشرط المذكور يمكن حمله على الأولوية والأفضلية يعني أن الأولى والأفضل في حال القدرة على المسموع أن يؤديه بالمسموع والمجوز لا ينكره. * الأصل: 4 - وعنه، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسين بن سعيد، عن القاسم بن محمد، عن علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الحديث أسمعه منك أرويه عن أبيك أو أسمعه من أبيك أرويه عنك ؟ قال: " سواء إلا أنك ترويه عن أبي أحب إلي ". وقال أبو عبد الله (عليه السلام) لجميل: " ما سمعت مني فاروه عن أبي ". * الشرح: (وعنه، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسين بن سعيد، عن القاسم بن محمد، عن علي بن


= إبدالها أيضا، وليس صدورها وهما فضلا عن الظن وفضلا عن الاطمئنان وإن أرادوا الاطمئنان بصدور أصل المعنى ومفاده إجمالا فيأتي كلامنا فيه. (ش) (*)

[ 216 ]

أبي حمزة، عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الحديث أسمعه منك أرويه عن أبيك أو أسمعه من أبيك أرويه عنك ؟) فهل يجوز ذلك ؟ وهل هما سواء ؟ (قال: سواء) أي الروايتان متساويتان لا تفاوت بينهما، وذلك لأنه (عليه السلام) من أبيه وأباه منه، وهما من نور واحد ومعدن واحد ينتهي إليه سلسلة العلوم كلها ولا اختلاف في أحاديثهم فما يقول به الأول يقول به الآخر وبالعكس (1). (إلا أنك ترويه عن أبي أحب إلي) متعلق بكلا السماعين وتخصيصه بالأخير لدفع توهم السماع من المروي عنه بخصوصه بعيد وإنما أحب ذلك لقصد تعظيم أبيه أو لأنه أخذ العلم من أبيه، فالأصل أولى بالنقل عنه أو لقرب إسناده إلى الرسول (صلى الله عليه وآله) وله تأثير عظيم في القبول عند الناس أو لوقوف بعض الناس على أبيه، فمن قال بإمامة الابن قال بإمامة الأب دون العكس، أو لرفع الخوف والاشتهار عن نفسه ولا يتصور ذلك في الأب لموته (عليه السلام). (وقال أبو عبد الله (عليه السلام) لجميل) يحتمل أن يكون من كلام أبي بصير وأن يكون حديثا آخر من المصنف بحذف الإسناد. (ما سمعت مني فاروه عن أبي) وجهه ما عرفت، وفيهما دلالة على جواز رواية المسموع من أحد من الأئمة (عليهم السلام) عن الآخر بل عن الرسول (صلى الله عليه وآله)، ثم الظاهر أن جواز الرواية كذلك فيما إذا لم يكن بين الراوي والمعصوم المسموع منه واسطة، وأما إذا كان بينهما واسطة فجواز ذلك محل تأمل. * الأصل: 5 - وعنه، عن أحمد بن محمد ومحمد بن الحسين، عن ابن محبوب، عن عبد الله بن سنان، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): يجيئني القوم فيستمعون مني حديثكم فأضجر ولا أقوى، قال: " فاقرأ عليهم من أوله حديثا، ومن وسطه حديثا، ومن آخره حديثا ". * الشرح: (وعنه، عن أحمد بن محمد ومحمد بن الحسين، عن ابن محبوب، عن عبد الله بن سنان، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): يجيئني القوم فيستمعون مني حديثكم فأضجر ولا أقوى) الضجر قلق من غم وضيق نفس مع كلام، وقد ضجر من كذا وتضجر منه وأضجره غيره يعني فأضجر عن التكلم


1 - يجب تقييد ذلك بأن لا يستلزم ضرورة أنه إذا سمع من الباقر (عليه السلام) حديثا فقال: حدثني الصادق (عليه السلام) كان كاذبا لا محالة، ولا يصلح هذا الخبر لتخصيص أدلة حرمة الكذب، فالمعنى نسبة القول والفتوى المسموع من إمام إلى غيره، كأن يسمع إبطال العول عن الصادق (عليه السلام) فيقول: مذهب أمير المؤمنين (عليه السلام) أيضا ذلك لا أن يقول: سمعت أمير المؤمنين (عليه السلام) أو حدثني وأمثال ذلك. (ش) (*)

[ 217 ]

بكلام كثير أو عن عدم إنجاح مطالبهم ولا أقوى على تحديثهم كلما يريدون ومقصوده إما الإخبار عن حالة أو الاستعلام عن حكمه فيما يعرضه عند قراءة الحديث على قومه. (قال: فاقرأ عليهم من أوله حديثا، ومن وسطه حديثا) في المغرب: الوسط بالتحريك اسم لعين ما بين طرفي الشئ كمركز الدائرة وبالسكون اسم مبهم لداخل الدائرة مثلا، ولذا كان طرفا. وفي الصحاح كل موضع فيه بين فهو وسط بالتسكين، وإن لم يصلح فيه بين فهو وسط بالتحريك، والأنسب هنا هو السكون لأن المقصود هو الداخل بين الطرفين لا الوسط الحقيقي. (ومن آخره حديثا) الضمائر الثلاثة تعود إلى كتاب الحديث بقرينة المقام، ورخص (عليه السلام) له أن يقرأ عليهم على الوجه المذكور إذا لم يقو على قراءة الأحاديث كلها ليحصل لهم فضل سماع الحديث من الشيخ في الجملة. ثم إنهم إن قرؤوا البواقي عليه جاز لهم روايتها عنه قطعا وإن لم يقرؤوا فالظاهر أنه يجوز لهم الرواية عنه ونقل جميع ما في كتابه إن علم أنه من مروياته، فإنه إذا جاز الرواية عن رجل بمجرد إعطاء كتاب من غير أن يقرأ شيئا منه على الراوي كما في الخبر الآتي جاز هذا بالطريق الأولى (1). وقيل: الضمائر تعود إلى الحديث ويختص جواز القراءة على الوجه المذكور حينئذ بما إذا كان


1 - قال العلامة في النهاية في كيفية الرواية أن مراتبه سبع: الأول وهو أعلى المراتب: أن يسمع الراوي من الشيخ فيقول: أخبرني أو حدثني فلان إن قصد الشيخ إسماعه خاصة أو كان في جماعة وقصد إسماعهم جميعا، وأما إن لم يقصد إسماعه تفصيلا ولا جملة كان له أن يقول: سمعته يحدث وليس له أن يقول: أخبرني وحدثني. الثاني: أن يقرأه على الشيخ ويقول الشيخ بعد الفراغ: الأمر كما قرئ علي. الثالث: أن يكتب إلى غيره بأني سمعت كذا فللمكتوب إليه أن يعمل، وليس له أن يقول: سمعته أو حدثني، ويجوز أن يقول: أخبرني لأن الكتابة إخبار. الرابع: أن يقول للشيخ: هل سمعت هذا الخبر فيشير برأسه أو باصبعه، وهذا كالعبارة في وجوب العمل لكن لا يجوز أن يقول: حدثني أو أخبرني أو سمعت. الخامس: أن يقول للشيخ: حدثك فلان فلا ينكر ولا يقر بعبارة ولا إشارة، فإن علم بالقرينة أن سكوته للرضا عمل به ولا يروى عنه بلفظ أخبرني وحدثني، وفيه خلاف. السادس: المناولة بأن يشير الشيخ إلى كتاب يعرف ما فيه فيقول: سمعت ما في هذا الكتاب وليس للسامع أن يشير إلى نسخة اخرى من ذلك الكتاب فيقول: سمعت هذه لاحتمال اختلاف النسخ. السابع: الإجازة، وهي أن يقول الشيخ لغيره: قد أجزت لك أن تروي ما صح عني من أحاديثي، واختلفوا في جواز الرواية بالإجازة بأن يقول: حدثني وأخبرني، انتهى. والحق أن لفظتي " أخبرني " و " حدثني " قد خرجتا في اصطلاح المحدثين عن معناهما اللغوي، ونقل إلى ما يشمل الإجازة أيضا، وليس قول من يقول: أخبرني إجازة تناقضا ولا كذبا. (ش) (*)

[ 218 ]

الحديث مشتملا على جمل مستقلة وأحكام متعددة يستقل كل واحد منها بانفراده. وأما الحديث الذي أجزاؤه مربوط بعضها ببعض فلا يجوز قراءته على الوجه المذكور. وفي هذا الحديث دلالة على ما هو المشهور بين علماء الاصول وغيرهم من أن قراءة الشيخ على التلميذ أفضل من قراءة التلميذ على الشيخ، وقيل: هما متساويان، وقيل: القراءة على الشيخ أفضل من السماع منه. * الأصل: 6 - وعنه بإسناده، عن أحمد بن عمر الحلال، قال: قلت لأبي الحسن الرضا (عليه السلام): الرجل من أصحابنا يعطيني الكتاب ولا يقول: أروه عني يجوز لي أن أرويه عنه ؟ قال: فقال: " إذا علمت أن الكتاب له فاروه عنه ". * الشرح: (وعنه بإسناده، عن أحمد بن عمر الحلال) بالحاء المهملة المشددة كان يبيع الحل وهو الشيرج (1)، ثقة قاله الشيخ، وقال: إنه ردي الأصل، فعندي توقف في قبول روايته لقوله هذا، وكان أنماطيا من أصحاب الرضا (عليه السلام). (قال: قلت لأبي الحسن الرضا (عليه السلام): الرجل من أصحابنا يعطيني الكتاب ولا يقول: اروه عني يجوز لي أن أرويه عنه ؟ قال: فقال: إذا علمت أن الكتاب له) ومن مروياته ومسموعاته. (فاروه عنه) فإن ذلك كاف في رواية ما في الكتاب عنه، وفيه دلالة على جواز الرواية بالمناولة التي عدها بعض المحدثين والاصوليين من أصحابنا من طرق تحمل الحديث وقالوا: هي أن يعطي الشيخ رجلا كتابه ويقول: هذا كتابي وسمعت ما فيه فإذا فعل ذلك فلذلك الرجل أن يرويه عنه سواء قال له: اروه عني أو لم يقل، وله أن يقول عند الرواية: أجازني إجازة أو حدثني إجازة، لا أخبرني وحدثني مطلقا. لا يقال: المراد بالرواية بالمناولة التي وقع النزاع في جوازها وذهب الأكثر إلى عدمه هو رواية ما في الكتاب عن صاحبه عن شيخه، وهكذا إلى المعصوم، ولا تدل هذه الرواية على جوازها بهذا المعنى وإنما تدل على جواز رواية الكتاب عن صاحبه وإسناده إليه، والقول بأنه روى فيه كذا كما يرشد إليه قوله (عليه السلام): " فاروه عنه " والفرق بين القول بأنه روى صاحب الكتاب فيه كذا وبين التحديث عنه عن شيخه عن المعصوم ظاهر بين، وهذا الحديث دل على جواز الأول دون الثاني وهو محل النزاع.


1 - الشيرج: السمسم المسحوق، ويقال بالفارسية: " أرده ". (*)

[ 219 ]

لأنا نقول: إذا جاز القول بأنه روى فيه كذا وصح إسناد ما فيه إليه وقد ثبت رواية ما فيه عن شيخه عن المعصوم جاز القول بأنه روى فيه كذا عن شيخه عن المعصوم والقول بجواز الأول دون الثاني مكابرة (1). * الأصل: 7 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، وعن أحمد بن محمد بن خالد، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): " إذا حدثتم بحديث فأسندوه إلى الذي حدثكم، فإن كان حقا فلكم، وإن كان كذبا فعليه ". * الشرح: (علي بن إبراهيم، عن أبيه، وعن أحمد بن محمد بن خالد، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): إذا حدثتم بحديث فأسندوه إلى الذي حدثكم، فإن كان حقا فلكم، وإن كان كذبا فعليه) كما أنه لا بد لك في نقل متن الحديث من حفظه عن الزيادة والنقصان تحرزا عن الكذب والافتراء كذلك لا بد في نقل سنده من حفظه عن الإرسال وحفظ بعض الوسائط تحرزا عنهما وعن التمويه والتدليس الذي لا يليق بالعدل، فإن أردت أن تروي حديثا لا ينافي شيئا من ضروريات الدين ولا يكون مضمونه باطلا بالضرورة فأسنده إلى من حدثك به بلا واسطة فإن كان حقا مطابقا للواقع فلك الأجر والثواب بنشر العلم والحديث وإن كان كذبا فعليه كذبه لا عليك لأنك صادق، وإنما قلنا: لا ينافي شيئا من ضروريات الدين لأنه لو كان منافيا لها لا يجوز لك نقله عمن حدثك أيضا لا للتحرز عن الكذب لأنك في هذا النقل صادق بل للتحرز عن نشر الباطل وبث الجهل. ومن هذا القبيل ما وقع بيني وبين بعض الأفاضل حين قص بعض أصحاب القصص الحكايات المفتريات والأقوال الكاذبة قطعا فقال ذلك الفاضل: قل: قال فلان: كان كذا لئلا تكذب ولا نسمع الكذب فقلت له: إذا علمت أن هذه الحكايات كاذبة لا تنفعه ولا تنفعك تلك الحيلة فاعترف به. * الأصل: 8 - علي بن محمد بن عبد الله، عن أحمد بن محمد، عن أبي أيوب المدني، عن ابن أبي عمير، عن حسين الأحمسي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " القلب يتكل على الكتابة ".


1 - ليس مكابرة إذ الخلاف في جواز أن يقول المجاز: أخبرني أو حدثني والرواية تدل على جواز نسبة ما في الكتاب إلى صاحبه بغير لفظ أخبرني وحدثني. (ش) (*)

[ 220 ]

* الشرح: (علي بن محمد بن عبد الله، عن أحمد بن محمد، عن أبي أيوب المدني) مشترك بين اثنين أحدهما الأنباري المدني الذي تحول إلى بغداد. (عن ابن أبي عمير، عن حسين الأحمسي) هو ابن عثمان الثقة. (عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: القلب يتكل على الكتابة) المراد بالقلب النفس الناطقة والاتكال الاعتماد، وفيه حث على الكتابة وعدم الاعتماد على الحفظ، ولا دلالة فيه على جواز عمل الغير بمكتوبه كما زعم (1) لجواز أن يكون فائدة الكتابة ضبط الحديث عن الاندراس والقراءة على الغير، ونقله إليه وحفظ سنده والعمل به في بقية العمر ولا يشترط في جواز عمله بمكتوبه أن يكون عادلا. نعم يشترط ذلك في جواز عمل الغير به ولو شك في كونه مكتوبه فهل له العمل به وقراءته على الغير أم لا يحتمل ؟ الأول: لأنه لا يقصر عن كتاب الغير إذا وجده، فإن له أن يعمل به ويحدث به غيره كما دل عليه حديث آخر هذا الباب، ويحتمل الثاني لعدم علمه بذلك (2). * الأصل: 9 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الحسين بن علي الوشاء، عن عاصم بن حميد، عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: " اكتبوا فإنكم لا تحفظون حتى تكتبوا ". * الشرح: (الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الحسين بن علي الوشاء، عن عاصم بن حميد) بضم الحاء المهملة، كوفي ثقة عين صدوق.


1 - مما استدل به بعضهم على حجية أخبار الآحاد إجماع الشيعة على روايتها ونقلها وكتبها وحفظها وإسماعها وورود الأخبار المتواترة عن المعصومين (عليهم السلام) بالحث والتحريض بذلك، ولا يمكن أن يكون النقل إلا لقبول السامعين وعملهم، إذ لو لم يكن حجة لم يكن فائدة في النقل. والجواب: أنه ليس فائدة نقل العلوم المنقولة منحصرة في وجوب القبول تعبدا فقد نقلوا روايات الآحاد في التوحيد واصول الدين واتفقوا على عدم حجيتها فيها، وكذلك رووا السير والتواريخ والقصص واللغة وأقوال فقهاء العامة والخاصة، لأن لها دخلا في حصول العلم بانضمام سائر القرائن وسائر الروايات أو رجاء أن يحصل التواتر. وبالجملة طريق العلوم المنقولة النقل، سواء كان الواجب فيها تحصيل اليقين أو الظن. (ش) 2 - الاحتمال الثاني متعين، والاحتمال الأول باطل جدا، وكيف يتصور أن يشك أحد في صحة كتاب ولا يعرف خطه ومع ذلك يجب عمله به وروايته لغيره ؟ ونمنع ذلك في كتاب الغير أيضا إذا وجده وشك في كونه مكتوب ذلك الغير، وسيأتي لذلك تتمة إن شاء الله في شرح حديث آخر الباب. (ش) (*)

[ 221 ]

(عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: اكتبوا) ما سمعتم من الأحاديث. (فإنكم لا تحفظون حتى تكتبوا) فيه استحباب كتب الحديث، وقد أجمع عليه السلف والخلف ومع ذلك فلا نزاع في أن حفظه عن ظهر القلب أحسن وأولى، وفي كتبه فوائد معظمها ما أشار إليه (عليه السلام). وحاصله أنه سبب لحفظه عن النسيان وعن طريان الزيادة والنقصان في طول الزمان وباعث لبقائه مر الدهور، وما روي عن الإمام (عليه السلام) حين أراد بعض أصحابه أن يكتب ما سمعه منه أنه قال: " أين حفظكم يا أهل العراق ؟ " (1) لا دلالة فيه على النهي عن الكتابة، لأن ذلك ترغيب في الحفظ عن ظهر القلب لئلا يقصر فيه اتكالا على مجرد الكتاب، أو أن النهي مختص بمن يمكنه السماع مع المعصوم والرجوع إليه متى أراد. * الأصل: 10 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن علي بن فضال، عن ابن بكير، عن عبيد بن زرارة، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): " احتفظوا بكتبكم فإنكم سوف تحتاجون إليها ". * الشرح: (محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن علي بن فضال، عن ابن بكير، عن عبيد بن زرارة، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): احتفظوا بكتبكم فإنكم سوف تحتاجون إليها) أمر (عليه السلام) باحتفاظ الكتب واحتراسها عن الاندراس وعلله بأنه سيأتي زمان تحتاجون فيه إلى الكتب والرجوع إليها وذلك زمان لا يمكنكم فيه الرجوع إلى المعصوم لغيبته، وهذا من الإخبار بالغيب، لأنه أخبر بما سيقع وقد وقع. * الأصل: 11 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد البرقي، عن بعض أصحابه، عن أبي سعيد الخيبري، عن المفضل بن عمر قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): " اكتب وبث علمك في إخوانك فإن مت فأورث كتبك بنيك، فإنه يأتي على الناس زمان هرج لا يأنسون فيه إلا بكتبهم ". * الشرح: (عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد البرقي، عن بعض أصحابه، عن أبي سعيد الخيبري) قال بعض الأفاضل في بعض النسخ: عن أبي سعيد الخراساني، وهو الذي ذكره الشيخ في كتاب الرجال في أصحاب أبي الحسن الرضا (عليه السلام) وحكم عليه بالجهالة، وفي بعضها: " عن أبي معبد الخيبري " بفتح الميم والباء الموحدة وسكون العين المهملة بينهما، وهو الذي تروي عنه العامة،


1 - رواه الشيخ في الاستبصار - باب ذبائح الكفار، من حديث ورد بن زيد. (*)

[ 222 ]

وكذلك ضبطه شارح البخاري. (عن المفضل بن عمر قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): اكتب وبث علمك في إخوانك) يعني اكتب الأحاديث وانشر علمك في إخوانك ليعلموا كما علمت وينشروا في إخوانهم كما نشرت، وهكذا إلى قيام الساعة. وظاهر أن المقصود من الكتابة والنشر هو بقاء الحديث والعمل به، ففيه دلالة على أن خبر الواحد حجة. لا يقال: لعل المقصود أن يصير حجة عند التواتر ؟ لأنا نقول: لا يعد الخبر متواترا إذا كان الناقل الأول واحدا وإن بلغ بعد ذلك حد الاشتهار والتواتر، إذ يشترط في التواتر كثرة الناقل في جميع المراتب (1). نعم يرد: أن هذا إثبات حجية خبر الواحد بخبر الواحد فيلزم الدور. ويمكن دفعه: بأن هذا الخبر مع أمثاله الكثيرة مما دلت على حجيته، إذ لوحظ المجموع من حيث هو دل بالتواتر المعنوي على حجيته. (فإن مت فأورث كتبك بنيك) ليقوموا مقامك في حفظ الكتب وضبط الحديث ونشر العلم ثم علل الأمر بالكتابة والايراث بقوله: (فإنه يأتي على الناس زمان هرج) الهرج بفتح الهاء وسكون الراء الفتنة والاختلاط والقتل، أي يأتي زمان يكثر فيه الفتنة ويضطرب فيه أهل الحق ويختلط الحق والباطل، كل ذلك لارتفاع لواء الظلمة وارتقاء دولتهم وشدة عداوتهم لأهل الحق حتى أنهم يقتلون العالم الرباني أينما وجدوه ومن رجع إليه أينما ثقفوه. (لا يأنسون فيه إلا بكتبهم) لعدم إمكان رجوعهم إلى المعصوم والسماع منه أما لغيبته أو لشدة


1 - والظاهر أن جواب الشارح لا يدفع السؤال، إذ ليس مراد السائل أن ذلك الخبر الواحد بعينه يصير متواترا بكثرة النقل، بل هذا الخبر ينضم إلى أخبار اخر بهذا المضمون ويتكرر الإخبار حتى يحصل التواتر، كما يرى في أخبار نصوص الأئمة (عليهم السلام) على الإمام اللاحق أو نقل معجزات الرسول (صلى الله عليه وآله)، إذ لا ريب أن الرواة نقلوها وكان نقلها واجبا عليهم، لا لأن الخبر الواحد فيها حجة بل لأن نقل واحد منهم ينضم إلى نقل جماعة آخرين يحصل بهم التواتر ولو أمسك الواحد عن نقل نص الإمام الصادق (عليه السلام) على إمامة الكاظم (عليه السلام) مثلا لعذر أنه لا يقبل منه وأمسك الآخر أيضا، وهكذا لم يحصل التواتر أصلا، فالحق أن الروايات الموجبة لكتابة الأخبار وبثها لا يدل على حجية اخبار الآحاد تعبدا إذا لم تنضم إلى قرائن توجب القطع واليقين، ولو كان أمر الإمام (عليه السلام) المفضل بن عمر بالكتابة دالا على قبول المنقول إليهم مطلقا لكان دليلا على قبول جميع روايات المفضل مع أن العلماء مطبقون على ترك رواياته وعلى تضعيفه إلا نادرا، وكذا دل على حجية جميع الكتب ولا يقول به أحد. وأورد العلامة (رحمه الله) في النهاية خمسة عشر دليلا على حجية خبر الواحد ليس فيها هذا الدليل وهو يدل على عدم تماميته وذكرنا شيئا يتعلق بذلك في حواشي الوافي صفحة 55 و 76، ج 1. (ش) (*)

[ 223 ]

الخوف والتقية وهذا الذي أمر به (عليه السلام) وفعله السلف رضوان الله عليهم من كتب الأحاديث وتدوينها كمال الشفقة على الامة، إذ لولا ذلك لكانت الامة تائهة حائرة في دين الحق وأحكامه، سيما في هذا العصر فجزاهم الله تعالى عنا خير الجزاء. * الأصل: 12 - وبهذا الاسناد، عن محمد بن علي، رفعه قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): " إياكم والكذب المفترع "، قيل له: وما الكذب المفترع ؟، قال: " أن يحدثك الرجل بالحديث فتتركه وترويه عن الذي حدثك عنه ". * الشرح: (وبهذا الاسناد، عن محمد بن علي) لا يظهر لهذا مرجع ظاهر، وقيل: يعني بهذا الإسناد عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد البرقي، ومحمد بن علي إما هو محمد بن علي بن مهزيار، أو محمد ابن علي بن عيسى القمي المعروف بالطلحي، أو محمد بن علي بن حمزة بن الحسن بن عبيدالله بن العباس بن علي بن أبي طالب (عليه السلام). (رفعه قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إياكم والكذب المفترع) أي الكذب الحاجز بين الرجل وبين قبول روايته من فرع فلان بين الشيئين إذا حجز بينهما، أو الكذب المرتفع المتصاعد من فرع الشئ أي ارتفع وعلا، وفرعت الجبل أي صعدته، أو الكذب الذي يزيل عن الراوي ما يوجب قبول روايته والعمل بها، أعني العدالة من افترعت البكر افتضضتها وأزلت بكارتها، أو الكذب الذي ازيل بكارته يعني وقع مثله في السابقين من الرواة أو الكذب المبتدأ أي المستحدث، وفيه إيماء إلى أنه لم يقع مثله من السابقين والمتعلق بذكر أحد ابتداء من قولهم: بئس ما افترعت به أي ابتدأت به، والمفترع على الأخيرين اسم مفعول، وعلى الثلاثة الأول اسم فاعل، وبعض الأفاضل ضبط " المقترع " بالقاف بدل الفاء من الاقتراع بمعنى الاختيار، وحكم بأن المفترع بالفاء من التصحيفات في الانتساخ أو من التحريفات في الرواية. والحق أنه ليس الأمر كما زعمه والله أعلم. (قيل له: وما الكذب المفترع ؟) استفهم عن المقصود منه لما فيه نوع من الإبهام. (قال: أن يحدثك الرجل بالحديث فتتركه) أي ذلك الرجل ولا ترويه عنه. (وترويه عن الذي حدثك عنه) أي ذلك الرجل عنه، مثلا حدثك زيد عن عمرو فتترك زيدا عند الرواية وتروي عن عمرو (1) بأن يقول: حدثني عمرو بكذا أو قال عمرو: كذا فترفع الحديث


1 - ذكرنا في شرح هذا الحديث شيئا في حواشي الوافي لا نطيل الكلام بإعادته فارجع إليه صفحة 55 و =

[ 224 ]

بإرسال زيد والرواية عن عمرو على وجه يشعر بأنه حدثك وهو مذموم لما فيه من الكذب والتدليس ويجب صون الكلام عنهما بقدر الإمكان، وهذا إذا طرح الواسطة بالكلية، أما لو فعل ذلك في مواضع طلبا للاقتصار ثم ذكر الواسطة ليخرج الخبر عن شائبة الكذب والإرسال كما فعله ابن بابويه (رحمه الله) فهو ليس من الكذب المفترع، وفي بعض النسخ: " عن الذي حدثك به "، وفي بعضها: " عن غير الذي حدثك به ". * الأصل: 13 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن جميل بن دراج، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): " أعربوا حديثنا فإنا قوم فصحاء ". * الشرح: (محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن جميل بن دراج، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): اعربوا حديثنا فإنا قوم فصحاء) الإعراب الإبانة والإيضاح، يقال: اعرب كلامه إذا لم يلحن في الحروف والاعراب، وسميت الإعراب إعرابا لأنها تبين المعاني المختلفة الواردة على سبيل التبادل وتوضحها وتميزها بحيث لا يشتبه بعضها ببعض (1)، والفصاحة الخلوص والجودة في اللسان وطلاقته، يقال: فصح الرجل بالضم فصاحة، وهو فصيح إذا خلصت عبارته عن الرداءة وجادت لغته وطلق لسانه، وهم (عليهم السلام) أفصح الفصحاء لأنهم اوتوا الكلمات العجيبة الجامعة والعبارات الأنيقة الرائقة الخالية عن النقص واللحن وعن كل ما يوجب غبار الطبع السليم ونفار العقل المستقيم وكراهة السمع. والمعنى: إذا حدثتم بأحاديثنا فأعربوا حروفها وكلماتها وأظهروا إعرابها وحركاتها كما ينبغي ولا تلحنوا في شئ منها لئلا يشتبه بعضها ببعض " فإنا قوم فصحاء " لا نتكلم إلا بكلام فصيح ليس فيه نقص ولحن في الحروف والحركات فإن ألحنتم في أحاديثنا وأفسدتم حروفها وكلماتها وحركاتها اختلت فصاحتها وذلك مع كونه موجبا للاشتباه وفوات المقصود نقص علينا وعليكم.


= 77، ج 1. (ش) 1 - والذي يختلج بالبال أن ما ذكره في معنى الحديث وحمله الإعراب على مصطلح النحو بعيد جدا وتعسف بل الأظهر أن المراد من الاعراب معناه اللغوي وهو الافصاح والبيان، فمعنى الحديث أنا قوم فصحاء لا نتكلم بألفاظ مشتبهة وعبارات قاصرة الدلالة فإذا نقلتم حديثنا لا تغيروا ألفاظها وعباراتها بألفاظ مبهمة يختل بها فهم المعنى ويشتبه المقصود كما يتفق كثيرا في النقل بالمعنى. (ش) (*)

[ 225 ]

* الأصل: 14 - علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن أحمد بن محمد، عن عمر بن عبد العزيز، عن هشام ابن سالم وحماد بن عثمان وغيره، قالوا: سمعنا أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: " حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدي، وحديث جدي حديث الحسين، وحديث الحسين حديث الحسن، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين، وحديث أمير المؤمنين (عليه السلام) حديث رسول الله، وحديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) قول الله عز وجل ". * الشرح: (علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن أحمد بن محمد، عن عمر بن عبد العزيز، عن هشام بن سالم وحماد بن عثمان وغيره، قالوا: سمعنا أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: " حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدي، وحديث جدي حديث الحسين، وحديث الحسين حديث الحسن، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين، وحديث أمير المؤمنين (عليه السلام) حديث رسول الله، وحديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) قول الله عز وجل) تنتج هذه المقدمات على سبيل القياس المفصول النتائج أن حديث كل واحد من الأئمة الطاهرين قول الله عز وجل ولا اختلاف في أقوالهم كما لا اختلاف في قوله تعالى، وجه الاتحاد ظاهر لمن له عقل سليم وطبع مستقيم، لأن الله عز وجل وضع العلم والأسرار في صدر النبي (صلى الله عليه وآله) ووضعه النبي في صدر علي (عليه السلام)، وهكذا من غير تفاوت واختلاف في الكمية والكيفية ولا استعمال آراء وظنون داعية إلى الاختلاف وعلى هذا ظهر معنى الاتحاد. وهذا كما إذ أورثك آباؤك جوهرا نفيسا انتقل من واحد بعد واحد إليك، فإذا قلت: جوهري هذا جوهر أبي وجوهر أبي جوهر جدي وهكذا إلى أن تبلغ إلى الأصل فقد كنت صادقا في هذا القول بلا شبهة إلا أن بين هذا وما نحن فيه فرقا، فإن الجوهر انقطع عنه أيدي آبائك بخلاف العلم فإنه انتقل من صدر مطهر إلى صدر مطهر من غير أن يزول عن الأول وينقطع تصرفه فيه، وما في بعض الروايات من نقل أبي عبد الله (عليه السلام) عن أبيه عن جده إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) أو إلى الرسول (صلى الله عليه وآله) تصريح بما هو في الواقع ومعلوم ضمنا وفائدته إما علو الإسناد أو رفع ما يختلج في قلب السامع أو التنبيه على شدة الاهتمام بمضمون الحديث. فإن قلت: فعلى هذا يجوز من سمع حديثا عن أبي عبد الله (عليه السلام) أن يرويه عن أبيه، أو عن أحد من أجداده، بل يجوز أن يقول: قال الله تعالى ؟ قلت: هذا حكم آخر غير مستفاد من هذا الحديث. نعم، يستفاد مما ذكر سابقا من رواية أبي بصير ورواية جميل عن أبي عبد الله (عليه السلام) جواز ذلك بل


[ 226 ]

أولويته (1)، والله أعلم. * الأصل: 15 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن الحسن بن أبي خالد شينولة قال: قلت لأبي جعفر الثاني (عليه السلام): جعلت فداك، إن مشايخنا رووا عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) وكانت التقية شديدة فكتموا كتبهم ولم ترو عنهم، فلما ماتوا صارت الكتب إلينا فقال: " حدثوا بها فإنها حق ". * الشرح: (عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن الحسن بن أبي خالد شينولة) بفتح الشين المعجمة وضم النون، بينهما ياء ساكنة منقطة تحتها نقطتين، ونقل عن الايضاح محمد بن الحسن بن أبي خالد المعروف بشينر بفتح الشين المعجمة وإسكان الياء المنقطة تحتها نقطتين وضم النون وإسكان الراء المهملة. وفي فهرست الشيخ في ترجمة سعد بن سعد الأشعري: له كتاب... إلى أن قال: عن أحمد بن أبي عبد الله عن محمد بن الحسن بن أبي خالد سينولة عنه بالسين المهملة. وقيل: محمد بن الحسن هذا ذكره الشيخ في كتاب الرجال في أصحاب أبي الحسن الرضا (عليه السلام). (قال: قلت لأبي جعفر الثاني (عليه السلام): جعلت فداك، إن مشايخنا رووا عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) وكانت التقية شديدة فكتموا كتبهم ولم ترو عنهم) قال بعض المحققين: الأصوب أن يقرأ " فلم ترو " بفتح الواو المشددة وفتح الراء على صيغة المجهول، أما بضم النون للمتكلم مع الغير أو بضم تاء التأنيث للغائبة من التروية بمعنى الرخصة. يقال: رويته الحديث تروية أي حملته على روايته، ورخصت له فيها وضمير الجمع في عنهم للمشايخ، والمعنى فلو نرو نحن عن المشايخ، يعني لم تقع الرخصة لنا من قبلهم في رواية كتبهم وما فيها من الأحاديث عنهم أو لم ترو كتبهم وأحاديثها يعني لم تقع الرخصة لنا من قبلهم في روايتها، وضبطه بعضهم بتخفيف الواو المفتوحة وسكون الراء وضم التاء، يعني لم ترو كتبهم وأحاديثهم عنهم ولم تبلغ روايتها إلينا سماعا أو قراءة أو إجازة أو مناولة أو غير ذلك من طرق تحمل الحديث وضبطه بعضهم " فلو نرو " بفتح النون وسكون الراء وكسر الواو المخففة على صيغة المعلوم للمتكلم مع الغير.


1 - بل معنى الحديث كما مر أن فتاويهم وأقوالهم متفقة وليس بينهم اختلاف في الرأي كما هو بين فقهاء المخالفين، وهذا مقتضى عصمتهم لا ما يتوهم من ظاهر عبارة الشارح، وقد ذكرنا في حواشي الصفحة 74 من الوافي في شرح الحديث ما يبين المقصود فارجع إليه، وحاصله أن الكذب حرام بالضرورة ولا يصح تجويزه بالأخبار الضعيفة بل لا بد من تأويل ما يخالف الضرورة. (ش) (*)

[ 227 ]

وقيل: هذا تصحيف، وفي بعض النسخ: فلم يرووا عنهم يعني فلم يرووا المشايخ أحاديث كتبهم من الأئمة (عليهم السلام) ولم ينشروها بين الناس، فضمير الجمع في الفعل للمشايخ، وفي عنهم للأئمة (عليهم السلام). (فلما ماتوا صارت الكتب إلينا) ونحن نعلم أنها كتبهم بالقرائن المفيدة للعلم أو بقول الثقات. (فقال: حدثوا بها) عنهم عن شيوخهم إلى المعصوم أو قولوا: روى فلان في كتابه كذا، أو قال فيه كذا. (فإنها حق) ثابت وما كتبوا فيها من الأحاديث معتبر منقول عنهم (عليهم السلام)، وفيه دلالة على جواز الأخذ من الكتاب وإن لم يأذن صاحبه الأخذ منه وجواز الاعتماد على الكتابة وحمله على خصوص التقية لعلمه (عليه السلام) بحقيقة تلك الكتب كما يشعر به ظاهر التعليل محتمل، وعلى تقدير العموم جاز العمل بالكتب المشهورة عن المحمدين الثلاثة رضوان الله عليهم (1)، وإن لم يتصل سلسلة السماع من الشيوخ بهم.


1 - الكتاب إما متواتر كالكافي والتهذيب، وإما منقول بخبر الواحد كالنسخ القديمة التي قد توجد في المكاتب نظير أصل زيد الزراد وزيد النرسي وكتاب سليم بن قيس وكتاب تحف العقول وأمثاله. أما المتواتر فلا ريب أنه لا يحتاج في التمسك به إلى اتصال الاسناد إلى صاحب الكتاب إلا إذا اريد النقل بلفظ حدثني في التمسك به إلى اتصال الاسناد إلى صاحب الكتاب إلا إذا اريد النقل بلفظ حدثني وأخبرني وأمثال ذلك، فلا بد من اتصال السند لئلا يلزم الكذب. وأما الآحاد فلا يعتمد على النسخة أصلا، إذ يحتمل الانتحال والحذف والزيادة والتصحيف والتبديل، كما يعلم ذلك المتتبع للكتب القديمة المخطوطة، بل لا بد من وجود نسخة موجودة بخط مؤلفها، وهكذا متصلا مع وجود الشهادات على النسخة إلى أن يصل إلينا، وإلا فلا يؤتى بها إلا للتأييد والتأكيد لا للاحتجاج، وقد ذكرنا شيئا في ذلك في حواشي الصفحة 76 من الوافي ج 1، ولا نطيل الكلام بإعادته، وعلى هذا فإذا وجدنا حديثا في كتاب الكافي مثلا منقولا من كتاب سليم بن قيس ثم وجدنا ذلك الحديث بعينه في أصل كتاب سليم بتغيير ما فالاعتماد على الكافي لا على النسخة من كتاب سليم لأن الكافي متواتر محفوظ من التصحيف من عهد مؤلفه إلى الآن دون نسخة كتاب سليم. (ش) (*)

[ 229 ]

باب التقليد باب التقليد * الأصل: 1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن عبد الله بن يحيى، عن ابن مسكان، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: * (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) *، فقال: " أما والله ما دعوهم إلى عبادة أنفسهم ولو دعوهم ما أجابوهم ولكن أحلوا لهم حراما وحرموا عليهم حلالا، فعبدوهم من حيث لا يشعرون ". * الشرح: (عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن عبد الله بن يحيى) الظاهر أنه الكاهلي، وكان وجيها عند أبي الحسن (عليه السلام). (عن ابن مسكان، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: * (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) *) الأحبار علماء اليهود، جمع الحبر بالكسر أوالحبر بالفتح، وهو العالم، والأول أشهر وأفصح، والثاني رجحه أبو عبيد، قال: والذي عندي أنه الحبر بالفتح، ومعناه العالم بتحبير الكلام والعلم وتحسينه، والرهبان عباد النصارى جمع الراهب، وهو العابد، والترهب التعبد. (فقال: أما والله ما دعوهم إلى عبادة أنفسهم) يعني لم يأمروهم بفعل الصوم والصلاة والسجود وسائر العبادات لهم قصدا للتقرب منهم. (ولو دعوهم ما أجابوهم) لعلمهم بأنهم لا يستحقون العبادة، وإنما المستحق لها هو الله تعالى. (ولكن أحلوا لهم حراما وحرموا عليهم حلالا) إما خطأ لاعتمادهم في الأحكام الشرعية على آرائهم الفاسدة، أو عمدا لاحترازهم عن نسبة الجهل إليهم، أو لميلهم إلى الدنيا ومنافعها فجعلوا ذلك وسيلة للوصول إليها أو لغير ذلك من الأغراض الفاسدة. (فعبدوهم) بعباداتهم المستندة إلى أقوالهم وآرائهم أو بالانقياد لهم والرجوع إليهم وقبول آرائهم وأقوالهم. (من حيث لا يشعرون) أن تلك العبادة أو ذلك الانقياد عبادة لهم في الحقيقة، أما كون عبادتهم عبادة لهم في الحقيقة فلأن مقصودهم عبادة واضع تلك الأحكام والآمر بها وتوهموا بالتقليد وعدم التفكر في أمر الدين أن واضعها والآمر بها هو الله تعالى، والحال أنها غيره وهم الأحبار والرهبان، فرجعت عبادتهم إلى ذلك الغير وهم لا يشعرون.


[ 230 ]

وأما كون الانقياد لهم وقبول أوامرهم ونواهيهم عبادة لهم فلأن من أصغى إلى ناطق يؤدي من غير الله وتبعه على ذلك ورضي به فقد عبده، ومن ثم جعل الله تعالى متابعة الشيطان فيما يوسوس به عبادة له فقال: * (بل كانوا يعبدون الجن) *، وقال: * (ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين) *. وقال خليل الرحمن: * (يا أبت لا تعبد الشيطان) * وفيه ذم وتقريع لمن اتبع من لم يحكم بما أنزل الله وقلد من لم يكن مؤيدا بنور إلهي وموفقا بإلهام رباني فانظر رحمك الله هل يدخل فيه المجتهد المخطئ ومن قلده أم لا ؟ ومن ذهب إلى الثاني لا بد له من الإتيان بنص يوجب إخراجهما عن هذا الحكم (1)، والله هو المستعان. * الأصل: 2 - علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن إبراهيم بن محمد الهمداني، عن محمد بن عبيدة قال: قال لي أبو الحسن (عليه السلام): " يا محمد، أنتم أشد تقليدا أم المرجئة ؟ " قال: قلت: قلدنا وقلدوا، فقال: " لم أسألك عن هذا "، فلم يكن عندي جواب أكثر من الجواب الأول، فقال أبو الحسن (عليه السلام): " إن المرجئة نصبت رجلا لم تفرض طاعته وقلدوه وأنتم نصبتم رجلا وفرضتم طاعته ثم لم تقلدوه، فهم أشد


1 - التقليد في اصطلاحنا غيره في اصطلاح الروايات لأنهم (عليهم السلام) أطلقوا اسم التقليد على اتباع قول المعصوم أيضا مع أن قول المعصوم يوجب العلم، ولا يسمى عندنا تقليدا، وأما جواز تقليد المجتهدين فضروري لا يحتاج إلى دليل، إذ لا بد أن يرجع الجاهل في كل شئ إلى العالم به ويقبل قوله وإلا لاختل نظام العالم وأجمع أهل الإسلام بل الملل عليه. فإن قيل: أنكر الإخباريون جواز التقليد وإنكارهم قادح في الإجماع. قلنا: إنهم لا يقدرون على التعبير عن عقائدهم ولا عن عمل أنفسهم، والعبرة في مثل هؤلاء بعملهم لا بقولهم، إذ لا يعلمون ما يقولون وإنا إذا رجعنا إلى عملهم وجدناهم يسأل جاهلهم عالمهم فيعملون به، وأما معذورية المجتهد إذا أخطأ مع عدم تقصيره فضرورية أيضا، إذ ما من مجتهد إلا وقد أخطأ في مسألة أو مسائل لعدم كونه معصوما عن السهو والخطأ إجماعا، وتكليف الإنسان غير المعصوم بأن لا يخطأ ولا يسهو تكليف بما لا يطاق. فإن قيل: لو اقتصر المجتهد على الخبر لم يخطئ وإنما جاء الخطأ من قبل تمسكهم بالأدلة العقلية فهم غير معذورين. قلنا: رأينا الإخباريين أيضا اختلفوا في مسائل ولا بد أن يكون بعضهم مخطئين مع عدم تمسكهم إلا بالخبر وذلك لاختلاف أنظارهم في مفاد بعض الروايات وترجيح بعضها على بعض، فبعضهم قائل بتحريف القرآن وبعضهم كصاحب الوسائل منكر له، وبعضهم قائل بوجوب صلاة الجمعة عينا وبعضهم ينكره، وهكذا. والبحراني قائل بنجاسة المخالفين وغيره قائل بطهارتهم، والعجب أن الشارح جار معهم على طريقتهم. (ش) (*)

[ 231 ]

منكم تقليدا ". * الشرح: (علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن إبراهيم بن محمد الهمداني) وكيل الناحية، ثقة على ما رواه الكشي. (عن محمد بن عبيدة قال: قال لي أبو الحسن (عليه السلام): يا محمد، أنتم أشد تقليدا أم المرجئة ؟) التقليد اتباع الغير في القول والفعل والأمر والنهي من القلادة، وهي التي في العنق، والإرجاء التأخير، ويطلق المرجئة على فرقة مقابلة للشيعة لأنهم يؤخرون عليا (عليه السلام) عن مرتبته، وعلى فرقة مقابلة للوعيدية وهم فرقة من فرق الإسلام يعتقدون أنه لا يضر مع الإيمان معصية (1) كما لا ينفع مع الكفر طاعة، سموا مرجئة لاعتقادهم أن الله تعالى أرجأ تعذيبهم على المعاصي أي أخره عنهم، وقيل: لتأخيرهم العمل بالسنة، وإطلاق المرجئة على هاتين الفرقتين مما صرح به الشهرستاني في الملل والنحل والمراد هنا الفرقة الاولى، ويمكن إرادة الفرقة الثانية أيضا. (قال: قلت: قلدنا وقلدوا، فقال: لم أسألك عن هذا، فلم يكن عندي جواب أكثر من الجواب الأول) ليس الغرض من السؤال هو الاستعلام لأنه (عليه السلام) أعلم بذلك، بل الغرض منه التقرير والتوبيخ، أي حمل المخاطب على الإقرار بما يعرفه وذمه عليه، ومن كان عارفا بالقوانين العربية يعلم أنه ليس الغرض هنا تقرير أصل الفعل - أعني التقليد - لأنه ثابت محقق مفروغ عنه، فما أجاب به السائل لم يقع السؤال عنه فلذلك قال (عليه السلام): لم أسألك عن هذا، بل الغرض هو السؤال عن أشدية تقليد أحد الفريقين والتقرير عليها. (فقال أبو الحسن (عليه السلام): إن المرجئة نصبت رجلا) من عند أنفسهم لإمارتهم وإمامتهم. (لم تفرض طاعته) بأمر الله تعالى وأمر رسوله بحسب الواقع ولا باعتقادهم أيضا. (وقلدوه) في جميع أفعاله وأقواله وأوامره ونواهيه المخالفة لحكم الله وحكم رسوله وكتابه. (وأنتم نصبتم رجلا وفرضتم طاعته) على أنفسكم بأمر الله وأمر رسوله، وهو الجاذب لكم إلى الخيرات. (ثم لم تقلدوه) فيما يأمركم به وينهاكم عنه موافقا للكتاب والسنة مما يتم به نظامكم في الدنيا والآخرة. (فهم أشد منكم تقليدا) ولعل السر فيه أن لهم باعثا من الشيطان ولأهل الحق زاجر منه، فلذلك


1 - هذا هو الصحيح المعروف من معنى المرجئة، وأما من أخر عليا (عليه السلام) عن مرتبته فإطلاق المرجئة عليه إطلاق خاص استعمله رجل لمناسبة وقرينة مثل إطلاق صاحب الفصول الفاضل المعاصر على صاحب القوانين وإطلاق الحكيم نصير الدين الطوسي الفاضل الشارح على فخر الدين الرازي لا أن ذلك اصطلاح شائع كما يتوهم من ظاهر عبارة الشارح. (ش) (*)

[ 232 ]

يتثاقلون في المتابعة، وفيه ترغيب في متابعته (عليه السلام) والرجوع إليه في الأحكام وغيرها مما هو سبب لمزيد الكرامة في دار المقامة وتوبيخ على الإعراض عنه والتثاقل في السماع منه. * الأصل: 3 - محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن حماد بن عيسى، عن ربعي بن عبد الله، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله جل وعز: * (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) *، فقال: " والله ما صاموا لهم ولا صلوا لهم، ولكن أحلوا لهم حراما وحرموا عليهم حلالا فاتبعوهم ". * الشرح: (محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن حماد بن عيسى، عن ربعي بن عبد الله، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله جل وعز: * (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) *، فقال: والله ما صاموا لهم ولا صلوا لهم، ولكن أحلوا لهم حراما وحرموا عليهم حلالا فاتبعوهم) أي فاتبعوهم في تحليلهم وتحريمهم وأوامرهم ونواهيهم، وتلقوا بقبولها منهم، وتلك المتابعة عبادة لهم، أو فاتبعوهم في ذلك وعبدوا الله بحكمهم وتلك العبادة في الحقيقة عبادة لهم، وحينئذ قوله: " ما صاموا لهم ولا صلوا لهم " معناه ما فعلوا تلك العبادات ونظائرها لهم قصدا لعبادتهم ولكن اتبعوهم في ما وضعوا من الأحكام من عند أنفسهم وأتوا بالعبادة المستندة إليها، وتلك العبادة عبادة لهم من حيث لا يعلمون، وما تضمنه هذا الحديث ونظيره من أن الطاعة لأهل المعاصي عبادة لهم جار على الحقيقة دون التجوز لأن العبادة ليست إلا الطاعة والانقياد (1)، ولذلك جعل الله تعالى الهوى إلها لمن أطاعه فقال: * (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه) *، وإذا كان إطاعة الغير عبادة له كان أكثر الناس يعبدون غيره تعالى لأنهم يطيعون النفس الأمارة والقوى الشهوية والغضبية، وهي الأصنام التي هم عليها عاكفون، والأنداد التي هم لها عابدون، وهذا هو الشرك الخفي، فنسأل الله تعالى أن يعصمنا عنه ويطهر نفوسنا منه.


1 - وبناء على ما ذكره الشارح يكون إطاعة الأئمة (عليهم السلام) والنبي (صلى الله عليه وآله) عبادة وإطاعتهم واجبة، وكذلك إطاعة الوالدين واجبة وعبادتهما محرمة. فإن قيل: إطاعة الوالدين في الحقيقة إطاعة الله تعالى، لأنه تعالى أمر بإطاعتهما. قلنا: نفرض الكلام فيمن لا يعترف بحكم الله تعالى، بل نفرض الكلام في إطاعة الظالمين، فإنا لا نحكم بأن من أطاعهم مشرك، فالحق أن العبادة شئ غير الاطاعة والانقياد، والآية الكريمة والحديث وردا على المبالغة في الذم مثل قوله (عليه السلام): " المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه "، إذ ليس المراد أن المؤذي كافر، والعبادة هي الخضوع عند من يعتقد تأثيره في الخلق والرزق وأمثال ذلك. (ش) (*)

[ 233 ]

باب البدع والرأي والقياس باب البدع والرأي والقياس * الأصل: 1 - الحسين بن محمد الأشعري، عن معلى بن محمد، عن الحسن بن علي الوشاء، وعدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال جميعا، عن عاصم بن حميد، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: خطب أمير المؤمنين (عليه السلام) الناس فقال: " أيها الناس، إنما بدء وقوع الفتن أهواء تتبع وأحكام تبتدع، يخالف فيها كتاب الله، يتولى فيها رجال رجالا، فلو أن الباطل خلص لم يخف على ذي حجى، ولو أن الحق خلص لم يكن اختلاف، ولكن يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث فيمزجان فيجيئان معا، فهنالك استحوذ الشيطان على أوليائه، ونجي الذين سبقت لهم من الله الحسنى ". * الشرح: (الحسين بن محمد الأشعري، عن معلى بن محمد، عن الحسن بن علي الوشاء، وعدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال جميعا، عن عاصم بن حميد، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: خطب أمير المؤمنين (عليه السلام) الناس فقال: أيها الناس، إنما بدء وقوع الفتن أهواء تتبع وأحكام تبتدع) البدء بفتح الباء وسكون الدال والهمزة أخيرا بمعنى الأول، يقال: ضربته بدءا، أي أولا، وبمعنى الابتداء يقال: بدأت بالشئ بدءا، أي ابتدأت به ابتداء، وبمعنى الإنشاء يقال: بدأت الشئ بدءا أي أنشأته إنشاء، ومنه بدأ الله الخلق أي أنشأهم، وضبطه بعض الأصحاب بضم الباء وضم الدال وشد الواو بمعنى الظهور مصدر بدا يبدو، إذا ظهر، والفتنة والامتحان والاختبار تقول: فتنت الذهب إذا أدخلته النار لتنظر ما جودته، وقد كثر استعمالها فيما يقع به الاختبار كما في قوله تعالى: * (إنما أموالكم وأولادكم فتنة) *، ثم كثر حتى استعمل بمعنى الإثم والكفر والقتال والاحراق والإزالة والصرف عن الشئ، كذا في النهاية. والأهواء جمع الهوى بالقصر مصدر هويه بالكسر، إذا أحبه واشتهاه، ثم سمي به المهوي المشتهى، ممدوحا كان أو مذموما، ثم غلب على المذموم، والبدعة اسم من ابتدع الأمر إذا ابتدأه وأحدثه كالرفعة من الارتفاع والخلفة من الاختلاف، ثم غلبت على ما هو زيادة في الدين أو نقصان فيه. (يخالف فيها كتاب الله) أي يخالف في متابعة تلك الأهواء المذمومة والأحكام المبتدعة أو بسببها


[ 234 ]

كتاب الله، وذلك لأن المقصود من بعثة الرسل ووضع الشرائع وإنزال الكتب إنما هو نظام الخلق في أمر معاشهم ومعادهم وهدايتهم إلى صراط الحق، فكان كل رأي مبتدع أو هوى متبع خارجا عن كتاب الله وسنة رسوله وسببا لوقوع الفتنة والضلالة في الخلق وتبدد نظام وجودهم في هذا العالم وفي عالم الآخرة وذلك كأهواء البغاة وآراء الخوارج والغلاة وأضرابهم. (يتولى فيها رجال رجالا) أي يتخذ طائفة من المائلين إلى تلك الأهواء والأحكام طائفة اخرى منهم أولياء ونواصر في تربيتها وتقوية تلك الأحكام التي ابتدعها ضال في الشريعة على خلاف الكتاب والسنة، ثم أشار إلى أن أسباب تلك الأهواء الفاسدة امتزاج المقدمات الحقة بالمقدمات الباطلة وأن مدارها عليه، وبين أن السبب هو ذلك الامتزاج بشرطيتين متصلتين إحداهما قوله: (فلو أن الباطل خلص لم يخف على ذي حجى) الحجى بكسر الحاء المهملة وفتح الجيم والقصر العقل أي فلو أن الباطل خلص من مزاج الحق وتخليطه لم يخف الباطل على ذي عقل طالب للحق والتميز بينه وبين الباطل، كما لا يخفى التميز بين الرصاص الصرف والفضة الخالصة على أهل البصائر. أما وجه الملازمة فهو ظاهر، فإن مقدمات الشبهة إذا كانت كلها باطلة لا يشوبها شئ من الحق أدرك العاقل الطالب للحق وجه فسادها بأدنى تأمل، ولم يخف عليه وجه بطلانها، ومن ثم قال المحقق الطوسي (رحمه الله): قد علم بالاستقراء أن مذاهب أهل الباطل كلها نشأت من مذاهب أهل الحق، إذ الباطل الصرف لا أصل له ولا حقيقة ولا يعتقده العاقل إلا إذا اقترن بشبه، وأما استثناء نقيض تاليها فلأنه لما خفي وجه البطلان على طالب الحق لم يكن الباطل خالصا من مزاج الحق فكان ذلك سبب الغلط واتباع الباطل، لأن النتيجة تابعة لأخس المقدمتين والشرطية الثانية قوله: (ولو أن الحق خلص لم يكن اختلاف) أي ولو أن الحق خلص من مزاج الباطل لم يكن اختلاف بين ذوي العقول الطالبين للحق كما لا يقع اختلاف في قبول الفضة الخالصة ورواجها، أما وجه الملازمة فهو ظاهر أيضا، لأن مقدمات الدليل الذي استعمله المبطلون لو كان كلها حقا وكان ترتيبها حقا كان اللازم حقا ينقطع العناد فيه والمخالفة له فلم يقع الاختلاف بينهم. وأما استثناء نقيض تاليها فلأنه لما وقع الاختلاف لم يكن الحق خالصا من مزاج الباطل، ثم أشار إلى ما هو في حكم نتيجة هذين القياسين بقوله: (ولكن يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث فيمزجان فيجيئان معا) في المغرب: الضغث: مل ء الكف من الشجر أو الحشيش أو الشماريخ، وفي التنزيل: * (خذ بيدك ضغثا) *، قيل: إنه كان حزمة من الأسل وهو نبات له أغصان دقاق لا ورق لها، وفي الصحاح: الضغث قبضة حشيش مختلطة الرطب باليابس، ولفظ الضغث مستعار ومقصوده التصريح بلزوم الآراء الفاسدة والأهواء الباطلة


[ 235 ]

لمزج الحق بالباطل وخلط قول الأنبياء بقول الأشقياء ونسج النور بالظلمة، ولذلك قال: (فهنالك استحوذ الشيطان على أوليائه) استحوذ جاء على الأصل من غير إعلال وخرج عن حكم أخواته نحو استقال واستقام، أي ففي مقام اشتباه الحق بالباطل غلب الشيطان على أحبائه واستولى على أوليائه المستعدين لقبول وساوسه والقابلين لاتباع هواجسه بسبب تزيينه لهم الأهواء والأحكام الخارجة عن الكتاب والسنة، وإغوائه إياهم عن تميز الحق من الباطل فيما سلكوه من الشبهة اولئك سيجدون قبائح أعمالهم وعقائدهم وهم عليها واردون واولئك أصحاب النار هم فيها خالدون. وأما العارفون بالله بعين الحقيقة والسالكون إليه بنور البصيرة، وهم التابعون للأئمة (عليهم السلام)، والراجعون إليهم في حل الشبهات فلا سبيل له عليهم كما أشار إليه بقوله: (ونجي الذين سبقت لهم من الله الحسنى) في مشيته وقضائه الأزلي وهم الذين أخذت العنايات الإلهية بأيديهم في ظلمة الشبهات وقادتهم التوفيقات الربانية إلى الأئمة الهداة للاستعلام عن حل المشكلات فاهتدوا بنور هدايتهم إلى تميز الحق من الباطل وتفريق الصحيح من السقيم اولئك هم عن النار مبعدون واولئك هم في الجنة خالدون، واعلم أن قصده (عليه السلام) من هذه الخطبة هو الشكاية عن الخلق بتركهم الإمام الهادي الفارق بين الحق والباطل بحيث لا يقع الاشتباه بينهما كما لا يقع الاشتباه بين ضوء النهار وظلمة الليل وتمسكهم بعقولهم الناقصة وآرائهم الفاسدة فصار ذلك سببا لانحرافهم عن القوانين الشرعية لسوء فهمهم وعدم وقوفهم على مقاصدها وضموا إليها متخيلات أوهامهم ومخترعات أفهامهم وحملوها على غير وجوهها كالمجسمة حين سمعوا مثل قوله تعالى: * (الرحمن على العرش استوى) * حملوه على أنه تعالى جسم كالأجسام، وكالغلاة حين رأوا منه (عليه السلام) ما يدل على كرامته وولايته ضموا إليه شبهات نفوسهم واعتقدوا أنه رب، وكأهل النهروان حين رأوا ما وقع من التحكيم ضموا إليه مفتريات أذهانهم وظنوا أنه كاذب في دعوى الإمامة واستحقاق الخلافة وكذلك غير هؤلاء من أصحاب الملل الفاسدة، فصاروا بتلك العقائد من أولياء الشيطان وأعوانه في إضلال الناس ولو كانوا يرجعون إليه (عليه السلام) لخلصهم من تلك الشبهات ونجاهم من هذه الهلكات، والله ولي التوفيق، وإليه هداية الطريق. * الأصل: 2 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن محمد بن جمهور العمي يرفعه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " إذا ظهرت البدع في امتي فليظهر العالم علمه فمن لم يفعل فعليه لعنة الله ".


[ 236 ]

* الشرح: (الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن محمد بن جمهور العمي (1) يرفعه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إذا ظهرت البدع في امتي) سواء كانت البدع متعلقة بالعقائد كتجسيم الواجب وتصويره كما ذهب إليه المصورة والمجسمة وكالقول بحشر الأرواح دون الأجساد كما ذهب إليه طائفة من المبتدعة أو متعلقة بزيادة الأعمال ونقصانها كإثبات صلاة الضحى وتحريم المتعة كما ذهب إليه طائفة من الفرق الضالة والمضلة أو متعلقة بغيرها من الامور المنافية لما ثبت في الشريعة. والمراد بالامة الامة المجيبة إما كلهم كما هو الظاهر، أو الأعم من الكل، والبعض على احتمال: (فليظهر العالم علمه) مع الإمكان وعدم الخوف والتقية، لأن الله تعالى شرفه بفضيلة العلم وكرمه بشرف الرئاسة وجعله ناصرا لدينه وحاكما على عباده، فوجب عليه أن يحفظ قوانين الدين من الزيادة والنقصان، وأن ينظر إلى أحوال المكلفين ويحملهم على الاعتدال إن تجاوزوا عن حده، وحاله كحال الطبيب المشفق في حفظ صحة الأبدان ودفع الأمراض الموجبة لزوالها وفساد مزاج الأعضاء. (فمن لم يفعل فعليه لعنة الله) اللعن الطرد والإبعاد من الخير واللعنة اسم منه، وفيه تحذير عظيم للعالم المعرض عن إجراء حكم الله تعالى وإصلاح حال الخلق بقدر الإمكان فكيف إذا أعرض عن إصلاح حال نفسه ؟ ولا يبعد إدراج الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مطلقا فيه. * الأصل: 3 - وبهذا الإسناد، عن محمد بن جمهور رفعه قال: " من أتى ذا بدعة فعظمه فإنما يسعى في


1 - قالوا: إن محمد بن جمهور ضعيف الحديث، فاسد المذهب، لا يكتب حديثه. وقال ابن الغضائري: رأيت له شعرا يحلل فيه ما حرم الله، ومع ذلك روى الحديث مرسلا. والاعتماد كما قلنا مرارا في أمثاله على صحة المتن، فإنه موافق للقرآن ووجوب الإظهار على العالم يدل على وجوب القبول من الناس، فإنت كان البدعة مما يتعلق بالعقائد والاصول وجب على العالم إظهاره بالبراهين وتعليم الناس، وواجب عليهم الاستماع والتدبر حتى يفهموا دليله وقوله، وإن كانت مما يتعلق بالفروع وجب عليهم القبول بالتقليد. فإن قيل: هل يشمل ذلك العدول من مجتهد إلى مجتهد آخر ؟ قلنا: الفروع غالبا ظنية، فإذا أخطأ المجتهد في فتواه لا يصدق عليه البدعة، وإذا خالفه المجتهد الآخر حصل له الظن بخطأ المجتهد الأول دون العلم، وظنهما بالنسبة إلى الواقع متساويان فلا يجوز العدول من تقليد مجتهد إلى مجتهد آخر إذا أفتى بخطأ المجتهد الأول. نعم إذا علم المقلد بطلان الأول يقينا وهو فرض غير واقع وجب العدول عنه، ولا يكفي في ذلك علم المجتهد الثاني بخطأ الأول يقينا، لأن علم المجتهد بالنسبة إلى العامي ظن. (ش) (*)

[ 237 ]

هدم الإسلام ". * الشرح: (وبهذا الإسناد، عن محمد بن جمهور رفعه قال: من أتى ذا بدعة) الظاهر أن القائل رسول الله (صلى الله عليه وآله). (فعظمه) بسبب بدعته أو غيرها من غير خوف وتقية. (فإنما يسعى في هدم الإسلام) لأن صاحب البدعة في العقائد والأعمال مشغول بهدم بناء الإسلام، فمن أتاه وعظمه فقد أحبه ونصره وأعانه على عمله، فهو أيضا يسعى في هدمه ويشركه فيه، ولهذه العلة قال الله تعالى: * (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار) *، وفيه استعارة مكنية وتخييلية. * الأصل: 4 - وبهذا الإسناد، عن محمد بن جمهور رفعه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " أبى الله لصاحب البدعة بالتوبة "، قيل: يا رسول الله، وكيف ذلك ؟ قال: " إنه قد اشرب قلبه حبها ". * الشرح: (وبهذا الإسناد، عن محمد بن جمهور رفعه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أبي الله لصاحب البدعة بالتوبة) أي امتنع أن يأتي بالتوبة ولا يوفقه للندامة والرجوع عن بدعته. (قيل: يا رسول الله، وكيف ذلك ؟) مع أن باب التوبة واسع مفتوح. (قال: إنه قد اشرب قلبه حبها (1) ضمير إنه إما للشأن أو لصاحب البدعة، واشرب على البناء للمفعول، وقلبه قائم مقام الفاعل، وحبها بالنصب على المفعول يقال: اشرب الثوب صبغا إذا شربه قليلا قليلا حتى خالطه ودخل في أعماقه جميعا واستقر فيها كما يدخل الشراب أعماق البدن، ومنه قوله تعالى: * (واشربوا في قلوبهم العجل) * أي حب العجل وعبادته، فحذف المضاف واقيم المضاف إليه مقامه، والمقصود أنه لما دخل حب البدعة في أعماق قلبه وتداخل شراب محبتها في جميع أجزائه صار قلبه مريضا بأمراض مهلكة بل ميتا لا يدرك قبح عمله وفساده فلا يندم عنه أبدا، فلا رجاء لحياته بروح التوبة والندامة ولذلك لا يرجع إلى الحق من أصحاب الملل الفاسدة والجهل المركب إلا قليل ممن أخذ بيده التوفيق وهداه إلى سواء الطريق، وأما من كان قلبه صحيحا


1 - ظاهر كلام الشارح أن هذا لا يتوب لا أنه يتوب ولا يقبل توبته وإن أظهر كلاما يدل على رجوعه إلى الله والتوبة من عمله فهو كلام يلهج به من غير قصد معناه، ولا يعبأ به والعمدة قصد التوبة دون النطق باللفظ والتوبة تطهير القلب عن دنس السيئات ولا تحصل باللفظ مع ممازجة حب البدعة قلبه. (ش) (*)

[ 238 ]

في باب العقائد ووقع في معصية في باب الأعمال والأفعال لطغيان النفس والقوة الشهوية والغضبية مع العلم والاعتقاد بأنها معصية فكثيرا ما يستولي عليه سلطان القلب الصحيح ويزجره عن القبائح فيتوب إلى الله تعالى ويرجع عن الأعمال القبيحة. * الأصل: 5 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن معاوية بن وهب، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " إن عند كل بدعة تكون من بعدي يكاد بها الإيمان وليا من أهل بيتي موكلا به يذب عنه، ينطق بإلهام من الله ويعلن الحق وينوره ويرد كيد الكائدين يعبر عن الضعفاء فاعتبروا يا اولي الأبصار وتوكلوا على الله ". * الشرح: (محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن معاوية بن وهب، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن كل بدعة) أي زيادة أو نقصان في الدين. (تكون من بعدي يكاد بها الإيمان) أن يمكر ويخدع أو يحارب بها الإيمان وأهله لكسره وإطفاء نوره، والجملتان وصف للبدعة، أو الثانية حال عن المستكن العائد إليها. (وليا) أي ناصرا للإيمان. (من أهل بيتي) هذا اسم إن قدم عليه خبره للظرفية. (موكلا به) أي بالإيمان بأمر الله لحفظه ونصرته، وهذا صفة بعد صفة لقوله وليا. (يذب عنه) أي يدفع عن الإيمان شبه المارقين ويدفع عنه مكر الماكرين، وهذا حال عن المستتر في قوله " موكلا ". (ينطق بإلهام من الله) لاستعداد نفسه القدسية بالتوفيق الإلهي وطول صحبة المعلم الرباني وتعلم القوانين الشرعية كلها وكيفية انشعابها وتفصيلها وحقائق أسبابها منه لأن تنتقش فيها الصور الجزئية المتعلقة بكل شخص وكل قضية وكل مادة من مفيض الخيرات، ويحتمل أن يراد بالإلهام إلقاء علم مستحدث في قلبه اللطيف (1) لأنه (عليه السلام) محدث كما سيجئ، وهذه الجملة حال


1 - الفرق بين الاحتمالين: أن الأول حاصل بالأسباب كحصول النتيجة من تركيب المقدمات، والثاني حاصل من غير حصول أسباب ظاهرية، والحق عدم تصور محصل لهذا الكلام، إذ لا يوجد شئ بغير سبب واستعداد، سواء في ذلك العلم وغيره، فأما أن يكون بأسباب ظاهرية كالتعلم من معلم وقراءة كتب وقوة حدس وكسب صناعة التحليل حتى يرجع الفروع إلى الاصول والجزئيات إلى الكليات، وهذا لا يليق بشأن الأئمة (عليهم السلام) وأما أن يكون بأسباب غير ظاهرية كالقوة القدسية وإلقاء العلم من المبدأ والملائكة من غير تعليم من بشر فهذا هو اللائق بهم ولا يحتمل غيره في حقهم، ولا وجه لإبداع = (*)

[ 239 ]

المستكن في يذب، ويحتمل أن يكون حالا عن المستكن في قوله: " موكلا " موافقا للسابق، والأول أظهر لفظا وأقرب معنى. (ويعلن الحق) أي يظهره بين الخلائق بالأدلة القاطعة والبراهين الساطعة بحيث تنقطع عنه ألسنة الجاحدين وهذا إن كان حالا عن المستكن في ينطق فأمر الواو ظاهر وإن كان حالا عن المستكن في يذب أو موكلا فالوجه لترك الواو في السابق وإتيانها هنا أن السابق لقربه من ذي الحال لا يحتاج إلى زيادة رابطة بخلاف هذا أو أنها للعطف على الحال السابق. (وينوره) بأنوار العلوم الدينية التي تبتني عليها العقائد الصحيحة والأعمال الفاضلة الدنيوية والدينية وما يتم به نظام الخلق من قوانين السياسات المنزلية والمدنية بحيث ينظر إليه كل من له بصيرة سليمة من الجهالات، ويشاهده كل من له عين صحيحة من الآفات. (ويرد كيد الكائدين) أي يرد مكرهم عن أن يتطرق إلى ساحته بسيف اللسان، ويجيب عن شبهتهم بأبلغ الكلام وأفصح البيان. (يعبر عن الضعفاء) أي يتكلم عن جانب الضعفاء العاجزين عن دفع المكائد والشبهات، ويدفعها عنهم لطلاقة لسانه وفصاحة بيانه وكثرة علومه وإضاءة برهانه، تقول: عبرت عن فلان إذا تكلمت عنه، وهذه الجملة إما حال عن فاعل " يرد " أو كلام مستأنف للتنبيه على أن ذلك الولي لسان الضعفاء وناصرهم يدفع عنهم ما يعجزون عن دفعه لقصور حالهم وضعف مقالهم وحمل " يعبر " على أنه ابتداء كلام من الصادق (عليه السلام) بمعنى أنه (صلى الله عليه وآله) يعبر بذلك القول عن الضعفاء الذين ظلموا واستضعفوا في الأرض بعيد جدا. (فاعتبروا يا اولي الأبصار) من تتمة حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) أو من كلام الصادق (عليه السلام) يعني فاعتبروا فيما ينبغي لكم أن تعتبروه من حال هذا الولي الحافظ لدين الله الداعي لكم إلى ساحة الحق وقرب جلاله وما عنده من النعيم المقيم وحال الكائدين المخربين لدينه الداعين إلى البعد عنه والدخول في عذاب الجحيم ليظهر لكم كمال فضله وعلو قدره وتأخذوا بقوله وتتركوا قولهم، أو المراد فاعتبروا بأحوال الماضين من قبلكم كيف أخذهم الله بغتة وأهلكهم دفعة وعذبهم فجأة لعدم متابعتهم من كان يهديهم إلى دين الحق ليصير ذلك سببا لهدايتكم إلى الحق والأخذ بقول من يهديكم إليه، ولما كانت الهداية الحاصلة من الاعتبار حاصلة بتوفيق الله تعالى وعنايته أمر بالتوكل عليه فقال: (وتوكلوا على الله) في طلب الدين وتحصيل اليقين ليهديكم إليه وينور قلوبكم من لديه، فإن


= الاحتمالين من الشارح. (ش) (*)

[ 240 ]

من توكل على الله في أمر من الامور فهو حسبه وهو ولي التوفيق ومنه هداية الطريق، وفيه دلالة على أن الأرض لا تخلو من ولي عالم وإمام عادل لحفظ الدين وهداية الخلق. والروايات الدالة عليه من طرقنا وطرق العامة أكثر من أن تحصى، أما من طرقنا فمن نظر في هذا الكتاب وغيره علم أنها متجاوزة عن حد التواتر قطعا، وأما من طرق العامة فقد نقل مسلم في كتابه اثني عشر حديثا كلها صريح الدلالة على هذا المطلب منها ما رواه عنه (صلى الله عليه وآله) قال: " لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي من الناس اثنان " (1). وهذا نظير ما يجئ في هذا الكتاب (2) عن يونس بن يعقوب عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: " لو لم يكن في الأرض إلا اثنان لكان الإمام أحدهما "، ومنها ما رواه عن جابر بن سمرة قال: دخلت مع أبي على النبي (صلى الله عليه وآله) فسمعته يقول: " هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي فيه اثنا عشر خليفة "، قال: ثم تكلم بكلام خفي علي، قال: قلت لأبي: ما قال ؟ قال: قال: " كلهم من قريش "، وهذا نظير ما يجئ في هذا الكتاب عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: " من ولدي اثنا عشر نقيبا نجباء محدثون مفهمون آخرهم القائم بالحق يملأها عدلا كما ملئت جورا " (3)، والبواقي نذكرها في موضع آخر إن شاء الله تعالى. وقد يستدل بهذا الحديث وأمثاله - وهي كثيرة بعضها مذكور في هذا الكتاب، وبعضها في كتاب العلل، وبعضها في كتاب كمال الدين، وبعضها في كتاب الخصال، وبعضها في غير هذه الكتب - على أن إجماع العلماء حجة لكشفه عن دخول المعصوم (4)، وإلا لزم خلاف ما نطق به الرسول (صلى الله عليه وآله) لعدم


1 - راجع صحيح مسلم ج 7، كتاب الامارة، وهذا الخبر فيه تحت رقم 4. 2 - كتاب الحجة - باب أن الحجة لا تقوم لله على خلقه إلا بالإمام. 3 - يأتي في باب ما جاء في الاثني عشر والنص عليهم (عليهم السلام). 4 - تعبير حسن جدا، ولا استحسن تقسيم من تأخر وتعبيرهم في الإجماع فإنهم يقسمون الإجماع إلى الدخولي واللطفي والحدسي، والحق أنه ليس لنا إجماع إلا الإجماع الدخولي، إذ لا حجية في أقوال العلماء إلا عند العلم بدخول قول المعصوم في أقوالهم وطريق العلم بدخول المعصوم قد يكون قاعدة اللطف، وقد يكون الحدس وليس الدخول قسيما لهما واللطف مفاد هذه الروايات التي ادعى الشارح تواترها معنى، فإنا إذا علمنا اتفاق العلماء على قول ولم يظهر من أحد خلاف دل بمقتضى هذه الروايات أنه حق، إذ لو كان باطلا لا يرضى به المعصوم لوجب عليه بيان ذلك بوجه، ومعنى الحدس: أنا إذا رأينا اتفاق من يعبأ بقوله من الفقهاء على شئ وتحقق لدينا أن من لم نرهم ولم ينقل إلينا أقوالهم لا يخالف قولهم قول من عرفناهم، إذ العادة قاضية بأنه لو كان خلاف لنقل إلينا، فقد علمنا بالإجمال اتفاق من لم نعرفهم أيضا مثل أنا نعلم إجماع النحويين على أن الفاعل مرفوع مع أنا لم نر أكثر من عشرين كتابا في النحو إلا أنا نعلم أنه لو كان مخالف فيمن لم نعرفهم لظهر قوله فيمن نعرفهم ونعلم أن النصارى مجمعون على تعظيم يوم الأحد مع أنا لم نر إلا قليلا منهم لكن نعلم أنه لو كان بينهم مخالف لتبين بين من نعرفهم = (*)

[ 241 ]

رد البدعة وعدم إعلان الحق وأنه باطل وأن الإجماع السكوتي حجة لما عرفت، وأن القول الثالث في المسألة بعد استقرار القولين فيها باطل لدخول قول المعصوم في أحدهما وإلا لزم خلاف ما نطق به الحديث النبوي وأن العلماء الظاهرين في كل عصر إذا اتفقوا على أمر فهو إجماع وحجة ولا يقدح في ذلك احتمال وجود عالم في مكمن الخفاء لما مر بعينه وأن انعقاد الإجماع على خلاف ما انعقد عليه إجماع أولا باطل وإلا لزم أن يكون قول المعصوم خطأ وأن الإجماع على العقائد الدينية حق كالإجماع على الفروع الشرعية إلا ما يتوقف العلم به على العلم بوجوب وجود الإمام لئلا يدور. * الأصل: 6 - محمد بن يحيى، عن بعض أصحابه، وعلي بن إبراهيم [ عن أبيه ]، عن هارون بن مسلم، عن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) وعلي بن إبراهيم، عن ابن محبوب رفعه، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: " إن من أبغض الخلق إلى الله عز وجل لرجلين: رجل وكله الله إلى نفسه فهو جائر عن قصد السبيل مشغوف بكلام بدعة، قد لهج بالصوم والصلاة فهو فتنة لمن افتتن به ضال عن هدي من كان قبله، مضل لمن اقتدى به في حياته وبعد موته، حمال خطايا غيره، رهن بخطيئته، ورجل قمش جهلا في جهال الناس، عان بأغباش الفتنة، قد سماه أشباه الناس عالما، ولم يغن فيه يوما سالما، بكر فاستكثر، ما قل منه خير مما كثر حتى ارتوى من آجن واكتنز من غير طائل، جلس بين الناس قاضيا ضامنا لتخليص ما التبس على غيره وإن خالف قاضيا سبقه لم يأمن أن ينقض حكمه من يأتي بعده كفعله بمن كان قبله، وإن نزلت به إحدى المبهمات المعضلات هيأ لها حشوا من رأيه ثم قطع به، فهو من لبس الشبهات في مثل غزل العنكبوت لا يدري أصاب أم أخطأ، لا يحسب العلم في شئ مما أنكر، ولا يرى أن وراء ما بلغ فيه مذهبا، إن قاس شيئا بشئ لم يكذب نظره وإن أظلم عليه أمر اكتتم به لما يعلم من جهل نفسه، لكيلا يقال له: لا يعلم، ثم جسر فقضى، فهو مفتاح عشوات، ركاب شبهات، خباط جهالات، لا يعتذر مما لا يعلم فيسلم، ولا يعض في العلم بضرس قاطع فيغنم، يذري


= وأمثال ذلك كثيرة ويذهب أوهام كثير من الناس إلى أن العلم الإجمالي لا يحصل إلا باستقراء الأفراد تفصيلا واستشكلوا على القياس من الشكل الأول البديهي الانتاج بأنه يستلزم الدور مثلا العلم بأن كل متغير حادث متوقف على تتبع كل متغير، ومنه العالم، فالعلم بأن العالم حادث يتوقف على العلم بأن العالم حادث، والجواب أن العلم الإجمالي لا يتوقف على العلم بالتفاصيل، وكذا العلم باتفاق العلماء إجمالا لا يتوقف على معرفتهم تفصيلا والاطلاع على أقوالهم واحدا واحدا، وقد سبقنا إلى بعض ما ذكرنا في الإجماع السيد محمد باقر الطباطبائي من تلامذة الشيخ المحقق الأنصاري (قدس سرهما) في شرحه الموسوم بوسيلة الوسائل. (ش) (*)

[ 242 ]

الروايات ذرو الريح الهشيم، تبكي منه المواريث وتصرخ منه الدماء، ويستحل بقضائه الفرج الحرام ويحرم بقضائه الحلال لا ملئ بإصدار ما عليه ورد، ولا هو أهل لما منه فرط من ادعائه علم الحق ". * الشرح: (محمد بن يحيى، عن بعض أصحابه، وعلي بن إبراهيم [ عن أبيه ]، عن هارون بن مسلم) كوفي ثقة، وقال الشيخ: إنه عامي. وفي الفهرست له كتاب. (عن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) وعلي بن إبراهيم، عن ابن محبوب رفعه، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: إن من أبغض الخلق إلى الله عز وجل) البغض المقت، وقيل: هو نفار النفس عن الشئ الذي ترغب عنه، ضد الحب، وإذا نسب إلى الله سبحانه يراد به لازمه، أعني سلب فيضه وإحسانه وتوفيقه للهداية عنه. (لرجلين) جامعين بين شئ من الحق والباطل، متمسكين بذيل الشبهات والجهالات لظنهما أنهما من علوم الدين ومعارف اليقين فاشتغل أحدهما بالعبادة (1) والزهادة وإرشاد الناس فضل وأضل، واشتغل الآخر بالحكومة والقضاء، فتبكي منه الأحكام والمواريث، وتصرخ منه الدماء، وإنما كانا من أبغض الناس، لأن شرورها لكونها متعلقة بالدين وتحريف القوانين الشرعية باقية في الأعقاب متعدية إلى الآخرين كما ترى ما حدث بعد نبينا (صلى الله عليه وآله) من المذاهب الفاسدة كمذهب أبي حنيفة ومذهب الشافعي ومذهب الحنبلي ومذهب المالكي وسائر المذاهب المبتدعة، فإنها باقية إلى الآن وتبقى إلى قيام صاحب الزمان، ولكل واحد منها أتباع كثيرة. (رجل وكله الله إلى نفسه) أي صرف أمره إليه وخلاه مع نفسه وجعل توكله واعتماده عليها، وذلك لظنه أن نفسه قادرة بالاستقلال على تحصيل المراد والوفاء به بالرأي والمقاييس والمفتريات التي لا أصل لها، والروايات التي لم تؤخذ من مأخذها من غير اتباع أهل الحق والرجوع إليهم والأخذ منهم، فلا جرم أفاض الله تعالى عليه صورة الاعتماد على نفسه والوكول إليها والاتكال عليها فيما يريده من امور الدين، وهذا هو المراد من قوله تعالى: * (ومن يضلل الله فما له من هاد) *.


1 - والناس يرون العبادة والزهادة الظاهرية، أعني علائمهما، فينقادون للمتظاهرين، ولا يرون العلم والتقوى بأبصارهم ولذلك يتشبث الدجالون الطالبون لحطام الدنيا بالتظاهر بالورع، فإذا انقاد لهم الناس تدخلوا في الدين فيما لا يجوز إلا للعلماء وجاء الضلال من هذه الجهة إذ الجاهل يفسد الدين من حيث لا يشعر. وطائفة اخرى تتشبث بحيلة اخرى حتى ينقاد لهم الناس لاحتياجهم لا لرغبتهم كالطائفة الاولى وهم المتصدون للحكومة والقضاء. (ش) (*)

[ 243 ]

وأما من اعترف بعجزه وفوض أمره إلى الله وأقر بالتقديم لأهل الحق والرجوع إليهم فقدا نقطع إلى الله وتوكل عليه فكفاه الله مؤونة الدنيا والدين وهو حسبه وكافيه ومحبه ومراعيه. (فهو جائر عن قصد السبيل) أي فهو مائل عن سبيل الحق والصراط المستقيم، إذ هو في الإفراط من فضيلة العدل وهذا نتيجة للسابق لأنه لازم للوكول من الأدعية: " رب لا تكلني إلى نفسي طرفة عين فإنك إن تكلني إلى نفسي تقربني من الشر وتباعدني من الخير "، وسر ذلك أن النفس داعية إلى الزور ومائلة إلى الشرور، فإذا سلبت عنها أسباب التوفيق والهداية تاهت في طريق الضلالة والغواية. (مشغوف بكلام بدعة) بالغين المعجمة، إذا بلغ حب هذا الكلام إلى شغاف قلبه، وهو الغلافة أعني الجلدة التي دون الحجاب. وقيل: دخل تحت الشغاف، وقيل: شق شغافة قلبه ودخله حتى وصل إلى فؤاده، وبالعين المهملة إذا بلغ حبه إلى شعفة قلبه، أعنى معلق النياط وهو عرق علق به القلب إذا انقطع مات صاحبه، ويقال أيضا: شعفه الحب فهو مشعوف به إذا اشتد وغشى قلبه حتى أحرقه وقرئ بالوجهين، قوله تعالى: * (قد شغفها حبا) *، والمقصود أن ذلك الرجل مسرور معجب بما يخطر له ويبتدعه من الكلام الذي لا أصل له في الدين ويدعو به الناس إلى الجور عن القصد، وهذا الوصف لازم له عما قبله فإن من جار عن قصد السبيل بجهله فهو يعتقد أنه على سواء السبيل فكان ما يتخيله من الكمال الذي هو نقصان في الحقيقة مستلزما لمحبته قول الباطل وابتداع المحال ودعاء الناس إليه. (قد لهج بالصوم والصلاة) لهج من باب علم أي تكلم بهما، وأولع بالتكلم والعمل بهما وواظب بهما من غير أن يكون له علم بحقيقتهما وحدودهما وشرائطهما وكذلك حاله في سائر الأحكام والأعمال وإنما يفعل ذلك ليقال: إنه عالم زاهد أو لأنه لما لم يكن لسعيه أثر من الثواب لا زاجر له عنه من الشيطان وهذا لازم لما قبله لأن إعجابه بالكلام المبتدع وحبه له بعثه على اللهج بهذه الأحكام من غير علم. (فهو فتنة لمن افتتن به) أي فهو مضل لمن اقتدى به لإخراجه عن قصد السبيل، وهذا لازم لما قبله، لأن محبة قول الباطل والتكلم به واللهج بالصوم والصلاة من غير علم سبب لكونه فتنة لمن تبعه، لأنه بذلك يسود قلب السامع ويصيره كالأعمى المنقاد لدعوته والمنساق تحت رايته. (ضال عن هدي من كان قبله) الظاهر أن الهدى هذا بفتح الهاء أوكسرها وسكون الدال بمعنى السيرة والطريقة أي ضال عن سيرة أئمة الدين وطريقة أصحاب اليقين الذين أخذوا المعارف


[ 244 ]

الحقيقية والعلوم الدينية بإلهام إلهي وطريق نبوي وذلك لاغتراره بنفسه وإعجابه بجهالته واستغنائه بما اخترعه فهمه وما ابتدعه وهمه عن الرجوع إليهم والعكوف عليهم فلذلك ضل عن سيرتهم وبعد عن طريقتهم ويحتمل أن يكون بضم الهاء وفتح الدال. وهذا الوصف قريب من الوصف الثاني، فإن الضال عن الهدى جائر عن قصد السبيل إلا أن هاهنا زيادة إذ الجائر عن القصد قد يجوز ويضل حيث لا هدى يتبعه والموصوف هنا جائر وضال مع وجود هدى قبله وهو مأمور باتباعه، أعني طريقة النبي والأئمة (عليهم السلام) أو كتاب الله وسنة رسوله والأعلام الحاملين لدينه وذلك أبلغ في لائمته وآكد في وجوب عقوبته. (مضل لمن اقتدى به في حياته وبعد موته) من المستعدين للضلالة المتصفين بالسفاهة والجهالة، وهذا الوصف مسبب عما قبله، إذ ضلال الإنسان في نفسه سبب لإضلال غيره ممن اتبعه، وقريب من الخامس فإن كونه فتنة لمن افتتن به هو كونه مضلا لمن اقتدى به كما أشرنا إليه إلا أن هاهنا زيادة، وهو التصريح بكون ذلك الاضلال في حياته وبعد موته لبقاء البدعة والعقائد الفاسدة الناشئة منه فهي سبب لضلال المستعدين للجور بعده. (حمال خطايا غيره) جاء بصيغة المبالغة والتكثير للدلالة على أنه كثيرا ما يحمل خطايا غيره لكثرة التابعين له، وهذا الحمل وإن كان حاصلا في الدنيا أيضا إلا أن ظهوره وانكشافه في الآخرة لأن فيها تحد البصائر وتبدو السرائر وهذا الوصف مسبب عما قبله، فإن حمله أوزار من يضله إنما هو لسبب إضلاله وإليه أشار سبحانه بقوله: * (ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم) *، وأشار الباقر (عليه السلام) بقوله: " من علم باب ضلالة كان عليه مثل أوزار من عمل به ولا ينقص اولئك من أوزارهم شيئا " (1). وفي هذا الخبر دلالة على أنه (عليه السلام) لم يرد أن الله تعالى يوصل العذاب الذي يستحقه الأتباع إلى المتبوع بل أراد أن الرئيس المضل عليه مثل أوزار التابعين، لأن الحجب الطارئة على قلوب التابعين مستندة إلى حجابه فلا جرم يكون وزره في قوة أوزارهم التي حصلت بسبب إضلاله وإذا فهمت ذلك في جانب السيئات فافهم مثله في جانب الحسنات وهو أن الرئيس الهادي إلى دين الحق له مثل أنوار التابعين له وحسناتهم التي حصلت بسبب هدايته فيكون من الأجر والثواب مثل ما للتابعين له إلى يوم القيامة من غير أن ينقص شئ من اجورهم. (رهن بخطيئته) الرهن المرهون وهو معروف، وفي المغرب: هو رهن بكذا ورهين أي مأخوذ به، والمقصود أن خروج قوته الفكرية عن حد الاعتدال وميل قوته الشهوية والغضبية إلى الضلال


1 - تقدم في باب ثواب العالم والمتعلم. (*)

[ 245 ]

جعلاه رهينا عند الشيطان باستقراض الخطيئات واستجلاب التبعات فهو مأخوذ بهذا ممنوع من الرجوع إلى المالك الحق والعود إلى حضرة القدس، وهذا لازم لما قبله بل للأوصاف المذكورة كلها. وقد ذكر لهذا الرجل الذي أراد إصلاح الناس واعتمد فيه على رأيه تسعة أوصاف بها يميز عن غيره على نظم عجيب وترتيب قريب كل سابق منها سبب للاحق. (ورجل قمش جهلا) قمش فعل ماض من القمش بالتسكين، وهو جمع الشئ من هاهنا ومن هاهنا، وكذلك التقميش، وذلك الشئ المجموع قماش وقماش البيت متاعه المجتمع من كل نوع يعني أنه جمع جهالات من أفواه الرجال الذين ليس لهم حظ في العلوم أو مما اخترعه وهمه بالرأي والقياس واستعار لفظ الجمع المحسوس للجمع المعقول لقصد الايضاح. (في جهال الناس) الظاهر أنه صفة لجهلا أي جهلا كائنا في جهال الناس، ويحتمل أن يكون حالا من فاعل قمش، أي حال كون ذلك الرجل واقعا في جهال الناس كائنا في مرتبتهم غير متجاوز عنها إلى مرتبة العلماء، أو حال كونه مطرحا وضيعا فيهم. ويؤيده ما في نهج البلاغة من قوله (عليه السلام): " ورجل قمش جهلا موضعا في جهال الامة ". قال بعض الشارحين: موضع بفتح الضاد المطرح، يعني أنه مطرح فيهم ليس من أشراف الناس ثم قال: ويفهم من هذا الكلام أنه خرج في حق شخص معين وإن عمه وغيره. (عان بأغباش الفتنة) عان بالعين المهملة اسم فاعل من عنى فيهم فلان أسيرا، أي أقام فيهم على إسارة واحتبس، وعناه غيره يعنيه حبسه. والعاني الأسير، وقوم عناة ونسوة عوان، والأغباش بالغين المعجمة جمع الغبش بالتحريك، وهو البقية من الليل، وقيل ظلمة الليل، وقيل: ظلمة آخره، يعني أنه أسير في ظلمات الفتنة والضلالة والخصومات، وقيل: من عني بالكسر بمعنى تعب ونصب، وقيل: من عنى به فهو عان أي اهتم به واشتغل، يعني أنه متهم مشتغل بالظلمة والفتنة، وضبطه بعضهم بالغين المعجمة من غني بالمكان يغنى مثل رضي يرضى أقام به، أو من غني بالكسر أيضا بمعنى عاش، وفي أكثر نسخ نهج البلاغة غار بالغين المعجمة وتشديد الراء، وفي بعضها عاد بالعين المهملة والدال المهملة المكسورة المنونة. والغرة بكسر الغين المهملة الغفلة والغار الغافل والعادي الساعي، والكل متقاربة في المقصود. وفي الكلام استعارة مكنية وتخييلية. (قد سماه أشباه الناس عالما) والمراد بأشباه الناس أصحاب الجهالة وأرباب الضلالة وهم الذين يشبهون الناس بالصورة الظاهرة الحسية التي يقع بها التمايز عن سائر الصور البهيمية دون الصور الباطنة الظاهرة الحسية التي يقع بها التمايز عن سائر الصور البهيمية دون الصور الباطنة العقلية التي يقع بها التشابه بالصور الملكية وهي تحلي النفس بصور العلوم الحقيقية والمعارف اليقينية


[ 246 ]

والأخلاق والأعمال المرضية وهؤلاء الأشباه لفقد بصائرهم وظلمة ضمائرهم وبعدهم عن التفكر في الامور وإدراك حقائقها وعواقبها ينخدعون بتمويه ذلك الرجل وتلبسه بزي العلماء ويعتقدون أنه عالم، وأما الناس العالمون الآخذون بزمام ملكات العلوم والمعارف فيعلمون لمباشرة مكالمته ومشاهدة مخادعته أول وهلة أنه بعيد عن رتبة الفضيلة والكمالات، مندرج في سلك سائر الحيوانات بل هو أخس منها لإبطاله استعداد قوته الفكرية لكسب العلوم والفضائل باكتساب الملكات الردية والرذائل، وإنما عد هذه التسمية من الصفات الذميمة له مع أنها من فعل أشباه الناس لأنه سبب لهذه التسمية بتشبيه نفسه بالعلماء وظهوره بصورتهم وتكلمه بكلامهم من غير علم فصار فتنة لنفسه ولغيره. (ولم يغن فيه يوما سالما) لم يغن بفتح الياء والنون وسكون الغين المعجمة، أي لم يعش أو لم يقم. وفي النهاية الأثيرية في حديث علي (عليه السلام): " سماه الناس عالما ولم يغن في العلم يوما سالما "، أي لم يلبث في العلم يوما تاما من قولك: غنيت بالمكان إذا أقمت به، انتهى. أقول: هذا كناية عن بعده من العلم على وجه المبالغة، فإن حصول العلم لأمثاله متوقف على تلبث في التحصيل وطول ملازمة للاستاذ وصرف الفكر فيه ليلا ونهارا، وفي كثير من الأزمان والدهور، فإذا انتفت هذه الامور انتفى العلم فكيف إذا التقى التلبث به يوما تاما ؟ (بكر فاستكثر، ما قل منه خير مما كثر) البكرة والبكور الصباح، وبكر وبكر بالتخفيف والتشديد إذا دخل فيه، وكثيرا ما يستعملان في المبادرة والاسراع إلى شئ في أي وقت كان، ومنه بكروا بصلاة المغرب أي صلوها عند سقوط القرص، وابتكر الخطبة أي أدرك أولها، وبكر في الصلاة أي صلاها في أول وقتها، و " ما " موصولة أو موصوفة بمعنى شيئا، وما بعدها صفة لها، و " قل " مبتدأ بتقدير أن، و " خير " خبره مثل " تسمع بالمعيدي خير من أن تراه "، أو صلة لموصول مقدر، أي فاستكثر ما الذي قل، والمعنى أنه أسرع وبادر في كل صباح أو في أول العمر وابتدأ الطلب إلى جمع شئ فاستكثر شيئا قليل منه خير من كثيره. والمراد بذلك الشئ إما زهرات الدنيا وأسبابها، ويؤيده حصول زيادة الارتباط بما قبله يعني لم يطلب العلم، ولكن طلب أسباب الدنيا التي قليلها خير من كثيرها، هذا إن جمعها على وجه الحلال وإلا فلا خير فيها أصلا. وأما الآراء الفاسدة والعقائد الباطلة والشبهات التي أخذها من أفواه الرجال أو بالقياس أو بغير ذلك من طرق الجهالات التي قليلها خير من كثيرها، وباطلها أكثر من حقها، ويؤيده حصول زيادة الارتباط بما بعده. وعلى التقديرين فيه تنبيه على غاية بعده عن الحق والعلم لرسوخ الباطل في


[ 247 ]

طبعه الدني وثبوته في ذهنه الشقي. (حتى ارتوى من آجن) روي من الماء بالكسر وارتوى امتلأ من شربه، والآجن الماء المتعفن، وفي المغرب: ماء آجن وأجن إذا تغير طعمه ولونه غير أنه شروب، وقيل: تغيرت رائحته من القدم، وقيل: غشيه الطحلب والورق، وقد شبه آراءه الفاسدة وأفكاره الباطلة وعلومه المغشوشة بظلم الجهالة والشبهات بالماء المتعفن في عدم خلوصه وصفائه، أو في عدم النفع والغناء فيه للشارب واستعار لفظ الآجن الموضوع للمشبه به ورشح تلك الاستعارة بذكر الارتواء كما يشبه العلوم الحقيقية والمعارف اليقينية الخالصة عن الشبهات بالماء الصافي الزلال. (واكتنز من غير طائل) الاكتناز من الكنز، يقال: كنز المال كنزا جمعه من باب ضرب، واكتنز الشئ اكتنازا اجتمع وامتلأ، وكل مجتمع مكتنز. وفي بعض النسخ: " أكثر " من الكثرة خلاف القلة، وأما أكنز من باب الأفعال من الكنز بالنون واكتثر من الاكتثار بالثاء المثلثة فلم يثبت مجيئهما في بعض النسخ، ولا في اللغة، ولا بد في الأول من تقدير الفاعل والعائد إلى الموصوف أي اكتنز له الشبهات، والطول النفع والفائدة، يعني اجتمع له كثير من الشبهات والعلوم المغشوشة بالجهالة والتخيلات التي لا أصل لها ولا نفع ولا فائدة فيها. وقيل: المقصود أنه اجتمع له أسباب الدنيا وأموالها وفي الكلام لف ونشر بأن يكون قوله: " قمش جهلا - إلى قوله: - سالما " إشارة إلى ما له وأسبابه الدنيوية ويكون قوله: " إذا ارتوى من آجن " ناظرا إلى الأول، وقوله: " واكتنز من غير طائل " ناظرا إلى الثاني، انتهى. وفيه: أن حمله على هذا المعنى لا يناسب الجزاء، والمعطوف على الشرط ينبغي أن يكون مثله في مناسبه للجزاء واقتضائه له. (جلس بين الناس قاضيا) أي حاكما جزاء للشرط وغاية له. (ضامنا لتخليص ما التبس على غيره) لوثوقه من نفسه الحائرة في ظلمة الضلالة بفصل ما يعرض الناس من المسائل المشكلة والمطالب المعضلة وذلك الوثوق نشأ من اعتقاده أن المستفاد من آرائه الفاسدة وقياساته الباطلة ورواياته التي ليست بصحيحة علوم كاملة كافية في حل الملتبسات وكشف المشكلات و " ضامنا " صفة لقاضيا أو حال ثان. (وإن خالف قاضيا سبقه) في حكم من الأحكام نقض حكمه (1) حذف جزاء الشرط لدلالة ما


1 - فإن قيل: هذه المطاعن ترد على علماء الشيعة أيضا فإنهم مختلفون في الأحكام يرد بعضهم على بعض ويعدل عن رأي إلى غيره. قلنا: إن علماءنا لم يخطؤوا في طريقهم إذ أخذوا عن أهل بيت العصمة فخطؤهم مغتفر إن اشتبه الأمر = (*)

[ 248 ]

اقيم مقامه عليه، وهو قوله: (لم يأمن أن ينقض حكمه من يأتي بعده كفعله بمن كان قبله) وفيه تنبيه على أنه لكمال جهله وشدة حرصه بالرئاسة والشهرة بين الناس لا يبالي ما قال ولا ما قيل فيه ولا يعلم أن حكم الله واحد وأن الحاكم ينبغي أن يكون عالما آمنا من نقض حكمه. (وإن نزلت به إحدى المبهمات المعضلات هيأ لها حشوا من رأيه ثم قطع به) يعني إن نزلت به إحدى المسائل المبهمة المشكلة الملتبس عليه وجه فصلها وطريق حلها هيأ لها كلاما لا طائل تحته وأعد لها خلقا ضعيفا من رأيه وكذبا مفتريا من قياسه، ثم جزم به كما هو شأن أصحاب الجهل المركب وإنما فعل ذلك ولم يسكت ولم يرجع إلى من هو عالم بها لما فيه من النقص العظيم الذي لا يليق بمنصبه الجليل وشأنه الرفيع. (فهو من لبس الشبهات في مثل غزل العنكبوت) هو راجع إلى ذلك الرجل الموصوف المعتمد في الأحكام والقضاء على عقله الضعيف ورأيه السخيف، و " من " موصولة، ولبس فعل، أو " من " جارة، و " لبس " بالضم مصدر لبست الثوب، أو بالفتح مصدر لبست عليه الأمر أي خلطه، وقوله: " في مثل غزل العنكبوت " على الأول في محل النصب على أنه من فاعل لبس، وعلى الثاني في محل الرفع على أنه خبر هو، وغزل العنكبوت مثل للامور الواهية الواهنة كما قال سبحانه: * (وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون) *، ووجه التمثيل هاهنا أن الشبهات التي تقع في ذهن هذا الرجل إذا أراد حل قضية مبهمة تكثر وتختلط بعضها ببعض أو تختلط بغيرها وتتداخل فيلبس عليه وجه الحق منها والتفصي عنها فلا يهتدي إليه لضعف فهمه ونقصان عقله فتلك الشبهات في الوهاء تشبه غزل العنكبوت وذهنه فيها يشبه الذباب الواقع فيه، فكما لا يقدر الذباب على خلاص نفسه من شباك العنكبوت لضعفه كذلك لا يقدر هذا الرجل على خلاص نفسه من شباك الشبهات لضعف ذهنه ونقصان عقله عن إدراك طريق الخلاص منها. (لا يدري أصاب أم أخطأ) أي لا يدري أصاب فيما حكم به أم أخطأ (1)، وهذا من لوازم الحكم


= عليهم في فهم ما سمعوا بخلاف من ترك طريقهم وتمسك برأيه، فإنه غير مغتفر إن أخطأ. (ش) 1 - بخلاف المتمسك بأهل البيت (عليهم السلام) فإنه يعلم أنه لم يخطئ إذا درك الواقع وأصاب، وإن لم يصب الواقع أصاب الطريق. فإن قيل: إن مجتهدهم يعتقد الإصابة فكيف قال (عليه السلام): " لا يدري أصاب أو أخطأ " ؟. قلنا: إن أكثرهم مخطئة، وليس نسبة التصويب إلى جميعهم كما في كتب المتأخرين صحيحا، ثم إن في الموضوعات الخارجية كالقضاء لا يتصور التصويب مطلقا، ولم يقل به أحد، وكذلك فيما ورد فيه نص قد خفي على بعض الناس وإنما الخلاف بين المصوبة والمخطئة فيما لم يرد به نص من الأحكام الكلية فقال = (*)

[ 249 ]

مع عدم العلم وخواص الافتاء مع الجهل وتوابع الاعتماد على الرأي. (لا يحسب العلم في شئ مما أنكر) يحسب إما بكسر السين من الحسبان، يعني أن ذلك الرجل يعتقد أن ما حصل له من العلم المغشوش المدلس بالشبهات الذي يكون الجهل خيرا منه بمراتب هو العلم ولا يظن بغاية جهله وجود العلم لأحد في شئ مما جهله لاعتقاده أنه أعلم العلماء وأن كل ما جهله هو جهله غيره أيضا بالطريق الأولى وذلك مبلغه من العلم، وإما بضم السين من الحساب يعني لا يعد العلم في شئ مما جهله شيئا ولا يدخل تحت الحساب والاعتبار وينكره كسائر ما أنكره، وإنما العلم في زعمه ما حصل له برأيه وقياسه. وقيل: عنى بالعلم الذي لا يعده هذا الرجل علما العلم الحقيقي الذي ينبغي أن يطلب ويجتهد في تحصيله لا ما يعتقد ذلك الرجل علما مما قمشه وجمعه، فإن كثيرا من الجهال ممن يدعي العلم بفن من الفنون قد ينكر غيره من سائر الفنون (1)، ويشنع على معلميه ومتعلميه كأكثر الناقلين للأحكام الفقهية والمتصدين للفتوى والقضاء بين الخلق، فإنهم يبالغون في إنكار العلوم العقلية ويفتون بتحريم الخوض فيها وتكفير من يتعلمها وهم غافلون عن أن أحدهم لا يستحق أن يكون فقيها إلا أن يكون له مادة من العلم العقلي المتكفل ببيان صدق الرسول (صلى الله عليه وآله) وإثبات النبوة التي لا يقوم شئ من الأحكام الفقهية التي يدعون أنها كل العلم إلا بعد ثبوتها، ولعل المقصود من هذا القول وحمله كلامه (عليه السلام) على هذا المعنى هو التنبيه على أن هذا الرجل مع خبطه في الأحكام الشرعية واعتقاده أن العلم المتعلق بها هو الذي قمشه من رأيه ينكر العلوم المتعلقة بغيرها من اصول العقائد (2)، وذلك


= المصوبة: أحالها الله تعالى إلى آراء المجتهدين، وقال: كل ما حكموا به فهو حكمي نظير الوكيل المفوض، وقال المخطئة: ليس لهذا الفرض تحقق بل ورد في كل واقعة حكم ونص عام أو خاص وليس تقرير المذهبين في كتب المتأخرين صحيحا. (ش) 1 - وفي رجال الكشي عند ترجمة جعفر بن عيسى بن عبيد بن يقطين وهشام بن إبراهيم شرح ما يدل على أن التكفير ونسبة بعضهم إلى الزندقة كان شائعا في عصر الأئمة (عليه السلام) حتى أن جعفرا شكا عند الرضا (عليه السلام) عن قوم وقال: هم والله يزندقوننا ويكفروننا ويبرؤون منا، قال (عليه السلام): هكذا كان أصحاب علي بن الحسين ومحمد بن علي وأصحاب جعفر وموسى (عليهم السلام)، ولقد كان أصحاب زرارة يكفرون غيرهم، وكذلك غيرهم كانوا يكفرونهم - إلى أن قال له: - أرأيتك أن لو كنت زنديقا فقال لك مؤمن: ما كان ينفعك من ذلك ولو كنت مؤمنا فقال: هو زنديق ما كان يضرك منه ؟ ! وفي كتاب أعيان الشيعة: أن كل أحد يعتقد أمرا أنه من اصول الدين بحيث يكفر غير المقر به بل آل الأمر إلى أن المسائل الفرعية غير الضرورية مما يكفرون بها. (ش) 2 - ذكرنا في مقدمة المجلد الأول: أن الشارح (رحمه الله) كان جامعا بين المعقول والمنقول مع عناية بالمعقول أشد، وكان في أكثر أمر متبعا لطريقة صدر المتألهين وصاحب الوافي (قدس سرهما)، وما نقله من إنكار جماعة = (*)

[ 250 ]

أبلغ في لومه لأنه ازداد جهلا على جهل والله أعلم. (ولا يرى أن وراء ما بلغ فيه مذهبا) يعني أنه إذا ظن حكما في قضية برأيه أو بخبر مغشوش بلغه جزم به، وربما كان فيها لغيره قول أصح وأظهر من قوله يعضده دليل صحيح ونص صريح فلا يعتبره لكمال جهله ويمضي على ما بلغ فهمه إليه، وذلك إما لبلادة طبعه فلا يفرق بين الصحيح والسقيم أو لحفظ مرتبته من النقص بالرجوع عن مذهبه إلى ذلك المذهب الصحيح والحق الصريح. (إن قاس شيئا بشئ) في أمر لأمر مشترك يقتضيه على زعمه. (لم يكذب نظره) لظنه أن ما اخترعه وهمه ومال إليه طبعه حق فيصر عليه ولا يرجع عنه، وإن نبه على خطئه. (وإن أظلم عليه أمر اكتتم به لما يعلم من جهل نفسه، لكيلا يقال له: لا يعلم) أظلم على البناء للفاعل، يقال: أظلم الليل أي صار مظلما، ولما يعلم علة للاكتتام ومن بيان " لما " و " كيلا " يقال: علة لغلبية العلم بالجهل للاكتتام يعني إن صار عليه أمر من امور الدين مظلما مشتبها لا يدري وجه الحق فيه ولا وجه الشبهة أيضا اكتتم به وستره عن غيره من أهل العلم وسبب الاكتتام أنه عالم بأنه جاهل بذلك الأمر من كل وجه حتى من وجه الشبهة والرأي فيستره ويخفيه ويعرض عن استماعه ويسكت عنه لئلا يقال: إنه لا يعلمه فيحفظ بذلك علو منزلته بين الناس، ولذلك الوجه لا يسئل أهل العلم عنه حتى يستفيد منه، وما أخبر به (عليه السلام) أمر مشاهد، فإن كثيرا من القضاة والحكام وعلماء السوء يكتتمون ما يشكل عليهم أمره من المسائل ويتغافلون عن سماعها إذا وردت عليهم ولا يسألون عنها لئلا يظهر جهلهم بين أهل الفضل مراعاة لحفظ المنزلة والمناصب. (ثم جسر فقضى) جسر على كذا بالجيم والسين المهملة أقدم عليه، أي بعدما كان حاله ذلك أقدم على ذلك الأمر مع الجهل به، أو على أمر القضاء مع عدم استئهاله فحكم فيه بين الناس، وفي بعض النسخ: " ثم جرأ " بالجيم والراء المهملة من الجرأة، وفي بعضها: " ثم حسر " بالحاء والسين المهملتين، أي كل بصره وانقطع نظره عن الإصابة في الحكم فقضى مع ذلك، وأما خسر بالخاء المعجمة بمعنى هلك، فله معنى لكنه لم يثبت. (فهو مفتاح عشوات) في نهاية ابن الأثير: العشوة بالفتح والضم والكسر الأمر الملتبس الذي لا يعرف وجهه مأخوذة من عشوة الليل أي ظلمته، وتجمع على عشوات يعني هو مبدأ المبتدعات


= من الظاهريين العلوم العقلية وتكفير من يتعلمها فهو مصيبة ابتلى بها المسلمون في أكثر الأزمنة لإغواء الشيطان حتى يسيئ صورة الدين في أنظار الملاحدة وثبط العلماء عن التجهيز لدفع شبهاتهم وعن تأييد مبادئ

[ 251 ]

ومنشأ الشبهات وناشر الجهالات، ومنه يصدر امور ملتبسة لا يعرف وجه صحتها وتبقى آثارها في صفحات الدهور ويضل بها كثير من التابعين، وهذا الذي نطق به (عليه السلام) حق وصدق كما تشاهد من أحوال الخلفاء الضالين المضلين وآثار قضاتهم وعلمائهم، فإنهم أضلوا بفتح باب العشوات ونشر ظلم الشبهات من تبعهم إلى يوم الدين. (ركاب شبهات) الركاب للمبالغة على كثرة ركوبه إياها، وفي الكلام استعارة تخييلية ومكنية بتشبيه الشبهات بالناقة العشواء في عدم إيصال صاحبها إلى المقصود دائما أو غالبا، فكما أن راكب العشواء في الطرق المظلمة يسير في غير الطريق المطلوب دائما إن لم يتفق سلوكه فيه أو غالبا إن اتفق في بعض الأحيان فيسير فيه ولم يتفق في أكثرها فيضل عنه ويسير في غيره على الوهم والخيال، كذلك راكب الشبهات في طريق الدين من غير أن يستكمل نور بصيرته بقواعده ويعلم كيفية سلوك طريقه فإنه يسير في غير طريقه دائما إن لم يظهر له نور الحق في ظلمة الشبهات أصلا لنقصان بصيرته عن إدراكه فهو يسير أبدا على ما يتخيله دونما يتحققه أو غالبا إن اتفق في بعض الأوقات ظهور نور الحق في الشبهة لكمال وضوحه فيدركه ولم يتفق في أكثر الأوقات لغلبة ظلمة الشبهة فتعمى عليه موارد الحق ومصادره فيبقى في الظلمة خابطا وعن القصد جائرا وفي غير طريق الدين سائرا. (خباط جهالات) الخباط صيغة مبالغة من الخبط وهو المشي على غير استواء، وقد خبط البعير الأرض إذا ضربها بيده، ومنه قيل: خبط خبط عشواء، وهي الناقة التي في بصرها ضعف تخبط بيدها كل شئ إذا مشت، والإضافة بتقدير في يعني: " أو بسيار دست وپا زننده است در ميان جهالات "، وكني بذلك عن كثرة أغلاطه التي يقع فيها في الفتاوى والأحكام، فيمشي فيها على غير طريق الحق من القوانين الشرعية وذلك معنى خبطه. (لا يعتذر مما لا يعلم فيسلم) من البدعة في الدين ومن الحكم والفتيا بغير علم ومن لؤم الدنيا وعذاب الآخرة، وفي الاعتراف بالجهل منافع كثيرة وهو أحد العلمين، ولهذا قيل: لا أدري نصف العلم. (ولا يعض في العلم بضرس قاطع فيغنم) هذا كناية عن عدم نفاذ بصيرته في العلوم وعدم إتقانه للقوانين الشرعية (1) لينتفع بها انتفاعا تاما. يقال: فلان لم يعض على الامور بضرس قاطع إذا


1 - لا ريب أن العالم يجب أن يكون متيقنا بصحة ما يفتي به، إما بأن يكون موافقا للواقع، أو موافقا لما هو مكلف بمتابعته، وإذا تبع الروايات التي لا يحصل له منها العلم بالواقع لاحتمال الدس والخطأ والغلط ولم يكن له دليل على حجيتها والتعبد بصحتها ظاهر أو إن كان خلاف الواقع فليس لهذا الرجل ضرس = (*)

[ 252 ]

لم يحكمها ولم يتقنها، وأصله أن الإنسان يمضغ الطعام الذي هو غذاء البدن ثم لا يجيد مضغه لينتفع به البدن انتفاعا تاما فمثل به من لم يحكم ولم يتقن وما يدخل فيه من المعقولات التي هي غذاء الروح لينتفع به الروح انتفاعا كاملا. وحاصل الفقرتين أنه لا يعترف بالجهل ليسلم عن الحكم من غير علم ولا له بضاعة في المعارف ليكون على بصيرة فيها ومحصولهما أنه متلبس بالآفات متعرض للقضاء والفتاوى بالشبهات. (يذري الروايات ذرو الريح الهشيم) ذراه وأذراه ذروا وإذراء إذا طيره وقلبه من حال إلى حال، والهشيم النبت اليابس المنكسر، وفيه تشبيه تمثيلي ووجه التشبيه صدور فعل بلا روية من غير أن يعود إلى الفاعل نفع وفائدة، فإن هذا الرجل المتصفح للروايات ليس له بصيرة بها ولا روية في تصفحها ولا شعور بوجه العمل بها بل هو يمر على رواية بعد اخرى ويمشي عليها من غير فائدة وانتفاع كما أن الريح التي تذري الهشيم لا شعور لها بفعلها ولا يعود إليها من ذلك الفعل نفع (1) وفائدة. فإن قلت: الذرو مصدر يذر ولا يذري وإنما مصدره الإذراء فالصحيح أن يقال: يذري الروايات إذراء الريح الهشيم، أو يقال: يذرو الروايات ذرو الريح الهشيم، قال ابن الأثير في حديث علي (رضي الله عنه): يذرو الرواية ذرو الريح الهشيم أي يسرد الرواية كما تتسف الريح هشيم النبت. قلت: ما في هذا الكتاب أيضا صحيح، فإن الذرو والاذراء لما كانا بمعنى واحد صح ذكر أحدهما


= قاطع ولكن يذري الروايات ذرو الريح الهشيم. (ش) 1 - بل يعود منها الضرر، لأن تشخيص الصحيح منها والسقيم وما يعمل به وما لا يعمل ثم مفادها ومعناها، والجمع بين ما ظاهره التناقش مما لا يقدر عليها إلا من له ضرس قاطع ولا يذري الروايات ذرو الريح، إذ يوجب منه طرد روايات صحيحة والعمل بروايات سقيمة وربما يوجب شيوع الضعاف بين الناس وتمكنها في قلوبهم أن يظن أنها من البدن ويصعب الأمر ويضل به الناس ويطعن الزنادقة في الأنبياء والأئمة، لأنهم يرون هذه الأباطيل منسوبة إليهم ولو ادعى أحد أن مروق جماعة من الدين وشك طائفة في صدق النبيين (عليهم السلام) في هذه الأواخر ليس إلا لشيوع الروايات الضعيفة منذ أواخر عهد الصفوية بين الناس لم يكن مجازفا خصوصا بعد ما اشتهر من الإخباريين أن جميع الروايات صادرة عن الأئمة حقيقة وأنه لا يجوز رد شئ منها ولم يكن غرضهم إلا خدمة الدين وتعظيم شأن الحديث إلا أن غلوهم فيه انتج عكس المطلوب، وقد ذكر الغزالي في كتاب تهافت الفلاسفة أنه " لا يجوز لعلماء الدين رد ما ثبت في العلوم التعليمية، فإن من ثبت ذلك عنده ولا يشك فيه بل يخبر بمثل الكسوف والخسوف من قبل مبنيا على كونهما من آثار حركات الكواكب وحيلولة بعضها لبعض إذا قلت له: ليس هذا الذي تعتقده من الدين لم يشك في علمه بل شك في الدين. (ش) (*)

[ 253 ]

في مقام الآخر. (تبكي منه المواريث وتصرخ منه الدماء) إما على سبيل حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه أي من جور قضاياه تبكي أهل المواريث وتصرخ أولياء الدماء أو على سبيل التجوز في الإسناد كما في صام نهاره وقام ليله، أو على سبيل الاستعارة المكنية والتخييلية بتشبيه المواريث والدماء بالإنسان الباكي والصارخ من جهة الظلم والجور وإثبات البكاء والصراخ لهما، أو على سبيل الاستعارة التحقيقية التبعية باستعارة لفظ البكاء والصراخ لعج المواريث والدماء ونطقهما بلسان حالهما المفصح عن مقالهما ووجه المشابهة: أن البكاء والصراخ لما كانا يصوران عن تظلم وشكاية وكانت المواريث المستباحة بالأحكام الباطلة والدماء المهرقة بغير حق ناطقة بلسان حالهما مفصحة بالتكلم والشكاية لا جرم حسن تشبيه نطقهما بالبكاء والصراخ واستعارة هذين اللفظين له يعني نطقت المواريث والدماء بلسان الحال بالتظلم والشكاية من جور أحكامه وقضاياه. (ويستحل بقضائه الفرج الحرام ويحرم بقضائه الفرج الحلال) إما لجهله بالحكم فحكم بمقتضى رأيه الباطل أو لسهوه فيه وعدم مراعاة الاحتياط أو لغرض من الأغراض الدنيوية مثل التقرب بالجائر، أو أخذ الرشوة أو غير ذلك. (لا ملئ بإصدار ما عليه ورد) الملئ على فعيل بالهمزة وهو الثقة الغني المقتدر، قال ابن الأثير في النهاية الملئ بالهمزة الثقة الغني، وقد ملأ فهو ملئ بين الملأ والملاءة وقد أولع الناس فيه بترك الهمزة وتشديد الياء ومنه حديث علي (عليه السلام): لا ملي والله بإصدار ما ورد عليه. فعلى هذا يجوز أن يقرأ بتشديد الياء هنا والإصدار الإرجاع يقال: أصدرته فصدر أي أرجعته فرجع، وضمير عليه لذلك الرجل وضمير ورد للموصول، ويحتمل العكس، والمعنى هو فقير ليس له قوة علمية وقدرة روحانية على إرجاع ما ورد عليه من المسائل المشكلة والشبهات الضعيفة والمعضلة بإيراد الأجوبة الشافية عنها. (ولا هو أهل لما منه فرط من ادعائه علم الحق) " من " بيان للموصول، وفرط بمعنى سبق وتقدم أي ليس هو أهل لما ادعاه من علم الحق الذي من أجله سبق الناس، وتقدم عليهم بالرئاسة والحكومة، وقيل: معناه ليس هو من أهل العلم بالحقيقة كما يدعيه لما فرط منه وقصر عنه. * الأصل: 7 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الحسن بن علي الوشاء، عن أبان بن عثمان، عن أبي شيبة الخراساني، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: " إن أصحاب المقاييس طلبوا العلم بالمقاييس


[ 254 ]

فلم تزدهم المقاييس من الحق إلا بعدا، وإن دين الله لا يصاب بالمقاييس ". * الشرح: (الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الحسن بن علي الوشاء، عن أبان بن عثمان، عن أبي شيبة الخراساني، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن أصحاب المقاييس طلبوا العلم) بالأحكام الشرعية والمسائل الدينية. (بالمقاييس فلم تزدهم المقاييس من الحق إلا بعدا) إذ حاصل القياس تفريق المتباينات وجمع المتشاكلات في الحكم باعتبار اشتراكها في علته بالتوهم والتظني (1)، فإن كان لله في كل واحد من المتشاكلات حكم مغاير لحكم الآخر وفي المتباينات حكم واحد في الواقع كان صاحب القياس باعتبار أنه جاهل بحكم الله تعالى بعيد عن الحق، وباعتبار أنه اعتقد بخلافه يزداد بعده منه. (وإن دين الله لا يصاب بالمقاييس) لأن دين الله تعالى ما أنزله إلى نبيه (صلى الله عليه وآله) من كل ما يحتاج إليه العباد في الدنيا والآخرة وطريق إصابته منحصر في الأخذ منه (عليه السلام) ثم أوصيائه (عليهم السلام)، فمن ترك هذا الطريق وسلك طريق القياس والرأي مع اختلاف الطبائع والآراء فقد بعد عن دين الله ومن بعد عنه لا يصيبه قطعا. * الأصل: 8 - علي بن إبراهيم، عن أبيه ومحمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، رفعه عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) قالا: " كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة سبيلها إلى النار ".


1 - والقياس ركن من أركان اصول العامة، وبحث عنه الشيعة لنقضه ورده، وأطال الكلام فيه العلامة في النهاية، إذ ما لم يعرف ماهية الشئ لا يمكن الحكم بصحته وبطلانه ومما يجب أن نعلمه أن العمدة في القياس استنباط العلة المشتركة، فتارة يكون بالنص كأن يقول: لا تشرب الخمر لأنها مسكرة، واختلف علماؤنا في جواز التعدي فيه وقال بعضهم: لا يتعدى، والتنبيه مثل قوله (صلى الله عليه وآله): " ملكت نفسك فاختاري " قاله لبريرة، أومأ إلى أن علة خيار الأمة فسخ نكاح زوجها بعد أن اعتقت هي ملكها نفسها ومن لا يثبت التعدي بالنص على العلة لا يقول بالإيماء بطريق أولى، ومما يعد من الإيماء دلالة أحل الله البيع على صحته، فإن الحلية غير الصحة، إلا أن الحل لا فائدة فيه إن لم يكن صحيحا، وثالثة بالمناسبة قالوا: إن المناسبة بين حكم ومصلحة يدل دلالة ظنية على العلة كالعداوة والبغضاء في الخمر وحفظ النفوس في القصاص إلى غير ذلك مما لا غرض لنا في ذكره إلا تنقيح المناط، وهو أردأ أنواع القياس وأضعفها، ومعناه استنباط العلة بإلغاء فارق بأن ينظر في الفرع والأصل وتتبع الصفات المشتركة والمميزة، ويبين أن المميزة لا يمكن أن تكون علة للحكم فيثبت أنها المشتركة وأما تنقيح المناط في اصطلاح أهل هذه الأعصار فغير منقح لا ندري ما يريدون به إلا أنهم يجعلونه حجة. (ش) (*)

[ 255 ]

* الشرح: (علي بن إبراهيم، عن أبيه ومحمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، رفعه عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) قالا: كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة سبيلها إلى النار) القياس بدعة، لأنه ليس بمستند شرعي للحكم، والقائس مبتدع، لأنه إما أن يزيد في الدين أو ينقص منه، وكل زيادة ونقصان فيه ضلالة، سواء تعلقا بالواجب أو الندب أو بغيرهما من الأحكام الخمسة، وكل ضلالة سبيلها إلى النار وتجر صاحبها إليها، وقد يستدل بهذا الحديث على حجية إجماع الفرقة الناجية، إذ لو كان إجماعهم بدعة لزم أن يكونوا من أهل النار، والتالي باطل، لما يظهر بملاحظة الأحاديث الواردة في فضل الشيعة في كتاب الروضة وغيره. * الأصل: 9 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن محمد بن حكيم، قال: قلت لأبي الحسن موسى (عليه السلام): جعلت فداك فقهنا في الدين وأغنانا الله بكم عن الناس حتى أن الجماعة منا لتكون في المجلس ما يسأل رجل صاحبه تحضره المسألة ويحضره جوابها فيما من الله علينا بكم فربما ورد علينا الشئ لم يأتنا فيه عنك ولا عن آبائك شئ فنظرنا إلى أحسن ما يحضرنا وأوفق الأشياء لما جاءنا عنكم فنأخذ به ؟ فقال: " هيهات هيهات في ذلك، والله هلك من هلك يابن حكيم ! "، قال: " لعن الله أبا حنيفة كان يقول: قال علي وقلت " قال محمد بن حكيم لهشام بن الحكم: والله ما أردت إلا أن يرخص لي في القياس. * الشرح: (علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن محمد بن حكيم، قال: قلت لأبي الحسن موسى (عليه السلام): جعلت فداك فقهنا في الدين) فقه الرجل بالكسر إذا فهم وعلم، وبالضم إذا صار فقيها، وفقهه غيره بالتشديد إذا علمه وفهمه، والمعاني الثلاثة محتملة هنا، وعلى الأخير يقرأ بصيغة المجهول، والفقه في اللغة الفهم ثم خص بعلم الشريعة مطلقا، وقيل: ثم خص بعلم الفروع. (وأغنانا الله بكم عن الناس) أي عن الرجوع إليهم في المسائل، والمراد بالناس علماء العامة، وفيه دلالة على أن الهداية موهبة، والروايات الدالة عليه كثيرة. (حتى أن الجماعة منا لتكون في المجلس) تكون خبر " أن " دخلت عليه اللام للمبالغة في التأكيد. (ما يسأل رجل صاحبه تحضره المسألة ويحضره جوابها) ما موصولة، وهو مع صلته مبتدأ، والعائد إليه محذوف، ويحضره خبره، والجملة مستأنفة كأنه قيل: ما يقول بعضهم لبعض فيه، أو هل يسأل بعضهم بعضا عن مسائل الدين ؟ فقال الذي يسأل رجل صاحبه عنه من مسائل الدين


[ 256 ]

يحضر صاحبه تلك المسألة ويحضر جوابها كما ينبغي لكمال قوته في علم الدين وغاية استحضاره لمسائله، وما قلنا أحسن مما قيل: إن " ما " موصولة، والجملة صفة للمجلس لاحتياجه إلى إضمار عائد آخر إلى الموصوف، ومما قيل: إن الجملة حال من فاعل تكون، وهو ضمير الجماعة لاحتياجه إلى إضمار العائد إلى ذي الحال، ومما قيل: إن " ما " زائدة ويسأل رجل صاحبه حال من المجلس و " تحضره المسألة " حال من صاحبه، لأن الأصل عدم الزيادة، وأما تقدير العائد إلى الموصول فهو وإن كان خلاف الأصل أيضا لكنه شائع بل يمكن أن يقال: ذكره زائد لا يحتاج إليه مع أن هذه الأقوال كلها لا تخلو عن هجنة. (فيما من الله علينا بكم) " في " للظرفية أو للسببية واستعمالها في السببية شائع بل قد يقال: إنها حقيقة عرفية فيها، وهو على المعنيين متعلق " يحضر " في الموضعين، وما موصولة أو موصوفة، والعائد إليه محذوف. (فربما ورد علينا الشئ) من المسائل الدينية والفروع الشرعية وغيرها. (لم يأتنا فيه عنك ولا عن آبائك شئ) يدل على حكمه صريحا، والجملة صفة للشئ باعتبار أن التعريف فيه للعهد الذهني أو حال منه. (فنظرنا إلى أحسن ما يحضرنا وأوفق الأشياء لما جاءنا عنكم فنأخذ به) " ما " الاولى عبارة عن الأحاديث التي بلغتهم، والمراد بأحسنها أحسنها سندا ومتنا ودلالة وحكما، بحيث لم يكن الحكم فيه مستندا إلى تقية ولم يعرضه شبهة ولم يلحقه نسخ، و " ما " الثانية عبارة عن الحكم الذي فيه وأوفق الأشياء عبارة عن علته المستنبطة أو المصرحة، وضمير " به " راجع إلى " ما " الثانية، أو إلى الأوفق، يعني فنظرنا إلى أحسن ما يحضرنا من الأحاديث التي بلغتنا عنكم ونظرنا إلى حكمه ونظرنا إلى ما هو أوفق الأشياء لذلك الحكم فنأخذ به ونجريه في ذلك الذي ورد علينا كما هو دأب أرباب القياس. (فقال: هيهات هيهات !) أي بعد ما تأخذون به بهذا التصرف والتدبير عن حكم الله تعالى، أو بعد الفرار من الباطل والبدعة في الدين، وأتى به مكررا للتأكيد والمبالغة في الزجر عنه، ثم بالغ فيه وحث على الفرار منه بقوله: (في ذلك، والله هلك من هلك يابن حكيم) ذلك إشارة إلى التصرف المذكور واستعمال القياس، و " في " للظرفية أو للسببية، وتصدير الجملة بالقسم لرفع شك المخاطب بمضمونها لكونه سائلا مترددا فيناسبه التأكيد كما هو المقرر في العربية، وإن كان (عليه السلام) صادقا مصدقا في كل ما يقول، والمراد بالهلاك العقوبات الأبدية الاخروية، وعبر عنها بلفظ الماضي لتحققها بسبب تحقق سببها فكأنها


[ 257 ]

حاصلة في الدنيا أيضا إلا أنه لا يراها أرباب البصائر القاصرة، وتقديم الظرف يدل على أن المستحق للهلاك منحصر في هذا الصنف ولا يبعد ذلك لأن كل من خرج عن دين الحق فقد قاس عليه الباطل، ثم رجح الباطل وأخذ به ولزمه ذلك وإن لم يشعر به. (قال: لعن الله أبا حنيفة كان يقول: قال علي وقلت) هذا يحتمل وجوها: أحدها: أنه جعل كلامه (عليه السلام) أصلا وقاس عليه أمرا آخر، وشاركه في الحكم لعله قياسية. وثانيها: أنه رد حكمه (عليه السلام) بحكم قياسي اخترعه من عنده. وثالثها: أنه قال علي بالقياس وقلت أنا أيضا بالقياس، سواء كان القياسان متوافقين في الحكم أو متخالفين فيه، وهذا أبعد الاحتمالات لشيوع إنكار القياس عنهم (عليهم السلام) بحيث يعلم كل من له أدنى مسكة أن من نسب القول بالقياس إلى أحدهم افتضح عند العامة والخاصة بالكذب والافتراء. وهذا الحديث صريح في أن أبا حنيفة كان يعتقد بالقياس ويعمل به، وفي هذا الباب روايات اخر دلالتها عليه أظهر، وهو المشهور من مذهبه، فما نقل عنه أنه قال: أما ميزان الرأي والقياس فحاش لله أن يعتصم به، ومن زعم من أصحابي أن ذلك ميزان المعرفة فأسأل الله أن يكفيني شره عن الدين فإنه صديق جاهل وهو شر من عدو عاقل، فهو ليس بمعتبر، وقد نقله أيضا بعض أصحابنا وقال: يفوح منه رائحة التشيع (1). (قال محمد بن حكيم لهشام بن الحكم: والله ما أردت إلا أن يرخص لي في القياس) أراد ذلك لما في استعمال القياس واستخراج الفروع الغريبة بالقواعد القياسية من نشاط النفس وتفوقها على الأقران بالمجادلة والمناظرة ورفع عار الجهالة بقدر الإمكان والاشتهار بين العوام بجودة الرأي وكثرة العلوم والفضائل، تأمل في فائدة قوله ذلك لهشام، ولعل الفائدة هي التنبيه على كمال علمه (عليه السلام) حيث حمل قوله: " فنظرنا... إلى آخره " على ما هو مقصوده، أعني طلب الرخصة في القياس فمنعه منه على أبلغ وجه لا على ظاهره الذي يفيد الاقتصار على الأخذ بالأحاديث التي بلغتهم وعدم التجاوز عنه إلى غيرها بالقياس.


1 - المعروف من مذهب أبي حنيفة أنه كان يقدم القياس على النص أيضا، ويدفع عنه من نصره هذا التقديم لا أصل القول بالقياس، لأن ذلك قول أكثرهم، وأما نسبة أبي حنيفة إلى التشيع فالظاهر أنها نشأت من فتواه بالخروج مع النفس الزكية حين خرج على المنصور، واستظهر من ذلك أنه كان مائلا إلى الزيدية. ويؤيده أن الزيدية إلى زماننا هذا يتبعون أبا حنيفة في فقههم غالبا، ولا ينافي ذلك قوله بالقياس وعدم تبرئه من الشيخين، فإن الشيعة الزيدية كلهم كذلك، وممن نسب أبا حنيفة إلى التشيع من علمائنا الشيخ عبد الجليل الرازي في كتاب النقض ولا بد أن يكون مراده الشيعة الزيدية. (ش) (*)

[ 258 ]

* الأصل: 10 - محمد بن أبي عبد الله رفعه عن يونس بن عبد الرحمن، قال: قلت لأبي الحسن الأول (عليه السلام): بما اوحد الله ؟ فقال: " يا يونس، لا تكونن مبتدعا، من نظر برأيه هلك، ومن ترك أهل بيت نبيه (صلى الله عليه وآله) ضل، ومن ترك كتاب الله وقول نبيه كفر ". * الشرح: (محمد بن أبي عبد الله) هو محمد بن جعفر بن محمد بن عون الأسدي أبو الحسين الكوفي ساكن الري، يقال له محمد بن أبي عبد الله، كان ثقة صحيح الحديث، إلا أنه روى عن الضعفاء، وكان يقول بالجبر والتشبيه فأنا في حديثه من المتوقفين، وكان أبوه وجها، روى عن أحمد بن محمد بن عيسى، كذا في الخلاصة، وقيل: قال الشيخ الطوسي عند ذكر أقاصيص الغيبة، فقد كان في زمان السفراء المحمودين أقوام ثقات ترد عليهم التوقيعات من قبل المنصوبين للسفارة من الأصل منهم محمد بن جعفر الأسدي، ثم قال بعد قصص: مات الأسدي على ظاهر العدالة لم يتغير ولم يطعن عليه في شهر ربيع الآخر سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة. (رفعه عن يونس بن عبد الرحمن، قال: قلت لأبي الحسن الأول (عليه السلام): بما اوحد الله ؟) أي بما أستدل به على توحيده، وما يصح له ويمتنع عليه ؟ وكأنه أراد الإذن بأن يقول في ذاته وصفاته بما يستحسنه عقله وما يسوق إليه رأيه. (فقال: يا يونس، لا تكونن مبتدعا) أي لا تكونن في التوحيد وغيره من المعارف والأحكام مبتدعا عاملا برأيك تاركا للكتاب والسنة وأهل بيت نبيك. (من نظر برأيه هلك) أي من نظر برأيه وقال بالقياس واعتمد عليه وعمل به هلك لبعده عن دين الحق واستحقاقه لعذاب الأبد، وهذا تعليل للنهي السابق، وكذا المعطوفات عليه، إذ كما أن النظر بالرأي بدعة توجب الهلاك كذلك ترك طريق الحق بدعة توجبه، والفرق بينهما: أن الأول يستلزم الثاني دون العكس لإمكان أن لا يسلك رجل طريق الحق ولا يعمل بالرأي أصلا بأن يكون ساكتا. (ومن ترك أهل بيت نبيه (صلى الله عليه وآله) ضل) أي من تركهم ولم يأخذ بقولهم ولم يرجع إليهم في المعارف الدينية والمسائل الشرعية، اصولا كانت أو فروعا ضل عن سبيل الحق والصراط المستقيم لعدوله عنه. (ومن ترك كتاب الله وقول نبيه كفر) أي من ترك أحكام الكتاب وما فيه وقول النبي وما جاء به وجوز مخالفتهما كفر بالله وبرسوله وخرج عن دين الحق، وفي القائس جميع ذلك، وإنما حكم على


[ 259 ]

التارك الأول بأنه ضال، وعلى الثاني بأنه كافر لأن الأول معترف بأن هنا طريقا حقا وهو دينه (صلى الله عليه وآله)، إلا أنه ضل عنه بمفارقة أهل بيته الهادين إليه، والثاني منكر لدين الحق بالكلية فهو كافر بالله وبكتابه ونبيه. وفيه رد على من قال من الفرق المبتدعة: إن الأحكام الشرعية العامة اصولا كانت أو فروعا إنما يحكم بها على العامة والأغبياء، وأما الأذكياء والعلماء وأهل الخصوص فلصفاء قلوبهم من الأكدار وخلوها من الأغيار تتجلى لهم العلوم الإلهية والحقائق الربانية فيقفون على أسرار الكائنات ويعلمون أحكام الجزئيات فيستغنون بها عن أحكام الشرع الكليات وهذه بدعة وضلالة لما علم من الشرائع، فإن الله سبحانه أجرى سنته وأنفذ حكمته بأن أحكامه لا تعلم إلا بواسطة الرسل (عليهم السلام) السفرة بينه تعالى وبين خلقه كما قال تعالى: * (كان الناس امة واحدة فبعث الله النبيين...) * الآية، وغير ذلك من الآيات الدالة على إرسال الرسل (عليهم السلام). وعلى الجملة: فقد علمنا قطعا أنه لا طريق لمعرفة الأحكام إلا من جهة الشرع والسماع من الشارع، فمن قال: إن هنا طريقا آخر يعرف به أمره تعالى ونهيه وأحكامه فهو ضال مضل ثم هو قول بإثبات نبي بعده (صلى الله عليه وآله). بيان ذلك: أن من قال: إنه يأخذ الأحكام من رأيه وإنه يجد أحكامه تعالى بمجرد عقله وتصرفاته وإنه يجوز له العمل بمقتضاه وإنه لا يحتاج في ذلك إلى ما يدل عليه صريحا من كتاب وسنة وقول إمام فقد أثبت لنفسه النبوة، وهو مثل قوله (صلى الله عليه وآله): " إن روح القدس نفث في روعي "، وقد نقل بعض المنحرفين المتظاهرين بالدين أنه قال: لا آخذ عن الموتى وإنما آخذ عن الحي الذي لا يموت، وإنما أروي عن قلبي عن ربي. وأنا أسأل الله الهداية والدراية ونعوذ به من الضلالة والغواية. * الأصل: 11 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الوشاء، عن مثنى الحناط، عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ترد علينا أشياء ليس نعرفها (1) في كتاب [ الله ] ولا سنة فننظر فيها ؟ فقال: " لا، أما إنك إن أصبت لم تؤجر، وإن أخطأت كذبت على الله عز وجل ". * الشرح: (محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الوشاء، عن مثنى الحناط، عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ترد علينا أشياء ليس نعرفها في كتاب [ الله ] ولا سنة فننظر فيها ؟) أفننظر في تلك الأشياء ونستخرج حكمها بقياسها على غيرها مما يناسبها ؟ (فقال: لا) أي لا تنظروا فيها بطريق القياس.


1 - كذا في جميع النسخ. (*)

[ 260 ]

(أما إنك إن أصبت لم تؤجر) أي إن أصبت حكم الله تعالى في تلك الأشياء بالعمل القياسي لم تؤجر بتلك الإصابة، لأن الأجر إنما هو لإصابة حكم الله بطريق مخصوص قرره للوصول إليه، فلو وصل إليه أحد لا من هذا الطريق ليس له استحقاق ذلك الأجر نظير ذلك من قال: كل من دخل علي من هذا الباب فله درهم، فلو دخل عليه أحد من غير هذا الباب ليس له استحقاق أخذ الدرهم، بل يستحق العقوبة للدخول عليه بغير إذن، وبالجملة الجزاء والأجر مشروط بامور، ومن جملة شروطه التوسل إليه بالكتاب والسنة وأئمة الدين لا بالرأى والقياس، وأيضا صاحب القياس وإن فرضنا إصابته في نفس الأمر لا يعلم أنه مصيب أم لا، فلا يجوز له الاعتماد عليه والعمل به، فلو عمل به استحق العقاب ولا يستحق الأجر بوجه من الوجوه لا بالاستخراج ولا بالعمل. (وإن أخطأت كذبت على الله عز وجل) فعليك العقوبة باعتبار الكذب أولا، وباعتبار العمل ثانيا، وباعتبار تحمل وزر من تبعك ثالثا * (فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدي القوم الظالمين) *. * الأصل: 12 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن عمر بن أبان الكلبي، عن عبد الرحيم القصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار ". * الشرح: (عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن عمر بن أبان الكلبي، عن عبد الرحيم القصير) قيل: كأنه ابن روح من أصحاب الباقر (عليه السلام)، وربما يأتي في طريق بعض الأحاديث عبد الرحيم بن عتيك القصير وهو يروي عن الصادق (عليه السلام). (عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار) ينتج كل بدعة في النار، ففيه دلالة على أن كل بدعة حرام، سواء تعلقت بالمكروه أو المباح أو بغيرهما من الأحكام، إذ زيادة شئ من الأحكام في الدين أو نقصانه منه بالرأي حرام يجب تركه، فقول الشهيد (رحمه الله) فيما روي من أن الأذان الثالث يوم الجمعة بدعة لا دلالة فيه على تحريمه، لأن البدعة أعم من الحرام والمكروه لا يخلو من شئ، وقد اختلف الأصحاب في تفسير البدعة، فقيل: كل ما لم يكن في زمان النبي (صلى الله عليه وآله) فهو بدعة، ورده الفاضل الأردبيلي بمنع الشرطية وقال: البدعة هي كل عبادة ما كانت مشروعة أصلا ثم احدثت بغير دليل شرعي أو دل دليل شرعي على نفيها، فلو صلى أو دعا أو غير ذلك من العبادات مع عدم وجودها في زمانه (صلى الله عليه وآله) ليس بحرام لأصل كونه


[ 261 ]

عبادة، ولغير ذلك مثل: " الصلاة خير موضوع " و " الدعاء حسن " ثم قال في الحديث: " كل ضلالة في النار "، وفي الحديث السابق: " كل ضلالة سبيلها إلى النار " فقيل: لا بد من بيان نكتة للتفاوت بينهما، ولعل النكتة هي الإشارة في هذا الخبر إلى أن النار التي ستبرز يوم القيامة موجودة الآن محيطة بالبدعة وصاحبها * (وإن جهنم لمحيطة بالكافرين) *. * الأصل: 13 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى بن عبيد، عن يونس بن عبد الرحمن، عن سماعة بن مهران، عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) قال: قلت: أصلحك الله، إنا نجتمع فنتذاكر ما عندنا فلا يرد علينا شئ إلا وعندنا فيه شئ مسطر، وذلك مما أنعم الله به علينا بكم، ثم يرد علينا الشئ الصغير ليس عندنا فيه شئ فينظر بعضنا إلى بعض وعندنا ما يشبهه فنقيس على أحسنه ؟ فقال: " وما لكم وللقياس ؟ إنما هلك من هلك من قبلكم بالقياس "، ثم قال: " إذا جاءكم ما تعلمون فقولوا به، وإن جاءكم ما لا تعلمون فها، وأهوى بيده إلى فيه " ثم قال: " لعن الله أبا حنيفة كان يقول: قال علي، وقلت أنا، وقالت الصحابة، وقلت "، ثم قال: " أكنت تجلس إليه ؟ " فقلت: لا، ولكن هذا كلامه. فقلت: أصلحك الله، أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله) الناس بما يكتفون به في عهده ؟ قال: " نعم وما يحتاجون إليه إلى يوم القيامة "، فقلت: فضاع من ذلك شئ ؟ فقال: " لا هو عند أهله ". * الشرح: (علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى بن عبيد، عن يونس بن عبد الرحمن، عن سماعة بن مهران، عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) قال: قلت: أصلحك الله) الصلاح خلاف الفساد، وصلح الرجل من باب طلب، وقد يجئ من باب شرف وأصلحه غيره، وهذا دعاء له (عليه السلام) في بقاء صلاحه في أمر دينه ودنياه وأمر إمامته وإرشاده للخلق وصح ذلك، إذ ليس المقصود منه إزالة الفساد الحاصل. (إنا نجتمع فنتذاكر ما عندنا فلا يرد علينا شئ) من المسائل الدينية، أصلية كانت أو فرعية. (إلا وعندنا فيه شئ مسطر) أي مكتوب في الدفاتر، أو مرقوم في الخواطر. (وذلك) أي كون ذلك الشئ مسطرا عندنا محفوظا لدينا. (مما أنعم الله به علينا بكم) أي بسبب إحسانكم وتعليمكم إياها. (ثم يرد علينا الشئ الصغير) أي بعض الامور الجزئية. (ليس عندنا فيه شئ) من القرآن والحديث حتى نأخذ به، والجملة حال من الشئ. (فينظر بعضنا إلى بعض وعندنا ما يشبهه) من القرآن والحديث في الأمر الجامع. (فنقيس على أحسنه ؟) أي أفنقيس ذلك الشئ الصغير على أحسن ما يشبهه في الجامع


[ 262 ]

ونستخرج بذلك حكمه ؟ (فقال: وما لكم وللقياس ؟) استفهام على سبيل الإنكار للزجر والتنفير عن القياس، والقياس منصوب وجوبا على أنه مفعول معه، والواو بمعنى مع لا للعطف لامتناع العطف على الضمير المجرور بلا إعادة الجار، وعامله فعل معنوي مستنبط من اللفظ لدلالة كلمة الاستفهام وحرف الجر عليه، لأنهما يطلبان الفعل أي ما تصنعون مع القياس ؟ (إنما هلك من هلك من قبلكم) كالشيطان ومن تبعه. (بالقياس) فإنهم بعدوا عن دين الحق ورحمته واستحقوا سخطه وغضبه بارتكاب القياس والاعتقاد به والعمل بمقتضاه. (ثم قال: إذا جاءكم ما تعلمون فقولوا به) لإفشاء العلم وتعليمه. (وإن جاءكم ما لا تعلمون فها، وأهوى بيده إلى فيه) قوله: " وأهوى " حال عن فاعل " قال " بتقدير قد، وفي المغرب: أهوى بيده أي رفعها إلى الهواء، ومدها حتى بقي بينها وبين الجنب هواء أي خلاء. وفي النهاية: هوى يهوي هويا - بالفتح - إذا هبط، وهوى يهوي هويا - بالضم - إذا صعد وأهوى يده وبيده إليه أي مدها نحوه وأمالها إليه. وعلى هذا فالباء في " بيده " زائدة للمبالغة في التعدية و " ها " هاهنا مقصورة على ما رأيناه من النسخ وهي إما كلمة تنبيه للمخاطب ينبه بها على ما يساق إليه من الكلام إذا وقع الاهتمام بمضمونه، وأهوى إما كناية عن السكوت وحث عليه أو إشارة إلى الرجوع إليه (عليه السلام) والأخذ من فيه ولو بواسطة، وإما اسم فعل بمعنى خذ مخففة " هاء " بالمد وفتح الهمزة. قال الخطابي: هاء بالمد وفتح الهمزة أصلها هاك بمعنى خذ، فحذفت الكاف وعوضت عنها المد والهمزة، يقال للواحد: هاء وللاثنين هاؤما، وللجمع: هاؤم. وغير الخطابي يجيز السكون فيها على حذف العوض وتنزل منزلة " ها " التي للتنبيه، والمقصود على هذا الاحتمال هو الإشارة إلى وجوب خذوا وجعل الباء في أهوى بيده للتعدية فهي وإن كانت صحيحة بحسب المعنى لكنها بعيدة بحسب اللفظ لعدم إثبات الهمزة بعد الألف والميم بعد الواو. (ثم قال: لعن الله أبا حنيفة كان يقول: قال علي، وقلت أنا، وقالت الصحابة، وقلت) قد عرفت احتمالاته. (ثم قال: أكنت تجلس إليه ؟) أي مائلا إليه، استفهم من ذلك لما رأى من ميله إلى القياس، فكأنه نشأ ذلك من مجالسته لأن الطبع يميل إلى طبع الجليس، أو ليظهر له ما نسبه إلى ذلك اللعين من قوله: " قال علي، وقلت أنا حق " لا افتراء عليه وإن كان (عليه السلام) منزها عن الافتراء، وهذا أنسب بقوله:


[ 263 ]

(فقلت: لا، ولكن هذا كلامه) بلغني ذلك بالنقل المتواتر أو بقول الثقات. (فقلت: أصلحك الله أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله) الناس بما يكتفون به في عهده ؟ قال: نعم) نعم تصديق لما سبقها من الاستفهام، حذفت الجملة واقيمت هي مقامها روما للاختصار، ثم زاد في الجواب بقوله: (وما يحتاجون إليه إلى يوم القيامة) للتنبيه على أنه (صلى الله عليه وآله) لم يكن مقصرا في حق من هو في أصلاب الآباء وأرحام الامهات إلى قيام الساعة، بل أتى بكل ما يحتاج إليه الناس في الأعصار الآتية كما أتى بكل ما يحتاجون إليه في عصره، لأن دينه دين واحد بالنسبة إلى الجميع، وهذه الجملة - أعني الموصول مع صلته - عطف على الموصول مع صلته المستفاد من قوله: نعم. (فقلت: فضاع من ذلك شئ ؟) حتى يكون الناس معذورين من طلبه. (فقال: لا هو عند أهله) وأهله هم الذين أمر الله تعالى عباده بالسؤال عنهم عند حيرة الجهالة بقوله: * (فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) * فوجب على العباد الرجوع إليهم والسؤال عنهم ليتخلصوا من الضلالة ولا يجوز لهم التمسك بالرأي والقياس وإلا لفروا من الجهل البسيط إلى الجهل المركب الذي هو من الأمراض المهلكة. * الأصل: 14 - عنه، عن محمد، عن يونس، عن أبان، عن أبي شيبة قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: " ضل علم ابن شبرمة عند الجامعة إملاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) وخط علي (عليه السلام) بيده إن الجامعة لم تدع لأحد كلاما، فيها علم الحلال والحرام، إن أصحاب القياس طلبوا العلم بالقياس فلم يزدادوا من الحق إلا بعدا، إن دين الله لا يصاب بالقياس ". * الشرح: (عنه، عن محمد، عن يونس، عن أبان، عن أبي شيبة قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: ضل علم ابن شبرمة عند الجامعة) سمي الحاصل بالقياس علما إما لأنه علم بالمعنى الأعم، أو لأنه علم بزعمه، وإلا فهو جهل مركب، والجهل المركب من أخس أنواع الجهل، يعني ضاع وهلك علمه عند الصحيفة الجامعة ولم يوجد فيها، وهذا كناية عن بطلان علمه، لأن ما لم يوجد فيها كان باطلا، وابن شبرمة كوفي، وكان قاضيا في سواد الكوفة للمنصور الدوانيقي، وكان يعمل بالقياس. (إملاء رسول الله (صلى الله عليه وآله)) في الصحاح: أمليت الكتاب املي وأمللته امله، لغتان جيدتان جاء بهما القرآن. وفي المغرب: الإملاء على الكاتب أصله إملال فقلب. (وخط علي (عليه السلام) بيده إن الجامعة لم تدع لأحد كلاما) حتى يقول برأيه واستحسانه في الشرع. (فيها علم الحلال والحرام) لم تترك شيئا مما تحتاج إليه الامة إلى يوم القيامة، وقد ذكر للجامعة


[ 264 ]

أربعة أوصاف للتنبيه على أن كل حكم لم يوجد فيها باطل افتراء على الله تعالى، وهذه الجامعة الآن عند صاحب الزمان صلوات الله وسلامه عليه وعلى آبائه الطاهرين، وستجئ (1) رواية المصنف بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " يا أبا محمد، إن عندنا الجامعة، وما يدريهم ما الجامعة ؟ قال: قلت: جعلت فداك، وما الجامعة ؟ قال: صحيفة طولها سبعون ذراعا (2) بذراع رسول الله (صلى الله عليه وآله) وإملائه من فلق فيه (3) وخط علي (عليه السلام) بيمينه فيها كل حلال وحرام وكل ما يحتاج إليه الناس حتى الأرش في الخدش وضرب بيده إلي فقال: تأذن لي يا أبا محمد ؟ قال: قلت: جعلت فداك، إنما أنا لك فاصنع ما شئت، قال: فغمزني بيده وقال: حتى أرش هذا ". الحديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة. (إن أصحاب القياس طلبوا العلم بالقياس فلم يزدادوا من الحق إلا بعدا) المراد بالحق حكم الله تعالى في كل قضية، والقائس لعدم علمه به بعيد عنه ولاعتقاده بخلافه على مقتضى رأيه وتخمينه يزداد بعده عنه، أو المراد به هو الله تعالى والقائس لعدم تمسكه بما جعله الله تعالى دليلا على أحكامه بعيد عنه بالمخالفة ولتمسكه برأيه وتخمينه المفضي إلى خلاف حكم الله تعالى يزداد بعده عنه بالمضادة. (إن دين الله لا يصاب بالقياس) لأن بناء القياس على جميع المتماثلات في الحكم وتفريق المتباينات فيه وفي الدين كثير من المتماثلات مختلفة في الأحكام وكثير من المتباينات مشتركة فيها، وأيضا جعل الله تعالى لدينه أعلاما وهداة بهم يهتدي الناس إليه، فمن تخلف عنهم وتمسك بعقله ورأيه يجره الرأي إلى دين الشيطان لخفاء دين الله وضيق مسالكه ولو أصابه نادرا لا يستحق الأجر ولا يكون آخذا بالدين في الحقيقة كما أن اليهود والنصارى لو أصابوا ما يوافق هذا الدين لا يستحقون الأجر ولا يكونون آخذين به.


1 - في كتاب الحجة - باب ذكر الصحيفة والجفر والجامعة، تحت رقم 1. 2 - هذا التقدير باعتبار أن أكثر الكتب في تلك الأزمنة كانت في قرطاس طويل يطوى طيا، كما في عهدنا في بعض الأدعية المجموعة، وكانت الصحيفة السجادية كذلك على ما يدل عليه مقدمتها. فإن قيل: سبعون ذراعا ليس كثيرا بالنسبة إلى جميع المسائل التي يسئل عنها، فإن الكتب المتداولة في زماننا بالقطع المعروف بالرحلي كل مائة صفحة منها يسع ما تسع الصحيفة المقدرة بسبعين. قلنا: على فرض صحة الحديث يحمل العدد على المقدار الوافي الكامل مثل قوله تعالى: * (إن تستغفر لهم سبعين مرة) *. (ش) 3 - أي أمره (صلى الله عليه وآله) شفاها وكتبه أمير المؤمنين (عليه السلام). (*)

[ 265 ]

* الأصل: 15 - محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن صفوان بن يحيى، عن عبد الرحمن بن الحجاج، عن أبان بن تغلب، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " إن السنة لا تقاس، ألا ترى أن المرأة تقضي صومها ولا تقضي صلاتها ؟ يا أبان، إن السنة إذا قيست محق الدين ". * الشرح: (محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن صفوان بن يحيى، عن عبد الرحمن بن الحجاج، عن أبان بن تغلب، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن السنة لا تقاس) أي الشريعة النبوية لا يجوز أن يقع فيها القياس، ولا تعرف به، وإنما تعرف بالرجوع إلى أهلها وأخذها منه. (ألا ترى أن المرأة تقضي صومها ولا تقضي صلواتها ؟) هذا دليل واضح ومؤيد شاف على بطلان القياس، إذ لو جاز القياس لاقتضى أن تقضي صلاتها كما تقضي صومها لاشتراكهما في كونهما عبادة فاتت عنها في وقت الأداء المانع مع أن الصلاة أفضل من الصوم، فقضاؤه يقتضي بالنظر إلى القوانين القياسية قضاءها بالطريق الأولى، وهذا دل على بطلان قول من قال: القياس بالأولوية حجة. وروى المصنف في كتاب الحيض عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير عن الحسن ابن راشد قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الحائض تقضي الصلاة ؟ قال: " لا "، قلت: تقضي الصوم ؟ قال: نعم "، قلت: من أين جاء هذا ؟ قال: " إن أول من قاس إبليس "، والمقصود من هذا التأييد بيان أن المتماثلات قد تكون مختلفة في الحكم وإذا ثبت هذا فكيف تحصل لمن قال بالقياس علم باتحادها في الحكم بمجرد التماثل ؟ (يا أبان، إن السنة إذا قيست محق الدين) محق على البناء للمفعول من المحق بمعنى الإبطال يقال: محقه يمحقه إذا أبطله، أو على البناء للفاعل من المحق بمعنى النقص والذهاب. وفي المغرب: المحق النقص وذهاب البركة، وقيل: هو أن يذهب الشئ كله حتى لا يرى منه أثر، ووجه كون القياس موجبا لمحق الدين ظاهر، لأن القائسين من عند أنفسهم يحدثون فيه أحكاما لمناسبات ومشابهات ظاهرة يجدونها وتلك المناسبات والمشابهات مختلفة بحسب اختلاف عقولهم وآرائهم فلا محالة تختلف تلك الأحكام القياسية ويخالف بعضها بعضا ويخالف جميعها الأحكام الإلهية ويورث ذلك تحريم ما حلل الله وتحليل ما حرم الله وإدخال ما ليس من الدين فيه وإخراج ما هو فيه عنه، ويستلزم ذلك حدوث دين آخر وبطلان دين الله. * الأصل: 16 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن عثمان بن عيسى قال: سألت أبا الحسن


[ 266 ]

موسى (عليه السلام) عن القياس ؟ فقال: " ما لكم والقياس ؟ إن الله لا يسأل كيف أحل وكيف حرم ". * الشرح: (عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن عثمان بن عيسى قال: سألت أبا الحسن موسى (عليه السلام) عن القياس) هل يجوز استعماله في الشرع أم لا ؟ (فقال: ما لكم والقياس ؟) أي ما تصنعون مع القياس ؟ ولا يجوز لكم استعماله. (إن الله لا يسأل كيف أحل وكيف حرم) أراد أن الله سبحانه وضع على عباده أحكاما من الحلال والحرام حسبما يراه لأسباب ومصالح وغايات أكثرها مخفية على عقول العباد والواجب عليهم هو إطاعته بالتزام تلك الأحكام والتلقي بقبولها والسماع من أهلها وليس لهم السؤال عن لميتها وكيفية أسبابها وتفاصيلها وطلب ذلك موضوع عنهم، لأنه لا يعرف عللها وأسبابها على تفاصيلها إلا هو ومن استضاء قلبه بنور النبوة والولاية، وأما أصحاب العقول الناقصة فهم معزولون عن معرفتها والإحاطة بها على أنهم لو عرفوا بعضها بالنص أو غيره لم يجز لهم التجاوز عن محله (1) وإجراء حكمه في غير ذلك المحل لجواز أن يكون لذلك الغير حكم آخر معلل في نفس الأمر بعلة اخرى لا يعرفونها، ولم يرد أن الأحكام ليس لها علل وأسباب حتى يسأل عنها كما هو مذهب الأشاعرة القائلين بأنه تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد من غير باعث وعلل تقتضيها لأن هذا باطل عند أهل الحق، والله أعلم. * الأصل: 17 - علي بن إبراهيم، عن هارون بن مسلم، عن مسعدة بن صدقة، قال: حدثني جعفر، عن أبيه (عليهما السلام) أن عليا صلوات الله عليه قال: " من نصب نفسه للقياس لم يزل دهره في التباس، ومن


1 - الغرض من النص هنا ليس ما يعلم فيه العلة بتصريح الشارع، إذ لا ريب في كونه حجة، بل المراد ما يرد في ألفاظ الروايات بحروف التعليق فإنها غير دالة على العلة، ولعله لا يوجد في الأحاديث النص على العلة بحيث يحصل منه العلم بالعلية أصلا، بل غايته التعليق في الجملة مثلا إذا قال (عليه السلام): " لا تجتنبوا من سؤر الهرة فإنها من الطوافات عليكم " لا يعلم منه أن علة طهارة الهرة كثرة طوافها على الناس، إذ قد يقتصر في أمثال هذه الامور على جزء العلة، ولو قال: " أعط درهما لهذا الرجل لأنه فقير " لا يجب منه إعطاء درهم لكل فقير، إذ للإعطاء علة مركبة من امور: أحدها كونه فقيرا، ولهذا أمثلة كثيرة في الفقه مثلا ورد فيمن صلى على غير القبلة سهوا أو جهلا بالموضوع أنه لا يعيد بعد الوقت معللا بقوله تعالى: * (أينما تولوا فثم وجه الله) *، ولو بنى على التعميم لزم منه عدم الإعادة مطلقا بل عدم وجوب الاستقبال، وورد أيضا في جواز الصلاة في السنجاب التعليل بأنها دويبة لا تأكل اللحم ولو عملنا بالتعميم لزم منه جواز الصلاة في كثير من الحيوانات. (ش) (*)

[ 267 ]

دان الله بالرأي لم يزل دهره في ارتماس "، قال: وقال أبو جعفر (عليه السلام): " من أفتى الناس برأيه فقد دان الله بما لا يعلم، ومن دان الله بما لا يعلم فقد ضاد الله حيث أحل وحرم فيما لا يعلم ". * الشرح: (علي بن إبراهيم، عن هارون بن مسلم، عن مسعدة بن صدقة، قال: حدثني جعفر، عن أبيه (عليهما السلام) أن عليا صلوات الله عليه قال: من نصب نفسه للقياس لم يزل دهره في التباس) فاعل لم يزل ضمير الموصول ودهره منصوب على الظرفية، أو فاعله دهره، والدهر الزمان الطويل، وإضافته إلى ضمير الموصول تفيد أن المراد به مدة عمره، والدهر أيضا الهمة والإرادة، والمعنى من أقام نفسه للعمل بالقياس واستخراج الأحكام به كان مدة عمره في التباس الجهالات واختلاط الشبهات، أو كانت همته وإرادته منحصرة في التباس وتخليط بين الحق والباطل وجمع شبهات، لأن القياس لا يفيد إلا جهلا مركبا. (ومن دان الله بالرأي لم يزل دهره في ارتماس) أي من أطاع الله وعبده بالرأي وتقرب إليه من جهة العمل بالأحكام القياسية والاستحسانات العقلية كان مدة عمره مرتمسا في بحار الظلمة والجهالة ومنغمسا في آجن الشبهة والضلالة التي تحيط بها كإحاطة الماء بالغائص باعتبار استخراج الأحكام بالقياس لأنه يلتبس عليه الامور ويشبه عليه الحق والباطل، والارتماس باعتبار العمل بتلك الأحكام. (قال: وقال أبو جعفر (عليه السلام): من أفتى الناس برأيه فقد دان الله بما لا يعلم) لأن الرأي لا يفيد علما ولا ظنا، أما الأول فظاهر، وأما الثاني فلأن كون حكم الله تعالى في الفرع ما أفاده الرأي أو غيره سيان وترجيح الأول بتحقق حكم الأصل في الفرع باطل، إذ لا طريق للعقول الناقصة إلى معرفة علل الأحكام الشرعية والمصالح الدينية ولو علم خصوص العلة فكونها مؤثرة بالاستقلال أو باشتراك خصوصية الأصل متساويان، وترجيح أحدهما على الآخر أشد من خرط القتاد (1). (ومن دان الله بما لا يعلم فقد ضاد الله حيث أحل وحرم فيما لا يعلم) حيث تعليل للمضادة وبيان لها، لأن من أحل وحرم في دين الله بمجرد هواه من غير علم فقد ضاد الله ونازعه في دينه فأحل ما حرم الله وحرم ما أحل الله، وينتج هاتان المقدمتان أن من أفتى الناس برأيه فقد ضاد الله بوضعه دينا آخر مخالفا لدين الله تعالى. * الأصل: 18 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسن بن علي بن يقطين، عن الحسين بن مياح،


1 - الخرط: هو قشر الورق عن الشجر اجتذابا بالكف. والقتاد: شجر له شوك أمثال الإبر. (*)

[ 268 ]

عن أبيه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " إن إبليس قاس نفسه بآدم فقال: خلقتني من نار وخلقته من طين، ولو قاس الجوهر الذي خلق الله منه آدم (عليه السلام) بالنار كان ذلك أكثر نورا وضياء من النار ". * الشرح: (محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسن بن علي بن يقطين، عن الحسين بن مياح) بفتح الميم وتشديد الياء المثناة من تحت والحاء المهملة أخيرا. (عن أبيه) هو وابنه ضعيفان غاليان في مذهبهما، قيل في بعض النسخ: الحسين بن جناح، عن أبيه، وهو جناح بن رزين بالجيم والنون من أصحاب أبي عبد الله (عليه السلام)، ذكره الشيخ في كتاب الرجال. (عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن إبليس) أبلس من رحمة الله أي يئس، ومنه سمي إبليس، وكان اسمه عزازيل. (قاس نفسه بآدم فقال: خلقتني من نار وخلقته من طين، ولو قاس الجوهر الذي خلق الله منه آدم (عليه السلام) بالنار كان ذلك أكثر نورا وضياء من النار) خالف إبليس النص الصريح حيث أمره الله تعالى بالسجود لآدم وعارضه بالقياس فقال: أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين، يعني أن النار المضيئة أشرف من الطين المظلم، فأنا أشرف وأفضل من آدم لأن تكوني من النار وتكونه من الطين (1)، والأشرف كيف يسجد للأخس ؟ والأفضل كيف يخدم المفضول ؟ بل العكس أولى، وغلط


1 - كان إبليس من الماديين يزعم أن شيئية الأشياء بمادتها، ويدل الحديث على مذهب أهل الحق وأن الشئ بصورته، وبيان ذلك: أن الشئ قد تتغير مادته مع بقاء صورته كالإنسان من أول عمره إلى آخره يتبدل مرارا وهو هو، وقد تتغير صورته مع بقاء مادته كجسد الإنسان بعد موته يصير دودا أو حشرات وليست هي الإنسان الأول، فالإنسان إنسان بصورته وإن كان له شرف وفضل على إبليس فذلك بصورته التي هي نفسه لا بمادته الطينية كما أن العقاقير والأدوية والمعادن لها خواص وآثار لصورتها لا لمادتها، فلو جزئت إلى عناصرها الأولية لم تكن لها تلك الخواص وقالوا: إن الخمر مركبة من الماء والكربون، أي الفحم بنسبة معلومة ولو شرب أحد الماء والكربون بتلك النسبة لم يسكر مع أن مادة الخمر فيها، ولو قطع يد السارق بعد سبع سنين لم يكن ظلما وإن كانت هذه اليد ليست تلك اليد السارقة قبل سبع سنين مادة، ولو عذب أحد الدود والحشرات المخلوقة من بدن العاصي لم يكن محقا مصيبا، لأن تلك الحشرات ليست هي الإنسان الذي عصى وإن كانت من مادته. وبالجملة: فالمادة يجب أن لا ينظر إليها في هذه الامور أصلا، واللعين إبليس كان على خلاف ذلك وهو ملهم الماديين. وفي هذا الحديث أيضا دلالة على أن النور يطلق على النور العقلي المجرد الذي هو روح الإنسان وعقله وهو أشد ضياء من وهم إبليس، ويزال منه استبعاد ما ورد في بعض أحاديث الآخرة من منبر النور والناقة من النور. وما يقال: كيف يمكن للإنسان أن يجلس على النور وتحمله الناقة من النور ؟ وكيف يحصر النور في صورة الجسم ؟ والجواب: كما يحصر النور في الإنسان وهو عقله. (ش) (*)

[ 269 ]

الخبيث في هذا القياس من وجوه: الأول: أنه استعمل القياس في مقابل النص، وهذا لا يجوز قطعا. الثاني: أنه قاس نفسه بآدم، وآدم مركب من جوهرين: أحدهما هذا البدن المحسوس المركب من العناصر الأربعة الغالب فيه الجزء الأرضي، وثانيهما الجوهر النوراني الروحاني المضاف إليه سبحانه، أعني النفس الناطقة التي هي إنسان حقيقي كما قال: * (فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين) *، وأخذ الجزء الأول وجعله مناطا لقياسه، فكان المناسب أن يقول: خلقتني من نار وخلقته من نار وغيرها وحينئذ لو قال: النار أشرف من المركب من النار وغيرها لتوجه المنع لجواز أن يكون للمركب آثار وخواص غير محصورة لا توجد في شئ من أجزائه التي أحدها النار. الثالث: ما أشار إليه (عليه السلام) وهو: أنه جعل ما ليس علة للمزية والشرف علة لهما، فإن استحقاق آدم للسجود له ليس لأجل هذا البدن المركب من الطين وغيره بل إنما هو للجزء الآخر الذي هو سر من أسرار الله ونور من أنواره، أعني نورية النفس المجردة، وهذا العمل منه إما لكون شأنه المغالطة والمخادعة كما هو الآن، أو لعدم علمه بحقيقة هذا الجوهر وآثاره وخواصه، إذ لو علمها وقاس هذا الجوهر الذي خلق الله منه آدم والروح الذي هو نور رباني تستضئ به السماوات والأرض وينكشف ما في عالم الملك والملكوت بالنار لعرف أن الفضل والكمال والشرف والجلال إنما هو لآدم لأن ذلك الجوهر أكثر نورا وأعظم ضياء من النار، إذ النار وإن كثر ضؤوها واشتد نورها لا يدرك بها إلا ما كان في فرسخ أو أقل مع أنها آلة لا شعور لها وبنور ذلك الجوهر يدرك ما في عالم المجردات والماديات والموجودات والمعدومات. وفي الحديث مناقشة لأن آخره وهو قوله: " فلو قاس الجوهر الذي خلق الله منه آدم بالنار " لا يناسب أوله، وهو قوله: " قاس نفسه بآدم "، إذ المناسب له أن يقال: فلو قاس الناس بالجوهر الذي خلق الله منه آدم فينبغي اعتبار القلب إما في الأول أو في الآخر، أو يقال: لما كان مقصود إبليس قياس الأشرف بالأخس ليظهر أن الأشرف أحق بالسجود له منه كان عليه أن يقيس جوهر آدم بالنار ليتضح أن آدم أولى بالسجود منه فبين العبارتين تناسب باعتبار أن المقيس فيهما هو الأشرف. * الأصل: 19 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى بن عبيد، عن يونس، عن حريز، عن زرارة، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الحلال والحرام ؟ فقال: " حلال محمد حلال أبدا إلى يوم القيامة، وحرامه حرام أبدا إلى يوم القيامة، لا يكون غيره ولا يجئ غيره ". وقال: قال علي (عليه السلام): " ما


[ 270 ]

أحد ابتدع بدعة إلا ترك بها سنة ". * الشرح: (علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى بن عبيد، عن يونس، عن حريز، عن زرارة، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الحلال والحرام ؟) الظاهر بالنظر إلى الجواب أنه سأل هل يجوز تغيير شئ منهما ؟ وهل جاء النبي بجميع ما تحتاج إليه الامة ؟ وهل يجوز إثبات شئ منهما بالقياس أم لا ؟ (فقال: حلال محمد حلال أبدا إلى يوم القيامة، وحرامه حرام أبدا إلى يوم القيامة) يعني ما كان حلاله وحرامه حين وفاته (صلى الله عليه وآله) فهو باق مستمر إلى يوم القيامة لا يتطرق إليه التغيير بوجه من الوجوه، وهذا لا ينافي ورود النسخ على بعض الأحكام في حال حياته. (لا يكون غيره) أي لا يوجد غيره مما يحتاج إليه بل كل ما يحتاجون إليه فهو ثابت في الشريعة. (ولا يجئ غيره) بالرأي والقياس، يعني لا يجوز إحداث شئ من الأحكام بالقياس. (وقال: قال علي (عليه السلام): ما أحد ابتدع بدعة إلا ترك بها سنة) لأن كل بدعة مخالفة لسنة فمبتدع البدعة تارك للسنة المقابلة لها، ومن جملة البدعة القياس لأن السنة ناطقة ببطلانه وفساده. * الأصل: 20 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن أحمد بن عبد الله العقيلي، عن عيسى بن عبد الله القرشي قال: دخل أبو حنيفة على أبي عبد الله (عليه السلام) فقال له: " يا أبا حنيفة، بلغني أنك تقيس ؟ " قال: نعم، قال: " لا تقس فإن أول من قاس إبليس حين قال: خلقتني من نار وخلقته من طين، فقاس ما بين النار والطين، ولو قاس نورية آدم بنورية النار عرف فضل ما بين النورين وصفاء أحدهما على الآخر ". * الشرح: (علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن أحمد بن عبد الله العقيلي) وهو أحمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله ابن محمد بن عقيل بن أبي طالب (عليه السلام). (عن عيسى بن عبد الله القرشي قال: دخل أبو حنيفة على أبي عبد الله (عليه السلام) فقال له: يا أبا حنيفة، بلغني أنك تقيس ؟) وتستخرج الأحكام بالرأي. (قال: نعم، قال: لا تقس فإن أول من قاس إبليس حين قال: خلقتني من نار وخلقته من طين، فقاس ما بين النار والطين) واعتقد لطف جوهره وشرافة أصله ونورانيته وكثافة جوهر آدم وخساسة أصله وظلمانيته ونظر إلى آدم على هذه الخلقة وهي هيئته التي وقع عليها خلقته الظاهرة، فلذلك فضل نفسه على آدم قياسا للفرع على الأصل في الشرف والخسة فكأنه قال: أنا ناري وهو طيني، والناري أفضل من الطيني، لأن النار أفضل من الطين.


[ 271 ]

(ولو قاس نورية آدم) التي كانت لجوهره العلوي الرباني الذي فاض عليه بأمره سبحانه. (بنورية النار) التي تكون منه ذلك المتعصب الخبيث. (عرف فضل ما بين النورين وصفاء أحدهما على الآخر) لأن نسبة الاولى إلى عالم التوحيد وعالم المعارف والمجردات كنسبة نور الشمس إلى عالم المحسوسات والماديات يضئ بها ذلك العالم كما يضئ بنور الشمس هذا العالم كيف لا وهي مشتقة من نور ربها يعرف ذلك من استغرق في بحار التوحيد وتزين بهيئة التجريد ؟ ونسبة الثانية - أعني نورية النار - إلى عالم الماديات كنسبة السراج إليها لا يضئ بها إلا ما حولها وإنما لم يتمسك اللعين بهذا القياس لقصور بصيرته عن إدراك ذلك النور ومعرفة حقيقته وآثاره، أو لأن طغيان حسده بعثه على التمسك بالشبهات الفاسدة والوهميات الكاذبة والمقدمات السفسطية التي لا تفيد إلا شكا وغرورا. فإن قلت: هذا الحديث والحديث السابق إنما يدلان على بطلان بعض أفراد القياس وهو ما وقع فيه الغلط باعتبار المادة والعلة لا على بطلان أصل القياس بالكلية فعلى هذا لو كانت مقدمات القياس صحيحة جاز التمسك به مثل ما وقع فيهما من القياس المقابل لقياس الشيطان (1). قلت: هذا إبطال لقياسه وبيان لوقوع الغلط فيه بقياس مقابل له على سبيل الالتزام فهو يفيد بطلان القياس بالكلية، لأن القايس لا يأمن من وقوع الغلط فيه كما وقع في قياس إبليس، ولو تمسك القايس بالعلة المنصوصة من الشارع فإن كان النص بالعلة على سبيل العموم لا يكون إثبات الحكم للجزئيات على سبيل قياس بعضها ببعض وإن كان في خصوص مادة لا يجوز إثبات الحكم


1 - وهنا شبهة قوية لأنا لم نر أحدا من فقهائنا إلا قد ألحق غير المنصوص به في الجملة بل قلما يتفق مسألة لا يحتاج فيها إلى التجاوز عن مورد النص يعلم ذلك المتتبع للفقه والتخلص منها بوجهين: الأول: أن يكون بالإجماع المركب أو عدم القول بالفصل. الثاني: أن يجعل بعض الملحقات من المداليل اللفظية عرفا مثلا يغسل الثوب من بول ما لا يؤكل لحمه يجعل تعبيرا عن النجاسة وإن كان يحتمل الغسل غير النجاسة، وأيضا ورد النص في الثوب لا في البدن والأواني وغيرها فيلحق غير الثوب بالثوب للإجماع ولو لم يكن ذلك أوجب الالتزام بأنهم كانوا يقيسون وهو باطل وإنما يشكل ذلك على الموهنين لأمر الإجماع كالسبزواري (رحمه الله)، وأما المعتنون بالإجماع المعتقدون لحصوله وتحصيله في أكثر المسائل كالشيخ الطوسي والسيد المرتضى وابن إدريس أو في كثير منها كالعلامة والشهيد والمحقق فلا يعضل عليهم الشبهة، وقد يطلق في عصرنا على مثل ذلك تنقيح المناط ويزعمون أنه غير القياس مع أنه من أردى أنواعه الذي لم يقل به بعض القائلين بالقياس كما مر ولم يحققوا مرادهم بالجملة إذا لم يكن التصريح بالعلة حجة في باب القياس كما قلنا كيف يكون استنباط العلة بالقرائن والتخمينات حجة وليس تنقيح المناط إلا ذلك ؟ فالصواب في موارد التجاوز عن النص التمسك بالإجماع المركب وما ذكرنا منه. (ش) (*)

[ 272 ]

في مادة اخرى بالقياس على تلك المادة، إذ لعل خصوص تلك المادة له مدخل في العلية. * الأصل: 21 - علي، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن قتيبة قال: سأل رجل أبا عبد الله (عليه السلام) عن مسألة فأجابه فيها، فقال الرجل: أرأيت إن كان كذا وكذا ما يكون القول فيها ؟ فقال له: مه، " ما أجبتك فيه من شئ فهو عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لسنا من (أرأيت) في شئ ". * الشرح: (علي، عن محمد بن عيسى) هو محمد بن عيسى بن يقطين من أصحاب الهادي والعسكري (عليهما السلام). (عن يونس) هو يونس بن عبد الرحمن مولى علي بن يقطين من رجال الكاظم والرضا (عليهما السلام). (عن قتيبة قال: سأل رجل أبا عبد الله (عليه السلام) عن مسألة فأجابه فيها، فقال الرجل: أرأيت إن كان كذا وكذا ما يكون القول فيها ؟) أرأيت وأرأيتك وأريتكما وأرأيتكم كلمة تقولها العرب عند الاستخبار بمعنى أخبرني وأخبراني وأخبروني، تاؤها مفتوحة أبدا، و " ما " للاستفهام بمعنى أي شئ وهو مبتدأ ويكون اسمه ضميرا يرجع إلى " ما " و " القول " بالنصب خبره، و " فيها " متعلق بالقول ويجوز رفع القول وجعله اسم يكون وفيها خبره مع إضمار العائد إلى " ما " وكأن الرجل بعدما أجابه (عليه السلام) عن مسألته قال له: أخبرني عن رأيك وسأل عن حكمها بقياسها إلى حكم مسألة اخرى. (فقال له: مه) زجره ومنعه عن هذا القول وأمره بالكف عنه، لأنه قول بالرأي والقياس. و " مه " كلمة بنيت على السكون وهو اسم سمي به الفعل ومعناه اكفف. (ما أجبتك فيه من شئ) " ما " موصولة، و " من " بيان له، وضمير فيه عائد إلى " ما " أو إلى ما سأله ذلك الرجل، والعائد إلى " ما " محذوف يعني الشئ الذي أجبتك فيه أو الشئ الذي أجبتك به فيما سألت عنه. (فهو عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)) لا عن الرأي والقياس حتى تأتي بصورة المناظرة بالقياس، وتقول: أخبرني ما رأيك في تلك المسألة. (لسنا من " أرأيت " في شئ) أي لسنا من أهل السؤال عنهم بأرأيت ووخامة أمره لأن أرأيت استخبار عن الرأي، ولسنا أهل البيت نقول بالرأي في شئ من الأحكام بل كل ما نقول فيها أخذناه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأخذه رسول الله عن جبرئيل (عليه السلام) وأخذه جبرئيل عن الله جل شأنه، وفيه مبالغة بليغة في البراءة عن الرأي وأصحابه وبطلان القياس لأنهم (عليهم السلام) إذا لم يقولوا في الشريعة بالرأي والقياس مع علمهم بعلل الأحكام وأسبابها ومصالحها فغيرهم أولى بذلك.


[ 273 ]

* الأصل: 22 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه مرسلا قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): " لا تتخذوا من دون الله وليجة فلا تكونوا مؤمنين فإن كل سبب ونسب وقرابة ووليجة وبدعة وشبهة منقطع إلا ما أثبته القرآن ". * الشرح: (عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه مرسلا قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): لا تتخذوا من دون الله وليجة فلا تكونوا مؤمنين) الولوج الدخول وقد ولج يلج ولوجا إذا دخل، وأولجه غيره، ووليجة الرجل بطانته ودخلاؤه وخاصته وكل من يعتمد عليه في أمر من الامور، يعني لا تتخذوا من دون الله معتمدا ومتكلا تعتمدون وتتكلون عليه في أمر الدنيا والدين وتقرير أحكام الشرع، فإن أخذتم ذلك لا تكونوا مؤمنين بالله ولا باليوم الآخر، إذ المؤمن لا يعتمد في شئ من ذلك على غير الله تعالى والاعتماد على الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) اعتماد على الله تعالى. (فإن كل سبب ونسب وقرابة ووليجة وبدعة وشبهة منقطع) السبب كل شئ يتوصل به إلى غيره، والنسب معروف، وانتسب فلان إلى أبيه أي اعتزى وتنسب أي ادعي أنه نسب، والقرابة والقربى الرحم، وهي في الأصل مصدر يقول: قرب خلاف بعد قربا وقربة قال في المغرب: قيل: القرب في المكان والقربة في المنزلة والقرابة والقربى في الرحم، وقولهم في الوقف لو قال: على قرابتي تناول الواحد والجمع صحيح لأنها في الأصل مصدر يقال: هو قرابتي وهم قرابتي، وأهل القرابة هم الذين يقدمون الأقرب فالأقرب من ذوي الأرحام وعطف القرابة على النسب إما للتفسير أو من قبيل عطف العام على الخاص إن خص النسب بالأب وعمت القرابة بالأب والام أو بالعكس إن خصت القرابة بالأقرب وعم النسب بالأقرب والأبعد، والبدعة كل ما خالف الكتاب والسنة، والشبهة كل باطل أخذه الوهم بصورة الحق وشبهه به، يعني أن جميع هذه الامور ومنافعها لكونها من الامور الإضافية المستندة إلى الطبائع الحيوانية والقوى الجسمانية والاعتبارات الوهمية والخيالية منقطعة بانقطاع الدنيا فانية بفناء الأبدان، فمن اعتمد عليها وركن إليها وغفل عن الحق بعد من الإيمان واستحق الخسران كما قال سبحانه: * (وعلى الله فليتوكل المؤمنون) *، وقال: * (فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون) *، وقال: * (يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فاولئك هم الخاسرون) *، وقال: * (يوم يفر المرء من أخيه * وامه وأبيه * وصاحبته وبنيه * لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه) *، وقال: * (ولا تتخذوا من دون الله وليجة) *، وقال: * (ومن أظلم ممن افترى على الله


[ 274 ]

كذبا) * إلى غير ذلك من الآيات الكريمة والروايات الصحيحة، فإن بعضها يدل على أنه ينبغي للمؤمن أن يتكل في اموره على الله تعالى لا على ما يتخيل أنه وسيلة لها من الأسباب، وبعضها يدل على أنه يجب عليه أن لا يفتخر بالقرابة والأنساب ولا يتعصب لها، وبعضها يدل على أن الاشتغال بالأهل والمال عن ذكر الله بعيد عن الصواب، وبعضها يدل على أنه ينبغي له أن لا يتخذ وليجة ومعتمدا من دون الله رب الأرباب، وبعضها يدل على أنه يجب عليه الاجتناب من الظلم والافتراء على الله تعالى في جميع الأبواب، ومن جملة ذلك الاعتماد في امور الدين على أهل الجور والطغيان والتمسك في الأحكام بالقياس، لأنه اتخاذ وليجة من دون الله وافتراء عليه بالكذب. (إلا ما أثبته القرآن) فإن كل ما أثبته القرآن من العقائد والأحكام والأخلاق والمواعظ والنصائح والزواجر ثابتة أبدا ومنافعها باقية غير منقطعة بانقطاع الدنيا وفناء الأبدان ومفارقة النفس عنها، فيجب على المؤمن الطالب للحياة الأبدية والخيرات الدائمة الاخروية والنجاة من العقوبات الروحانية والبدنية صرف العمر في تحصيل مطالبه ومقاصده من الكتاب وأهلة بالجملة: الإنسان في أول الفطرة خال عن الحالات كلها قابل مستعد لها، وتلك الحالات إما متعلقة بالامور الدنيوية فقط أو متعلقة بالامور الاخروية، ولكل منهما علل ومعدات ومنافع وغايات وعلل الاولى ومعداتها ومنافعها وغاياتها تنقطع بانقطاع الدنيا وفناء الأبدان كانقطاع حالاتها، سواء كانت تلك الامور جائزة أو باطلة، كالافتخار بالنسب والتعصب والتمسك بالبدعة والشبهة إلى غير ذلك من الامور الدنيوية المضرة في الآخرة. وعلل الثانية ومعداتها ومنافعها وغاياتها تستمر وتبقى أبد الأبد كبقاء الآخرة وعدم انقطاعها، وتلك الحالات وعللها ومنافعها كلها قد أثبتها القرآن فوجب على المؤمن الرجوع إليه، لكن بعضها ظاهر يدركه أرباب العقول الفاضلة وبعضها باطن لا يدركه إلا أصحاب العصمة (عليهم السلام)، فلا بد للمؤمن الطالب للحق من رفض الحالات الاولى كلها والتمسك بالحالات الثانية والرجوع فيما لا يعلم منها إلى أهل العلم، سواء كان من اصول العقائد أو فروعها (1).


1 - لكن يرجع في الاصول إلى العلماء للتعلم بالدليل وفي الفروع للتقليد. (ش) (*)

[ 275 ]

باب الرد الى الكتاب والسنة باب الرد إلى الكتاب والسنة وأنه ليس من الحلال والحرام وجميع ما يحتاج الناس إليه إلا وقد جاء فيه كتاب أو سنة (1) * الأصل: 1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن حديد، عن مرازم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " إن الله تبارك وتعالى أنزل في القرآن تبيان كل شئ حتى والله ما ترك الله شيئا يحتاج إليه العباد حتى لا يستطيع عبد يقول: لو كان هذا انزل في القرآن إلا وقد أنزله الله فيه ". * الشرح: (محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن حديد، عن مرازم) بضم الميم، ابن حكيم، ثقة. (عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله تبارك وتعالى أنزل في القرآن تبيان كل شئ) البيان الظهور، يقال: بان الشئ بيانا إذا ظهر، وأبنته أظهرته، والتبيان بالكسر مصدر للمبالغة في البيان، وهو شاذ، لأن المصادر على التفعال إنما تجئ بفتح التاء مثل التذكار والتكرار ولم تجئ بالكسر إلا التبيان والتلقاء. (حتى والله ما ترك الله شيئا يحتاج إليه العباد) من الأحكام وأسرار التوحيد وعلم الأخلاق والسياسات وغير ذلك مما ينفعهم في الدنيا والآخرة، ولكن بعضه ظاهر وبعضه باطن لا يعلمه إلا رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأوصياؤه (عليهم السلام)، وسائر الناس مأمورون بالرجوع إليهم والأخذ منهم. (حتى لا يستطيع عبد يقول: لو كان هذا انزل في القرآن) الاستطاعة القدرة على الشئ، " ولو " للتمني، وكونها للشرط على حذف الجزاء بعيد. (إلا وقد أنزله الله فيه) لأن الله تعالى عالم بمصالح العباد ومنافعهم وما يتم به نظامهم في النشأتين كلياته وجزئياته، والحكمة تقتضي عدم إهمال شئ منها فأنزل جميع ما يحتاجون إليه في تكميل


1 - هذا الباب رد على الإخباريين، أعني الجهلة منهم وحشوية أهل الحديث لأنه ترغيب في التمسك بالكتاب وهم ينهون عنه، والمراد بالسنة الحكم المعلوم بالتواتر من قول النبي (صلى الله عليه وآله) أو فعله وتقريره، وليس المراد منها المنقول بخبر الآحاد، فإن المنقول منه (صلى الله عليه وآله) كذلك مظنون وهو يساوي ما روي عن الأئمة (عليهم السلام) ولا يتعقل أن يجعل أحدهما دليلا على الآخر. (ش) (*)

[ 276 ]

الحقيقة البشرية (1) وبينه لرسوله (صلى الله عليه وآله) وأمره بالتبليغ لئلا يكون لهم على الله حجة والأولى أن يقرأ " إلا " بكسر الهمزة وتشديد اللام ليكون استثناء من مفعول يقول، وهو ذلك الكلام الدال على التمني إنزال ما احتيج إليه في القرآن ويفيد أن ذلك القول مقيد بحال الإنزال ولا يتحقق بدونه وإلا لزم عدم تحقق الإنزال وأنه خلاف الواقع أو استثناء من قوله شيئا في الكلام السابق، ولا يلزم الفصل بين القيد والمقيد بكلام أجنبي، لأن " حتى لا يستطيع " تمام للسابق وغاية له. نعم يلزم تقييد الترك بضده وهو الإنزال. ويمكن أن يقال: هذا التركيب مثل تركيب " لا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول " ففيه مبالغة وتأكيد في عدم ترك شئ مما يحتاج إليه العباد من وجهين: الأول: أن المطلوب وهو عدم تحقق الترك قد علق نقيضه وهو إثبات شئ من أفراد الترك بالمحال، وهو أن يكون الإنزال من أفراده والمعلق بالمحال محال، فعدم الترك متحقق. والثاني: أن الأصل في الاستثناء هو الاتصال فعند سماع الأداة قبل سماع ما بعدها يتوهم إخراج شئ من أفراد الترك، فإذا جاء بعدها ما ينافيه - أعني الإنزال - ورجع الاستثناء من الاتصال إلى الانقطاع جاء التأكيد لما فيه من الإشعار بأنه لم يجد شيئا من أفراد الترك حتى يستثنيه فرجع الأمر إلى استثناء الإنزال وتحويل الاتصال إلى الانقطاع، وقيل: ألا بفتح الهمزة وتخفيف اللام من حروف التنبيه والكلام اسئناف لتأكيد ما سبق. * الأصل: 2 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن حسين بن المنذر، عن عمر بن قيس، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سمعته يقول: " إن الله تبارك وتعالى لم يدع شيئا تحتاج إليه الامة إلا أنزله في كتابه وبينه لرسوله (صلى الله عليه وآله) وجعل لكل شئ حدا وجعل عليه دليلا يدل عليه، وجعل على من تعدى ذلك الحد حدا ". * الشرح: (علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن حسين بن المنذر، عن عمر بن قيس، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سمعته يقول: إن الله تبارك وتعالى لم يدع شيئا تحتاج إليه الامة إلا أنزله في كتابه) كما قال الله: * (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ) *، وقال: * (ما فرطنا في الكتاب


1 - وبالجملة: ما يحتاجون إليه في الدين وما يهتم به القايسون من فروع الدين فإن الناس ربما يتفق لهم مسائل لا يعرفون حكم الله فيه ويقولون: ليس هذا في الكتاب والسنة فيخترعون له حكما بالرأي والقياس والحديث يردعهم عن ذلك بأن كل شئ من أحكام الدين فهو يستنبط من الكتاب والسنة ولا يحتاج أحد إلى القياس، ليس هذا ناظرا إلى العلوم الكونية. (ش) (*)

[ 277 ]

من شئ) *، فقد أنزل جميع ما يحتاجون إليه من امور الدين والدنيا مجملا ومفصلا، محكما ومتشابها. (وبينه لرسوله (صلى الله عليه وآله)) ثم أمره أن يعلمه عليا (عليه السلام)، ثم انتقل من علي (عليه السلام) إلى أولاده الطاهرين، فمن علم شيئا من ذلك فقد أخذه من مشكاة النبوة، ومن لم يعلمه وجب عليه الرجوع إليهم، فإن لم يقدر وجب عليه السكوت فإن السكوت عند حيرة الجهالة خير من الاقتحام في مهاوي الضلالة. (وجعل لكل شئ حدا) يعني جعل لكل شئ مما يحتاجون إليه من الأحكام والأخلاق والأعمال والعدل المتوسط (1) بين الإفراط والتفريط، وغير ذلك من أحوال المبدأ والمعاد والحشر والنشر حدا معينا ووضعا مقدرا لا يجوز التجاوز عنه والحد في الأصل المنع وفعله من باب طلب ثم سمي الحاجز بين الشيئين حدا تسمية بالمصدر ومنه حدود الحرم وحدود الدار وقولهم لحقيقة الشئ: حد لأنه جامع مانع ومنه أيضا حدود الله تعالى للأحكام الشرعية، لأنها مانعة من التجاوز عنها إلى ما ورائها * (تلك حدود الله فلا تعتدوها) *. (وجعل عليه دليلا يدل عليه) يعرفه العالم بالنصوص الإلهية والبراهين الربانية والرموز القرآنية ولا يعلم جميع ذلك إلا الأوصياء (عليهم السلام)، فمن اعتمد في شئ من ذلك على رأيه فقد ضل وأضل، ويحتمل أن يراد بالدليل النبي والأئمة صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين، وقيل: المقصود أنه جعل لكل من الحقائق العلمية والأحكام الشرعية حدا، أي معرفا تاما يوجب تصوره بكنهه أو بوجه يمتاز عن جميع ما سواه وجعل عليه دليلا وبرهانا يوجب التصديق بوجوده في نفسه، فالحد وما يجري مجراه في التصورات والدليل ما يجري مجراه في التصديقات. (وجعل على من تعدى ذلك الحد حدا) من العقوبة ولم يترك تحديد عقوبة المتعدي حتى ذكر


1 - هذا الذي ذكره الشارح يدفع كثيرا من الأوهام الباطلة، وما يتشكك فيه الجهال من أنه ليس جميع العلوم والصنائع والاختراعات في القرآن، ففي أي موضع منه يوجد كون زوايا المثلث مساوية لقائمتين مثلا ؟ وفي أي موضع منه علاج السل والسرطان وعدد العروق والأعصاب ؟ والجواب: أن الغرض من بعث الأنبياء تعليم التوحيد والمعارف الإلهية وبيان الحشر والنشر وتهذيب النفس ووكل الله لسائر العلوم والصنائع قوما آخرين والقرآن والسنة جامعان لأغراض الدين وما بعث له الأنبياء من المعارف الإلهية، فإن اشير فيها إلى علم آخر فهو بالقصد الثاني على سبيل الإعجاز ولو كانوا مبعوثين لتلك العلوم لوجد في القرآن والسنة تفاصيل علم الطب والطبيعة لا بالإشارة التي لا يتنبه له أحد ولو كانت عنايتهم بعلوم الدنيا لم يكن لهم هذا الشرف والرتبة والتقرب إلى الله تعالى كما ليس لمخترعي الصنائع ومكتشفي العلوم، ولو كان شرف الكتاب السماوي بإشارة مجملة إلى مسألة طبية أو حكم رياضي كان كتب ارشميدس وجالينوس أشرف منه لأنها تشتمل على آلاف من تلك المسائل مفصلة مبينة فثبت من ذلك أن هذه العلوم الدنيوية دون شأن الأنبياء والأئمة (عليهم السلام). (ش) (*)

[ 278 ]

حد الخدش واللطم وأنواع الضرب والشتم ونتف الشعر وأمثال ذلك، ولا يعرف حقيقة تلك الحدود وكميتها وكيفيتها ومواضعها إلا الراسخون في العلم، وقيل: جعل على المتعدي حدا آخر غير الحدود المتعلقة بالحقيقة الإنسانية، إذ يخرج الإنسان بسبب التعدي عن حدود الله عن حدود الحقيقة الإنسانية إلى حدود البهيمية والسبعية وغيرها. * الأصل: 3 - علي، عن محمد، عن يونس، عن أبان، عن سليمان بن هارون قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: " ما خلق الله حلالا ولا حراما إلا وله حد كحد الدار، فما كان من الطريق فهو من الطريق، وما كان من الدار فهو من الدار، حتى أرش الخدش فما سواه والجلدة ونصف الجلدة ". * الشرح: (علي، عن محمد، عن يونس) المراد بعلي علي بن إبراهيم، وبمحمد: محمد بن عيسى، وفي بعض النسخ: " علي بن محمد، عن يونس "، قيل: هذا ليس بصحيح، فإن علي بن محمد الذي يجعله المصنف صدر السند لم يدرك يونس ولا روى عنه. (عن أبان، عن سليمان بن هارون) وهو مشترك بين ثلاثة كلهم من أصحاب الصادق (عليه السلام) أحدهم الأزدي الكوفي، والثاني العجلي، وهو من أصحاب الباقر (عليه السلام) أيضا، والثالث النخعي. وقال في الخلاصة: إن النخعي ضعيف جدا. (قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: ما خلق الله حلالا ولا حراما إلا وله حد) لأن الله تعالى عالم بحقائق الأشياء ومقاديرها وخصوصياتها ومنافعها ومضارها وبمصالح العباد، فجعل بعض تلك الأشياء المعلومة المعينة حلالا وبعضها حراما تكميلا لنظامهم وتتميما لمصالحهم وجعل على الحلال والحرام دليلا يدل عليه وحدا معينا لا يجوز التخطي عنه، وبين جميع ذلك لرسوله (صلى الله عليه وآله) وأمر الناس باتباعه والأخذ منه والسماع عنه ولم يجعل شيئا غير معين حلالا ولا حراما ولم يجعل تعيينه إلى آراء العباد كما ذهب إليه الفرق المبتدعة وقالوا: ليس لله تعالى حكم في الواقع وإنما الحكم ما استخرجه المجتهد برأيه. وهذا باطل قطعا، لأنه يستلزم فساد النظام وتبدل الأحكام واختلاف الملل وفشو الجور بحسب اختلاف الآراء وتفاوت الأفهام، ويوجب أن يكون الشئ واجبا وحراما ومكروها ومباحا، ومن اعتقد به وذهب إليه فقد افترى على الله كذبا. قيل: وإنما قال: " خلق " ولم يقل: " جعل " للإشعار بأن حسن الأفعال وقبحها أمر ذاتي لها ليس بجعل جاعل، فالحلال حلال بالذات وله حد ذاتي والحرام حرام بالذات وله حد ذاتي، وإنما صنع الباري إيجاد الأشياء وإفاضة الوجود


[ 279 ]

من دون تصييرها وجعلها إياها، إذ الذاتي للشئ لا يعلل (1). (كحد الدار، فما كان من الطريق فهو من الطريق، وما كان من الدار فهو من الدار) تشبيه معقول بمحسوس لزيادة الايضاح والتقرير، يعني أن الله سبحانه بنى لعباده مدينة الشرع، وبين حدودها وعين طريقها وليس لأحد تغيير تلك الحدود والدخول فيها من غير هذا الطريق، وفيه إيماء إلى قوله (صلى الله عليه وآله): " أنا مدينة العلم وعلي بابها " (2)، كما أن صاحب الدار بين حدودها وعين طريقها وليس لأحد غيره تغيير تلك الحدود والدخول فيها من غير طريقها كما قال عز شأنه: * (وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها... وأتوا البيوت من أبوابها) *. لا يقال: حمل الطريق والدار على الموصول غير مفيد لظهور أن الطريق طريق والدار دار. لأنا نقول: المقصود أن ما كان مأخوذا للطريق ينبغي أن يكون طريقا مستطرقا ولاغيره وما كان مأخوذا للدار والسكنى ينبغي أن يكون كذلك لا غيره، وفيه رد على من تصرف في الشرع بعقله من جهة القياس أو الترجيح أو الاستحسان أو غير ذلك، فإن ذلك التصرف يوجب تغيير الحدود ويجعل الحلال حراما والحرام حلالا، ثم أكد (عليه السلام) ما هو بصدده من أنه سبحانه بين جميع الأحكام وعين حدودها بذكر بعض الأحكام الصغار. (حتى أرش الخدش) الأرش دية الجراحات، والجمع اروش، مثل فرش وفروش، والخدش مصدر، خدش وجهه إذا ظفره فأدماه، أو لم يدمه، ثم سمي به الأثر، ولهذا يجمع على خدوش. (فما سواه) عطف على الخدش أي حتى أرش ما سوى الخدش مما هو دونه أو فوقه. (والجلدة ونصف الجلدة) عطف على أرش الخدش والجلد والجلدة بفتح الجيم وسكون اللام ضرب الجلد بكسر الجيم، يقال: جلده الحد أي ضربه وأصابه جلدة، وفيه مبالغة على أن الله تعالى بين جميع ما يحتاج إليه العباد في الكتاب ولكن الكتاب بحر عميق ولا يدرك ما في قعره إلا الغواصون في بحار المعرفة. * الأصل: 4 - علي، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن حماد، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سمعته يقول: " ما من شئ إلا وفيه كتاب أو سنة ".


1 - إشارة إلى ما قاله أهل المعقول من أن المجعول هو الماهية لا الوجود كما قال الرئيس: ما جعل الله المشمشة مشمشة بل أوجدها. (ش) 2 - أخرجه العقيلي وابن عدي والطبراني في المسند الكبير والحاكم في المستدرك ج 3، ص 126 من حديث ابن عباس وجابر بن عبد الله. (*)

[ 280 ]

* الشرح: (علي، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن حماد، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سمعته يقول: ما من شئ إلا وفيه كتاب أو سنة) ولا يعرف ذلك إلا بأنوار عقلية وموهبة ربانية وأعمال بدنية ومجاهدات نفسانية ورياضات فكرية واستعدادات فطرية موجبة لانكشاف حقائق الأشياء وصور كلياتها وجزئياتها ومبادئها وغاياتها وظواهرها وبواطنها (1) كما هو طريقة الصديقين الرافضين عن ذواتهم جلابيب إلهيات البشرية المانعة عن مشاهدة أنوار الحضرة الربوبية، فخذوا أيها الناس ما تحتاجون إليه من معالم دينكم وغيرها من الكتاب والسنة، وارجعوا إلى أهلها إن كنتم لا تعلمون، ولا تقولوا مالا تعرفون ولا تتسرعوا إلى ما تفترون، فإن أكثر الحق فيما تنكرون ومن أنكر الحق إذا خالف طبعه أو نبا عنه فهمه أو سبق إليه اعتقاد ضده بشبهة أو تقليد أو قياس أو استحسان فهو من الخاسرين الذين خسروا أنفسهم في الدنيا والآخرة فما له في الآخرة من ولي ولا نصير.


1 - هذا الكلام تعميم للعلوم المستنبطة من الكتاب والسنة بالنسبة إلى ما سبق، فإنه خص العلم سابقا بالعلوم الدينية وجعله هنا انكشاف حقائق الأشياء وصور كلياتها وجزئياتها، وهذا يخالفه بحسب ما يتراءى في بادئ النظر، والحق عدم المنافاة بين الكلامين. بيان ذلك: أن العلم إما جزئي، وإما كلي، ولا كمال في معرفة الجزئي من حيث أنه جزئي، ألا ترى أنه لا يهتم أحد بمعرفة أفراد الإنسان والنبات وعمدتهم معرفة الكلي، وقد يعتنى بالجزئي من حيث إنه يفيد فائدة كلية كعلم الرجال والتواريخ ومعرفة النجوم الثوابت، ثم الكليات مترتبة والعلم الكلي هو النظر في أصل الوجود مبدؤه وصفاته وغايته، فإذا عرفت ذلك كليا استغنى عن الجزئيات كما أن الطبيب إذا عرف أجزاء بدن الإنسان وكليات أمراضه وعلاجه استغنى عن تتبع الأفراد ولا كمال له في معرفتها، وكذلك من عرف الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد عرف حقيقة كل شئ وأنه مخلوق له وخلق لغاية وظاهرها ماهيتها وباطنها تعلقها بالمبدأ الواجب، وأما التفاصيل والجزئيات من علوم الدنيا فخارج عن مقصود الكتاب إلا أن الأولياء كلما كان علمهم بالواجب أتم كان علمهم بمخلوقاته أكثر وأعم، فإن العلم بالعلة يستلزم العلم بالمعلول، ألا ترى أنك إذا علمت زيدا جوادا غنيا علمت أنه يكثر منه الخيرات، وإذا عرفت أن بجنبه أهل بيت فقراء وهو عالم بهم أنه يعطيهم ويغنيهم عن المسألة، وإذا علمت عمرا ملحدا زنديقا علمت أنه لا يصوم رمضان في شدة الحر، كذلك من عرف الله تعالى عرف أفعاله من حيث إنه فعله ويختلف ذلك باختلاف المعرفة، ولا يبعد أن يكون بعض الأولياء عارفا بما كان وما يكون في الجملة باختلاف مراتبهم فعلا وقوة، فإن ادعى أحد أن ذلك حاصل لهم بالقرآن لم يكن مجازفا، إذ حصل لهم المعرفة بالله من القرآن. وبالجملة استفادة العلم بجميع حقائق الأشياء من القرآن خاص بالأولياء. (ش) (*)

[ 281 ]

* الأصل: 5 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن حماد، عن عبد الله بن سنان، عن أبي الجارود قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): " إذا حدثتكم بشئ فاسألوني من كتاب الله " ثم قال في بعض حديثه: " إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) نهى عن القيل والقال، وفساد المال، وكثرة السؤال "، فقيل له: يابن رسول الله، أين هذا من كتاب الله ؟ قال: " فإن الله عز وجل يقول: * (لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس) *، وقال: * (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما) *، وقال: * (لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم) * ". * الشرح: (علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن حماد، عن عبد الله بن سنان، عن أبي الجارود قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): إذا حدثتكم بشئ فاسألوني من كتاب الله) أي فاسألوني عن موضعه ومأخذه من كتاب الله، وفيه تنبيه على أن كل شئ كان أو يكون أو كائن فهو في القرآن، لأنه برهان كل علم ودليل كل شئ ونور كل حق وصراط كل غائب وشاهد كل حكم وضياء كل صدق، فكل فعل لا يطابقه فهو باطل، وكل قول لا يوافقه فهو كاذب، وكل من تمسك برأيه فهو خاسر. (ثم قال في بعض حديثه: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) نهى عن القيل والقال) وهما إما فعلان ماضيان خاليان عن الضمير جاريان مجرى الأسماء مستحقان للإعراب وإدخال حرف التعريف عليهما، أو مصدران يقال: قلت قولا وقيلا وقالا وقالة، والمقصود أنه نهى [ (عليه السلام) ] عن فضول ما يتحدث به المتحدثون وزوائد ما يتكلم به المتجالسون مثل الخوض في أخبار الناس وحكاية أقوالهم وأفعالهم ونقل أحداث الزمان ووقائعها مما لا يجدي نفعا ولا يورث حكمة، فإن ذلك يوجب فساد القلب ورينه وميله إلى أمثال تلك المزخرفات، واشتغاله عن تعلم ما لا بد منه من العلوم الدينية، والمعارف اليقينية. وقيل: القال الابتداء والقيل الجواب. وقيل: نهى عن كثر الكلام مبتدئا ومجيبا، وقيل: نهى عن الأقوال التي توقع الخصومة بين الناس بما يحكى لبعض عن بعض، وقيل: نهى عن المناظرة في العلم والمجادلة في البحث، فإن المناظرة لقصد الغلبة في العلم والمفاخرة بالفضل تورث النفاق والعداوة والأخلاق المهلكة والذنوب المردية والآفات الكثيرة، والأحسن التعميم وإرادة جميع هذه الامور فإن كلها مذموم عقلا ونقلا.


[ 282 ]

(وفساد المال) أي نهى عن فعل ما يوجب فساده مثل صرفه في غير الجهات المشروعة وترك ضبطه وحفظه وإعطاء الدين دون إشهاد أو وثيقة بغير الموثوق به وإبداعه عند الخائن وأمثال ذلك. وأما تحسين الطعام والثياب وتكثيرها وتوسيع الدار فليس من إفساد المال للموسع عليه وإفساد المال مذموم قطعا، لأن المال الحلال مكسبه ضيق جدا وفساده يوجب هلاك النفس وتضييع العيال أو التعرض لما في أيدي الناس، ولأن الله تعالى إنما أعطاه ليصرف في وجوه البر وأبواب الخير، فمن أفسده كان كمن ضاد الحق وعاداه. وبالجملة في حفظه مصلحة للدين والدنيا. (وكثرة السؤال) عن امور لا يحتاجون إليها، سواء كانت من الامور الدنيوية أو الدينية، كما مر أن مثل العالم مثل النخلة تنتظرها حتى يسقط عليك منها شئ، وفيه حث على ترك الإلحاح في السؤال، وإن رجلا سأل علي بن الحسين (عليهما السلام) عن مسائل فأجاب ثم عاد ليسأل عن مثلها فقال (عليه السلام): " مكتوب في الإنجيل لا تطلبوا علم ما لا تعلمون، ولما تعملوا بما علمتم " (1)، وقد نقل أن بعض أهل العلم سئل عن شئ فأجابه فقيل له: فإن كان كذا فأجابه، ثم قيل له: فإن كان كذا فقال: هذه سلسلة متصلة باخرى إنما قال ذلك لكراهة الاستكثار في الاستفسار وذلك مذموم خصوصا من الجاهل الذي لا يقدر على إدراك حقائق الأشياء كما هي ومعرفة اصول العقائد كما ينبغي وفهم غوامض المسائل من أحوال المبدأ والمعاد والجبر والقدر والتفويض وأمثال ذلك، فإن ولوغه في ذلك يوجب حيرته وضلالته وكفره (2)، والأسلم له أن يكون من أهل التسليم والانقياد ويرشد إليه ما رواه مسلم عنه (صلى الله عليه وآله) قال: " ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم " (3)، وذلك لا ينافي الحث على


1 - تقدم ضمن الحديث 4 من باب استعمال العلم. 2 - وذلك لأن جميع المسائل ليس مما يفهمه جميع الناس، بل منها ما لا يناله أحد إلا الأولياء والأنبياء، فما يتبادر إلى ذهن بعض الجهال من أن اصول العقائد جميعها يجب أن يكون مما يفهمه العامة وأن ما لا يعرفونه فهو باطل غلط، فكم من مسألة يحرم على الجاهل التعرض لها ويحرم على العالم بيانها للعوام إلا إذا اطمئن بقدرة المستمع على امتياز مدركات الوهم من مدركات العقل أو يمرنه أولا ويعد ذهنه ثم يلقيه إليه، مثلا لا يعرف العامي الفرق بين الحادث الذاتي والحادث الزماني، والمحال العقلي والمحال العادي، والنوادر ولا يفرق بين كون الشئ مما لا يدركه العقل وكونه مما يدرك استحالته، وهكذا وقد رأينا جماعة يحكمون ببطلان آراء بأنهم لا يفهمونه وأنه بعيد عن أذهان العامة، وأنه لا يفيد العوام ولا يعلمون أنه لا يجوز حرمان القادر لعجز العاجز. (ش) 3 - صحيح مسلم: ج 7، ص 91. (*)

[ 283 ]

السؤال كما في بعض الروايات مثل ما روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) حين سئل عن مجدور أصابته جنابة فغسلوه فمات قال: " قتلوه ألا سألوا فإن دواء العي السؤال " (1)، وعنه (عليه السلام) أيضا: " إنما يهلك الناس لأنهم لا يسألون " (2)، لأن السؤال عن القدر الضروري مطلوب وعن الزائد على ذلك مذموم منهي عنه، لأنه موجب لملال العالم وتضجره ومقتض لتضييع السائل عمره فيما لا يعنيه بل يضره، وفي قصة موسى والخضر (عليهما السلام) تنبيه على المنع من السؤال قبل أوانه إذ قال: * (فإن اتبعتني فلا تسألني عن شئ حتى احدث لك منه ذكرا) * فلما وقع السؤال مرارا من غير موقعه لم يصبر عنه حتى قال: * (هذا فراق بيني وبينك) *، وقد وقع النهي عن كثرة السؤال من طرق العامة أيضا قال عياض: وقيل: يعني بكثرة السؤال التنطع في المسائل وكثرة السؤال عما لا ينفع ولا تدعو الحاجة إليه وسؤال الناس أموالكم وكان السلف ينهون عنهم، وقد يراد بها سؤال الناس له (صلى الله عليه وآله) عما لم يؤذن في السؤال عنه لقوله تعالى: * (لا تسألوا عن أشياء...) * الآية. وفي الصحيح: " أعظم الناس جرما من سأل عن شئ لم يحرم فحرم من أجل مسألته "، وقد يعني بها سؤال الرجل عن حاله ونسبه وتفاصيل أمره فيدخل بذلك الحرج عليه إما بكشف ما لا يرد كشفه لضرورة السؤال وبالكذب إن ستر ذلك عنه وأخبر بخلافه، وبالخفاء وسوء الأدب إن ترك الجواب عنه، انتهى كلامه. (فقيل له: يابن رسول الله، أين هذا من كتاب الله ؟) سأل سائل عن مدارك هذه الامور الثلاثة ومواضعها من كتاب الله تعالى تعلما وتفهما لا تعنتا لقوله (عليه السلام): " إذا حدثتكم بشئ فاسألوني من كتاب الله ". (قال: فإن الله عز وجل يقول: * (لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس) *) هذا مأخذ للأول. والنجو السر بين الاثنين، يقال: نجوته نجوا، أي ساررته، وكذلك ناجيته مناجاة وانتجى القوم وتناجوا أي تساروا وانتجيته أيضا إذا خصصته بمناجاتك. والاسم النجوى والنجي على فعيل، والمناجي المخاطب للإنسان والمحدث له، والنجوى وإن كان إسما من النجو لكنه قد يقع موقعه ويستعمل مصدرا، والمعروف كل ما يستحسنه الشرع ولا ينكره العقل، وقد فسر هاهنا بالقرض وإغاثة الملهوف وصدقة التطوع وغير ذلك، قيل: استثناء الموصول من النجوى غير واضح، واجيب عنه بوجوه ثلاثة:


1 - و (4) تقدما في باب سؤال العالم وتذاكره. (*)

[ 284 ]

الأول: أن المراد بالنجوى المناجي أي لا خير في كثير من مناجيهم إلا من أمر بصدقة. الثاني أن المضاف محذوف من جانب الاستثناء والتقدير إلا نجوى من أمر بصدقة. الثالث: أن الاستثناء منقطع بمعنى ولكن من أمر بصدقة ففي نجواه الخير. (وقال: * (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم) * نهى الأولياء عن أن يؤتوا السفهاء الذين لا رشد لهم أموالهم فينفقوها فيما لا ينبغي ويضيعوها ويفسدوها، وإنما أضاف الأموال إلى الأولياء لأنها في تصرفهم وتحت ولايتهم وهو الملائم للآيات المتقدمة والمتأخرة، وقيل: نهى كل أحد أن يعمد إلى ما خوله الله من المال فيعطي امرأته وأولاده ثم ينظر إلى أيديهم، وإنما سماهم سفهاء استخفافا بعقلهم واستهجانا لجعلهم قواما على أنفسهم وهو أوفق. (* (التي جعل الله لكم قياما) *) أي تقومون بها وتنتعشون بها، وعلى الأول يأول بأنها التي من جنس ما جعل الله لكم قياما، سمي ما به القيام قياما للمبالغة، كذا في تفسير القاضي واقتصر صاحب الكشاف على الأول. وبالجملة فيها نهي عن إفساد المال وإضاعته، سواء كان له أو لغيره. وقال في الكشاف: وكان السلف يقولون: المال سلاح المؤمن، ولئن أترك مالا يحاسبني الله عليه خير من الاحتياج إلى الناس، وكانوا يقولون: اتجروا واكتسبوا فإنكم في زمان إذا احتاج أحدكم كان أول ما يأكل دينه، وربما رأوا رجلا في جنازة فقالوا له: اذهب إلى دكانك. (وقال: * (لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم) *) الجملة الشرطية صفة لأشياء، والمعنى لا تسألوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن تكاليف شاقة عليكم إن حكم بها عليكم وكلفكم بها تغمكم وتشق عليكم وتندموا على السؤال عنها، وذلك نحو ما رواه العامة أنه لما نزل * (ولله على الناس حج البيت) * قال سراقة بن مالك: أكل عام ؟ فأعرض عنه رسول الله (عليه السلام) حتى أعاد ثلاثا فقال: " لا، ويحك، ما يؤمنك أن أقول: نعم، والله لو قلت نعم لوجبت ولو وجبت ما استطعتم ولو تركتم لكفرتم فاتركوني ما تركتكم " (1)، ونحو ما اتفق لبني إسرائيل في البقرة حيث سألوا عنها مرارا حتى ضيقوا على أنفسهم (2) وكذا لا تسألوا عن أسباب الامور التي لا تعلمون وجه صحتها ولا تنكروها كما وقع لموسى (عليه السلام) حيث سأل الخضر (عليه السلام) مرارا حتى استوجب ذلك المفارقة بينهما ومن طريق العامة


1 - أخرجه عبد بن حميد عن الحسن كما في الدر المنثور ج 2، ص 55 وص 335. 2 - هذا مما يستدل به على البراءة في الشبهات الحكمية مما يكون بيانه على عهدة الشارع، فإذا سكت عن حكم دل على عدم ذلك الحكم، وأما الشبهات الموضوعية التي ليس بيانها عليه فيستدل بأدلة اخرى، وبالجملة هذا من الشارح ينافي ما سبق منه من الحكم بالاحتياط فيما يحتمل الحرمة. (ش) (*)

[ 285 ]

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " رحم الله موسى بن عمران لوددت أن لو صبر ولو صبر لرأى عجائب كثيرة " (1)، وكذا لا تسألوا عن غير ذلك من منازلكم في الآخرة ومن أنسابكم وغيرهما مما لا يعنيكم وذلك نحو ما روي عن ابن عباس أنه (عليه السلام) كان يخطب ذات يوم غضبان من كثرة ما يسألون عنه مما لا يعنيهم فقال: " سلوني لا اسأل عن شئ إلا وأجبت " فقال رجل: أين أبي ؟ فقال: في النار، وقال عبد الله بن حذافة وكان يطعن في نسبه ويدعى لغير أبيه: من أبي ؟ قال: " أبوك حذافة بن قيس "، وقال آخر: من أبي ؟ قال: " أبوك فلان الراعي " فنزلت الآية (2)، وقد أشار إليه سيد الوصيين أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: " إن الله افترض عليكم فرائض فلا تضيعوها وحد لكم حدودا فلا تعتدوها ونهاكم عن أشياء فلا تنتهكوها وسكت لكم عن أشياء ولم يدعها نسيانا فلا تتكلفوها " (3). وقال بعض أصحابنا: يندرج في هذا النهي تكلم أكثر المتكلمين الذين يخوضون في البحث عن صفات الله وأفعاله وآياته وكلماته بمجرد اعتقاده ورأيه أو باتباعه من اشتهر في هذه الصنعة (4) فإن من أراد أن يعرف خواص أسرار المبدأ والمعاد بهذه الصيغة المسماة بعلم الكلام فهو في خطر عظيم،


1 - راجع تفسير ابن كثير ج 3، ص 97، نقله عن ابن جرير من حديث ابي بن كعب بنحوه. 2 - أخرج نحوه ابن مردويه كما في الدر المنثور ج 2، ص 335. 3 - النهج - قسم الحكم والمواعظ: تحت رقم 105. 4 - طريق العلم باصول الدين إما كلياتها مجملا كالتوحيد وصفات الواجب والنبوة وصدق النبي ودلالة المعجزة عليه وأمثال ذلك فهو العقل لا غيره، وأما التفاصيل والكيفيات ودفع الشبهات فقد يتمسك فيها بالعقل، وقد يتمسك بنصوص من ثبت حجية قوله والعقل من حجج الرحمن، ودل على ذلك ما سبق في الكتاب الأول من الآيات والأحاديث فليس ذم علم الكلام من جهة أخذه من العقل كما يتوهمه أهل الحديث وليس أيضا ترغيبا في أخذ الاصول التي يعتبر فيها اليقين من الأحاديث المظنونة إذ لا يتولد اليقين من الظن ولا يفيد في ذلك كون الظن في عرفهم علما بل النهي عن الكلام وذمه متوجه إلى من يتعصب للمذاهب الباطلة والتجشم لتصحيحها كما نرى من تعصب من الأشعرية في تصحيح ما نقل عن رئيسهم في الكلام النفسي والكسب والجبر والقدر لأن رئيسهم كان خبيرا بمذاق العوام وأوهامهم فاخترع امورا تقرب إلى ذهنهم وإن كان مخالفا للعقل مثل تعظيم القرآن في نفوس العوام اقتضى أن يقال كلام الله قديم فصرح به وقبل منه العوام وأنكروا على من قال: هو حادث وكفروه بأنه توهين للقرآن وإن كان هذا مخالفا للعقل، وكذلك قوله: بأن كل شئ بإرادة الله وليس للناس اختيار رآه الأشعري أقرب إلى أذهان متعبدي العوام من أن يقال: إن فعله بإرادته لا بإرادة الله فتعصب أتباعه له واخترعوا أقوالا منكرة تجشما، ولا يدل ذلك على توهين أمر العقل وعدم حجية الدلائل المأخوذة منه، ولعلنا نتكلم في ذلك في موضع أليق إن شاء الله تعالى. (ش) (*)

[ 286 ]

إذ طريق معرفة الله والسبيل إلى عجائب ملكوته وأسرار كتبه ورسله شئ آخر، ومن تمسك بغيره فهو في حجاب كثيف وخطر شديد. أقول: يدل على ما ذهب إليه هذا الفاضل ما سيجئ في باب الاضطرار إلى الحجة عن يونس بن يعقوب عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث طويل قال: جعلت فداك، إني سمعت تنهى عن الكلام وتقول: ويل لأصحاب الكلام يقولون: هذا ينقاد وهذا لا ينقاد، وهذا ينساق وهذا لا ينساق وهذا نعقله وهذا لا نعقله فقال أبو عبد الله (عليه السلام): " إنما قلت ويل لهم إن تركوا ما أقول وذهبوا إلى ما يريدون " ولكن اندراجه في القيل والقال أولى وأنسب. * الأصل: 6 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال، عن ثعلبة بن ميمون، عمن حدثه، عن المعلى بن خنيس قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): " ما من أمر يختلف فيه اثنان إلا وله أصل في كتاب الله عز وجل ولكن لا تبلغه عقول الرجال ". * الشرح: (محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال، عن ثعلبة بن ميمون) كان وجها في أصحابنا قارئا فقيها نحويا، وكان كثير العمل والعبادة والزهد، وكان فاضلا متقدما معدودا في العلماء والفقهاء الأجلة في هذه العصابة ثقة. (عمن حدثه، عن المعلى بن خنيس قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): ما من أمر يختلف فيه اثنان) سواء كان ذلك الأمر من اصول العقائد أو فروعها أو غير ذلك من الحالات الجزئية التي يحتاجون إليها في التمدن والتعيش والتكاسب والتعامل. (إلا وله أصل في كتاب الله عز وجل) لأن الكتاب أصل لجميع المعارف والحقائق وفيه علم منافع الدنيا والآخرة ومضارهما وعلم كل كائن فما من حكم كلي وجزئي إلا وهو أصله ومبتدؤه وغايته ومنتهاه. (ولكن لا تبلغه عقول الرجال) أي عقول أكثرهم أو بدون إلهام إلهي وتعليم نبوي وليس ذلك لنقصان الكتاب في الدلالة عليه، لأن الكتاب نور لا يطفى بلجه (1) ومنهج لا يطمس نهجه، بل لقصور عقولهم ونقصان أفهامهم وضعف أذهانهم بحيث لا يدركون من بحر القرآن إلا ظاهره وهم


1 - بلجه أي ضؤوه وتبلج الصبح وانبلج أي أشرق. (*)

[ 287 ]

عن إدراك ما في قعره قاصرون ولا يسمعون من تموجه إلا صوتا وهم عن سماع نداء معالمه غافلون فلا يجوز لهم إذ كانوا من وراء الحجاب أن ينظروا إلى الآيات ويعمدوا فيها إلى التأويلات ويحملوها على الوهميات والخيالات بمقتضى آرائهم الفاسدة وأوهامهم الباطلة بل يجب عليهم العكوف على أبواب أصحاب الحكمة وأرباب المعرفة الذين ينظرون بنور بصائرهم وصفاء ضمائرهم إلى ظواهر القرآن وبواطنه ومظاهر الأحكام ومواطنه ويعلمون حقائق كل شئ ومقاماته وحدود الشرع وسياساته اولئك الذين آتاهم الله الحكم وفضلا كبيرا * (ومن يؤت الحكمة فقد اوتي خيرا كثيرا) *. * الأصل: 7 - محمد بن يحيى، عن بعض أصحابه، عن هارون بن مسلم، عن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): " أيها الناس، إن الله تبارك وتعالى أرسل إليكم الرسول (صلى الله عليه وآله) وأنزل إليه الكتاب بالحق وأنتم اميون عن الكتاب ومن أنزله، وعن الرسول ومن أرسله على حين فترة من الرسل وطول هجعة من الامم وانبساط من الجهل، واعتراض من الفتنة، وانتقاض من المبرم، وعمى عن الحق، واعتساف من الجور، وامتحاق من الدين، وتلظ [ - ى ] من الحروب، على حين اصفرار من رياض جنات الدنيا، ويبس من أغصانها، وانتثار من ورقها، ويأس من ثمرها، واغورار من مائها، قد درست أعلام الهدى فظهرت أعلام الردى، فالدنيا متهجمة في وجوه أهلها مكفهرة مدبرة غير مقبلة، ثمرتها الفتنة، وطعامها الجيفة، وشعارها الخوف، ودثارها السيف، مزقتم كل ممزق وقد أعمت عيون أهلها وأظلمت عليها أيامها، قد قطعوا أرحامهم وسفكوا دماءهم ودفنوا في التراب الموؤدة بينهم من أولادهم، يجتاز دونهم طيب العيش، ورفاهية خفوض الدنيا، لا يرجون من الله ثوابا ولا يخافون والله منه عقابا، حيهم أعمى نجس، وميتهم في النار مبلس، فجاءهم بنسخة ما في الصحف الاولى، وتصديق الذي بين يديه وتفصيل الحلال من ريب الحرام، ذلك القرآن فاستنطقوه ولن ينطق لكم اخبركم عنه: إن فيه علم ما مضى وعلم ما يأتي إلى يوم القيامة، وحكم ما بينكم وبيان ما أصبحتم فيه تختلفون فلو سألتموني عنه لعلمتكم ". * الشرح: (محمد بن يحيى، عن بعض أصحابه، عن هارون بن مسلم، عن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): أيها الناس) خاطبهم تذكيرا لهم بنعمة الله تعالى التي


[ 288 ]

عليهم تفضلا بعد ما كانوا في شدة وبؤس، وهي بعثة الرسول (صلى الله عليه وآله) وإنزال الكتاب التي به يتم نظامهم ليدبروا فيه ويشكروا الله بما استطاعوا، فأشار أولا إلى النعمة المذكورة ثم أردفها بالأحوال المذمومة التي تبدلت بتلك النعمة العظيمة. (إن الله تبارك وتعالى أرسل إليكم الرسول (صلى الله عليه وآله) وأنزل إليه الكتاب بالحق) أي متلبسا بالحق، كما قال سبحانه: * (وبالحق أنزلناه وبالحق نزل) * والحق خلاف الباطل. (وأنتم اميون) أي جاهلون غافلون. (عن الكتاب ومن أنزله، وعن الرسول ومن أرسله) في المغرب: الامي منسوب إلى امة العرب وهي لم تكن تكتب ولا تقرأ فاستعير لكل من لا يعرف الكتابة ولا القراءة، وفي النهاية: يقال لكل جيل من الناس والحيوان امة. وفيه: " إنا امة لا نكتب ولا نحسب " أراد أنهم على أصل ولادة امهم لم يتعلموا الكتابة والحساب فهم على جبلتهم الاولى وقيل: الامي الذي لا يكتب، ومنه الحديث: " بعثت إلى امة أمية "، قيل للعرب: الاميون لأن الكتابة كانت فيهم عزيزة أو عديمة. والمراد بالامي هنا من لم يعرف الكتابة والقراءة ولا شيئا من العلوم والحقائق ولم يحصل له معرفة الصانع وما يليق به ومعرفة الرسول وما جاء به والغرض تقيد إرسال الرسول وإنزال الكتاب بهذه الجملة الحالية هو إظهار كمال تلك النعمة ورفع توهم أن الرسول (صلى الله عليه وآله) تعلم الحقائق من البشر. (على حين فترة من الرسل) والفترة ما بين الرسولين من رسل الله من الزمان الذي انقطعت فيه الرسالة والوحي، والإمام العادل الحاكم بين الناس وتلك حالة انقطاع الخير وموت النفوس بداء الجهل، والفترة بهذا المعنى تشتمل ما بين كل رسولين كالفترة بين إدريس ونوح (عليهما السلام) وبين نوح وهود (عليهما السلام)، وكانت ثمانمائة سنة وبين صالح وإبراهيم (عليهما السلام) وكانت ستمائة وثلاثين سنة ولكن العلماء إذا تكلموا في الفترة وأطلقوها يعنون بها ما بين عيسى (عليه السلام) ونبينا (صلى الله عليه وآله) وكانت خمسمائة سنة كما دل عليه بعض روايات أصحابنا، ونقل البخاري عن سلمان أنها كانت ستمائة سنة (1)، وإنما قيد نعمة


1 - قول سلمان موافق للنصارى تقريبا، فإنهم يعدون بين الميلاد والهجرة ستمائة واثنين وعشرين سنة، وأما روايات أصحابنا فيحتمل أمرين: الأول: عدم صحتها وسهو الراوي في نقلها عن الإمام (عليه السلام)، وهو الظاهر. والثاني: عدم صحة قول النصارى وعدم ضبطهم تاريخ ولادة المسيح (عليه السلام) وغلطهم نحو مائة سنة، وهذا بعيد بل محال في بادئ النظر كما لا يحتمل أن يشتبه تاريخ الهجرة على المسلمين جميعهم وغلطوا ولا = (*)

[ 289 ]

الإرسال والإنزال بكونها في تلك الحالة بيانا للواقع وإظهارا لقدر تلك النعمة، لأن النعمة تتزايد قدرها بحسب تزايد منافعها ولا ريب في أن خلو الزمان عن رسول يستلزم وجود الشرور وفشو الجور والظلم ووقوع الهرج والمرج وتلك أحوال مذمومة توجب تبدد النظام وتغير الأحكام وفساد أخلاق الناس وبعدهم عن الله ولحوق الذم بهم بمقدار ما يلحقهم من المدح في حال الطاعة والانقياد، فمن الله سبحانه عليهم بما ينقذهم من ورطة الردى والهلكات ويرشدهم في تيه العمى والجهالات، وينجيهم من ظلمة الهوى والشهوات، وتلك نعمة لا أعظم منها ولا يعرف أحد قدرها ولا يؤدي أحد شكرها. (وطول هجعة من الامم) الهجعة بفتح الهاء وسكون الجيم طائفة من الليل وأيضا نومة خفيفة من أوله وهي من الهجوع كالجلسة من الجلوس، ففي الكلام على الأول استعارة مصرحة وترشيح بتشبيه بدعة الامم وجهلهم وكفرهم بطائفة من الليل في الظلمة واستعارة الهجعة لها، ونسبة الطول إليها وعلى الثاني كناية عن غفولهم في أمر المبدأ والمعاد وسائر المصالح التي ينبغي لهم ورقودهم في مراقد الطبيعة وذهولهم عما خلقوا لأجله. (وانبساط من الجهل) أي من جهل الامم في مصالح الدنيا والآخرة وشموله لجميعهم إلا ما شذ وجريان أعمالهم وعقائدهم على غير قانون عدلي ونظام شرعي لأنه عند بعثته (صلى الله عليه وآله) لم يكن على


= يكون سنتنا هذه في المائة الرابعة عشرة، بل في الثالثة عشرة مثلا، ومع ذلك فيمكن إبداء احتمال الغلط في تاريخهم في الجملة دون تاريخ المسلمين لأن المسلمين كانت لهم دولة وسلطان من مبدأ أمرهم وكان لهم دواوين الخراج وضبط الوقائع وكتب التواريخ وعناية تامة بامورهم بخلاف النصارى فإنهم كانوا في اضطهاد وضيق إلى ثلاثمائة سنة وكان ضبط الوقائع والتواريخ بل الحكومة والسلطان بيد المشركين، وكان تاريخهم تاريخ الاسكندر و " المجسطي " أدق كتاب بقي إلى الآن من المائة الثانية بعد الميلاد لم يذكر فيه شيئا من تاريخ النصارى مع أنه اعتمد على تاريخ الاسكندر وبخت نصر وشهور المصريين فلم تكن العناية بضبط تاريخ المسيحيين شديدة وتواترهم منقطع غير متصل من عهدنا إلى عهد المسيح (عليه السلام)، ولذلك تشكك في قتل المسيح وصلبه (عليه السلام) واختلف فيه أوائلهم وإن اتفق عليه أواخرهم ولو كان تواترهم متصلا لم يصح لنا إنكار صلبه، ولكن ليس لهم يقين بقتله كما قال تعالى: * (وما قتلوه يقينا) * ثم إن ما ذكرنا يقتضي غلطهم في الجملة لا نحو مائة سنة، بل نحو عشر وعشرين مثلا إذ اشتبه علينا تاريخ ولادة الشيخ بهاء الدين أو وفاة المحقق الكركي لم نغلط مائة سنة قطعا، وأما الغلط والاشتباه في الشهور فغير بعيد فقد ورد في كتاب تحف العقول: أن ولادة عيسى (عليه السلام) في النصف من حزيران والنصارى يقولون في الأربعة والعشرين من كانون الأول واشتبه علينا وفاة الصادق (عليه السلام) أنها في رجب أو في شوال والله العالم. (ش) (*)

[ 290 ]

التوحيد والشريعة السابقة إلا قليل ممن عصمه الله من الجهل والشرك والتغيير والتبديل وخلسة الشياطين وأما أكثرهم فقد بدلوا وغيروا وأشركوا وشرعوا لأنفسهم ما سولته العرب والعجم وأهل الكتاب، أما العرب فقد اتبعوا عمرو بن لحى بن قمعة بن الياس بن مضر (1)، وهو - كما قيل - أول من سن لهم عبادة الأصنام وشرع لهم الأحكام وبحر البحيرة وسيب السايبة ووصل الوصيلة وحمى الحامي وانقادوا له في ذلك بطنا بعد بطن حتى كانت لقبائلهم حول البيت ثلاثمائة وستون صنما سوى ما كان لهم في مواضع استقرارهم فكانت لكنانة وقريش اللات بنخلة ولثقيف العزى بالطائف وللأوس والخزرج المناة بسيف البحر إلى غير ذلك من بيوتات الأعراب ثم لم يكتفوا بعبادة الأصنام حتى عبدوا الجن والملائكة وخرقوا البنين والبنات واتخذوا بيوتا جعلوا لها سدنة وحجاجا يضاهئون بها الكعبة وحسبك بما شرعت الأعراب وخرقت ما اشتملت عليه سورة الأنعام، وأما العجم فبعضهم كانوا يعبدون النيران وبعضهم كانوا يعبدون الشمس وبعضهم كانوا يعبدون البقر وبعضهم كانوا يعبدون الأصنام وبعضهم كانوا يقولون بإلهية بعض الأنبياء إلى غير ذلك من الملل الباطلة والمذاهب الفاسدة، وأما أهل الكتاب * (وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه) * * (وقالت اليهود عزير ابن الله) *، * (وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا) *، * (وقالت النصارى المسيح ابن الله) *، وغير الجميع كتابهم وبدلوا شرائعهم وألحدوا في أسمائه تعالى وسموه بما لم يسم به نفسه ولم ينطق به كتابه. وبالجملة: ظلمة الكفر والجهل كانت محيطة بالربع المسكون فأرسل الله تعالى في تلك الحالة محمد (صلى الله عليه وآله) رحمة للعالمين وتفضلا على عباده لينجيهم من الجهل والشرور ويخرجهم من الظلمات إلى


1 - إلياس بن مضر من أجداد النبي (صلى الله عليه وآله)، وأما عمرو بن لحى، فقد ذكر ابن هشام في السيرة أنه خرج من مكة إلى الشام في بعض اموره فلما قدم مآب من أرض البلقاء وبها يومئذ العماليق رآهم يعبدون الأصنام، فقال لهم: ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدون ؟ قالوا له: هذه أصنام نعبدها فنستمطرها فتمطرنا، ونستنصرها فتنصرها، فقال: أفلا تعطونني منها صنما فأسير به إلى أرض العرب فيعبدونه، فأعطوه صنما يقال له: هبل، فقدم به مكة ونصبه وأمر الناس بعبادته وتعظيمه، انتهى. وأقول: ما أشبه عمل عمرو بن لحى بجماعة من المسلمين سافروا إلى بلاد النصارى أخذوا منهم الكفر والفواحش وروجوها بين المسلمين وأفسدوا عليهم الدين، والسبب الداعي لعمرو بن لحى في الجاهلية أن أهل الشام في ذلك العهد كانوا أظهر سلطانا وأقوى يدا وأعلى وأقدم في التمدن كالنصارى في عهدنا والضعفاء يرون التشبه بالأقوياء فخرا وعزة، وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " رأيت عمرو بن لحى يجبر قصبة في النار " الحديث. (ش) (*)

[ 291 ]

النور. (واعتراض من الفتنة) الفتنة الامتحان والاختبار ثم كثر استعمالها فيما أخرجه الاختبار للمكروه ثم كثر حتى استعمل بمعنى الإثم والكفر والقتال والإحراق والإزالة والصرف عن الحق ومعنى اعتراضها كما صرح به بعض شراح نهج البلاغة هو أن الفتنة لما كانت واقعة على غير قانون شرعي ونظام مصلحي ولذلك سميت فتنة أشبهت المعترض في الطريق من الحيوان الماشي على غير استقامة فلذلك استعير لها لفظ الاعتراض ففي الكلام استعارة مكنية وتخييلية، ويحتمل أن يكون نسبة الاعتراض إليها من باب التجوز في الإسناد لأن الاعتراض وصف للامم ناش من الفتنة وأن يكون اعتراض الفتنة بمعنى عروضها وانتشارها في الأقاليم. (وانتقاض من المبرم) أي المحكم من أبرمت الشئ أحكمته، فانبرم أي صار محكما، وقد أشار بالإبرام إلى ما كان الخلق عليه من نظام الأحوال بالشرائع السابقة واستحكام امورهم لمتابعة الأنبياء بانتقاضه إلى إفساد ذلك النظام وتغيير تلك الشرائع. (وعمى عن الحق) العمى إما مسند إلى الحق أو إلى الامم ففيه على الأول إشارة إلى التباس الحق بالباطل وانطماس نوره في ظلمة الشبهات، وعلى الثاني إشارة إلى فساد عقيدتهم وزوال بصيرتهم عن إدراك الحق بارتكاب الشهوات واقتراف الخطيئات. (واعتساف من الجور) الاعتساف الأخذ على غير الطريق، والمراد به ترددهم في طريق الضلالة وسيرهم في سبيل الجهالة لاستيلاء ظلمة الغواية على نفوسهم واستعلاء دين الغباوة على قلوبهم حتى قادتهم أزمة إرادتهم إلى المشي في غير سبيل نظام عدلي والجري في غير طريق قانون شرعي. (وامتحاق من الدين) امتحق الشئ أي بطل وذهب أثره حتى لا يرى منه شئ وامتحاق الدين كناية عن خفائه واستتاره بانتشار سواد الكفر وظلمة الشبهات لأن الامم قد استزلتهم الآراء الفاسدة وأطارتهم العقائد الباطلة إلى أن تركوا دين الحق واخترعوا لأنفسهم أديانا. (وتلظ [ - ى ] من الحروب) تلظت الحروب التهبت واشتعلت من لظى وهي النار، شبه الحرب بالنار في الإفساد والإهلاك وأسند إليها التلظي وكني بها عن هيجانها ووجودها بينهم في زمان الفترة، ففي الكلام استعارة مكنية وتخييلية ومنشأ هذه الخصلة الذميمة أن ابتلاءهم بالحمية الجاهلية وعدم اهتدائهم إلى المصالح الدينية والدنيوية بعثهم على ما لا ينبغي من القتل والغارات وسبي بعضهم بعضا.


[ 292 ]

(على حين اصفرار من رياض جنات الدنيا) الرياض جمع الروضة وأصلها رواض قلبت الواو ياء لكسرة ما قبلها. والجنات جمع الجنة وهي البستان من الاجتنان وهو الستر، سميت بذلك لتكاثف أشجارها وتظليلها بالتفات أغصانها واستتار أرضها لشدة الالتفات والإظلال. (ويبس من أغصانها، وانتثار من ورقها، ويأس من ثمرها، واغورار من مائها) الضمائر المؤنثة راجعة إلى الرياض أو إلى الجنات شبه الدنيا بالجنات في اشتمالها على ما تشتهيه الأنفس وتلذ به الأعين، وأضاف المشبه به إلى المشبه من قبيل لجين الماء وذكر الرياض والأغصان والورق والثمر والماء ترشيحا لذلك التشبيه، أو شبه زينة الدنيا ولذاتها بالجنات في كثرة النفع وميل النفس. واستعار لفظ الجنات للمشبه على سبيل الاستعارة التحقيقية وذكر الأغصان وأخواتها ترشيحا للاستعارة، وأراد بالرياض نضارة عيش الدنيا وطراوته وحسن رونقه. وبالأغصان متاع الدنيا وزهراتها المنتجة لتلك النضارة، وبالورق ما يوجب زيادة زينتها من الملك والدولة وما يلزمه من الحصول على طيبات الدنيا وحفظ متاعها وثمراتها كما أن الورق موجب لزيادة زينة الشجرة وحافظ لثمرتها من الحر والبرد. وبالثمر التمتع والانتفاع بمتاع الدنيا إذ كما أن المقصود من الشجر غالبا هو التمتع والانتفاع بثمرتها كذلك المقصود من متاع الدنيا وهو التمتع والانتفاع به، وبالماء المكاسب والتجارات والصناعات وغيرها، إذ هي مادة لتحصيل متاع الدنيا ووجوده كما أن الماء مادة للشجرة وبه حياتها وقوامها في الوجود. وعنى باصفرار الرياض تغير نضارة العيش عن الامم سيما عن العرب في ذلك الزمان وفقد طراوته كما يذهب حسن الرياض باصفرارها ولا يقع الالتذاذ بالنظر إليها. وبيبس الأغصان بطلان منافع متاع الدنيا وعدم انتاجه نضارة العيش. وبانتثار الورق انقطاع آمال العرب وغيرهم من الملك والدولة بصرصر البليات وسقوطها بهبوب رياح النكبات. وباليابس من ثمرها انتفاء التمتع بمتاع الدنيا. وباغورار الماء عدم تلك المواد واندراس طرق المكاس كل ذلك لشدة الجور وكثرة الظلم في البلاد وانتشار الجهل والفساد في العباد وارتفاع النظام العدلي والقانون الشرعي بين الامم وانقطاع الفلاح والصلاح من بني آدم. (قد درست أعلام الهدى) المراد بها كل ما يمكن أن يهتدى به إلى طريق الحق. وقال شارح نهج البلاغة: كنى بها عن أئمة الدين وكتبه التي يهتدى بها لسلوك سبيل الله، وبدروسها عن موت اولئك أو خفائهم أو زوال الكتب الإلهية المنزلة لهداية الخلق أو تحريفها. (فظهرت أعلام الردى) وهي كل ما يؤدي إلى الهلاك والضلال ومنها أئمة الجور والعادلين عن الحق الداعين إلى النار.


[ 293 ]

(فالدنيا متهجمة (1) أي متعبسة أو باكية أو شديدة أو يابسة جافة أو داخلة عنفا. (في وجوه أهلها) من غير رضائهم بها لكونها غير موافقة لمقاصدهم لاشتمالها على كدورة العيش وقبح الأحوال لأن طيب العيش وحسن الأحوال لأهل الدنيا إنما يكونان مع وجود حاكم عادل بينهم حافظ لنظامهم، وقد كان ذلك الحاكم مفقودا في زمان الفترة خصوصا بين العرب. (مكفهرة) اسم فاعل من اكفهر مثل اقشعر، أي عابسة قطوبة متغيرة في لونها غبرة لشدة غيظها من أهلها لما فعلوا بها من تخريبها. (مدبرة غير مقبلة) إليهم لانقطاع زمانها وفساد نظامها بوقوع الهرج والمرج والقتال والجدال وسائر الأعمال القبيحة والأفعال الشنيعة فيها، وحمل المحمولات في هذه الفقرات الثلاث على الدنيا على سبيل التشبيه ووجه المشابهة ما يلزم المشبه والمشبه به عدم إمكان تحصيل المطلوب منهما، فإن مطلوب الطالب لا يحصل ممن عانده. (ثمرتها الفتنة) أي الضلال عن سبيل الحق والتيه في ظلمة الباطل، وفيه استعارة مكنية وتخييلية بتشبيه الدنيا بالشجرة وإثبات الثمرة لها مع ما فيه من تشبيه الفتنة بالثمرة لكون الفتنة مقصودة من الدنيا عند أهلها كما أن الثمرة مقصودة من الشجرة. (وطعامها الجيفة) قال شارح نهج البلاغة: يحتمل أن يكون لفظ الجيفة هنا مستعارا لطعام الدنيا ولذاتها ووجه المشابهة أنه لما كانت الجيفة عبارة عما نتن وتغيرت رائحته من جثة الحيوان وغيرها فخبث مأكله ونفر الطبع عنه كذلك طعام الدنيا ولذاتها في زمان الفترة أكثر ما يكون من النهب والغارة والسرقة ونحوها مما يخبث تناوله شرعا وينفر العقل منه وتأباه كرائم الخلق فأشبه ما يحصل من متاعها إذن الجيفة في خبثها وسوء مطعمها وإن كان أحد الخبيثين عقليا والآخر حسيا فاستعير لفظها له، وهو يحتمل أن يكنى بالجيفة عما كانوا يأكلونه في الجاهلية من الحيوان الغير مذكى وهو ما


1 - بين (عليه السلام) الفوائد الدنيوية للدين الحنيف بذكر ما عليه أهل الجاهلية من أضداد تلك الفوائد، فإن النعم الدنيوية لا تتكثر إلا بسعي الإنسان في الزراعة والصناعة والتجارة ولا يسعى الإنسان إلا في الأمن والراحة وإذا علم أن ثمرة سعيه تكون له ولا يحيف عليه أحد بالجور والظلم، ولا يمكن دفع الظلم إلا بظهور معالم الدين والعمل بقوانين العدل ولم يكن شئ من ذلك في العرب بل في سائر الامم على اختلافهم فكل من كان ذا قدرة وسلطان كان يزعم أن له حقا في قتل من ينازعه وسلب من يخالفه ويريد أن لا يكون مانع عن انفاذ ما يريد ويبغض كل دين وحكم وقاعدة تمنعه من متمنياته وشهواته، وكان بين الروم والعجم وأتباعهم من سائر الامم حروب تتلظى بل بين قبائل العرب أيضا غارات معروفة وأيام معلومة ولذلك كانت الدنيا متعبة في وجوه أهلها. انتهى. (ش). (*)

[ 294 ]

حرمه القرآن الكريم * (حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الجنزير وما أهل به لغير الله والمنخنقة والموقوذة) * أي المضروبة بالخشب حتى تموت ويبقى الدم فيها فيكون ألذ وأطيب كما زعم المجوس. " والمتردية ": أي التي تردت من علو فماتت فإن كل ذلك إذا مات فكثيرا ما يتعفن ويؤكل ويصدق أن طعامهم كان الجيفة. (وشعارها الخوف، ودثارها السيف) قال شارح نهج البلاغة: الشعار بالكسر، وقد يفتح، وهو الثوب الذي يلي الجسد، لأنه يلي شعره والدثار - بالكسر - الثوب الذي فوق الشعار (1)، وفي الكلام حذف مضاف أي شعار أهلها ودثارها أهلها، استعار لفظي الشعار والدثار للخوف والسيف ووجه المشابهة الاولى أن الخوف وإن كان من العوارض القلبية إلا أنه كثيرا ما يستتبع اضطراب البدن وانفعاله بالرعدة فيكون شاملا له ملتصقا به شمول ما يتخذه الإنسان شعارا والتصاقه ببدنه ووجه المشابهة الثانية أن الدثار والسيف يشتركان في مباشرة المدثر والمضروب من ظاهرهما، ومن هاهنا ظهر وجه تخصيص الخوف بالشعار والسيف بالدثار. (مزقتم كل ممزق) التفات من الغيبة إلى الخطاب، والممزق على صيغة اسم المفعول مصدر ميمي بمعنى التمزيق، وهو التخريق والتقطيع، والمراد بتمزيقهم تفريقهم وإزالة ملكهم وقطع دابرهم وتشتيت آرائهم وأهوائهم بالقتال والجدال (2) والتباغض والتباعد والمناقشة والمنازعة.


1 - لا يخفى أن الناس إذا كانوا خائفين والسيف بيدهم دائما للدفاع عن أنفسهم لم يكن لهم هم في إصلاح المعاش فيزيد فيهم البؤس والفقر ويزال ذلك برواح الدين والخوف من الله تعالى والأمن والسلامة، وكان العرب قبل الإسلام محرومين بائسين. (ش). 2 - مما يبتلى به الامم فيسلب منهم النعم التباغض والتناقض، لأن الإنسان مدني بالطبع محتاج إلى التعاون والتحابب وحسن المعاشرة ولم يكونوا كذلك في الجاهلية بل كان الظلم والجور والفساد فاش في جميع الناس والخوف سار في عامتهم يخاف بعضهم من بعض ومزقوا كل ممزق حتى جمعهم الإسلام على كلمة واحدة وأزال منهم التباغض والجدال. فإن قيل: بقي بعد الإسلام أيضا ظلم الولاة على الرعايا خصوصا في زمان بني امية. قلنا: لا يقاس أحدهما بالآخر فإن الناس في الجاهلية كانوا جميعهم فسقة ظالمين يخاف بعضهم من بعض، وأما بعد الإسلام لم يكن الناس ممزقين بل كان الظلم خاصا بالولاة وكان الولاة من بقية المشركين الذين لم يستأصلوا بعد فكان الظلم من آثار الكفر غير الممحوة لا من آثار الإسلام ومع ذلك كان الناس معترفين بأن ليس للولاة المداخلة في قوانين الشرع وإنفاذ ما يريدونه في حقوق الناس وأما عهد الجاهلية فإن الولاة كانوا في عهدهم محقين في كل ما يفعلون ولم يكن يعد عملهم ظلما، وكان يجب على الرعية إطاعة الولاة وعصيانهم يبيح قتلهم وسلبهم بخلاف زمان الإسلام حيث قالوا: " لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق " إلى غير ذلك. (ش) (*)

[ 295 ]

(وقد أعمت عيون أهلها) المراد بالعين إما البصر أو البصيرة، فهم على الأول لا يبصرون فساد نظام العالم، وعلى الثاني لا يدركون ما فيه صلاحهم في الدنيا والآخرة لغلبة ظلمة الضلالة على ضمائرهم واستيلاء غشاوة الجهالة على بصائرهم. (وأظلمت عليها أيامها) لغروب الملة والدين في آفاقها وظهور ظلمة الجور والكفر في أطراقها. (قد قطعوا أرحامهم) الرحم عبارة عن قرابة الرجل من جهة طرفيه آبائه وامهاته وإن علوا وأبنائه وإن سفلوا، ويندرج فيه الأعمام والعمات والإخوة والأخوات وما يتصل بهؤلاء من أولادهم وأولاد أولادهم وفي صلتها برفع الأذى عنهم باليد واللسان وإزالة حاجتهم بالتفضل والإحسان منافع كثيرة وفوائد جليلة في الدنيا والآخرة، وقد رغب سبحانه فيها وأكد شأنها حيث قرنها باسمه جل شأنه ونسب حفظها إليه في قوله: * (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا) * وفي قطعها مفاسد عظيمة منها تفرق الأحوال وغلبة الرجال ونقصان الأموال وقصر الأعمار وغضب الجبار والعقوبة الشديدة في دار القرار. (وسفكوا دماءهم) لأغراض نفسانية وآمال شيطانية لخلو ذلك الزمان عن قوانين شرعية وأحكام ربانية وسلطان مؤيد بتأييدات رحمانية، فإن الخلائق إذ تركوا وطباعهم ولم يكن بينهم حاكم عادل زاجر يرى كل واحد منهم حظ نفسه وأن يكون الأمر له لا عليه ويأخذ عن الغير ما في يده وإن بلغ إلى سفك الدماء وعاد نظام العالم إلى حد الفناء. (ودفنوا في التراب الموؤدة بينهم من أولادهم) الظرف أعني " بينهم " متعلق بالدفن والوأد الثقل، ومنه الموؤدة أي البنت المدفونة حية، يقال: وأد بنته يئدها من باب ضرب، وأدا فهي موؤودة أي دفنها في التراب وهي حية وكانوا يفعلون ذلك مخافة الإملاق أو لحوق العار بهم، وهي التي ذكرها الله تعالى في كتابه: * (وإذا الموؤدة سئلت * بأي ذنب قتلت) *، وفي الصحاح: كانت كندة تئد البنات. (يجتاز دونهم طيب العيش، ورفاهية خفوض الدنيا) الاجتياز بالجيم والزاي المعجمة المرور. والدون التجاوز، والرفاهة والرفاهية الخصب والسعة في المعاش والتنعم من الرفه بالكسر وهو ورود الإبل، وذلك أن ترد الماء متى شاءت والخفض الدعة والراحة واللين، يقال: فلان في خفض من العيش إذا كان في سعة وراحة يعني بمر طيب العيش والرفاهية التي هي خفوض الدنيا أو في خفوضها متجاوزا عنهم من غير تلبث عندهم وهذا كناية عن زواله عنهم بالكلية وذلك بسبب انقلاب أحوال الدنيا من الخير إلى الشر، أو بسبب دفن البنات حية. قيل في بعض النسخ: " يحتاز "


[ 296 ]

بالحاء المهملة والزاي المعجمة من الحيازة، أي يجمع ويمسك وراءهم طيب العيش والرفاهية. وقيل في بعضها: " يختار " بالخاء المعجمة والراء المهملة، يعني المراد عندهم بدفن البنات طيب العيش والرفاهية. وفيه لوم لهم على قبح أفعالهم ووخامة عاقبتهم مع ما فيه من نغص العيش حاضرا لما جبل الإنسان عليه من حب الأولاد واقتراف الشدائد والمصائب بموتهم فكيف يدفنهم أحياء ؟ (لا يرجون من الله ثوابا ولا يخافون والله منه عقابا) لأن رجاء الثواب وخوف العقاب تابعان للعلم بالمعارف اليقينية والإيمان بالله وبرسوله ومستتبعان للعمل بالصالحات والاجتناب من المنهيات (1) وتهذيب النفس عن الرذائل وتزيينها بالفضائل وهم قد كانوا براء من جميع ذلك. (حيهم أعمى نجس، وميتهم في النار مبلس) المراد بالأعمى أعمى القلب فاقد البصيرة عن إدراك الحق والنجس - بفتح النون وكسر الجيم أو فتحها - من النجاسة، وضبطه بعض الأصحاب بالباء الموحدة المفتوحة والخاء المعجمة المكسورة والحاء المهملة المكسورة من النحس بالتسكين ضد السعد. يعني حيهم أعمى شقي. ومبلس اسم فاعل من الإبلاس وهو اليأس ومنه إبليس ليأسه من رحمة الله وهو أيضا الانكسار والحزن. ووجه ذلك ظاهر، لأنهم إذا كانوا كافرين مارقين عن الدين عاملين لأنواع الفسوق والشرور كان حيهم أعمى البصيرة فاقد السريرة نجس العين كما قال سبحانه وتعالى: * (إنما المشركون نجس) * وميتهم مبلسا من الرحمة آيسا من المغفرة خالدا في الجحيم معذبا بالعذاب الأليم. (فجاءهم) رسول الله (صلى الله عليه وآله) في ذلك الزمان الذي انكسر فيه دعائم الدين وانهدم بناء اليقين لهدايتهم إلى ما فيه صلاح حالهم في معاشهم ومعادهم وجذبهم عن اتباع الشهوات الباطلة واقتناء اللذات الزائلة. (بنسخة ما في الصحف الاولى) صحف إبراهيم وموسى وصحف داود وعيسى وغيرها من الصحف المنزلة على الأنبياء (عليهم السلام) وهي كثيرة، وقد روي أنه " أنزل الله تعالى على شيث خمسين


1 - إذا لم يرج الإنسان الثواب من الله ولم يخف العقاب كان همه الدنيا اتباع لذاتها وتحصيل شهواتها، إذ لو لم تكن الدنيا له حاصلة كان شقيا محروما في نظره وكان الظلم مباحا له في رأيه، إذ لو عارضه معارض في مطلوب له حل قتله ولم يستعقب له ذلك عقابا في الآخرة ولا في الدنيا إن كان له سلطان ومقدرة بل كان قتل المعارض سبب راحته. وبالجملة عدم الخوف من الله تعالى يسلب الأمن من الناس وينغص عليهم العيش كما قال (عليه السلام). (ش) (*)

[ 297 ]

صحيفة ". وقيل: يحتمل أن يكون المراد من الصحف الاولى الصحف الإلهية المكتوبة بالقلم الإلهي في الألواح القضائية فإن القرآن نسخة منها قال الله تعالى: * (وإنه لقرآن كريم * في لوح محفوظ) *. (وتصديق الذي بين يديه) قال شارح نهج البلاغة: هو التوراة والإنجيل، قال الله عز سلطانه: * (ومصدقا لما بين يديه من التوراة والإنجيل) * وكل أمر تقدم أمرا منتظرا قريبا منه يقال: إنه جاء بين يديه. (وتفصيل الحلال من ريب الحرام) أي من شبهته فإن القرآن يميز الحلال من الحرام تمييزا تاما بحيث لا يتطرق إلى الحلال ريب الحرام ولا يشتبه الحلال به أصلا. (ذلك القرآن) أي ذلك المذكور الموصوف بالصفات المذكورة هو القرآن الجامع لجميع الخيرات والشامل لأحوال جميع الكائنات، وفي ذلك إشارة إلى جلالة شأنه وعلو مكانه بحيث لا يصل إليه طائر النظر ولا يدرك ذاته عقول البشر. (فاستنطقوه ولن ينطق لكم) أمرهم باستنطاقه واستماع أخباره أمر تعجيز ثم بين أنه لا ينطق لهم أبدا لا لقصوره لأنه ناطق فصيح ومتكلم بليغ ينادي الناس أجميعن من جانب رب العالمين ويدعوهم إلى ما فيه صلاحهم في الدنيا والدين بل لطريان صمم في أسماع آذانهم العقلية وجريان صلم (1) على قواهم الأصلية فصاروا بحيث لا يفهمون لسانه ولا يدركون بيانه. (اخبركم عنه) لما أمر باستنطاقه وقال: " إنه لا ينطق " أشار على سبيل الاستئناف إلى أنه (عليه السلام) يخبر نيابة عنه لو استنطقوه، لأنه لسان القرآن وعليه بيانه فوجب الاستماع بأخباره وكسر بذلك أوهامهم في استنكار ذلك الأمر وهذا الكلام على هذا الوجه متعلق بما قبله ويحتمل أن يكون متعلقا بما بعده يعني أخبركم عن القرآن وأحواله، ثم بين تلك الأحوال على سبيل الإجمال بقوله: (إن فيه علم ما مضى وعلم ما يأتي إلى يوم القيامة) يعني فيه علم الأولين والحديث عن القرون الماضية وعما وقع بينهم في سوابق الأزمان وما جرى عليهم ولهم من النكال والإحسان. وعلم ما يأتي من الحوادث اليومية والفتن الداهية وأحوال القرون الآتية. (وحكم ما بينكم) من القضايا الإلهية والفضائل العلمية والعملية والقوانين الشرعية والسياسات المدنية التي بها يتم نظام العالم والرشاد واستعانة بني آدم في أمر المعاش والمعاد.


1 - الصلم: قطع الاذن والأنف من أصلهما، وصلم الشئ قطعه من أصله. (*)

[ 298 ]

(وبيان ما أصبحتم فيه تختلفون) من أمر الدنيا والآخرة، ومن الثواب والعقاب، وكيفية الحشر والنشر، والحلال والحرام، والعقائد وغير ذلك. (فلو سألتموني عنه لعلمتكم) أشار به إلى كمال علمه بحقائق القرآن ومعارفه وظواهره وبواطنه كيف لا وقد رباه النبي (صلى الله عليه وآله) صغيرا، ووضعه في حجره وليدا، وعلمه جميع ما انزل إليه تعليما ؟ كما أشار إليه (عليه السلام) في بعض خطبه: " وقد علمتم موضعي من رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالقرابة القريبة والمنزلة الخصيصة وضعني في حجره وأنا وليد، ويضمني إلى صدره، ويكنفني في فراشه، ويمسني جسده، ويشمني عرفه، وكان يمضغ الشئ ثم يلقمنيه " (1). قيل: وفي معناه ما رواه الحسن بن زيد بن علي بن الحسين، قال: سمعت زيدا يقول: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يمضع اللحمة والتمرة حتى تلين ويجعلها في فم علي (عليه السلام) وهو صغير في حجره (2)، ونقل عن مجاهد ما هو قريب منه، وقال بعض العامة: لقد كان فيه من الفضل والعلم ما لم يكن لجميع الصحابة، وبالجملة. هو (عليه السلام) بسبب تربية النبي (صلى الله عليه وآله) وشرافة نفسه القدسية كان أعلم الأولين والآخرين، وكان عالما بمنازل سكان السماوات ومراتبهم من الحضرة الربوبية ومقامات الأنبياء وخلفائهم من حظائر القدس وبأحوال الأفلاك ومداراتها وأحوال الأرضين وما فيها وبالامور الغيبية (3) والوقائع الماضية والمستقبلة وبمنازل القرآن ومقاماتها وهو لسان الحق في تيه الطبائع البشرية والداعي إليه


1 - النهج: الخطبة المعروفة بالقاصعة، تحت رقم 190. 2 - أورده ابن أبي الحديد في شرح النهج ذيل كلامه (عليه السلام) هذا في الخطبة القاصعة. 3 - لم يكن علمه آنيا حاصلا من تتبع الجزئيات بتنبيه المعلم وإرشاد الاستاذ، فإن ذلك يطول زمانا بل كان لميا حاصلا بالاطلاع على المبادئ والعلل بمنزلة من يعثر على كنز لا كمن يجمع المال قيراطا قيراطا، ومثاله الواضح علم النحو فإنه بين لأبي الأسود الدؤلي تقسيم الكلام إلى الاسم والفعل والحرف كما قسمه أرسطو طاليس قبله ونبهه على اختلاف أواخر الاسم بالنصب والرفع مثلا فتنبه أبو الأسود بأن كلام العرب يتغير أحكامه بتخالف أقسامه الثلاثة فالاسم معرب والحرف مبني والفعل بعضه معرب وبعضه مبني، فتتبع وأكمل ذلك كما أمره أمير المؤمنين (عليه السلام) فهو (عليه السلام) وضع هذا العلم وفتح أبوابه على أبي الأسود بمنزلة مهندس يعرض طرح العمارة على البنائين يدل طرحه على تفوق علمه على علمهم جميعا وإن لم يفصل وكذلك أدلته على التوحيد وصفات الله وقوانين العدل وقواعد السياسة وما ورد عنه في الجبر والتفويض وفي العقول والنفوس وملائكة السماوات، وأما الامور الغيبية فأظهر من أن يذكر ولا تستبعد أن تدل كلمة واحدة على كثرة علم صاحبه كما يدل قوله تعالى: * (كل يجري لأجل مسمى) * على جميع علم النجوم، فإن من لم يكن كاملا في هذا العلم من البشر لا يعلم أنها تجري لأجل مسمى، ويحتمل عنده أن تختلف حركاتها ولا تصل لأجل مسمى إلى موضع بعينه، وكذلك قوله تعالى: * (من كل شئ خلقنا زوجين اثنين) * في الطبيعي. (ش) (*)

[ 299 ]

في بيداء العوالم السفلية ولذلك قال في بعض كلامه: " سلوني قبل أن تفقدوني " (1)، وقد نقل عن ابن عبد البر - وهو من أعاظم علماء العامة - أنه قال: أجمع الناس على أنه لم يقل أحد من الصحابة وأهل العلم " سلوني " غيره (عليه السلام) وهذا دليل على أنه معدن العلم. * الأصل: 8 - محمد بن يحيى، عن محمد بن عبد الجبار، عن ابن فضال، عن حماد بن عثمان، عن عبد الأعلى بن أعين قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: " قد ولدني رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأنا أعلم كتاب الله بدء الخلق وما هو كائن إلى يوم القيامة، وفيه خبر السماء وخبر الأرض وخبر الجنة وخبر النار وخبر ما كان و [ خبر ] ما هو كائن، أعلم ذلك كما أنظر إلى كفي، إن الله يقول: * (فيه تبيان كل شئ) * ". * الشرح: (محمد بن يحيى، عن محمد بن عبد الجبار، عن ابن فضال، عن حماد بن عثمان، عن عبد الأعلى بن أعين قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: قد ولدني رسول الله (صلى الله عليه وآله)) ولادة صورية ومعنوية، أما الصورية فظاهرة، وأما المعنوية فلأن المعلم الرباني أب روحاني للمتعلم، وقد كانت له (عليه السلام) كلتا الولادتين، لأن جسمه المطهر وروحه المقدس وعقله المنور مشتقة من جسم النبي وروحه وعقله (صلى الله عليه وآله) فعلمه عين علمه وكماله عين كماله، والولد الطيب سر أبيه ولذلك قال: (وأنا أعلم كتاب الله) يعني أعلمه كما انزل بتأييد رباني وإلهام لدني وتعليم أبوي وإعلام نبوي، وينبغي أن يعلم أن علم الأئمة الطاهرين ليس كعلمنا ولا تعلمهم مثل تعلمنا بحيث يحتاجون إلى زمان طويل وفكر كثير بل كان يكفيهم لكمال ذاتهم ونقاوة صفاتهم وصفاء أذهانهم وقوة أفهامهم أدنى توجه وأقصر زمان لكمال الاتصال بينهم وبين المفيض بل كانوا عالمين أبدا غير جاهلين أصلا في بدء الفطرة وأصل الخلقة، جعلهم الله تعالى أساس الدين وعماد اليقين وأثبت لهم حق الولاية وخص بهم لواء الخلافة ليفئ إليهم القاصرون ويلحق بهم الناقصون، زادهم الله شرفا وتعظيما وجدد لهم توقيرا وتكريما، ثم أراد أن يشير إلى أنه عالم بالحلال والحرام وعارف بجميع الأحكام وبصير بجميع الامور والأسباب لأن كلها في الكتاب يعرفها من نظر إليه وهو في العلم وحيد * (أو من ألقى السمع وهو شهيد) * فقال:


1 - النهج قسم الخطب، تحت رقم 187. (*)

[ 300 ]

(وفيه بدء الخلق) أي أوله وكيفية إيجاده ونضده وتركيبه وتفصيله وترتيبه وإنشاؤه بلا شبيه سبقه ولا نظير شبهه ولا روية لحقه واخترعه بلا تجربة استفادها ولا حركة أحدثها ولا همامة نفس اضطرب فيها، وكيفية خلق الملائكة والروحانيين وخلق آدم من طين ثم من ماء مهين وكيفية انقلاباته في يد التقدير من حال إلى حال وتبدل أحوالاته من وصف إلى وصف وفيه علم بصفات الله وكمالاته وأسمائه. وبالجملة: فيه كيفية خلق كل واحد واحد من الموجودات وكل فرد فرد من المخلوقات وما فيه من البدايع العجيبة والصنايع الغريبة التي يعجز عن إدراكها الأفهام وعن تحرير منافعها وآثارها لسان الأقلام وعن الإحاطة بكنه حقائقها ودقائقها عقول الأعلام قل: * (لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا) *. (وما هو كائن إلى يوم القيامة) من الوقائع اليومية والحوادث الجزئية والآثار العلوية والسفلية وكل ما يجري في هذا العالم من الحروب والقتال والسبي والنهب وغيرها مما لا يحيط بتفاصيله البيان ولا يقدر على تعداده اللسان. (وفيه خبر السماء) وسكانها وحركات الأفلاك ودورانها وأحوال الملائكة ومقاماتها وحركات الكواكب ومداراتها ومنافع تلك الحركات وتأثيراتها إلى غير ذلك من الامور الكائنة في العلويات والمنافع المتعلقة بالفلكيات. (وخبر الأرض) جوهرها وانتهاؤها وخبر ما في جوفها وأرجائها وما في سطحها وأجوائها وما في تحتها وأهوائها وخبر ما فيها من المعدنيات وما في جوف فلك القمر من البسائط والمركبات وخبر منافعها ومضارها التي يتحير في إدراك نبذ منها عقول البشر ويتحسر دون البلوغ إلى أدنى مراتبها طائر النظر. (وخبر الجنة) ومقاماتها وتفاوت مراتبها ودرجاتها وخبر نعيمها ولذاتها وخبر المثاب فيها بالانقياد والطاعة والمأجور فيها للعبادة والزهادة. (وخبر النار) ودركاتها وتفاوت مراتب العقوبة ومصيباتها، وخبر المعاقب فيها للمعصية، والمقيد بالسلاسل للمخالفة، ويندرج فيها ما يأتي على الإنسان بعد الموت من أحوال البرزخ وتفاوت مراتبهم في النور والظلمة وتباعد أحوالهم في الراحة والشدة. وبالجملة: العلوم إما متعلقة بأحوال المبدأ وكيفية الإيجاد أو بامور الآخرة وأحوال المعاد أو بالامور الكائنة فيما بينهما والأحوال المتعلقة بتلك الامور. وقد أشار (عليه السلام) إلى أن في القرآن جميع هذه


[ 301 ]

الأقسام (1). وقد أكد ذلك بقوله: (وخبر ما كان و [ خبر ] ما هو كائن) على سبيل الإجمال بعد التفصيل والاختصار بعد الانتشار، وقد عد جمع من المحققين منهم صاحب الكشاف مثل ذلك من المحسنات فلا يرد أن ذلك تكرار بلا فائدة. (أعلم ذلك كما أنظر إلى كفي) تأكيد لما مر من قوله: " وأنا أعلم الكتاب " مع الإشارة هنا إلى الزيادة في الإفادة بسبب تشبيه الإدراك العقلي بالإدراك الحسي قصدا لزيادة الايضاح والتقرير، لأن إدراك المحسوس أقوى من إدراك المعقول عند أكثر الناس وإن كان الأمر بالعكس عند الخواص وتنبيها على أن علمه بما في الكتاب علم شهودي كشفي بسيط واحد بالذات متعلق بالجميع كما أن رؤية الكف رؤية واحدة متعلقة بجميع أجزائه، والتعدد إنما هو بحسب الاعتبار وقد نشأ هذا العلم من إنارة عقلية وبصيرة ذهنية وقوة روحانية وهو أقوى من إدراك البصر عند اولي الألباب لأنهم يعرفون أن التفاوت بينهما بقدر التفاوت بين شعاع البصر ونور البصيرة. (إن الله يقول: * (فيه تبيان كل شئ) *) دليل على ما أشار إليه من أن في القرآن خبر كل شئ مما كان وما يكون وما هو كائن وبرهان له لكسر أوهام العوام التي تتبادر إلى إنكار ذلك وعده من المبالغة في الوصف (2) وإذا كان حال القرآن الكريم وشأنه (عليه السلام) ذلك فلا يجوز لأحد أن يتكلم في


1 - فإن قيل: ما فائدة اشتمال القرآن على ما لا يفهمه الناس وإن فهمه النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة من بعده، فما الفائدة فيه إذا لم يبينوه لنا وخصوصا ما ذكره الشارح من خبر المعدنيات وخواص المركبات ومنافعها ومضارها والناس محتاجون إليها يسعون لها سعيهم كما ترى في الطب والصنائع واستخرجوا معادن لم يكن للسابقين علم بها واكتشفوا منافع في الأدوية والعقاقير بمشقة شديدة وطول زمان ولو كان أمثال تلك مذكورة في القرآن كان حقا على من يفهمها أن يبديها للناس ويخلصهم من هذا العناء الطويل ؟ قلنا: هذا كلام خارج عن مجرى الاعتبار الصحيح دعا إليه غلو بعض الناس في تعبيراتهم ومن عرف السنة الإلهية في خلقه علم أنه قسم الوظائف والتكاليف بعلمه وحكمته، وعالم الخلق عالم الفرق والتفصيل وكل شئ فيه خلق لشئ خاص بخلاف عالم الأمر ولو كان في الجنة شجر فيه جميع الثمار جمعا فليس في الدنيا مثله وقد بعث الله الأنبياء لدعوة الناس إلى التوحيد والمعرفة والتوجه إلى المعاد والإيمان بوجود عالم آخر وراء هذا العالم وإلى تهذيب النفوس وتتميم مكارم الأخلاق ودفع الظلم وتعظيم شأن أفراد الإنسان وحقوقهم وأما الطب والصنائع فقد خلق لها قوما آخرين ووكلهم بها وما يشتمل عليه القرآن منها فإنها مقصودة بالعرض وعلى سبيل الاعجاز. (ش) 2 - قال النيسابوري - وهو من أركان العلم صاحب التفسير المعروف وشرح النظام في الصرف وهو كتاب مشهور وشرح التذكرة في الهيئة وشرح تحرير المجسطي قال في الكتاب الأخير بعد ذكر شكل القطاع الذي نقله صاحب المجسطي - وكان يستفيد منه المنجمون والمهندسون أكثر أعمالهم: أن الأنواع = (*)

[ 302 ]

الأحكام وغيرها برأيه وقياسه، بل يجب عليه الرجوع إليهما والتمسك بذيل إرشادهما. * الأصل: 9 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن النعمان، عن إسماعيل بن جابر، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وفصل ما بينكم ونحن نعلمه ". * الشرح: (عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن النعمان، عن إسماعيل بن جابر، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم) من أحوال المبدأ وبدء الإيجاد وكيفية أحوال القرون الماضية وما وقع بينهم وجرى عليهم. (وخبر ما بعدكم) من أحوال المعاد وكيفية الحشر وما يتبعه وأحوال البرزخ وما يجري فيه وأحوال القرون الآتية وما يقع بينهم ويجري عليهم. (وفصل ما بينكم) من القضايا الشرعية والأحكام الإلهية. (ونحن نعلمه) أي ونحن نعلم جميع ذلك بإلهام إلهي وتعليم نبوي، وفيه تأكيد بليغ مفيد للتقرير والحصر للتنبيه على أنه يجب على غيرهم الرجوع إليهم والتعلم بين يديهم لأنهم ألسنة الحق وأزمة الصدق كما يدل عليه أيضا حديث: " إني تارك فيكم الثقلين " ولا يجوز استعمال الرأي في القرآن لأنه بحر لا يدرك قعره البصر، ولا يتغلغل إليه الفكر ولا استعلام ما فيه القياس، ولا الرجوع فيه إلى سائر الناس الذين يحملون القرآن على آرائهم ويعطفون الحق على أهوائهم، صورتهم صورة إنسان وقلوبهم قلوب حيوان. * الأصل: 10 - " عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن إسماعيل بن مهران، عن سيف بن


= الحاصلة أي أنواع الفوائد المنتجة بهذا الشكل ترتقي إلى أربعمائة ألف وسبعة وتسعين ألفا وأربعة وستين وستمائة وتمثل بقوله تعالى: * (لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي) * انتهى. وإذا كان شكل استخرجه مانالاوس في الاكر بفكره الأرضي منتجا لهذه الفوائد فكيف لا يكون ما أنزل الله تعالى من السماء مشتملا على العلوم بوجه بسيط ومثله الشكل المغني الذي استخرجه بفكره الملك العالم أبو نصر بن عراق وقالوا: إنه يغني عن شكل القطاع ويفيد فوائده بوجه أسهل منه. (ش) (*)

[ 303 ]

عميرة، عن أبي المغرا، عن سماعة، عن أبي الحسن موسى (عليه السلام)، قال: قلت له: أكل شئ في كتاب الله وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله) أو تقولون فيه ؟ قال: " بل كل شئ في كتاب الله وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله) ". * الشرح: (عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن إسماعيل بن مهران، عن سيف بن عميرة، عن أبي المغرا) قيل: الحق فيه المد، كما ذهب إليه ابن طاووس وتلميذه الحسن بن داود لا القصر كما ذهب إليه العلامة في الإيضاح وهو حميد مصغرا ابن المثنى العجلي الكوفي الثقة صاحب أصل. (عن سماعة، عن أبي الحسن موسى (عليه السلام)، قال: قلت له: أكل شئ في كتاب الله وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله) أو تقولون فيه ؟) بآرائكم أو بإلهام مجدد رباني من غير أن يسبق ذكره فيهما وإنما نشأ هذا السؤال من الجهل بما في الكتاب والسنة باعتبار اشتمالهما على كل شئ أمر غامض لا يقدر كل أحد أن يعلمه تفصيلا. (قال: بل كل شئ في كتاب الله وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله)) فكل ما نقول فيهما، والمراد أن كل شئ: في كل واحد منهما لا أن كله في مجموعهما بالتوزيع بأن يكون بعضه في الكتاب وبعضه في السنة لينافي ما مر من أن القرآن تبيان كل شئ، والذي يرفع استبعاد اشتماله على كل شئ وإحاطة علمهم (عليهم السلام) بذلك مع أن ذلك الاستبعاد غير معقول (1) بعد إخبار الصادقين هو: أن الأشياء الموجودة والمعدومة إما كليات أو جزئيات أو أسباب أو مسببات وشئ ما لا يخلو عن هذه الوجوه ولا يبعد أن يكون القرآن مع صغر حجمه مشتملا على جميع الكليات المطابقة لجزئياتها وعلى جميع الأسباب المستلزمة لمسبباتها، ولا يبعد أيضا أن يمن الله تعالى على بعض أفراد البشر بقوة روحانية وبصيرة


1 - نقل العلامة (رحمه الله) في النهاية وسائر علماء الاصول عن " البشر المريسي " وهو من الغالين في لله تعالى في كل واقعة حكما وعليه دليل قطعي في الكتاب والسنة ظاهر يعثر عليه المجتهد قطعا، فإن أخطأ في الفتوى فهو مقصر يستحق الإثم بقصوره في الاجتهاد. واختار العلامة (رحمه الله) أن عليه دليلا ظاهرا لا قطعا، والمجتهد معذور إن أخطأ لعدم كون الدليل قطعيا، ونقل عن بعض المخطئة كالشافعي وأبي حنيفة أن في كل واقعة حكما وعليه دليل ظني غالبا ربما يكون خفيا غامضا، وعن بعضهم أنه قد لا يكون عليه دليل مع وجود الحكم فهؤلاء هم المخطئة، وقالت المصوبة: ليس له تعالى لمسائل الاجتهاد حكم معين قبل الاجتهاد، وإنما حكمه فيما صرح به في الكتاب ظاهرا قطعيا والخطأ إنما يتفق فيها، وأما التصويب المطلق حتى فيما ورد صريحا في الكتاب والسنة فلا يعقل ولا يوجد بها قائل في المسلمين، لأن من خالف نص الكتاب فهو مخطئ لا محالة، وبالجملة هذا الحديث يدل على قول المخطئة وأن له تعالى في كل واقعة حكما، ويدل على قول من يقول منهم بأن عليه دليلا في الكتاب والسنة. (ش) (*)

[ 304 ]

عقلية بحيث يعلم جميع الكائنات والجزئيات وجميع الأسباب والمسببات وينظر إليه بعين البصيرة الصحيحة كما تنظر إلى زيد وترى جميعه برؤية واحدة وتكون عوالم المعقولات مع تكثرها بالنسبة إليه عالما واحدا نسبته إلى بصيرته كنسبة زيد إلى بصرك فلا ريب في جواز ذلك ووقوعه لاقتضاء الحكمة الإلهية إياه نظرا إلى نظام العالم وقيام أحوال بني آدم ولكن من أضله الله فلا هادي له، نسأل الله الهداية والدراية ونعوذ بالله من الغباوة والغواية إنه على كل شئ قدير وبالإجابة جدير.


[ 305 ]

باب اختلاف الحديث باب اختلاف الحديث * الأصل: 1 - علي بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن إبراهيم بن عمر اليماني، عن أبان بن أبي عياش، عن سليم بن قيس الهلالي قال: قلت لأمير المؤمنين (عليه السلام): إني سمعت من سلمان والمقداد وأبي ذر شيئا من تفسير القرآن وأحاديث عن نبي الله (صلى الله عليه وآله) غير ما في أيدي الناس ثم سمعت منك تصديق ما سمعت منهم ورأيت في أيدي الناس أشياء كثيرة من تفسير القرآن ومن الأحاديث عن نبي الله (صلى الله عليه وآله) أنتم تخالفونهم فيها وتزعمون أن ذلك كله باطل أفترى الناس يكذبون على رسول الله (صلى الله عليه وآله) متعمدين ويفسرون القرآن بآرائهم ؟ قال: فأقبل علي فقال: " قد سألت فافهم الجواب: إن في أيدي الناس حقا وباطلا وصدقا وكذبا وناسخا ومنسوخا وعاما وخاصا ومحكما ومتشابها وحفظا ووهما، وقد كذب على رسول الله (صلى الله عليه وآله) على عهده حتى قام خطيبا فقال: أيها الناس قد كثرت علي الكذابة فمن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ثم كذب عليه من بعده، وإنما أتاكم الحديث من أربعة ليس لهم خامس: رجل منافق يظهر الإيمان متصنع بالإسلام لا يتأثم ولا يتحرج أن يكذب على رسول الله (صلى الله عليه وآله) متعمدا، فلو علم الناس أنه منافق كذاب لم يقبلوا منه ولم يصدقوه ولكنهم قالوا: هذا قد صحب رسول الله (صلى الله عليه وآله) ورآه وسمع منه، وأخذوا عنه وهم لا يعرفون حاله وقد أخبره الله عن المنافقين بما أخبره ووصفهم بما وصفهم فقال عز وجل * (وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم) * ثم بقوا بعده فتقربوا إلى أئمة الضلالة والدعاة إلى النار بالزور والكذب والبهتان فولوهم الأعمال وحملوهم على رقاب الناس وأكلوا بهم الدنيا وإنما الناس مع الملوك والدنيا إلا من عصم الله فهذا أحد الأربعة. ورجل سمع من رسول الله شيئا لم يحمله على وجهه ووهم فيه ولم يتعمد كذبا فهو في يده يقول به ويعمل به ويرويه فيقول: أنا سمعته من رسول الله (صلى الله عليه وآله) فلو علم المسلمون أنه وهم لم يقبلوه ولو علم هو أنه وهم لرفضه. ورجل ثالث سمع من رسول الله (صلى الله عليه وآله) شيئا أمر به ثم نهى عنه وهو لا يعلم أو سمعه ينهى عن شئ ثم أمر به وهو لا يعلم فحفظ منسوخه ولم يحفظ الناسخ ولو علم أنه منسوخ لرفضه ولو علم المسلمون إذ سمعوه منه أنه منسوخ لرفضوه.


[ 306 ]

وآخر رابع لم يكذب على رسول الله (صلى الله عليه وآله) مبغض للكذب خوفا من الله وتعظيما لرسول الله (صلى الله عليه وآله) لم ينسه بل حفظ ما سمع على وجهه فجاء به كما سمع لم يزد فيه ولم ينقص منه وعلم الناسخ من المنسوخ، فعمل بالناسخ ورفض المنسوخ، فإن أمر النبي (صلى الله عليه وآله) مثل القرآن ناسخ ومنسوخ [ وخاص وعام ] ومحكم ومتشابه، قد كان يكون من رسول الله (صلى الله عليه وآله) الكلام له وجهان: كلام عام وكلام خاص مثل القرآن، وقال الله عز وجل في كتابه: * (ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهيكم عنه فانتهوا) * فيشتبه على من لم يعرف ولم يدر ما عنى الله به ورسوله (صلى الله عليه وآله) وليس كل أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يسأله عن الشئ فيفهم وكان منهم من يسأله ولا يستفهمه حتى أن كانوا ليحبون أن يجئ الأعرابي والطاري فيسأل رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى يسمعوا وقد كنت أدخل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) كل يوم دخلة وكل ليلة دخلة فيخليني فيها أدور معه حيث دار، وقد علم أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه لم يصنع ذلك بأحد من الناس غيري، فربما كان في بيتي يأتيني رسول الله (صلى الله عليه وآله) أكثر ذلك في بيتي وكنت إذا دخلت عليه بعض منازله أخلاني وأقام عني نساءه فلا يبقى عنده غيري وإذا أتاني للخلوة معي في منزلي لم تقم عني فاطمة ولا أحد من بني وكنت إذا سألته أجابني وإذا سكت عنه وفنيت مسائلي ابتدأني فما نزلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله) آية من القرآن إلا أقرأنيها وأملاها علي فكتبتها بخطي وعلمني تأويلها وتفسيرها وناسخها ومنسوخها ومحكمها ومتشابهها وخاصها وعامها ودعا الله لي بما دعا وما ترك شيئا علمه الله من حلال وحرام ولا أمر ولا نهي كان أو يكون ولا كتاب منزل على أحد قبله من طاعة أو معصية إلا علمنيه وحفظته فلم أنس حرفا واحدا، ثم وضع يده على صدري ودعا الله لي أن يملأ قلبي علما وفهما وحكما ونورا، فقلت: يا نبي الله، بأبي أنت وامي منذ دعوت الله لي بما دعوت لم أنس شيئا ولم يفتني شئ لم أكتبه أفتتخوف علي النسيان فيما بعد ؟ فقال: لا لست أتخوف عليك النسيان والجهل ". * الشرح: (علي بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن إبراهيم بن عمر اليماني) قال العلامة في الخلاصة: قال النجاشي: إنه شيخ من أصحابنا ثقة روى عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) ذكر ذلك أبو العباس وغيره، وقال ابن الغضائري: إنه ضعيف جدا روى عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) وله كتاب ويكنى أبا إسحاق والأرجح عندي قبول روايته وإن حصل بعض الشك للطعن فيه واعترض عليه الشهيد (رحمه الله) أولا: بأن الجرح والتعديل معارضان فيه والترجيح مع الجرح كما هو المقرر عندهم، وثانيا: بأن النجاشي نقل توثيقه عن أبي العباس وغيره كما يظهر من كلامه.


[ 307 ]

والمراد بأبي العباس إما أحمد بن عقدة وهو زيدي المذهب لا يعتمد على توثيقه، أو ابن نوح، ومع الاشتباه لا يفيد فائدة يعتمد عليها. (عن أبان بن أبي عياش) بالعين المهملة والشين المعجمة، واسم أبي عياش فيروز بالفاء المفتوحة والياء الساكنة المنقطة تحتها نقطتين وبعدها راء وبعدا لواو زاي وأنه تابعي ضعيف روى عن أنس ابن مالك وعن علي بن الحسين (عليهما السلام) لا يلتفت إليه وينسب أصحابنا وضع كتاب سليم بن قيس إليه هكذا نقله العلامة عن ابن الغضائري، وكذا قال: قال شيخنا الطوسي (رحمه الله) في كتاب الرجال: إنه ضعيف. (عن سليم بن قيس الهلالي) سليم بضم السين والهلال حي من هوازن قال العلامة: قال السيد علي بن أحمد العقيقي: كان سليم بن قيس من أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) طلبه الحجاج ليقتله فهرب وأوى إلى أبان بن أبي عياش وهو في ناحية فارس فلما حضرته الوفاة قال لأبان: إن لك علي حقا وقد حضرني الموت يابن أخي إنه كان من الأمر بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) كيت وكيت وأعطاه كتابا (1) فلم يرو عن سليم بن قيس أحد من الناس سوى أبان وذكر أبان في حديثه قال: كان شيخا سعيدا له نور يعلوه، وقال ابن الغضائري: سليم بن قيس الهلالي العامري روى عن أبي عبد الله والحسن والحسين وعلي بن الحسين (عليهم السلام). ثم قال العلامة: والوجه عندي الحكم بتعديله. وقال بعض المحدثين من أصحابنا: هو صاحب أمير المؤمنين (عليه السلام) ومن خواصه روى عن السبطين والسجاد والباقر والصادق (عليهم السلام) وهو من الأولياء والمتنسكين والحق فيه وفاقا للعلامة وغيره من وجوه الأصحاب تعديله وهذا الحديث وإن كان ضعيفا بحسب السند لكنه صحيح بحسب المضمون لأنه مقبول عند العلماء ومشهور بين الخاصة والعامة ومعلوم بحسب التجربة. (قال: قلت لأمير المؤمنين (عليه السلام): إني سمعت من سلمان والمقداد وأبي ذر شيئا من تفسير القرآن


1 - وقد ذكرنا في غير موضع أن التكلم في سليم بن قيس وأبان بن أبي عياش ينبغي أن يخصص بهذا الكتاب الموجود بأيدينا المعروف بكتاب سليم والحق أن هذا كتاب موضوع لغرض صحيح نظير كتاب الحسنية وطرائف ابن طاووس والرحلة المدرسية للبلاغي وأمثاله وأن واضعه جمع امورا مشهورة وغير مشهورة ولما لم يكن معصوما أورد فيه أشياء غير صحيحة. والظاهر أنه وضع في أواخر دولة بني امية حين لم يجاوز عدد خلفاء الجور الاثنى عشر إذ ورد فيه أن الغاصبين منهم اثنا عشر وبعدهم يرجع الحق إلى أهله مع أنهم زادوا ولم يرجع. وبالجملة: إن تأيد ما فيه بدليل من خارج فهو، وإلا فلا اعتبار بما يتفرد به، والغالب فيه التأيد وعدم التفرد. (ش) (*)

[ 308 ]

وأحاديث) بالنصب عطف على شيئا أو بالجر عطف على التفسير. (عن نبي الله (صلى الله عليه وآله) غير ما في أيدي الناس) صفة ل‍ " شيئا " أو حال عنه بتأويل مغايرا. (ثم سمعت منك تصديق ما سمعت منهم ورأيت في أيدي الناس) غير ما سمعت من سلمان وأضرابه أو العطف للتفسير. (أشياء كثيرة من تفسير القرآن ومن الأحاديث عن نبي الله (صلى الله عليه وآله) أنتم تخالفونهم فيها وتزعمون أن ذلك كله باطل) (1)، هذه الجملة الاسمية إما صفة لأشياء أو حال عنها. (أفترى الناس يكذبون على رسول الله (صلى الله عليه وآله) متعمدين ويفسرون القرآن بآرائهم ؟) كأن سليما سأل عن التفاسير والأحاديث المبتدعة بعد الرسول (صلى الله عليه وآله) وما يبنى عليها من الأفعال المبتدعة في الدين، أو خلجت في قلبه شبهة في اختلاف الناس في تفسير الكتاب والأحاديث المستلزمين لاختلاف المذاهب والأهواء وحدوث البدع والآراء فتوهم أن كلها حق لاستبعاده الكذب عليه (صلى الله عليه وآله). (قال: فأقبل علي فقال: قد سألت فافهم الجواب: إن في أيدي الناس حقا وباطلا) أي أمرا مطابقا للواقع وغير مطابق له بفتح الباء فيهما. (وصدقا وكذبا) أي خبرا مطابقا للواقع وغير مطابق له بكسر الباء فيهما، وفي شرح نهج البلاغة


1 - حديث سليم هذا مما لا يضر فيه ضعف الاسناد لتأيده بالعقل والتجربة، وقال العلامة (رحمه الله) في النهاية: إن الداعي إلى الكذب، اما من جهة السلف وهم منزهون عن تعمد الكذب إنما يقع على وجوه: الأول: أن يكون الراوي يروي الخبر بالمعنى فيبدل لفظا بآخر يتوهم أنه بمنزلته وهو لا يطابقه. الثاني: ربما نسي لفظا لأنهم لم يكن من عادتهم الكتابة لما يسمعونه فيبدله بغيره وربما نسي زيادة يصح بها الخبر. الثالث: ربما روى عن الواسطة ونسي ذلك فأسنده إلى الرسول (عليه السلام) توهما أنه سمعه منه لكثرة صحبته له، ولذا كان (عليه السلام) يستأنف الحديث إذا دخل عليه شخص ليكمل له الرواية كما أنه قال (عليه السلام): " الشؤم في ثلاثة: المرأة والدار والفرس " إنما قال (عليه السلام) ذلك حكاية عن غيره. الرابع: ربما خرج الحديث عن سبب وهو مقصور عليه، ويصح معناه به فيجب روايته مع السبب وإن حذف سببه أوهم الخطأ كما روى أنه قال: " التاجر فاجر "، فقالت عائشة: إنما قال في تاجر دلس. الخامس: روي أن أبا هريرة كان يروي أخبار الرسول (عليه السلام) وكعب كان يروي أخبار اليهود فيشتبه على السامعين فيروي بعضهم ما سمعه من كعب عن أبي هريرة. وأما من جهة الخلف فوجوه: الأول: وضع الملاحدة أباطيل نسبوها إلى النبي لتنفير الناس عن النبي (صلى الله عليه وآله). الثاني: ربما يكون الراوي يجوز الكذب المؤدي إلى إصلاح الامة. الثالث: الرغبة كما وضع في ابتداء دولة بني العباس أخبار في النص على إمامة العباس وولده. انتهى. (ش) (*)

[ 309 ]

ذكر الصدق والكذب بعد الحق والباطل من قبيل ذكر الخاص بعد العام، لأن الصدق والكذب من خواص الخبر، والحق والباطل يصدقان على الأفعال أيضا، وقيل: الحق والباطل هنا من خواص الرأي والاعتقاد، والصدق والكذب من خواص النقل والرواية. (وناسخا ومنسوخا) النسخ في اللغة الإزالة والإعدام وفي العرف رفع حكم شرعي بدليل شرعي متأخر والمتأخر ناسخ والمتقدم منسوخ ومعنى الرفع أنه لولا المتأخر لثبت المتقدم وسماه بعضهم تخصيصا لتخصيص الحكم المتقدم ببعض الأزمان، وقيل: المتأخر بيان لا رافع ومعناه أن الحكم المتقدم انتهى بذاته في وقت المتأخر وحصل بعده لأجل المتأخر حكم آخر فلا تأثير للمتأخر في زوال المتقدم بل هو قرينة لانتهاء حكم المتقدم واتفق المسلمون على جواز ذلك ووقوعه سواء كان الثاني بيانا أو رافعا، ووافقهم العثمانية العيسوية من اليهود (1)، وذهب جمهورهم إلى أنه ممتنع وتمسكوا بدليل عقلي ونقلي. وقد أوضحنا فسادهما في اصول الفقه. (وعاما وخاصا) العام عرفوه بوجوه، والخاص يقابله وأجودها: أنه اللفظ المستغرق لما يصلح له (2) ونقض عكسا بالمسلمين والرجال إن اريد بالموصول الجزئيات لأن عموميتها باعتبار الأجزاء كما هو الحق لا باعتبار الجزئيات من الجموع المتعددة فلا يصدق الحد عليهما وبالرجل ولا رجل إن اريد به الأجزاء لأن عموميتهما باعتبار الجزئيات لا باعتبار الأجزاء. والجواب: أنا نختار الأول ونقول: اللام يبطل معنى الجمعية كما صرح به جماعة من المحققين فحينئذ يصدق الحد على المسلمين والرجال لأنهما يستغرقان جميع جزئياتهما بعد دخول اللام. (ومحكما ومتشابها) قال الشيخ بهاء الملة والدين: المحكم في اللغة هو المضبوط المتقن ويطلق في الاصطلاح على ما اتضح معناه وظهر لكل عارف باللغة مغزاه وعلى ما كان محفوظا من النسخ أو التخصيص أو منهما معا وعلى ما كان نظمه مستقيما خاليا عن الخلل وعلى ما لا يحتمل من التأويل إلا وجها واحدا ويقابل بكل من هذه المعاني المتشابه، وكل منهما يجوز أن يكون مرادا له (عليه السلام) بقوله: " محكما ومتشابها ". أقول: هذه المعاني ذكرها جماعة من العامة أيضا، والمعنى الأول وهو أن المحكم ما اتضح معناه وانتفى عنه الاشتباه، والمتشابه نقيضه رجحه الغزالي لأن المحكم اسم مفعول من أحكم والإحكام الضبط والإتقان ولا شك أن ما كان واضح المعنى كان مضبوطا متقنا لا اشتباه فيه، والمعنى الثاني ما


1 - الطائفتان غير معروفتين لنا، ولعل في اللفظ تصحيفا والاحتجاج مع اليهود في جواز النسخ مبسوط مفصل في كتب الاصول خصوصا في النهاية فارجع إليها. (ش) 2 - لنا كلام في الخاص والعام تأتي الإشارة إليه إن شاء الله. (ش) (*)

[ 310 ]

نقله الآبي في شرح مسلم من أن المحكم الناسخ والمتشابه المنسوخ وإرادة هذا المعنى هنا لا تخلو من تكرار. ولطائفة من العامة أقوال اخر في تفسيرهما فقيل: المتشابه هو الحروف المقطعة والمحكم غيرها، وقيل: المتشابه ما اتفق لفظه وغمض إدراك الفرق بين معانيه كقوله تعالى: * (وأضله الله على علم) * مع قوله تعالى: * (وأضل فرعون قومه وما هدى) * فلفظ الإضلال فيهما واحد واختلاف حقيقة اللفظين يعسر إدراكه من حيث اللفظ وإنما يدرك بالعقل اختلاف هذه المعاني وما يصح منها وما لم يصح. وقيل: المحكم آيات الأحكام والمتشابه آيات الوعيد. وقيل: المحكم ما يعلمه الراسخون في العلم والمتشابه ما انفرد الله تعالى بعلمه. وقيل: المحكم الوعد والوعيد والحلال والحرام والمتشابه القصص والأمثال. وقيل: المتشابه آيات الساعة والمحكم ما عداها. (وحفظا ووهما) مصدران بمعنى المحفوظ والموهوم. وفي نهج البلاغة: الحفظ ما حفظ عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كما هو، والوهم ما غلط فيه فتوهم مثلا أنه عام وهو خاص، أو أنه ثابت وهو منسوخ، إلى غير ذلك، ولما فرغ عن ذكر أنواع الكلام المنقول عنه (صلى الله عليه وآله) على وجه يشعر بوقوع الكذب والغلط فيه أشار إلى إثبات وجودهما في حال حياته وبعد موته (صلى الله عليه وآله) بالبرهان دفعا لاستبعاد السائل بقوله: (وقد كذب على رسول الله (صلى الله عليه وآله) على عهده) في شرح نهج البلاغة ذلك نحو ما روي أن رجلا سرق رداء النبي (صلى الله عليه وآله) وخرج إلى قوم وقال: هذا رداء محمد أعطانيه لتمكنوني من تلك المرأة فاستنكروا من ذلك فبعثوا من سأله (صلى الله عليه وآله) عن ذلك فقام الرجل الكاذب فشرب ماء فلدغته عقرب فمات، وكان النبي حين سمع بتلك الحال قال لعلي (عليه السلام): خذ السيف وانطلق، فإن وجدته وقد كفن فأحرقه بالنار، فجاء وأمر بإحراقه فكان ذلك سبب الخبر المذكور في قوله: (حتى قام خطيبا فقال: أيها الناس، قد كثرت علي الكذابة) الكذاب بفتح الكاف وتشديد الذال المعجمة من صيغ المبالغة والتاء لزيادة المبالغة وتأكيد لها والجار إما متعلق به أو بكثرت على تضمين أجمعت ونحوه كذا ضبطه الشيخ (رحمه الله) (1)، وقال السيد الداماد (رحمه الله): الكذابة بكسر الكاف وتخفيف المعجمة مصدر كذب يكذب، والمصدر على فعال وفعالة بكسر الفاء فاش في لغة فصحاء العرب ومنه كتب فلان الكتاب كتابا وكتابة، أي كثرت علي كذابة الكاذبين ويصح أيضا جعل الكذابة بمعنى المكذوب كالكتاب بمعنى المكتوب والتاء للتأنيث يعني كثرت الأحاديث المفتراة علي وأما الكذابة بالفتح والتشديد بمعنى الواحد البليغ في الكذب والتاء لزيادة المبالغة والمعنى كثرت


1 - يعني به الشيخ بهاء الملة والدين العاملي (رحمه الله) قاله في أربعينه في شرح الحديث الحادي والعشرين. (*)

[ 311 ]

علي أكاذيب الكذابة، أو التاء للتأنيث والمعنى كثرت الجماعة الكذابة على (فرزانتها) من حيث الرواية في درجة نازلة. والحق جواز كلا الوجهين من غير تفاوت، وفي هذا القول دلالة على وجود الكذب عليه (صلى الله عليه وآله) لأن هذا القول إما صادق أو كاذب وعلى التقديرين فقد كذب عليه. (فمن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار) يقال: تبوأ منزله ومقعده أي هيأه أو نزله واستقر فيه، فمن على الأول متعلق به وصلة له، وعلى الثاني بيان للمقعد أو حال عنه. (ثم كذب عليه من بعده) من حرف جر لا موصول وإذا أمكن تحقق الكذب عليه في عهده مع إمكان الرجوع إليه وظهور فضيحة الكاذب كما في السارق المذكور أمكن تحققه بعده بالطريق الأول ودعوى صرفه القلوب عن ذلك بطلانها ظاهر. وقال الشيخ (1): دل على وقوع الكذب عليه وجود الأحاديث المتنافية التي لا يمكن الجمع بينها وليس بعضها ناسخا لبعض (2) قطعا وقد وضع الزنادقة - خذلهم الله - كثيرا من الأحاديث وكذا الغلاة والخوارج. وحكي أن بعضهم كان يقول بعد ما رجع عن ضلالته: انظروا إلى هذه الأحاديث عمن تأخذونها فإنا كنا إذا رأينا رأيا وضعنا له


1 - أكثر ما ذكره ناظر إلى أحاديث العامة المروية عن النبي (صلى الله عليه وآله) ولا يخفى أن مثله جار في أحاديثنا أيضا، إذ الدواعي إلى تعمد الكذب أو تطرق الأوهام إليه كثيرة على ما سبق نقلا عن نهاية الاصول، وقد ذهب الأخباريون من علمائنا إلى أن الأخبار المروية في الكتب الأربعة أو فيها وفي غيرها من الكتب المعتبرة صادرة عن أئمتنا (عليهم السلام) يقينا، وهذا باطل جدا أو بسط العلماء في ردهم وتضعيفهم الكلام بما يغنينا عن إعادته وكيف يكون جميعها صادرة عنهم مع أن فيها ما يخالف الضروري المعلوم من مذهبهم (عليهم السلام) مثل روايات عدم نقص شهر رمضان أبدا وفيها ما يخالف المشهور بيننا وبين المسلمين كطهارة الخمر ؟ والعجب من بعض المتأخرين حيث ادعى أن الظن الاطمئناني علم وأن هذه الروايات تفيد الظن الاطمئناني المقدمتان ممنوعتان لأن حصول الظن الاطمئناني بأن جميع من سمع من الأئمة (عليهم السلام) نقل عين ما سمعه بغير تبديل ولم يتغير كلامه في النقل شفاها أو كتبا محال نقطع بخلافه وإن أرادوا حفظ حاصل المضمون لا جميع الكلمات فحصول الظن الاطمئناني به أيضا ممنوع ومعنى الظن الاطمئناني عندهم أن يكون احتمال الخلاف فيه غير معتد به عند العقلاء ونحن لا نجد ذلك من أنفسنا ولو فرضنا أن في ألف حديث خمسين حديثا مغيرا عن أصله أو مكذوبا نعتد به يقينا كما لو احتمل في ألف قارورة من الدواء خمسون قارورة من السموم نعتني به يقينا. وأما أن الظن الاطمئناني ليس علما فقد بيناه في موضع أليق. (ش) 2 - هذا ناظر إلى أحاديث الشيعة، وهو دليل قوي على وجود المكذوب فيها، وقد تكلف بعض المحدثين بحملها على التقية مع أن ذلك غير ممكن في كثير منها كروايات طهارة الخمر وربما حملها بعضهم على أن غرض الأئمة (عليهم السلام) إلقاء الخلاف عمدا لمصالح ولا أدري ما الداعي إلى ذلك ؟ وسنشير إلى وجهه إن شاء الله. (ش) (*)

[ 312 ]

حديثا وقد صنف جماعة من العلماء كالصغاني وغيره كتابا في بيان الأحاديث الموضوعة وعدوا فيه أحاديث كثيرة وحكموا بأنها من الموضوعات، قال الصغاني في كتاب الدر الملتقط: ومن الموضوعات ما زعموا أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: " إن الله يتجلى للخلائق يوم القيامة عامة ويتجلي لك يا أبا بكر خاصة " وأنه قال: " حدثني جبرئيل أن الله تعالى لما خلق الأرواح اختار روح أبي بكر من بين الأرواح " وأمثال ذلك كثير، ثم قال الصغاني: وأنا أنتسب إلى عمر وأقول فيه الحق لقول النبي (صلى الله عليه وآله): " قولوا الحق ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين " فمن الموضوعات ما روي: " أن أول من يعطى كتابه بيمينه عمر بن الخطاب وله شعاع كشعاع الشمس، قيل: فأين أبو بكر ؟ قال: سرقه الملائكة ". ومنها: " من سب أبا بكر وعمر قتل، ومن سب عثمان وعليا جلد الحد "، إلى غير ذلك من الأحاديث المختلقة. ومن الموضوعات: " زر غبا تزدد حبا " " النظر إلى الخضرة تزيد في البصر " " من قاد أعمى أربعين خطوة غفر الله له " " العلم علمان علم الأديان وعلم الأبدان " انتهى كلام الصغاني منتخبا، وقد ظهر في الهند بعد الستمائة من الهجرة شخص اسمه " بابارتن " ادعى أنه من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأنه عمر إلى ذلك الوقت وصدقه جماعة واختلق أحاديث كثيرة زعم أنها سمعها من النبي (صلى الله عليه وآله)، قال صاحب القاموس: سمعنا تلك الأحاديث من أصحاب أصحابه وقد صنف الذهبي في تبيين ذلك الشخص اللعين كتابا سموه " كسروثن بابارتن ". انتهى كلام الشيخ. وقد رأيت خط العلامة الحلي الذي كتبه بيده في الرابع والعشرين من شهر رجب من سنة سبع عشرة وسبعمائة رويت عن مولانا شرف الملة والدين إسحاق بن محمود اليماني القاضي عن خاله مولانا عماد الدين محمد بن محمد بن فتحان القمي عن صدر الدين الساوي قال: دخلت على الشيخ بابارتن وقد سقط حاجباه على عينيه فرفعا عنهما فنظر إلي وقال: ترى عينين طالما نظرتا إلى وجه رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقد سمعته يوم الخندق وكان يحمل على ظهره التراب (صلى الله عليه وآله) وهو يقول: " اللهم إني أسألك عيشة سوية وميتة نقية ومردا غير مخز ولا فاضح " ونقل صاحب كتاب مجالس المؤمنين عن الشيخ مجدالدين الفيروزآبادي الشافعي مصنف كتاب قاموس اللغة أنه قال في باب فضائل أبي بكر سفر السعادة: أشهر المشهورات من الموضوعات حديث " إن الله يتجلى للناس عامة ولأبي بكر خاصة " وحديث " ما صب الله في صدري شيئا إلا وصببته في صدر أبي بكر " وحديث " أنا وأبو بكر كفرسي رهان " وحديث " إن الله لما اختار الأرواح اختار روح أبي بكر " وأمثال هذا من المفتريات المعلوم بطلانها ببديهة العقل. انتهى كلامه (1).


1 - قال الفيروزآبادي في سفر السعادة: 2 / 203: (باب فضائل أبي بكر الصديق اشهر المشهورات من الموضوعات) ونقله في كشف الخفاء: 2 / 419 وراجع الفوائد المجموعة: 330 باب مناقب الخلفاء. (*)

[ 313 ]

ومما دل على وضع حديث الصب أن أبا بكر لم يكن عالما بكثير من معاني القرآن وأحكام الشرع باتفاق الامه وقد صرح الشيخ جلال الدين السيوطي بذلك في كتاب الإتقان حيث قال: أخرج أبو عبيد في الفضائل عن إبراهيم التيمي أن أبا بكر سئل عن قوله تعالى: * (وفاكهة وأبا) * فقال: أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إن أنا قلت في كتاب الله ما لا أعلم. انتهى. ومن البين أن الله تعالى صب معنى الأب في صدر نبيه (صلى الله عليه وآله) فلو كان الحديث المذكور صحيحا لكان أبو بكر أيضا عالما به. اللهم إلا أن يقولوا: إن أبا بكر كان عالما به ثم نسيه أو يقولوا لحفظ شأن أبي بكر إن النبي لم يكن عالما به. ولما بين وقوع الكذب والافتراء في الرواية شرع في قسمة رجال الحديث وقسمهم أربعة أقسام ليظهر أن الاختلاف في الرواية ليس بمجرد الكذب فقط بل لوجوه اخر مع ما فيه من الإشارة إلى أن كل راو لا يجوز الأخذ بقوله بل ينبغي الأخذ بقول الراوي العالم بشرائط صحة الرواية التي هي شرائط القبول فقال: (وإنما أتاكم الحديث من أربعة) أي من أربعة رجال وأكد الحصر بقوله: (ليس لهم خامس) وجه الحصر أن الراوي إما منافق مفتر للكذب أولا، والثاني إما أن لا يكون حافظا ضابطا للمسموع أو يكون، والثاني إما أن لا يكون عالما بما ينافي المسموع من النسخ والتخصيص وغيرهما أو يكون عالما به، فهذه أربعة أقسام على الترتيب المذكور. فإن قلت: هنا قسم خامس وهو رجل معتقد بالإسلام افترى كذبا على الرسول (صلى الله عليه وآله) لغرض من الأغراض وتأثم منه فإنه ليس بداخل في الأقسام الأربعة، وقلت: هذا داخل في القسم الأول لأنه لما لم يعمل بمقتضى إيمانه فكأنه ليس بمؤمن ومع ذلك مظهر له فهو منافق وهذا كما يقال لمن لم يعمل بعلمه: لا علم له. (رجل منافق) كشف عن معناه وأوضح حقيقته بقوله: (يظهر الإيمان) شعارا له بإظهار الشهادتين أو بقوله: آمنا بالله وبرسوله. (متصنع بالإسلام) أي متكلف له ومتدلس به ومتزين بحسن السمت وزي أهل الفلاح ومتلبس بهيئة أهل الخير والصلاح من غير أن يتصف بشئ من ذلك في نفس الأمر. (لا يتأثم ولا يتحرج) العطف للتفسير والجملة حال عن فاعل يظهر أو خبر بعد خبر أي لا يعد آثما. (أن يكذب) أي على أن يكذب أو في أن يكذب. (على رسول الله (صلى الله عليه وآله) متعمدا) على حسب ما أراد في أمر الدين أو الدنيا لعدم الإيمان به وباليوم الآخر فقد ذكر له ثلاثة أوصاف وهو بالوصف الأخير المسبب عن عدم الإيمان في الباطن يفتري


[ 314 ]

الكذب عليه وبالوصفين الأولين يروجه كما أشار إليه بقوله: (فلو علم الناس أنه منافق كذاب لم يقبلوا منه) مفترياته. (ولم يصدقوه) فيها. (ولكنهم قالوا: هذا قد صحب رسول الله (صلى الله عليه وآله) ورآه وسمع منه) وهو مؤمن. (وأخذوا عنه) ما رواه. (وهم لا يعرفون حاله) في النفاق والافتراء. فإن قلت: هل عليهم إثم بقبول قوله إذا بذلوا جهدهم ولم يعرفوا نفاقه ولا بطلان قوله عقلا وسمعا أم لا ؟ قلت: الظاهر لا، لأن الإثم بسبب مخالفة التكليف بعدم قبول قوله ولم يقع التكليف به حينئذ لاستحالة التكليف بما لا يطاق وإنما قلت: الظاهر ذلك لاحتمال تحقق الإثم بسبب عدم رجوعهم إلى من ينبغي الأخذ منه بعده (صلى الله عليه وآله) وهو وصيه والقائم مقامه في تبليغ الأحكام الدينية. (وقد أخبره الله عن المنافقين بما أخبره) كقوله تعالى: * (إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون) * فإنه دل على أن شأنهم الكذب مطلقا أو وصفهم الكذب فيما يدعون من مطابقة عقائدهم لألسنتهم في تلك الشهادة ومن كان يعتقد أنه غير رسول فإنه لا يتأثم بالكذب عليه ولا يحذر منه. (ووصفهم بما وصفهم) يحتمل أن يكون العطف للتفسير ومضمون المعطوف والمعطوف عليه على هذا ما فسره بقوله: (فقال عز وجل: * (وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم) *) المقصود أن النبي (صلى الله عليه وآله) مع علو منزلته كان يعجب بهياكلهم ويصغي إلى كلامهم لضخامة أجسامهم ولطافة أجسادهم وطلاقة لسانهم وفصاحة بيانهم وبلاغة كلامهم حتى أخبره الله عن حالهم بما أخبره فكيف بمصاحبتهم مع الناس ؟ فإنها توجب اغترارهم بحكاياتهم وتصديقهم فيما نقلوه من أحاديثهم ورواياتهم والإصغاء إلى أكاذيبهم ومفترياتهم لفقد العلم بضمائرهم وعدم الاطلاع على سرائرهم والغرض من نقل الآية هو التأكيد لما ذكر من ثبوت الكذب عليه عمدا والتنبيه على صعوبة معرفتهم، لأن ظاهرهم ظاهر حسن والباطن لا يعلمه إلا الله سبحانه وعلى أن حسن الظاهر لا يوجب طهارة الباطن فلا بد للسامع من اختباره باطنا ليحصل له الوثوق بقوله وعلى أنه مع عدم الاطلاع لا يكون آثما.


[ 315 ]

(ثم بقوا بعده فتقربوا إلى أئمة الضلالة) وهم الخلفاء الثلاثة وامراء بني امية (1). (والدعاة إلى النار) أراد دعاءهم إلى اتباعهم فيما يخالف دين الحق ويوجب الدخول في النار. (بالزور والكذب والبهتان) متعلق بتقربوا لا بالدعاة وإشارة إلى ما كانوا يتقربون به إليهم من وضع الأخبار عن الرسول (صلى الله عليه وآله) في فضلهم وأخذهم على ذلك الأجر من اولئك الأئمة، والعطف للتفسير، ويمكن حمل الزور على الافتراء بما يدل على حقيقة خلافتهم كأنه شاهد زور لهم وحمل الكذب على الافتراء بما يوافق آراءهم ويناسب أهواءهم، وحمل البهتان على الافتراء بما يدل على ذم مخالفيهم. (فولوهم الأعمال وحملوهم على رقاب الناس) ضمير الفاعل يعود إلى أئمة الضلال وضمير المفعول إلى المنافقين أي جعلوهم ولاة للأعمال وحكاما على الناس ويحتمل العكس أيضا، لأن المنافقين لو تركوهم لبقوا بلا ناصر فكان الحق يرجع إلى أهله. (وأكلوا بهم الدنيا) الباء للسببية أو بمعنى مع وهذا كما هو المعروف من حال عمرو بن العاص مثلا قال الآبي في كتاب إكمال الإكمال: ولي عمرو بن العاص مصر عشر سنين وثلاثة أشهر وأربعة لعمر وأربعة لعثمان وسنتين وثلاثة أشهر لمعاوية وتوفي سنة ثلاث وأربعين وهو ابن تسعين سنة، وقيل غير ذلك وترك من الناض (2) ثلاثمائة ألف دينار وخمسة وعشرين ألف دينار ومن الورث ألفي ألف درهم وغلة ألفي ألف دينار وضيعته المعروفة بالرهط وقيمتها عشرة آلاف ألف درهم ولما حضرته الوفاة نظر إلى ماله وقال: ليتك بعرا، وليتني مت في غزوة السلاسل لقد دخلت في امور ما أدري ما حجتي فيها عند الله ؟ أصلحت لمعاوية دنياه وأفسدت آخرتي عمي عني رشدي حتى حضر أجلي، ثم قال لابنه: ائتني بجامعة فشد بها يدي إلى عنقي ففعل ثم وضع اصبعه في فمه كالمتفكر المتندم حتى مات وقال له ابنه عبد الله: يا أبت، كيف تقول ؟ ليتني أحضر رجلا عاقلا نزل به الموت يحدثني بما يجد وقد نزل بك ؟ فحدثني بما تجد فقال: يا بني، لكأني في طحن، ولكأني أتنفس في سم الخياط ولكأن غصن شوك جر من قدمي إلى هامتي.


1 - إن كان هذا كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) لا يمكن أن يريد به بني امية لأنهم لم يكونوا متولين للأمر بعد وإن كان من كلام ابن أبي عياش بناء على أن الكتاب موضوع منه فهو كلام صحيح مؤيد بالعقل والتجربة وإن كان نسبته إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) كاذبة وعلى فرض صحة صدوره منه (عليه السلام) فالواجب حمل أئمة الضلال على الثلاثة فقط، ولكنه مما أسر به إلى خواصه إذ لم يعهد منه (عليه السلام) الطعن عليهم على رؤوس الأشهاد هذا النوع من الطعن بل المعهود منه نظير ما ورد في الخطبة الشقشقية. وأبان بن أبي عياش كان في عهد دولة بني مروان وقدرتهم ورواج جعل الحديث للتقرب إليهم. (ش) 2 - الناض - بالضاد المعجمة - الدرهم والدينار. (*)

[ 316 ]

(وإنما الناس مع الملوك والدنيا إلا من عصم الله (1) فهذا أحد الأربعة) هذا من باب الإطناب بالإيغال وهو ختم الكلام بما يفيد نكتة يتم المعنى بدونها وهي الدلالة إلى أن سبب تقربهم بأئمة الضلال هو ما عليه أكثر الناس من ميل طبائعهم إلى الدنيا وحطامها الفانية وغفلتهم عن الآخرة ولذاتها الباقية، قال شارح نهج البلاغة: فيه إشارة إلى علة فعل المنافق لما يفعل وظاهر أن حب الدنيا هو الغالب على الناس من المنافقين وغيرهم لقربهم من المحسوس وجهلهم بأحوال الآخرة وما يراد بهم من هذه الحياة إلا من عصمه الله بالجذب في طريق هدايته إليه من محبة الامور الباطلة وفيه إيماء إلى قلة الصالحين كما قال تعالى: * (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم) * وقوله: * (وقليل من عبادي الشكور) * وإنما قال: " ثم بقوا بعده " وحكى حالهم مع أئمة الضلال وإن كانوا لم يوجدوا بعد إما تنزيلا لما لا بد منه من ذلك المعلوم له منزلة الواقع أو إشارة إلى من بقي منهم بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وتقرب إلى معاوية لأنه إذ ذاك إمام ضلالة. (ورجل سمع من رسول الله شيئا لم يحمله على وجهه) أي لم يضبط ذلك الشئ المسموع كما سمعه. (وهم فيه) بالزيادة أو النقصان أو بفهمه غير ما أراده (صلى الله عليه وآله) (2) والتعبير عما فهمه بعبارته، تقول: وهم في الحساب يوهم من باب علم وهما بالتحريك إذا غلط فيه وسها ووهم في الشئ يهم من


1 - نقل العلامة (رحمه الله) في نهاية الاصول عن بعض العامة تعجبا من المحدثين أنهم يجرحون الراوي بأدنى سبب ومع علمهم بهذه القوادح يعني في الصحابة حيث كانوا يطعن بعضهم في بعض ويتبرأ بعضهم من بعض بل يقاتل بعضهم بعضا يقبلون روايتهم ويعملون برواية القادح والمقدوح فيه، قال: بل هؤلاء المحدثون أتباع كل ناعق وعبيد كل من غلب يروون كذا لأهل كل دولة في ملكهم، فإذا انقضت دولتهم تركوهم، انتهى. وهذا كله لأن حب المال والجاه الذي دعاهم إلى التقرب من الخلفاء والسلاطين دعاهم أيضا إلى أن ينتسبوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) ويكثروا من ذكره وذكر حديثه ويظهروا أنهم تابعون له (صلى الله عليه وآله) في كل شئ ومتمسكون به لا بغير قوله حتى يشتهروا بذلك بين الناس ويزيد به جاههم ولذلك نرى أكثر المحدثين المكثرين في العامة من مقربي خلفاء بني مروان وأمثالهم في صدر الإسلام بخلاف الشيعة فإنهم كانوا محترزين منهم وكذلك المائلون إليهم من العامة. (ش) 2 - قال العلامة (رحمه الله) في النهاية نقلا عن بعضهم ولعله النظام: ما كانت الصحابة يكتبون كلامه (صلى الله عليه وآله) من أوله إلى آخره لفظا لفظا وإنما كانوا يسمعونه ثم يخرجون من عنده وربما رووا ذلك الكلام بعد ثلاثين سنة ومعلوم أن العلماء الذين تعودوا تلفيق الكلام لو سمعوا كلاما قليلا مرة واحدة فأرادوا إعادته في تلك الساعة بعين تلك الألفاظ من غير تقديم وتأخير لعجزوا عنه فكيف بالكلام الطويل بعد المدة الطويلة من غير تكرار ولا كتبة ومن أنصف علم أن الألفاظ المروية ليست ألفاظه (عليه السلام) ثم بعد المدة الطويلة لا يمكن إعادة المعنى بتمامه، انتهى. (*)

[ 317 ]

باب ضرب وهما بالتسكين إذا ذهب وهمه إليه. (ولم يتعمد كذبا فهو في يده يقول به) أي يعتقد به. (ويعمل به ويرويه فيقول: أنا سمعته من رسول الله (صلى الله عليه وآله) فلو علم المسلمون أنه وهم لم يقبلوه ولو علم هو أنه وهم لرفضه) قال شارح نهج البلاغة: وذلك أن يسمع من الرسول (صلى الله عليه وآله) كلاما فيتصور منه معنى غير ما يريده الرسول ثم لا يحفظ بعينه فيورده بعبارته الدالة على ما تصوره من المعنى فلا يكون قد حفظه وتصوره على وجهه المقصود للرسول فوهم فيه فلم يتعمد كذبا فهو في يديه يرويه ويعمل على وفق ما تصور منه ويسنده إلى الرسول (صلى الله عليه وآله) وعلة دخول الشبهة على المسلمين عدم علمهم بوهمه وعلة دخولها عليه في الرواية والعمل هو وهمه حين السماع حتى لو علم ذلك لترك روايته والعمل به. انتهى. أقول: ما رواه مسلم عن عمر أنه قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله): " إن الميت ليعذب ببكاء بعض أهله (1) " وما رواه عن ابن عمر أنه قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله): " يعذب الميت ببكاء أهله " يحتمل أن يكون من قبيل القسم الأول وأن يكون من هذا القسم، ويؤيد الثاني ما رواه مسلم عن عائشة أنها خطأتهما في روايتهما وقالت: إنهما لم يكذبا ولكن السمع قد يخطئ والله ما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) جنازة يهودي وهم يبكون عليه فقال: " أنتم تبكون وإنه ليعذب ". (ورجل ثالث سمع من رسول الله (صلى الله عليه وآله) شيئا أمر به ثم نهى عنه وهو لا يعلم أو سمعه ينهى عن شئ ثم أمر به وهو لا يعلم فحفظ منسوخه) المأمور به أو المنهي عنه. (ولم يحفظ الناسخ) لعدم سماعه إياه. (ولو علم أنه منسوخ لرفضه ولو علم المسلمون إذ سمعوه منه أنه منسوخ لرفضوه) وعدم العلم بأنه منسوخ (2) علة لدخول الشبهة عليه وعلى المسلمين وهل حكم النسخ يثبت بالنزول أو


1 - راجع صحيح مسلم: ج 3، ص 41 و 42. 2 - وقوع النسخ وإن كان ممكنا واقعا وثبت في الاصول ورد المانع ولكن يجب أن يعلم أنه قليل جدا، أما الأحكام الواردة في القرآن فلا نعلم فيها منسوخا إلا ثلاثة أحكام: الأول: اعتداد المتوفى عنها زوجها حولا كاملا نسخ بأربعة أشهر وعشرة أيام. والثاني: إيذاء الزاني والزانية وحبسهما نسخ بآية الحد. والثالث: وجوب الصدقة لمن أراد النجوى مع رسول الله (صلى الله عليه وآله). وأما الأحكام الواردة في السنة فما نسخ منها بالقرآن كالتوجه إلى بيت المقدس نسخ بالتوجه إلى الكعبة فهي معلومة لا حاجة لنا إلى التكلم فيها، وأما نسخ السنة بالسنة أعني المتواترة أو نسخ المتواترة بالآحاد أو نسخ خبر الواحد بخبر الواحد بناء على حجية الآحاد فمما لم نقف له على مثال نطمئن به وإن = (*)

[ 318 ]

بالوصول ؟ لم أجد فيه تصريحا من الأصحاب واختلفت العامة فيه فبعضهم قال بالأول وبعضهم قال بالثاني، والثاني لا يخلو من قوة لأن النسخ تكليف ثان وشرط التكليف بالشئ بلوغه إلى المكلف لاستحالة تكليف الجاهل ولأن المصلين الذين بلغهم نسخ التوجه إلى بيت المقدس بالتوجه إلى الكعبة داروا في صلاتهم إلى الكعبة ولم يعيدوا ما فعلوه قبل البلوغ ولم ينكر عليهم النبي (صلى الله عليه وآله) فعلى هذا لو بلغ إليه المنسوخ ولم يسمع الناسخ أصلا بعد الفحص فهو على العمل به لا إثم عليه. (وآخر رابع) رابع صفة لآخر أو خبر له. (لم يكذب على رسول الله (صلى الله عليه وآله)) خبر أو خبر بعد خبر أو صفة لرابع. (مبغض للكذب خوفا من الله وتعظيما لرسول الله (صلى الله عليه وآله) لم ينسه) الهاء للوقف أو عائد إلى شئ سمعه بقرينة المقام. (بل حفظ ما سمع على وجهه فجاء به كما سمع) أي فجاء بما سمعه من اللفظ أو من المعنى ولو بلفظ آخر سمعه. (لم يزد فيه ولم ينقص منه) فعرف الخاص والعام والمطلق والمقيد والمحكم والمتشابه. (وعلم الناسخ من المنسوخ، فعمل بالناسخ ورفض المنسوخ) ووضع كل شئ في موضعه كل ذلك لكمال قواه من السامعة والحافظة والعاقلة مع ما له من كمال البصيرة والورع والاجتهاد في الدين واعتبار شرائط قبول الرواية وصحتها، وهذا الذي وجب على الناس الفحص عن وجوده والممسك بذيله إن وجدوه. (فإن أمر النبي (صلى الله عليه وآله)) دليل على تحقق القسم الثاني والثالث والرابع. (مثل القرآن) خبر إن.


= كان فهو في غاية الندرة، ومما يجب إنكاره جدا نسخ الكتاب والسنة المتواترة بأخبار الآحاد وذلك لأنا مأمورون بعرض روايات الآحاد على الكتاب والسنة ورد ما خالفهما وإن كان نسخهما بخبر الواحد جائزا لم يفد عرضه عليهما فائدة وروى في النهاية عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام): لا ندفع كتاب ربنا وسنة نبينا بقول أعرابي يبول على عقبيبه. ومما ادعى فيه النسخ قول النبي (صلى الله عليه وآله): " كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها " ولا يعلم صحتها، ومنه عند العامة حكم المتعة وثبت عندنا خلافه وعلى كل حال فكل حكم ثبت في الشرع بدليل قطعي أو ظني ثبتت حجته لا يجوز التوقف والتشكيك فيه لاحتمال كونه منسوخا بل الضرورة قاضية بأن الأصل عدم النسخ في الأحكام وأن ما ورد من أن في القرآن ناسخا ومنسوخا أو في الحديث لا يراد به إيجاد الشك والترديد في العمل بالكتاب والسنة وعدم الاعتماد عليهما كما هو ظاهر. (ش) (*)

[ 319 ]

(ناسخ ومنسوخ [ وخاص وعام ] ومحكم ومتشابه) خبر بعد خبر وهو مثل القرآن أو بدل عنه أو بيان له أو حال عنه بتقدير مبتدأ أي بعضه ناسخ وبعضه منسوخ وهكذا. (قد كان) تأكيد لقوله: " فإن أمر النبي إلى آخره " ولهذا ترك العاطف واسم كان ضمير الشأن. (يكون من رسول الله (صلى الله عليه وآله) الكلام له وجهان:) " يكون " تامة وهي مع اسمها وهو " الكلام " خبر كان و " له وجهان " حال عن الكلام أو نعت له لأن اللام فيه للعهد الذهني فهو في حكم النكرة أو خبر يكون إن كانت ناقصة. (كلام عام وكلام خاص) عطف على الكلام ولم يذكر سائر الأقسام للاقتصار ولذكرها سابقا. (مثل القرآن) أي كلامه مثل القرآن في اشتماله على الأقسام المذكورة. (وقال الله عز وجل في كتابه: * (ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهيكم عنه فانتهوا) *) لعل الغرض من ذكر الآية هو الإشارة إلى وجوب الأخذ من الرسول والمتابعة له في الأوامر والنواهي والتنبيه على أن المسلمين لما علموا وجوب ذلك عمل كل بما فهمه من خطابه وبلغه من كلامه من غير تفتيش في طلب المقصود ولا تفحص في وجود المنافي فجاء الاختلاف بينهم. (فيشتبه) متفرع على ما قبل الآية لأن وجود الأقسام المذكورة في القرآن وكلام الرسول (صلى الله عليه وآله) منشأ للاشتباه. (على من لم يعرف ولم يدر ما عنى الله به ورسوله (صلى الله عليه وآله)) فاعل يشبه ضمير راجع إلى مراد الله ومراد الرسول من (1) الخطابات بقرينة المقام " وما " الموصلة مفعول الفعلين على سبيل التنازع


1 - قال العلامة (رحمه الله) في النهاية: بعد أن حكم بأن الأصل في الصحابة العدالة إلا عند ظهور كسائر المسلمين على المشهور بل هم أفضل وأكمل، بالغ إبراهيم النظام في الطعن فيهم وقال: رأينا بعضهم قادحا في البعض وذلك يوجب القدح إما في القادح أو المقدوح فيه وأتى بأمثلة كثيرة نذكر نبذا مما نقله العلامة (رحمه الله) عنه، منها: قول عمران بن حصين: لو أردت لتحدثت يومين عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) فإني سمعت كما سمعوا وشاهدت كما شاهدوا ولكنهم يحدثون أحاديث ماهي كما يقولون وأخاف أن يشبه لي كما شبه لهم ومنها. ردت فاطمة بنت قيس أن زوجي طلقني ثلاثا ولم يجعل لي رسول الله (صلى الله عليه وآله) سكنى ولا نفقة فقال عمر: لا يقبل قول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت ؟ وقالت عائشة: يا فاطمة قد فتنت الناس. ومنها قال: كان علي يستحلف الرواة ولو كانوا غير متهمين لما حلفهم فإن عليا (عليه السلام) أعلم بهم منا. ومنها: روى عطاء حديث عكرمة عن ابن عباس " سبق الكتاب الخفين " قال: كذاب أنا رأيت ابن عباس مسح على الخفين ومنها: لما قدم ابن عباس البصرة سمع الناس يتحدثون عن أبي موسى عن النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: أقلوا الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله). قال النظام: فلولا التهمة لما جاز المنع من العلم وسرد من ذلك نحو أربعة وثلاثين مما يدل على عدم كونهم متفقين على قبول الأخبار من الصحابة = (*)

[ 320 ]

ويحتمل أن يكون فاعل يشتبه والفعلان حينئذ بمنزلة اللازم أي فيشتبه ما عنى الله ورسوله بذلك الخطاب على من ليس من أهل المعرفة والدراية، وعلى التقديرين فيه إشارة إلى القسم الثاني والثالث كما أن ما يجئ من قوله (عليه السلام): " وقد كنت أدخل " إشارة إلى أفضل الأفراد وأكملها من القسم الرابع وتوضيح المقصود أن أمر النبي (صلى الله عليه وآله) مثل القرآن في اشتماله على الناسخ والمنسوخ والخاص والعام والمحكم والمتشابه وقد يوجد منه خطاب له وجهان متساويان أو غير متساويين وخطاب عام لسبب مخصوص وهو غير مقصور عليه وخطاب خاص لسبب مخصوص وهو مقصور عليه والناس مكلفون بالمتابعة كما دلت عليه الآية ومراتب أفهامهم وسماعهم مختلفة فمنهم من فهم من ذي الوجهين أحدهما والمقصود غيره كما إذا فهم من المتشابه غير المقصود أو فهم من الخطاب العام الوارد على سبب معين عدم الاختصاص والمقصود هو الاختصاص فوهم فيه، وعبر عنه بالعبارة الدالة على ما فهمه ولم يتعمد في شئ من ذلك فتبعه من تبعه لعدم علمه بوهمه وهذا هو القسم الثاني ومنهم من سمع المنسوخ دون الناسخ والعام دون الخاص فعمل هو بما في يده وعمل به من تبعه وهذا هو القسم الثالث وهما بعد تفارقهما في عدم الضبط وتحقق الوهم في المروي وتحقق الضبط وعدم الوهم فيه مشتركان في لحوق الاشتباه بهما وعدم معرفتهما ودرايتهما ما هو مراد الله تعالى ومراد رسوله (صلى الله عليه وآله) في الواقع ومنهم من سمع كلها وعرف حقيقتها وعلم المراد منها ولم يشتبه عليه المقصود أصلا فجاء به كما سمع وكما هو المقصود وهذا هو القسم الرابع. ولما كان هنا مظنة أن يقال: كيف يقع الاشتباه عليهم في قوله مع كثرتهم وكونهم من أهل الخطاب ؟ ولم لم يسألوه حتى يكشف لهم عن وجه المقصود ويرفع عنه الحجاب ؟ أجاب عنه بقوله: (وليس كل أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يسأله عن الشئ فيفهم) منهم من لا يسأله إما لشدة اشتغاله بأمر الدنيا وطلب المعيشة أو لعدم اهتمامه بأمر الدين وكان منهم من يسأله ولم يكن له رتبة الفهم والعلم بمراده. (وكان منهم من يسأله) وكان له رتبة الفهم، ولكن لا يفهمه بمجرد الجواب. (ولا يستفهمه) حتى يفهمه إما لخوف نسبة الغباوة إليه بسبب عدم الفهم أول مرة أو لإجلال الرسول وتعظيمه. (حتى أن كانوا ليحبون أن يجئ الأعرابي والطاري) أي أنهم كانوا ليحبون ويريدون مجئ بدوي وغريب يطلع عليهم. (فيسأل رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى يسمعوا) ويفهموا وينفتح لهم باب السؤال، ثم أشار (عليه السلام) إلى


= وعدم برأتهم من التهمة ونقلنا في حاشية الوافي من النهاية قولا أبسط فارجع إليه. (ش) (*)

[ 321 ]

مع الرسول (صلى الله عليه وآله) وشدة اختصاصه به ودوام ملازمته له ليلا ونهارا في تحصيل الأحكام وغيرها مما كان أو يكون إلى قيام الساعة وكمال إشفاق الرسول عليه وتلطفه به وتعليمه جميع ما أنزل الله تعالى على هذه الامة وعلى الامم السابقة، وإلى أن غيره من الصحابة ليست له هذه المنزلة العظيمة والمرتبة الرفيعة ليحتج بذلك على أنه يجب على الناس بعد نبيهم الرجوع إليه في الأحكام وغيرها والاستضاءة بمشكاة أنواره كي يتخلصوا ظلمة الجهالة ويجتنبوا من طرق الضلالة بقوله: (وقد كنت أدخل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) كل يوم دخلة وكل ليلة دخلة) الدخلة بفتح الدال مصدر للعدد أراد أن هذا كان دائما عند عدم المانع كزمان المفارقة بالسفر ونحوه. (فيخليني) من الإخلاء بمعنى الخلوة والانفراد من خلوت به ومعه وإليه إذا انفردت به أو من التخلية وهي ترك المرء مع ما أراد أي يجعل لي خلوة أو يتركني. (فيها أدور) أي في تلك الدخلة أو في الامور الدينية. (معه حيث دار) في الأحكام الربوبية والمعارف الملكوتية والأسرار اللاهوتية، والمقصود أنه كان يطلعني على جميع ذلك. (وقد علم أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه لم يصنع ذلك بأحد من الناس غيري) أشار به إلى تقدمه على جميع الصحابة إذ لم يشاركه أحد بتلك الفضيلة. (فربما كان) أي الاجتماع أو الدوران معه حيث دار. (في بيتي يأتيني رسول الله (صلى الله عليه وآله)) حال أو استئناف. (أكثر ذلك في بيتي) إضراب عن السابق أو تأكيد له لأن رب المكفوفة بما الداخلة على الماضي قد تكون بمعنى التقليل كما هو الأصل وقد تستعمل في التكثير والتحقيق كما صرح به أرباب العربية منهم ابن الحاجب، فإن كان المراد بها هنا التقليل فالمناسب الإضراب وإن كان المراد بها التكثير فالمناسب هو التأكيد. (وكنت إذا دخلت عليه بعض منازله أخلاني) أي أخلانيه بحذف المفعول يعني جعله خاليا لي. (وأقام عني نساءه) العطف للتفسير ووجه إخراجهن مع كونهن أجنبيات القصد إلى عدم سماعهن ما يلقي إلى وصيه (عليه السلام) من الأسرار الإلهية. (فلا يبقى عنده غيري وإذا أتاني للخلوة معي في منزلي لم تقم عني فاطمة ولا أحد من بني) لأن تعليمهم أيضا كان مقصودا. (وكنت إذا سألته) عن كل ما اشتبه علي وعن كل ما أردت تعلمه. (أجابني) عنه وعلمنيه.


[ 322 ]

(وإذا سكت عنه) عن كل ما اشتبه علي وعن كل ما أردت تعلمه. (وفنيت مسائلي ابتدأني) في التعليم كل ذلك لكمال لطفه وشفقته علي ونهاية اهتمامه على هدايتي إلى الأسرار الإلهية، وفيه إرشاد للمعلم الرباني إلى كيفية التعليم لمتعلمه إذا وجده أهلا لذلك. (فما نزلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله) آية من القرآن إلا أقرأنيها وأملاها علي) الإملاء منقوص يائي لا مهموز، تقول: أمليت الكتاب إذا أنشأت ألفاظه ومعانيه. (فكتبتها بخطي) وهو المصحف الذي جاء به للصحابة بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) فلم يقبلوه منه. (وعلمني تأويلها وتفسيرها) قيل: التأويل إرجاع الكلام وصرفه عن معناه الظاهري إلى معنى أخفى منه (1) مأخوذ من آل يؤول إذا رجع وقد تقرر أن لكل آية ظهرا وبطنا، والمراد أنه (صلى الله عليه وآله) أطلعه على تلك البطون المصونة وعلمه تلك الأسرار المكنونة، والتفسير كشف معنى اللفظ وإظهاره مأخوذ من الفسر وهو مقلوب السفر، يقال أسفرت المرأة على وجهها إذا كشفته وأسفر الصبح إذا ظهر. (وناسخها ومنسوخها ومحكمها ومتشابهها وخاصها وعامها (2) ودعا الله لي بما دعا) قيل: دعا له أن يعطيه الله تعالى فهم الصور الكلية وحفظها لأن الصور الجزئية لا تحتاج إلى مثل هذا الدعاء، فإن فهمها وحفظها ممكن لأكثر الصحابة من العوام وغيرهم، وإنما الصعب المحتاج إلى الدعاء بأن


1 - تخصيص التأويل بما ذكره الشارح لعله اصطلاح جديد وهذا مثل تأويل يد الله بقدرة الله واستوى بمعنى استولى والقدماء كثيرا ما كانوا يذكرون في ما يعنونه بالتأويل امورا لا تنافي الظاهر بل ترى في تفسير الطبري أكثر ما نسميه تفسيرا معنونا بالتأويل وراجع في ذلك مقدمة كتاب مجمع البيان وتفسير أبي الفتوح الرازي وغيره. (ش) 2 - الخاص والعام في اصطلاح الأحاديث غيرهما من اصطلاح الاصوليين فالخاص هو الحكم الذي ورد عنه (صلى الله عليه وآله) في رجل بعينه أو قوم بأعيانهم مثل ذم أهل الاجتهاد والمتكلمين والصوفية فإنه خاص بأصحاب الرأي والتعصب والبدع ومثل ما ورد في النهي عن الحياكة وذم الحائكين وذم الشعراء وذم أهل السوق قاطبة كل ذلك خاص بطائفة والعام هو الحكم الشامل للجميع وإن ورد في مورد خاص مثل قول النبي (صلى الله عليه وآله) لعروة البارقي: بارك الله في صفقة يمينك فإن خطابه خاص بعروة وحكمه عام لكل بائع فضولي رضي به المتبايعان بعد العقد وربما وهم أهل الظاهر أن مثل ذلك قياس وليس به بل هو تفهم وتعقل يعرف من اللفظ أن الحكم الخاص بمورد هو عام يشمل الجميع وذكر الخاص وإرادة العام منه بقرينة ليس خروجا عن متعارف التكلم والعمل به ليس تعديا عن النص فإن ورد أن الصادق (عليه السلام) كتب على كفن ولده أن إسماعيل يشهد أن لا إله إلا الله فمعناه أن كل أحد يستحب له أن يكتب اسم ميته وهذا باب واسع له نظائر كثيرة. (ش) (*)

[ 323 ]

يفهمه ويعيه الصدر ويستعد الذهن لقبوله هو القوانين الكلية وكيفية انشعابها وتفصيلها وأسبابها المعدة لإدراكها حتى إذا استعدت النفس بها أمكن أن ينتقش فيها الصور الجزئية من مفيضها والله سبحانه أعلم. (وما ترك شيئا علمه الله من حلال وحرام ولا أمر ولا نهي كان أو يكون ولا كتاب منزل على أحد قبله من طاعة أو معصية إلا علمنيه وحفظته فلم أنس حرفا واحدا) قيل: ينبغي أن يعلم أن التعلم الحاصل له من قبله (صلى الله عليه وآله) ليس في صورة جزئية ووقائع جزئية بل معناه إعداد نفسه القدسية على طول الصحبة من حين كان طفلا إلى أن توفي الرسول (صلى الله عليه وآله) لهذه العلوم التامة وكيفية تعلم السلوك وأسباب تطويع النفس الأمارة الى النفس المطمئنة حتى استعدت نفسه الشريفة للانتقاش بالامور الغيبية والصور الكلية الكائنة والامور الجزئية المندرجة تحتها، فأمكنه الإخبار عنها وبها. وقيل: ما تضمنه هذا الحديث من تعليمه (صلى الله عليه وآله) له (عليه السلام) ما كان وما يكون يمكن حمله على الأحكام الشرعية في المسائل الكائنة والمتجددة، ويمكن حمله على بعض المغيبات التي أطلع الله تعالى رسوله (صلى الله عليه وآله) عليها، وقد دل الأخبار وكلام أصحاب السير من الخاص والعام على أن عليا (عليه السلام) كان عالما بالامور المغيبات وأخبر بكثير منها، وروي أنه (عليه السلام) بعد ما أخبر ببعض الحروب والقتال والوقائع التي تقع بعده (عليه السلام) قال له بعض أصحابه: لقد اعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب فضحك (عليه السلام) وقال للرجل وكان كلبيا: يا أخا كلب، ليس هو بعلم غيب وإنما علم الغيب علم الساعة وما عده الله سبحانه بقوله: * (إن الله عنده علم... الساعة الآية) * فيعلم سبحانه ما في الأرحام من ذكر أو انثى وقبيح أو جميل وسخي أو بخيل وشقي أو سعيد ومن يكون للنار حطبا أو في الجنان للنبيين مرافقا، فهذا علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله وما سوى ذلك علم علمه الله رسوله (صلى الله عليه وآله) فعلمنيه ودعا لي بأن يعيه صدري ويضطم (1) عليه جوارحي (2). وفي بعض النسخ: جوانحي. (ثم وضع يده على صدري ودعا الله لي أن يملأ قلبي علما وفهما وحكما ونورا) التركيب من باب ملأت الإناء ماء ففاعل يملأ ضمير يعود إلى الله، وقلبي مفعوله وعلما وما عطف عليه تمييز له وهو بحسب المعنى فاعل أي يملأ العلم قلبي، والفهم في اللغة العلم، قال الجوهري: فهمت الشئ فهما علمته. والأظهر أن المراد به هنا جودة الذهن وكمال قوته لاستخراج المطالب، والحكم بضم الحاء وسكون الكاف العلم الكامل المانع من العود إلى الجهل والسفه الزاجر عنهما قطعا وبكسر الحاء


1 - اضطمت عليه الضلوع: أي اشتملت. 2 - النهج قسم الخطب، تحت رقم 126. (*)

[ 324 ]

وفتح الكاف جمع الحكمة وهي بمعنى الحكم والأول أنسب للتوافق بينه وبين غيره من المنصوبات في الأفراد، وقد تفسر الحكمة بالعلم بأعيان الموجودات على ما هي عليه بقدر الطاقة وقد تفسر أيضا بالعلم بالشرائع النبوية، والنور هو الضياء وبعبارة اخرى هو الظاهر في نفسه المظهر لغيره، ولعل المقصود أنه طلب لقلبه اللطيف وذهنه الشريف ضياء الحق ودعا الله أن يستعمله في طريق الحق ويجعل تصرفه وتقلبه على سبيل الصواب والخير، وقد يراد بالنور العلم على سبيل الاستعارة لكن إرادة هذا المعنى هنا يوجب التكرار. (فقلت: يا نبي الله بأبي أنت وامي) الباء للتفدية، وهي في الحقيقة باء العوض وفعلها محذوف والتقدير: أبي وأمي. (منذ دعوت الله لي بما دعوت لم أنس شيئا ولم يفتني شئ لم أكتبه). (أفتتخوف علي النسيان فيما بعد ؟ فقال: لا لست أتخوف عليك النسيان والجهل) الفاء (1) في قوله فقلت: دلت على أن هذا السؤال وقع عقب هذا الدعاء بلا فصل، والغرض منه إظهار الشكر على إجابة الدعاء المذكور أولا وطلب العلم بأن سبب هذا الدعاء هل هو التخوف على النسيان فيما بعد أو غيره كالتأكيد والمبالغة في استثبات علمه وفهمه وفي علمه بذلك اطمئنان لقلبه الطاهر النقي حيث إن الجهل والنسيان عليه محال في الاستقبال وإذا عرفت أنه (عليه السلام) كان عالما بجميع ما هو المقصود من القرآن وبالحلال والحرام والأمر والنهي وبكل ما كان وما يكون وأنه لا يشاركه أحد من الصحابة في ذلك فقد عرفت أنه (عليه السلام) قائم مقام الرسول (صلى الله عليه وآله) وأنه يجب على الناس الرجوع إليه في كل ما يجهلون، والاعتماد على قوله في كل ما لا يعلمون وأنه لا يجوز لهم التمسك بآرائهم والأخذ من أهوائهم. * الأصل: 2 - " عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن عثمان بن عيسى، عن أبي أيوب الخزاز، عن محمد ابن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: ما بال أقوام يروون عن فلان وفلان عن رسول


1 - فإن قيل: هذا لا يفيدنا في هذه الأزمنة المتأخرة وإنما كان يفيد الناس في عصر أمير المؤمنين (عليه السلام) الذين كانوا حضورا عنده في بلده وذلك لأن الغلط والوهم والباطل كما يمكن تطرقه إلى أحاديث الرسول (عليه السلام) يمكن تطرقه إلى أحاديث أمير المؤمنين (عليه السلام) ونسبة الحديثين إلينا على السواء. قلنا: هذا في أحاديث الآحاد المروية عنه حيث نعلم صحتها، وأما المتواترات فلا، مثلا في مسألة العول والمتعة رووا عن أمير المؤمنين (عليه السلام) ما يوافق القوم بطريق الآحاد وروي بطريق أهل البيت متواترا نفي العول وإثبات المتعة فبرواية سليم بن قيس يثبت حجية ما تواتر عنه (عليه السلام) وعدم حجية قول من لم يثبت حجيته، وأما الآحاد فلا فرق بين ما يروى عن النبي وعنه (عليهما السلام) إذا جمعت شرائط الحجية على القول بحجية خبر الواحد. (ش) (*)

[ 325 ]

الله (صلى الله عليه وآله) لا يتهمون بالكذب فيجئ منكم خلافه ؟ قال: إن الحديث ينسخ كما ينسخ القرآن ". * الشرح: (عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن عثمان بن عيسى، عن أبي أيوب الخزاز، عن محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له ما بال أقوام) البال هنا الحال والشأن. (يروون عن فلان وفلان عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لا يتهمون بالكذب) مطلقا أو على الرسول والفعل مبني للمفعول وضمير الجمع راجع إلى الأقوام ومن يروون عنه والجملة حال. (فيجئ منكم خلافه، قال: إن الحديث ينسخ كما ينسخ القرآن (1) فهؤلاء لما سمعوا المنسوخ دون الناسخ رووا ما سمعوه وعملوا به ولو علموا أنه منسوخ لرفضوه وهذا هو القسم الثالث من الأقسام الأربعة المذكورة. وبالجملة عدم الاتهام بالكذب لا يوجب أن يكون المروي حقا ثابتا لاحتمال أن يكون منسوخا ولا يعلمه الراوي أو يكون موهوما لم يضبطه على وجهه وفهم منه ما ليس بمقصود وعبر عنه بعبارته الدالة على ما فهمه كما مر في القسم الثاني من الأقسام الرابعة، وإنما لم يذكر (عليه السلام) هذا الوجه أيضا لأن السؤال ينقطع بالوجه الأول مع كونه أظهر. * الأصل: 3 - " علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي نجران، عن عاصم بن حميد، عن منصور بن حازم، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ما بالي أسألك عن المسألة فتجيبني فيها بالجواب ثم يجيئك غيري فتجيبه فيها بجواب آخر ؟ فقال: إنا نجيب الناس على الزيادة والنقصان، قال: قلت: فأخبرني عن أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) صدقوا على محمد أم كذبوا ؟ قال: بل صدقوا، قال: قلت: فما بالهم اختلفوا ؟ فقال: أما تعلم أن الرجل كان يأتي رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيسأله عن المسألة فيجيبه فيها بالجواب ثم يجيبه بعد ذلك ما ينسخ ذلك الجواب فنسخت الأحاديث بعضها بعضا ". * الشرح: (علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي نجران، عن عاصم بن حميد، عن منصور بن حازم، قال:


1 - هذا الحديث عندي من المتشابه وما أعرف معناه فإنا مأمورون - على ما يأتي - بعرض الحديث المنقول عن الأئمة على السنة المتواترة عن النبي (صلى الله عليه وآله) ورد ما خالفه ولو فرض إمكان نسخ السنة بالخبر المنقول عن الأئمة (عليهم السلام) لم يفد العرض فائدة ولكن قد يطلق النسخ في اصطلاح الأئمة (عليهم السلام) على التخصيص والتقييد وسيجئ في رواية العيون إنكار النسخ في أحاديث الأئمة (عليهم السلام). (ش) (*)

[ 326 ]

قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ما بالي أسألك عن المسألة فتجيبني فيها بالجواب ثم يجيئك غيري فتجيبه فيها بجواب آخر ؟ فقال: إنا نجيب الناس على الزيادة والنقصان) أي الزيادة والنقصان (1) في الكلام على حسب تفاوت المراتب في الأفهام أو زيادة حكم عند التقية ونقصانه عند عدمها وذلك لأنهم (عليهم السلام) كانوا على خوف وتقية من بني امية وبني العباس، لأن هؤلاء الشياطين نصبوا لهم ولشيعتهم عداوة وكانوا يحبسون شيعتهم ويقتلون مواليهم حيث وجدوهم بل ربما كانوا يبعثون من يسألهم ويظهر أنه من شيعتهم لكي يعلم أسرارهم، يظهر لك لمن نظر في السير والآثار فهم (عليهم السلام) كانوا قد يجيبون من سألهم عن مسألة بجواب غير جواب من سألهم عنها قبل ولم يكن ذلك مستندا إلى النسيان والجهل بل لعلمهم بأن اختلاف كلمتهم أصلح لهم وأنفع لبقائهم إذ لو اتفقوا لعرفوا بالتشيع وصار ذلك سببا لقتلهم وقتل الأئمة (عليهم السلام). (قال: قلت: فأخبرني عن أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) صدقوا على محمد أم كذبوا ؟ قال: بل صدقوا) (2) كان منصور سأل عن حال الأصحاب المؤمنين الحافظين لخطابه لأنك قد عرفت سابقا (3) أن المنافقين ومن وهم في خطابه من المؤمنين قد كذبوا عليه. (قال: قلت: فما بالهم اختلفوا ؟) في الرواية عنه لأن ما رواه بعضهم قد ينافي ما رواه الآخر.


1 - اختلاف الإجابة بالزيادة والنقصان غير عزيز ولا ينبغي أن يعد اختلافا، ولعل الإمام (عليه السلام) نبه السائل على أن يدقق النظر في بعض ما يراه مختلفا حتى يظهر له أنه ليس مختلفا فقد نحكي قصة واحدة بالتفصيل في صفحات وقد نحكيها إجمالا في سطر. (ش) 2 - قال العلامة في النهاية على ما سبق: الأصل في الصحابة العدالة إلا عند ظهور المعارض وذلك لما روي في القرآن الكريم من مدح المهاجرين والأنصار وما روي في السنة أيضا فيهم ويخرج عن هذا الأصل من خرج إذا علمنا نفاقهم بالدليل ومن الدلائل القوية تقربهم إلى الظلمة وإعانتهم في الظلم، ولكن بعض أهل السنة يسبق ذهنهم من لفظ الصحابة إلى نحو عشرين رجلا منهم نالوا الإمارة على عهد النبي (صلى الله عليه وآله) وعهد الخلفاء ولو تبرأ أحد منهم تبروا منه وإن تبرأ من غيرهم من المؤمنين المستضعفين لم يروا به بأسا مثلا إذا تبرأ من أبي ذر الغفاري وعمار بن ياسر وعمرو بن الحمق الخزاعي كما تبرأ منهم عثمان ومعاوية لم يروا به بأسا لأنه بالاجتهاد ولا ندري كيف جاز ضرب عبد الله بن مسعود وأبي ذر وغيرهما بالاجتهاد ولم يجز لعن عمرو بن العاص وطلحة والزبير بالاجتهاد وكلهم من الصحابة ؟ ! إلا أن هؤلاء كانوا من الامراء يحتشم من خلافهم وهؤلاء من الرعايا. والجملة: فإنا قائلون بفضل نحو عشرة آلاف وأزيد من صحابة الرسول (صلى الله عليه وآله) والخلاف في عدالة نحو عشرين رجلا منهم وهم قائلون بفضل هذا القليل ولا يبالون بالكثير. (ش) 3 - في القسم الأول والثاني من الأقسام الأربعة إلا أن القسم الأول وهو منافق كذب عليه عمدا. والقسم الثاني وهو المؤمن الذي وهم فيما رواه عنه وعبر عنه بعبارته الدالة على ما فهمه فإنه أيضا كذب عليه من حيث لا يعلم. (كذا في هامش بعض النسخ). (*)

[ 327 ]

(فقال: أما تعلم أن الرجل كان يأتي رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيسأله عن المسألة فيجيبه فيها بالجواب ثم يجيبه بعد ذلك ما ينسخ ذلك الجواب فنسخت الأحاديث بعضها بعضا ؟) ولا علم للسائل بالنسخ ولأجل هذا تمسك به وتصدى لروايته ونقله كما مر في القسم الثالث. * الأصل: 4 - علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن ابن محبوب، عن علي بن رئاب، عن أبي عبيدة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال لي: " يا زياد، ما تقول لو أفتينا رجلا ممن يتولانا بشئ من التقية ؟ قال: قلت له: أنت أعلم جعلت فداك، قال: إن أخذ به فهو خير له وأعظم أجرا. وفي رواية اخرى: " إن أخذ به اوجر وإن تركه والله أثم ". * الشرح: (علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن ابن محبوب، عن علي بن رئاب، عن أبي عبيدة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال لي: يا زياد، ما تقول لو أفتينا رجلا ممن يتولانا بشئ من التقية ؟) أي من أجل التقية، أو مما يتقى به، يعني هل يثاب بالعمل به أم لا ؟ (قال: قلت له: أنت أعلم جعلت فداك، قال: إن أخذ به) أي إن أخذ بذلك الشئ الذي أفتينا به من أجل التقية وعمل به. (فهو خير له وأعظم أجرا) من الأخذ بالحكم الواقعي والعمل به عند انتفاء الخوف والتقية أو عند تحققها وفيه على الأخير دلالة على أن لتارك التقية العامل بخلافها أيضا أجرا وثوابا ولا يبعد ذلك لأن لكل واحد من الحكمين رجحانا من وجه، أما الحكم المستند إلى التقية فلأنه ترس المؤمن وحرزه ووقاية لنفسه وماله، وأما الحكم الذي هو خلافه فلأنه حكم الله بالذات والمكلف به أصالة فكما يؤجر بالأول ينبغي أن يؤجر بالثاني أيضا، والظاهر أن ترتب الإثم على ترك الأول كما يستفاد من الرواية الاخرى لا ينافي ثبوت الأجر وترتبه على الأخذ بالثاني والله أعلم. قال بعض الأفاضل: لما كان العمل بالتقية كبيرا إلا على من خصه الله بنور من المعرفة وهداه إلى طريق الحق استكشف (عليه السلام) عن باطن الرجل واستفهم عن قوله لو أفتي رجلا من الشيعة بشئ من التقية ثم لما أظهر الرجل الطاعة والانقياد في كل ما أفتى وأمر قال حق القول فيها وهو وجوب العمل بالتقية وحصول الأجر العظيم بالأخذ بها. أقول: هذا الرجل وهو أبو عبيدة الحذاء الكوفي واسمه زياد بن عيسى كان ثقة صحيحا كما صرح به أصحاب الرجال وكان حسن المنزلة عند آل محمد (عليهم السلام) وكان زامل أبا جعفر (عليه السلام) إلى مكة وكان له كتاب يرويه عنه، وعن علي بن رئاب كما صرح به النجاشي فحال باطنه وحسن اعتقاده


[ 328 ]

وانقياده كانت معلومة له (عليه السلام) فيستبعد أن يكون الغرض من الاستفهام استعلام حال باطنه وحسن اعتقاده كما ذكره هذا الفاضل بل الغرض منه استعلام أنه هل يعلم حكم ما يترتب على العمل بالتقية وعلى تركه أم لا ؟ فلما أظهر الرجل عدم علمه بذلك وفوض العلم به إليه (عليه السلام) بين الحكم له وإنما لم يعلمه أولا بدون سؤال لأن التعليم بعد العلم بأن المخاطب لا يعلم أثبت وأنفع من التعليم ابتداء. (وفي رواية اخرى إن أخذ به اوجر) أوجر على البناء للمفعول وقراءته على صيغة التفضيل بمعنى أشد أجرا بعيد. (وإن تركه والله أثم) لأن التقية دين الله تعالى وضعها لعباده الصالحين فمن أخذ بها استحق الأجر ومن تركها وألقى نفسه إلى التهلكة استحق الإثم والأظهر أن " أثم " من المجرد ويجوز قراءته بالمد من باب الإفعال للدلالة على كثرة الإثم لأن هذا الباب قد يجئ للدلالة على الكثرة كما صرح به أصحاب العربية. لا يقال: ثبوت الإثم لترك التقية ينافي ما يجئ في باب التقية من قول الباقر (عليه السلام) في رجل من الشيعة قتل لترك التقية: إنه تعجل إلى الجنة (1). لأنا نقول: ثبوت الإثم له لا ينافي دخول الجنة، أو نقول: المراد بالإثم قلة الأجر بالنسبة إلى العمل بالتقية، وفي الرواية السابقة إشعار به على احتمال. * الأصل: 5 - أحمد بن إدريس، عن محمد بن عبد الجبار، عن الحسن بن علي، عن ثعلبة بن ميمون، عن زرارة بن أعين، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن مسألة فأجابني، ثم جاءه رجل فسأله عنها فأجابه بخلاف ما أجابني، ثم جاء رجل آخر فأجابه بخلاف ما أجابني وأجاب صاحبي، فلما خرج الرجلان قلت: يابن رسول الله، رجلان من أهل العراق من شيعتكم قدما يسألان فأجبت كل واحد منهما بغير ما أجبت به صاحبه ؟ فقال: " يا زرارة، إن هذا خير لنا وأبقى لنا ولكم، ولو اجتمعتم على أمر واحد لصدقكم الناس علينا ولكان أقل لبقائنا وبقائكم "، قال: ثم قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): شيعتكم لو حملتموهم على الأسنة أو على النار لمضوا وهم يخرجون من عندكم مختلفين، قال: فأجابني بمثل جواب أبيه ". * الشرح: (أحمد بن إدريس، عن محمد بن عبد الجبار، عن الحسن بن علي، عن ثعلبة بن ميمون، عن زرارة


1 - الكافي - كتاب الإيمان والكفر، باب التقية، تحت رقم 23. (*)

[ 329 ]

ابن أعين، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن مسألة فأجابني، ثم جاءه رجل فسأله عنها فأجابه بخلاف ما أجابني، ثم جاء رجل آخر) فسأله عنها. (فأجابه بخلاف ما أجابني وأجاب صاحبي، فلما خرج الرجلان قلت: يابن رسول الله، رجلان من أهل العراق من شيعتكم قدما يسألان فأجبت كل واحد منهما بغير ما أجبت به صاحبه ؟) إنما لم يقل: رجال لأن مقصوده معرفة سبب اختلاف الأجوبة وذلك يحصل بذكر الاثنين أو لعلمه بأن ما أجابه هو حكم الله على وجهه فسأل عن سبب اختلاف جواب الآخرين لكونه لا على الوجه الظاهر عنده. (فقال: يا زرارة، إن هذا خير لنا وأبقى لنا ولكم، ولو اجتمعتم على أمر واحد لصدقكم الناس علينا) الجملة الشرطية مستأنفة على وجه البيان الموجب للسابق كأنه قيل: لم كان ذلك خيرا وأبقى ؟ فأجاب بأنه لو اجتمعتم على أمر واحد في روايته عنا وأخبرتم الناس بأنكم سمعتموه منا لصدقكم الناس علينا ويعتقدون أنكم صادقين في روايته عنا لتوافق شهاداتكم وتماثل أخباركم وتواتر رواياتكم وأنكم موالينا وشيعتنا وفي ذلك فتنة وشهرة لنا ولكم عند أعدائنا. (ولكان أقل لبقائنا وبقائكم) أي ولكان اتفاقكم في الرواية عنا أو تصديقهم لكم فيها سببا لقلة بقائنا وبقائكم لأنه موجب لسرعة هلاكنا وهلاككم بخلاف ما إذا اختلفتم في الرواية عنا فإنهم لا يصدقونكم علينا ولا يعتقدون أنكم موالينا وفي ذلك بقاء لنا ولكم (1). وتلك الأجوبة المختلفة عن مسألة واحدة يحتمل أن يكون بعضها أو كلها من باب التقية لعلمه (عليه السلام) بأن السائل قد يضطر إليها، ويحتمل أن يكون كلها حكم الله تعالى في الواقع إذ ما من شئ إلا وله ذات وصفات متعددة متغايرة يترتب عليها أحكام مختلفة فلو سئل العالم النحرير عنه مرارا وأجاب في كل مرة بجواب مخالف للجواب السابق كانت الأجوبة كلها صادقة في نفس الأمر وإن لم يعلم السائل وجه صحتها ولا يقدح عدم علمه في صحتها لأن الواجب عليه بعد معرفة علو شأن المسؤول وتبحره في العلوم والمعارف هو التسليم واعتقاد أنها صدرت منه لمصلحة قطعا. (قال: ثم قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): شيعتكم لو حملتموهم على الأسنة) جمع سنان، وهو الرمح.


1 - مثل أن يسأل هل عندكم شئ غير الكتاب والسنة ؟ فيقولون: لا، وهو حق، فإن جميع علومهم في الكتاب والسنة ويعتقد العامة من ذلك أنه لا يزيد علم أهل البيت عن علم علمائهم ثم يسأل آخر فيجيبون بأن عندنا الجفر والجامعة فيها كل شئ حتى الارش في الخدش، وهذا حق ويتوهم أنه مخالف للأول إذ ليس هذان عند علمائهم ويصير مثل ذلك سببا لعدم قطع المخالفين على شئ من اعتقاد الشيعة فيهم (عليهم السلام). (ش) (*)

[ 330 ]

(أو على النار لمضوا وهم يخرجون من عندكم مختلفين، قال: فأجابني بمثل جواب أبيه) الأحكام كلها مبنية على مصالح العباد دنيوية كانت أو اخروية ومن مصالحهم الدنيوية اختلاف الكلمة والأخذ بالتقية للنجاة من شر الكفرة الفجرة، ومن أنكر ذلك فقد أنكر ما يقتضيه العقل والنقل. * الأصل: 6 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن سنان، عن نصر الخثعمي، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: " من عرف أنا لا نقول إلا حقا فليكتف بما يعلم منا، فإن سمع منا خلاف ما يعلم فليعلم أن ذلك دفاع منا عنه ". * الشرح: (محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن سنان، عن نصر الخثعمي، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: من عرف أنا لا نقول إلا حقا فليكتف بما يعلم منا) يعني أن كل من عرف أنا أهل الصفوة والعصمة والرحمة، وأنا لا نقول إلا حقا ثابتا فليكتف بما يعلم ويتيقن أنه من مذهبنا وطريقتنا في الاصول والفروع وليعتقد أنه حق لا ريب فيه وإن لم يعلم مأخذه ومستنده. (فإن سمع منا خلاف ما يعلم فليعلم أن ذلك دفاع منا عنه) أي فإن سمع منا خلاف ما يعلم من مذهبنا فليعلم أن مقصودنا من ذلك القول رفع ضرر أهل البدعة والطغيان عنه وأنه صدر من باب التقية لا من باب الجهل والنسيان. وفي قوله: " عنه " اقتصار، والمقصود عنه أو عنا، واعلم أن الأمرين المختلفين الصادرين عنهم (عليهم السلام) إما أن يكون مذهبهم معلوما في احدهما كالمسح والغسل أو لا كحرمة التكفير وجوازه وهذا الحديث مشتمل على حكم الأول وحكم الثاني يستفاد من حديث عمر بن حنظلة ونحوه وسيجئ ذكره. * الأصل: 7 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن عثمان بن عيسى والحسن بن محبوب جميعا، عن سماعة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن رجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه في أمر كلاهما يرويه أحدهما يأمر بأخذه والآخر ينهاه عنه، كيف يصنع ؟ فقال: " يرجئه حتى يلقى من يخبره، فهو في سعة حتى يلقاه. وفي رواية اخرى: " بأيهما أخذت من باب التسليم وسعك ". * الشرح: (علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن عثمان بن عيسى والحسن بن محبوب جميعا، عن سماعة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن رجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه في أمر كلاهما يرويه أحدهما


[ 331 ]

يأمر بأخذه والآخر ينهاه عنه، كيف يصنع ؟) أي كيف يصنع ذلك الرجل المقلد في هذه الصورة التي اختلف فيها المجتهدان المفتيان عليه ؟ كما يشعر به ظاهر قوله: " أحدهما يأمر بأخذه والآخر ينهاه عنه " أو كيف يصنع ذلك الرجل المجتهد المفتي إذا اختلف عليه الراويان ؟ كما يشعر به ظاهر قوله: " في أمر كلاهما يرويه "، والاحتمال الأخير أظهر من الأول. (فقال: يرجئه) بالياء أو بالهمزة من أرجيت الأمر أو من أرجأته إذا أخرته يعني يؤخر العمل بأحد الخبرين وترجيحه على الآخر. (حتى يلقى من يخبره) أي من يخبره بما هو الحق منهما، وهو الإمام (عليه السلام) أو من يخبره بخبره يرجح أحدهما على الآخر. (فهو في سعة) في ترجيح أحدهما على الآخر والعمل به. (حتى يلقاه) من يخبره ويخرجه عن الحيرة. (وفي رواية اخرى: بأيهما أخذت من باب التسليم) للإمام المروي عنه والانقياد له والرضا به لا باعتبار اعتقادك بأنه حكم الله أو ظنك به. (وسعك) أي جاز لك، وفي هاتين الرواتين دلالة واضحة (1) على قول من ذهب من الاصوليين إلى أن الحكم عند تعارض الدليلين هو الوقف أو التخيير، وفي هذا المقام شئ وهو: أن الإرجاء مشكل فيما إذا كان الخبران متناقضين كالأمر والنهي في شئ واحد وما أجاب عنه بعض الأفاضل من أن الرواية الاولى المتضمنة للإرجاء في حكم غير المتناقضين والرواية الثانية المتضمنة للأخذ من باب التسليم في حكمهما مدفوع: بأن قول السائل: " في أمر كلاهما يرويه أحدهما يأمر بأخذه والآخر ينهاه عنه " يأبى هذا التوجه لأنه صريح في أن السائل سأل عن حكم المتناقضين، ويمكن الجواب عن أصل الإشكال: بأن المراد بالإرجاء التوقف في الحكم المتعلق بذلك الأمر يعني لا يحكم بوجوبه ولا بتحريمه بل يتوقف فيه حتى يلقى الإمام (عليه السلام) وعلى هذا لا اختلاف بين الروايتين إلا في العبارة. * الأصل: 8 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن عثمان بن عيسى، عن الحسين بن المختار، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " أرأيتك لو حدثتك بحديث العام ثم جئتني من قابل فحدثتك بخلافه بأيهما كنت تأخذ ؟ " قال: قلت: كنت آخذ بالأخير، فقال لي: " رحمك الله ".


1 - بل الأوضح أن هذا فيما لا يتعلق بالعمل إذ لا يعقل إرجاء الأحكام العملية المشكوكة المحتاج إليها حالا، وإن سلم شمول الروايتين لما يتعلق بالعمل فالواجب تخصيصها بما إذا فقد المرجحات. (ش) (*)

[ 332 ]

* الشرح: (علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن عثمان بن عيسى، عن الحسين بن المختار) وهو القلانسي، قال العلامة: الحسين بن المختار القلانسي من أصحاب أبي الحسن موسى (عليه السلام) واقفي، وقال ابن عقدة عن علي بن الحسن: إنه كوفي ثقة والاعتماد عندي على الأول. انتهى. وقال الفاضل الاسترآبادي في كتاب الرجال: وفي الكافي: قال الحسين بن المختار: قال لي الصادق (عليه السلام): رحمك الله. أقول: إن أشار به إلى ما في آخر هذا الحديث ففيه: أن هذا لبعض الأصحاب لا للحسين على أن التمسك به في مدحه يستلزم الدور. (عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: أرأيتك) أي أخبرني عنك. (لو حدثتك بحديث العام ثم جئتني من قابل فحدثتك بخلافه بأيهما كنت تأخذ ؟ قال: قلت: كنت آخذ بالأخير) قال: ذلك لعلمه بأن الحكم قد تبدل في شأنه لمصلحة يعلمها (عليه السلام). (فقال لي: رحمك الله) استرحمه لتصويب رأيه وتصديق قوله، وهذا الحديث على تقدير حجيته دل على أنه لو حدث المعصوم رجلا بحديث ثم حدثه بعد ذلك بحديث يخالف الأول وجب عليه الأخذ بالثاني والوجه فيه ظاهر لأن صدور أحد الحديثين إنما يكون للتقية والدفع عنه فإن كانت التقية في الأول كان الثاني رافعا لحكمها فوجب عليه الأخذ بالثاني، وإن كانت في الثاني وجب الأخذ به أيضا، وأما لو بلغ هذان الحديثان إلى الغير على سبيل الرواية عنه (عليه السلام) فلا يجب على ذلك الغير الأخذ بالثاني على الإطلاق لجواز أن يكون عالما بأن الثاني صدر على سبيل التقية مع ارتفاع التقية عنه، فإنه يأخذ بالأول كما إذا علم أن المعصوم أمر بالمسح أولا ثم أمر بالغسل ثانيا، فإنه يأخذ بالمسح إذا انتفت التقية عنه وأن يكون نسبة التقية إليهما سواء عنده فإن حكمه هو التخيير أو الوقف كما مر في الخبرين السابقين. * الأصل: 9 - وعنه، عن أبيه، عن إسماعيل بن مرار، عن يونس، عن داود بن فرقد، عن معلى بن خنيس، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إذا جاء حديث عن أولكم وحديث عن آخركم بأيهما نأخذ ؟ فقال: " خذوا به حتى يبلغكم عن الحي، فإن بلغكم عن الحي فخذوا بقوله " قال: ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): " إنا والله لا ندخلكم إلا فيما يسعكم ". وفي حديث آخر: " خذوا بالأحدث ". * الشرح: (وعنه، عن أبيه، عن إسماعيل بن مرار، عن يونس، عن داود بن فرقد، عن معلى بن خنيس،


[ 333 ]

قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إذا جاء حديث عن أولكم وحديث عن آخركم بأيهما نأخذ ؟ فقال: خذوا به حتى يبلغكم عن الحي، فإن بلغكم عن الحي فخذوا بقوله) مفاده ومفاد قوله سابقا: " وفي رواية اخرى: بأيهما أخذت من باب التسليم وسعك " واحد يعني خذوا بأيهما شئتم من باب التسليم حتى يبلغكم التفسير عن المعصوم الحي فإن بلغكم التفسير والبيان عنه فخذوا بقوله واتركوا الآخر. (قال: ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): إنا والله لا ندخلكم إلا فيما يسعكم) الغرض منه التنبيه على فائدة اختلاف الأحاديث وهي التوسعة في الدين ونفي الحرج عمن أراد التفصي عن ضرر المخالفين فإنه لو لم تكن التقية مشروعة ولم يتحقق الاختلاف في الأحاديث لما أمكن التفصي عن ضررهم ففي شرع التقية واختلاف الأحاديث سعة في الدين ورحمة عظيمة للمؤمنين. (وفي حديث آخر: خذوا بالأحدث) الأمر بالأخذ بالأحدث إما على سبيل الإباحة أو على سبيل الندب (1) لا على سبيل الوجوب بدليل قوله: " بأيهما أخذت من باب التسليم وسعك "، وقوله: " خذوا به حتى يبلغكم عن الحي " وقوله: " لا ندخلكم إلا فيما يسعكم " فإن كل واحد من هذه الثلاثة يفيد جواز الأخذ بكل واحد من الأقدم والأحدث فالأخذ بالأحدث ليس بواجب بل هو جائز أو هو أولى لاشتماله على مصلحة زائدة مفقودة في الأول. * الأصل: 10 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن محمد بن عيسى، عن صفوان بن يحيى، عن داود ابن الحصين، عن عمر بن حنظلة، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان وإلى القضاة أيحل ذلك ؟ قال: من تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنما تحاكم إلى الطاغوت، وما يحكم له فإنما يأخذ سحتا وإن كان حقا


1 - ويحتمل كون الأحدث راجحا بقلة الواسطة، ويحتمل أن يكون هذا في الأوامر المتعلقة بأحكام تتغير بحسب الأزمان والموضوعات مثل أن ينهى عن الاجتماع لصلاة الجمعة في زمان شدة التقية ويأمر به في وقت لا تقية فيه، أو يأمر بالجهاد مع المخالفين إذا علم خطرا متوجها إلى الدين يدفع بجهادهم وينهى عنه إذا علم ضرر ذلك الجهاد، أو ينهى عن جلود بلد لعلمه بعدم التذكية بعد تجويزه إذا علم التذكية ففي أمثال ذلك يجب الأخذ بالأحدث وأما احتمال النسخ فبعيد جدا، وقد روى الشيخ الصدوق في العيون عن المسمعي عن الميثمي عن الرضا (عليه السلام) في حديث طويل: " لا نرخص فيما لم يرخص فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولا نأمر بخلاف ما أمر به رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلا لعلة خوف ضرورة، فأما أن نستحل ما حرم رسول الله (صلى الله عليه وآله) أو نحرم ما استحله رسول الله (صلى الله عليه وآله) فلا يكون ذلك أبدا لأنا تابعون لرسول الله مسلمون له (صلى الله عليه وآله) كما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) تابعا لأمر ربه مسلما له ". (ش) (*)

[ 334 ]

ثابتا له، لأنه أخذه بحكم الطاغوت وقد أمر الله أن يكفر به قال الله تعالى: * (يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد امروا أن يكفروا به) *. قلت: فكيف يصنعان ؟ قال: ينظران [ إلى ] من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكما، فإني قد جعلته عليكم حاكما فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه فإنما استخف بحكم الله وعلينا رد، والراد علينا الراد على الله، وهو على حد الشرك بالله. قلت: فإن كان كل رجل اختار رجلا من أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرين في حقهما واختلفا فيما حكما وكلاهما اختلفا في حديثكم ؟ قال: " الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر "، قال: قلت: فإنهما عدلان مرضيان عند أصحابنا لا يفضل واحد منهما على [ الآخر ] قال: فقال: " ينظر إلى ما كان من روايتهم عنا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه من أصحابك فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك فإن المجمع عليه لا ريب فيه، وإنما الامور ثلاثة: أمر بين رشده فيتبع، وأمر بين غيه فيجتنب، وأمر مشكل يرد علمه إلى الله وإلى رسوله، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): حلال بين وحرام بين وشبهات بين ذلك، فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات، ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرمات وهلك من حيث لا يعلم "، قلت: فإن كان الخبران عنكما مشهورين قد رواهما الثقات عنكم ؟ قال: " ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنة وخالف العامة فيؤخذ به ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنة ووافق العامة ". قلت: جعلت فداك، أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنة ووجدنا أحد الخبرين موافقا للعامة والآخر مخالفا لهم بأي الخبرين يؤخذ ؟ قال: " ما خالف العامة ففيه الرشاد "، فقلت: جعلت فداك، فإن وافقهما الخبران جميعا ؟ قال: " ينظر إلى ما هم إليه أميل حكامهم وقضاتهم فيترك ويؤخذ بالآخر ". قلت: فإن وافق حكامهم الخبرين جميعا ؟ قال: " إذا كان ذلك فأرجه حتى تلقى إمامك فإن الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات ". * الشرح: (محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن محمد بن عيسى، عن صفوان بن يحيى، عن داود بن الحصين) قال العلامة: داود بن الحصين الأسدي مولاهم كوفي روى عن أبي عبد الله وأبي الحسن (عليهما السلام). قال الشيخ الطوسي (رحمه الله): إنه واقفي وكذا قال ابن عقدة، وقال النجاشي: إنه ثقة، والأقوى عندي التوقف في روايته، وفي الإيضاح: الحصين بالحاء المضمومة والصاد المفتوحة. (عن عمر بن حنظلة) من أصحاب الباقر (عليه السلام) ونقل توثيقه عن الشهيد الثاني، وسيجئ في باب


[ 335 ]

وقت الظهر والعصر من هذا الكتاب ما يدل على مدحه عن الصادق (عليه السلام) قال الشهيد (رحمه الله): في طريق هذا الخبر ضعف لكنه مشهور بين الأصحاب متفق على العمل بمضمونه بينهم (1)، فكان ذلك جابرا للضعف عندهم. (قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث) أي في أصل الدين والميراث أو في قدرهما وكأن ذكرهما على سبيل التمثيل للاقتصار (2) في السؤال أو كان السؤال عن قضية وقعت بين الرجلين. (فتحاكما) أي فتخاصما ورفعا حكمهما. (إلى السلطان وإلى القضاة) الجائرين والسلطان الوالي (3) وهو فعلان يذكر ويؤنث من السلاطة بمعنى القهر والغلبة سمي بذلك لكمال قهره وغلبته على الناس وجريان حكمه عليهم، والقضاة جمع القاضي وهو الذي يحكم بجزئيات القوانين الشرعية على أشخاص معينة ويجري الأحكام الجزئية عليهم ويقطع المنازعة المخصوصة بينهم، والمفتي هو الذي يبين الأحكام الشرعية على وجه العموم. (أيحل ذلك ؟) ويجوز للمدعي أخذ ما انتزعه بحكمهما والتصرف فيه ؟ (قال: من تحاكم إليهم في حق أو باطل) الحق ما كان لرافع الحكم إليهم في نفس الأمر والباطل بخلافه، سواء كان دينا أو ميراثا أو عينا أو نكاحا أو قصاصا أو حدا أو غيرها. (فإنما تحاكم إلى الطاغوت) أي إلى الشيطان، أو إلى ما يزين لهم الشيطان أن يعبدوه من الآلهة والأصنام، أو الطاغوت يكون واحدا وجمعا وتسمية سلطان الجور وقضاته بالشيطان والآلهة من باب الحقيقة عند أهل العرفان لكونهم من إخوان الشياطين في الدعاء إلى الضلالة وتمردهم عن


1 - فيما العقل يشهد بصحته فقط. 2 - هذا من باب ذكر الخاص وإرادة العام، كما سبق، وذلك أنه لا يحتمل جواز الرجوع إليهم في البيع والنكاح والطلاق وليس إلحاق غير المنصوص بالمنصوص منها قياسا. (ش) 3 - بل السلطان مصدر وإطلاقه على الوالي مجاز بمنزلة إطلاق العدل على العادل ولم يستعمل في القرآن إلا في المعنى المصدري، وكانوا يستعملون الكلمة في المعنى الذي يطلق عليه في زماننا الحكومة، وهو المراد هنا وأوردنا أشياء كثيرة مما يتعلق بشرح هذه الأحاديث في حاشية الوافي. إن قيل: إذا كان الرجوع إلى القاضي المنصوب من قبلهم في الحقيقة رجوعا إلى السلطان الجائر فما تقول في الترافع إلى القاضي الشيعي المنصوب من قبلهم مثل القاضي ابن البراج قاضي طرابلس الذي ينقل فتاواه في الفقه، والشيخ جعفر محشي شرح اللمعة المعاصر للمجلسي وغيرهم ؟ قلنا: إذا كان القاضي مستقلا في حكمه وفتواه ويحكم بمذهب أهل البيت (عليهم السلام) ولو بالحيل كالقاضي نور الله التستري فلا بأس وأما المجبور بأن يحكم بقوانين الملاحدة أو المخالفين كما قد يتفق في زماننا وعصر الأئمة (عليهم السلام) فلا. (ش) (*)

[ 336 ]

الحق وكونهم آلهة يعبدهم أوغاد الناس وأهل الجهالة بمتابعتهم في القول والعمل. (وما يحكم له فإنما يأخذ سحتا) أي يأخذ مالا سحتا أو أخذا سحتا والأول أولى لعدم الاحتياج فيه إلى تقدير المفعول به. والسحت بالضم في الأصل الاستئصال والإهلاك والمراد به هنا الحرام الذي لا يحل اكتسابه لأنه يستحت البركة أي يذهبها ويهلكها وإذا كان كذلك فلا يجوز أخذ شئ بحكم هؤلاء الطغاة وإعانة هؤلاء العصاة ولا يجوز التصرف فيه. (وإن كان حقا ثابتا له) يفيد بظاهره عدم الفرق بين الدين والعين وقد يفرق بينهما بأن المأخوذ عوض الدين مال للمدعي عليه انتقل إلى المدعي بحكم الطاغوت فلا يجوز له أخذه ولا التصرف فيه بخلاف العين فإنها مال للمدعي وحق له فهي وإن حرم عليه أخذها بحكم الطاغوت لكن يجوز له التصرف فيها. (لأنه أخذه بحكم الطاغوت وقد أمر الله أن يكفر به) أي يتبرأ منه، هذا التعليل أيضا يفيد عدم الفرق بينهما. (قال الله تعالى: * (يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد امروا أن يكفروا به) * قيل: نزل في منافق خاصم يهوديا فدعاه اليهودي إلى النبي (صلى الله عليه وآله) ودعاه المنافق إلى كعب بن الأشرف وهذا جار إلى يوم القيامة في كل من يدعو إلى من ليس أهلا للقضاء والحكومة ولم توجد فيه شرائطهما وإن كان على المذهب الحق (1). وقال الشهيد الثاني: يستثنى منه ما لو توقف حصول حقه عليه فيجوز كما يجوز تحصيل الحق بغير القاضي والنهي في هذا الخبر وغيره محمول على الترافع إليهم اختيارا مع إمكان تحصيل الغرض بأهل الحق، وقد صرح به في خبر أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: أيما رجل كان بينه وبين أخ له مماراة في حق فدعاه إلى رجل من إخوانه ليحكم بينه وبينه فأبى إلا أن يرافعه إلى هؤلاء إلا كان بمنزلة الذين قال الله عز وجل: * (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما انزل إليك وما انزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد امروا أن يكفروا به) * انتهى. وظني أنه دلالة


1 - لا ريب أن إعانة الظلمة والاستعانة منهم والتقرب إليهم والتودد معهم من أعظم الموبقات حتى نقل من بعض أهل الورع أنه ترك التجارة لئلا يفيد العشارين ويستبعد بعض الناس هذا الحكم من الشارع ويقولون لا بد للناس من حكومة ودولة وخراج وعسكر وضابط وإلا لزم الهرج والمرج والفتن والهتك والنهب وغيرها ولو كان الخراج حراما وإعانتهم عظيمة موبقة لاختل النظام. قلنا: لو اجتمع الناس على ترك إعانة الظلمة لتركوا الظلم وتقيدوا بأحكام الإسلام وليس الظلم من لوازم الحكومة. (ش) (*)

[ 337 ]

فيه على مطلوبه أصلا (1) فضلا عن أن يكون صريحا فيه والله أعلم. (قلت: فكيف يصنعان ؟ قال: ينظران [ إلى ] من كان منكم) أي من أهل ملتكم ومذهبكم. (ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا) أي عرف أحكامنا كلها على الظاهر أو بعضها مما يحتاج إليه في الحكومة من مأخذها على احتمال وهو الكتاب والسنة معرفة بالفعل أو بالقوة القريبة منه، وهذا هو المعبر عنه بالفقيه الجامع لشرائط الفتوى والحكومة بين الناس ولا يجوز لمن نزل عن مرتبته تصدي الحكومة وإن اطلع على فتوى الفقهاء بلا خلاف عند أصحابنا (2). (فليرضوا به حكما) الحكم بفتح الحاء والكاف الحاكم وهو القاضي. (فإني قد جعلته عليكم حاكما) فيه دلالة على أن الراوي الموصوف بالصفات المذكورة والفقيه المنعوت بالنعوت المسطورة منصوب للحكومة على وجه العموم من قبلهم (عليهم السلام) في حال حضورهم وغيبتهم وعلى أنه يجب عليه الإجابة والقيام بها عينا إن لم يوجد غيره وكفاية إن وجد، وعلى أنه يجب على الناس الرضا بحكومته والترافع إليه ومساعدته في إمضاء أمره عند الحاجة. (فإذا حكم بحكمنا) المأخوذ من قول الله وقوله رسوله (صلى الله عليه وآله).


1 - ظاهر الحديث حرمة الترافع إليهم وإن كان الحق له وانحصر استنقاذه على استعانة الظالم واختاره الشارح وهو حسن لأن ضرر تسلط الظالم في الدين والدنيا أعظم من أن يحيط به العقول والأوهام ولا يقاس بأي ضرر آخر، والظاهر أن الشهيد (رحمه الله) استدل على مطلوبه بأن الإمام (عليه السلام) خصص الذم والتقريع بصاحبه الذي أجبره على الترافع إلى الظلمة وسكت عن أمره بعدم اتباع صاحبه في مقام البيان وهذا كالصريح في مطلوب الشهيد (رحمه الله) مثل أن يقول أحد منعني فلان من الماء حتى لو أتمكن من الوضوء وتيممت فقيل بئسما فعل فلان إذ منعك من الماء وسكت عن الحكم بإعادة الصلاة. والتجري عن عظماء المجتهدين من سوء الظن. (ش) 2 - بينا ذلك في حاشية الوافي وأشرنا إليه فيما سبق، وقلنا: إن أسامي الصناعات لا تطلق على أربابها عرفا إلا على المجتهدين فيها فلا يطلق النجار على من يجمع الأخشاب والدروب ويبيعها وكذلك الحذاء على بائع الأحذية والنعال والمطلع على فتاوى الفقهاء بمنزلة بائع الأحذية لا بمنزلة الحذاء، والطبيب لا يطلق على من حفظ أسامي الأدوية والأمراض بل على من عرف تشخيص الأمراض بالعلامات وعلم ما يقدم وما يؤخر من العلاج وأن يميز زمان استعمال كل دواء وترجيح بعض العلاجات على بعض في مزاج مزاج وغير ذلك. ولعمري أن هذا واضح ولم يستشكل فيه من استشكل إلا لشبهة حصلت له ولعله ظن حفظ اصطلاحات المتأخرين والتدرب في المجادلات والحنكة فيها اجتهادا ! ويدل على ظنهم هذا أنهم لا يعدون رواة عصر الأئمة مجتهدين لأنهم لم يصطلحوا على ما هو المتداول في زماننا من أصل البراءة والاستصحاب والترتب وإن كانوا عاملين بمعانيها مميزين لمواردها. وبالجملة: لا يجوز لغير المجتهدين التصدي للافتاء بغير خلاف. (ش) (*)

[ 338 ]

(فلم يقبله منه فإنما استخف بحكم الله) لأن حكمنا حكم الله ومن لم يقبل حكم الله لم يقبل حكم من نصبناه للحكومة. (وعلينا رد) حيث لم يقبل حكم من نصبناه للحكومة. (والراد علينا الراد على الله) لأنا ألسنة الحق وسفراؤه بين عباده. (وهو على حد الشرك بالله) أي المستخف بحكم الله والراد عليه على أعلى مراتب الضلالة وأدنى مراتب الإسلام بحيث لو وقع التجاوز عنه دخلا في مرتبة الشرك بالله كالمنافق أو المراد أنهما دخلا في مرتبة الشرك لأن من لم يرض بحكم الله ولم يقبله فقد رضي بخلافه وهو حكم الطاغوت وذلك شرك بالله العظيم. (قلت: فإن كان كل رجل) من المتخاصمين. (اختار رجلا من أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرين في حقهما واختلفا فيما حكما) فحكم أحدهما بحكم وحكم الآخر بخلافه. (وكلاهما اختلفا في حديثكم ؟) يعني تمسك كل واحد منهما فيما حكم به بحديثكم مخالفا لحديث صاحبه. وإفراد الضمير في " اختلف " بالنظر إلى اللفظ وجزاء الشرط يحتمل أن يكون قوله: " فاختلفا " ويحتمل أن يكون محذوفا، والتقدير فكيف يصنعان ؟ (قال: الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما) في أحكام القضاء أو مطلقا. (وأصدقهما في الحديث وأورعهما ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر) لا بد للحاكم من أن يتصف بالعدالة والفقاهة والصدق والورع فمن اتصف بهذه الصفات الأربع فهو أهل للحكومة ومنصوب من قبلهم (عليهم السلام) ومن لم يتصف بشئ منها أو بعضها لا يجوز له الحكم بين الناس، وإن تعدد المتصف بها ووقع الاختلاف بينهما في الحكم والمستند فظاهر هذا الحديث يفيد تقديم من اتصف بالزيادة في جميعها على من اتصف بالنقصان في جميعها وتقديم من اتصف بالزيادة في بعضها على من اتصف بالنقصان في ذلك البعض بعينه مع تساويهما في الباقي لأن مناط الحكم هو غلبة الظن به، وهي في المتصف بالزيادة أقوى، وأما إذا اتصف أحدهما بالزيادة في بعض والآخر بالزيادة في بعض آخر ففيه إشكال لتعارض الرجحان وتقابل الزيادة والنقصان ولا دلالة فيه على تقديم أحدهما على الآخر، واعتبار الترتيب الذكري بناء على أولوية المتقدم على المتأخر لا يفيد لعدم ثبوت الأولوية. وقال بعض الأصحاب: الأفقه يقدم على الأعدل لاشتراكهما في أصل العدالة المانعة من التهجم على المحارم وتبقى زيادة الفقاهة الموجبة لزيادة غلبة الظن خالية عن المعارض ومع تساويهما في الفقاهة يقدم الأعدل لثبوت الرجحان له.


[ 339 ]

ثم الظاهر أنه لا خلاف بين الأصحاب أن الزيادة بهذه الصفات تقتضي رجحان تقديم المتصف بها وأما أنها هل توجب تقديمه بحيث لا يجوز تقديم المتصف بالنقصان عليه أم لا ؟ ففيه قولان: أحدهما: أنه لا يجب تقديمه لاشتراك الجميع في الأهلية، ورد ذلك: بأن اشتراكهم في أصل الأهلية بالنظر إلى أنفسهم لا يقتضي تساويهم بالنظر إلى الغير وهل ذلك إلا عين المتنازع فيه. والثاني وهو الأشهر: أنه يجب تقديمه، لأن الظن بقوله أقوى (1)، ولدلالة ظاهر هذا الحديث ونظيره عليه. (قال: قلت: فإنهما عدلان مرضيان عند أصحابنا لا يفضل واحد منهما على [ الآخر ] ؟) في شئ من الصفات المذكورة ويفضل من الفضل بمعنى الزيادة أو من التفضيل تقول فضلته على غيره تفضيلا إذا حكمت له بالفضل والزيادة. وإذا كانا كذلك فكيف يصنع ؟ وبحكم أيهما يؤخذ ؟ (قال: فقال: ينظر إلى ما كان من روايتهم عنا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه من أصحابك) أي الرواية المشهورة من بين أصحابك أو الحكم المشهور عندهم. اسم " كان " ضمير الموصول و " من " بيان له و " المجمع عليه " خبر كان. (فيؤخذ به من حكمنا) أي فيؤخذ بالمجمع عليه وهو من حكمنا، أو حال كونه من حكمنا أو من أجل حكمنا أو من متعلق بيؤخذ وحكمنا بالتحريك بمعنى حاكمنا. (ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك فإن المجمع عليه) أي الخبر المشهور روايته أو الحكم المشهور. (لا ريب فيه) فوجب اتباعه دون غير المشهور وهو حجة لمن ذهب من الاصوليين والفقهاء إلى أن الشهرة مرجحة عند تعارض الدليلين، واستدل به بعض العلماء على حجية الإجماع لأن كلية الكبرى في مثله من شرائط الانتاج. أقول: فيه نظر لأنا لا نسلم أن المراد بالمجمع عليه هنا هو المعنى المصطلح بل المراد به الأمر


1 - الرجوع إلى العلماء ثلاثة أقسام: الأول: الترافع للقضاء وهذا مورد الرواية. الثاني: الاستفتاء. الثالث: الرجوع إلى الراوي للسماع، والأخيران خارجان عن مورد النص فإن اريد إلحاقهما به كان من الخاص الذي يراد به العام بالقرينة كما مر وهو ليس بقياس. وبالجملة فلا ريب في مقام القضاء والفتيا أن الأعلم مقدم على غيره مطلقا، وأما في الرواية فالمرجحات لا تنحصر في موارد النص على حجية أخبار الآحاد وليس بينهما ترتيب وتقدم وتأخر بل المناط قوة الظن في جانب بما يرجحه، وهذا عمل الأصحاب ويتنبه لقرائن الضعف والقوة المجتهد الماهر المتتبع، راجع في ذلك حواشي الوافي. (ش) (*)

[ 340 ]

المشهور كما أشرنا إليه ودل عليه سياق الكلام وإن سلمنا فنقول: تقرير الدليل بقرينة السياق هكذا هذا الخبر ما دل على حكم مجمع عليه وكل ما دل على حكم مجمع عليه وجب اتباعه: أما الصغرى فظاهرة وأما الكبرى فلأن ما دل على المجمع عليه لا ريب فيه، فالمستفاد منه أن الإجماع مرجح لأحد الخبرين على الآخر عند التعارض ولا نزاع فيه وإنما النزاع في جعل الإجماع دليلا مستقلا (1)، وهذا الخبر لا يدل عليه فليتأمل. (وإنما الامور ثلاثة: أمر بين رشده فيتبع) أي أمر ظاهر مكشوف وجه صحته وحقيته لوضوح مأخذه من الكتاب والسنة فيجب اتباعه. (وأمر بين غيه فيجتنب) أي أمر واضح بطلانه وعدم حقيته للعلم بأنه مخالف لما نطق به الكتاب والسنة فيجب اجتنابه. (وأمر مشكل) لا يعلم وجه صحته ولا وجه بطلانه ولا يعلم موافقته للكتاب والسنة ولا مخالفة لهما. (يرد علمه إلى الله وإلى رسوله) ولا يجوز فيه الاعتقاد بشئ من طرفي النقيض والحكم به قبل الرد، واستدل بعض الأفاضل بهذا الحصر على أن الإجماع حجة وقال: المراد بالبين رشده وغيه المجمع عليه وبالمشكل المتنازع فيه لأنه الذي وجب رد علمه إلى رسوله لقوله تعالى: * (فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول) *، وفيه نظر لأنا لا نسلم أن المراد بالبين رشده وغيه المجمع عليه لجواز أن يكون المراد به ما ظهر وجه صحته ووجه بطلانه، ويؤيده قوله فيما مر " الحكم ما حكم أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما، ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر " ولا نسلم أيضا أن كل المتنازع فيه مشكل، بل الظاهر أن المشكل هو الذي لا يظهر وجه صحته ولا وجه بطلانه وهذا هو الذي وجب رده إلى الله وإلى الرسول فليتأمل. (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله)) هذا بيان للسابق واستشهاد له ولذا ترك العطف.


1 - روى الطبرسي في الاحتجاج عن أبي الحسن علي بن محمد العسكري (عليه السلام) في حديث طويل قال: اجتمعت الامة قاطبة لا اختلاف بينهم في ذلك أن القرآن حق لا ريب فيه عند جميع فرقها فهم في حالة الاجتماع عليه مصيبون وعلى تصديق ما أنزل الله مهتدون لقول النبي (صلى الله عليه وآله): " لا تجتمع امتي على الضلالة " فأخبر أن ما أجمعت عليه الامة ولم يخالف بعضها بعضا هو الحق فهذا معنى الحديث لا ما تأوله الجاهلون ولا ما قاله المعاندون من إبطال حكم الكتاب واتباع حكم الأحاديث المزورة والروايات المزخرفة واتباع الأهواء المردية المهلكة التي تخالف نص الكتاب وتحقيق الآيات الواضحات النيرات ". انتهى ما أردنا نقله وهو يدل على حجية الإجماع وكونه دليلا مستقلا وإمكان العلم به وتصديق لصحة الحديث المشهور " لا تجتمع امتي على ضلالة ". (ش) (*)

[ 341 ]

(حلال بين وحرام بين وشبهات بين ذلك) محتملة للحلال والحرام، وفيه دلالة واضحة على أن المراد بالمشكل الشبهات أعني ما لا يظهر وجه حليته ولا وجه حرمته لا المتنازع فيه مطلقا كما زعم. (فمن ترك الشبهات) أي لم يفت ولم يحكم ولم يعمل بها. (نجا من المحرمات) التي هي الفتوى بالشبهات والحكم بها والعمل بها على أنه مطلوب للشارع. (ومن أخذ بالشبهات) أي بالإفتاء أو الحكم أو العمل بها. (ارتكب المحرمات (1) وهلك من حيث لا يعلم) " من حيث " متعلق بارتكب وهلك، أو تعليل لهما يعني ارتكابه للمحرمات وهلاكه باستحقاقه للعذاب لأجل عدم علمه بحقيته وما أخذ به وحقيقته. (قلت: فإن كان الخبران عنكما مشهورين) لعل خطاب الاثنين للصادق والباقر (عليهما السلام) على سبيل التغليب وإنما خصهما بالخطاب لظهور أكثر الأحكام الشرعية منهما وكثرة الروايات عنهما لا عن آبائهما الطاهرين لشدة التقية في زمانهم وقيل: يحتمل أن تكون التثنية في الخطاب باعتبار التثنية في الخبر وفي بعض النسخ: عنهما. (قد رواهما الثقات عنكم ؟) فبقول أيهما يؤخذ ؟ وهذا كالتأكيد والتقرير للسابق فإن الكلام في رواية العدلين المرضيين. (قال: ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنة) موافقة معلومة أو مظنونة أو محتملة لاحتمال دخوله فيما هو المراد منهما باعتبار العموم أو الإطلاق أو نحو ذلك. (وخالف العامة فيؤخذ به) لأنه حق وصواب لكونه موافقا للكتاب والسنة بعيد عن التقية لكونه مخالفا للعامة. (ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنة ووافق العامة) لكونه بعيدا عن الصواب وقريبا من التقية وهذا القسم من الترجيح في غاية الصعوبة لتوقفه على العلم بسرائر الأحكام والسنة وخفياتها وعلى معرفة أحكام العامة وقوانيها وجزئياتها. (قلت: جعلت فداك، أرأيت) أي أخبرني عن حكم ما أسألك. (إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنة ووجدنا أحد الخبرين موافقا للعامة والآخر مخالفا لهم بأي الخبرين يؤخذ ؟ قال: ما خالف العامة ففيه الرشاد) أي الهداية والسداد، لأن الموافق لهم محمول على التقية ولعدم اشتمال الكتاب على التناقض علم أن الفقيه الموافق لهم أخطأ في


1 - كذا. (*)

[ 342 ]

استنباط حكمه عن الكتاب. (فقلت: جعلت فداك، فإن وافقهما الخبران جميعا ؟) ضمير التثنية في قوله: " وافقهما " راجع إلى الكتاب والعامة، وقيل: إلى فرقتين من العامة يعني وافق كل خبر فرقة منهم. (قال: ينظر إلى ما هم إليه أميل) في بعض النسخ: " ينظر إلى ما هم إليه حكامهم وقضاتهم "، وفي هذه النسخة: (حكامهم وقضاتهم) بيان أو بدل عن الضمير المنفصل وهو " هم ". (فيترك ويؤخذ بالآخر) لأن التقية فيما إليه ميل أكثرهم أشد وأولى (1). (قلت: فإن وافق حكامهم الخبرين جميعا ؟) من غير تفاوت في ميلهم إليهما فبأيهما يؤخذ ؟ (قال: إذا كان ذلك فأرجه) أمر من أرجيت الأمر بالياء أو من أرجأت الأمر بالهمزة وكلاهما بمعنى أخرته فعلى الأول حذف الياء في الأمر وعلى الثاني ابدلت الهمزة ياء حذفت الياء، والهاء ضمير راجع إلى الأخذ بأحد الخبرين يعني فأخر الأخذ بأحد الخبرين فتوى وحكما وعملا على أنه مطلوب للشارع. (حتى تلقى إمامك) وتسمع منه حقية أحدهما ورجحانه على الآخر. (فإن الوقوف عند الشبهات) التي لا يعرف وجه صحتها وفسادها وعدم الحكم فيها بشئ أصلا والتعرض لها نفيا وإثباتا. (خير من الاقتحام في الهلكات) هي جمع هلكة محركة بمعنى الهلاك أي خير من الدخول فيما يوجب الهلكات الأبدية والعقوبات الاخروية.


1 - اختلف علماؤنا في العمل بهذه المرجحات إن لم يستفد منها العلم بصحة أحد الخبرين وبطلان الآخر وممن لم يعمل به من المتأخرين صاحب الكفاية، وقال بالتخيير في كل خبرين جامعين لشرائط الحجية من غير نظر إلى المرجحات ودليله عموم روايات التخيير وإطلاقها من غير تعرض للتخيير واختصاص هذه المقبولة بمقام الحكومة والقضاء وعلى القول بالترجيح فالصحيح أن يقال: المرجح على قسمين: قسم يستفاد منه بطلان أحد الخبرين يقينا كمخالفة الكتاب والسنة على ما يأتي، وقسم يستفاد منه قوة الظن في أحدهما، والظاهر أنما نص عليه من المرجحات مثال يتنبه منه على غيره مما لم ينص عليه وكلاهما من باب المقتضي لا العلة التامة والاعتماد على قوة الظن، فربما يكون أحد الخبرين مشهورا والشهرة مرجحة والآخر راوية أعدل وأوثق ويتعارض المرجحان فربما يقوى في ظن المجتهد بقرائن تنبه لها قوة الشهرة في مورد وقوة العدالة في مورد آخر وهذا أمر لا يمكن ضبطه وبناء على الاعتناء بالظنون في ترجيح الروايات ينبغي التعدي عن المرجحات المنصوصة وعدم الترتيب بينها تعبدا وللبحث في ذلك محل آخر. (ش) (*)

[ 343 ]

باب الأخذ بالسنة والكتاب باب الأخذ بالسنة وشواهد الكتاب * الأصل: 1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " إن على كل حق حقيقة وعلى كل صواب نورا، فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فدعوه ". * الشرح: (علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن على كل حق حقيقة وعلى كل صواب نورا) لعل المراد بالحق الخبر المطابق للواقع، والمراد بحقيقته ماهيته الموجودة فيه وكلمة " على " مع أن الظاهر أن يقول: لكل حق إما للتنبيه بالاستعلاء على أن حقية كل خبر باعبتار حقيقته الموجود في نفس الأمر إذ لو لم يكن له تلك الحقيقة لم يكن حقا، وإما باعتبار المجانسة مع قوله: " وعلى كل صواب نورا " أي وعلى كل اعتقاد مطابق للواقع وصور علمية مطابقة لما في نفس الأمر برهانا فيه (1) وسمي البرهان نورا لأن البرهان آلة للنفس في ظهور المعقولات كما أن النور آلة للحواس في ظهور المحسوسات ولا ريب أن ما هو صواب كان برهانه موجودا فيه وإلا فلا يكونان موجودين في نفس الأمر بناء على أن كل موجود في نفس الأمر موجود في الكتاب فما لم يكن موجودا في الكتاب لم يكن موجودا في نفس الأمر فإذن كتاب الله تعالى ميزان عدل لتمييز الحق عن الباطل والصواب عن الخطأ فإذا أردتم التمييز بين هذه الأشياء فزنوا عقائدكم وما ورد عليكم من الروايات بكتاب الله تعالى. (فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فدعوه) فإنه باطل وخطأ وليس له حقيقة ونور وملخص القول فيه: أنكم إن أردتم أن تعرفوا حقية الخبر والاعتقاد فانظروا فإن كان له حقيقة ونور - أي أصل - اخذ منه ذلك الخبر والاعتقاد وذلك الأصل هو الكتاب فهو حق وصواب وإلا فهو


1 - لا ريب في أن العقل مما يميز به الصحيح من السقيم وعليه عمل علمائنا ويدل عليه غير واحد من الروايات، وقد روى الشيخ أبو الفتوح في تفسيره ج 3، ص 392 (الطبعة التي عليها تعاليقنا) حديثا عن النبي (صلى الله عليه وآله) ما هذا نصه: " إذا أتاكم عني حديث فأعرضوه على كتاب الله وحجة عقولكم فإن وافقهما فأقبلوه وإلا فاضربوا به عرض الجدار " وقد رد أو أول أخبار الجبر والتجسيم ونسبة المعاصي إلى الأنبياء لهذه العلة. (ش) (*)

[ 344 ]

باطل وخطأ والله العالم. * الأصل: 2 - محمد بن يحيى، عن عبد الله بن محمد، عن علي بن الحكم، عن أبان بن عثمان، عن عبد الله بن أبي يعفور قال: وحدثني حسين بن أبي العلاء أنه حضر ابن أبي يعفور في هذا المجلس قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن اختلاف الحديث يرويه من نثق به ومنهم لا نثق به ؟ قال: " إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهدا من كتاب الله أو من قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) وإلا فالذي جاءكم به أولى به ". * الشرح: (محمد بن يحيى، عن عبد الله بن محمد، عن علي بن الحكم، عن أبان بن عثمان، عن عبد الله بن أبي يعفور قال: وحدثني حسين بن أبي العلاء أنه حضر ابن أبي يعفور في هذا المجلس قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام)) الظاهر أن فاعل قال في قوله: " قال: وحدثني " أبان بن عثمان فهو يروي هذا الحديث تارة عن عبد الله بن أبي يعفور، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، واخرى عن حسين بن أبي العلاء، أنه - أي الحسين - حضر ابن أبي يعفور في مجلس الصادق (عليه السلام) وقد سأله ابن أبي يعفور وفاعل " قال " في قوله " قال: سألت " عبد الله بن أبي يعفور. (عن اختلاف الحديث يرويه من نثق به ومنهم لا نثق به) الظاهر أنه سؤال عن الأحاديث المختلفة التي نقلة بعضها ثقات ونقلة بعضها غير ثقات، والمقصود طلب ترجيح بعضها على بعض وقوله: " ومنهم من لا نثق به " لبيان أمر آخر وهو أن بعض رواة الحديث غير ثقة وحاله مكشوف لا إشكال فيه لعدم الاعتماد بحديثه. (قال: إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهدا من كتاب الله أو من قول رسول الله (صلى الله عليه وآله)) جزاء الشرط محذوف أي فخذوه أو فاقبلوه. (وإلا فالذي جاءكم به أولى به) أي بذلك الحديث وينبغي أن لا يتعداه إليكم وأن لا تأخذوا به فتيا وحكما وعملا واللازم عليكم في مثله الإرجاء إلى لقاء الإمام (عليه السلام) كما يستفاد ذلك من أخبار كثيرة، وقيل: اللازم عليكم تركه ورده لأنه مخالف للكتاب والسنة وفيه نظر، لأن عدم وجدان الشاهد لا يستلزم عدم وجود الشاهد حتى تتحقق المخالفة لجواز أن يكون فيهما شاهد لم نعرفه. اللهم إلا أن يجعل عدم الوجدان كناية عن المخالفة وفيه ما فيه، وهذا الحديث والأربعة الآتية بعده يدل على ما سبق من أن كتاب الله أصل كل حق وصواب وأن كل ما صدقه كتاب الله وجب الأخذ به وكل ما خالفه وجب تركه، وكل ما لم يعلم موافقته ولا مخالفته وجب التوقف فيه، وفيه


[ 345 ]

أيضا دلالة على أن خبر الواحد من حيث هو ليس بحجة ولا يخصص به الكتاب (1) وعلى أن الأحاديث المختلفة وإن كان الراوي في أحدهما ثقة ورعا دون الآخر وجب موازنتها مع الكتاب. وهذا ينافي في الجملة ما مر في حديث عمر بن حنظلة من قوله (عليه السلام): " الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر " ثم حكم على تقدير تساويهما (2) بوجوب النظر إلى الكتاب والسنة فالأولى أن يحمل السؤال على الاحتمال الأخير رفعا للتنافي بينه وبين ما سبق. * الأصل: 3 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن النضر بن سويد، عن يحيى الحلبي، عن أيوب بن الحر، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: " كل شئ مردود إلى الكتاب والسنة وكل حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف ". * الشرح: (عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن النضر بن سويد، عن يحيى الحلبي، عن أيوب بن الحر، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: كل شئ مردود إلى الكتاب والسنة) أي وجب رده إليهما أو هو إخبار بأنهما أصل كل شئ ومصيره ومرد كل حكم ومنتهاه. (وكل حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف) أي قول فيه تمويه وتدليس وكذب فيه تزوير وتزيين ليزعم الناس أنه من أحاديث النبي وأهل بيته (عليهم السلام). * الأصل: 4 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن فضال، عن علي بن عقبة، عن أيوب ابن راشد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف ". * الشرح: (محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن فضال، عن علي بن عقبة، عن أيوب بن راشد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف) لا ريب في أن كل


1 - هذا مذهب بعض علمائنا وهو مبني على كون الخاص مخالفا للعام عرفا، وفيه تأمل وقال العلامة في النهاية: يخصص الكتاب بالخبر الواحد الثابت حجيته وهذا موافق للقاعدة وإن لم نجد له مثالا. (ش) 2 - هذا بعيد جدا، لأن النظر إلى الكتاب والسنة مقدم على كل مرجح إذ الخبر الذي يخالفهما باطل لا يعتمد عليه وإن كان راويه عادلا اشتبه الأمر عليه، فليس المقصود من الترتيب الذكري في رواية عمر ابن حنظلة الترتيب في التكليف بالترجيح. (ش) (*)

[ 346 ]

حديث غير موافق للقرآن فهو مزخرف من القول مزور مموه (1) لأن غير الموافق للحق باطل لكن العلم بعدم الموافقة في نفس الأمر قد يكون مشكلا متعسرا لنا لأن للقرآن ظواهر وبواطن وأسرارا لا يعلمها إلا أرباب العصمة (عليهم السلام). * الأصل: 5 - محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن الحكم وغيره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " خطب النبي (صلى الله عليه وآله) بمنى فقال: أيها الناس، ما جاءكم عني يوافق كتاب الله فأنا قلته وما جاءكم يخالف كتاب الله فلم أقله ". * الشرح: (محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن الحكم وغيره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: خطب النبي (صلى الله عليه وآله) بمنى) بكسر الميم والتنوين اسم للموضع المعروف بمكة زادها الله شرفا وتعظيما والغالب عليه التذكير والصرف وقد يكتب الألف. (فقال: أيها الناس، ما جاءكم عني يوافق كتاب الله فأنا قلته) لأن كل ما قال (صلى الله عليه وآله) فهو في القرآن لأنه * (ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) *، وكل ما أوحى إليه ربه فهو في الكتاب. (وما جاءكم يخالف كتاب الله فلم أقله) لأنه (صلى الله عليه وآله) مظهر للكتاب ومبين لأحكامه فكيف يقول ما يخالفه ؟ وهذا وإن كان بحسب اللفظ خبرا لكنه بحسب المعنى أمر برد الأحاديث المنقولة عنه إلى الكتاب والأخذ بما يوافقه والإعراض عما يخالفه لعلمه بأنه يكثر عليه أكاذيب الكذابين. * الأصل: 6 - وبهذا الاسناد، عن ابن أبي عمير، عن بعض أصحابه، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: " من خالف كتاب الله وسنة محمد (صلى الله عليه وآله) فقد كفر ". * الشرح: (وبهذا الاسناد، عن ابن أبي عمير، عن بعض أصحابه، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: من خالف) في الفتوى والحكم والعمل.


1 - الظاهر أن المراد بما لا يوافق الكتاب ما يخالفه فإن الحديث إما أن يكون مخالفا أو موافقا أو لا موافقا ولا مخالفا، لعدم كونه مذكورا فيه مثل الرواية التي تدل على خيار المجلس ورواية غسل الحائض والنفساء، والزخرف والباطل إنما هو المخالف فقط، فإن قيل: مقتضى الحديث الأول أن يوجد عليه شاهد من الكتاب، قلنا: بل مقتضى الحديث الأول أن يوجد شاهد من الكتاب أو من السنة المشهورة المتواترة لا من الكتاب فقط، وهذا يدل على كون السنة التي لا توجد في الكتاب حجة، ورواية خيار المجلس وغسل الحيض من السنة المتواترة المجمع على صحتها التي يصح أن يجعل نفسها شاهدا. (ش) (*)

[ 347 ]

(كتاب الله وسنة محمد (صلى الله عليه وآله) فقد كفر) الكفر يطلق على خمسة معان: الأول: إنكار الربوبية كما هو شأن الزنادقة والدهرية. الثاني: إنكار الحق مع العلم بأنه حق كما هو شأن المنافقين والمنكرين للرسول (صلى الله عليه وآله) مع علمهم بحقيته كما قال الله تعالى: * (فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين) *. الثالث: ترك ما أمر الله به كما قال الله تعالى: * (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك) * فكفرهم بترك ما أمرهم به ونسبتهم إلى الإيمان ولم يقبله منهم. الرابع: كفر النعم كما قال الله تعالى حكاية عن سليمان (عليه السلام): * (هذا من فضل ربي ليبلونئ أشكر أم أكفر) *. الخامس: كفر البراءة كما قال الله تعالى حكاية عن إبراهيم (عليه السلام): * (كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء) * يعني تبرأنا منكم. إذا عرفت هذا فنقول: الكفر في هذا الحديث يمكن حمله على كل واحد من هذه المعاني لأن مخالفة الكتاب والسنة (1) إن كانت من الفرقة الاولى أو الفرقة الثانية كان الكفر بالمعنيين الأولين وإن كانت ممن يقر بالربوبية والرسالة وحقية القرآن وهو الأظهر في هذا المقام فمن حيث إنه ترك ما فيهما يتحقق الكفر بالمعنى الثالث، ومن حيث إنه لم يعرف قدر هذه النعمة الجليلة أعني القران والسنة ولم يعمل بما فيهما يتحقق الكفر بالمعنى الرابع، ومن حيث إن هذا الترك وعدم معرفة قدر هذه النعمة يستلزمان البراءة من الله ومن رسوله - أعاذنا الله من ذلك - يتحقق الكفر بالمعنى الخامس، والمخالفة بهذا المعنى كفر إذا كانت عمدا أو في اصول العقائد الدينية. * الأصل: 7 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى بن عبيد، عن يونس رفعه قال: قال علي بن الحسين (عليهما السلام): " إن أفضل الأعمال عند الله ما عمل بالسنة وإن قل ". * الشرح: (علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى بن عبيد، عن يونس رفعه قال: قال علي بن الحسين (عليهما السلام):


1 - ويستفاد من هذه الروايات أن السنة - أي الكلام المروي عن الحجة - على قسمين: قسم يصح أن يكون شاهدا على غيره وأن يحكم ببطلان ذلك الغير إن خالفه، وقسم لا يصح أن يعتمد عليه بنفسه بل يجب أن يعتبر بغيره وظاهر أن القسم الأول متيقن الصدور لا يشك في صحته، والثاني مظنون يحتمل بطلانه وإلا فإن كان كلاهما مظنونين لا يمكن أن يجعل أحدهما شاهدا على صحة الآخر أو بطلانه. وبالجملة التي تجعل شاهدا هي السنة المتواترة أو المجمع عليها أو المقترنة بالقرائن القطعية. (ش) (*)

[ 348 ]

إن أفضل الأعمال عند الله ما عمل بالسنة وإن قل) " ما " مصدرية أو موصولة والعائد إلى المبتدأ محذوف أي ما عمل بالسنة فيه وذلك لأن السنة كالكتاب ميزان يتميز به الصواب عن الخطأ والحق عن الباطل فكل عمل موزون بها متصف بالفضيلة والكمال وإن قل إذ كثرة العمل ليس من شرائط اتصافه بالفضيلة والقبول وكل عمل لم يتزن بهذا الميزان فهو خطأ عند أرباب الإيمان وأيضا اتصاف العمل بالفضيلة إنما يتحقق إذا كان موجبا للقرب بالمبدأ والانقياد له ولا يتحقق هذا إلا إذا كان موافقا لما جاء في السنة النبوية والمراد باسم التفضيل هنا أصل الفعل إذ لا فضيلة للعمل المخالف للسنة. * الأصل: 8 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن إسماعيل بن مهران، عن أبي سعيد القماط وصالح بن سعيد، عن أبان بن تغلب، عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه سئل عن مسألة فأجاب فيها، قال: فقال الرجل: إن الفقهاء لا يقولون هذا فقال: " ويحك وهل رأيت فقيها قط ؟ ! إن الفقيه حق الفقيه الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة، المتمسك بسنة النبي (صلى الله عليه وآله) ". * الشرح: (عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن إسماعيل بن مهران، عن أبي سعيد القماط وصالح بن سعيد) وهو من أصحاب موسى بن جعفر (عليهما السلام) ومجهول الحال، وقال المحقق الشوشتري: كذا فيما عندنا من النسخ، ولا يبعد أن يكون الواو زائدا. (عن أبان بن تغلب، عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه سئل عن مسألة فأجاب فيها، قال: فقال الرجل: إن الفقهاء لا يقولون هذا) أراد الفقهاء فقهاء العامة أو فقهاء الشيعة أيضا على بعد، وأراد بهذا الكلام إظهار مخالفتهم له (عليه السلام) وبيان خطئهم لا رد قوله (عليه السلام) وإنكاره لكونه مخالفا لقولهم لأنه كفر، وعلى التقديرين فقد أخطأ في تسميتهم فقهاء ولذلك خطأه (عليه السلام). (فقال: ويحك) أي يا فلان أو يا رجل ويحك. (وهل رأيت فقيها قط ؟ ! إن الفقيه حق الفقيه) أي الفقيه الكامل في علمه وفقاهته. (الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة، المتمسك بسنة النبي (صلى الله عليه وآله)) لأنه إذا اشتغل نور العلم في قلبه أحرق كل ما فيه من حب الدنيا وزهراتها ولذاتها الفانية وهداه إلى امور الآخرة الباقية والسنة الثابتة النبوية، ونقول لزيادة التوضيح: الفقه في اللغة الفهم وفي عرف المتأخرين العلم بالأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية وليس شئ منهما مرادا هنا لأنه لا يناسب المقام ولأن الثاني مصطلح جديد لم يكن معروفا عند الأئمة (عليهم السلام) بل المراد به البصيرة في أمر الدين.


[ 349 ]

وقال بعض المحققين: أكثر ما يأتي في الحديث بهذا المعنى، والفقيه هو صاحب هذه البصيرة وما قال ورام الحلي (رحمه الله) والغزالي من أن اسم الفقه في العصر الأول إنما كان يطلق على علم الآخرة ومعرفة دقائق آفات النفوس ومفسدات الأعمال وقوة الإحاطة بحقارة الدنيا وشدة التطلع إلى نعيم الآخرة واستيلاء الخوف على القلب إشارة إلى هذه البصيرة، ثم هذه البصيرة إنما تتم وتتكامل بعلوم ثلاثة: الأول: العلم بأحوال الدنيا وانصرامها وعدم بقائها وثباتها. الثاني: العلوم بأحوال الآخرة من عذابها وثوابها وحورها وقصورها وعجز بني آدم بين يدي الله تعالى إلى غير ذلك من أحوالها وأهوالها. الثالث: العلم بالسنة النبوية لقصور عقل البشر عن إدراك نظام الدنيا والدين بنفسه من غير توسط رسول قوله قول الله تعالى المنزل إليه بالوحي، فهذان العلمان من توابع العلم بالله وملائكته وكتبه ورسله وثمرة العلم الأول وفائدته هي الزهد في الدنيا والإعراض عن نعيمها وعدم الاغترار بزخارفها والتنزه عن حلالها (1) فضلا، عن حرامها، وثمرة العلم الثاني هي الرغبة في الآخرة وصرف العقل إليه وقصر الأمل عليه، وثمرة العلم الثالث التمسك بالسنة النبوية والعمل بها للتخلي عن الرذائل والتحلي بالفضائل لأن كمال القوة العلمية إنما هو بارتكاب الأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة والاجتناب عن أضدادهما وهو إنما يحصل بالأخذ بالسنة والعمل بما فيها، ويظهر مما ذكرنا أن تعريف الفقيه بما ذكر تعريف بالغاية والثمرة المطلوبة منه للتنبيه على أن وجود الفقه بدون هذه الثمرات كعدمه بل عدمه خير من وجوده.


1 - أعلم أن كثيرا من القوى والآلات التي ركب الله تعالى في وجود الإنسان إنما هي مما يحتاج إليها في الحياة الدنيوية ولم يعط مثلها الملائكة المقربون والمدبرات أمرا ولذلك ليس التمتع بنعم الدنيا جميعها مما يخالف إرادة الله تعالى فبعضها حلال قطعا والمقدار الذي توقف عليه حفظ البنية التي خلق الله تعالى الإنسان عليها واجب والتنزه عنه مضادة لإرادة الله وحكمه، وأما التنزه المرغوب فيه فهو عن الزائد عن ذلك الذي يقصد منه التلذذ وهو مانع عن امور اخر خلق لها الإنسان أيضا من التوجه إلى الله والتمتع بالنعم العقلية ومعرفة ما لا يتوقف المعاش الدنيوي عليه، فإن وجود هذه الرغبات في الإنسان دليل على عدم قصر فائدة وجوده وغاية تكونه على عمارة الدنيا والاستمتاع بنعيمها وأهل الخلوة والمناجاة مع الله وتهذيب النفس والتفكر يتلذذون بعملهم أكثر مما يتلذذ به أهل اللهو فكما أن وجود شهوة الأكل وأمثالها لغرض وغاية فكذلك وجود الرغبة إلى الله تعالى وأوليائه لغرض وغاية والتهالك على التلذذ بالنعم الدنيوية التي لا تحتاج إليها في بقاء البنية يمنع من التوجه إلى الله تعالى والتلذذ بالنعيم العقلي * (وما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه) *. (ش) (*)

[ 350 ]

* الأصل: 9 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن أبي إسماعيل إبراهيم بن إسحاق الأزدي، عن أبي عثمان العبدي، عن جعفر، عن آبائه، عن أمير المؤمنين (عليهم السلام) قال: " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لا قول إلا بعمل، ولا قول ولا عمل إلا بنية، ولا قول ولا عمل ولا نية إلا بإصابة السنة ". * الشرح: (عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن أبي إسماعيل إبراهيم بن إسحاق الأزدي، عن أبي عثمان العبدي، عن جعفر، عن آبائه، عن أمير المؤمنين (عليهم السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لا قول إلا بعمل) أي لا يعتبر القول المتعلق بالعمليات والاعتقاديات ولا ينفع إلا باقترانه بالعمل، وقد دلت الآيات والروايات على ذم القول بلا عمل. قيل: هذا الاستثناء مفرغ والتقدير لا قول معتبر بوجه من الوجوه إلا بعمل وهو يفيد عدم اعتبار القول بشئ من الوجوه واعتباره مع العمل وحده بناء على أن الاستثناء من النفي إثبات وفي كليهما نظر لأنهما يستلزمان أن لا يكون لاعتبار القول شرط غير العمل وأنه باطل، لأن النية وإصابة السنة أيضا من شرائطه، واجيب عنه بوجوه: الأول: أن نفي غير العمل وحصر الاشتراط فيه للمبالغة في اشتراطه لكونه من أقوى الشرائط فكأن غيره في جنبه معدوم. الثاني: أن هذا الكلام وقتية منتشرة فهو يفيد عدم اعتبار القول بدون العمل في الجملة، وفي وقت ما وهو وقت عدم العمل واللازم في طرف الاثبات اعتباره مع العمل في الجملة في وقت ما وهو وقت اقترانه لسائر الشرائط. الثالث: أن المقدر في هذا التركيب فعل الإمكان والتقدير لا قول ممكن بوجه من الوجوه إلا بعمل واللازم منه في الإثبات أن القول المقرون بالعمل ممكن لا أنه متحقق وتحققه إنما يكون باقترانه بسائر الشرائط. أقول: في هذه الوجوه نظر: أما الأول فلأن كون العمل أقوى من النية وإصابة السنة غير ظاهر مع أنه لا يناسب القرائن الآتية. وأما الثاني فلأن هذا الكلام يتعارف استعماله في إفادة معنى اشتراط المستثنى في حصول المستثنى منه وهو أن عند عدمه ينعدم المستثنى منه، وأما أنه يوجد معه في الجملة فلا دلالة للكلام


[ 351 ]

عليه. وأما الثالث فلأن القول بإمكان القول مع العمل وعدم إمكانه مع غيره من الشرائط تحكم إلا أن يتمسك بالمبالغة المذكورة وقد عرفت ما فيه والأحسن أن يقال: الحصر فيه إضافي بالنسبة إلى القول بدون العمل فيفيد عدم اعتبار القول بدونه لا عدم اعتباره مع سائر الشرائط أيضا، وكذا الحصر في القرائن الآتية، أو يقال: وجب على السامع أن لا يحمل الكلام على شئ إلا بعد انقطاعه وسكوت المتكلم ولا شك أن هذا الحديث بعد انقطاعه يفيد أن اعتبار القول مشروط بالعمل والنية وإصابة السنة. (ولا قول ولا عمل إلا بنية) أي لا يعتبر القول والعمل إلا بنية خالصة متعلقة بهما وهي قصد إيقاع الفعل مخلصا لله تعالى وأما قصد الوجوب أو الندب ومقارنتها لأول الفعل وغير ذلك مما اعتبره كثير من المتأخرين فأصالة البراءة وعدم وجود دليل عليه وخلو كلام المتقدمين عنه دلت على أنه غير معتبر (1) وخلوصها عبارة عن إرادة وجه الله تعالى وقد يعبر عنه بالقربة بمعنى موافقة


1 - هذا كلام غير معقول لي، ولا أتصور له وجها صحيحا أحمله عليه، واعلم: أن النية هو القصد دون اللفظ ودون إخطار الألفاظ بالبال، بل يكفي كون المعاني التي شرطوها في النية حاضرة في القلب وعلى هذا فيجب أن يكون عنوان العمل حاضرا في ذهنه، فلو صلى أربع ركعات ولم يكن معينا في قلبه أنه ظهر أو عصر أو أداء أو قضاء عنه أو عمن آجر نفسه للصلاة عنه أو أربعا مطلقا حتى يعينها بعد ذلك لم يصح، والدليل على وجوب كون العمل معينا كثير جدا والفعل الذي يمكن أن يقع على وجوه كثيرة صحيحة أو باطلة لا يتعين لأحدها إلا بالنية فلو أعطى مالا لفقير ولم ينو كونه زكاة أو كفارة أو فطرة أو صدقة أو نذرا أو غير ذلك لم يتعين لأحدهما إلا بالنية ولو كانت النية منفصلة عن العمل كان العمل بلا نية وهو واضح، فمن نوى الغسل قبل دخول الحمام ونسي عند الارتماس في الماء صدق عليه أنه لم يغتسل فيجب أن تكون النية مقارنة، وهذا واضح فقد رأيت العوام يسألون عن هذه المسألة فيقولون: إني دخلت الحمام بنية الغسل فنسيت أن أغتسل كأن وجوب مقارنة النية للعمل مركوز في ذهنهم حتى أنهم لا يعدون الارتماس غير المقارن للنية غسلا. وأما كون العمل واجبا أو ندبا فلا أظن العلماء يوجبونه إذا لم يتوقف التعين عليه كأن ينوي غسل الجمعة ولا يعلم أنه واجب أو ندب، وأما نية الوجه غاية فلا ريب في عدم وقوع الفعل حسنا إلا إذا كان الداعي إليه جهة حسنه مثلا الصدقة إنما يحسن إذا كان داعي المصدق إعانة الفقير مثلا فلو تصدق على مرأة حسناء فقيرة ودعاه إلى الصدقة جمالها لم يقع الفعل حسنا وجهة حسن العبادات عندنا أمر الشارع بها وجوبا أو ندبا. قال العلامة في القواعد في نية الصلاة: هي القصد إلى إيقاع الصلاة المعينة كالظهر مثلا أو غيرها لوجوبها أو ندبها أداء وقضاء قربة إلى الله وتبطل لو أخل بإحدى هذه، والواجب القصد لا اللفظ ويجب انتهاء النية مع ابتداء التكبير بحيث لا يتخللها زمان وإن قل وإحضار ذات الصلاة وصفاتها واجب. انتهى. (ش) (*)

[ 352 ]

إرادته وبالطلب لمرضاته والامتثال لأمره والانقياد له والاحتياط يقتضي تجردها عن قصد الثواب والخلاص من العقاب لأنه ذهب كثير من العلماء المحققين إلى أنه مناف للإخلاص ومبطل للعبادة كما أشرنا إليه سابقا. لا يقال: لو ترك القول وقال: ولا عمل إلا بنية لفهم أن اعتبار القول بالنية أيضا لأنك قد عرفت أن اعتبار القول بالعمل فإذا كان اعتبار العمل بالنية كان اعتبار القول بالنية أيضا. لأنا نقول: المقصود بيان أن اعتبار القول بالنية بالذات فلو لم يذكر القول لما فهم أن النية معتبرة فيه. (ولا قول ولا عمل ولا نية إلا بإصابة السنة) (1) والأخذ بها من مأخذها وهو النبي (صلى الله عليه وآله) وأوصياؤه (عليهم السلام) وذلك لأن كل قول بالأحكام وعمل بها إذا لم يكن موافقا للسنة النبوية والطريقة الإلهية فهو باطل لا ينفع بل يضر، وكذا لا ينفع نيته وقصد التقرب به لأن نية الباطل باطلة غير نافعة مثله. * الأصل: 10 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن أحمد بن النضر، عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال: " ما من أحد إلا وله شرة وفترة فمن كانت فترته إلى سنة فقد اهتدى ومن كانت فترته إلى بدعة فقد غوى ". * الشرح: (علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن أحمد بن النضر، عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال: ما من أحد إلا وله شرة وفترة) الشرة بكسر الشين المعجمة وفتح الراء المشددة والتاء المثناة الفوقانية: النشاط والرغبة، ويحتمل أن يقرأ بفتح الشين والراء المخففة والهاء ليكون مصدرا يقال: شره على الطعام شرها إذا اشتد وغلب حرصه. والفترة بفتح الفاء وسكون التاء الضعف والسكون، وفي كنز اللغة فترة: " بريدن وشكسته شدن وسست شدن وكند شدن ". (فمن كانت فترته إلى سنة فقد اهتدى ومن كانت فترته إلى بدعة فقد غوى) هذا الحديث يحتمل وجوها: الأول: أنه ما من أحد إلا وله نشاط في تحصيل المطالب يحركه إليه، وهو يسكن عند الوصول إليها ويستقر فيها، فمن حركه نشاطه في الامور الدينية إلى السنة النبوية وكانت فترته وسكونه إليها


1 - ولا نية إلا بإصابة السنة يدل على بعض ما اشترطوه في النية مثلا إذا نوى دائم الحدث بوضوئه رفع الحدث لم يصح وإن نوى به استباحة الصلاة صح وكذا التيمم. (ش) (*)

[ 353 ]

واستقراره فيها فقد اهتدى، ومن حركه نشاطه إلى البدعة وكانت فترته وسكونه إليها واستقراره فيها فقد غوى. الثاني: ما من أحد من المكلفين إلا وله نشاط في الأعمال وغلبة عليها وقوة لها كما في أيام الشباب وله ضعف وسكون كما في أيام الكهولة والشيخوخة، فمن كانت فترته منتهية إلى السنة بأن يقول ما فيها ويعمل به وتكون نيته خالصة موافقة لها فقد اهتدى ومن كانت فترته منتهية إلى البدعة بأن يأمر بها ويعمل بها ويقصد إليها فقد غوى وهلك، ففيه إخبار بأن الهداية والغواية إنما تعتبران وتحققان في الخاتمة والتحريض على طلب حسن العاقبة والاجتناب عن سوء الخاتمة وكلام الأكابر مشحون بالترغيب فيهما. الثالث: أن يكون الشرة إشارة إلى زمان التكليف والفترة إلى ما قبله لأن النفس قبل البلوغ إلى زمان التكليف أضعف منها بعده ولذلك يتوجه إليها التكليف بعده لا قبله، والمعنى من كانت فترته منتهية إلى السنة واستعد للتمسك بها عند البلوغ فقد اهتدى ومن كانت فترته منتهية إلى البدعة واستعد للتوجه إليها فقد غوى، ولعل هذه الوجوه أحسن مما قيل: المراد أن كل واحد من أفراد الناس له قوة وسورة في وقت كوقت الصحة والسلامة واليقظة والحركة وله فترة وضعف في وقت كوقت المرض والنوم والدعة والسكون فمن كان فتوره إلى سنة للنهوض إليها والعمل بمقتضاها فقد اهتدى، ومن كانت فتوره وكلاله إلى بدعة أي استعد لطلبها وسعي في تحصيلها فقدغوى، أو المراد من قوله: " فمن كانت فترته إلى سنة " أن السنة والعمل بها منشأ لفترته وضعفه، يعني من كانت فترته وضعفه لأجل تحمل المشاق الدينية والطاعات الشرعية فقد اهتدى، ومن كانت فترته وضعفه لأجل البدعة وتحمل مشاق الأحكام المبتدعة كنسك الجاهلين ورهبانية المتصوفين المبتدعين فقد غوى (1).


1 - إن في الإنسان قوة يدرك بها المعاني الكلية والامور العقلية وهي القوة الناطقة التي يمتاز بها عن سائر الحيوانات وهذه القوة تفيده في استخراج قواعد كلية علمية متعلقة بالدنيا كالهندسة والحساب والطب أو متعلقة بالآخرة كمعرفة الله تعالى وكتبه ورسله والدار الآخرة والإنسان يتردد بينهما ويضطرب شائقا إلى تحقيق الحق فيما يتعلق بالدين قصدا إلى إرضاء داعيته القلبية وشوقه إلى التطلع على الحقائق وتحدث فيه شرها أي حركة واضطرابا فربما يؤدي فكره إلى التمسك بالسنة النبوية فيحصل له السكون واطمئنان القلب بأنه الحق وهو الفترة أي زوال الاضطراب إلى الهداية وربما يؤدي فكره - نعوذ بالله - إلى الإلحاد والزندقة والبدعة والكفر وعدم المبالاة والفسق فيريح نفسه ويزول اضطرابه أيضا وهو فترة مغوية، وهذا الاضطراب والاطمئنان يحصل غالبا للإنسان بعد سن التكليف إلى نحو عشرين والشبان يظهر صلاحهم وفسادهم وهم أبناء عشرين غالبا. (ش) (*)

[ 354 ]

* الأصل: 11 - " علي بن محمد، عن أحمد بن محمد البرقي، عن علي بن حسان، ومحمد بن يحيى، عن سلمة ابن الخطاب، عن علي بن حسان، عن موسى بن بكر، عن زرارة بن أعين، عن أبي جعفر (عليه السلام): قال: " كل من تعدى السنة رد إلى السنة ". * الشرح: (علي بن محمد، عن أحمد بن محمد البرقي، عن علي بن حسان، ومحمد بن يحيى، عن سلمة بن الخطاب، عن علي بن حسان، عن موسى بن بكر، عن زرارة بن أعين، عن أبي جعفر (عليه السلام): قال: كل من تعدى السنة رد إلى السنة) المراد بالسنة الطريقة الإلهية الشاملة لكل ما في الكتاب والأحاديث يعني كل من جاوز هذه الطريقة المستقيمة الموصلة إلى السعادة الأبدية بالزيادة أو النقصان أو بتركها رأسا أو بتغيير شئ من أحكامها وحدودها وجب على العالم بها رده إليها، وفيه دلالة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعلى أنها كفائي حيث لم يذكر فاعل الرد للتنبيه على أن المقصود وجود حقيقته من أي فاعل كان وله شرائط سيجئ ذكرها إن شاء الله تعالى. * الأصل: 12 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، عن آبائه (عليهم السلام) قال: " قال أمير المؤمنين (عليه السلام): السنة سنتان: سنة في فريضة الأخذ بها هدى وتركها ضلالة، وسنة في غير فريضة الأخذ بها فضيلة وتركها إلى غير خطيئة ". * الشرح: (علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، عن آبائه (عليهم السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): السنة سنتان:) أي الطريقة النبوية الشاملة للكتاب والحديث وتخصيصها بالحديث كما تخصص به حيث وقعت في مقابل الكتاب بعيد ينقسم إلى قسمين (1) كانقسام الجنس إلى النوعين ويسمى كل واحد من القسمين سنة بالمعنى الأخص كما يسمى كل واحد من قسمي العلم المطلق علما، ثم فسر القسمين على سبيل التوشيع (2) بقوله: (سنة في فريضة) أي في بيانها وتعدادها وهذا القسم يسمى سنة فريضة. (الأخذ بها هدى وتركها ضلالة) مجموع الجملتين وصف لسنة وتفسير لها يعني هذه السنة هي التي يكون الأخذ بها تعلما وقولا وعملا هداية وتركها ضلالة لأنها الصراط المستقيم الذي يصل


1 - للسنة معنيان: أحدهما مرادف الاستحباب والآخر الطريقة النبوية، وتشتمل الواجب. 2 - أي اللف والنشر. (ش) (*)

[ 355 ]

سالكه إلى مقام القرب والكرامة ويضل تاركه عن طريق الحق ويقع في الحسرة والندامة. بالجملة: هي ما يوجب الأخذ به ثوابا وتركه عقابا، ثم هي جنس يندرج تحتها جنسان: أحدهما، سنة في بيان فعل الواجبات وثانيهما سنة في بيان ترك المحرمات، لأن ترك المحرمات يعني كف النفس عنها أيضا فريضة ويندرج تحت كل واحد من هذين الجنسين أنواع مختلفة متكثرة كفعل الصلاة والصوم ونحوهما وترك شرب الخمر وترك الشتم ونظائرهما. (وسنة في غير فريضة الأخذ بها) بأحد الوجوه المذكورة. (فضيلة) توجب زيادة القرب والثواب. (وتركها إلى غير خطيئة) أي تركها يرجع إلى غير خطيئة ولا يوجب البعد والعقاب وهي أيضا جنس يندرج تحته الأخلاق والمندوبات والمكروهات والمباحات لانتفاء الفرض فيها وتحقق الفضيلة في تعلمها وفي العمل بالأولين وترك الثالث، ثم كل واحد منها جنس يندرج تحته أنواع كثيرة، وقد ظهر مما ذكرنا أن الأحكام الخمسة والأخلاق النفسانية مندرجة تحت القسمين ولا يخرج شئ منها عنهما، فمن أراد معرفة شئ من الامور الدينية والأحكام الشرعية والأخلاق النفسانية ليعمل بها أو يحكم بين الناس فليرجع إلى السنة النبوية وليأخذها من معدن الأسرار الإلهية وهو سيد الوصيين وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ومن يقوم مقامه إلى يوم الدين من أولاده الطاهرين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وإن تركها وترك الأخذ منهم واعتمد برأيه ورأي من أضله فعليه لعنة الله والملائكة ولعنة اللاعنين. تم كتاب العقل (1) والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد نبيه وآله الطاهرين. يقول المفتقر إلى الله الغني محمد صالح بن أحمد المازندراني: إني قد فرغت من شرح كتاب العقل وفضل العلم من الكافي في 14 شهر صفر الموافق سنة 1963. ويتلوه شرح كتاب التوحيد إن شاء الله تعالى وتقدس. اللهم وفقني لإتمامه واهدني إلى مقاصده ومراميه بحق محمد وآله الطيبين الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين.


1 - سقط هاهنا من النسخ: " وكتاب فضل العلم ". (*)

[ 357 ]

فهرس الايات (أتتخذنا هزوا) البقرة 67... 182 (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) التوبة 13... 229 - 232 (إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون) المنافقون 1... 314 (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك) البقرة 85... 347 (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه) الجاثية 23... 232 (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم) ص 24... 316 (الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله) التوبة 97... 14 (التي جعل الله لكم قياما) النساء 5... 284 (الذين آمنوا وعملوا الصالحات) الشعراء 227... 141 (الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه) الزمر 18... 211 (الرحمن على العرش استوى) طه 5... 235 (ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين) يس 60... 230 (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما انزل إليك وما انزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد امروا أن يكفروا به) النساء 60... 336 (ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق) الاعراف 169... 128 - 129 - 203 (أليس في جهنم مثوى للمتكبرين) الزمر 60... 67 (إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم) الانفطار 13... 70 (إن الذين يكتمون ما أنزل الله) البقرة 174... 208 (إن الله عنده علم... الساعة الآية)... 323 (إن صلاتي ونسكي) الانعام 162... 74 (إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لاولي الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار) آل عمران 191... 24 (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم) الانبياء 99... 169 (إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة) النساء 17... 167 - 168 (إنما المشركون نجس) التوبة 28... 296


[ 358 ]

(إنما أموالكم وأولادكم فتنة) الانفال 28... 233 (إنما يخشى الله من عباده العلماء) فاطر 29... 30 - 67 - 186 (إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا) الفرقان 44... 204 (أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا وما للظالمين من نصير) فاطر: 37... 153 (أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها) الرعد 41... 94 (أو من ألقى السمع وهو شهيد) ق 37... 299 (بل ران على قلوبهم) المطففين 14... 113 (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله) يونس 39... 128 (تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا) آل عمران 30... 172 (ثم يتوبون من قريب فاولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما) النساء 18... 167 (حتى إذا بلغ بين السدين) الكهف 93... 199 (حتى إذا جعله نارا) الكهف 96... 199 (حتى إذا ساوى بين الصدفين) الكهف 93... 199 (حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الجنزير وما أهل به لغير الله والمنخنقة والموقوذة) المائدة 3... (خذ بيدك ضغثا) ص 43... 234 (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم) المائدة 54... 140 (ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا) السجدة 12 (سنشد عضدك بأخيك) القصص 32... 36 (طبتم فادخلوها خالدين) الزمر 73... 124 (غير الذي كنا نعمل) الأعراف 53... 153 (فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين) الحجر 29... 269 (فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون) المؤمنون 99... 273 (فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) النحل 43... 7 - 11 - 111 - 198 - 199 - 263 (فإن اتبعتني فلا تسألني عن شئ حتى احدث لك منه ذكرا) الكهف 70... 283 (فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول) النساء 59... 340 (فاولئك يتوب الله عليهم) النساء 18... 168


[ 359 ]

(فريق في الجنة وفريق في السعير) الشورى 7... 190 (فطرة الله التي فطر الناس عليها) الروم 30... 117 (فكبكبوا فيها هم والغاوون) الشعراء 94... 168 - 169 (فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين) البقرة 89... 347 (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) التوبة 122... 29 (فلينظر الإنسان إلى طعامه) عبس 24... 195 (فمستقر ومستودع) الأنعام 98... 147 (فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدي القوم الظالمين) الانعام 144... 260 (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) الزلزلة 8... 56 - 70 (فيه تبيانا كل شئ) النحل 89... 298 - 300 (قد شغفها حبا) يوسف 30... 243 (كان الناس امة واحدة فبعث الله النبيين...) البقرة 211... 259 (كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء) الممتحنة 4... 347 (كونوا ربانيين) آل عمران 79... 8 (لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم) المائدة 101... 281 - 283 - 284 (لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس) النساء: 114... 279 - 283 (لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) الصف 3... 203 (لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا) الكهف 109... 299 (ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) التوبة 122... 14 (ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم) النحل 25... 244 (ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهيكم عنه فانتهوا) الحشر 7... 306 - 319 (ما فرطنا في الكتاب من شئ) الأنعام 38... 277 (ما نهيكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين) الاعراف: 20... 127 (ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) النجم 3... 346 (مثلهم كمثل الكلب...) الاعراف 176... 204


[ 360 ]

(من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب) الشورى 20... 159 (نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا) الزخرف 32... 10 (واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) التوبة 13... 169 (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا) النساء 1... 294 (وإذا الموؤدة سئلت * بأي ذنب قتلت) التكوير 8... 295 (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم وذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى) الاعراف 172... 117 (وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم) المنافقون 4... 305 - 314 (واسئلوا الله من فضله) النساء 32... 11 (واشربوا في قلوبهم العجل) البقرة 93... 237 (وأضل فرعون قومه وما هدى) طه 79... 310 (وأضله الله على علم) الجاثية 22... 310 (وأطيعوا الله وأطيعوا النساء 59... 199 (والشمس والقمر بحسبان) الانعام 96... 24 (والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم) يس 39... 24 (والنجوم مسخرات بأمره) الأعراف 54... 24 (وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون) النكبوت 41... 248 (وإن جهنم لمحيطة بالكافرين) التوبة 49... 261 (وإنه لقرآن كريم * في لوح محفوظ) البروج 22... 296 (وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون) الزمر 54... 70 (وبالحق أنزلناه وبالحق نزل) الاسراء 105... 287 (تلك حدود الله فلا تعتدوها) البقرة 229... 277 (وخاب كل جبار عنيد) ابراهيم 15... 62 (ورتل القرآن ترتيلا) المزمل 4... 72 (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون) الشعراء 227... 81 (وعلى الله فليتوكل المؤمنون) آل عمران 122... 273 (وفاكهة وأبا) عبس 31... 313 (وفوق كل ذي علم عليم) يوسف 76... 158


[ 361 ]

(وفي السماء رزقكم وما توعدون فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون) الذاريات 22... 10 (وقالت النصارى المسيح ابن الله) التوبة 30... 290 (وقالت اليهود عزير ابن الله) التوبة 30... 290 (وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه) المائدة 18... 290 (وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا) المائدة 64... 290 (وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله) غافر: 28... 209 (وقليل من عبادي الشكور) سبأ 13... 316 (وكان الله عليما) النساء 18... 168 (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا) الشورى 52... 111 (ولا تتخذوا من دون الله وليجة) التوبة 16... 273 (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار) هود 113... 237 (ولا تزر وازرة وزر اخرى) الانعام 163... 56 (ولا تصعر خدك للناس) لقمان 18... 117 (ولا تقل لهما اف) الإسراء 23... 109 (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب * متاع قليل ولهم عذاب أليم) النحل 116... 130 (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم) النساء 5... 281 - 283 (ولله على الناس حج البيت) آل عمران 97... 284 (وليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم) النحل 25... 56 (وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها... وأتوا البيوت من أبوابها) البقرة 177... 279 (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) الذاريات 56... 171 (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم) الانفال 33... 32 (وما من دابة إلا على الله رزقها) هود 6... 10 (وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم) آل عمران 7... 23 (ومصدقا لما بين يديه من التوراة والإنجيل) البقرة 97... 296 (ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا) المائدة 32... 115 (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا) الأنعام 21... 274 (ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى) الاسراء 72... 48


[ 362 ]

(ومن يضلل الله فما له من هاد) الرعد 33... 242 (ومن يضلل الله فما له من هاد) الرعد 33... 242 (ومن يؤت الحكمة فقد اوتي خيرا كثيرا) البقرة 269... 93 - 286 (ونادى نوح ربه فقال إن ابني من أهلي) هود 45... 62 (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ) النحل 89... 274 (هذا فراق بيني وبينك) الكهف 78... 283 (هذا من فضل ربي ليبلونئ أشكر أم أكفر) النمل 40... 347 (يا أبت لا تعبد الشيطان) مريم 44... 230 (يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فاولئك هم الخاسرون) المنافقون 9... 273 (يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم) الزمر 53... 70 (يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد امروا أن يكفروا به) النساء 60... 336 (يوم يفر المرء من أخيه * وامه وأبيه * وصاحبته وبنيه * لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه) عبس 37... 273

مكتبة يعسوب الدين عليه السلام الإلكترونية