شرح أصول الكافي

مولي محمد صالح المازندراني ج 8


[ 1 ]

كتاب الكافي الأصول والروضة لثقة الاسلام ابى جعفر محمد بن يعقوب الكليني مع شرح الكافي الجامع للمولى محمد صالح المازندراني المتوفى 1081 ه‍ مع تعاليق الميرزا أبو الحسن الشعراني المجلد الثامن بسم الله الرحمن الرحيم


[ 2 ]

كتاب الايمان والكفر " باب " (طينة المؤمن والكافر) [ أخبرنا محمد بن يعقوب قال: حدثني ] * الأصل 1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن ربعي بن عبد الله، عن رجل، عن علي بن الحسين (عليهما السلام) قال: " إن الله عز وجل خلق النبيين من طينة عليين قلوبهم وأبدانهم وخلق قلوب المؤمنين من تلك الطينة و [ جعل ] خلق أبدان المؤمنين من دون ذلك، وخلق الكفار من طينة سجين، قلوبهم وأبدانهم فخلط بين الطينتين، فمن هذا يلد المؤمن الكافر ويلد الكافر المؤمن ومن ههنا يصيب المؤمن السيئة ومن ههنا يصيب الكافر الحسنة، فقلوب المؤمنين تحن إلى ما خلقوا منه وقلوب الكافرين تحن إلى ما خلقوا منه ". * الشرح قوله (كتاب الايمان والكفر) قدم الايمان لأنه الاصل والاهم والمقصود أو لأنه وجودي والكفر عدمي كما قيل، ولم يذكر واسطة ذكرها فيما بعد اما لأنه لا يقول بثبوتها لما مر من الوجه الأخير أو لأنه أراد بهما أصل الإقرار والإنكار، ولا واسطة بينهما، وإنما الواسطة باعتبار أمر آخر وهو أن يراد بالايمان الايمان الكامل المقارن بالاعمال كما هو الشايع عند أهل البيت عليهم السلام أو لأنه أراد بهما المطلق والواسطة لا تخلو من أحدهما، والغرض من هذا الكتاب بيان أصل الانسان وكيفية خلقه والغرض منه وما يوجب كفره وايمانه وبيان مهلكاته ومنجياته، والترهيب من الاولى، والترغيب في الثانية ليعرف كيفية السلوك وطريق الوصول إلى سعادته التي هي قرب الحق والوصول إليه والتخلص من أهواء النفس واغواء الشيطان ولا يمكن ذلك إلا بمجاهدات نفسانية ورياضات بدنية وروحانية ونيات صادقة قلبية، وهمم رفيعة عالية والله ولي التوفيق وإليه سداد الطريق. قوله (باب طينة المؤمن والكافر) في النهانة طينة الرجل خلقه واصله طانه الله على طنته أي خلقه على جبلته. وفي المصباح الطين معروف والطينة أخص منه والطينة الخلقة يقال طانه الله على الخير جبله عليه، وانما قدم باب الطينة لأنه يذكر فيه أحوالا مشتركة مع أن الطينة وأحوالها


[ 3 ]

بمنزلة المادة وسائر الأحوال بمنزلة الصورة. قوله (أخبرنا محمد بن يقعوب قال حدثني) لم يوجد في أكثر النسخ والوجه على، تقدير وجوده ما ذكرناه في اول الكتاب. قوله (ان الله عز وجل خلق النبيين) أي أوجدهم أو قدر وجودهم من طينة الجنة على تفاوت درجاتها، ونبينا (صلى الله عليه وآله) وأوصياؤه عليهم السلام خلقوا من طينة أعلاها كما سيجئ واضافة الطينة اما بتقدير اللام أوفى أو من. قوله (قلوبهم وأبدانهم) بيان أو بدل للنبيين لعل المراد بالقلب هنا الجسم المعروف (1) يعتلق به الروح أو لا فلا ينافي ما مر في باب خلق أبدان الأئمة من أن أجسادهم مخلوقة من طينة عليين وأرواحهم مخلوقة من فوق ذلك وهو نور العظمة كما في حديث آخر على أنه لو أريد به الروح لامكن الجمع بجعل الطينة مبدءا لها مجازا باعتبار القرب والتعلق أو بتخصيص النبيين بغيره (صلى الله عليه وآله)، ويؤيده خبر محمد بن مروان المذكور في ذلك الباب. قوله (وخلق قلوب المؤمنين) أي خلق قلوب المؤمنين من طينة عليين وهي جنة عدن وخلق أبدانهم من دون ذلك بدرجة ولذلك صارت قلوبهم ألطف لاوألين من أبدانهم، ووقع الاقتراب بالاقتفاء والافتراق في النبوة بينهم وبين النبيين. قوله (وخلق الكفار) أي خلق الكفار قلوبهم وأبدانهم من طينة جهنم على تفاوت دركاتها باعتبار تفاوت حالاتهم في العتو والطغيان، ولذلك صارت قلوبهم وقواهم في الغلظة والكثافة مثل أبدانهم ولم يذكر هنا اتباعهم لأن نوع: الكفر يشملهم بخلاف النبوة فإنها لا تشمل جميع المؤمنين. قوله (فخلط بين الطينتين) الظاهر أنه خلق منها آدم (عليه السلام) فمن هذا يلد المؤمن الكافر ويلد الكافر المؤمن فيخرج من المؤمن ما كان فيه من طينة سجين ويظهر منه ويخرج من الكاف رما كان فيه من طينة عليين، وهذا معنى قول أبي عبد الله (عليه السلام): ثم نزع هذه من هذه وهذه من هذه ولو لم يلد المؤمن الذي فيه شئ من طينة سجين كافرا ولا الكافر الذي فيه شئ من طينة عليين مؤمنا وقع


1 - قوله " ولعل المراد بالقلب هنا الجسم المعروف " أقول وهو بعيد لأنه جعل مقابلا للابدان، فالمراد منه الأرواح ويدفع المنافاة بين الخبرين بتعميم العليين في الخبر الثاني بأن يكون المراد من العليين أعنى ما خلق منه أرواح الأئمة في هذا الخبر أعم من العليين الذي ذكر في الخبر السابق لأن عالم العليين عالم طاهر مقدس من أدناس المادة مع أنه ذو مراتب فجسمهم وروحهم كلاهما من عليين إلا أن أرواحهم من مرتبة أعلى منه فتارة أطلق عليون على المرتبة الدنيا خاصة وقيل أرواحهم من فوق ذلك وتارة أطلق على جميع المراتب فقيل أرواحهم وأبدانهم من عليين والله العالم. (ش) (*)

[ 4 ]

النزاع يوم القيامة لأن طينة النار لا تدخل الجنة وطينة الجنة لا تدخل النار. يدل على هذا ما ذكره الصدوق في آخر العلل في حديث طويل، ولولا التخليط لما صدر من المؤمن ذنب قطعا ولا من الكافر حسنة اصلا وفيه مصالح جمة منها اظهار قدرته باخراج الكافر من الكافر من المؤمن وبالعكس دفعا لتووهم استنادهم إلى الطبايع كما قال جل شأنه * (يخرج الحى من الميت ويخرج الميت من الحى " ومنها ظهرو رحمته في دولة الكافرين اذلو لم يكن رابطة الاختلاط ولم يكن لهم رأفة وأخلاق حسنة كانوا كلهم بمنزلة الشياطين فلم يتخلص مؤمن من بطشهم. ومنها وقع المؤمن بين الخوف والرجاء حيث لا يعلم أن الغالب فيه الخير أو الشر ومنها رفع العجب عنه بفعل المعصية ومنها الرجوع إليه عزوجل في حفظ نفسه عنها. قوله (فقلوب المؤمنين تحن) أي تميل قلوب المؤمنين إلى عليين وقلوب الكافرين إلى سجين لميل كل إلى أصله، لا يقال هذا الحديث ومثله ويرفع الاختيار ويوجب الجبر (1) نقول: - والله أعلم - ان الله جل شأنه لما خلق الأرواح كلها قابلة للخير والشر وعلم أن بعضها يعود إلى الخير المحض وهو الإيمان، وبعضها يعود إلى الشر المحض وهو الكفر باختيارهما وأمرها حين كونها مجردات صرفة بأمر كما سيجئ ووقع معلومه مطابقا لمعلمه خلق للأول مسكنا وهو البدن من طينة عليين وخلق للآخر مسكنا من طينة سجين كما خلق للمؤمن جنة وللكافر نارا وذلك


1 - ومثله يرفع الاختيار ويوجب الجبر " ليس في باب الأول من هذه الكتاب حديث يعتمد على اسناده بل جميع أخباره ضعيفة بوجه ولكن في بابين بعده أخبارا توصف بالحسن أو التوثيق ولكن مضامينها مخالفة لاصول المذهب وللروايات الآتية في الباب الرابع أعنى باب فطرة الخلق على التوحيد وذلك لأن من أصول مذهبنا العدل واللطف وإن لم يخلق بعض الناس أقرب إلى قبول الطاعة وبعضهم أبعد والتبعيض في خلق المكلفين مخالف لمقتضى العدل لأنه تعالى سوى التوفيق بين الوضيع والشريف مكن اداء المأمور وسهل سبيل اجتناب المحظور، وخلق بعض الناس من طينة خبيثة اما ان يكون ملزما باختيار المعصية جبرا وهو باطل واما ان يكون أقرب إلى قبول المعصية ممن خلق من طينة طيبة وهو تبعيض وظلم وقلنا انه مخالف للروايات الآتية في الباب الرابع لأنها صريحة في أن الله تعالى خلق جميع الناس على فطرة التوحيد وليس في أصل خلقهم تشويه وعيب وإنما العيب عارض وهكذا ما نرى من خلق الله تعالى فإنه خلق الماء صافيا وإنما يكدره الأرض التربة وكذلك الانسان خلق سالما من الخبائث وأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه وأيضا القرآن يدل على ان جميع الناس قالوا بلى في جواب ألست بربكم فالاصل الذي عليه اعتقادنا أن جميع أفراد الناس متساوية في الخلقة بالنسبة إلى قبول الخير والشر وإنما اختلافهم في غير ذلك فإن دلت رواية على غير هذا الأصل فهو مطروح أو مأول بوجه سواء علمنا وجهه أو لم نعلم ومن التأويلات التي هي في معنى طرح الروايات تأويل الشارح فإن الروايات صريحة في أن الطينة مؤثرة في صيرورة العبد سعيدا أو شقيا وأولها الشارح بأنها غير مؤثرة. (ش) (*)

[ 5 ]

ليستقر كل واحد فيما يناسبه ويعود كل جزء إلى كله وكل فرع إلى أصله، ومن ههنا ظهر أن الخلق من الطينتين تابع للإيمان والكفر ومسبب عن العمل دون العكس فلا يستلزم الجبر ولا ينافي الاختيار ألا ترى أنه تعالى لما علم أن بين النبيين والمؤمنين اتصالا من وجه وانفصالا من وجه آخر لأن المؤمنين من طينة النبيين وخلق أبدانهم من دون ذلك لانحطاط درجتهم وشرفهم، فوضع كلا في درجته وانك إذا قررت لعبدك المطيع بيتا شريفا ولعبدك العاصي بيتا وضيعا صح ذلك عقلا وشرعا ولا يصفك عاقل بالظلم والجور إذ الظلم وضع الشئ في غير موضعه، فهو إنما يلزم لو انعكس الامر أو وقع التساوى، وبما قررنا تبين فساد توهم أن الايمان والفضل والكمال وأضدادها تابعة لطهارة الطينة وصفاتها، وخباثة الطينة وظلمتها، وهذا التوهم يوجب الجبر وبطلان الشرائع والتأديب والسياسة والوعد والوعيد نعود بالله منه. * الأصل 2 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسن، عن النضر بن شعيب، عن عبد الغفار الجازي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: * (إن الله جل وعز خلق المؤمن من طينة الجنة وخلق الكافر من طينة النار "، وقال: " إذا أراد الله عز وجل بعيد خيرا طيب روحه وجسده فلا يسمع شيئا من الخير إلا عرفه ولا يسمع شيئا المنكر إلا أنكره قال: وسمعته يقول: الطينات ثلاث: طينة الأنبياء والمؤمن من تلك الطينة إلا أن لا الأنبياء هم من صفوتها، هم الأصل ولهم فضلهم والمؤمنين الفرع من طين لازب، كذلك لا يفرق الله عزوجل بينهم وبين شيعتهم، وقال: طينة الناصب من حماء مسنون، وأما المستضعفون فمن تراب، لا يتحول مؤمن عن إيمانه ولا نصب عن نصبه ولله المشيئة فيهم. * الشرح قوله (خلق المؤمن من طينة الجنة) قد أشرنا إلى أن المراد بالطينة ظاهرها وأن الله تعالى لما علم في الازل من روح المؤمن طاعته ومن روح الكافر عصيانه خلق بدن كل واحد في هذه النشأة مما يعود إليه في النشأة الاخرة، وقال بعض شراح نهج البلاغة: الطينة اشارة إلى أصولهم وهي الممتزجات المنتقلة في أطوار الخلقة كالنطفة وما قبلها من موادها مثل النبات والغذاء وما بعدها من العلقة والمضغة والعظم والمزاج القابل للنفس المدبرة، وسيجئ توضيح ذلك في حديث المزن. قوله (وقال إذا أراد الله عزوجل بعبد خيرا) أن اريد بالخير توفيقه تعالى وهداياته الخاصة لحسن استعداد العبد فالارادة على حقيقتها وان اريد به الايمان وتوابعه من الاعمال الصالحة والاخلاق الفاضلة يرد أنه تعالى أراد خير جميع العباد بهذا المعنى ويمكن دفعه بأن الارادة حينئذ


[ 6 ]

تعود إلى اعتبار كونه عالما بما في العبد من الميل إلى الخيرات والعزم على امتثال أو امره والاجتناب عن نواهيه، فإذا علم منه ذلك توجه إليه لطفه فيطيب روحه ونفسه عن الفضايح ويطهر جسده وقواه عن القبائح فلا يسمع شيئا من الخير الاعرفه وصدق به وعمل به وان كان من العمليات ولا يسمع شيئا من المنكر إلا أنكره وعرف قبحه وتركه، وهكذا يفعل الله بعباده إذا علم صدق نياتهم وحسن استعدادهم. قوله (الطينات ثلاث) الاولى طينة الانبياء والمؤمنين المقرين بهم، والثانية طينة الكفرة والنواصب المنكرين المعاندين لهم، والثالثة طينة المستضعفين الذين لا يقرون بهم ولا يعاندونهم، وهذا التقسيم باعتبار المخلوق منها، فلا ينافي ما مر في باب خلق أبدان الائمة من أن الطينات عشرة لأن ذلك باعتبار مبدء الخلق، تأمل تعرف. قوله (والمؤمن من تلك الطينة) أي قلبه أم الاعم منه ومن البدن لأن المراد بتلك الطينة طينة الجنة وهي تشملها إلا ان الانبياء خلقت قلوبهم وأبدانهم من صفوتها، أو خالصها، وأما أرواحهم فمن فوق ذلك كما مر، وهم الاصل في الايجاد والمقصودون أصالة في خلق هذا النوع ولهم فضلهم في العلم والعمل والتقدم والتقرب التام بالحق وارشاد، والمؤمنون فرع الانبياء وتلوهم في القصد والايجاد أبدانهم خلقت من طين لازب وهوم ثفل عين الانبياء سمى به لأنه الزق وأصلب من الصفو المذكور، وأما قلوبهم فخلقت مما خلق من الانبياء كما مر وكما لم يفرق الله تعالى بين الانبياء وشيعتهم في الخلقة والطينة كذلك لا يفرق بينهما في الدنيا والاخرة لأن الفرع مع الاصل والتابع من المتبوع. قوله (وقال طينة الناصب من حماء مسنون) الحماء الطين الاسود والمسنون المتغير المنتن وهو طين سجين، وقد روى أن الله عزوجل خلق أرضا خبيثة سبخة منتنة، ثم فجر منها ماء اجاجا مالحا فأجرى ذلك الماء عليها سبعة أيام حتى طبقها وعمها، ثم نضب ذلك الماء عنها ثم أخذ من ذلك الطين فخلق منه الطغاة الكفرة وأئمتهم. قوله (وأما المستضعفون فمن تراب) أن خلقوا من تراب غير ممزوج بماء عذب زلال كما مزجت به طينة الانبياء والمؤمينن، ولا بماء آسن اجاج كما مزجت به طينة الكافرين، فلا يكونون من هؤلاء ولا من هؤلاء ولله المشية فيهم إن شاء الله أدخلهم في رحمته وإن شاء أخرجهم منها. قوله (لا يتحول مؤمن عن ايمانه) بيان لحال كل واحد من الاقسام الثلاثة، ولا ينافيه ما قد يقع من التحول لأن المتحول من الايمان لم يكن مؤمنا في الحقيقة، وإنما اكتسب الايمان بما فيه من رائحة طينة المكتسبة بالمخالطة، فلما زالت عاد إلى ما كان عليه من الكفر في العهد القديم


[ 7 ]

والمتحول من الكفر لم يكن كافرا في الحقيقة، وإنما اكتسب الكفر بما فيه من رائحة النار، فلما زالت عاد إلى ما كان عليه من الايمان وبالجملة الايمان في الاول حسنة نشأت من التخليط المذكور، والكفر في الثاني سيئة نشأت منه والتخليط قد يفضى إلى اتصاف كل واحد من الفريقين بصفات الآخر لكنه غير مستقر غالبا. * الأصل 3 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن محبوب، عن صالح بن سهل قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): جعلت فدالك من أي شئ خلق الله عزوجل المؤمن ؟ فقال: من طينة الأنبياء فلم تنجس أبدا. * الشرح قوله (من أي شئ خلق الله عزوجل طينة المؤمن) اريد بالمؤمن من علم الله تعالى أزلا ايمانه في عالم الارواح ومن كان كذلك فهو مؤمن في عالم الاشباح أيضا ولذلك خلق الله قلبه وبدنه من طينة طينة طاهرة هي طينة الانبياء، أما قلبه فمن صفوها، من تلك الطينة تابع لايمانه وسبب لكماله وهو لطف من الله تعالى مبسوط على من من يشاء من عباده. * الأصل 4 - محمد بن يحيى وغيره، عن أحمد بن محمد وغيره، عن محمد بن خلف، عن أبي - نهشل قال: حدثني محمد بن إسماعيل، عن أبي حمزة الثمالي قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام): إن الله جل وعز خلقنا من أعلى عليين وخلق قلون شيعتنا مما خلقنا منه وخلق أبدانهم من دون ذلك وقلوبهم تهوي إلينا، لأنها خلقت مما خلقنا منه، ثم تلاهذه، الآية * (كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين * وما أدرك ما عليون * كتاب مرقوم يشهده المقربون) * وخلق عدونا من سجين وخلق قلوب شيعتهم مما خلقهم منه وأبدانهم من دون ذلك فقلوبهم تهوي إليهم، لأنها خلقت مما خلقوا منه، ثم تلاهذه الآية: * (كلا إن كتاب الفجار لفي سجين * وما أدراك ما سجين * كتاب مرقوم * ويل يومئذ للمكذبين) *. * الشرح قوله (خلقنا من أعلى عليين) أي خلق قلوبنا وأبداننا من أعلى أمكنة الجنة وأرفع درجاتها أو من أعلى المراتب وأشرفها وأقربها من الله عزوجل على احتمال، وخلق قلوب شيعتنا وتابعينا في العلم والعمل مما خلقنا منه فلذلك يقبل الحق ويستقر فيه، وخلق أبدانهم من دون ذلك لقصور ما في قوتهم العملية وقواهم الجسمانية بالنسبة إلى قوتنا وقوانا فوضع كلافى المقام اللائق به، لا يقال خلق قلوب شيعتهم مما خلق قلوبهم منه يقتضى المماثلة في القوة النظرية وليس كذلك لانا نقول


[ 8 ]

استكمال القوة النظرية كما يكون من جهة التأثر من المفيض كذلك يكون من جهة التأثير في القوى الجسمانية والادراكات والصفات الحاصلة للنفس المدبرة من هذه الجهة، وفي نفس الشيعة وان استكملت نقص ما في التأثير بالنسبة إلى نفوسهم القدسية الكاملة من كل وجه والنقص فيه يوجب النق في التأثر أيضا وذلك يوجب عدم المساواة بينهما في القوة المذكورة. قوله (لانها خلقت مما خلقنا) ضرورة ان تولدها منه وفرعيتها له وربطها به مقتضية لميالها إليهم وحبهالهم كما يجب الولد والده ويميل إليه. قوله (ثم تلا هذه الاية * (كلا ان كتاب الابرار لفى عليين ") لعل المرادان المكتوب للابرار وهم المؤمنون مطلقا من الافعال الخيرية والاعمال الصالحة لفي عليين وهو ديوان اعمال الصالحين وصحائف أفعال المتقين، ثم قال تفخيما لشأنه * (وما أدريك ما عليون كتاب مرقوم " أي مكتوب أو معلم بعلامة يعلم من رآه أن فيه خيرا يشهده المقربون من الملائكة أي يخحضرونه ويحفظونه أو يشهدون لهم ما فيه يوم القيامة، والغرض من تلاوة الاية هو الاشارة بتعظيم كتابهم إلى تعظيم شأنهم، ويحتمل أن يراد بعليين الحنة أو أشرف المراتب وأقربها من الله تعالى أو السماء السابعة وحينئذ لا بد من اعتبار الحذف في قولهم له * (وما أدراك ما عليون " أي ما كتاب عليين. كما يحتمل أن يراد بكتاب الابرار ما كتب وفرض لهم من الطينة وبعليين الجنة مع رعاية الحذف لكن كلا الاحتمالين بعيد والثاني أبعد. قوله (وخلق عدونا من سجين) عدوهم من أنكر ولايتهم أو ولاية أحدهم أو دفعهم عن مرتبتهم: والمراد بالسجين هنا جهنم أو واد فيها أو حجر في الارض السابعة أو أبعد المراتب من الله تعالى، ولما كان عدوهم على صنفين صنف هم المقتدون في العداوة والشرور وصنف هم التابعون لهم فيها وكانت أو زار الاولين أكثر وأفخم، وعقوبتهم أشد وأعظم خلق أبدانهم وقلوبهم من أقبح الدركات، وخلق قلوب تابعيهم مما خلقوا منه وأبدانهم دون ذلك لوضع كل واحد في مرتبته. قوله (كلا ان كتاب الفجار لفي سجين) يظهر معناه بالنظر إلى ما سبق يخالفه فيجري فيه خلاف ما ذكر. * الأصل 5 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد وغير واحد، عن الحسين بن الحسن جميعا، عن محمد بن اورمة، عن محمد بن علي، عن إسماعيل بن يسار، عن عثمان بن يوسف قال: أخبرني عبد الله بن كيسان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: جعلت فداك أنا مولاك عبد الله بن كيسان، قال: أما النسب


[ 9 ]

فأعرفه وأما أنت، فلست أعرفك قال: قلت له: إني ولدت بالجبل ونشأت في أرض فارس إنني اخالط الناس في التجارات وغير ذلك، فاخالط الرجل فأرى له حسن السمت وحسن الخلق و [ كثرة ] أمانة ثم افتشه فأتبينه عن عداوتكم واخالط الرجل فأرى منه سوء الخلق وقلة أمانة وزعارة ثم افتشه فأتبينه عن ولايتكم، فكيف يكون ذلك ؟ فقال لي: أما علمت يا ابن كسيان أن الله عز وجل أخذ طينة من الجنة وطينة من النار، فخلطهما جميعا، ثم نزع هذه من هذه وهذه من هذه فما رأيت من الئك من الأمانة وحسن الخلق وحسن السمت فمما مستهم من طينة الجنة وهم يعودون إلى ما خلقوا منه، وما رأيت من هؤلاء من قلة الاءمانة وسوء الخلق والزعارة فمما مستهم من طينة النار، وهم يعودون إلى ما خلقوا منه. * الشرح قوله (اما النسب فأعرفه) كان المراد بالنسب كيسان، ولعله كيسان بن كليب من أصحاب علي والحسن والحسين وعلي بن حسين ومحمد بن علي (عليهم السلام) وهو أيضا لقب مختار بن أبي عبيد المنسوب إليه الكيسانية. والمراد بمعرفته بالرؤية وبعدم معرفة ابنه عبد الله عدم معرفته بها، ويؤيده قوله " اي ولدت - الخ " على الظاهر، ويمكن أن يكون كناية عن عدم ايمانه اذلو كان مؤمنا لعرفه لانهم (عليهم السلام) كانوا يعرفون شيعتهم وأسماءهم وأسماء آبائهم كما دلت عليه الروايات المعتبرة. قوله (اني ولدت بالجبل) قيل المراد بالجبل كردستان بين تبريز وبغداد همدان وغير ذلك. قوله (فارى له حسن السمت) هو السكينة والوقار وهيئة أهل الخير والصلاح يقال: سمت الرجل سمتا من باب قتل إذا كان ذاسكينة ووقار وهيئة حسنه. قوله (وكثرة أمانة) في أموال الناس وعهودهم وأسرارهم. قوله (ثم افتشه فاتبينه عن عداوتكم) أي متجاوزا عن بدايتها إلى نهايتها أو على عداوتكم أو من عداوتكم لأن حرف الجر يجئ بعضها بمعنى آخر كما صرح به أئمة اللغة وعلى التقادير فيه مبالغة في عداوته أما الاول فظاهر وكذا الثاني على الاستعلاء، وأما الثالث فلانه يفيدان التفتيش مقارن لوجدان عداوته، وانما يكون ذلك لكمالها فيه. قوله (وزعارة) عطف على قلة أو سوء الخلق، وهي الفساد والفسق وسوء الخلق والخبث والفزع من كل كريهة والإضطراب منها. قوله (فكيف يكون ذلك) ظن أن وليه طيب وعدوه خبيث، فينبغي أن يكون الأمر على عكس ما وجدناه فلما وجد خلافه سأل عن سببه. قوله (فخلطهما جميعا) وبذلك يختلف أحوالهم وصفاتهم في الدنيا كما أشار إليه بقوله " فما


[ 10 ]

رأيت في أولئك " وحاصله أن ما في كل واحد من المؤمن والكافر من صفات الاخر أمر عرضى حصل له باعتبار مماسة الطينتين ومجاورتهما ورائحتهما لا كتساب طينة الجنة رائحة من طينة النار وبالعكس، وإن الاخلاق الذميمة لا تنافي الإيمان ولا تدفعه، والأخلاق الحسنة لا تنفع مع الكفر وان كان ذلك موجبا لنقصهما فكل يعود إلى ما خلق منه. * الأصل 6 - محمد بن يحى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن خالد، عن صالح بن سهل قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): المؤمنون من طينة الأنبياء ؟ قال: نعم. * الشرح قوله (المؤمنون من طينة الانبياء) قد عرفت أن طينة الانبياء من الجنة أنهم مخلوقون من صفوها وخالصها، وأن قلوب المؤمنين مخلوقة منه وأبدانهم من ثقلها وهو دون ذلك ولا يلزم منه الجبر والإضطرار لما مر. * الأصل 7 - علي بن محمد، عن صالح بن أبي حماد، عن الحسين بن يزيد، عن الحسن بن علي بن أبي حمزة، عن إبراهيم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله عزو جل لما أراد أن يخلق آدم (عليه السلام) بعث جيرئيل (عليه السلام) في أول ساعة من يوم الجمعة، فقبض بيمينه قبضة، بلغت قبضته من السماء السابعة إلى السماء الدنيا وأخذ من كل سماء تربة وقبض قبضة أخرى من الأرض السابعة العليا إلى الارض السابعة القصوي، فأمر الله عز وجل كلمته فأمسك القبضة الاولى بيمينه ولاقبضة الاخرى بشماله، ففلق الطين فلقتين فذار من الارض ذورا ومن السماوات ذورا فقال للذي بيمينه: منك الرسل والأنبياء والأوصياء والصديقون والمؤمنون والسعداء ومن اريد كرامته، فوجب لهم ما قال كما قال، وقال للذي بشماله: منك الجبارون والمشركون والكافرون والطواغيت ومن اريد هوانه وشقوته، فوجب لهم ما قال. ثم إن الطينتين خلطتا جميعا، وذلك قول الله عز وجل: * (إن الله فالق الحب والنوى) * فالحب طينة المؤمنين التي ألقى الله عليها محبته والنوى طينة الكافرين الذين نأواعن كل خير وإنما سمى النوى من أجل أنه نأى عن كل خير وتباعد عنه وقال الله عز وجل * (يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي) * فالحي، المؤمن الذي تخرج طينته من طينة الكافر والميت الذي يخرج من الحي هو الكافر الذي يخرج من طينة المؤمن فالحي المؤمن، والميت الكافر وذلك قوله عز وجل: * (أو من كان ميتا فأحييناه) * فكان موته اختلاط طينته مع طينة الكافر، وكان حياته حين فرق الله عز وجل بينهما بكلمته كذلك يخرج الله عز وجل المؤمن


[ 11 ]

في الميلاد من الظلمة بعد دخوله فيها إلى النور، ويخرج الكافر من النور إلى الظلمة بعدد دخوله إلى النور وذلك قوله عز وجل: * (لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين) *. * الشرح قوله (في أول ساعة من يوم الجمعة) يدل على شرافتها ورحجان الشروع في الأمر العظيم فيه، وعلى حدوث آدم بارادته تعالى والايات المتكاثرة والروايات المتواترة من طرق العامة والخاصة صريحة فيه، وهو مذهب أصحاب الشرايع كلهم ومذهب جم غفير من منكريها، خلافا للدهرية القائلين بقدم نوع الإنسان وأنه ليس ثم انسان أول وانما هو انسان من نطفة ونطفة من انسان لا إلى أول ولاصحاب الطبيعة القائلين بأن آدم حدث من تأثير النجوم أو العناصر أو غير ذلك من المزخرفات. قوله (وأخذ من كل سماء تربة) يمكن أن يراد بالسماء الجنة مجازا لكونها من جهة السماء أو حقية لأن السماء كل عال مظل، ولذلك يقال للسقف والسحاب سماء، وكل درجة من درجات الجنة سماء لعلوها وارتفاعها بالنسبة إلى ما تحتها حينئذ يراد بالارض السجين ودركاتها فيوافق سائر الروايات وأن يراد بها هذا المحسوس لبتادره ولا يبعد أن يكون فيها تراب من جنس تراب الارض أو غيره أو لنقله إليها للتشريف والتكريم. قوله (فامسك القبضة الاولى) بيمينه هي طينة المؤمن وامساكها بيمينه للتشريف لأن اليمين أشرف وللاشعار بكمال القوة الروحانية للمخلوق منها. قوله (ففلق الطين) فلقته فلقا من باب ضرب شققته فانفلق، وفلقته بالتشديد مبالغة. وذرأ الشئ تحرك وتفرق سريعا. والمراد بالطين الجنس الشامل للقبضتين، ولما فلقه بفتح القبضة تحرك ما في شماله في الارض وما في يمينه في السموات فقال الله تعالى أو جبرئيل (عليه السلام) للذي بيمينه منك الرسل الذي يأتون بالدين أو الكتاب ويشاهدون جيرئيل (عليه السلام) ويسمعون منه والانبياء المخبرين عن الله تعالى أن لم يكونوا رسلا والاوصياء لهم والصديقون لانبياء والرسل كثيرا أو المطابق أعمالهم لاقوالهم والمؤمنون المتصفون بالإيمان الكامل والمقرون بالله واليوم الاخر والسعداء الواصلون إلى الله بمجاهدات نفسانية وقوة روحانية. ومن اريد كرامته في الدنيا بالهدايات وفي الاخرة برفع الدرجات فوجب لهم ما قال كما قال للذي بشماله منك الجبارون الذين يكسرون قلوب الخلايق وظهورهم واعناقهم بالجور والغلبة، والمشركون بالله والكافرون الجاحدون له أو لشئ من أحكامه وأموره الضرورية والطواغيت المجاوزون عن الحد والمقدار في العصيان، السابقون في طرق الشيطنة والضلالة والطغيان ومن اريد هو انه وشقوته في الدنيا


[ 12 ]

بسلب التوفيق وإلا ذلال، وفي الاخرة بالاخذ والنكال فوجب لهم ما قال كما قال من الامر المذكور أو من قوله عز شأنه * (فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق) *. قوله (ثم ان الطينتين خلطتا جميعا وذلك) دل على أن الفلق والذر وقعا أولا والتخليط وقع بعدهما وذلك اشارة إليهما بالاعتبار المذكور: والاية الاولى استشهاد للاول. والثانية للثاني. قوله (فالحب طينة المؤمنين) كأنه بطن الاية فظهرها حب الزرع ونواة التمر وكلاهما على كمال قدرة الصانع. قوله (من أجل أنه نأى عن كل خير وتباعد عنه) العطف للتفسير وكان عين نأى كانت واوا ويؤيده أن صاحب مصباح اللغة ذكره في باب النون والواو. قوله (فالحي المؤمن) كما أن الحي والميت يطلقان على من اتصف بالروح - الحيوانى، وعلى من زالت عنه، كذلك يطلقان على من اتصف نفسه النطاقة بكمالاتها من الإيمان والأخلاق وغيرها، وعلى من لم يتصف نفسه بها بل هذا الإطلاق أولى عند أرباب العرفان وأصحاب الايقان لأن هذه حياة باقية وتلك حياة فانية. قوله (بكلمته) وهي أمره أو جبرئيل (عليه السلام) سمى بها لأنه يكلم الناس عن الله عز وجل ويبلغ أمره إليهم. قوله (كذلك يخرج الله عز وجل المؤمن في الميلاد) أي كما أخرج الله المؤمن والكافر وميز بينهما حين كونهما طينا، كذلك يخرج المؤمن في الميلاد الظلمة بعدد خوله إلى النور. ويخرج الكافر من النور إلى الظلمة بعد دخوله في النور، والميلاد أخص من المولد لأن المولد الموضع للولادة والوقت، والميلاد الوقت لاغير، والمراد بالظلمة ظلمة الكفر أو ظلمة طينة سجين، وبالنور الإيمان أو نور طينة الجنة، وبدخول المؤمن في ظلمة الكفر كونه في أصلاب الاباء الكفرة وأرحام الامهات الكافرات إلى أن أخرج الله تعالى عنها في وقت ولادته فتخلص من ظلمة الكفر ودخل في نور الإيمان، وقس عليه دخول الكافر في نور الإيمان واخراجه منه ويظهر من هذا الحديث أن أخرج المؤمن من الكافر وبالعكس في وقتين وقت تفريق الطين ووقت الولادة لما في طينة أحدهما من شايبة طينة الاخر. قوله (وذلك قوله عز وجل) إشارة إلى كون المؤمن مؤمنا وكون الكافر كافرا قبل أخراجهما واستشهاد له أي يدل على ذلك قوله تعالى * (لينذر " أي القرآن أو الرسول * (من كان حيا " بروح الإيمان * (ويحق القول " أي كلمة العذاب * (على الكافرين " فإن في لفظ الكافرين أشعار بثبوت الكفر واستمراره كذلك قبله.


[ 13 ]

* الأصل " باب آخر منه " وفيه زيادة وقوع التكليف الأول * الشرح قوله (باب آخر وفيه زيادة وقوع التكليف الأول) يفهم من الروايات أن التكليف الأول وهو ما وقع قبل التكليف في دار الدنيا بارسال الرسل وإنزال الكتب متعدد الأول كان في عالم الأرواح الصرفة، الثاني كان وقت تخمير الطينة قبل خلق آدم منها، الثالث كان بعد خلق آدم منها حين اخرجهم من صلبه وهم ذر يدبون يمينا وشمالا وكل من أطاع في هذه التكليف الثلاثة فهو يطيع في تكليف الدنيا كل من عصى فيها فهو يعصى فيه وهنا تكليف خامس يقع في القيامة وهو مختص بالاطفال والمجانين والشيوخ الذين أدركوا النبي وهم لا يعقلون وغيرهم ممن ذكر في محله. * الأصل 1 - أبو علي الأشعري ومحمد بن يحيى، عن محمد بن إسماعيل، عن علي بن الحكم عن أبان بن عثمان، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لو علم الناس كيف ابتداء الخلق ما اختلف اثنان، إن الله عز وجل قبل أن يخلق قال: كن ماء عذبا أخلق جنتي وأهل طاعتي، وكن ملحا اجاجا أخلق منك ناري وأهل معصيتي ثم أمرهما فامتزجا، فمن ذلك صار يلد المؤمن الكافر والكافر المؤمن، ثم أخذ طينا من أديم الأرض فعركه عركا شديدا فإذا هم كالذر يدبون، فقال لأصحاب اليمين: إلى الجنة بسلام، وقال لأصحاب الشمال: إلى النار ولا أبالي، ثم أمر نارا فأسعرت، فقال لأصحاب الشمال: ادخلوها، فهابوها، فقال لأصحاب اليمين: ادخلوا فدخلوها، فقال: كوني بردا وسلاما فكانت بردا وسلاما، فقال أصحاب الشمال: يا رب أقلنا، فقال: قد أقلتكم فادخلوها، فذهبوا فهابوها، فثم ثبت الطاعة والمعصية فلا يستطيع هؤلاء أن يكونوا من هؤلاء ولا هؤلاء من هؤلاء. * الشرح قوله (لو علم الناس كيف ابتداء الخلق) خلق الله تعالى الارواح بعدتوا فقها في فطرة الإيمان على مراتب متفاوتة في الإيمان والكمال والإدراك، وخلق الأسجاد من مواد مختلفة بحسب اختلاف الأرواح فيما ذكر، ووضع كل واحد منها فيما يليق به، ولو علم الناس كيفية تلك المراتب


[ 14 ]

وكميتها وتفاوتها في قبول الكمال ما اختلف اثنان ولا يعير صاحب الكمال صاحب النقص (1) وهذا لاينا في تعيير من بدل فطرته الاصلية وغير استعداده الذاتية بقبح أعماله وسوء أفعاله وترك السعي فيما خلق له وطلب منه ويليق به، ومذام الشرع كلها من هذا القبيل. قوله (قال كن ماء عذبا) كلمة كن إشارة إلى ارادته وجود ما فيه حكمة مصلحة وقدرته عليه من غير لفظ ولا صوت ولا نداء ويفهم منه ان الماء العذاب أصل المؤمن ومنه شرافته ولينته وأن الماء الاجاج وهو بالضم الماء الملح الشديد الملوحة أصل الكافر ومنه خساسته وغلظته وامتزاج المائين سبب لتحقق القدرة على الخير والشر والقوي القابلة للضدين، وتولد المؤمن من الكافر بالعكس لما في أحدهما من أجزاء الاخر وصفاته ورايحته، وقد مرشئ من سر الإمتزاج آنفا ولعل خلق الجنة والنار من المائين اشارة إلى أنهار الجنة وطراوة أشجارها من الماء الأول ومياه النار ونمو أشجارها كالزقوم من الماء الثاني قال الله تعالى أنها شجرة تخرج في أصل الجحيم طلعها كأنه رؤس الشياطين. قوله (ثم أخذطينا من أديم الارض) المراد بالطين ماامتزج بالمائين وخمر بهما كما سيجئ، وباديم الارض ما ظهر منها، وبالارض ما يشمل أرض النار وأرض الجنة الغرض من عركه ودلكه إخراج مادة كل من المؤمن والكافر عن الاخرى تميزها عنها وإخراج كل واحد منهما من مادته كما أشار إليه بقوله " فإذا هم كالذر يدبون " وجه التشبيه الصغر والحركة فقال والافات وقال لأصحاب الشمال إلى الجنة متلبيسين بسلام مني وبركات أو سالمين من الموت والافات وقال لأصحاب الشمال إلى النار ولا أبالي لعدم الإعتناء بهم، ثم أمر نارا فاسعرت أي أتقدت واشتعلت فقال


1 - ولا يعير صاحب الكمال صاحب النقص " ان كان المراد بصاحب النقص أهل المعاصي فأول من غيرهم الله تعالى نفسه ولعنهم وبعده الملائكة والأنبياء والأولياء في آيات كثيرة وأحاديث متواترة، ولو كان مضمون هذه الرواية حقا لبطل كتاب الله تعالى والأحاديث النبوية وإجماع أهل الحق، وإن كان مخالفة فرعون لموسى (عليه السلام) لعيب في طينته ولم يجز تعييره كيف يذمه ويلعنه الله والملائكة ويتبرء منه أتباع الأنبياء واليهود والنصارى والمسلمون، قال العلامة المجلسي (رحمهم الله) أنها من متشابهات الأخبار ومعضلات الآثار ومما يوهم الجبر ونفى الإختيار، ولاصحابنا (رضي الله عنه) عنهم فيها مسالك الأول ما ذهب إليه الأخباريون هو أنا نؤمن بها مجملا ونعترف بالجهل عن حقيقة معناها، الثاني أنها محمولة على التقية، الثالث أنها كناية عن عمله تعالى بماهم إليه صائرون، الرابع أنها كناية عن اختلاف استعداداتهم وقابلياتهم وهذا أمر بين لا يمكن انكاره وهذا لا يستلزم سقوط التكليف فإن الله تعالى كلف والنبي (صلى الله عليه وآله) بقدر ما أعطاه من الإستعداد وكلف أبا جهل ما في وسعه وطاقته، الخامس أنه لما كلف الله تعالى الأرواح أو لا في الذر واخذ ميثاقهم فاختاروا الخير والشر بإختيارهم تفرع اختلاف الطينة على ما اختاروه. انتهى ملخصا وهو حسن جدا. (ش) (*)

[ 15 ]

لأصحاب الشمال ادخلوها إلى آخره. والغرض من هذا التكليف ابراز المعلوم واظهار انطباق عمله به والممتثل بالتكليف في هذه الدار هو الممتثل بهذا التكليف، والراد هو الراد. والتطابق بين الامتثالين وعدمها لازم كما أشار إليه بقوله " فقم ثبتت الطاعة والمعصية فلا يستطع هؤلاء أن يكونوا من هؤلاء، ولا هؤلاء من هؤلاء، وليس عدم استطاعتهم نظرا إلى ذواتهم بل بالغير فلا ينا في تكليفهم في العالم الشهودي لتكميل الحجة عليهم. * الأصل 2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن ابن اذينة، عن زرارة أن رجلا أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله عز وجل * (وإذا أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلي - إلى آخر الآية) * فقال وأبوه يسمع (عليه السلام): حدثني أبي أن الله عز وجل قبض من تراب التربة ألتي خلق منها آدم (عليه السلام) فصب عليها الماء العذاب الفرات ثم تركها أربعين صبحانا ثم صب عليها الماء الاجاج فتركها أربعين صباحا، فلما اختمرت الطينة أخذها فعركها عركا شديدا فخرجوا كالذر من يمينه وشماله، وأمرهم جميعا أن يقعوا في النار، فدخلوا أصحاب اليمين، فصارت عليهم بردا وسلاما وأبي أصحاب الشمال أن يدخلوها. * الشرح قوله (وإذا أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم) من ظهورهم بدل من " نبي آدم " بدل البعض من الكل، والمراد بأخذ الذرية من ظهورهم أخرجهم من أصلابهم نسلا بعد نسل و اشهادهم على أنفسهم فأن مواد الكل كانت موجودة في صلب آدم على ترتيب وجودهم فيب هذه النشأة فاخرجهم من ظهور بني آدم اخراج من ظهر آدم وصلبه فلا نيافي مادل على أن الإخراج من ظهر آدم وصلبه، ويؤيده ما نقل عن ابن عباس من " أنه تعالى لما خلق آدم مسح ظهره فأخرج منه كل نسمة هو خالقا إلى يوم القيامة فقال: ألست بربكم قالوا بلي فنودى يومئذ جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة " وروي أن الذرية كانت في صورة إنسان على مقدار الذر. وقال محمد بن جرير الطبري: ان آدم لما فرغ من حجه ونام في وادي النعمان وهو واد خلف جبل عرفات أخرج الله تعالى ما كان في صلبه من ذريته إلى يوم القيامة فرآهم آدم (عليه السلام) فمن كان في يمينه كان من أهل الجنة ومن كان في يساره كان من أهل النار، وقال جماعة منهم صاحب الكشاف أن قوله ألست بربكم وقالو بلي شهدنا من باب التمثيل والتخييل ومعنى ذلك أنه نصب لهم الادلة على ربوبيته ووحدانيته وشهدت بها عقولهم وبصايرهم ألتي ركبها فيهم وجعلها مميزة بين الضلالة


[ 16 ]

والهدى فكأنه أشهدهم على أنفسهم وقررهم، وقال لهم ألست بربكم وكانهم قالوا بلي أنت ربنا شهدنا على أنفسنا وأقررنا بوحدانيتك، وباب التمثيل واسع في كلام الله ورسوله وفي كلام العرب، وقال بعضهم: إن أخذ الذرية يعود إلى احاطة اللوح المحفوظ بما يكون من وجود هذا النوع بأشخاصه وانتقاشه بذلك عن قلم القضاء الإلهي ونزل تمكين بني آدم من العلم بربوبيته بنصب الدلائل والإستعداد فيهم وتمكنهم من معرفتها والإقرار بها منزلة الإشهاد والإعتراف تمثيلا و تخييلا لا إخراج ولا شهادة ولاقول ولاإقرار ثمة حقيقة والفرق بين هذين القولين أن الإخراج على سبيل الحقيقة والإشهاد والجواب من باب التمثيل في الأول وكليهما من باب التمثيل في الثاني، والحق أن الإخراج والإشهاد والإقرار واخذ الميثاق بالمعاني المذكورة كلها واقعة لأنه تعالى أخرجهم وخاطبهم بقوله * (ألست بربكم " وأجابوا ببلي حقيقة ولا بعد فيه نظرا إلى قدرته القاهرة وأنه تعالى جعل فيهم قوة يقدرون بها على معرفة وتوحيد نظرا في آياته وعلى الخروج مما فيهم من قوة الكمال والتكميل إلى الفعل فكان خلقهم على هذا الوجه مشابها بالإخراج والعهد والميثاق فحسن اطلاق الإخراج والميثاق على هذا الوجه على سبيل التمثيل. وهذا هو العهد القديم والعهد الأول بل لا يبعد إطلاق العهد القديم على عمله تعالى بما فيهم من تلك القوة، ثم ان بعضهم بعد الوجود العيني نقضوا الميثاق وأبطلوا تلك القوة والفطرة، وأنكروا ما أقروا به بلسان تلك القوة بحاضر لذاتهم النفسانية والوساوس الشيطانية هذا، وتفسيره (عليه السلام) يدل ظاهرا على أن إخراج الذرية من الطينة التي هي مبدا خلق آدم (عليه السلام) وفي انطباقه على ظاهر الآية خفاء، ويمكن أن يقال: ان بني آدم كانوا كامنين في طينة آدم فكان أخراجهم منها أخراجا من ظهور بني آدم واخراجا من ظهر آدم أيضا، أو يقال للآية ظهر وبطن وما ذكره (عليه السلام) تفسير لبطنها والله يعلم. قوله (إن الله عز وجل قبض قبضة من تراب التربة) القباض جبرئيل (عليه السلام)، ونسبته إلى الله تعالى مجاز بإعتبار أنه الآمر والتراب مضاف إلى التربة أو التربة بدل من قبضه، ولعل المراد بها التربة السماوية والأرضية بدليل ما سبق. قوله (فعركها عركا شديدا) عرك ماليدن. قوله (فخرجوا كالذر من يمينه وشماله) تعلقت بأصحاب اليمين الأرواح المطيعة على تفاوت درجاتهم في العزم والطاعة والإنقياد وبأصحاب الشمال الأرواح العاصية كذلك فوضع كل روح في موضع يناسيه ولو لم يضع كذلك لوقع الجور وهو منزه عنه. قوله (أمرهم جميعا ان يقعوا في النار) من امتثل بأمره في ذلك الوقت فهو مؤمن حين كونه في أصلاب الآباء وأرحام الامهات وحين تولده وحين كونه في هذه النشأه وحين موته وبعده أبدا.


[ 17 ]

بجز راه وفا وعشق نسپرد * برآن زاد وبر آن بود وبر آن مرد * الأصل 3 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن أبان بن عثمان عن محمد ابن علي الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله عز وجل لما أراد أن يخلق آدم (عليه السلام) أرسل الماء على الطين، ثم قبض قبضة فعركها ثم فرقها فرقتين بيده ثم ذرأهم فإذاهم يدبون، ثم رفع لهم نارا فأمر أهل الشمال أن يدخلوها فذهبوا فدخلوها فأمر الله عز وجل النار فكانت عليهم بردا وسلاما، فلما رأى ذلك فذهبوا إليها فهابوها فلم يدخلوها. ثم أمر أهل اليمين أن يدخلوها أهل الشمال قالوا: ربنا أقلنا، فأقلهم، ثم قال لهم: ادخلوها فذهبوا فقاموا عليها ولم يدخلوها فأعادهم طينا وخلق منها آدم (عليه السلام). وقال أبو عبد الله (عليه السلام) فلن يستطيع هؤلاء أن يكونوا من هؤلاء ولا هؤلاء أن يكونوا من هؤلاء. قال: فيرون أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أول من دخلت تلك النار فلذلك قوله عز وجل: * (قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين) *. * الشرح قوله (أرسل الماء على الطين) لعل المراد بالماء الماء العذاب والماء الاجاح، وبالطين طين عليين وطين سجين كما مر. قيل تخصيص هذين العنصرين دون ذكر الباقين لأنهما الأصل في تكون الأعضاء المشاهدة التي تدور عليها صورة الإنسان المحسوسة. قوله (ثم فرقها فرقتين بيده) ذهب أهل الحق إلى أنه تعالى ليس بجسم وأنه ليست به يد بمعناها الحقيقي وأنه يجب صرف اليد عن ظاهرها المحال عليه، ثم اختلفوا بعد ذلك فمنهم من حمل اليد على صفة لا نعلمها وقالوا يجب الإيمان بها وصرف علم حقيقها إلى الله تعالى ومنهم من أولها بالقدرة فالمعنى أنه تعالى فرقها فرقتين بقدرته وكنى عن ذلك باليد لأن بها نحن نفعل فخوطب الخلق بما يفهمونه، وأخرج المعقول إلى المحسوس ليتمكن المعنى في النفس وهذا الإختلاف يجري بينهم في كل ما نسب إليه سبحانه مع إستحالة إرادة الظاهر منه. قوله (فأمر أهل الشمال يدخلوها) يحتمل أن يراد بالشمال واليمين شمال جبرئيل (عليه السلام) ويمينه، والمراد بأهلهما من خلق من الطينة ألتي كانت في شماله ويمينه يعني طينة النار وطينة الجنة وأن يراد بهما جهة العلو والسفل على سبيل التمثيل لأن العلو أشرف من السفل، كما أن اليمين أشرف من الشمال، فأهل الشمال من دب إلى جهة السفل وأهل اليمين من دب إلى جهة العلو وأن يراد بها أهل الإهانة وأهل الكرامة على سبيل التشبيه فان من كان في شمال الملك كان من أهل الإهانة ومن كان في يمينه كان من أهل الكرامة والمال واحد، فإن من كان في شمال جبرئيل كانت حركته


[ 18 ]

إلى جهة السفل وكان من أهل الإهانة ومن كان في يمينه كان بالعكس. قوله (فهابوها ولم يدخلوها) فعاصوا بعد التعليق بالابدان الصغيرة، أو المثالية كما عاصوا قبلة في عالم الأرواح الصرفة وكما يعصون بعد التعلق بهده الابدان الكثيفة الجسمية. قوله (وخلق منها آدم (عليه السلام)) فاسكن الفريقين في صلبة فلذا يخرج منه المؤمن والكافر وقد يكون للمؤمن الأخلاق الذميمة والأعمال الباطلة وللكافر الأخلاق الحسنة والأعمال الصالحة للابسة طينة كل منهما بالاخرى واكتساب رائحتها. قوله (فلن يستطع هؤلاء - الخ) لأنه وجب في علم الله تعالى انطباق حالهم في هذه العالم على حالهم في ذلك الوقت والعلم تابع للمعلوم بمعنى أنه لما كان هذا كان ذلك دون العكس وهذا معنى استطاعتهم على التبدل والتغير ولا يلزم منه الجبر. قوله (إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين) لكونه أول من امتثل بأمره بالدخول في النار وبالإقرار بالربوبية وبكل حق وصدق فوجب أن يكون أول من يعتقد له ولدا لو كان له ولد فلما لم يعتقده بل نفاه علم أنه ليس ولد، ويفهم منه أن جزاء الشرط محذوف وأن المذكور تعليل له قائم مقامه، أي لو كان للرحمن ولد فأنا أول من يقربه لأني أول العابدين. * الأصل (باب آخر منه) * الشرح قوله (باب آخر منه) هذا الباب مثل السابق إلا أنه يذكر فيه شيئا من تفاصيل التكليف الأول واختلاف الخلق وحكمة ذلك الإختلاف وغير ذلك مما يظهر بالتأمل. * الأصل 1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن داود العجلي، عن زرارة، عن حمران، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن الله تبارك وتعالى حيث خلق الخلق خلق ماء عذبا وماء مالحا اجاجا، فامتزج الماءان، فأخذ طينا من أديم الأرض فعركه عركا شديدا، فقال لأصحاب اليمين وهم كالذر يدبون: إلى الجنة بسلام وقال لأصحاب الشمال: إلى النار ولا ابالي، ثم قال: ألست بربكم ؟ قالوا: بلي شهدنا أن تقولوا يوم القيامة: إنا كنا عن هذا غافلين، ثم أخذ الميثاق على النبيين، فقال: ألست بربكم وأن هذا محمد رسولي، وأن هذا علي أمير - المؤمين ؟ قالوا: بلي، فثبتت لهم النبوة وأخذ الميثاق على اولى العزم أنني ربكم ومحمد رسولي وعلي أمير المؤمنين


[ 19 ]

وأوصياؤه من بعده ولاة أمري وخز أن علمي (عليهم السلام) وأن المهدي أنتصر به لديني واظهر به دولتي وأنتقم به من أعدائي واعبد به طوعا وكرها، قالوا: أقررنا يا رب وشهدنا ولم يجحد آدم ولم يقر فثبتت العزيمة لهؤلاء الخمسة في المهدي ولم يكن لادم عزم على الإقرار به وهو قوله عز وجل: * (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد به عزم) * قال: إنما هو فترك ثم أمر نارا فاججت فقال لأصحاب الشمال: ادخلوها، فهابوها، وقال لأصحاب اليمين ادخلوها فدخلوها فكانت عليهم بردا وسلاما فقال أصحاب الشمال: يا رب أقلنا، فقال قد أقلتكم إذهبوا فادخلوها، فهابوها، فثم ثبت الطاعة والولاية والمعصية. * الشرح قوله (فأخذ طينا من أديم الأرض) أي طينا مخمرا بالمائين وبذلك التخمير يتحقق القدرة على الخير والشر في الكل كما أشرنا إليه إذ لو وقع التخمير من العذب فقط لم تكن قدرة على الشر ولو وقع من الاجاج فقط لم تكن قدرة على الخير بالجملة في إيجاد هذا النوع وامتحانهم بالتكاليف يقتضى التخمير بالمائين. قوله (فعركه عركا شديدا) فخرجوا كالذر يدبون يمينا وشمالا، وحذف لدلالة سوق الكلام عليه. قوله (إلى الجنة بسلام) متعلق بقال لا بيدبون وقد مر تفسيره. قوله (قالوا بلي شهدنا أن تقولوا) يلى تصديق بالربوبية وشهادة بالوحدانية وإن تقولوا مفعول له أي فعلنا ذلك من إخراجكم واشهادكم على أنفسكم وأخذ الميثاق عليكم بالربوبية كراهة أن تقولوا يوم القيامة أنا كنا عن هذا غافلين. ولم ينبهنا عليه أحد أو تقولوا إنما اشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم فاقتدينا بهم وتبعنا آثارهم، إذ لا عذر لهم في الإعراض من التوحيد والتمسك بالتعليل والإقتداء بالآباء بعد تبينهم عليه كما لا عذر لابائهم في الشرك. قوله (قالوا بلي) أي قال النبيون كلهم بلي وأما غيرهم فقالوا بعضهم بلي في الرسالة والولاية دون بعض كما دلت عليه الروايات في هذا الكتاب وغيره. قوله (فثبت لهم النبوة) دل على أن نبوتهم قبل أخذ الميثاق عليهم برسالة محمد (صلى الله عليه وآله) وولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) كانت في حيز البداء وصارت حتما بعده بالإقرار. قوله (وأخذ الميثاق على اولى العزم) هم خمسة نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد (صلى الله عليه وآله) عليه وعليهم لتأكد عزمهم في أمر الدين ولمجئ كل لاحق بعزية نسخ كتاب سابقه وشريعته، ولعل المراد بعم هنا الأربعة الأول بقرينة أخذ الميثاق عليهم لرسالة خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله).


[ 20 ]

قوله (واعبد به طوعا وكرها) كما قال جل شأنه * (ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون " وقال محي الدين في الفتوحات: " إذا ظهر المهدي (عليه السلام) يرفع بالمذاهب عن الأرض فلا يبقى إلا الدين الخالص، وأعداؤه يدخلون في دينه وتحت حكمه كرها خوفا من سيفه ولو لا أن السيف بيده لا فتى الفقهاء بقتله ولكن الله يظهره بالسيف والكرم فيطيعون ويخافون ويقبلون حكمه من غير إيمان ويضمرون خلافه ويعتقدون فيه إذا حكم فيهم بغير مذهب أئمتهم أنه على ظلال. في ذلك كلامه طويل أخذنا منه موضع الحاجة. قوله (ولم يجحد آدم ولم يقر) أي لم يجحد آدم عهد المهدي (عليهم السلام) قلبا ولم يقر به لسانا بل أقربه ولم قلبا ولم يقر به لسانا لتولهه وتأسفه بضلالة أكثر أولاده. وبما يرد عليهم من القتل والقهر لما بين الاب وأولاد من الروابط العظيمة المقتضية لتأسفه بما يريد عيلهم وإن كان راضيا بقضاء الله وحكمه، وعلى هذا كانه لم يكن له عزم تام على الإقرار به إذ لو كان له ذلك العزم كما كان لاولى العزم من الرسل لاقر به كما أقروا، وأما قوله * (فنسى " معناه فترك الإقرار به لسانا أو فترك العزم على الإقرار به وليس المراد به معناه الحقيقي فليتأمل. * الأصل 2 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد وعلي بن إبراهيم، عن أبيه عن الحسن ابن محبوب، عن هشام بن سالم، عن حبيب السجستاني قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: إن الله عز وجل لما أخرج ذرية آدم (عليه السلام) من ظهره ليأخذ عليهم الميثاق بالربوبية له وبالنبوة لكل نبي فكان أول من أخذ له عليم الميثاق بنبويته محمد ابن عبد الله (صلى الله عليه وآله) ثم قال الله عز وجل لآدم: انظر ماذا ترى، قال: فنظر آدم إلى ذريته وهم ذر قد ملؤوا السماء، قال آدم (عليه السلام): يا رب ما أكثر ذريتي ! ولأمر ما خلقتهم ؟ فما تريد منهم بأخذك الميثاق عليهم ؟ قال الله عز وجل: يعبدونني لا يشركون بي شيئا ويؤمنون برسلي ويتبعونهم، قال آدم (عليه السلام): يا رب فمالي أرى بعض الذر أعظم من بعض وبعضهم له نور كثير وبعضهم له نور قليل أو بعضهم ليس له نور ؟ فقال الله عز وجل: كذلك خلقتهم لأبلوهم في كل حالاتهم قال آدم (عليه السلام): يا رب فتأذن لي في الكلام فأتكلم ؟ قال الله عز وجل: تكلم فإن روحك من روحي وطبيعتك [ من ] خلاف كينونتي، قال آدم: يا رب فلو كنت خلقتهم على مثال واحد وقدر واحد وطبيعة واحدة وجبلة واحدة وألوان واحدة وأعمار واحدة وأرزاق سواء لم يبغ بعضهم على بعض ولم يكن بينهم تحاسد ولا تباغض ولا اختلاف في شئ من الأشياء، قال الله عز وجل: يا آدم بروحي نطقت وبضعف طبيعتك تكلفت ما لا علم لك به وأنا الخالق العالم، بعلمي خالفت بين خلقهم وبمشيئتي يمضي فيهم أمري. وإلى تدبيري وتقديري صائرون، لا


[ 21 ]

تبديل لخلقي، إنما خلقت الجن والإنس ليعبدون وخلقت الجنة لمن أطاعني وعبدني منهم واتبع رسلي - ولا ابالي خلقت النار لمن كفر بي وعصاني ولم يتبع رسلي ولا ابالي، وخلقتك وخلقت ذريتك من غير فاقة بي إليك وإليهم إنما خلقتك وخلقتهم لأبلوك وأبلوهم أيكم أحسن عملا في دار الدنيا في حياتكم وقبل مماتكم فلذلك خلقت الدنيا والاخرة والحياة والموت والطاعة والمعصية والجنة والنار، وكذلك أردت في تقديري وتدبيري، وبعلمي النافذ فيهم خالفت بين صورهم وأجسامهم وألوانهم وأعمارهم وأرزاقهم وطاعتهم ومعصيتهم، فجعلت منهم الشقي والسعيد البصير والأعمى والقصير الطويل والجميل الدميم والعالم والجاهل والغني والفقير، والمطيع والعاصي والصحيح والسقيم ومن به الزمانة ومن لاعاهة به، فينظر الصحيح إلى الذي به العاهة فيحمدني على عافيته، وينظر الذي به العاهة إلى الصحيح فيدعوني ويسألني أن اعافيه ويصبر على بلائي فاثيبه جزيل عطائي، وينظر الغني إلى الفقير فيحمدني ويشكرني، وينظر الفقير إلى الغني فيدعوني ويسألني وينظر المؤمن إلى الكافر فيحمدني على ما هديته فلذلك خلقتهم لأبلوهم في السراء والضراء وفيما ابتليهم وفيما اعطيهم وفيما أمنعهم وأنا الله الملك القادر ولي أن أمضي جميع ما قدرت على ما دبرت ولي أن أغير من ذلك ما شئت إلى ما شئت واقدم من ذلك ما أخرت واؤخر من ذلك ما قدمت وأنا الله الفعال لما اريد لا اسأل عما أفعل وأنا أسأل خلقي عما هم فاعلون. * الشرح قوله (يا رب ما أكثر ذريتي ولا مرما) تعجب في كثرتهم مع خفاء سببها وما في " أمر ما " صفة أي لامر أي أمر خلقتهم. قوله (قال آدم يا رب فمالي أرى بعض الذر أعظم من بعض) أي أعظم مقدارا وأعظم قدرا ورتبة فقوله " وبعضهم له نور إلى آخره " على الاول كالتأسيس وعلى الثاني كالتأكيد ومجمل ما في هذا الخبر أن آدم (عليه السلام) لما رأى اختلاف ذريته في غاية الكمال بحيث لا يكاد يشترك اثنان منهم في حال من الأحوال ولم يعلم سبب ذلك الإختلاف سأل عن سببه فأجابه عز شأنه بأنه خلقهم كذلك لأجل الإبتداء، ثم عاد (عليه السلام) بأن خلقهم كذلك بوجب بينهم التنافر والتباعد والتباغض والتحاسد، وأن اتحادهم في جميع الأحوال يوجب رفع هذه المفاسد وتحقق نظامهم، والسؤال الأول نشأ من روحه القدسية الإلهية الناظرة في حقائق الاشياء وصفاتها ومنافعها ومضارها، والسؤال الثاني تكلف نشأ من قواه الجسمانية ومواده الطبيعية بتوهمات داثرة وخيالات باطلة، إذ التساوي في الغنى والفقر أو اللون أو المقدار أو الشكل أو العمر مثلا لا يوجب رفع المفاسد المذكورة بل


[ 22 ]

يوجب رفع الحكمة والتكليف والإبتداء وذلك نقص في العلم والتقدير والتدبير في ايجاد هذا النوع وابتدائهم إذ الابتلاء في صورة الإختلاف أشد وأعظم والإمتثال بالتكليف حينئذ أرفع وأفخم والثواب المترتب عليهما أجل وأتم ألا يرى أن صبر الفقير على الفقر مع مشاهدة الغنى في غيره أعظم من صبره مع مشاهدة الفقر في جميع بنى نوعه ولذلك قيل " إذا عمت البلية طابت " وان ابتلاء الغنى بالشكر مع تحقق الفقر في غيره أعظم من ابتلائه مع تحقق الغنى في جميع بنى نوعه أذله على الشكر في صورة الاولى بواعث شتى وقس عليه جميع الأحوال المتقابلة. قوله (كذلك خلقهم) أي كون بعض الذر أعظم من بعض إلى آخرة خلقتهم لابلوهم وفي بعض النسخ " لذلك " أي لأن يعبدوني ولا يشركوا بي شيئا أو لا جل الإختلاف خلقتهم كما قال جل شأنه " لا يز الون مختلفين ولذلك خلقهم ". قوله (تكلم فاءن روحك من روحي) لعل المراد بالروح الاولى النفس الناطقة الناظرة إلى عالم الملك والملكوت، وبالروح الثانية جبرئيل (عليه السلام) لأنه روح الله الامين ونسبته إليه تعالى ظاهرة و " من " حينئذ ابتدائية أو جود الله تعالى وفيضه على آدم وانما كان ذلك روحا لأنه مبدء كل حياة فهو الروح الكلية التي بها قوام كل حياة، وحياة كل موجود ونسبته إليه أيضا ظاهرة و " من " حينئذ للإبتداء أو للتبعيض أو ذاته المقدسة والمقصود أنه تعلى خلق روحه من عند ذاته المجردة بمجرد المشية بلا توسط مادة كالتراب ونحوه من المواد الجسمانية، والمراد بالكونية الوجود وبالطبية المواد الجسمانية مثل الحواس الظاهرة والباطنة التي جعلت في الإنسان ليستعملها على القوانين العدلية ويستعين بها في السير إلى حضرة المقدس وكونها على خلاف وجوده تعالى ظاهر لتنزهه عن العالم الجسماني، وفيه تنبيه على أن التكلم قد يكون صوابا إذا كان المقتضى له هوا الروح المجردة وقد لا تكون إذا كان المقتضى هو الطبايع الجسمانية فانه قد تقع في الغلط والتوهم الفاسد وقد وقع في السؤال المذكور كلا الامرين. قوله (فلو كنت خلقتهم على مثال واحد وقدر واحد) لعله (عليه السلام) علم تفاوت الاعمال والارزاق بالالهام، وأما ما سواهما من الامور المذكورة علمه بالمشاهدة. قوله (وجلة واحدة) الجبلة بكسر الجحيم وسكون الباء وكسرها وشد اللام الخلقة ومنه قوله تعالى * (والجبلة الاولين ". قوله (قال الله عز وجل يا آدم بروحي نطقت) إضافة الروح إليه سبحانه للإختصاص بإعتبار أنه من عالم الأمر وعالم المجردات الصرفة، ومن شأنها التحرك إلى طلب المجهولات فلذلك نطقت في هذا المقام عند رؤية الإختلاص العظيم في الذرية مع عدم العلم بسببه، وأما التكلف في


[ 23 ]

السؤال بأن خلقهم على مثال واحد إلى آخر ما ذكر مأنسب بنظامهم وأقرب في رفع الفساد بينهم فمستند إلى ضعف طبيعة ومعارضة قواه الجسمانية للقوة الروحانية وغلبتها بتوهم أن الإتحاد وغلبتها بتوهم أن الإتحاد في الامور المذكورة موجب للإتحاد والالفة بينهم وهذا أمر مطلوب والحكمة تقتضي رعايته، وهذا التوهم فاسد لأن التماثل في الطبيعة يوجب زوال نظامهم وانقطاع نسلهم لأن التماثل يوجب اشتغالهم بصنعة واحدة من الصنايع الجزئية التي لها مدخل في النظام وبقاء النوع بخلاف الاختلاف فانه يوجب اشتغال كل واحد بما يناسبه، ويستعد له من الصناعات فيتحقق النظام المشالهد وبقاء النوع التماثل في الفقر والغني وغيرهما لا يوجب عدم البغى و التحاسد التباغض وغيرها من المفاسد، وعلى تقدير ايجابه فهي حكمة لاقدر لها في جنب حكمة الاختلاف وهي ابتلاؤهم في مقام التكليف الموجب لرفعة مقاماتهم في الدار الآخرة. قوله (وأنا الخالق العليم) [ كذا ] تعريف الخبر باللام يفيد الحصر وفيه تنبيه على أنه لا ينبغي السؤال عنه في خلقه وايجاده للاشياء على ما هي عليه عند خفاء خلقهما هي الثواب والعقاب والاكرام والاهانة وأن ذلك يتوقف على الطاعة الحكمة بل يجب الاذعان بأن كل ما خلقه على أي وجه خلقه فهو أحكم وأتقن وأفضل وأحسن من غير ذلك الوجه لكونه خالقا عليما وصانعا حكيما لا يفعل الإ ما يقضيه الحكمة البالغة فالقول بأن في خلافة حكمة فاسد أما باعتبار أن هذه الحكمة حكمة وهمية لا تحقق لها في نفس الأمر أو باعتبار أنها حكمة ضعيفة لا قدر لها عند تلك الحكمة البالغة. قوله (بعلمي خالقت بين خلقهم) أي خالفت بين خلق أبدانهم وقلوبهم وطبايعهم وغيرها بسبب علمي بحالهم وبمصالح الإختلاف قبل خلقهم وبعده، والحاصل أنه سبحانه لما علم أزلا تفاوتهم في الطاعة والعصيان والكمال والنقصان خلق أبدانهم وصورهم أشكالهم وقت الميثاق على قدر تفاوتهم وتفاوت مراتبهم فوضع كلا في موضعه وهو العدل الحكيم ويمضي فيهم في هذا العالم وهو عالم الظهور أمره الذي هو الاختلاف المقدر في ذلك الوقت أو أمره التكويني على النحو المشاهد بمجر مشيته وارادته وهم صايرون إلى ما دبر من عاقبة امورهم وإلى ما قدر لهم من الجنة والنار لا تبديل لخلق الله، فمن حسن أحواله في ذلك الوقت حسنت أحواله في الدنيا، ومن حسنت أحواله في الدنيا حسنت أحواله في الآخرة، ومن قبحت أحواله في ذلك الوقت، قبحت أحواله في الموطنين الآخرين لا يتبدل هؤلاء إلى هؤلاء ولا هؤلاء إلى هؤلاء. قوله (وبمشيتي يمضي فيهم أمري) أي أمر الاختلاف أو أمر التكوين بمضي فيهم بمجرد المشية التابعة للحكم والمصالح كما أشر نا إليه.


[ 24 ]

قوله (وإلى تدبيري وتقديري صائرون) التدبير في الأمر أن تنظر إلى ما يؤول إليه عاقبته وبالفارسية صلاح انديشيدن در كار. والتقدير اندازه كردن واندازه چيزى نكاه داشتن وآفريدن وواجب كردن. قوله (إنما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون) اشارة إلى غاية خلق السماوات والأرض والدنيا والآخرة والجنة والنا وهي خلق الثقلين فان غاية والمعصية وهما يتوقفان على التكليف والابتلاء وبين أن التكليف والابتلاء وكمالهما يتوقفان على الاختلاف المذكور فقد ثبت أن الحكمة تقتضي الاختلاف فليتأمل. قوله (من غير فاقة بي إليك واليهم) لأن الفاقة تابعة للعجز والنقص أو مقتضية لهما، وقد الحق منزه عنهما. قوله (لا بلوك وابلوهم) أي لا عاملك واياهم معاملة المختبر فهو من باب التمثيل لقصد الايضاح والتنوير. وقوله (أيكم أحسن عملا) مفعول ثان للبلوي باعتبار تضمينه معنى العلم، والنفع في الاختبار يعود أن إلى الغير لا إليه سبحانه. قوله (والطاعة والمعصية) اسناد خلقهم إليه جل شأنه اسناد إلى العلة البعيدة أو المراد به جعل المعصية معصية والطاعة عاطة، أو المراد بالخلق التقدير. قوله (والجنة والنار) دل على أنهما مخلوقتان الآن، ذهب إليه المحقق في التجريد وهو مذهب الأكثر والآيات والروايات شواهد صدق عليه، وذهب كثير من المعتزلة أنهما غير مخلوقين وأنما تخلقان يوم القيامة. قوله (وكذلك أردت) أي كون الغرض من خلقهم هو الابلاء والاختبار أردت في تقديري لهم على النحو المختلف أو للممكنات وحقائقها وصفاتها يعني أن الغرض في تقديري الممكنات وتدبيري فيها هو اختبار الثقلين. قوله (فجعلت منهم الشقى والسعيد والبصير والأعمى) السعيد من عرف ربه وسلك سبيله حتى وصل إليه، والوصول هو الغاية العظمى للسعادة بل هو عينها ولا يحصل له ذلك إلا بمجاهدته على القوة الشهوية والغضبية وغلبته على لوازمها من الاخلاق الرذيلة، الشقى من لم يعرفه ولم ينكره أو أنكره أو عرفه ولم يسلك سبيله سواء وقف فيه أو رجع عنه وجعلها وراء ظهره أو مال عنه يمنة ويسرة فالسعيد صقف واحد والشقى أصناف لاتحاد طريق الحق وكثرة طرق الباطل والظاهر أن المراد بالبصير والأعمى واجد نور الباصرة، وفاقده ويمكن أن يراد بهما واجد نور البصيرة وفاقده.


[ 25 ]

قوله (والجميل والدهم) الجميل الحسن الوجه، والهيئة، وجمل الرجل - بالضم والكسر - فهو جميل، وامرأة جميلة. والدهم الاسود القبيح المنظر والهيئة من الدهمة، وهي السواد ومنه الفرس الادهم إذا اشتد سواده حتى ذهب بياضه [ وفي بعض النسخ " والجميل والدميم " ]. قوله (ومن به الزمانة وحمن لاعاهة به) الزمانة الافة والعاهة فعله بفتح العين وعينها ياء. وفي المصابح زمن الشخص زمنا وزمانة فهو زمن من باب تعب وهو مرض يدوم زمانا طويلا. قوله (فينظر الصحيح إلى الذي به العاهة) اختبر الصحيح بذي العاهة وبالعكس ولو كانوا كلهم أهل الصحة فاتت الحكمة الأولى وهي الحمد والحث عليه ولو كانوا كلهم أهل العاهة فاتت الحكمة الثانية وهي الدعاء والصبر على البلية والترغيب فيهما بل فاتت الحكمتان في كلتا الصورتين، وليس المراد بالحمد الحمد القولى فقط بل المراد الحمد مطلقا قولا كان أو فعلا بأن يصرف لسانه في أنواع الثناء وقوته في أنحاء الطاعات وجوارحه في أقسام العبادات، وقبله في التفكر في الله وفي مظاهره وآثاره، وهو كذلك اختبر الغني بالفقير وبالعكس لينظر الغني إلى الفقير فيحمد الله تعالى على ما أعطاه وأنعمه مما منع عنه الفقير ويشكره بالظاهر والباطن وبأداء الحقوق المالية وينظر الفقير إلى الغني فيدعو ربه ويسأله أن يعطيه، والاختلاف في الغني والفقير فائدة أخرى هي انتظام امورهم في التمدن والاجتماع، إذ لو كان كلهم غنيا لما خدم بعضهم بعضا، ولو كان كلهم فقيرا لما حصل نفع في مقابل الخدمة فيفضى ذلك إلى تركها وعلى التقديرين يلزم بطلان النظام وانقطاع النوع وفساد أسباب الحياة من الزارعة والخياطة والحياكة وغيرها من الصناعات الجزئية وكذلك اختبر المؤمن بالكفار وبالعكس لينظر المؤمن إلى الكافر فيحمده على ما هداه إليه ووفقه له، وينظر الكافر إلى المؤمن وحسن ظاهره وباطنه فيرجع عن الكفر ويتوب ولم يذكره لعدم الاغتناء بشأنه ولمال ذكر جملة من حكمة الابتلاء والاختبار على سبيل التفصيل أشار إلى البواقي على سبيل الاجمال بقوله " فلذلك خلقتهم لا بلوهم في السراء والضراء إلى آخره " لأن جلها بل كلها مندرج فيه كما يظهر بالتأمل. قوله (وأنا الله الملك القادر) أشار بلفظ الله إلى أنه كامل من جهة الذات والصفات الذاتية والفعلية لدلالته على أن كل ماله من الصفات على وجه الكمال فلا يكون خلقه على وجه الاختلاف عبثا لأن البعث نقص والنقص على الكمال من جميع الجهات محال وبلفظ ملك على أنه مسلط على جميع الممكنات فلا يعتربه العجز عن ايجاد ما أراد، فلو كانت الحكمة في غير الاختلاف لاراده بلا مانع ولما لم يرد علم أنها في الاختلاف، وبلفظ القادر إلى أنه ليس بموجب لا يقدر على ايجاد الضدين كالفقر والغنى والصحة والسقم وغير ذلك وهذه حكمة أخرى لاختيار


[ 26 ]

الاختلاف وإلى أن فعله مسبوق بالارادة، والفعل إلا رادى لا يكون إلا لحكمة ومصلحة هذا القدر كاف في الادغان بان الإختلاف في خلقه لا يخلو عن حكمة وإن لم يعلم تفاصيلها. قوله (ولى أن أضى) اشارة إلى أنه يجوز البداء في بعض المقدرات والمدبرات وقد مر في آخر كتاب التوحيد تفسير البداء ومواقع جوازه وهي ما لم يبلغ الامضاء الحتم مثلا إذا قدر صحة زيد أو سقمه أو غناه أو فقره أو طول عمره أو قصره تقديرا غير حتمي مشروطا بالتصدق أو صلة الرحم أو بعدمها جاز البداء والتغيير. قوله (وإنا الله الفعال لما اريد) وهو فعال لأنه يفعل كل ما يريده على وجه يريد بلا منازع ولا مدافع على وجه أحسن بحيث لو إجتمع العقلاء على أن يزيدوا أو ينقصوا طلبا لزيادة الحسن لما قدروا. ومن توهم امكان إلا حسن في بعض أجزاء العالم فهو غافل عن المصالح الكلية والجزئية، وفيه تنبيه على أن له الامضاء والتغيير والتقديم والتأخير تحقيقا لمعنى المبالغة في الفعل. قوله (لا أسأل عما أفعل) لأنه لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة، والحكيم على الاطلاق لا يسأل مما يفعل بخلاف غيره فانه يسأل عما يفعل هل هو موافق للحكمة أم لا. * الأصل 3 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن محمد بن إسماعيل، عن صالح بن عقبة، عن عبد الله بن محمد الجعفي وعقبة جميعا، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن الله عز وجل خلق الخلق فخلق من أحب مما أحب وكان ما أحب أن خلقه من طينة الجنة وخلق من أبغض مما أبغض وكان مما أبغض أن خلقه من طينة النار، ثم بعثهم في الظلال، فقلت: وأي شئ الظلال ؟ فقال: ألم تر إلى ظلك في الشمس شيئا وليس بشئ ثم بعث منهم النبيين فدعوهم إلى الاقرار بالله عز وجل وهو قوله عز وجل: * (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله) * ثم دعوهم إلى الإقرار بالنبيين فأقر بعضهم وأنكر بعض ثم دعوهم إلى ولايتنا فاقر بها والله من أحب وأنكرها من أبغض، وهو قوله: * (ما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل) * ثم قال أبو جعفر (عليه السلام): كان التكذيب ثم. * الشرح قوله (إن الله عز وجل خلق الخلق فخلق من أحب مما أحب) لعل المراد بالخلق الخلق الجسماني بقرينة السياق ومحبته تعالى للعبد عبارة عن إحسانه وإكرامه وإفضاله ولطفه وهي تابعة لطاعة العبد إياه، ثم المحبة سبب لزيارة القرب حتى يصير العبد بحيث لا ينظر إلا إليه ولا يتكل إلا عليه فيصير فعله كفعله كما يدل عليه حديث التقرب بالنوافل، ويسجئ مشروحا إن شاء الله تعالى. ومن محبته أنه إذا علم طاعة الارواح الانسانية خلق لها ابدانا من طينة الجنة ليكون ذلك معينا لها


[ 27 ]

في الخيرات وهذا بداية التوفيق والإحسان ومن بغضه أنه إذا علم عصيانها خلق لها أبدانا من طينة النار وسلب عنها توفيقه فيبعثها ذلك إلى المبالغة في الشرور، وهذا بداية الاضلال والخذلان. قوله (ألم تر إلى ظلك في الشمس شيئا وليس بشئ) شبه الظلال بظلك في الشمس وأشار إلى وجه التشبيه بأنه شئ باعتبار وليس بشئ باعتبار آخر، وقد ذكر ناسابقا أن التكليف الأول وقع مرتين: مرة في عالم المجردات (1) الذر المخرج من الطينة، ويمكن أن يكون المراد بالظل هنا هو الاول ولكن لما كان تصور عالم المجر الصرف صعبا في أكثر الاذهان (2) في عدم الكثافة إذ لا كثافة في المجرد الصرف كما لا كثافة في الظل، ويمكن به ان يراد به عالم الذر المبائن لعالم الأجسام الكثيفة، وهو يحكى عن هذا العالم ويشبهه وليس منه فهو ظل بالنسبة إليه وهذا أنسب بقوله (عليه السلام) " ثم بعثهم في الظلال " فانه يفيد ظاهرا أن بعثهم فيه بعد خلقهم من طينة الجنة وطينة النار، وحمله على الأول يحتاج إلى تكلف بعيد فليتأمل. وأعلم أن الارواح المحبوبة الكاملة الهادية أعنى أرواح خاتم الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) خلقت قبل أرواح سائر البشر وطينتهم كما أشار إليه أمير المؤمنين (عليه السلام) في بعض خطبة " ألا أن الذرية أفنان أنا شجرتها، ودوحة أنا ساقتها، وإني من أحمد بمنزلة الضوء من الضوء، كنا اظلالا تحت العرش قبل البشر وقبل خلق الطينة التي كان منها البشر أشباحا عالية، لا أجساما نامية، وفيه اشارة إلى أن


1 - قوله " في عالم المجردات الصرفة ذكر العلامة المجلسي (قدس سره) في مرآة العقول نحوا من عبارة الشارح وكأنه مقتبس منها وهو مبنى على مذهب صدر المتألهين في تقسيم العوالم بثلاثة أقسام: الأول عالم المجردات الصرفة وهو عالم العقول والنفوس الناطقة وموجودات ذلك العالم عارية عن المواد وعن المقادير أيضا، والثاني علم المثال وهو مشتمل على موجودات مجردة عن المادة دون المقدار، والثالث عالم الماديات وهو ظاهر. وأما غير صدر المتألهين فأكثرهم على نفي العالم الاوسط. قال الصدر (قدس سره) أعلم أن كثير من أهل العلوم والمنتسبين إلى الحكمة زعموا أن هذه الصور المرئية والمثل المسموعة امور مرتسمة في الحس المشترك الذي هو قائم في الجزء المقدم من الدماغ كارتسام الاعراض في موضوعاتها وهذا كله لقصور المعرفة بعالم الملكوت وضعف الإيمان بالملائكة فان هذه الامور موجودات عينية قائمة بذواتها لافي محل وهي أقوى في الموجودية من هذه الاكون الخارجية إلا أن نشأة وجودها نشأه أخرى انتهى ملخصا. والعلامة المجلسي على أن الروح جسم لطيف والشارح على أنه موجود مجرد صرف وان أمكن ظهوره في عالم المثال يوجد فيصح توجه التكليف إليه وهو مجرد في الظلال وفي عالم المثال أيضا وهو مجرد عن المادة لاعن المقدار وهو عالم الذر. (ش) 2 - صعبا في أكثر الاذهان " اعترف من الشارح بان الحجج (عليهم السلام) كانوا يعبرون عن معنى لا يفهمه العامة بلفظ قريب يفهمونه. (ش) (*)

[ 28 ]

الكمالات التي حصلت لنفسه القدسية بواسطة كمالات نفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فشبه ذلك بصدور الضوء من الضوء كشعلة مصباح اقتبست من مصباح آخر ومن العادة في عرف المجردين تمثيل النفوس الشريفة بالأنوار والأضواء لمكان المشابهة بينهما في حصول الهداية عنها مع لطفها وصفائها وإلى كونهم أرواحا قدسية موجودة تحت رحمة الحق أو علمه قبل جميع الخلائق وعبر عن نفوسهم الطاهرة بالاظلال على سبيل الاستعارة للتنبيه على أنهم مرجعا لجميع الخلق بعد وجودهم كالاظلال. قوله (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله) أي ليقولن خلقنا الله أو الله خلقنا على اختلاف في تقديم المحذوف وتأخيره، والمشهور الأول يعني لو سألتهم عن ذلك لاضطروا إلى الجواب المذكور بمقتضى العهد والميثاق. قوله (ما كانوا ليؤمنوا بما كانوا به) أي ما كانوا ليؤمنوا في هذه النشأة بعد بعث الرسول إليهم بما كذبوا به من قبل هذه النشأة عند أخره الميثاق إذ التصديق والتكذيب فيه تابعان للتصديق والتكذيب ثم (1) * الأصل


1 - تابعان للتصديق والتكذيب ثم " ظاهر كلام الشارح يوهم الجبر وأنه لم يكن فائدة في بعث الأنبياء ودعوتهم في قبول الناس لكن الشارح برئ من هذه النسبة وقال صدر المتألهين (قدس سره) عند ذكر الشيخ الذي لقى أمير المؤمنين (عليه السلام) عند رجوعه من صفين أوائل المجلد الخامس: تزعم أنه كانت أفعالنا بقضاء الله وقدره يلزم سلب الاختيار عنا في فعلنا فيكون المقضى حتما علينا والمقدر لازما لذاتنا، ولم يبق فرق بين المختار والمضطر ثم بين فاسد هذا الظن: الأول أنه لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب إذ لا أجر ولا عقوبة على الفعل المجبور الثاني أنه بطل الأمر والنهى والزجر من الله تعالى لمن لا اختيار له، يكن لائمة للمذنب على ذنبه ولا محمدة لمحسن على إحسانه، الخامس أنه على ذلك التقدير كان المذنب أولى بالإحسان من المحسن ولكان المحسن أولى بالعقوبة من المذنب إلى آخر ما ذكره وبينه اتم بيان، وقال فيما افادان قلت أن الله عالم قبل أفعال العباد بها فلا يمكن أن يصدر عنهم خلافها، وذلك يستلزم الجبر ؟ قلنا هذا منقوض بافعال الله الحادثة فإنه كان عالما بها الأول قبل فعلها فلا يمكن عنه صدور خلافها فيكون سبحانه مجبورا فكل ما كان جوابهم فهو جوابنا. (ش) (*)

[ 29 ]

(باب) ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من أجاب وأقر لله عز وجل بالربوبية 1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسن بن محبوح، عن صالح بن - سهل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أن بعض قريش قال لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): بأي شئ سبقت الأنبياء وأنت بعث ؟ فقال: إني كنت أول من آمن بربي أول من أجاب حيث أخذ الله ميثاق النبين وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم، فكنت أنا أول نبي قال: بلي، فسبقتهم بالاقرار بالله عز وجل. * الشرح قوله (إني كنت أول من آمن بربي وأول من أجاب) له سبق من حيث الوجود لأن روحه خلقت قبل الإرواح كلها، وله سبق من جهة الإقرار بالربوبية لأنه أقربها حين وجوده منفردا وأقربها قبل الجميع عند أخذ الميثاق، ويظهر مما ذكرنا أن العطف في قوله وأول من أجاب للتأسيس دون التفسير والتأكيد وأما تأخيره في هذه النشأة فلوائد يعلمها الله تعالى وكان منها تعظيمه لأن سائر الأنبياء مقدمة له مخبرة لوجوده كالمقدمة للسلطان ومنها تكميله للاديان السابقة كما قال " بعتت لاتمم مكارم الأخلاق " ومنها تعظيم دينه من جهة نسخه للشرائع السابقة، وبمنها تعظيم كتابه لذلك ومنها أن يكون شاهدا لتبليغ جميع الأنبياء (عليه السلام). * الأصل 2 - أحمد بن محمد، عن محمد بن خالد، عن بعض أصحابنا، عن عبد الله بن سنان قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): جعلت فداك إني لأرى بعض أصحابنا يعتريه النزق والحدة والطيش فأغتم لذلك غما شديدا وأرى من خالفنا فأراه حسن السمت، قال: لا تقفل حسن السمت فإن السمت سمت الطريق ولكن قل حسن السيماء، فإن الله عزوجل يقول: * (سيما هم في وجوهم من أثر السجود) * قال: قلت: فأراه حسن السيما وله وقار فأغتم لذلك، قال: لا تغتم لم رأيت من نزق أصحابك ولما رأيت من حسن سيماء من خالفك، إن الله تبارك وتعالى لما أردا أن يخلق آدم خلق تلك الطينتين، ثم فرقهما فرقتين، فقال لأصحاب اليمين: كونوا خلقا بإذني، فكانوا خلقا بمنزلة الذر يسعى، وقال لأهل الشمال: كونوا خلقا بإذني، فكانوا خلقا بمنزلة الذر. يدرج، ثم رفع لهم نارا: فقال: ادخلوها بإذني، فكان أول من دخلها (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم أتبعه أولو العزم من الرسل وأوصياؤهم وأتباعهم ؟ ثم قال لأصحاب الشمال: ادخلوها بإذني، فقالوا: ربنا خلقتنا لتحرقنا ؟ فعصوا، فقتل لأصحاب اليمين: أخرجوا بإذني من النار، لم تكلم النار منهم كلما، ولم تؤثر فيهم أثرا ؟ فلما رآهم


[ 30 ]

أصحاب الشمال، قالوا: ربنا نرى أصحابنا قد سلموا فأقلنا ومرنا بالدخول، قال: قد أقلتكم فادخلوها، فلما دنوا وأصابهم الوهج، رجعوا فقالوا: يا ربنا لا صبر لنا على الاحتراق فعصوا، فأمرهم بالدخول ثلاثا، كل ذلك يعصون ويرجعون وأمر اولئك ثلاثا، كل ذلك يطيعون ويخرجون، فقال لهم: كونوا طينا بإذني فخلق منه آدم: قال فمن كان من هؤلاء لا يكون من هؤلاء ومن كان من هؤلاء لا يكون من هؤلاء، وما رأيت من نزق أصحابك وخلقهم فمما أصابهم من لطخ أصحاب الشمال وما رأيت من حسن سيماء من خالفكم ووقارهم فمما أصابهم من لطخ أصحاب اليمين. * الشرح قوله (يعتريه النزق والحدة والطيش) الاعتراء رسيد وفرا گرفتن، النزق والنزوق بر جهيدن وجستى نمودن وشتاب كردن وپيشى گرفتن. والحدة بتشديد الدال تيز شدن وتندى نمودن والطيش تيز شدن وتندى نمودن ومنحرف شدن تيراز شانه. وهذه المعاني متقاربة كلها من جهة الفساد في القوة الشهوية والغضبية. قوله (قال لا تقل حسن السمت فأن حسن السمت سمت الطريق) في الفائق: السمت أخذ النهج ولزوم المحجة، وسمت فلان طريق يسمت ويسمت يعنى من باب نصر وضرب ثم قالوا ما أحسن سمته أي طريقة التي ينتهجها في تحرى الحير والتري بزى الطالحين، وفي المصباح السمت والطريق والقصد والسكنة والوقار والهيئة، ولما جاء السمت بمعنى الطريق (1)


1 - ولما جاء السمت بمعنى الطريق " الحديث مرسل وتوجيه الشارح تكلف ويشبه أن يكون المراد ببعض أصحابنا السيارى أو أحد الاعاجم مثله قليل المعرفة بلسان العرب أو قليل الاهتمام به فزعم أن السمت منحصر في سمت الطريق وهو المعنى المشهور وكان المعنى الآخر غريبا لديه. وأما ما تضمن معناه من اختلاط الطينتين فالكلام فيه ما في أمثاله. وأعلم أن اختلاف النفوس في استعداداتها وصفاتها مما لا ينبغي أن ينكر بل هو محسوس ومروى قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، " الناس معادن كمعادن الذهب والفضة " قال صدر - المتألهين (قدس سره) يتفاوت العقول والإدراكات والاشواق والارادات بحسب اختلاف الطبايع والقوى والغرائز والجبلات فينزع بعضهم بطبعه إلى ما ينفر عنه الآخر ويستحسن بعضهم بهواه ما يستقبحه الثاني والعناية الإلهية اقتضت نظام الوجود على أحسن ما يتصور وأجود ما يمكن من التمام ولو تساوت الاستعدادات لفات الحسن والفضل في ترتيب النظام إلى آخر ما قال. ولا يخفى أن اختلافهم في ذلك لا ينافي اتفاقهم في قدرة فهم التكاليف واختيارهم في فعل الخير فهم متفقون فيما هو مناط التكليف ومختلفون في استعداد العلوم والصنايع ولا يلزم الاختلاف في الاستعداد ظلما وإنما يلزم الظلم أن يكونوا متفقين في التكليف مع الاختلاف في استعداد ولو فرض أن أحدا بلغ في البلادة إلى حد لا يعقل التكليف أصلا التزمنا برفع التكليف عنه كالمجانين. وقال صدر المتألهين في بعض كلامه فمن أساء عمله وأخطأ في اعتقاده فإنما ظلم نفسه بظلمة جوهره وسوء استعداده = (*)

[ 31 ]

السائل يوهم أن من خالفنا حسن مستقيم وذلك خطأ فلذلك نهاه عن ذلك القول وأمره بما هو أحسن منه لأن السيماء صفة لرجل يفرح بها من ينظر إليه سواء كان من أهل الحق أو الباطل. قوله (له وقار) أي سكينة نفسانية طمنية جسمانية. قوله (خلق تلك الطينتين) اشارة إلى الطينة المعلومة للمخاطب من سياق الكلام أو من قرينة المقام وأريد بتفريقهما بيمينه وشماله على سبيل التمثيل والتخييل أو تفريقهما بيمين جبرئيل وشماله كما في بعض الروايات. قوله (فكان أول من دخلها محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)) كما أنه أول من خلقت روحه وأول من خرج من طينة اليمنى وسعى إلى الجنة وبالجملة هو كان أول من المواطن كلها وفيض الحق إلى الجميع. قوله (لم تكلم النار منهم كلما) الكلم الجرح وفعله من باب ضرب. قوله (وأصابهم الوهج) بالتحريك حر النار. 3 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن علي بن إسماعيل، عن محمد بن - إسماعيل، عن سعدان بن مسلم، عن صالح بن سهل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأي شئ سبقت ولد آدم، قال: إني أول من أقر بربي، إن الله أخذ ميثاق النبيين وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا: بلي، فكنت أول من أجاب.


= وكان أهلا للشقاوة في معاده، وإنما قصر استعداده وأظلبم جوهره لعدم كونه أحسن مما وجد كما لا يمكن أن يلد القرد انسانا مثلا في أحسن صورة وأكمل سيرة، أقول بعد ما سبق منه (قدس سره) في الحاشية السابقة وغيرها من نفي الجبر وإثبات الأختيار وأن علم الواجب بما سيقع لا يوجب الجبر في فعل الإنسان كما لا يوجبه في فعل نفسه تعال وجب حمل ما ذكره أخيرا من شقاوة قاصري الاستعداد على النقص اللازم لكل ممكن عن ما فوقه من المراتب كنقص الدواب عن كمال الانسان فإنها لا تتألم بهذا النقص إذ لا تدركه والتألم فرع الادراك وليس عذابا لها جزاء على تقصيرها في امتثال تكاليفها وقد صرح هو بذلك في مواضع من كتبه. وقال أيضا: وكما لا تعترض على أقبح الناس أنه لم لا يكون مثل يوسف في الحسن كابي جهل فكذلك لا تعترض على شر الناس كأبى جهل مثلا لم لا يكون مثل خير الناس كمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فان اختلاف الغرائز والشمائل كاختلاف الأشكال والطبايع إلى آخر ما قال، والتمثيل بأبي جهل الحاق في الموضعين والحق أنه لا يعترض على أبي جهل وأمثاله في نقصه العقلي وعدم وصوله في الكمال الذاتي إلى كمال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وإنما يعترض عليه وعلى أمثاله بانهم تنزلوا عما اعطوه من الفهم والعقل فصاروا كالانعام بل هأ أضل بعد أن كان فيهم ما به تفوقوا عليها. وأعلم أن الإعتقاد بالقدر وأن كل شئ في هذا العالم مطابق لما ثبت في عالم آمر قبله من لوازم الإيمان بعالم الغيب ولذلك ترى الماديين والمائلين إليهم ينفونه وقا بعض الملاحدة: القدر للانسان هو الطريقة التي يختارها وكتابه هو الذي يحويه وجوده ويتتبع بيده أوراقه، والحق أن لا يتفحص عن سابقة له في عالم غير مرئى بل ليس هناك الاسيرة في هذا العالم المحسوس وهذا الذي ذكره اشنع من اعتقاد أبي جهل. (ش) (*)

[ 32 ]

* الأصل (باب) كيف أجابوا وهم ذر 1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه عن ابن أبي عمير، عن بعض أصحابنا، عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): كيف أجابوا وهم ذر ؟ قال: جعل فيهم ما إذا سألهم أجابوه، يعني في الميثاق. * الشرح قوله (جعل فيهم ما إذا سألهم أجابوه) " ما " موصولة والعائد محذوف أي أجابوه به والمراد به القوة الاستعدادية للنفس الناطقة القابلة (1)


1 - قوله " والمراد به القوة الاستعدادية للنفس الناطقة " قال العلامة المجلسي (قدس سره) أعلم أن آيات والأخبار الواردة في ذلك يقصر عنه عقول أكثر الخلق وللناس فيها مسالك: الأول طريقة المحدثين والمتورعين، فأنهم يقولون نؤمن بظاهرها ولا نخوض فيها ولا نطرق فيها التوجيه والتأويل، والثاني حملها على الاستعارة والمجاز والتمثيل، والثالث حملها على أخذ الميثاق في عالم التكليف بعد إكمال العقل بالبرهان والدليل إنتهى. وهو مشتبه المراد لا أدرى مقصود (قدس سره) إلا أن المسلك الثالث يشير إلى ما أختاره المفيد والسيد المرتضى والطبرسي وجماعة من أعاظم الطائفة في تفسير آيه " وإذ أخذ لك من بنى آدم من ظهورهم آه " وأما كلام الشارح فمعناه معلوم لنا ونشير إليه إن شاء الله ببيان أوضح. ثم أن الاستصعاب والاشكال في هذه الأخبار على ما أتعقله أنها تستلزم الجبر وليس غيرها من الشبه مما يعتد به وطريقة المحدثين والمتورعين ما ذكره المجلسي (قدس سره) إن كان بعد القطع ببطلان الجبر كما هو مذهب أهل البيت (عليهم السلام) لزم عدم ايمانهم بظاهر هذه الأخبار، فإن ظاهرها الجبر والظلم فلا معنى لقوله (رضي الله عنه) نؤمن بظاهرها فلا محيض عن تأويلها وإن أراد والايمان بظاهرها وان لزم الجبر فهو انكار لسائر الأحاديث والأخبار، وأما الحمل على الاستعارة والمجاز فلم يبين (رضي الله عنه) أن أي لفظ استعارة عن أي معنى، يحتمل أن يراد به ما ذكره الشارح أو ما ذركه المفيد عليه الرحمة، وبالجملة ما يدل من الروايات على الجبر فالوجه طرحه أو تأويله ولكن ليس جميعها كذلك فمنها ما لا يستفاد منه الأعلمه تعالى بحال عباده ومع قطع النظر عن شبهة الجبر فلا أرى في المعنى المتفق عليه بين أخبار الميثاق والذر شبهة يصعب حلها مثل مارووا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) " لما خلق الله آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة من ذريته إلى يوم القيامة " وما روى فيها معنى معقول لا استحالة له أصلا بل ليس من الغرائب أيضا فإن رؤية الأنبياء بعض ما سيأتي بعدهم في ما يرون ما الغيون أمر معتاد. وقد رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بني امية في صورة القردة ينزون على منبره يرجعون بالناس القهقرى، فإن قيل هذا كان نوما قلنا يتفق للأنبياء أن يروايقظة من الغيوب مثل ما يرى في المنام، قال المفيد (رضي الله عنه) في بعض كلامه فانبأه الله يعني أنبأ الله آدم بما يكون من ولده وشبههم بالذر الذي أخرجهم من ظهره وجعله علامة على كثرة ولده انتهى. وكذلك لا يبعد تمثيلهم بغير صورتهم في الرؤيا وكون بعضهم نورانيا وبعضهم ظلمانيا لأن الرواية دلت على أن آدم رأى على بعضهم نورا لا ظلمة فيه وعلى بعضهم ظلمة لا نور فيه ولا يوجب هذا جبرا كما لا يوجب رؤية نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) بني أمية يرجعون = (*)

[ 33 ]

السؤال أجابوا بلسان المقال، وهذا تفسير آخر غير ما ذكرناه سابقا من المعاني الثلاثة أن أريد به وقوع السؤال والجواب تقديرا وأما أن اريد به وقوعها تحقيقا كما يشير به لفظة إذا هو عين ما ذكرناه أو لا فليتأمل.


= بالناس القهقرى جبرا، وأما آية " وإذ أخذ وبك من بنى آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى " فحمله على مفاد أحاديث الذر خلاف ظاهر الآية بل صريحها وإن كان حديث الذر معقولا صحيحا فإنه عالى قال " من بني آم من ظهورهم " ولم يقل من آدم من ظهره، ومعنى الآية أن الله تعالى يخلق تدريجا في كل زمان من ظهور الآباء أبناءهم ويعطيهم من العقل والإدراك ما يلتفت به إلى وجوده، فإن الجنين إذا بلغ مبلغا يدرك نفسه وخرج عن رتبة النباتية إلى الحيوانية وله عقل هيولاني في اصطلاح الحكماء جعله الله مستعدا لا ينظر في آثار صنعه ويعرف الصانع صدق عليه قوله تعالى " أشهدهم على أنفسهم " فالحق مع المفيد والسيد المرتضى ومن تبعهما في تفسير الآية. وههنا اشكالات أخرى ذكرها الفخر الرازي في تفسير وهي تشبه أحاديث المجانين يتعجب من صدورها من مثله لا نطيل الكلام بنقلها ولعلنا نشير إليه في موضع آخر اليق إن شاء الله تعالى. (ش) (*)

[ 34 ]

* الأصل (باب) فطرة الخلق على التوحيد * الشرح قوله (باب فطرة الخلق على التوحيد) فطرة آفريد وآفرينش ودين والمراد هنا المعنى الأول وفي الأخبار المذكورة المعنى الأخير، وعبر عنه في بعضها بالتوحيد، وفي بعضها بالاسلام، وفي بعضها بالحنفاء وفي بعضها بمعرفة الرب والخالق والمال واحد. * الأصل 1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت: فطرة الله التي فطر الناس عليها ؟ قال: التوحيد. * الشرح قوله (قلت فطرة الله التي فطر الناس عليها) قال التوحيد، الفطرة بالكسر مصدر للنوع من الايجاد وهو ايجاد الانسان على نوع مخصوص من الكمال وهو التوحيد ومعرفة الربوبية مأخوذا عليهم ميثاق العبودية والاستقامة على سنن العدل وذهب إليه أيضا كثير من العامة، وقال بعضهم: الفطرة ما سبق من سعادة أو شقاوة، فمن علم الله تعالى سعادته ولد على فطرة الإسلام، ومن علم شقاوته ولد على فطرة الكفر، تعلق بقوله تعالى * (لا تبديل لخلق الله " وبحديث الغلام الذي قتله الخضر (عليه السلام) " طيع يوم طبع كافرا " (1)


1 - قوله " طبع يوم طبع كافر " أقول مفاد أخبار هذا الباب هو الاصل في الإعتقاد الذي يجب أن يعتمد عليه و يرجع ساير ما ينافيه إليه بالتأويل فإنه موافق للعقل والقرآن ومذهب أهل البيت (عليهم السلام) وإن خالف أكثر ما ورد في الأخبار السابقة وقلنا أنه موافق للعقل فإنه يدل على تساوي الناس جميعا بالنسبة إلى قبول التوحيد والإستعداد للمعرفة والتكليف وهو مقتضى العدل واللطف بخلاف ما مضى مما دل على أن بعض الناس فطروا على الجهل والعناد من طينة خبيثة لن يؤمنوا أبدا، ومعذلك يعذبون، وقلنا موافق للقرآن لأن مضمون الآية أن جميع أولاد آدم قالوا بلي، ومفاد ما سبق من الأخبار أن بعضهم أقر وبعضهم أنكر، والقران أولى بالقبول ويرجع ما يخالفه ظاهرا إليه، وقلنا إنه موافق لمذهب أهل البيت (عليهم السلام) لأن المتواتر الضروري المعلوم من مذهبهم القول بالمعلوم من مذهبهم القول بالعدل ونفي الجبر. وقد ذكر الشارح قريبا أن جميع ذرية آدم أعطوا قوة استعدادية للنفس الناطقة القابلة للكمالات والأعمال الخيرية، وعلي هذا فلا فرق بين بني آدم من هذه الجهة وكلهم مستعدون بفطرتهم لفهم التوحيد ومعرفة التكاليف وإنما يختلفون فيما سوى ذلك ألا ترى أن كل من يتكلم يستعمل في كلامه ألفاظا تدل على معاني كلية غير مدركة بالحواس بحيث إذا عد كلماته كانت الأسماء الجزئية المحسوسة فيها نادرة وهذا علامة إن المتكلم أدرك الكليات إذ عبر عنها وبذلك الإعتبار سمى النفس = (*)

[ 35 ]

بأن معنى لا تبديل لا تغيير يعني لا يكون بعضهم على فطره الكفر وبعضهم على فطرة الإسلام بل كلهم على فطرة الإسلام. ويؤيده ما في رواياتهم عنه (صلى الله عليه وآله) " ما من مولود إلا يولد على هذه الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه " فإن المراد بهذه الفطرة الإسلام، وعن الثاني بأن المراد بالطبع حالة ثانية طرأت وهي التهيؤ للكفر غير فطرة التي ولدعليها. وقال بعضهم: المراد بالفطرة كونه خلقا قابلا للهداية ومتهيئا لها لما أوجد فيه من القوة القابلة لافطرة الإسلام وصوابها (1) وإنما يدفع العقول عن إدراكها تغيير الابوين أو غيرهما. وأجيب عنه بان حمل الفطرة على الإسلام لا يأباه العقل، وظاهر الروايات من طرق الامة يدل عليه، وحملها على خلاف الظاهر لا وجه له من غير مستند قوى والله أعلم. * الأصل 2 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن عبد الله بن سنان، أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله عز وجل: * (فطرة الله التي فطر الناس عليها) * ما تلك الفطرة ؟ قال: هي الإسلام، فطرهم الله حين أخذ ميثاقهم على التوحيد، قال: * (ألست بربكم) * وفيه المؤمن والكافر. * الشرح قوله (فطرهم الله حين أخذ ميثاقهم على التوحيد) " علي " متعلق بفطر كما يشعر به عنوان الباب وآخره فيدل على أن الفطرة ما أخذ عليهم من العهد بالربوبية والإقرار بها وهم ذر، ثم الولادة


= المدركة للكليات ناطقة وادا كان جميع أفراد الإنسان مدركين ونحن نعلم أن إدراك الواجب تعالى ومعرفة وجوده لا بكنهه من أوائل المعقولات وإن ناقش أحد في كونه من الاوليات فلا محيص عن الإعتراف بكونها بديهية أو قريبة منها أمكر فسببه عدم التوجه والإلتفات، وبينه الغزالي بوجه أبسط نقله عنه الوافي وعن الوافي المجلسي بعنوان بعض المنسويين إلى العلم. (ش) 1 - قوله " لافطرة الإسلام وصوابها " وقد نقل العلامة المجلسي عبارة الشارح هنا من قوله الفطرة بالكسر مصدر للنوع إلى آخر الشرح وأورد الجملة هكذافطرة الإسلام وصوابها موضوع في العقول. فبدل لإلنافية بقوله لأن وكلتا العبارتين لا تخلوان عن سماجة، وغرض القائل أن الفطرة ليس فطرة الاسلام لأن الإسلام أيضا كدين اليهود والنصارى إنما يرسخ في قلوب الأطفال بتعليم الاباء ولو فرض أن أحدا نشأ في جزيرة منفردة لا يرى فيها من يعلمه الشهادين فلن يهتدي لأن يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فليس فطرة الإسلام بل فطرتهم على قابلية الهداية إن اقيم لهم أدلة رسالة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، والجواب أن المراد بالإسلام هنا الإسلام الاعم الذي كان يدعوا إليه إبراهيم وإسحاق ويعقوب وسائر الانبياء (عليهم السلام) وهو التسلم لأمر الله والاعتراف بالهيته وأن السعادة في امتثال أوامره ونحن ندعى أن المنفرد في جزيرة إذا ترك وعقله هداه عقله إلى التوحيد والمعرفة كما في رسالة حى بن يقظان. وليس المراد الاسلام الفقهى أعنى اظهار الشهادتين لفظا. (ش) (*)

[ 36 ]

يقع على ذلك حتى يقع التغيير من الابوين أو من طغيان النفس الإمارة ومزاولة الشهوات ومتابعة من الشيطان. قوله (وفيه المؤمن والكافر) كلام آخر لبيان ما وقع في الميثاق من الإيمان بعض وكفر آخرين لأن الميثاق كما وقع بالربوبية وأقروا بها كذلك وقع بالنبوة والولاية فمنهم من آمن بهما ومنهم من كفر، ثم الكفر بهما يستلزم الكفر بالربوبية أيضا (1) كثير من الروايات. * الأصل 3 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، بن ابن محبوب، عن علي بن رئاب، عن زرارة قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: * (فطرة الله التي فطر الناس عليها) * قال: فطرهم جميعا على التوحيد. * الشرح قوله (فطرهم جميعا على التوحيد) أي على معرفة الرب والإقرار بالربوبية والوحدانية والكفر به وقع بعد ذلك باحتيال النفس واغتيال الشيطان. * الأصل 4 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن ابن اذينة، عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله عز وجل * (حنفاء لله غير مشركين به) * ؟ قال: الحنيفية من الفطرة التي فطر الله الناس عليها لا تبديل لخلق الله، قال: فطرهم على المعرفة به، قال زرارة: وسألته عن قول الله عز وجل: * (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلي - الآية) * ؟ قال: أخرج من ظهر آدم ذريته إلى يوم القيامة، فخرجوا كالذر فعرفهم وأراهم نفسه ولولا ذلك لم يعرف أحد ربه وقال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " كل مولود يولد على والفطرة "


1 - قوله " يستلزم الكفر بالربوبية " أقول الاولى حمل قلوه (عليه السلام) " وفيه المؤمن والكافر " على أنه تعالى أخذ ميثاقهم على التوحيد وجعل فيهم قوة قبوله واستعداد فهمه على ما سبق من الشارح وكان فيهم من آمن بعد ذلك إذ جاء إلى الدنيا وفيهم من كفر. ولا ينافي أن يكون فطرة الجميع على التوحيد والمعرفة ولكن ظهر لادم (عليه السلام) حال ذريته في الدنيا وأن بعضهم سيخالفون الفطرة ويكفرون وبعضهم يوافقونها وظهور حالهم فيما بعد مخلتفا بالإيمان والكفر كما في كثير من الروايات لا يناقض كون فطرتهم على التوحيد. (ش) (*)

[ 37 ]

يعني المعرفة بأن الله عز وجل خالقه، كذلك قوله: " ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله ". * الشرح قوله (قال الحنفيفية من الفطرة التي فطر الناس عليها) وهي دين الإسلام ومعرفة الرب والإقار به، ويؤيد قوله تعالى " غير مشركين نبه " لوقوع الشرك به بعد الفطرة لامر يعتريهم، روى مسلم عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: قال الله تعالى " إني خلقت عبادي حنفاء كلهم وأنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشر كوابى ما لم أنزل به سلطانا " اجتالتهم أي ذهبت بهم وساقتهم إلى ما أردت من اجتال الشئ ذهب به وساقه، وقوله: " اجتالتهم عن دينهم " صريح في أن المراد بالحنفيفة دين الإسلام والاقرار بالرب. قوله (لاتبذيل لخلق الله) بأن يكون كلهم أو بعضهم حين الخلق مشركين به بل كلهم مسلمين مقرين به. قوله (قال أخرج من ظهر آدام) أواخر أولا آدم مثل أوائلهم وأواسطهم كانوا في ظهر آدم والله سبحانه أخرجهم على ما يتوالدون قرنا بعد قرن ونسلا بعد نسل فخرجوا كالذر في الصغر والحجم فعرفهم نفسه وأراهم بالرؤية العقلية الشبيهة بالرؤية العينية في الظهور ليحصل لهم الربط به ويعرفوه في دار الغربة ولو لا تلك المعرفة الميثاقية لم يعرف أحد ربه في هذه الدار التي هي دار الفراق ولو لم يكن رابطة تلك المعرفة وسابقة تلك الرابطة لحصل الفراق الكامل ومع تحقيق تلك الرابطة تحقق الفراق الكلى في أكثر الناس فكيف مع عدمها. قوله (قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " كل مولود يولد على الفطرة " يعنى المعرفة بأن الله عز وجل خالقه) الظاهر بالنظر إلى سياق الكلام أن التفسير من كلام أبي جعفر (عليه السلام) وهذه المعرفة معنى الفطرة في الآية المذكورة أولا وجوابهم ببلى منوط بهذه الفطرة المجبولة التغيير إنما يعرض من خارج كاضلال الابوين أو غيرهما، وقال بعض العامة وذلك كما أن البهيمة تلد بهيمة سالمة من النقص والتغيير ولا يلحقها قطع الاذن والذنب والكى وغيرها من المقابح إلا بعد الولادة. فكذلك الوالد يولد على الفطرة سالما عن الكفر حتى يدخل عليه التغيير من أمر خارج ويحمله على ما سبق عليه في الكتاب من شقاء، وقال صاحب النهاية: معنى الحديث أن الوالد يولد على نوع من الجبلة وهي فطرة الله وكونه متهيئا لقبول الحق طبعا وطوعا لوخلته شطياطين الانس والجن ثم ذكر ولد البهيمة نظيرا له. وقال صاحب المصباح قوله (عليه السلام) " كل مولود على الفطرة " قيل: معناه الفطرة


[ 38 ]

الاسلامية (1) مشكل أن حمل اللفظ على حقيقته فقط لأنه يلزم منه أن يتوارث المشركون مع أولادهم الصغار قبل أن يهودوهم وينصروهم، واللازم منتف بل الوجه حمله على حقيقته ومجازه معا أما حمله على مجازه فعلى ما قبل البلوغ وذلك أن اقامة الابوين على دينهما سبب يجعل الولد تابعا لهما فلما كانت الاقامة سببا جعلت تهويدا وتنصيرا مجازا، ثم اسند إلى الابويين توبيخا لهما وتقبيحا عليهما، فكأنه قال: وإنما أبواه باقامتهما على الشرك يجعلانه مشركا. ويفهم من هذا أنه لو أقام أحدهما على جعل رسول الله (عليه السلام) حكم الاولاد قبل أن يفصحوا بالكفر وقبل أن يختاروا لانفسهم حكم الاباء فيما يتعلق بأحكام الدنيا. وأما حمله على الحقيقة فعلى ما بعد البلوغ لوجود الفكر من الأولاد. 5 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن فضال، عن ابن أبي جميلة، عن محد الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل، * (فطرة التي فطر الناس عليها) * قال: فطرهم على التوحيد.


1 - قوله " قيل معناه الفطرة الإسلامية " أورد عبارة الشارح بعينها الجلسي (رضي الله عنه) في مرآه العقول إلى آخرها إلا بعض كلمات سقطت من قلمه أو قل النساخ. وكان قوله " هذا التفسير مشكل " اعتراض من الشارح على القائل المذكور، والظاهر أن المجلسي (رضي الله عنه) أيضا استحسن الإشكال، ولعله من خلط أحكام الفقه بقواعد العقائد والاصول بالفروع، والظاهر بالواقع والدينا بالاخرة لان أولا المشركين تابعوا لابائهم في الدنيا بالنسبة إلى فروعه الاحكام الفقيهه، ومحكومون بالكفر ظاهرا وليسوا تابعين في الآخرة بالنسبة إلى العقاب إذ ليسوا كافرين واقفعا، وكلامنا هنا في الاحكام الواقعية الاخروية لا الظاهرية الدنيوية ولا مانع من كون أولاد الكفار على فطرة التوحيد ولا يكونوا يهوديين ولا مشكرين ولا نصرانيين واقعا بالنسبة إلى أحكام الآخرة، ولكن يكونوا بحكم الكفار في الدنيا، والاستشكال من الشارح عجيب وليس الثواب والعقاب في الآخرة مترتبين على أحكام الفقه في الدنيا، فليس كل من يفتى الفقهاء بايمانهم ظاهرا من أهل النجاة في الآخرة، ربما كانوا منافقين ويعامل معهم معاملة المسلمين فيزوج فيهم ويتمكنون من المساجد ولا يجتنب أسآرهم وهم في الآخرة في أسفل درك من النار. والعكس وفي والوافي تحقيق في * الشرح هذا الباب وأورده المجلسي (قدس سره) في * الشرح الحديث الرابع ناقلا عنه بعنوان بعض المحققين لا نطيل الكلام بذكره فمن أراده راجع الوافي أو مرآة العقول. (ش) (*)

[ 39 ]

* الأصل (باب) كون المؤمن في صلب الكافر 1 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الحسن علي الوشاء، عن علي بن مسيرة قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): ان نطفه المؤمن لتكون في صلب المشرك، فلا يصيبه من الشر شئ، حتى إذا صار في رحم المشركة لم يصبها من الشر شئ، حتى تضعه فإذا وضعته لم يصبه من الشر شئ، حتى يجري عليه القلم. * الشرح قوله (ان نطقة المؤمن لتكون في صلب المشرك - الخ) أي النطفة التي خلق منها المؤمن لا يصيبها شئ من شر الابوين يعنى الكفر وغيره مما ينافي التوحيد. والحكم عليه بالكفر والنجاسة بالتبعية قبل البلوغ نظرا إلى الظاهر لا ينافي إيمانه. * الأصل 2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن علي بن يقطين، عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) قال: قلت له: إني قد أشفقت من عدوة أبي عبد الله (عليه السلام) على يقطين وما ولد، فقال: يا أبا الحسن ليس حيث تذهب، إنما المؤمن في صلب الكافر بمنزلة الحصاة في اللبنة، ويجئ المطر فيغسل اللبنة ولا يضر الحصاة شيئا. * الشرح قوله (قد أشفقت من دعوة أبي عبد الله علي يقطين وما ولد) الاشفاق الخوف والوا وللعطف على يقطين أو بمعنى مع وخوفه من سراية تلك الدعوة إلى نفسه فبشره (عليه السلام) بأنه ليس من أهلها لكونه مؤمنا صالحا غيرراض بفعل أبيه (1)


1 - قوله " غير رضا بفعل أبيه " قال الشيخ (رضي الله عنه) لم يزل يقطين في خدمة أبي - العباس وأبي جعفر المنصر ومع ذلك كان يتشيع ويقول بالامانة وكذلك ولده ويحمل الامول إلى جعفر بن محمد ونمى خبره إلى المنصور والمهدى فصرف الله عنه كيدهما انتهى. وعبارة الشارح تدل على ذم يقطين وكلام الشيخ (رضي الله عنه) أولى بالقبول من كلام الشارح لأنه أعرف وأعلم. وأما دلالة هذه الرواية وشهادة على بن يقطين على أبيه وتمثيل نفسه وأبيه بالمؤمن في صلب الكافر فليس فيها حجة ووصفوا إبراهيم بن هاشم بالحسن لا بالصحة ولكن المجلسي (رضي الله عنه) قال حسن كالصحيح وكان قوله حقا لو كان ابن أبي عمير راويا عن إبراهيم بن هاشم وليس كذلك بل إبراهيم روى عن ابن أبي عمير ومن يدعى تصحيح ما يصح عن ابن أبي عمير إنما يدعيه فيما بعده لا فيمن قبله. (ش = (*)

[ 40 ]

مخصوص بما إذا رض الولد بفعل أبيه فيؤخذ بظلمه وظلم أبيه جميعا. قوله (بمنزلة الحصاة في البنة) اللبنة مثل كلمة ما يبني به وقوله " يجئ المطر " إشارة إلى وجه التشبيه وهو أن ما يضر الكافر لا يضر المؤمن الذي فيه.


=) (*)

[ 41 ]

* الأصل (باب) إذا أراد الله عز وجل أن يخلق المؤمن 1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال، عن إبراهيم بن مسلم الحلواني، عن أبي إسماعيل الصيق الرازي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن في الجنة لشجرة تسمي المزن فإذا أراد الله أن يخلق مؤمنا أقطر منها قطرة، فلا تصيب بقلة ولا ثمرة أكل منها مؤمن أو كافر إلا أخرج الله عز وجل من صلبه مؤمنا. * الشرح قوله (الحلواني) في المصباح الحلوان بلد مشهور من سواد العراق وهي آخر مدن العراق وبينها وبين بغداد خمس مراحل، وهي من طرق العراق من مشرق والقادسية من طرف من الغرب، قيل سميت باسم بانيها وهو حلوان بن عمران بن - الحارث بن قضاعة. قوله (تمسى المزن) مزن ابرهاى سفيد وآن جمع مزنة است، وسميت الشجرة المذكورة بها لحملها ماء كثيرا كالسحاب وهذا الحديث كما يناسب (1)


1 - قوله " وهذا الحديث كما يناسب نقله المجلسي (رضي الله عنه) إلى آخر الشرح ثم نقل عبارة الوافي بعنوان بعض المحققين وفيها تحقيقات شريفة يليق بأن يتعمق فيها لا نطيل الكلام باعادتها فمن أراد رجع إلى الوافي أو مرآه العقول وكلام الشارح لا يخرج عنه، والذي يستفاد من هذا الحديث وأمثاله أن الجنة كما هي معاد وعلة غائية لاعمال الصالحين وكذلك لها مبدئية ودخل في عليتها الفاعلية بنحو من الانحاء إذ لماء هذا المزن تأثير في تربية الصالحين وهذا لا يجوب الجبر كما مر وبهذا يعرف معنى وجود الارواح قبل الاجساد لأن الروح قد يطلق على النفوس المنطبعة الحادثة بعد حصول المزاج الخاص واستعداد البدن بأن تصير النطفة العلقة مضغة إلى أن تصير قابلة لأن ينشأها الله خلقا آخر فيحدث هده النفس بعد حصول الإستعداد ولم تكن قبل ذلك ثم تتقلب النفس في مراتبها حتى إذا تجردت بالفعل وصارت عقلا وهو العقل الحاديث بعد النفس وبعد تركيب المزاج وليس هو بقيد الحدوث قبل البدن والموجود قبله هو علته المفيضة، ولما لم تكن العلة شيئا مباينا في عرض المعلول نظير المعدات كالاب بالنسبة إلى الابن بل هي أصل المعلول ومقومه والقائم عليه فإذا كانت العلة موجودة كان المعلول موجودا حقيقة وعرفا، ألا ترى أنه يسمى صاحب ملكة العلم القادر على تفصيل المسائل عالما بها لاندراجها في الملكة ولقدرة العالم على استخراجها كلما أراد كذلك المزن الذي يتقاطر منه المكلمات على نفوس الصالحين وتربيها يندرج فيه جميع تلك النفوس بتفاصيلها اندراجا اجماليا، وإنما تفصيل منه بوجودها الدنيوي ليحصل لها بالفعل ما كان كامنا بالقوة، ولو كانت النفوس على كمالها منفطة عن علتها موجوة بالفعل لم يكن حاجة إلى ارسالها إلى الدنيا وإنما الدنيا مزرعة الآخرة، وبالجملة كل ما في هذا = (*)

[ 42 ]

الممتزجات المنتقلة في أطوار الخلقة كالنطفة وما قبلها من موادها مثل النبات والغذاء وما بعدها من العلقة والمضغة والعظم والمزاج الانساني القابل للنفس الناطقة المدبرة، كذلك يناسب ما ذكر من أن المراد بالطينة طينة الجنة لأن طينة الجنة اختمارها وتربيتها بهذه الفرات أولا وتربيتها ماء المزن ثانيا لطف منه تعالى بالنسبة إلى المؤمن ليحصل الوصل إلى أعلى مراتب القر ب.


= العالم عكس من موجود مثالي أو عقلي قبله ينطبع على المواد مطابقا لمثاله أو ظله وشبحه وما شئت فسمه وأحسن التعبيرات عنه ما في القرآن حيث قال " ونفخنا فيه من روحنا " " وأنشأنناه خلقا آخر " ولا يكون النفخ الامن نفس موجوده قبله وإن كان حصوله في الجسم واتصاف الجسم وبالحياة بسببه حادثا. (ش) (*)

[ 43 ]

* الأصل (باب) في أن الصبغة هي الإسلام 1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، ومحمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد جميعا، عن ابن محبوب، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: * (صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة) * قال: الإسلام، وقال في قوله عز وجل: * (فقد استمسك بالعروة الوثقى) * ؟ قال: هي الإيمان بالله وحده لا شريك له. * الشرح قوله (صبغة الله) أي صبغنا الله صبغته وهي الإسلام دينه الحق وإنما سمى بها لأنه حلية الإنسان كما أن الصبغة الحلية المصبوغ أو للمشاكلة لوقوعه في مقابلة صبغة النصاري أولادهم في ماء لهم أصفر، وتفسير الصبغة بما ذكر مذكور في كلام الاكابر من المفسرين وغيرهم. فالحمل عليه أولى مما قيل من أن المراد بها ابداع الممكنات وأخرجها من العدم إلى الوجود واعطاء كل ما يليق به من الصفات والغايات وغيرها. قوله (ومن أحسن من الله صبغة) من باب الإنكار والمقصود أن صبغته تعالى أحسن من كل صبغة لأن أثر الفاعل القوى أكمل وأحسن من أثر غيره ولان كل صبغة غير صبغته تعالى داثره زائلة بخلاف صبغته تعالى بالإيمان فإنها باقية أبدا، نافعة دائما. قوله (قال هي الإيمان بالله) اريد بالكفر بالطاغوت الكفر بفلان وبالإيمان بالله الإيمان بعلي بن أبي طالب (عليه السلام) إلا أنه أضيف إلى الله ما يضاف إليه تعظيما له، فلا يرد أن تفسير العروة الوثقى بالايمان بالله يوجب التكرار بعد قوله " ويؤمن بالله ". 2 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن داود بن سرحان، عن عبد الله بن فرقد، عن حمران بن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عزوجل: * (صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة) * قال: الصبعة هي الإسلام. 3 - حميد بن زياد، عن الحسن بن محمد بن سماعة، عن غير واحد، عن أبان، عن محمد بن مسلم، عن أحدهما (عليهم السلام) في قول الله عز وجل: * (صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة) * قال: الصبغة هي الإسلام، وقال في قوله عز وجل: * (فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى) * قال: هي الإيمان.


[ 44 ]

* الأصل (باب) في أن السكينة هي الايمان 1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن أبي - حمزة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله عز وجل: * (أنزل السكية في قلوب المؤمنين) * قال: هو الإيمان، قال: وسألته عن قول الله عز وجل: * (وأيدهم بروح منه) * قال: هو الإيمان. * الشرح قوله (سألته عن قول الله عز وجل أنزل السكينة في قلوب المؤمنين قال هو الإيمان) عبر عن الإيمان بالسكينة والروح لأن الإيمان يوجب سكون القلب ووقاره وحياته وقد روى " أن القلب ليرجج (أي يهتز) ويتحرك فيما بين الصدور الحنجرة حتى يعقد على الإيمان فإذا عقد على الإيمان قر ". وفي رواية أخرى " اطمأن وقر " ولابد من بيان معنى الإيمان لأن فيه فوائد كثيرة فنقول الإيمان في اللغة التصديق، وفي الشرع قيل هو كلمتا الشهذادة، وقيل الطاعات مطلقا، وقيل الطاعات المفروضة، وقيل التصديق بالجنان والاقرار باللسان والعمل بالاركان، وقيل التصديق بالجنان مع الشهادتين، وقيل التصديق بالله وبرسوله وجميع ما جاء به - على الإجمال - والولاية، وهو الحق لدلالة الآيات والروايات عليه، أما الآيات فمنها * (وقلبه مطمئن بالإيمان " ومنها * (أولئك كتب في قلوبهم الإيمان " ومنها * (ولما يدخل الإيمان في قلوبكم " فإن اسناد الإيمان إلى القلوب في هذه الآيات يدل على أنه أمر قلبى ومنها * (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا " ومنها * (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى " ومنها * (والذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم " فإن اقتران الإيمان بالمعاصي في هذه الآيات يدل على أن العمل غير معتبر في حقيقته، ومنها * (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله " فإن الأمر بالاطاعة بعد ثبوت الإيمان يدل على ذلك أيضا. وأما الروايات فمنها تفسير السكينة التي في قلوب المؤمن والروح بالإيمان، وأما تفسير كلمة التقوى بالإيمان فلا يدل على أنه كلمتا الشهادة لأن اضافة الكلمة بيانية فيحمل التقوى على التصديق القبلى للتوافق بين الاحاديث، ومنها قول الصادق (عليه السلام) " المؤمن مؤمنان فمؤمن صدق بعهد الله ووفي بشرط، و مؤمن كخامة الزرع يعوج أحيانا ويقوم أحيانا " ومنها قوله (عليه السلام) " يبتلى المؤمن على قدر إيمانه وحسن عمله ومن صح إيمانه اشتد بلاؤه، ومن سخفت إيمانه وضعف عمله قل بلاؤه " ومنها قوله (عليه السلام) " ان القلب لتكون الساعة من


[ 45 ]

الليل والنهار ما فيه كفر ولا إيمان " وقر في القلوب والإسلام ما عليه المناكح " ومنها قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) " يا معشر من أسلم بلسانه ولم يخلص الإيمان إلى قلبه لا تذموا المسلمين " ومها قول أمير المؤمنين (عليه السلام) " أدنى ما يكون به العبد مؤمنا أن يعرف الله نفسه فيقرله بالطاعة، ويعرفه نبيه ويقرله بالطاعة، ويعرفه أمامه وحجته في أرضه وشاهده على خلقه فيقر له بالطاعة، قيل يا أمير المؤمنين: وإن جهل جميع الاشياء إلا ما وصفت ؟ قال: نعم إذا امر أطاع وإذا نهى انتهى ". ولاريب في أن هذه الإخبار تدل صريحا على أن الإيمان هو التصديق وحده من غير دخل لفعل اللسان والجوارح فيه، على أن كون الإيمان عبارة عن التصديق المخصوص المذكور لا يحتاج إلى نقله عن معناه اللغوي الذي هو التصديق مطلقا لأن التصديق المخصوص فرد منه بخلاف ما إذا كان المراد منه غيره من المعاني المذكورة. إذا عرفت هذا فنقول الأخبار الدالة على أن الإيمان هو العمل بالاركان والإقرار باللسان والتصديث بالجنان مثل ماروى عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) وغيره محموله على أن إضافة الفعل إلى الإيمان لاجل الكمال لا لأنه جزء منه أو شرط له أو أو لاجل أنه دليل عليه وليس له دليل أعظم منه فكأنه صار نفس على سبيل المبالغة. يدل عليه ما روى عن أبي جعفر (عليه السلام) " أن الإيمان ما استقر في القلب وأفضى به إلى الله عز وجل، وصدقه العمل بالطاعة لله والتسليم لامر الله ". وما روي عن الصادق (عليه السلام) قال: " قال أمير المؤمنين (عليه السلام): ان لاهل الدين علامات يعرفون بها: صدقت الحديث وأداء الإمامة ووفاء بالعهد - إلى أن قال - وما يقرب إلى الله عز وجل زلفى ". وما روي عن أمير المؤمنين عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال " عشرون خصلة في المؤمن فان لم تكن فيه لم يكمل إيمانه، ان من أخلاق المؤمن يا على الحاضرون الصلاة، والمسارعون إلى الزكاة والمطعون المسكين - الحديث ". وفي هذه الاخبار مع دلالتها على أن الايمان هو التصديق القلبي دلالة واضحة على أن العمل مصدق ومبين ومظهر له وموجب لكماله. * الأصل 2 - عنه، عن أحمد، عن صفوان، عن أبان، عن فضيل قال: قلت لأبي - عبد الله: (عليه السلام) " أولئك كتب في قلوبهم الإيمان " هل لهم فيما كتب في قلوبهم صنع ؟ قال: لا. * الشرح قوله (هل لهم فيما كتب في قلبوهم صنع قال لا) لعل المراد بالإيمان هنا نكت الحق ومعرفة الرب وليس للعبد صنع فيه. وإنما صنعه في قبوله، والتكليف إنما وقع به وقد روى " أن كل قلب ينكت الحق فيه قبل أو لم يقبل ".


[ 46 ]

3 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن إبن محبوب، عن العلاء عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: السكينة الإيمان. 4 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن إبن أبي عمير، عن حفص بن البختري وهشام بن سالم وغيرهما، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: * (هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين) * قال: هو الإيمان. 5 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى بن عبيد، عن يونس، عن جميل قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قوله عز وجل: * (هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين) * قال: هو الإيمان. قال: قلت: * (وأيدهم بروح منه) * قال: هو الإيمان. وعن قوله * (وألزمهم كلمة التقوى) * قال: هو الإيمان.


[ 47 ]

* الأصل (باب الإخلاص) * الشرح قوله (باب الإخلاص) الإخلاص في العمل تطهيره عن ملاحظة غير وجه الله تعالى ورضاه حتى عن الرجاء بالثواب والخوف من العقاب فضلا عن الرياء والسمعة وحب الجاه وأمثال ذلك فان ذلك شرك خفى قل من نجا منه لخفاء طرقه، ولذلك قال (صلى الله عليه وآله) " دبيب الشرك في أمتي أخفى من دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء " وهو أعظم ساد للسالك عن الوصول إلى الحق والقرب منه قال الله تعالى * (فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا " وإذا ارتفع ذلك سهل للسالك الوصول إليه، كما يرشد إليه ما روي " من أخلص لله أربعين صباحا ظهرت ينابيع الحكمة من قبله على لسانه ". * الأصل 1 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن عبد الله بن مسكان، عن عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: * (حنيفا مسلما) * قال: خالصا مخلصا ليس فيه شئ من عبادة الأوثان. * الشرح قوله (حنيفا مسلما) الحنيف المسلم المنقاد وهو المايل إلى الدين الحق وهو الدين الخالص، ولذلك فسره (عليه السلام) بقوله " خالصا لله مخلصا " عبادته عن ملاحضة غيره مطلقا، ثم وصفه على سبيل التأكيد بقوله " ليس فيه شئ من عبادة الاوثان أي الاوثان المعروفة أو الاعم منها فيشمل عبادة الشياطين في اغوائها وعبادة النفس في أهوائها، وقد نهى جل شأنه عن عبادتهما فقال * (ألم أعهد اليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان " وقال * (أفرأيت من أتخذ الهه هواه ". * الأصل 2 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن أبيه رفعه إلى أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا أيها الناس إنما هو الله والشيطان والحق والباطل والهدى والضلالة والرشد والغي والعاجلة والعاقبة والحسنات والسيئات، فما كان من حسنات فلله، وما كان من سيئات فللشيطان لعنه الله. * الشرح


[ 48 ]

قوله (يا أيها الناس إنما هو الله والشيطان) كان هو راجع إلى المقصود بقرينة المقام والهدى الطريقة الإلهية والشريعة النبوية، والحسنات والسيئات شاملتان لجميع ما تقدم ولذلك اقتصر بذكرهما في قوله " فما كان من حسنات فلله وهو ما اراده الله تعالى ووقع له " وما كان من سيئات فللشيطان " وهو ما نهى الله عنه وأمر به ولم يقع له. وفيه ترغيب في مراقبة النفس في حركاتها وسكناتها ليمنعها عن السيئات ويحملها على الحسنات ويراعي الإخلاص والتقرب فيها بأن يفعلها لوجه الله لا لغيره لئلا تصير سيئات. * الأصل 3 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن علي بن أسابط، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) أن أمير المؤمنين صلوات الله عليه كان يقول: طوبى لمن أخلص لله العبادة والدعاء ولم يشغل قبله بما ترى عيناه ولم ينس ذكر الله بما تسمع اذناه ولم يحزن صدره بما اعطي غيره. * الشرح قوله (طوبي) أي الجنة أوطيبها أو شجرتها أو العيش الطيب أو الخير لمن أخلص لله العبادة الدعاء وقصده بهما لاغيره. ولم يشغل قلبه عن الله وطاعته بما ترى عيناه من متاع الدنيا وزخارفها الشهية وصورها البهية ولم ينس ذكر الله بالقلب واللسان بما تسمع أذناه من الاصوات الداعية إلى الدنيا والكلمات المحركة عليها ولم يحزن صدره بما اعطى غيره من أسباب العيش وحرم هو، والإتصاف بهذه الصفات العلية انما يتصور لمن قطع عن نفسه العلائق الدنية، والله هو الموفق. * الأصل 4 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن أبيه، عن القاسم بن محمد، عن المنقري، عن سفيان بن عيينة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: * (ليبلوكم أيكم أحسن عملا) * قال: ليس يعني أكثر عملا ولكن أصوبكم عملا وإنما الإصابة خشية الله والنية الصداقة والحسنة، ثم قال: الإبقاء على العمل حتى يخلص أشد من العمل، والعمل الخالص: الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحد إلا الله عز وجل والنية أفضل من العمل، ألا وإن النية هي العمل، ثم تلا قوله عز وجل: * (قل كل يعمل على شاكلته) * يعني على نيته. * الشرح قوله (ليبلوكم أيكم أحسن عملا) قال الله تعالى * (تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شئ قدير الذي خلق الموت والحيوة * (ليبلوكم أيكم أحسن عملا " وصف نفسه أولا بان التصرف في الممكنات منوط بيد قدرته الكاملة وليس لاحد أن يمنعه من ذلك، وثانيا بان قدرته نافذة في كل


[ 49 ]

واحد منها، وليس لشئ منها اباء عن نفاذها، وثالثا بأنه خلق الموت والحياة أي قدرتهما أو أوجدهما، وفيه دلالة على أن الموت أمر وجودي، والمراد بالموت الموت الطاري على الحياة أو العدم الاصلي فانه قد يسمى موتا أيضا، وتقديمه على الاول لابد منه بالإضطرار، وعلى الثاني ظاهر لتقدمه بحسب التقدير، ثم علل الوصف الاخير بقوله * (ليبلوكم أيكم أحسن عملا " أي ليعاملكم معاملة المختبر مع صاحبه، فهو تمثيل لحاله بحال لمشاهد المعلوم منا لزيادة التنوير والإيضاح، وقوله " أيكم " مفعول ثان لفعل البلوى بإعتبار تضمينه معنى العلم. ووجه التعليل أن الموت داع إلى حسن العمل لكمال الإحتياج إليه بعده والحياة نعمة تقتضيه وتوجب الإقتدار به، وان اريد به العدم الاصلي فالمعنى أنه نقلكم منه وألبسكم لباس الحياة لذلك الإختبار، ولما كان اتصافنا بحسن العمل يتحقق بكثرة العمل تارة وباصابته اخرى أشار نفي ارادة الاول بقوله: (وليس يعني أكثر عملا) يعني لم يرد جل شأنه بقوله: " أحسن عملا " أكثر عملا لأن مجرد كثرة العمل من غير خلوصه وجودته ليس أمرا يعتد به بل هو تضييع للعمر فيما لا ينفع وإلى ادارة الثاني بقوله: (ولكن أصوبكم عملا) (با صواب العمل وجودته وخلوصه من الشوائب الرذيلة يوجب القرب منه تعالى وله درجات متفاوتة يتفاوت القرب بحسبها كلما كان أصوب كان من الرد أبعد ومن القبول أقرب، ثم بين الاصابة وحصرها في أمرين بقوله. (إنما الإصابة خشية الله والنية الصادقة والحسنة) تنبيها على أن قطع المسافة إلى آلة وأسباب ودفع موانع كقطع المسافة الحسية فلابد للسائر إلى الله تعالى من أمرين أحدهما العمل الصالح وهو بمنزلة المركوب يوصل راكبه إلى غاية مناه، والعمل الصالح لا يتحصل ولا يتقوم بدون نية صادقة حسنة، وهي أن يقصد بالعمل وجه الله تعالى والتقرب إلى لا غيره اذلو قصد غيره قيدمر كوبه بقيد وثيق يمنعه من الحركة من موضعه فيبقى متحيرا بل قد برجع قهقرى إلى أسفل السافلين باعانة قوم آخرين، وثانيهما حفظ العمل الصالح عن الإحباط بارتكاب المحارم وذلك انما يحصل بملكة الخشية والخوف من الله سبحانه وهي حالة تحصل بملاحظة عظمة الحق وهيبته ومشاهدة جلال كبريائه ولذة قربه وقبح مخالفته وشناعة معصيته وسوء عاقبتهما ولذلك قال الله تعالى * (انما يخشى الله من عباده العلمؤ ". ثم أشار إلى أن اصابة العمل وخلوصه ليس بمجرد وقوعه كذلك بل بإعتبار بقائه واستمراره مادام العمر كذلك أيضا بقوله: (الإبقاء على العمل حتى يخلص اشد من العمل) روى المنصف (رحمهم الله) في باب الرياء بإسناده عن علي بن أسباط عن بعض أصحابه عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال: " الإبقاء على العمل أشد من العمل، قال: وما الإبقاء على العمل ؟ قال: يصل الرجل بصلة وينفق نفقة لله وحده


[ 50 ]

لا شريك له فتكتب له سرا، ثم يذكرها فتحمي فتكتب له علانية ثم يذكرها فتمحى وتكتب له رياء " وفي الصحاح يقال: وفي المصاح يقال: أبقيت على فلان إذا رعيت عليه ورحمة، ويحتمل أن يكون المقصود هنا أن رعاية العمل وحفظه عند الشروع فيه وبعده إلى الفراغ منه وبعد الفراغ إلى الخروح منه الدنيا حتى يخلص ويعفو عن الشوائب الموجبة لنقصانه أو فساده أشد من العمل نفسه، وذلك لأن خلوصه وصفاءه لا يتحقق بمجرد أن يقول أصوم مثلا قربة إلى الله وإخطار معناه بالبال وإستعمال الجوارح وإلا كان المنافق باظهار كلمة الشهادة واخطار معناها مؤمنا بل لا بد مع ذلك من تأثر القلب عن العمل وانقياده إلى الطاعة واقباله إليه جل شأنه وانصرافه عن الدنيا وما فيها حتى يرى الناس كالا باعر ولا يتحصل ذلك إلا بتحصيل الفضائل النفسانية والملكات الروحانية والاجتناب عن رذالتها، فان النفس ما دامت عارية عن تلك الملكات والفضايل ومتصفة بالملكات الخبيثة والرذائل تنبعث إلى الفعل وتقصده وتميل إليه وتظهره ولو بعد حين تحصيلا للغرض الملائم لها بحسب ما يغلب فيها من تلك الصفات الرذيلة وتحصيل هذه الامور مشكل جدا لا يتيسر الوصول إليها إلا الذوى الفطرة السلمية والفكرة المستقيمة، فقد ظهر مما قررنا أن حفظ العمل من موحبات النقص والفساد أشد وأصعب من نفس العمل. ومنه يظهر سر ما رواه العامة والخاصة عنه (عليه السلام) " نية المؤمن خير من عمله "، ثم أشار إلى تفسير العمل الخالص وخلاصة القول فيه بقوله: (والعمل الخاص الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحد) حين العمل وبعده (إلا الله تعالى) تنبيها على أن الرياء وقصد المدحة والسمعة مناف للخلوص وحقيقة الرياء ارادة مدح الناس على العمل والسرور به والتقرب إليهم باظهار الطاعة وطلب المنزلة في قلوبهم والميل إلى اعظامهم له وتوقيرهم اياه واستجلاب تسخيرهم لقضاء حوائجه وقيامهم بمهماته وهو الشرك بالله العظيم، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " من صلى صلاة يرائي يها فقد أشرك، ثم قرأ " قل إنما أنا بشر مثلكم - الاية " وفي قوله " لا تريد " إشارة إلى أنه لو مدحه الناس على عمله من غير ارادته وسروره به لا يقدح ذلك في خلوص عمله بل هو من جميل صنع الله تعالى ولطفه به كما ورد في بعض وحيه " عملك الصالح عليك ستره وعلى اظهاره " وأمثال ذلك في الروايات كثيرة وإن دخله سرور باطلاع الناس ومدحهم فإن كان سروره باعتبار أنه استدل باظهار جميله وشرفه عليهم لا بحمدهم وحصول المنزلة في قلوبهم، أو باعتبار أنه استدل باظهار جميله في الدنيا على اظهار جميله في الآخرة على رؤس الاشهاد أو باعتبار أنهم يحبون طاعة الله تعالاى وميل قلوبهم إليها فلا يقدح ذلك في الخلوص وإن كان باعتبار رفع منزلته عندهم وتعظيمهم إياه إلى غير ذلك من التسويلات النفسانية والتدليسات


[ 51 ]

الشيطانية فهذا رياء وشرك محبط للعمل وناقل له من كفة الحسنات إلى كفة السيئات ومن ميزان الرجحان إلى ميزان الخسران، ولذلك ورد في كثير من الروايات الأمر باخفاء العمل واستاره حفظا له عن الرياء المنافي لاخلاصه المفسد له بالكلية، وظاهر هذا التفسير يدل على أن قصد الثواب أو الخلاص من العقاب لا ينافي الخلوص كما يدل عليه كثير من الرويات مثل قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " من ترك معصية مخافة الله عز وجل أرضاه يوم القيامة " وقوله " قال الله تعالى " لا يتكوا العاملون لى على أعمالهم التي يعملونها لثوابي - الحديث " وذهب جماعة من العلماء إلى أنه ينافي الاخلاص ويفسد العمل ودليلهم ضعيف والاحتياط ظاهر. قوله (والنية أفضل من العمل) النية في اللغة عزم القلب على أمر من الامور، في العرف ارادة ايجاد الفعل على الوجه المأمور به شرعا، وتلك الارادة إذا تحققت فيه تسرى إلى الاعضاء وتحركها إلى افعالها، وهي أفضل الاعمال، وإذا ضم هذا مع قوله (عليه السلام): " أفضل الاعمال أحمزها " يفيد أن النية أحمزها، وهو كذلك لأن الينة الخالصة يتوقف على قلع القلب عن حب الدنيا ونزعه عن الميل إلى ما سوى الله تعالى، وهذا أشق أشياء على النفس. ولهاذا (صلى الله عليه وآله وسلم): " رجعنا من الجهاد الاصغر إلى الجهاد الاكبر " حيث عد الجهاد الذي هو أشق الاعمال البدنية أصغر من جهاد النفس وصرف وجهها عن غير الله لأنه أشق أالاشق أفضل لما مر. على أن المراد نية المؤمن وهي أدوم وثمرتها أعظم من الاعمال لأن نيته أن لو بقى أبد الابدين أن يكون مع الايمان بالله والطاعة له وهذه النية من لوازم الايمان ودائمة لا تنقطع بخلاف العمل فانه ينقطع ولو بقى إلى مائة سنة أو أزيد وثمرتها الخلود في الجنة. والذي يدل عليه ما روى عن أبي عبد الله (عليه السلام) " إنما خلد أهل النار في النار لأن نياتهم كانت في الدنيا أن لو بقوا فيها أن يعصوا الله أبدا، وانما خلد أهل الجنة لأن نياتهم كانت في الدنيا أن لو بقوا فيها أن يطيعوا الله أبدا، فبالنيات خلذ هؤلاء وهؤلاء، ثم تلا * (قل كل يعمل على شاكلته " قال: " على نيته " فالعمل تابع النية في الرد والقبول والكمال والنقصان، وفرع لها وهذا وجه آخر لكونها أفضل من العمل لأن الاصل أفضل من الفرع ومن أراد أن يعلم وجوها آخر لافضليتها فليرجع إلى ما ذكره الشيخ في الحديث السابع والثلاثين من الاربعين. قوله (ألا وأن النية هي العمل) لما كان نظام العمل وكماله ونقصانه وقبوله ورده تابعة للنية ومسببة عنها بالغ في حمل العمل عليها بحرف التنبيه وحرف التأكيد واسمية الجملة وتعريف الخبر باللام المفيد للحصر، وضمير الفضل المؤكدله، ويندفع به ما عسى أن يتوهم من أن التفضيل انما يتعارف إذا كان المفضل من جنس المفضل عليه، والنية ليس من جنس العمل. * الأصل


[ 52 ]

5 - وبهذه الاسناد قال: سألته من قول الله عز وجل: * (إلا من أتى الله بقلب سليم) * قال: القلب السليم الذي يلقى ربه وليس في أحد سواه، قال: وكل قلب فيه شرك أو شك فهو ساقط وإنما أراد بالزهد في الدنيا لتفرغ قلوبهم للاخرة. * الشرح قوله (وليس فيه أو سواه) أي شغل بربه عن غيره من المال والوالد وغيرهما كمال قال الله تعالى * (يا أيها الذين آمنوا لاتلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فاولئك هم الخاسرون ". قوله (وكل قلب فيه شرك) لعبادة النفس والشيطان أو شك لميله إلى الدنيا وحبه لها وان كان فارعا عنها فهو ساقط عن الإعتبار أو عن قرب الحق، وانما أرادوا بالزهد في الدنيا وتركها لتفرغ قلوبهم للاخرة وتتفكر في أمرها وما يوجب النجاة والترقي فيها من ذكر الله وطاعته في الظاهر والباطن فلا فائدة في تركها ظاهرا مع اشتغال القلب بها وحبه لها وميله إلى عبادة النفس والشيطان. وقال بعض الحكماء: اثنان في العذاب سواء غني حصلت له الدنيا فهو بها مشغول مهموم، وفقير زويت عنها فنفسه تنقطع عليها حسرات فلا تجد إليها سبيلا. والحاصل أن ترك الدنيا لتطهير القلب عن حبها وعن طاعة النفس والشيطان وتصفيته عن غيره تعالى لينمو فيه بذر المحبة والذكرو يرتقى إلى المقام القرب ولا يتحقق ذلك بالقلب الملوث بشهواتها كلبذر في أرض السبخة. * الأصل 6 - بهذا الإسناد، عن سفيان بن عيينة، عن السندي، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال ما أخلص العبد الإيمان بالله عز وجل أربعين يوما - أو قال ما: أجمل عبد ذكر الله عزوجل أربعين يوما - إلا زهده الله عز وجل في الدنيا وبصره داءها ودواءها فأثبت الحكم في قلبه وأنطق بها لسانه، ثم تلا: * (ان الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحيوة الدنيا وكذلك نجزي المفترين) * فلا ترى صاحب بدعة إلا ذليلا ومفتريا عيل الله عز وجل وعلى رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلى أهل ليته صلوت الله عليه إلا ذليلا. * الشرح قوله (ما أخلص العبد الايمان بالله) لعل المراد بالمبد العبد العالم الاخلاص مرتبة عالية للعلماء لا يمكن حصوله بدون العلم بالمطالب. وبالايمان الايمان الكامل وهو الاعتقاد بالجنان والاقرار باللسان والعمل بالاركان، وبالاخلاص تجريد جميع ذلك عن غير وجه الله تعالى وتطهير القلب عما سواه وان كان لازما للفعل فلو أعتق العبد لله مع قصد الفراغ من ايفاقه أيضا، أو صلى في الليل


[ 53 ]

مع قصد حفظ متاعه، أو توضأ لله مع قصد تبرده أو أعطى السائل لله مع قصد تخلصه من ابرامه أو عمل طاعة أو ترك معصية لقصد الفوز بالثواب والنجاة من العقاب، فالظاهر أن هذه القصودتنا في الاخلاص كما ذهب إليه جمع كثير من العلماء أو تنافي كما له كما ذهب إليه طائفة. وبالاربعيه هذا العدد إذ فيه يبلغ الانسان إلى كماله في القوة العقلية والقوى الادراكية فيستعد استعدادا تاما لأن يزهده الله في الدنيا ويوفقه لتركها. قوله (فزهده (1) عليه أو ميل القلب إليها وصرفه عنها أو الظار والنافع منها في الاخرة أعنى المعصية والطاعة. قوله (فأثبت الحكمة في قلبه) أي جعلها راسخة فيه بحيث يرى بها صور الحقائق الملكوتية وجمال الاسرار اللاهوتية، ويجوز أن يقرأ " أنبت " بالنون فيكون تمثيلا لزيادتها ونموها بالإخلاص بانبات الزرع ونموه بالماء لقصد الايضاح. قوله (وأنطق بها لسانه) فبتكلم ما ينفعه وينفع غيزه في الدنيا والاخرة حتى يعد في الصديقين وهذه الخواص الخمس المرتبة على الاخلاص امهات المنجيات. قوله (ثم تلا) لعل الغرض من تلاوتها هو التنبيه على أن غير المخلص مندرج فيها والوعيد متوجه إليه أيضا لانك قد عرفت أن قلبه ساقط لكونه ذاشرك أو شك وهما بدعة وافتراء على الله ورسوله. والاية على تقدير نزولها في قوم مخصوصين لا يقتضى تخصيص الوعيد وهو الغضب والذلة بهم، لأن الامر إذا جرى على قوم لصفة وجدت في غيهم هي أو نظيرها جرى ذلك الامر في ذلك الغير أيضا، ومن ثم قيل " خصوص السبب لا يوجب تخصيص الحكم " وعلى هذه فالاية بيان لفحوى الحديث وحجة لمفهومه، فهي وان نزلت في أصحاب السامري لكن جرى حكمها في أصحاب سامري هذه الامة ويلحق الغضب والعقوبة والذلة بهم آجلا وعاجلا لقتلهم وأسرهم عند ظهور الدولة القاهرة، وكذا جرى حكمها في أصحاب الشرك والشك والبدعة والافتراء إلى يوم القيامة، والله أعلم. قوله (وكذلك) أي مثل جزاء من اتخذ العجل من الغصب والذلة. قوله (نجزيى المفترين) لانهم أيضا اتخذوا العجل إذا لعجل ما يعبد من دون الله وهم يعبدون أهواءهم ومفتريات نفوسهم. قوله (فلا ترى صاحب بدعة) أي فلا ترى صاحب كل بدعة، إلاذليلا في الدنيا والاخرة لأن


1 كذا. (*)

[ 54 ]

الذلة مترتبة على اتخاذ العجل واتخاذ العجل اتخاذ بدعة على الاطلاق وقوله " ومفتريا " عطف على صاحب بدعة أي فلا ترى مفتريا على الله آخره إلا ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون.


[ 55 ]

* الأصل باب الشرائع 1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر وعدة من أصحابنا، عن أحمد ابن محمد بن خالد، عن إبراهيم بن محمد الثقفي، عن محمد بن مروان جميعا، عن أبان بن عثمان، عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله تبارك وتعالى أعطى محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) شرائع نوح وإبراهيم وموسى وعيسى (عليه السلام): التوحيد والاخلاص وخلع الانداد والفطرة الحنيفية السمحة ولا رهبانية ولا سياحة، أحل فيها الطيبات وحرم فيها الخبائث ووضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم، ثم افترض عليه فيها الصلاة والزكاة والصيام والحج والامر بالمعروف والنهي عن المنكر والحلال والحرام والمواريث والحدود والفرائض والجهاد في سبيل الله. وزاده الوضوء وفضبه بفاتحة الكتاب وبخواتيم سورة البقرة والمفصل وأحل له المغنم والفئ ونصره بالرعب وجعل له الارض مسجدا وطهورا وأرسله كافة إلى الابيض والاسود والجن والانس وأطاه الجزية وأسر المشركين وفداهم، ثم كلف ما لم يكلف أحد من الانبياء وانزل عليه سيف من السماء، في غير غمد وقيل له: قاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك. * الشرح قوله (باب الشرايع) تذكر فيه الشرايع المعروفة وأصحابها وهم اولوا العزم من الرسل وما يشترك بينهم من غير تعيين وما لا يشترك أصلا أو بدونه. قوله (التوحيد والاخلاص وخلع الانداد) الانداد جمع " ند " بالكسر وهو مثل الشئ يضاده في اموره ويناده أي يخالفه يريد بها ما كانوا يتخذونه آلهة من دون الله وهذه الثلاثة بدل من الشرايع بدل البعض من الكل ليفيد أن الاشتراك بينهم في هذه الاصول الثابتة في جميع الشرايع ولم ينكرها أحد من الانبياء، ويرشد إليه قوله تعالى * (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا اليك وما وصينا به ابراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه " وانما خصها بالذكر مع تحقق الاشتراك في غيرها مثل الصوم والصلاة والوضوء والجهاد للاهتمان بها ولعدم تغيرها واختلافها بوجه بخلاف غيرها لاختلاف الكيفيات فيه، على أن عدم الحكم بالاشتراك لا يدل على الحكم بعدم الاشتراك ولم يتعلق غرض بذكر جميع المشتركات. قوله (والفطرة الحنيفية السمحة) عطف على شرايع واشتراك بعض ما يذكر لا ينافيه لعدم


[ 56 ]

دلالته على الاختصاص على أن كيفية ما في الشرايع السابقة فكأنه بهذه المغايرة غير مشترك، والمراد بها الملة المالية من الباطل إلى الحق أو من الكفر إلى الاسلام التي ليس فيها ضيق ولاحرج. قوله (لا رهبانية ولا سياحة) الرهبانية التزام رياضات شديدة ومشقات عظيمة كالاختصاء واعتناق السلاسل ولبس المسوح وترك اللحم ونحوها، والسياحة: مفارقة الاوطان والامصار والذهاب في الارض وسكون الجبال والمغارات والبراري وقد كانتا في شريعة عيسى (عليه السلام) استحسانا. قوله (أحل فيها الطيبات) أي أحل في هذه الفطرة الطيبات كلشحوم وغيرها مما حرم عليهم أو الاعم منه ومما طاب في الحكم مثل " ما ذكر اسم الله عليه " من الذبائح وما خلا كسبه من السحت وغيرهما، وحرم فيها الخبائث مثل الخمور والارواث والابوال والدم والميتة ولحم الخنزير والكلب وغير ذلك مما يتنفر عنه الطبع وتستكرهه النفس وتستخبثه " ووضع عنهم أصرهم والاغلال التي كانت عليهم " الاصر الثقل الذي يأصر حامله أي يحبسه في مكانه لفرس ثقله، والمراد الاثم والوزر العظيم، وقال صاحب الكشاف هو مثل لثقل تكليفهم وصعوبته نحو اشتراط قتل الانفس في صحة توبتهم، وكذلك الاغلال مثل لما كان في شرايعهم من الاشياء الشاقة نحوبت القضاء بالقصاص عمدا كان أو خطاء من غير شرع الدية وقطع الاعضاء الخاطئة وقرض موضع النجاسة من الجلد والثوب واحراق الغنائم وتحريم العروق في اللحم وتحريم السبت، وعن عطاء كانت بنو إسرائيل إذا قامت تصلى لبسوا المسوح وغلوا أيديهم إلى أعناقهم وربما ثقب الرجل ترقوته وجعل فيها طرف السلسلة وأوثقها إلى السارية يحبس نفسه على العبادة انتهى. هذا ان صح وثبت أنه كان مطبوعا في شرعهم كان أولى بالارادة لأنه أشبه بالاغلال. قوله (ثم افترض عليه فيها الصلاة) أي افرتض على محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) في الفطرة التي هي ملته والظاهر أن ثم لمجرد التفاوت في الرتبة، والمراد بالحلال ما عدا الحرام فيشمل الاحكام الاربعة وبالفرايض ما عدا الفرائض المذكورة أو ماله تقدير شرعي من المواريث وهي أعم منها أو غيرها مما ليس له تقدير وبالوضوء الوضوء على وجه مخصوص وضوء السابقين على تقدير ثبوته كان على وجه آخر كصلاتهم وصيامهم. قوله (وفضله بفاتحة الكتاب الخ -) لعل المراد بخواتيم سورة * (آمن الرسول الى آخرها " والمفصل سورة محمد إلى آخر القرآن وانما خص هذه الثلاثة بالذكر للاهتمام بها وزيادة شرفها بالنسبة إلى غيرها والا فقد فضله بهذا القرآن الذي لم يؤته أحدا من الانبياء.


[ 57 ]

قوله (وأحل له المغنم والفئ) المغنم الغنيمة وهي ما أخذ من أموال الكفار بحرب وقتال وهي مختصة بالرسول ومن يقوم مقامه بل بعضها وهو ما حواه العسكر بعد اخراج الخمس للعانمين ومن حضر القتال وان لم يقاتل وبعضها كالارض المفتوحة عنوة للمسلمين قاطبة وأحكام الكل مذكورة مفصلة في كتب الاصول والفروع والفئ يطلق تارة على ما أخذ بحرب وقتال وهو مرادف للغنيمة فحكمه واخرى ما أخذ مطلقا وهو المعنى يصدق أيضا على الانفال المختصة بالرسول ومن يقوم مقامة وسر ذلك أن الفئ بمعنى الرجوع فاما ان يراد به الرجوع مطلقا فهوا الثاني أو يراد به الرجوع بغلبة أو قتال فهو الاول ولم يقل أحد بأنه الرجوع بغير قتال وأن أردت زيادة توضيح فارجع إلى ما ذكرنا في باب الفئ والانقال من هذا الكتاب وفي تقديم له عدم المفعول وهو المغنم يفيد اختصاصه (صلى الله عليه وآله وسلم) باحلالها وهو كذلك لأن الغنيمة كانت محرمة على الاهم السابقة فكانوا يجمعونها فتنزل النار من السماء فتأكلها وكان ذلك بلية عظيمة عليهم حتى كان قد يقع فيها السرقة فيقع الطاعون بينهم فمن الله تعالى على هذه الامة باحلالها الحمد لله رب العالمين - قوله (ونصره بالرعب) مع قلة العدة وضعف العدة وكثرة الاعداء وشدة بأسهم والرعب الفزع والخوف وكان الله تعالى قد اوقع بقدرته القاهرة في قلوب أعدائه الفزع والخوف منه حتى إذا كان بينه وبينهم مسيرة شهر هابوه وفزعوا منه قال الله تعالى " لانتم أشد رهبة في صدورهم - الاية ". قوله (وجعل الارض له مسجدا وطهورا) أي جعل له الصلاة فيها كالصلاة في المسجد الامم السابقة في الاج أو جوز له الصلاة فيها دون الامم السابقة لانحصار جواز صلاتهم في البيع والكنائس، أو جعل له الارض مسجد أللجبهة لزيادة الخضوع والتقرب وكان لهم السجود على غيرها وكذلك جعل له الارض طهورا تطهر أسفل القدم والنعل ومحل الاستنجاء وتقوم مقام الماء عند تعذره في التيمم، والمراد بكونه طهورا أنها بمنزلة الطهور في استباحة الصلاة بها مثلا كاستباحتها بالماء ولو حمل الطهور على ظاهره لدل على ما ذهب إليه السيد المرتضى (رحمهم الله) من أن التيمم يرفه الحدث إلى وجود الماء كما هو مقتضى ظاهر هذه الصيغة. قوله (وأرسله كافة) الظاهر أن " الكافة " حال عما بعدها ونظيره قوله تعالى " وما أرسلناك إلا كافة الناس " أي إلا للناس جميعا ومن لم يجوز تقديم الحال على ذي الحال المجرور قالوا هي حال عن ضمير المنصوب في أرسل والتاء للمبالغة أي مانعا لهم عما يضرهم أو صفة لمصدر محذوف أي ارسالة كافة أو مصدر كالكاذبة والعافية والكل تعسف ودليلهم على المنع مدخول كما بين في موضعه، وفيه دلالة أن على أحد من الانبياء غيره لم يرسل إلى الجميع وحمله بالاضافة إلى


[ 58 ]

البعض غير ثابت. قوله (وأعطاه الجزية وأسر المشركين وفداهم) الجزية عبارة عن المال الذي يقرره الحاكم على الكتابي إذا أقره على دينه وقدرها منوط بحكمه وهي فعلة من الجزاء كأنها جزت عن قتله وأسره. والفداء بالكسر والمد والفحت وبا القصر فكاك الاسير بالمال الذي قررده الحاكم عليه يقال فداه يفديه فداء. قوله (ثم كلف ما لم يكلف أحد من الانبياء) " ثم " ها أيضا مثل ما مر لأن هذا التكليف أعظم التكليفات وأشقها على النفوس البشرية ولا يصبر عليها إلا من ايده الله تعالى بالنفس المقدسة وقد نقل أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أقدم في حرب حنين بعد انهزام أصحابه على أعدائهم الذين لم يعلم عددهم إلا الله وأظهر اسمه الشريف فقال أنا محمد بن عبد الله. وهذا دل على كمال شجاعته (صلى الله عليه وآله وسلم). قوله (وأنزل عليه سيف من السماء في غير غمد) لعل اسمه ذو الفقار وهو عند الصاحب (عليه السلام) وكوفه في غير غمد تحريص له على القتال واشارة إلى أن سيفه ينبغي أن لا يغمد. قوله (وقيل له قاتل - الخ) قال القاضي " قاتل في سبيل الله " إن تثبطوا وتركوك وحدك، لا يكلف الافعل نفسك، لا يضرك مخالفتهم وتقاعدهم، فتقدم إلى الجهاد إن لم يساعدك أحد فإن الله ناصرك لا الجنود. * الأصل 2 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن عثمان بن عيسى، عن سماعة بن مهران قال: قلت لابي عبد الله (عليه السلام): قول الله عز وجل: * (فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل) * فقال: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، قلت: كيف صاروا اولي العزم ؟ قال: لأن نوحا بعث بكتاب وشريعة وكل من جاء من نوح أخذ بكتاب نوح وشريعته ومنهاجه، حتى جاء إبراهيم (عليه السلام) بالصحف وبعزيمة ترك كتاب نوح لا كفرا به فكل نبي جاء بعد إبراهيم (عليه السلام) أخذ بشرية إبراهيم ومنهاجه وبالصحف حتى جاء موسى بالتوراة وشريعته، ومنهاجه، وبعزيمة ترك الصحف وكل نبي جاء بعد موسى (عليه السلام) أخذ بالتوراة وشريعته ومنهاجه حتى جاء المسيح (عليه السلام) بالانجيل، وبعزيمة ترك شريعة موسى ومنهاجه فكل نبي جاء بعد المسيح أخذ بشريعته ومنهاجه، حتى جاء محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فجاء بالقرآن وبشريعته ومنهاجه فحلاله حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة، فهؤلاء اولوا العزم من الرسل. * الشرح قوله (فاصبر) أمره بالصبر من المصايب وأذى القوم ومشاق التبليغ والتكاليف كما صبر اولو


[ 59 ]

العزم من الرسل، سموا بذلك لأن جدهم وصبرهم كان أعلى وأكمل ولعزيمة كل واحد نسخ شريعة من قله. وترك كتابه لا كفرا ولا انكارا لحقيقته، بل إيمانا به وبصلاحه في وقت دون آخر وللنسخ مصالح يعلمها الله تعالى والعبد مأمور بالتسليم وكان من جملته إبتلاء الخلق واختبارهم في ترك ما كانوا متمسكين به في الدنيا والدنيا دار الإبتلاء وكل ما يجري على الخلق فيها من الصحة والسقم والغني والفقر والتكاليف وغيرها كان الغرض منه هو الإبتلاء.


[ 60 ]

* الأصل (باب دعائم الإسلام) 1 - حدثني الحسين بن محمد الأشعري، عن معلي بن محمد الزيادي، عن الحسين بن علي الوشاء قال: حدثنا أبان بن عثمان، عن فضيل، عن أبي حمزة، عن أبي جعفر (عليه السلام): قال: بني الإسلام على خمس: على الصلاة والزكاة والصوم والحج والولاية ولم يناد بشئ كما نودي بالولاية. * الشرح قوله (بنى الإسلام على خمس) لعل المراد بالإسلام هنا جميع ما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من الدين الحق المشار إليه في قوله تعالى إن الدين عند الله الإسلام وقوله * (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا " وقوله * (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه " والامور الخمسة المذكورة أعظم أركانه وأكمل أجزائه المعتبرة في قوامه والولاية أعظم الخمسة، ولم يناد بشئ منها مثل ما نودى بالولاية لأن النداء بها وقع مكررا غير محصور وفي مجمع عظيم في غدير خم بخلاف غير الولاية فإنه لم يقع التكرار فيه مثل التكرار فيها ولم يقع في مجمع مثل مجمعها والمؤمن والمسلم بهذا الإسلام مترادفان وما اشتهر من أن بينهما عموما وخصوصا مطلقا فهو باعتبار معنى آخر سيجي إن شاء الله تعالى. * الأصل 2 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس بن عبد الرحمن، عن عجلان أبي صالح قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أوقفني على حدود الإيمان، فقال شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله والاقرار بما جاء به من عند الله وصلوة الخمس وأداء الزكاة وصوم شهر رمضان وحج البيت وولاية ولينا وعداوة عدونا والدخول مع الصادقين. * الشرح قوله (أوقفني على حدود الإيمان) يدل مع عنوان الباب على أن الإيمان والإسلام فيه متحدان، ولعل المراد بالإيمان الفرد الكامل منه لما ذكرنا سابقا أن العمل غير داخل في حقيقته أصلا، على أن حدود الشئ خارجة عنه فلا دلالة فيه على أن العمل جزء منه. قوله (فقال شهادة أن لا إله إلا الله - الخ) أي بالقلب واللسان كما تقضيه الشهادة وأيضا الكتمسان مع القدرة على الإظهار لا يجوز، والإظهار بدون الاعتقاد نفاق، وقال بعض العامة خصوص الشهادة غير معتبر فلو قال: الله واحد ومحمد رسول الله كفى. وأعلم أن أول الواجبات


[ 61 ]

بعد البلوغ الشهادتان إذ قد لا يكون وقته وقتا لغيرهما ولتقدمهما في جميع الاخبار إلا ما شذ وليس ذلك الالتأكده والاهتمام به. قوله (والاقرار بما جاء به من عند الله) اجمالا قبل العمل وتفصيلا بعده. قوله (وولاية ولينا) أي ولاية أهل البيت. قال في المصباح الولاية بالفتح والكسر النصرة، ويحتمل أن يراد بها الحكومة العامة والاضفاة على الثاني لامية وعلى الأول من باب اضافة المصدر إلى المفعول وهو أنسب بما بعده، ولعل المراد بالدخول مع الصادقين الدخول فيما دخلوا من الأحكام وغيرها ومتابعتهم فيها وإن لم يعلم وجه الحكمة إذ صدقهم وعصمتهم يقتضى وجود الحكمة في نفس الأمر ووجوب التسليم بها. * الأصل 3 - أبو علي الأشعري، عن الحسن بن علي الكوفي، عن عباس بن عامر، عن أبان بن عثمان، عن فضيل بن يسار، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: بني الإسلام على خمس: على الصلاة والزكاة والصوم والحج والولاية ولم يناد بشئ كما نودي بالولاية، فأخذ الناس بأربع وتركوا هذه - يعني الولاية -. * الشرح قوله (وتركوا هذه يعني الولاية) لم فيه من دواعى الترك مثل الحسد والبغض والعناد ما ليس في الأربع، والظاهر أن " يعني " من المصنف أو الفضيل مع أحتمال أن يكون منه (صلى الله عليه وآله وسلم). * الأصل 4 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسين بن سيعد، عن ابن العرزمي، عن أبيه، عن الصادق (عليه السلام) قال: قال: أثافي الإسلام ثلاثة: الصلاة والزكاة والولاية، لا تحص واحدة منهن إلا بصاحبتيها. * الشرح قوله (أثا في الإسلام ثلاثة - الخ) الاثا في جمع الاثية بالضم والكسر وهي الاحجار التي يوضع عليها القدر وتخصيص الثلاثة بالذكر لزيادة العناية والاهتمام دون الحصر فلا ينافي ما سبق من أنها خمسة تشبيها بالاثافي للتنبيه على أن الإسلام لا يستقيم ولا يتثب بدونها كالقدر بدون الاثافي، ثم إن اريد بالإسلام اليدن كما مر وهو الظاههر من أحاديث الباب فالثلاثة أجزاء له أشرف وأفضل من سائر أجزائه وإن اريد به الإيمان. الكامل فكذلك على احتمال، وإن اريد به الإيمان بمعنى التصديق فهي خارجة عنه وسبب لثباته وبقائه إذا التصديق أدنى مراتب الإيمان وإذا لم يؤيد بها


[ 62 ]

يفلت بسرعة والتشبيه يؤيد الاخير إذ الاثافي خارجة عن القدر وسبب لبقائه، والله أعلم. قوله (لا تصح واحدة منهن إلا بصاحبتيها) يظهر ذلك بالنظر إلى الاثافي هو يدل على " أن واحدة أو اثنتين منها لا تنفع بدون الاخرى ويؤيد ذلك ما روى عن أبي جعفر (عليه السلام) قال " إن الله تبارك وتعالى قرن الزكاة بالصلاة فقال * (أقيموا الصلوة وآتوا الزكوة " فمن أقام الصلوة ولم يؤت الزكاة فكأنه لم يقم الصلاة " وما روى عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " أول ما يحاسب به العبد الصلاة فإذا قبلت قبل ساير عمله وإذا ردت عليه رد عليه ساير عمله " والروايات الدالة على أن شيعة على أن شيعة علي (عليه السلام) من تبعه لا من يقول أنا أحبه ويخالفه كثيرة ويفهم من هذه الروايات وأمثالها أو قبول كل واحد من الثلاثة مشروط بالاخرين منها ولئن تنزلنا عن ذلك فلا ريب في أن كمالها مشروط بهما والله المستعان. * الأصل 5 - علي بن إبراهيم، عن أبيه وعبد الله بن الصلت جميعا، عن حماد بن عيسى عن حريز بن عبد الله، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: بني الإسلام على خمسة أشياء: على الصلاة والزكاة والحج والصوم والولاية، قال: زرارة: فقلت: وأي شئ من ذلك أفضل ؟ فقال: الولاية أفضل، لأنها مفتاحهن والوالي هو الدليل عليهن، قلت: ثم الذي يلي ذلك في الفضل ؟ الصلاة إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " الصلاة عمود دينكم " قال: قلت: ثم الذي يليها في الفضل ؟ قال: الزكاة لأنه قرنها بها وبدأ بصلاة قبلها وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): الزكاة تذهب الذنوب. قلت: والذي يليها في الفضل ؟ قال: الحج قال الله عز وجل: * (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين) * وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " لحجة مقبولة خير من عشرين صلاة نافلة ومن طاف بهذه البيت طوافا أحصى فيه اسبوعه وأحسن ركعتيه غفر الله له " وقال في يوم عرفة ويوم المزدلفة ما قال: قلت: فمإذا يتبعه ؟ قال: الصوم، قلت: وما بلا الصوم صار آخر ذلك أجمع ؟ قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " الصوم جنة من النار " قال: ثم قال: إن أفضل الأشياء ما إذا أنت فاتك لم تكن منه توبة دون أن ترجع إليه فتؤديه بعينه، إن الصلاة والزكاة والحج والولاية ليس يقع شئ مكانها دون أدائها وإن الصوم إذا فاتك أو قصرت أو سافرت فيه أديت مكانه أياما غيرها وجزيت ذلك الذنب بصدقة ولاقضاء عليك وليس من تلك الأربعة شئ يجزيك مكانه غيره، قال: ثم قال: ذروة الأمر وسنامه ومفتاحه وباب الأشياء ورضا الرحمن الطاعة للامام بعد معرفته، إن الله عز وجل يقول: * (من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولي فما أرسلناك عليهم حفيظا) * أما لو أن رجلا قام ليله وصار نهاره وتصدق بجميع ماله وحج جميع دهره ولم يعرف ولاية ولي الله فيواليه ويكون جميع


[ 63 ]

أعماله بدلالته إليه ما كان له على الله عز وجل حق في ثوابه ولا كان من أهل الإيمان، ثم قال: اولئك. المحسن ومنهم يدخله الله الجنة بفضل رحمته. * الشرح قوله (الولاية أفضل) يعين أن الولاية أفضل من المذكورات لانها مفتاحين بها ينفتح أبواب معرفة تلك المذكورات وحقايقها وشرايطها وآدابها وموانعها ومصلحها ومفسدها، والوالى وهو الحاكم الامين المنصوب من قبل الله تعالى هو الدليل عليهن لا غيره لظهور أنهن أمور متلقاة منه تعالى إلى صاب الوحى فلابد أن تسمع منه ويتمسك في معرفتها بذليله أو بمن يقوم مقامه بأمره لا بالاراء الفاسدة والعقول الناقصة الكاسدة التي من شأنها أن يزيد وينقص ويخترع ويبتدع، وليس حينئذ فضل فكيف أن نكون أفضل من الولاية التي بها قوامها وتحققها على الوجه المطلوب لله تعالى، وبالجملة المحتاج إليه من حيث هو أفضل من المحتاج ومنه يظهر أن والوالى أفضل من غيره وإلا لزم أن يكون الأمير مأمورا هذا خلف. قوله (فقال الصلاة) حكم (عليه السلام) بأن الصلاة أفضل من الزكاة والحج والصوم وقوله حجة إلا أنه تمسك بقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) " الصلاة عمود دينكم " استظهارا وتقوية وتقويما لقلب السايل واشعارا بأن قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) " عمود دينكم " حيث شبه الدين بالفسطاط وأثبت العمود له على سبيل المكنية التخييلة وحمل العود على الصلاة من باب التشبيه البليغ دليل واضح على أن الصلاة أفضل ما سواها بفسادها يفسد الدين بالكلية ولا ينتفع به كما أن الفسطاط لا ينتفع به مع وجود الطنب والاوتاد بانتفاء العمود، وقول الصادق (عليه السلام) " ما أعلم شيئا بعد المعرفة أفضل من هذه الصلاة " وقوله (عليه السلام) " أحب الاعمال إلى الله عز وجل الصلاة أيضا دليل واضح على ذلك، ولعل المراد بالصلاة المفروضة بدليل ن الصلاة أفضل من الزكاة التي هي أفضل من الحج والحج أفضل من عشرين صلاة نافلة ولما روى عن الصادق (عليه السلام) قال: " صلاة فريضة خير من عشرين حجة الحديث " لا يقال هذا ينافي ما روى أن الحج أفضل من الصلاة والصيام لأن المصلى يشتغل عن أهل ساعة وأن الصايم يشتغل عن أهله بباض يوم وأن الحاج يشخص بدنه ويضحى نفسه وينفق ماله ويطلب الغيبة عن أهله لا في مال يرجوه ولا إلى تجارة، وما روى عن النبي (عليه السلام) قال: " أفضلل الأعمال أحمزها " أي اشقها إذا لمشقة في الحج أكثر، لانا نقول يمكن الجواب عن الأول بأن المراد بالصلاة فيما نحن فيه الفريضة وفيما ذكر النافلة وتحقق العملة المذكورة في الفريضة أيضا غير مسلم لأن فعلها متوقف على معرفتها أربعة آلاف باب من المقدمات والمقارنات والواجبات والمندوبات والكيفيات والمحرمات والمكروهات والتروك القلبية واللسانية والأركانية وتحصيلها


[ 64 ]

لا يمكن بدون صرف العمر والمشقة الشديدة والاشتغال عن الأهل في أزمنة طويلة بخلاف الحج فإن مسايله وإن كانت كثيرة لكن لا يبلغ كثرة مسايل الصلاة المفروضة، ومن هذا تبين أن الفريضة أشق من الحج وبهذا يندفع الثاني أيضا وقد يجاب عنه بان ذلك فيما إذا كان المفضل والمفضل عليه من نوع واحد كالوضوء على الصيف والشتاء ونحوه وبفخصيصه بالصلاة وعن الأول بأن الحج المشتمل على الصلاة أفضل من الصلاة والصللاة أفضل من الحج متجرا عن الصلاة ومع قط النظر عن ثوابها. قوله (قال الزكاة لأنه قرنهابها) حكم بأن الزكاة أفضل من الحج والصوم ونبه عليه بأن الصلاة أفضل منهما وذكر الصلاة بعد الصلاة فهذا يدل على أن الزكاة أيضا أفضل منهما مقارنتهما دالة على اشتراكهما في الافضلية وتقاربها في الرتبة إلا أنه لما بدأ بالصلاة قبل الزكاة علم أن الصلاة أفضل من الزكاة لأن الاهم أولى بالتقديم لا لأن العطف تقتضيه. قوله (وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الزكاة تذهب الذنوب) هذا دليل آخر على أن الزكاة فضل من الحج فإن قلت: الحج أيضا يذهب بالذنوب فلا دلالة فيه على ما ذكر فالاولى أن يجعل هذا مع السابق دليلا واحد لأن هذا المجموع لم يوجد في الحج. قلت: يمكن أن يكون المقصود أن الزكاة علة لمحو الذنوب وذهابها ولم يثبت أن الحج علة مستقلة لمحوها لجواز أن يكون محوها بعد الحج على سبيل التفضل دون الوجوب وهذا القدر كاف في التفصيل. قوله (ولله على الناس حج البيت) دليل على أن الحج أفضل من الصوم والدلاة في قوله " ومن كفر " حيث عد ترك الحج كفرا دون الصوم وترك ذكر العقاب المتربت عليه تعظيما وتفلخيما وكر في موضعه ما يدل على كمال غنائه من غيره عموما وهو يعشر بأن جزاء اعمالهم عايده إليه إن خيرا فخيرا وإن شرا فشرا ففيه أيضا تذكر للعقاب على تركه وفي قوله " غفر له " حيث لم يقل الحج يذهب الذنوب كما قال في الزكاة نوع اشعار بما ذكرنا سابقا وكان " وقوله وقال في يوم عرفة ويوم المزادلفة ما قال " إشارة إلى الاحاديث الواردة في محو الذنوب بعد الحج. قوله (وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لحجة) هذا إنما يدل على أن الحج أفضل من الصوم لو كان عشرون نافلة أفضل من الصوم أو مساوية له ولا يبعد أن يجمل هذا دليلا على أفضليتها بالنسبة إليه. قوله (أحصى فيه اسبوعه) لعل المراد باحصاء الاسبوع ضبطها وحفظها مجردة عن الزيادة والنقصان وباحسان ركعتيه فعلهما في وقتها ومكانهما مع الشرائط والكيفيات والترتيل.


[ 65 ]

قوله (قلت فلما ذا يتبعه قال الصوم) لا يقال هذا السؤال ليس على ما ينبغي لأنه إذا علم أن جميع الاعمال المذكورة في الحديث أفضل من الصوم فقد علم أن الصوم في الفضيلة بعدها لانا نقول المقصود من السؤال استعلام وجه تأخير الصوم في الفضيلة عن الأعمال المذكورة كما أشار إليه بقوله " قلت وما بلا الصوم إلى آخره " ثم قوله (عليه السلام) " الصوم جنة من النار " إشارة إلى فضيلة الصوم وسر ذلك أن أعظم أسباب النار هو الشهوات والصوم يكسرها وقله " ثم إن أفضل الأشياء إلى آخره " اشارة إلى أن الصوم دون الأعمال المذكورة في الفضيلة وذلك لأنه لما لم يكن لتلك الأعمال بدل كما كان للصوم علم أن الاهتمام بها أعظم وأكمل والثواب المترتب عليها أفخم وأجزل فلذلك وقوعها بعينها. قوله (ما إذا أنت فاتك) الظاهر أن لفظ أنت زايد والمراد بالتوبة هنا ما يقوم مقامه أو الأعم منه ومن سقوطه رأسا. قوله (وإن الصوم إذا فاتك) أشار إلى أقسام الفوت وأحكامه اجمالالان الفوت أما للعذر مثل المريض وغيره أو للتقصير والتعمد في تركه أو للسفر واللازم أما القضاء في مكانه فقط، أو الفكارة فقط أو هما جميعا. أو لا هذا ولا ذلك. وتفصيله في كتب الفروع، فالصوم قد يكفى الصدقة مكانه ولا يجب قضاؤه بخلاف تلك الأربعة فإنها لا يجري مكانها إلا قضاؤها بعينها. قوله (ذروة الأمر) المراد بالأمر الدين وبطاعة الإمام انقياده في كل ما أمر ونهى وهي من حيث أنها أرفع الطاعات مرتبة واسناها منزلة " كالذروة، ومن حيث أنها توصل إلى المطلوب وهو قرب الحق كالسنام، ومن حيث أنها سبب للوصول إلى جميع الخيرات الدنيوية والاخروية كالمفتحا ومن حيث أن بها يتحقق الدخول في الدين ومعرفة قوانينه كالباب ومن حيث أنها توجب المغفرة والرحمة والدرحات العالية رضاء الرحمن. والضمير في قوله " بعد معرفته " راجع إلى الإمام أو إلى الله تعالى. قوله (إن الله عز وجل يقول كأنه استشهاد لما ذكر حيث أن طاعة الرسول وهو الإمام المقتدي به عين طاعة الله تعالى واتصاف طاعة الله تعالى بما ذكر بالأمور المذكورة أظهر من أن يخفى. قوله (أولئك المحسن منهم ألخ) كأنه إشارة إلى من يطيع الرسول وهو المؤمن العارف بحق الإمام والمقصود أن المحسن وهو من أطاعه بعد معرفته في أقواله وأعماله وأره ونهيه يدخله الله الجنة قبل الحساب بفضل رحتمه، وأما المسئ فمنهم فقد يناقشه في الحساب وقد يدخله الجنة بالرحمة أو الشفاعة وقد يجري عليه الوعيد، ويحتمل أن يكون إشارة إلى من لم يعرف الولاية والمحسن منه وهو الذي لم ينكر الولاية كما لم يعرفها وعلم بالخيرات أعنى المستضعف يدخله


[ 66 ]

الله الجنة بفضل رحمته وسيجئ أن المستضعف في المشية، والله أعلم. * الأصل 6 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن صفوان بن يحيى، عن عيسى بن السري أبي اليسع قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أخبرني بدعائم الإسلام التي لا يسع أحدا التقصير عن معرفة شئ منها، الذي من قصر عن معرفة شئ منها فسد عليه دينه ولم يقبل [ الله ] منه عمله، ومن عرفها وعمل بها صلح له دينه وقبل منه وعمله ولم يضق به مما هو فيه لجهل شئ من الامور جهله ؟ فقال: شهادة أن لا إله إلا الله والإيمان بأن محمدا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والاقرار بما جاء من به عند الله وحق في الأموال الزكاة، والولاية التي أمر الله عز وجل بها: ولاية آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: فقلت له: هل في الولاية شئ دون شئ فضل يعرف لمن أخذ به ؟ قال: نعم قال الله عز وجل: * (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول واولي الأمر منكم) * وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من مات ولا يعرف إمامه مات ميتة جاهلية وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وكان عليا (عليه السلام) وقال الاخرون: كان معاوية، ثم كان الحسن (عليه السلام) ثم كان الحسين (عليه السلام) وقال الاخرون: يزيد بن معاوية وحسين بن علي ولا سواء ولا سواء قال: ثم سكت ثم قال: أزيدك ؟ فقال له حكم الأعور: نعم جعلت فداك قال: ثم كان علي بن الحسين ثم كان محمد بن علي أبا جعفر وكانت الشيعة قبل أن يكون أبو جعفر وهم لا يعرفون مناسك حجهم وحلاهم وحرامهم حتى كان أبو جعفر ففتح لهم وبين لهم مناسك حجهم وحلالهم وحرامهم حتى صار الناس يحتاجون إليهم من بعده ما كانوا يحتاجون إلى الناس وهكذا يكون الأمر والأرض لا تكون إلا بامام ومن مات لا يعرف إمامه مات ميتة جاهلية وأحوج ما تكون إلى ما أنت عليه إذا بلغت نفسك هذه - وأهوى بيده إلى الله حلقه - وانقطعت عنك الدنيا تقول: لقد كنت على أمر حسن. أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان، عن عيسى بن السري أبي اليسع، عن أبي عبد الله (عليه السلام) مثله. * الشرح قوله (أخبرني بدعائم الإسلام - الخ) أن اريد به الدين كانت دعائمه داخلة فيه جزءا منه وإن أريد به الإيمان الكامل فذلك على احتمال أقوى من احتمال خروجها وشرطيها لقبوله أو لكماله، ولما كان السائل عالما بأن للإسلام دعائم لا يجوز لاحد التقصير في معرفتها وفي العمل بها حتى من قصر لم يكن له دين ولم يقبل منه عمل ومن عرفها وعمل بها صح دينه وقبل منه عمله ولم يعلمها بخصوصها، سأل عن تعيينها وتفصيلها فأجاب (عليه السلام) بأنها أربعة: الشهادتان والاقرار بما جاء


[ 67 ]

به الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إجمالا أو تفصيلا، والزكاة في الاموال، والولاية لال محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) والاخبار في ذكر الدعائم عددا وكما مختلفة كما يظهر للناظر فيها ولكن هذا الاختلال لا يضر إذا ليس فيها اشتمل علي الاقل تصريح في نفي ما عداه. قوله (ولم يضق به) وفي بعض النسخ لم يضر به يعني لم يضق أو لم يضر به من أجل ما هو فيه من معرفة دعائم الإسلام والعمل بها جهل شئ جهله من الامور التي هي ليست من الدعائم فقوله " ما هو فيه " تعليل لعدم الضيق أو الضرر وقوله لجهل شئ " تعليل للضيق أو الضرر. وقوله " جهله " صفة لشئ. وقوله من الامور " عبارة عن غير الدعائم من شعائر الإسلام فليتأمل. قوله (وحق في الاموال الزكاة) " حق " مرفوع عطف على الشهادة، أو مجرور عطفا على ما جاء به، والزكاة على التقديرين بدل عنه، ويحتمل أن يكون الزكاة مبتدأ و " حق " خبره. أو خبر مبتدأ محذوف، والجملة عطف على الشهادة أي والزكاة حق في الأموال أو هي حق فيها. قوله (والولاية التي أمر الله عز وجل بها) في قوله * (وإنما وليكم الله - الآية " وفي قوله " وأولى الأمر منكم ". قوله (هل في الولاية شئ دون شئ فضل يعرف لمن آخذ به) لعل المراد هل في الولاية شئ يدل عليها من الكتاب أو السنة وهل فيها دون ذلك الشئ وغيره فضل ظاهر وكمال مخصوص تعرف الولاية لمن أخذ بذلك الفضل واتصف به ؟ فأجاب (عليه السلام) بنعم وأشار أو لا إلى ما يدل عليها من الكتاب والسنة، وأو مأخيرا إلى ذلك الفضل الدال عليها البيان الشافي والعلم الوافي في بيان الشرائع والأحكام من مأخذها، وهذا من أعظم فضائل الولاية وصفاتها، والله أعلم. قوله (مات ميتة جاهلية) أي الميتة على صفة الكفر والبعد عن الحق ورحمته وقد مر توضيحه سابقا. قوله (وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)) ضمير كان في المواضع الخمسة راجع إلى الإمام ولما كان الحديث والاية يد لأن على أنه لابد في كل عصر من إمام مفترض الطاعة وكان هذا متفقا عليه بين الشيعة ومخالفيهم ذهبت الشيعة إلى أن الإمام في عصر النبي هو النبي وبعده على (عليه السلام)، ثم الحسن ثم الحسين ثم علي بن الحسين وهكذا واحد بعد واحد إلى المهدي الموجود إلى قيام الساعة وذهبت الفرقة المخالفة إلى أن الإمام معاوية عليه اللعنة ثم يزيد بن معاوية، ثم سلاطين الجور إلى قيام الساعة فأشار (عليه السلام) إلى الفريقين وإلى عدم المساواة بينهما وبين اماميهما بقوله ولا سولاء أي لا مساواة بين الفريقين ولا مساواة بين الإمامين لأن الفرقة الاولى هم الفرقة الناجية وإمامهم معصوم مفترض الطاعة من قبله تعالى والفرقة الثانية هم الهالكة وامامهم غاصب ضال مضل، ويحتمل أن


[ 68 ]

يكون المراد بالاول أنه لا مساواة بين من قال بامامة على (عليه السلام) وبين من قال بامامة الحسن والحسين (عليهما السلام) وبين من اقل بامامة يزيد بن معاوية أو لا مساواة بين الحسن والحسين (عليهما السلام) وبين يزيد بن معاوية. قوله (وكانت الشيعة قبل أن يكون أبو جعفر (عليه السلام) وهم لا يعرفون) الظاهر أن الواو للحال والظرف خبر كانت وجعلها زائدة لزيادة الربط وما بعدها خبرا، أو جعل كانت تامه بعيد، و " كان " في قوله " حتى كان أبو جعفر " تامة. قوله (وهكذا يكون الأمر) أي مثل ما ذكر من كون واحد بعد واحد إماما يكون أمر الإمامة والخلافة، والأرض لا تكون موجودة إلا بإمام مفترض الطاعة بأمره تعالى يعرف الحلال والحرام ويدعوا الناس إلى سبيل الله ولو بقيت بغير إمام لساخت باهلها. قوله (وأحوج ما تكون إلى ما أنت عليه) ما مصدرية أو عبارة عن الزمان يعني أشد احتياجك إلى وصف كنت عليه وهو القول بولاية ولى الله حين بلوغ روحك إلى حقومك فإن هذا والوصف ينفعك في هذه الساعة نفعا بينا لحضوره لديك حتى تعرفه وعنايته بشأنك واستنقاذة لك من إبليس وجنوده وبشارته إياك بالدرجات العالية والمقامات الرفيعة فستبشر وتقول حينئذ اظهارا للفرح والسرور لقد كنت على أمر حسن، وهو الإقرار بالولاية ومتابعة ولى الأمر. وفيه بشارة عظيمة ودلالة واضحة على أن المؤمن في جميع أزمنة عمره محتاج إلى الإمام لأنه نور قلبه وسبب هدايته سيما وقت الاحتضار فإن احتجاجه إليه حينئذ أشد وأقوى. * الأصل 7 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن مثنى الحناط، عن عبد الله بن عجلان، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: بني الإسلام على خمس: الولاية والصلاة والزكاة وصوم شهر رمضان والحج. 8 - علي بن إبراهيم، عن صالح بن السندي، عن جعفر بن بشير، عن أبان، عن فضيل، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: بني الإسلام على خمس: الصلاة والزكاة والصوم والحج والولاية ولم يناد بشئ ما نودي بالولاية يوم الغدير. 9 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن حماد بن عثمان، عن عيسى بن السري قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): حدثني عما بنيت عليه دعائم الإسلام إذا أنا أخذت بهازكي عملي ولمن يضرني جهل ما جهلت بهده، فقال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والاقرار بما جاء به من عند الله وحق في الأموال من الزكاة، والولاية التي أمر الله عز وجل بها ولاية


[ 69 ]

آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: من مات ولا يعرف إمامه مات ميتة جاهلية، قال الله عز وجل: * (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول واولي الأمر منكم) * فكان علي (عليه السلام)، ثم صار من بعد حسن ثم من بعده حسين ثم من بعده علي بن الحسين، ثم من بعده محمد بن علي، ثم هكذا يكون الأمر. إن الأرض لا تصلح إلا بإمام ومن مات لا يعرف إمامه مات ميتة جاهلية وأحوج ما يكون أحدكم إلى معرفته إذا بلغت نفسه ههنا - قال: وأهوى بيده إلى صدره - يقول حينئذ: لقد كنت على أمر حسن. * الأصل 10 - عنه، عن أبي الجارود قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): يا إبن رسول الله هل تعرف مودتي لكم وانقطاعي إليكم وموالاتي إياكم ؟ قال: فقال: نعم، قال: فقلت: فإني أسألك مسألة تجيبني فيها فإني مكفوف البصر قليل المشي ولا أستطيع زيارتكم كل حين قال: هات حاجتك، قلت: أخبرني بدينك الذي تدين الله عز وجل به أنت وأهل بيتك لأدين الله عز وجل به قال: إن كنت أقصرت الخطبة فقد أعظمت المسألة والله لاعطينك ديني ودين آبائي الذي ندين الله عز وجل به، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والإقرار بما جاء به من عند الله والولاية لولينا والبراءة من عدونا والتسليم لأمرنا وانتظار قائمنا والاجتهاد الورع. * الشرح قوله (إن كنت أقصرت الخطبة فقد أعظمت المسألة) في المغعرب " أقصرب الخطبة وأعرضت المسألة " أي جئت بهذه قصيرة موجزة وبهذه عزيمة واسعة. * الأصل 11 - علي بن إبراهيم، عن صالح بن السندي، عن جعفر بن بشير، عن علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير قال: سمتعه يسأل أبا عبد الله (عليه السلام) فقال له: جعلت فداك أخبرني عن الدين الذي افترض الله عز وجل على العباد، ما لا يسعهم جهله ولا يقبل منهم غيره، ما هو ؟ فقال: أعد علي فأعاده عليه، فقال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت من استطاع إليه سبيلا وصوم شهر رمضان، ثم سكت قليلا، ثم قال: والولاية - مرتين - ثم قال: هذا الذي فرض الله على العباد ولا يسأل الرب العباد يوم القيامة فيقول: ألا زدتني على ما افترضت عليك ؟ ولكن من زاد زاده الله، إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حسنة جميلة ينبغي للناس الأخذ بها. * الشرح قوله (فقال أعد على) لعل أمره بالاعادة للاستلذاذ بذكره أو ليسمع الحاضرون ويتوجهون إلى


[ 70 ]

استماع جوابه. قوله (وأقام الصلاة) حذفت التاء للاختصار، وقبل المراد باقامتها ادامتها وقيل فعلها على ما ينبغي وقيل فعلها في أفضل أوقاتها، وقيل جاء على عرف القرآن في التعبير عن فعل الصلاة بلفظ الإقامة دون أخواتها وذلك لما اختصت به من كثرة ما يتوقف عليه من الشرائط، والفرائض والسنن، والفضائل واقامتها ادامة فعلها مستوفاة جميع ذلك وإنما لم يذكر الجهاد لأنه لايبج إلا مع الإمام فهو تابع للولاية مندرج فيها. قوله (هذا الذي فرض الله عز وجل على العباد لا يسأل) لعل المراد أن هذه فروض مؤكدة عينية وما عداها إما مندوب أو واجب كفائي والله يسأل عباده يوم القيامة عن تلك الفروض لاعن هذا لكن من زاد زاده الله تعالى في الأجر، إن رسول الله سن سننا حسنة جميلة من الاداب والاخلاق والاعمال والعقودات والايقاعات والمواعظ والنصايح وغيرها ينبغي للناس الاخذ بها بعد تلك الفرائض ليزداد بذلك أجرهم ومنزلتهم ولو لم يأخذوا بها وقع النقص في مرتيتهم ولم يقع الفساد في دينهم. 12 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن محمد بن جمهور، عن فاضلة بن - أيوب عن أبي زيد الحلال، عن عبد الحميد بن أبي العلاء الأزدي قال: سمعت أبا - عبد الله يقول: إن الله عز وجل فرض خلقه خمسا فرخص في أربع ولم يرخص في واحدة. * الأصل 13 - عنه، عن معلى بن محمد، عن الوشاء، عن أبان، عن إسماعيل الجعفي قال: دخل رجل على أبي جعفر (عليه السلام) ومعه صحيفة فقال له أبو جعفر (عليه السلام): هذه صحيفة مخاصم يسأل عن الدين الذي يقبل فيه العمل فقال: رحمك الله هذا الذي اريد، فقال أبو جعفر (عليه السلام): شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) عبده ورسوله وتقر بما جاء من عند الله والولاية لنا أهل البيت والبراءة من عدونا والتسليم لأمرنا والورع والتواضع وانتظار قائمنا، فان لنا دولة، إذا شاء الله جاء بها. * الشرح قوله (والورع والتواضع) للورع عن محارم الله والتواضع لاولياء الله مدخل عظيم في قبول العمل وبلوغه إلى غاية الكمال ولذلك قال الله تعالى تعالى * (إنما يتقبل الله من المتقين " للتنبيه على أن العمل بدون التقوى كأنه ساقط عن درجة الاعتبار والقبول. * الأصل 14 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، وأبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار جميعا عن صفوان،


[ 71 ]

عن عمرو بن حريث قال: دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) وهو في منزل أخيه عبد الله بن محمد فقلت له: جعلت فداك ما حولك إلى هذا المنزل ؟ قال: طلب النزهة فقلت: جعلت فداك ألا أقص عليك ديني ؟ فقال: بلي، قلت: أدين الله بشهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله وأن الساعة آتية لاريب فيه وأن الله يبعث من في القبو إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم شهر رمضان وحج البيت والولاية لعلي أمير المؤمنين بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والولاية للحسن والحسين والولاية لعلي بن الحسين والولاية لمحمد بن علي ولك من بعده صلوات الله عليهم أجمعين وأنكم أئمتي عليه أحيا وعليه أموت وأدين الله به، فقال: يا عمرو ! هذا والله دين الله ودين آبائي الذي أدين الله به في السر والعلانية، فاتق الله وكف لسانك إلا من خير ولا تقل إني هديت نفسي بل الله هداك، فأد شكرما أنعم الله عز وجل به عليك ولا تكن ممن إذا أقبل طعن في عينه، وإذا أدبر طعن في قفاه ولا تحمل الناس علي كاهلك فإنك أوشك إن حملك الناس على كاهلك أن يصدعوا شعب كاهلك. * الشرح قوله (طلب النزهة) أي البعد عن الخلق وأصل النزهة البعد ومنه تنزيه الله تعالى أي تبعيده عن النقائص، أو المراد بها بعد الخاطر عن إلهم والحزن لكون مكانه نزها فيه سعة وماء وكلاء وخضر. قوله (وأدين الله به) في المصباح دان بالإسلام دينا بالكسر تعبد به وتدين به كذلك فهو دين مثل ساد وسيد. قوله (في السر والعلانية) السر القلب، والعلانية اللسان والجوارح أو الاعم. قوله (فاتق الله) أمره بالتقوى وهي التجنب عن المعاصي أو التنزه عما يشغل القلب عن الحق أو بالتقية عمن ليس من أهل هذا الدين. قوله (وكف لسان إلا من خير) أمره بكف اللسان إلا من خير ورغبه في حفظه عن كل ما يضره أو لا ينفعه في تعويده بالخير من القرآن والحديث وغيرهما من الامور النافعة وخص اللسان من بين الأعضاء الظاهرة لأنه أشرفها وأعمها تناوا ومفاسده أكثر فيجب حفظه عما لا ينفع خصوصا عما يضر، ثم أشار إلى أن الهداية نعمة من الله تعالى فيجب معرفة قدرها وأداء شكرها بصرف كل عضو فيما خلق لأجله. قوله (ولا تكن ممن إذا قبل) هذا في الحقيقة أمر بحن المعاشرة مع الخبق وبالتقية من موضعها أي كن بحسن صفاتك ممن يمدحه الناس في حضوره وغيبته ولا تكن بشرارة ذاتك وقبح صفاتك ممن يذمونه فيهما وفيه دلالة على وجوب التجنب عن المطاعن بقدر الإمكان. قوله (ولا تحمل الناس على كاهلك) الكاهل مقدم أعلى الظهر مما يلى العنق وهو الثلث


[ 72 ]

الاعلى وفيه ست فقر أو ما بين الكتفين أو موصل العنق في الصلب والشعب هنا محل الصدع والشق والتفريق وهو المنسج ومنه الشعبة وهي الطايفة من كل شئ والقطعة منه، وقد نهاه (عليه السلام) عن فعل ما يوجب حمل الناس على كاهله وقصدهم اضراره واهلاكه أو أشد، بل ربما يحصل من تعاونهم ما يجوب هلاكه ولذلك عبر عنه (عليه السلام) بالعبارة المذكورة المشعرة بالإهلاك أو الضرر العظيم. * الأصل 15 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي بن النعمان، عن ابن مسكان، عن سليمان بن خالد، عن أبي جعفر (عليه السلام): قال: ألا اخبرك بالإسلام أصله وفرعه وذروة سنامه ؟ قلت: بلي جعلت فذاك قال: أما أصله فالصلاة وفرعه الزكاة وذروة سنامه الجهاد، ثم قال: إن شئت أخبرتك بأبواب الخير ؟ قلت: نعم جعلت فدالك قال: الصوم جنة من النار، والصدقة تذهب بالخطيئة، وقيام الرجل في جوف الليل بذكر الله، ثم قرأ (عليه السلام): " تتجافي جنوبهم عن المضاجع ". * الشرح قوله (أما أصله فالصلاة) الامور الثلاثة من فروع الإسلام حقيقة لكن عد الصلاة أصله لأن قيامه يتحقق بها ولذك شبهت بالعمود في الخبر السابق وعد الجهاد مع الاعداء الظاهرة أو الأعم منهم ومن النفس والشيطان، ذرورة سنامه لأن به غاية ارتفاعة كما أن ذروة الشئ غاية إرتفاع ذلك الشئ، وخص الزكاة بالذكر من بين فروعه المتكثرة لأنها العمدة كالصلاة ثم ذكر من جملة أبواب الخير ثلاثة لكثرة مناها أو لها الصوم الواجب أو الاعم وهو جنة يقي صابحه عما يؤذيه أو يهلكه من الشهوات ومن الشروط لكماله حفظ جميع الجوارح عما يليق به، وثانيها الصدقة الواجبة أو الاعم وهي تذهب بالخطيئة تكفر عنها بل تحفظ عنها أيضا، وثالثها قيام الرجل جوف الليل بذكر الله ولم يذكر فائدته كما ذكر قبله للدلالة على الكثرة والتعميم مع احتمال أن يكون فائدته اذهاب الخطيئة أيضا بقرينة العطف. قوله (وذروة سنامه) الاضافية بيانية أو لامية إذ للسنام الذي هو ذروه البعير ذروة أيضا هي أرفع أجزائه. قوله (تتجافي جنوبهم عن المضاجع) كناية عن القيام إلى صلاة الليل والذكر.


[ 73 ]

* الأصل (باب) أن الإسلام يحقن به الدم (وتؤدي به الإمانة) وأن الثواب علي الإيمان * الشرح قوله (الإسلام يحقن به الدم) ظاهر أخبار هذا الباب وتواليه أن الإسلام يصدق على مجرد الإقرار باللسان من غير تصديق مطلقا سواء كان معه الإقرار بالولاية أو لم يكن وعلى التصديق المجرد عن الولاية وإن لم يكن معه الإقرار باللسان وعلى كليهما مجردا عن الولاية أو معها وإن الإيمان يصدق على التصديق بجميع ما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الداخل فيه الولاية سواء كان معه عمل بما يقتضيه ذلك التصديق أو لم يكن وإن كان المقرون بالعمل هو الفرد الكامل من الإيمان بل هو عند عند أهل العصمة (عليهم السلام) كما يشعر به كثير من أخبارهم ويظهر مما ذكرنا إن الإيمان أخص من الإسلام وأن بما هو أثر الإسلام ولوازهمه فهو أثر الإيمان ولوازمه دون العكس وذكر من أثر الإسلام ثلاثة امور الأول أنه يحقن به الدم ويحفظ به عن التقل والثاني أن تؤدي به الإمانة وكان المراد أن اداؤها إلى أهل الإسلام أوكد أو أنه مما يحكم به أهل الإسلام، وإلا فظاهر الآية والروايات الكثيرة أن أداء أمانة الكافر وإن كان حريبا واجب أيضا واحتمال ارادة أنه يحفظ به ماله كما يحقن به دمه أو يحفظ به أمانه للحربي أظهر، والله أعلم، والثالث أن تستحل به الفروج والتناكح، وهذا يدل على جواز التناكح بين أهل الإسلام مطلقا إلا أن في جواز تزويج المؤمنة بالمخالف قولين للاصحاب، ذهب المفيد والمحقق إلى جوازه والمشهور المنع لدلالة الأخبار عليه، وفي بعضها تعليل بأن المرأة تأخذ من أدب زوجها ويقهرها على دينه لكن في بعضها إرسال وفي بعضها ضعف وفي بعضها جهالة، الاحتيطا تركه تفصيا من الخلاف وحذرا من التهجم على استباحة الفروج وتطهيرا للتناسل وذكر من أثر الإيمان المختص به الثواب عليه وهذا يدل على أن غير المؤمن لا يثاب في الاخرة ولا يدخل الجنة كما يدل عليه الآيات والروايات المعتبرة واتفاق الفرقة الناجية. * الأصل 1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن الحكم بن أيمن، عن القاسم الصيرفي شريك المفضل قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: الإسلام يحقن به الدم وتودي به الأمانة وتستحل به الفروج والثواب. على الإيمان. 2 - علي، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن العلاء، عن محمد بن مسلم، عن أحدهما (عليهم السلام) قال:


[ 74 ]

الإيمان إقرار وعمل والإسلام إقرار بلا عمل. * الشرح قوله (الإيمان إقرار وعمل والإسلام إقرار بلاعمل) لعل المراد بالإقرار الاقرار بالشهدادتين وبالعمل عمل القلب وهو التصديق بجميع ما جاء به النبي ويطلق العمل عليه أيضا كما يسجئ في الباب الثالث بعد هذا الباب فيدل على أن الايمان مركب من الاقرار والتصديق كما ذهب إلى محقق الطوسي واستدل على أن الاول وحه وهو الاقرار باللسان ليس بايمان بقوله تعالى " قالت الاعراب آمنا لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا " فقد أثبت الاقرار اللساني ونفي الايمان فعلم أن الايمان ليس هو الاقرار اللساني، وعل أن الثاني وحده وهو التصديق ليس بايمان بقوله تعالى * (وحجدوا بها واستيقنتها أنفسهم " أثبت للكفار الاستيقان النفسي وهو التصديق لما كان مقرونا بالانكار كان غير معتبر لأن التصريح بالنقيض وفيه نظر أما أولا فلان التصديق لما كان مقرونا بالانكار كان غير معتبر لأن التصريح بالنقيض ربما كان مانعا من القبول والاعتبار، وأما ثانيا فلان هذه الآية انما تدل على أن التصديق وحده ليس بايمان ولا تدل على أن الاقرار باللسان جزء من الايمان، لجواز أن يكون شرطا له وينتفي المشروط بالنتفاء الشرط كما أن الكل ينتفي بانتفاء الجزء، ومن ثم حمل المتكلمون القائلون بأن الايمان نفس التصديق الاخبار الدالة على جزئية أعمال الجوارح للايمان على أنها للكمال بمعنى أن العمل ليس جزءا للايمان بحيث يعدم الايمان بعدم العمل بل اضافة العمل إليه اضافة كما وكذا حملوا الاخبار الدالة على جزئية الاقرار باللسان على أن شرط في الايمن لاجزء منه وعلى هذا حملوا الاخبار المختلفة الدال بعضها على أن الايمان نفس التصديق وبعضها على أن التصيديق والعمل مثل الصلاة والزكاة وغيرهما وبعضها على أنه التصئيق والاقرار ومعنى قوله (عليه السلام) " والاسلام اقرار بالشهادتين وغيرهما " بلاعتبار عمل قلبي وهو التصديق معه بناء على ما ذكرنا من أن المراد بالعمل العمل القلبي فحينئذ يناسب هذا الخبر الخبرين بعده مناسبة ظاهرة اما مناسبته للاول منهما فظاهرة وأما للثاني فلان ضم أفعال الجوارح إلى الاقرار من غير أن يكون معه تصديق قلبي يصدق عليه أنه اقرار بلال عمل أي بلا تصديق ولا يصدق عليه أنه اقرار وعمل فليتأمل. * الأصل 3 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن جميل بن دراج قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: * (قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم) * فقال لي: ألا ترى أن الإيمان غير الإسلام.


[ 75 ]

* الشرح قوله (قالت الاعراب آمنا) لما أقرت الاعراب بالشهادتين قالوا آمنا بهذا الاقرار فقال الله تعالى لنبيه * (قل لم تؤمنوا " بعد لأن هذا الإقرار ليس بايمان * (ولكن قولوا أسلمنا " به إذا لستم بمؤمنين * (ولم يدخل الايمان " أي التصديق الخاص * (في قلوبكم " ففيه دلالة على أن الإسلام نفس الإقرار اللساني والايمان نفس التصديق وقال بعض العامة الاسلام الشهادتان والايمان العمل ثم قرأ هذه الآية وفيه دلالة واضحة على أن المراد بالعمل القلبي وهو التصديق كما ذكرناه. * الأصل 4 - محمد بن يحيى، عن أحد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن سفيان بن السمط قال: سأل رجل أبا عبد الله (عليه السلام) عن الاسلام والايمان، ما الفرق بينهما فلم يجبه، ثم سأله فلم يجبه، ثم قال التقينا في الطريق وقد أزف من الرجل الرحيل، فقال له أبو - عبد الله (عليه السلام): كأنه قد أزف منك رحيل ؟ فقال: نعم فقال: فالقني في البيت، فلقيه فسأله عن الإسلام والإيمان ما الفرق بينهما ؟ فقال: الإسلام هو الظاهر الذي عليه الناس شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصيام شهر رمضان، فهذا الإسلام، وقال: الإيمان معرفة هذا الأمر مع هذا فإن أقر بها ولم يعرف هذا الأمر كان مسلما وكان ضالا. * الشرح قوله (فلم يجبه) كأنه ترك الجواب للتقية ولئلا يذكره السائل لاهل المدينة ولذلك أجابه عند خروجه منها. قوله (الاسلام هو الظاهر الذي عليه الناس) اريد بالظاهر الاعمال الظاهرة وقوله شهادة أن لا اله إلا الله وما بعده بدل له للايضاح، واريد بالشهادة الاقرار باللسان بالتوحيد والرسالة سواء كان معه تصديق أولا وقد عرفت سابقا أن الاسلام يصدق على كل واحدة منهما. قوله (الإيمان معرفة هذا الامر مع هذا) أي الايمان معرفة الولاية والتصديق بها مع هذا الظاهر المذكور، وقد يحتج به من يجعل الايمان مركبا من التصيديق والاعمال الظاهرة وفيه أن المعية لا تدل على الجزئية لانها أعم منها وعلى تقدير التسليم فلعله تفسير للايمان الكامل والمناقشة في كون الاعمال جزءا له أو شرطا سهل، والفرق بين الضال والكافر مع أن الضال كافر في الحقيقة أن الكافر لم يدخل في الدين والظال دخل فيه وترك أعظم أركانه وهو الولاية فضل عنه. * الأصل 5 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، وعدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد جميعا، عن


[ 76 ]

الوشاء، عن أبان، عن أبي بصير، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سمعته يقول: * (قالت الأعراب آمنا قال تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا) * فمن زعم أنهم آمنوا فقد كذب ومن زعم أنهم لم يسلموا فقد كذب. * الشرح قوله (فمن زعم أنهم آمنوا فقد كذب) أي فمن زعم أنهم آمنوا بجعل الإيمان عبارة عن مجرد الإقرار بالشهادتين والإعمال الظاهره فقد كذب، ومن زعم أنهم لهم يسلموا تمسكا بقوله تعالى * (الاعراب أشد كفرا ونفاقا " فقد كذب لأن كل واحد منهما زعم خلاف ما أخبر به الكتاب وكل من كان كذلك فهو كاذب. 6 - أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن حكم بن أمين، عن قاسم شريك المفضل قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: الإسلام يحقن به الدم وتؤدى به الأمانة وتستحل به الفرج والثواب على الايمان.


[ 77 ]

* الأصل (باب) إن الإيمان يشرك الاسلام (1) والإسلام لا يشرك الإيمان * الشرح قوله (ان الإيمان يشارك الإسلام والإسلام لا يشارك الإيمان) المشاركة وعدمها أما باعتبار المفهوم فإن مفهوم الإسلام داخل في مفهوم الإيمان دون العكس، أو باعتبار الصدق فإن كان مؤمن مسلم دون العكس، أو باعتبار الدخول فإن الداخل في مفهوم الإيمان داخل في الإسلام دون


1 - قوله " إن الإيمان يشرك الإسلام " حاصل مفاد الباب أن بين الإيمان والإسلام عموما وخصوصا مطلقا ومرجعه إلى موجبة كلية " كل مؤمن مسلم " وسالبة جزئية " ليس كل مسلم مؤمنا " ومثله بالكعبة والمسجد الحرام فكان موضع من الكعبة مسجد وليس كل موضع من المسجد كعبة. وهو ثمثيل المعقول بالمحسوس على ما هو شأن الانبياء والاوصياء، ومرجع ذلك إلى زيادة قيد في الايمان واختلف الروايات في ذلك القيد فبعضها على أنه ولاية أهل البيت (عليهم السلام) وبعضها على أنه العمل وبعضها على أنه تصديق القلب لشهادة اللسان ولا يبعد اطلاقه في أخبار على معان متعدده بحسب الموارد ويتعين بالقرينة، وقد ذكرنا شيئا في ذلك في مقدمة الكتاب، والاهم في ذلك أمران الاول اعتبار الاعمال في صدق الايمان وقد اختلف فيه المسلمون من صدر الاسلام فالخوارج على أن كل عمل معتبر فيه فيكون مرتكب الكبيرة كافرا وقالت المرجئة لا يضر مع التصديق شئ من امنكرات والفاسق كالصالح والحق وأن العمل لا يعتبر في الايمان ومرتكب الكبيرة ليس كافرا وان وصف بالفسخ وعذب في الاخرة خلافا للمرجئة، وهذا هو مذهب الشيعة وأكثر أهل السنة وما روى في الاخبار موافقا للخوارج أو للمرجئة يجب تأويله. الثاني من التزم بشئ يستلزم الكفر استزاما غير بين كالمجسمة ليس بكافر وبيان الاستلزام أن الجسم مركب وكل مركب ممكن وكل ممكن معلول لغيره ولو كان الواجب جسما كان معلولا لغيره وهو كفر وعلى ذلك بعض فقهائنا والحق أنه لا يكفر أحد إلا بالاستلزام البين ولذلك قالوا لواد على مدعي الباطل شبهة ممكنة في حقه قلبت منه ودرء عنه الحد وكذلك إذا اعتقد أحد أن الروح قوة حالة من تركيب مزاج البدن وليس مجردا عن البدن وهذا وأي الملاحدة الماديين الذين لا يعتقدون وجود غير القوى الجسمانية وينكرون تأثير شئ في شئ إلا أن يكون جسمانيا " يعلمون ظاهرا من الحيوة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون " ويترتب على اعتقادهم هذا انكار المعاد ونفي الثواب والعقاب واستحالة الحشر والنشر لكن رأينا جماعة من عوام المتزهدين لا يتنبهون لهذا الاستلزام، يشاركون الماديين في أصلهم ولا يلتزمون بلوازمه يعترضون على القائلين بتجرد النقس وينقضون أدلتهم على بقائنا بعد الموت وربما يصرحون بان النقس كنور السراج يطفي بفناء الدهن ومعذلك يزورون الاموات ويستغفرون لهم ويهدون إليهم ثواب العبادات ولا يعملون أن لازم أصلهم اليأس من أصحاب القبور وخرافية هذه الاعمال كما قال الله تعالى " كما يئس الكفار من أصحاب القبور " ولكن لما لم يكن الإستلزام بينا لا يحكم بكفر هؤلاء. (ش) (*)

[ 78 ]

العكس أو باعتبار الاحكام فإن أحكام الإسلام مثل حقن الدماء وأداء الامانة واستحلال الفرج ثابتة للإيمان دون العكس فإن الحكم المترتب على الإيمان مثل الثواب والنذر للمؤمن واعتاقه لا تكون للإسلام. * الأصل 1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسن بن محبوب، عن جميل بن - صالح، عن سماعة قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أخبرني عن الإسلام والإيمان أهما مختلفان ؟ فقال: إن الإيمان يشارك الإسلام والإسلام لا يشارك، فقلت، فصفهما لي، فقال: الإسلام شهادة لا إله إلا الله والتصديق برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، به حقنت الدماء وعليه جرت المناكح والمواريث وعلى ظاهره جماعة الناس، والإيمان الهدى وما يثبت في القلوب من صفة الإسلام وما ظهر من العمل به والإيمان أرفع من الإسلام بدرجة، إن الإيمان يشارك الإسلام في الظاهر والإسلام لا يشارك الإيمان في الباطن وإن اجتمعا في القول والصفة. * الشرح قوله (فقلت فصفهما لي) أي فسرهما لي وبين لي حقيقتهما حتى يظهر لي حقيقة المشاركة وعدمها. قوله (الإسلام شهادة ان لا إله إلا الله والتصديق برسول الله (صلى الله عليه وآله)) اكتفى بذكر الشهادة على التوحيد عن التصديق به وبذكر التصديق بالرسالة عن الشهادة عليها للقرينة والتعارف لأن التوحيد والرسالة أمران مقرونان فما يعتبر في أحدهما يعتبر في الآخر وأيضا الشهادة قلما تنفك عن التصديق قلما ينفك عن الشهادة. وعلى هذا فمحصل الكلام أن الإسلام التصديق بالله ورسوله والشهادتان وهذا لا ينافي ما مر من أن الإسلام الإقرار بلا عمل أي بلا تصديق لانا قد ذكرنا أن الاسلام يطلق على مجرد الاقرار أيضا. قوله (والإيمان الهدى) الهدى راه يافتن وراه نمودن ورسيدن بمقصود وراه راست والمراد به هنا الولاية وهي الصراط المستقيم وبما يثبت في القلوب من صفة الإسلام التصديق بالله وبرسوله وبما ظهر من العمل الشهادتان أو الأعم منهما ومن أقام الصلاة وايتاء الزكاة والصوم والحج واعتبار هذه الأعمال في الإيمان وقد مر وجهه مرارا. قوله (والإيمان ارفع من الإسلام بدرجة) لاعتبار التصديق بالولاية في حقيقة الإيمان دون الإسلام وبه يستحق العبد الثواب والكرامة في دار المقامة. قوله (ان الايمان يشارك الإسلام في الظاهر) لعل المراد أن الإيمان يشارك الإسلام في جميع


[ 79 ]

الأعمال الظاهرة المعتبرة في الإسلام مثل الصلاة والزكاة وغيرهما والإسلام لا يشارك الإيمان في جميع الامور الباطنة المعتبرة في الإيمان لأنه لا يشاركه في التصديق بالولاية وإن اجتمعا في الشهادتين والتصديق بالتوحيد والرسالة ومنه يتبين أن الإيمان كالنوع والإسلام كالجنس وقد يطلق الإسلام ويراد به هذا النوع مجازا من باب إصلاق العام على الخاص ولعل قوله تعالى * (وأخرجنا من كان فيها - الآية " من هذا الباب فقول من زعم أنهما مترادفان وتمسك بهذه الآية مدفوع. 2 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس بن عبد الرحمن، عن موسى ابن بكر، عن فضيل بن يسار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " الإيمان يشارك الإسلام والإسلام لا يشارك الإيمان ". 3 - علي، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن جميل بن دراج، عن فضيل بن - يسار قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: " إن الإيمان يشارك الإسلام ولا يشاركه الإسلام، إن الإيمان ما وقر في القلوب والإسلام ما عليه المناكح والمواريث وحقن الدماء، والإيمان يشرك الإسلام والإسلام لا يشرك الإيمان ". * الأصل 4 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن الحسن بن محبوب، عن أبي الصباح الكناني قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أيهما أفضل الإيمان أو الإسلام ؟ فان من قبلنا يقولون: إن الإسلام أفضل من الإيمان، فقال: الإيمان أرفع من الإسلام قلت: فأوجدني ذلك، قال: ما تقول فيمن أحدث في المسجد الحرام متعمدا ؟ قال: قلت: يضرب ضربا شديدا قال: أصبت، قال: فما تقول فيمن أحدث في الكعبة متعمدا قلت: يقتل، قال: أصبت ألا ترى أن الكعبة أفضل من المسجد وأن الكعبة تشرك المسجد والمسجد لا يشرك الكعبة، وكذلك الإيمان يشرك الإسلام والإسلام لا يشرك الإيمان. * الشرح قوله (أيهما أفضل) مبتدأ وخبر، والإيمان والإسلام تفسير لمرجع الضمير أو هما مبتدأ وأيهما أفضل خبر. قوله (قلت فأوجدني) من أوجد فلانا مطلوبه أظفره به أي أظفرني بالمطلوب وبينه لي بمثال جزئي. قوله (قلت يقتل قال أصبت) قيل يدل على كفر من استخف بالكعبة فان وجوب تعظيمها من ضروريات الدين. قوله (ألا ترى أن الكعبة أفضل من المسجد) فكما أن الكعبة أفضل من المسجد لخصوصية معتبرة في الكعبة غير معتبرة في المجسد حتى اختلف بها حكمهما، كذلك الإيمان أفضل من


[ 80 ]

الإسلام لخصوصية معتبرة في الإيمان غير معتبرة في الإسلام فلذلك اختلف حكمهما. قوله (وإن الكعبة تشرك المسجد والمسجد لا يشرك الكعبة) فإن مفهوم المسجد متحقق في الكعبة ومفهوم الكعبة غير متحقق في المسجد فالكعبة مسجد والمسجد ليس بداخل في الكعبة والداخل في الكعبة داخل في المسجد والداخل في المسجد ليس بداخل في الكعبة وهكذا حال ما نحن فيه أعنى الإسلام والإيمان. وبالجملة التناسب بين الممثل والممثل له ظاهر لاسترة فيه فلذلك جاء (عليه السلام) بهذا التمثيل من باب تشبيه المعقول بالمحسوس لقصد الإيضاح والتقرير. * الأصل 5 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، ومحمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد جميعا، عن ابن محبوب، عن علي بن رئاب، عن حمران بن أعين، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سمعته يقول: " الإيمان ما استقر في القلب وأفضى به إلى الله عز وجل وصدقه العمل بالطاعة لله والتسليم لأمره. والإسلام ما ظهر من قوله أو فعل وهو الذي عليه جماعة الناس من الفرق كلها وبه حقنت الدماء وعليه جرت المواريث وجاز النكاح واجتمعوا على الصلاة والزكاة والصوم والحج، فخرجوا بذلك من الكفر واضيفوا إلى الإيمان، والإسلام لا يشرك الإيمان والإيمان يشرك الإسلام وهما في القول والفعل يجتمعان، كما صارت الكعبة في المسجد والمسجد في الكعبة وكذلك الإيمان يشرك الإسلام والإسلام لا يشرك الإيمان وقد قال الله عز وجل: * (قالت الأعراب آمنا قل تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم) * فقول الله عز وجل أصدق القول، قلت: فهل للمؤمن فضل على المسلم في شئ من الفضائل والأحكام والحدود وغير ذلك ؟ فقال: لا، هما يجريان في ذلك مجري واحد ولكن للمؤمن فضل على المسلم في أعمالهما وما يتقربان به إلى الله عز وجل، قلت: أليس الله عز وجل يقول: * (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) * وزعمت أنهم مجتمعون على الصلاة والزكاة والصوم والحج مع المؤمن ؟ قال: أليس قد قال الله عزوجل: * (يضاعفه له أضعافا كثيرة) * فالمؤمنون هم الذين يضاعف الله عز وجل لهم حسناتهم لكل حسنة سبعون ضعفا، فهذا فضل المؤمن ويزيده الله في حسناته على قدر صحة إيمانه أضعافا كثيرة ويفعل الله بالمؤمنين ما يشاء من الخير، قلت: أرأيت من دخل في الإسلام أليس هو داخلا في الإيمان ؟ فقال: لا ولكنه قدا ضيف إلى الإيمان وخرج من الكفر وسأصبر لك مثلا تعقل به فضل الإيمان على الإسلام، أرأيت لو بصر رجلا في المسجد أكنت تشهد أنك رأيته الكعبة ؟ قلت: لا تجوز لي ذلك، قال: فلو بصرت رجلا في الكعبة أكنت شاهدا أنه قد دخل المسجد الحرام ؟ قلت: نعم، قال: وكيف ذلك ؟ قال: إنه لا يصل إلى دخول الكعبة حتى يدخل المسجد، فقال: قد أصبت وأحسنت، ثم: كذلك الإيمان


[ 81 ]

والاسلام. * الشرح قوله (وأفضى به إلى الله عز وجل) أشار به إلى أن المراد بما استقر في القلب مجموع التصديق بالتوحيد والرسالة والولاية لأن هذا المجموع هو المفضى إلى الله عز وجل لاكل واحد ولاكل اثنين منها، وقوله " وصدقه العمل " مشعر بأن العمل خارج عن الإيمان ودليل عليه لأن الإيمان وهو التصديق أمر قلبي يعلم بدليل خارجي مع ما فيه من الإيماء إلى أن الإيمان بلا عمل ليس بالإيمان. قوله (والإسلام ما ظهر من قول أو فعل) أي قول بشهادتين أو فعل بالطعات مثل قول بالشهادتين أو فلع بالطاعات مثل الصلاة والصوم والحج وغيرها فيدل على أن الإسلام يطلق على مجرد الطاعات من الاقرار بالشهادتين والتصديق بهما. قوله (فخرجوا بذلك من الكفر واضيفوا إلى الإيمان) ولم يكونوا من أخل الإيمان فماهم من هؤلاء ولا يجري عليهم شئ من أحكامهما إن كان يجري أحكامها على أهل الإيمان. قوله (وهما في القول والفعل يجتمعان) أي الإسلام والإيمان يجتمعان في القول بالشهادتين والفعل بالطاعات إلا أنهما داخلان في حقيقة الإسلام خارجان عن حقيقة الإيمان على ما هو الحق عند جماعة من المتكلمين ولعل المقصود التنبيه على تساويهما في طلب الفضائل والأحكام والحدود كما سيصرح به. قوله (فقول الله عز وجل أصدق القول) فهو يبطل قول كل من قال بأن الإسلام يرادف الإيمان، ومن زعم أن الاعراب لم يسلموا ومن زعم أنهم آمنوا. قوله (قلت فهل للمؤمن فضل على المسلم) كان قصده هل للمؤمن اختصاص بشئ من الفضائل النفسية والأحكام الشرعية وحدودها لا يكون المسلم مكلفا به فأجاب " ع " بأنهما متساويان في ذلك ولا يكون للمؤمن على المسلم فضل في شئ منه وإنما الفضل للمؤمن في العمل والثواب وما يتقرب به إلى الله تعالى من الطاعة والانقياد لأن الفضل مشروط بالإيمان وهو مفقود في المسلم. قوله (قلت أليس الله عز وجل يقول من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) لما حكم (عليه السلام) بأن للمؤمن فضلا على المسلم في الأعمال سأله حمران على سبيل التقرير أو الاستفهام بأنك زعمت أن المؤمن والمسلم مجتمعون على الصلاة والزكاة والصوم والحج وغير ذلك من الطاعات ومكلفون جميعا بها وقال الله تعالى * (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها " والموصول للعمون فهذه الآية مع ما زعمت تقتضي أن يكون المؤمن والمسلم متساويين في الفضل فكيف يكون للمؤمن فضل على


[ 82 ]

المسلم في الأعمال، فأجاب " ع " بأنه أليس قد قال الله تعالى * (من ذاالذي يقرض الله فرضا حسنا فيضاعفه أضعفافا كثيرة " وهذا الجواب على فهمنا الفاتر يحتمل وجهين الأول أن القرض الحسن هو العبادة الواقعة على كما لها وشرائطها وشرائط قبولها ومن جملة شرائطها هو الإيمان فالمؤمنون هم الذين يضاعف الله عز وجل لهم حسناتهم لا غيرهم فيعطيهم لكل حسنة عشرة وربما يعطيهم لكل حسنة سبعين ضعفا فهذا فضل المؤمن على المسلم ويزيده الله في حسناته على قدر صحة إيمانه وحسب كماله أضعافا كثيرة حتى أنه يعطيهم بواحدة سبعمائة أو أزيد ويفعل الله بالمؤمنين ما يشاء من الخير الذي لا يعمله إلا هو كما قال: * (ولدينا مزيد " والثاني أن تساويهم في فضل واحدة بعشرة على تقدير عموم الموصول لا يقتضي أن لا يكون للمؤمنين فضل على المسلم في الأعمال لأنه تعالى يضاعف له أعماله أضعافا كثيرة فيعطيه لكل حسنة سبعين ضعفا فهذا فضل المؤمن على المسلم إلى آخر ما ذكر ولعل الأول بالمعنى أقرب والثاني بالعبارة أنسب، لا يقال مادل من الآيات والروايات على أن أعمال غير المؤمن يكون هباء منثورا ينافي الإحتمال الثاني فكيف التوفيق بينهما ؟ لانا نقول لعل عمل غير المؤمن ينفعه في تخفيف العقوبة ورفع شدتها لافي دخول الجنة إذ دخولها مشروط بالإيمان فهو هباء منثور بأعتبار أنه لا يوجب دخول الجنة ونافع له في الجملة بأعتبار أنه يوجب تخفيف العقوبة والله يعلم حقيقة كلام وليه. قوله (قلت أرأيت من دخل في الإسلام أليس هو داخلا في الإيمان) الإسلام عبارة عن التصديق بالتوحيد والرسالة أو عن الإقرار بالشهادتين أو عن الاتيان بالأعمال الظاهرة أو عن المجموع أو عن الاثنين منها، وجوز السائل أن يكون ذلك نفس الإيمان أو ظن ذلك ولذلك قال على سبيل الاستفهام أو القرير أليس هو أي الداخل في الإسلام داخلا في الإيمان بأن يكون الإسلام عين الإيمان ؟ فقال " ع " لا لأن الإيمان أما التصديق المذكور مع التصديق بالولاية أو هذا مع الإقرار واالعمل فالإسلام أما جزء الايمان أو حد من حدوده، ومن البين أن جزء الشئ أو حده غير ذلك الشئ فالداخل في الإسلام غير داخل في الإيمان وليس بمؤمن ولكنه أضيف إلى الإيمان بالدخول في جزئه أو في حد من حدوده وخرج بذلك من منزل الكفر، وبالجملة للناس ثلاثة منازل الأول الكفر، والثاني الإسلام، والثالث الإيمان وهذا قد خرج من منزل الكفر ودخل في منزل الإسلام ولم يدخل في منزل الإيمان بعد، وأنت خبير بأن هذا السؤال لا يتوجه بعد العلم بما سبق اللهم إلا أن يقال أن السائل لم يعلمه كما هو حقه لكونه أمرا معقولا دقيقا والمعاني الدقيقة قد لا يعرفها المخاطب حق المعرفة إلا بالتكرار والتنبيه بمثال محسوس فلذلك أورد " ع " في الجواب مثالا محسوسا لقصد التفيهم والايضاح فليتأمل.


[ 83 ]

قوله (قلت لا يجوز لي ذلك) لأن المسجد ليس بكعبة لا يقال هذا لا يمائل ما نحن فيه لأن المسجد ليس كعبة ولا جزءا منها فلا يكون الداخل فيه داخلا فيها بخلاف ما نحن فيه فإن الإسلام جزء من الإيمان والداخل في الجزء داخل في الكل لانأ نقول قصد السائل أن الداخل في الإسلام هل هو مؤمن أم لا كما أشرنا إليه فليتأمل. قوله (فلو بصرت رجلا في الكعبة أكنت شاهدا أنه قد دخل المسجد الحرام قلت نعم) هذا لا يدل على أن الكعبة جزء المسجد بل يشعر بخلافه حيث قال: أكنت شاهدا أنه قد دخل المسجد ولم يقل أكنت شاهدا أنه في المسجد. قوله (لا يصل إلى دخول الكعبة) افحم لفظ الدخول لأن الوصول إلى الكعبة لا يستلزم الدخول فيها وهو المقصود هنا.


[ 84 ]

* الأصل باب آخر منه وفيه أن الإسلام قبل الإيمان 1 - علي بن إبراهيم، عن العباس بن معروف، عن عبد الرحمن بن أبي نجران عن حماد بن عثمان، عن عبد الرحيم القصير قال: كتبت مع عبد الملك بن أعين إلى أبي عبد الله (عليه السلام) أسأله عن الإيمان ما هو، فكتب إلي مع عبد الملك به أعين سألت رحمك الله عن الإيمان والإيمان هو الاقرار باللسان وعقد في القلب وعمل بالأركان والإيمان بعضه من بعض وهو دار وكذلك الإسلام دار والكفر دار فقد يكون العبد مسلما قبل أن يكون مؤمنا ولا يكون مؤمنا حتى يكون مسلما، فالإسلام قبل الإيمان وهو يشارك الإيمان فإذا أتى العبد كثيرة من كبائر المعاصي أو صغيرة من صغائر المعاصي التي نهى الله عز وجل عنها كان خارجا من الإيمان، ساقطا عنه إسم الإيمان وثابتا عليه إسم الإسلام، فإن تاب واستغر عاد إلى دار الإيمان ولا يخرجه إلى الكفر إلا الجحود والاستحلال أن يقول للحلال: هذا حرام وللحرام: هذا حلال ودان بذلك فعندها يكون خارجا من الإسلام والإيمان، داخلا في الكفر وكان بمنزلة من دخل الحرم ثم دخل الكعبة وأحدث في الكعبة حدثا فاخرج عن الكعبة وعن الحرم فضربت عنقه وصار إلى النار. * الشرح قوله (والإيمان هو الأقرار باللسان وعقد في القلب وعمل بالأركان) هذا تفسير الإيمان الكامل الذي يكون المؤمنين المتقيق المتورعين المخلصين وهو مركب من هذه الامور أعنى الاقرار بالشهادتين والتصديق بالتوحيد والرسالة والولاية والإمامة، والعمل بالأركان الظاهرة مثل السمع والبصر واللسان واليد والرجل باستعمال كل واحد منها فيما خلق لاجله وقد شاع اطلاق الإيمان عليه عند أرباب العصمة (عليهم السلام) فكان غيره أعنى العقد في القلب وإن كان أيمانا في نفس الأمر لضعفه وقلة أثره ليس بإيمان كما يرشد إليه الحصر في قوله تعالى * (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون " وعلى هذا لا منافات بينه وبين ما دل من الأخبار على أن الإيمان عقد القلب. قوله (والإيمان بعضه من بعض) إذ منازل الكمال متفاوتة والادنى منها معدلحصول الأعلى وبذلك يبلغ الانسان غاية الكمال ويملك الحقيقة الانسانية، وعلى هذا فالمراد أن ببعض أفراد هذا الإيمان من بعض فإن الادنى منه بعد لحصول الأعلى وهكذا إلى أن يحصل فرد هو أعلى مراتب


[ 85 ]

الإيمان المطلوب من الإنسان. أو المراد بعض أجزائه من بعض فإن أصل التصديق يقتضى العمل والعمل يقضتي حصول تصديق آخر هو أكمل وأفضل وهذا التصديق يقتضي حصول عمل هو أكمل من الأول وهكذا يتبادلان إلى أن يبلغ كل من الظاهر والباطن إلى غاية كمال الإنسان وتحصل نهاية مراتب الإيمان. قوله (وهو دار وكذلك الإسلام دارو الكفر دار) الداخل في الاولى من اتصف بالإيمان ولوازمه، وفي الثانية من اتصف بالاسلام وآثاره، وفي الثانية من اتصف بالكفر وخواصه ولا يكون أحدهم داخلا في دار الآخرة إلا المؤمن فإنه داخل في دار الإسلام أيضا لأن له أيضا صفة الإسلام وآثاره كما أشار إليه بقوله ولا يكون مؤمنا حتى يكون مسلما، وأما المسلم فقد لا يكون مؤمنا وسر ذلك أن الإقرار بالتوحيد والرسالة مقدم على الإقرار بالولاية والعمل والمؤمن والمسلم بسبب الأول يخرجان من دار الكفر ويدخلان في دار الإسلام ثم المسلم بسبب الاكتفاء به يستقر في هذه الدار، والمؤمن بسبب الثاني يترقى وينزل في دار الإيمان، ومنه لاح أن الإسلام قبل الإيمان وأنه يشارك الإيمان فيما هو سبب للخروج من دار الفكر لا فيما هو سبب للدخول في دار الإيمان. وبهذا التقرير يندفع المنافاة بين قوله " ع " ههنا " وهو يشارك الإيمان " وقوله سابقا " والإسلام لا يشارك الإيمان " فليتأمل. قوله (فإذا أتى العبد كبيرة من كبائر المعاصي - ألخ) لما كان العمل معتبرا في حقيقة الإيمان الكامل كان الإتيان بالمصعية مطلقا موجبا لسقوط اسم هذا الإيمان عنه وهبوطه من دار إلى دار الإسلام وثبوت إسم الإسلام عليه ويستمر هذا إلى أن يتوب ويستغفر فإن تاب استغفر عاد إلى دار الإيمان لزوال المانع وهو المعصية بالتوبة والاستغفار ولا يخرجه من دار الإيمان إلى دار الكفر إلا الجحود للصانع والرسول وتحليل ما هو حرام وتحريم ما هو حلال من ضروريات الدين أو بعد العلم بحله وحرمته أو مطلقا وجمله دينا ولم تبعه فعند ذلك يكون خارجا من دار الإيمان والإسلام داخلا في دار الكفر وكان بمنزلة من دخل الحرم ثم دخل الكعبة وأحدث معاندا فيها حدثا فاخرج عن الكعبة وعن الحرم فضرب عنقه وصار إلى النار، وهذا التمثيل يدل على أن المرتد يقتل وأن القتل لا يدفع عنه العقوبة الاخروية واستثنى منه الملى والمرأة لقبول توبتهما فيرجعان بعدها إلى الإيمان. * الأصل 2 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن عثمان بن عيسى، عن سماعة بن مهران قال: سألته عن الإيمان والإسلام قلت له: أفرق بين الإسلام والإيمان ؟ قال فاضرب لك مثله، قال: قلت: أورد


[ 86 ]

ذلك، قال: مثل الإيمان والإسلام مثل الكعبة الحرام من الحرم قد يكون في الحرم ولا يكون في الكعبة ولا يكون في الكعبة حتى يكون في الحرم، وقد يكون مسلما ولا يكون مؤمنا ولا يكون مؤمنا حتى يكون مسلما، قال: قلت: فيخرج من الإيمان شئ ؟ قال: نعم: قلت فيصيره إلى مإذا ؟ قال إلى الإسلام أو الكفر. وقال: لو أن رجلا دخل الكعبة فأفلت منه بوله اخرج من الكعبة ولم يخرج من الحرم فغسل ثوبه وتطهر ثم لم يمنع أن يدخل الكعبة ولو أن رجلا دخل الكعبة فبال فيها معائدا اخرج من الكعبة ومن الحرم وضربت عنقه. * الشرح قوله (لو أن رجلا دخل الكعبة فافلت منه يوله - ألخ) يفهم من هذا التمثيل أن المؤمن إذا صدر منه ذنب لا يوجب كفره خرج من الإيمان ودخل في الإسلام ثم إذا تاب دخل في الإيمان، وإذا صدر منه ذنب يوجب كفره خرج من الإيمان والإسلام ودخل في الكفر واستحق القتل إلا من استثنى.


[ 87 ]

* الأصل (باب) 1 - علي بن محمد، عن بعض أصحابه، عن آدم بن إسحاق، عن عبد الرزاق بن مهران، عن الحسين بن ميمون، عن محمد بن سالم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن ناسا تكلموا في هذا القرآن بغير علم وذلك أن الله تبارك وتعالى يقول: * (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن ام الكتاب واخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه إبتغاء الفتنة وإبتعاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله - الآية) * فالمنسوخات من المتشابهات، والمحكمات من الناسخات، إن الله عز وجل بعث نوحا إلى قومه * (أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون) * ثم دعاهم إلى الله وحده وأن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، ثم بعث الأنبياء (عليهم السلام) على ذلك إلى أن بلغوا محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) فدعاهم إلى أن يبعدوا الله ولا يشركوا به شيئا وقال: * (شرع لكم من الدين ما وصي به نوحا والذي أوحينا إليك ما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه. الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيت) * فبعث الأنبياء إلى قومهم بشهادة أن لا إله إلا الله والإقرار بما جاء [ به ] من عند الله فمن آمن مخلصا ومات علي ذلك أدخله الجنة بذلك وذلك أن الله بظلام للعبيد وذلك أن الله لم يكن يعذب عبدا حتى يغلظ عليه في القتل والمعاصي التي أوجب الله عليه بها النار لمن عمل بها، فلما استجاب لكل نبي من استجاب له من قومه من المؤمنين، جعل لكل نبي منهم شرعة ومنهاجا والشيعة والمنهاج سبيل والسنة وقال الله لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم): * (إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبين من بعده) *. وأمر كل نبي بالأخذ بالسبيل والسنة والسبيل التي أمر الله عز وجل بها موسى (عليه السلام) أن جعل الله عليهم السب وكان من أعظم السبت ولم يستحل أن يفعل ذلك من خشية الله، أدخله الله الجنة، ومن استخف بحقه واستحل ما حرم الله عليه من عمل الذي نهاه الله عنه فيه، أدخله الله عز وجل النار، وذلك حيث استحلوا الحيتان واحتبسوها وأكلوها يوم السبت، غضب الله عليهم من غير أن يكونوا أشركوا بالرحمن ولا شكوا في شئ مما جاء به موسى (عليه السلام)، قال الله عز وجل: * (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاشئين) * ثم بعث الله عيسى (عليه السلام) بشهادة أو لا إله إلا الله والإقرار بما جاء به من عند الله وجعل لهم شرعة ومنهاجا فهدمت السب الذي امروا به أن يعظموه قبل ذلك وعامة ما كانوا عليه من السبيل والسنة التي جاء بها موسى فمن لم يتبع سبيل عيسى أدخله الله النار وإن كان الذي جاء به النبيون جميعا أن لا يشركوا بالله


[ 88 ]

شيئا، ثم بعث الله محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو بمكة عشر سنين فلم يمت بمكة في تلك العشر سنين أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) رسول الله إلا أدخله الله الجنة باقراره وهو إيمان التصديق ولم يعذب الله أحدا ممن مات وهو متبع لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) على ذلك إلا من أشرك بالرحمن. وتصديق ذلك أن الله عزوجل أنزل عليه في سورة بني إسرائيل بمكة * (وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا - إلى قوله تعالى - إنه كان بعباده خبيرا بصيرا) * أدب وعظة وتعليم ونهي خفيف ولم يعد عليه ولم يتواعد على اجترعح شئ ما نهي عنه، وأنزل نهيا عن أشياء حذر عليها ولم يغلظ فيها ولم يتواعد عليها وقال: * (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطأ كبيرا. ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا. ولا تقتلوا النفس إنه كان منصورا. ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا. وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المسقيم ذلك خير وأحسن تأويلا . ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل اولئك كان عنه مسؤولا. ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخزق الارض ولن تبلغ الجبال طولا. كل ذلك كان سيئة عن ربك مكروها. ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا) * وأنزل في * (والليل إذا يغشى) *: * (فأنذرتكم نارا تلظي. لا يصليها إلا الأشقى الذي كذب وتولي) * فهذا مشرك وأنزل في * (إذا السماء انشقت) *: * (وأما من اوتى كتابه وراء ظهره، فسوف يدعو ثبورا، ويصلى سعيرا. إنه كان في أهله مسرورا. إنه ظن أن لن يجوز بلي " فهذا مشرك. وأنزل في [ سورة ] تبارك: " كلما القي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير. قالوا بلي قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شئ) * فهؤلاء مشركون. وأنزل في الواقعة: * (وأما إن كان من المكذبين الضالين. فنزل من حميم. وتصلية جحيم) * فهؤلاء مشركون. وأنزل في الحاقة. * (وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم اوت كتابيه. ولم أدر ما حسابيه يا ليتها كانت القاضية ما أغنى عني ماليه - إلى قوله - إنه كان لا يؤمن بالله العظيم) * فهذا مشرك. وأنزل في طسم: * (وبرزت الجحيم للغاوين. وقيل لهم: أينما كنتم تعبدون. من دون الله هل ينصرونكم أو ينتصرون. فكبكبوا فيها هم والغاون. وجنوا إبليس أجمعون) * جنوا إبليس ذريته من الشياطين. وقوله: * (ومات أضلنا إلا المجرمون) * يعني المشركين الذين اقتدوا بهم هؤلاء فاتبعوهم على شركهم وهم قوم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ليس فيهم اليهود والنصارى أحد وتصديق ذلك قول الله عز وجل: * (كذبت قبلهم قوم نوح) * * (كذب أصحاب الأيكه) * * (كذبت قوم لوط) * ليس فيهم اليهود الذين قالوا: عزيز ابن الله ولا النصارى الذين قالوا: المسيح ابن الله، سيدخل الله اليهود والنصاري النار ويدخل كل


[ 89 ]

قوم بأعمالهم، وقولهم: * (وما أضلنا إلا المجرمون) * إذ دعونا إلى سبيلهم ذلك قول الله عز وجل فيهم حين جمعهم إلى النار * (قالت اوليهم لاخريهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار) * وقوله: * (كلما دخلت امة لعنت اختها حتى إذا اداركوا فيها جميعا) * برئ بعضهم من بعض ولعن بعضهم بعضا، يريد بعضهم أن يحج بعضا رجاء الفلج فيفلتوا من عظيم ما نزل بهم وليس بأوان بلوى ولا اختبار ولا قبول معذرة ولا حين نجاة والآيات وأشباههن ممان نزل به بمكة ولا يدخل النار إلا مشركا، فلما أذن الله لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) في الخروج من مكة إلى المدينة بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) عبده ورسوله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصيام شهر رمضان وأنزل عليه الحدود وقسمة الفرائض وأخبره بالمعاصي التي أوجب الله عليها وبها النار لمن عمل بها وأنزل في بيان القاتل * (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما) * ولا يلعن الله مؤمنا قال الله عز وجل: * (إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيرا. خالدين فيها أبدا لا يجدون وليتأول نصيرا) * وكيف يكون في المشيئة وقد ألحق به - حين جزاه جهنم - الغضب واللعنة وقد بين ذلك من الملعونون في كتابه وأنزل في مال اليتيم ن أكله ظلما * (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا) * وذلك أن آكل مال اليتيم يجئ يوم القيامة والنار تلتهب في بطنه حتى يخرج لهب النار من فيه حتى يعرفه كل أهل الجمع أنه آكل ما اليتيم، وأنزل في الكيل: * (فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم) * وأنزل في العهد * (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا اولئك لاخلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب إليهم) * والخلاق: النصيب، فمن لم يكن له نصيب في الآخرة فبأي شئ يدخل الجنة، وأنزل بالمدينة * (الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين) * فلم يسم الله الزاني مؤمنا ولا الزانية مؤمنة. وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ليس يمتري فيه أهل العلم أنه قال: لا يزني الزاني حين يزني هو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن فانه إذا فعل ذلك خلع عنه الإيمان كخلع القميص، ونزل بالمدينة * (الذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا واولئك هم الفاسقون * إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم) * فبرأه الله ما كان مقيما على القرية من أن يسمى بالإيمان، قال الله عز وجل: * (أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون) * وجعله الله منافقا، قال الله عزوجل: * (إن المنافقين هم الفاسقون) * وجعله عز وجل من أولياء إبليس، قال: * (إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه) *


[ 90 ]

وجعله ملعونا فقال: * (إن الذين يرمون المحصنات الغافلان المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم. يوم تشهد عليهم ألسنهم وأيدهم وأرجلهم بما كانوا يعلمون) * وليست تشهد الجوارح على مؤمن إنما تشهد على من حقت عليه كلمة العذاب، فأما المؤمن فيعطى كتابه بيمينه قال الله عز وجل: * (فأما من اوتي كتابه بيمينه. فاولئك يقرؤن كتابهم ولا يظلمون فتيلا) * وسورة النور انزلت بعد سورة النساء وتصديق ذلك أن الله عز وجل أنزل عليه في سورة النساء * (واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا علين أربعة منكم فإن شهدوا فامسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا) * والسبيل الذي قال الله عز وجل * (سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون. الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين) *. * الشرح قوله (باب - علي بن محمد عن بعض أصحابه - ألخ) في السند مع الإرسال جهالة، والغرض من هذا الباب أن الإيمان قبل الهجرة لضعف الدين وقلة ناصره كان مجرد التصديق بالتوحيد والرسالة ثم صار بعدها لقوته وكثرة ناصره وشيوع الأحكام فيه وصدور الوعيد عليها هذا مع التصديق بالولاية والعمل وأن الكفر يتحقق بانتفاء واحد منها وأن المؤمن لا يعذب أصلا وأن الإيمان في الشرائع السابقة كان أيضا كذلك وأن كثيرا من هذه الامة لزيغ قلوبهم وعدم رجوعهم إلى المرشد بالحق اتبعوا المتشابهات والمنسوخات، ورفضوا المحكمات والناسخات، وزعمواأن الإيمان إنما هو بالمعني الأول وحده ولم يعلموا أنه نسخ وحدة ذلك وضم معه شئ آخر. قوله (أن ناسا تكلموا - الخ) التنكير أو للتكثير أولهما وذلك اشارة إلى تكلمهم وما بعده بيان لوقوعه لأن الله تعالى أخبر به وأعلم أنه لا يجوز تأويل متشابهات القرآن والأحاديث عندنا بالرأي بل يجب صرفه إلى الراسخين في العلم وهم أهل الذكر (عليهم السلام) ومن يتعرض له من أصحابنا فإنما يتعرض لوجوهه على سبيل الاحتمال من غير جزم بأحدها إلا أن يدل عليه دليل آخر. قوله (هن أم الكتاب - الخ) قيل أم الكتاب أصله الذي يرجع إليه عند الإشكال أي هن اصول ما أشكل من الكتاب فيرد ما أشكل منه إلى ما اتضح منه، وقيل غير ذلك، والزيغ الميل عن الحق إلى غيره والفتنة الضلال أو الشك والتأويل صرف الكلام عن ظاهره إلى خلافه والمتبعون للمتشابه لابتغاء الفتنة منهم من يتبعه للقدح في القرآن والتشكيك فيه واضلال العوام كالزنادقة والقرامطة


[ 91 ]

وغيرهم منهم من بتبعه ويعتقد بظاهره كالمجسمة والمصورة ومنهم من يتبعه ويحمله على خلاف ظاهره برأيه كأهل السنة، وأما الفرقة الناجية فيرجعون في تأويله إلى الله وإلى الراسخين في العلم، وقد جرت الحكمة البالغة على أن يمتحن الله عز وجل عباده في هذه النشأة بأنحاء شتى ومما امتحنهم به انزال المتشابهات والله ولى التوفيق. قوله (فالمنوسخا من المتشابهات والمحكمات من الناسخات) النسخ في اللغة الإزالة والإبطال وفي العرف إزالة حكم شرعي بدليل شرعي متأخر، والمتقدم منسوخ والمتأخر ناسخ، والمحكم في اللغة المتقن وفي العرف يطلق على ماله معنى لا يحتمل غيره وعلى ما اتضحت دلالته، وعلى ما كان محفوظا من النسخ أو التخصيص أو منهما جميعا، وعلى ما لا يحتمل من التأويل إلا وجها واحدا والمتشابه يقابله بكل واحد من هذه المعاني إذا عرف هذا فنقول الظاهر أن الفاء للتفسير لزيادة تفظيع حالهم بأنهم يتبعون المنسوخات والمتشابهات دون المحكمات والناسخات لأن المنسوخات من باب المتشابهات في التشابه إذ يشتبه عليهم ثباتها وبقاؤها، والمحكمات من قبيل الناسخات في الثبات والبقاء فإذا اتبعوا المتشابهات اتبعوا المنسوخات لأنهما من باب واحد وإذا اتبعوا المنسوخات لم يتبعوا الناسخات وإذا لم يتبعوا الناسخات لم يتبعوا المحكمات لأنهما أيضا من باب واحد ولذلك قالوا الإيمان هو مجرد التصديق بالله ور سوله ولم يعلموا أنه كان كذلك قبل الهجرة ثم نسخ بعدها واضيف إليه الولاية والعمل، ويحتمل أن يكون للتفريع لأنه يفهم من الآية اتباعهم المنسوخات لكونها من باب المتشابهات وعدم اتباعهم المحكمات لكونها من باب الناسخات التي يتبعوها وعلى هذا لاقلب في قوله (عليه السلام) والمحكمات من الناسخات كما زعمه بعض نظرا إليه، وقال كون المنسوخات من أفراد المتشابهات وأخص منها وله وجه، وأما كون المحكمات من أفراد الناسخات وأخص منها فلا وجه له بل الأمر بالعكس ففيه قلب فليتأمل. قوله (إن الله عز وجل بعث نوحا) كان المراد هنا أمر أن الأول يعلم ضمنا وهو أن الله عز وجل بعث الأنبياء وقرر الإيمان والشرازع وأوجب على عباده الرجوع إليهم وعدم التقول في الدين بآرائهم، والثاني أن الإيمان في بداية بعثة كل رسول الله كان مجرد التصديق بالتوحيد والرسالة ومن مات عليه كان مؤمنا وجبت له الجنة ثم صار بعد وضع الأحكام والوعيد على مخالفتها وتكثر الأمم واستجابتهم هذا مع العمل حتى من ترك تلك الأحكام خرج من الإيمان واستحق الدخول في النار. وفيه رد على من زعم أن الإيمان إنما هو التصديق المذكور والله أعلم. قوله (فمن آمن مخلصا) أي من آمن بالله ونفي الشريك عنه وآمن برسوله وبما جاء به الرسول


[ 92 ]

مخلصا معتقدا غير مشوب بالشك ومات عليه أدخله الله الجنة بذلك ولا يعاقبه بترك الأعمال ولا ينافي ذلك وجوبها لأن الواجب مما يستحق تاركه ذما لا ما يعاقب تاركه واستحقاق الذم لا يوجب العقوبة بل لا يوجب الذم أيضا. قوله (وذلك أن الله ليس بظلام للعبيد) الظاهر أن ذلك إشارة إلى إدخاله في الجنة بمجرد تلك الشهادة والإقرار وإن لم يعمل، بيان ذلك أنه مؤمن وعدم إدخال المؤمن فيها ظلم لاستحقاققه إياها والله ليس بظلام للعبيد بمنعهم عن حقوقهم، وفيه مبالغة في نفي الظلم لا نفي مبالغة في الظلم على أنه لو اريد هذا لا مكن أن يقال فيه نفي للظلم بالكلية لأن كان صفة له تعالى على وجه الكمال فلو كان له ظلم كان ظلمه على وجه الكمال فإذا نفي عنه الظلم على هذا الوجه فقد نفي عنه ظلم رأسا. قوله (وذلك أن الله لم يكن يعذب) لعله إشارة إلى عدم تعذيبه بترك العمل حينئذ لكونه مذكورا التزاما لأن ادخاله الجنة بمجرد ذلك التصديق يستلزم عدم التعذيب بترك العمل. بيان ذلك أن الله تعالى لم يكن يعذب العبد بالمعاصي حتى يغلظ عليه فيها ويوجب لمن عمل بها النار ولما لم يغلظ عليه فيها ولم يوعده بالنار بها في ذلك الزمان لا يعذبه بها. قوله (فلما استجاب لكل نبي من استجاب) لعل المراد أن الإيمان بعد استجابة الامة وكثرتهم ووضع الشرائع من الاوامر والنواهي والحدود والتغليظ عليمهم بالمعاصي وعيدهم بالنار بفعلها صار عبارة عن ذلك التصديق والعمل حتى من ترك واحدا منهما كان كافرا يعذب بالنار. والشرعة والمنهاج متقاربان لأن الشرعة طريق الدين والمنهاج الطريق المستقيم والمراد بهما الأحكام والفرائض والحدود وغيرها من التكاليف التي وقع التغليظ بها والوعيد فيها. قوله (ومن استخف بحقه واستحل ما حرم الله عليه) دل على أن مخالفة الأحكام كفر يوجب الدخول في النار مع الاستحلال والظاهر أنه لا خلاف فيه بين الامة وما ذلك إلا لأن الإقرار بها والعمل بها داخلان في الإيمان، وإذا كان كذلك كان تاركها وإن لم يستحل كافرا يعذب بالنار أيضا كما يدل عليه سياق العبارات الآتية. قوله (حيث استحلوا الحيتان) أي استحلوا صيدها أو أكلها ويوم السب ظرف لاحتبسوها لا لاكلوها، أي احتبسوها يوم السبت في مضيق بسد الطريق عليها ثم اصطادوها يوم الأحد وأكلوها، فعلوا ذلك حيلة وتحرزا من اصطيادها في يوم السبت ولم تنفعهم تلك الحيلة لأن احتباسها فيه هتك لحركته فخرجوا بذلك من الإيمان إلى الكفر ولذلك غضب الله عليهم من غير أن يشركموا بالرحمن وأن يشكوا في رسالة موسى وما جاء به، وكذلك يصطادوا يوم السب الغضب عليهم


[ 93 ]

ودخولهم في النار ليس إلا تركهم حرمة السبت واحتباس الحيتان فيه فعلم إن الإيمان ليس مجرد التصديق بل هو مع العمل لأن المؤمن لا يغضب ولا يدخل النار وفيهن شئ لأن استحلالهم الحيتان ينافي ظاهرا عدم شكهم بما جاء به موسى، ويمكن دفعه بأن ما جاء به موسى تحريم الحيتان يوم السبت وهم استحلوها يوم الأحد ولحق بهم ما لحق بسبب احتباسهم يوم السب والله أعلم. قوله (وقال الله ولقد علمتهم) استشهاد لقوله غضب الله عليهم أو له ولما قبله. قوله (وإن كان الذي جاء به النبيون) جميعا أن لا يشرك بالله شيئا الموصول إسم كان وأن لا يشرك خبره أو المجموع اسمه وخبره محذوف أي وإن كان معه ما جاء به النبيون وهو عدم الشرك فعلى الأول يفيد عدم ورود النسخ عليه وعلى الثاني يفيد أن منلم يتبع يدخل النار وإن كان معه عدم الشرك بالله. قوله (يشهد أن لا إله إلا الله) لعل المراد به التصديق بالتوحيد والرسالة أو مع الإقرار باللسان لا مجرد الإقرار به بقرينة قوله " وهو إيمان التصديق " والمراد بالإسلام حينئذ هو الإقرار ويؤيده ما مر من أن الإيمان إقرار وعمل، والإسلام إقرار بلا عمل لما ذكرنا أن العمل عبارة من التصديق. قوله (وهو إيمان التصديق) الإيمان على نوعين أحدهما هذا والآخر إيمان التصديق والعمل، والثاني درجاته متفاوتة جدا وكذا الأول لأن له تفاوتا معنويا بالقوة والضعف أما بالذات أو باعتبار الإعمال الخارجة عنه ثم التعذيب قبل الهجرة بترك الأول فقط وبعدها بترك الأول والثاني. قوله (إلا من أشرك بالرحمن) أي من نفي التوحيد أو الرسالة بقرية السياق. قوله (ذلك أن الله عز وجل أنزل عليه في سورة بني اسرائيل) ذلك اشارة الى مفهوم الحصر ومنطوقة أعنى عدم التعذيب بغير الشرك والتعذيب به في مكة قبل الهجرة، وقوله * (وقضى ربك - إلى قوله - ولا تجعل مع الله الها آخر " بيان للاول وتصديق له حديث أنه عز وجل أنزل آيات فيها وذكر أحدكاما ولم يغلط فيها ولم يوعد عليها فلا يعاقب بها لأنه لا يعاقب قبل التغليظ والتشديد والوعيد، وقوله * (ولا تجعل - إلى قوله - حتى إذا اداركوا فيها جميعا " بيان للثاني وتصديق له لأنه صريح في أنه يعذب بالشرك وأوعد عليه. قوله (ولا تقف - الخ) دل على تحريم القول والعمل والافتاء ونحوها بما لم يعلم، قول ابن عباس لا تقل سمعت ولم تسمع ولا رأيت ولم ترولا علمت ولم تعلم، وقال بعض العلماء المراد بسؤال الجوارح اما سؤال نفسها أو سؤال أصحابها كما يظهر من أولئك أو جعلت بمنزلة ذوي العقول أوهم ذو والعقول مع الله تعالى وهو أظهر كما في كثير من الآيات والروايات.


[ 94 ]

قوله (ولا تمش في الأرض مرحا) أي لا تمش في الأرض أشرا وبطرا واختيالا إنك لا لن تخرق الأرض بتثاقلك وكبرك في المشي أو بضرب قدميك عليها لتعرف قدرتك وقوتلك ولن تبلغ الجبال طولا بتطاولك ومد عنقك فما وجه تفاخرك وعدم تواضعك كل ذلك المذكور من النواهي كان سيئه ومعصيته عند ربك مكروها يريد تركه ولا يرضاه وبين سبحانه أن العبد ضعيف وعمله التواضع والتودد والوقار. قوله (ولا تجمل مع الله الها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا) أي مطرودا عن طريق جنته مبعدا عن نيل رحمته مدفوعا عن إحسانه ورأفته وهذا شروع في ذكر آيات نزلت في مكة دالة على الوعيد بالشرك والتعذيب به. قوله (فهذا مشرك) أي هذا المذكور وهو الأشقي والملقي في جهنم مشرك لا غيره ممن صدق بالتوحيد والرسالة وترك العمل في مكة لأنه مؤمن بإيمان التصديق الذي كان هو الإيمان في مكة والمؤمن لا يلقي في جهنم ولا يصلي نارا. قوله (جنود ابليس ذريته من الشياطين) دون من اتبعه من الغاوين لأن التأسيس خير من التأكيد. قوله (وقوله وما أضلنا إلا المجرمون يعني المشركين) حكاية عن أهل جهنم قالوا وهم فيما يختصمون * (تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين وما أضلنا إلا المجرمون " وقوله مبتدء ويعني خبره والجملة عطف على جملة جنود ابليس وذريته واريد بالمجرمين المشركون الذين اقتدى بهم هؤلاء القائلون، وقوله " وهم أمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) " اشارة إلى أن التابع والمتبوع كليهما من أمته لدفع ما عسى أن يقال من أن الآية في بيان اليهود والنصاري ووصف مشركيهم القائلين بأن عزير إبن الله والمسيح ابن الله ووصف تابعيهم لافي بيان حال المشركين من قوم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) في مكة. قوله (وتصديق ذلك قول الله عز وجل * (كذبت قبلهم قوم نوح " * (كذب أصحاب الايكة " * (كذبت قوم لوط ") ذلك إشارة إلى " قوله هم أمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) والايكة غيضة بقرب مدين سكنتها طائفة فبعث الله إليهم شعيبا كما بعثه إلى مدين، ووجه التصديق أن الآية تسلية له (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن قومه إن كذبوه فهو غير منفرد في التكذيب، فإن هؤلاء الرسل قد كذبهم قومهم قبل قومه. وفيه دلالة واضحة على أن المجرمين هم المشركون المكذبون من قومه دون اليهود والنصارى. قوله (ليس فيهم اليهود) تأكيد لقوله ليس فيهم من اليهود والنصارى أحد أو الأول نفي للتشريك وهذا نفي للأختصاص.


[ 95 ]

قوله (سيدخل الله اليهود) أشار به إلى أنه لا يلزم من اختصاص الآية المذكورة بمشركي قومه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن لا يدخل اليهود والنصارى النار إذ عدم فهم دخولهم فيها من هذه الآية لا يوجب عدم دخولهم فيها لأنهم أيضا يدخلون فيها بأدلة اخرى كما يدخل فيها كل قوم بأعمالهم. قوله (وقولهم * (وما أضلنا إلا المجرمون " إذ دعونا إلى سبيلهم " أشاروا بذلك إلى سبب الاضلال وهو أن المجرمين دعونا ألى سبيلهم وهو الشرك فاستجبنا لهم واتبعناهم ولما كان قولهم هذا يدل صريحا وضمنا على نسبة الاضلال إليهم والمخاصمة بينهم وبراءة بعضهم من بعض والاعتذار من ضلالتهم أشار إلى أنه أخبر بجميع ذلك قول الله عز وجل فيهم إلى آخر ما ذكر. واداركوا أصله تداركوا فادغم، ومعناه تلاحقوا أي لحق آخرهم أو لهم. قوله (فلما أذن الله لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) في الخروج) لما فرغ مما دل على أن الله تعالى لا يعذب قبل الهجرة إلا بالشرك وهو إنكار التوحيد والرسالة شرع فيما دل على أنه يعذب بعدها بالشرك وبترك الطاعات وفعل المنهيات وهو مع انضمام أن المؤمن لا يعذب دل على أن العمل معتبر في تحقق الإيمان بعدها، وبالجملة المفهوم من احاديث هذا الباب أن المؤمن لا يعذب وأن الإيمان قبل الهجرة مجرد التصديق وبعدها التصديق مع العمل وبناء الإسلام بعدها على خمس دل على أن من ترك منها شيئا خرج من الإسلام ودخل في الكفر وإنما قال بني الإسلام ولم يقل بني الإيمان لئلايتوهم أن التارك داخل في الإسلام ثم إن سمى كل واحد من هذه الخمسة ايمانا أيضا كما سمى المجموع على ما يظهر من الباب الآتي كان مصداق الإيمان قبل الهجرة أقل من مصداقه بعدها وإلا فهو أكثر. قوله (ولا يعلن الله مؤمنا) وكذا يغضب عليه ولعل المراد أن قاتل المؤمن معتمدا كافر خارج من الإيمان والظاهر أن قوله " قال الله عز وجل " استشهاد لعدم لعن المؤمن، وفي دلالته عليه خفاء لأن تعلق اللعن بالكافرين لا يدل على عدم تعلقه بغيرهم إلا أن يقال تخصيصهم بالذكر يدل على ذلك أو يقال المقصود من الآية بيان الملعونين وتعيينهم وتمييزهم عن غيرهم ويرشد إليه قوله (عليه السلام) قد بين ذلك من الملعونين في كتابه فإذا لم يذكر غير الكافرين علم أن اللعن لا يتعلق بالمؤمنين. قوله (وكيف يكون في المشية) كيف للأنكار ردا على من زعم أن القاتل في مشية فاعل لبين و " من " مفعوله إذا كان ذلك بيانا للمعلونين علم أنهم هم الكافرون فلا يكون المؤمن معلونا. قوله (وذلك أن آكل مال اليتيم معروف وقد يطلق على آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بل على شيعتهم أيضا كما دل عليه بعض الروايات ولا يبعد التعميم هنا. قوله (الزانى لا ينكح الإزاية أو مشركة) نهى الزانى عن نكاح المؤمنة نهى تحريم أو تنزيه لعدم


[ 96 ]

التناسب بينهما في الإيمان ورخص له نكاح الزانية والمشركة لتحقق التناسب بينهما في الكفر، ولعل الغرض من النهى والترخيص هو الاشعار بخسة الزناء، وإهانة أهله والزجر عنه لأنه الذي بعده عن الإيمان وقربه إلى الكفر ولاستنكاف طبع المسلم أن تكون زوجته زانية أو مشركة ويحثه ذلك على ترك الزناء وقس على هذا نظيره. قوله (فلم يسلم الله الزاني مؤمنا ولا الزانية مؤمنة) وجه التفريع أنه قارون الزاني بالمشرك وأخرجه عن حكم المؤمن وقارن الزانية بالمشركة وأخرجها عن حكم المؤمنة أو أنه لما منع بمفهوم الحصر الأول أن ينكح الزاني مؤمنة لانتفاء الكفؤ وهو الإيمان وجوز بمنطوق الثاني أن ينحكم الزاني والمشرك لتحقق الكفؤ وهو الكفر علم أن الزاني والزانية ليسا بمؤمنين أو أنه فهم ذلك من قوله تعالى " وحرم ذلك " أي النكاح المذكور على المؤمنين والتحريم يحتمل الوجهين. قوله (وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ليس يمترى) أي قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا مؤمن لا يشك أهل العلم من هذه الامة أن هذا قوله وفي هذا الحديث وأمثاله دلالة على أن الزاني حين الزناء والسارق حين السرقه ليسا مؤمنين قطعا حتى لو ماتا في تلك الحالة كانا مخلدين في النار كسائر الكفار وهو يشكل بظاهره لما في الرويات الكثيرة من أن تارك العمل وفعل المعصية فاسق تلحقه الشافعة فلابد من تأويله وأقرب التأويلات أنه ليس بكامكل الإيمان وأنه يخلع عنه الإيمان الكالم كخلع القميص فيكون من باب نفي الشئ بنفي صفته نحو لاعلم إلا ما نفع، وقيل أنه ليس بمؤمن إذا كان مستحلا وهذا ليس مختصا بما ذكر وكأنه للتمثيل، قيل ليس بمؤمن من العقاب وهذا أيضا ليس بمختص، وقيل المقصود نفي المدح أي لا يقال له مؤمن بل يقال: زان أو سارق، وقيل أنه لنفي البصيرة أي ليس ذا بصيرة ونقل عن إبن عباس أنه لنفي النور أي ليس ذا نور، وقيل أنه نهى لاخبر وهو بعيد لأنه لا يساعده اللفظ ولا الرواية وقيل المقصود نفي الاستحضار أي ليس بمستحضر الإيمان، وقيل المقصود نفي العقل أي ليس بعاقل لأن المعصية مع استحضار العقوبة مرجوحة والحكم بالمرجوح بخلاف المعقول، وقيل المقصود نفي الحياء والحياء شعبة من الإيمان أي ليس بمستحى من الله سبحانه، وقيل محصول على التشديد كقوله تعالى * (وكفر فإن الله غني من العالمين " وقيل أنه من المتشابهات هذا جملة القول من العامة والخاصة فليتأمل. قوله (الذين يرمون المحصنات - ألخ) رتب على قذف المحصنات ثلاثة امور الأول ثمانون جلدة. الثاني عدم قبول الشهادة مطلقا كما يقتضيه وقوع النكرة في سياق النفي، قال القاضي وقيل في القذف ولا يتوقف على استيفاء الجد خلافا لابي حنفيه لأن الواو لا يدل على الترتيب ولأن حال القاذف قبل الجلد أسوء مما بعده الثالث أنه فاسق خارج عن طاعة الله تعالى ثم الظاهر أن


[ 97 ]

الاستثناء متعلق بالآخيرين، وأما الجلد فهو حق الناس لا يسقط إلا بالاستحلال عن المقذوف والإصلاح المذكور بعد التوبة. قيل هو تأكيد وتقرير لها، وقيل هو البقاء عليها، وقيل هو تسليم النفس للحد أو طلب العفو عن المقذوف. قوله (فبرأه الله ما كان مقيما على الفرية من أن يسمى بالإيمان) أي فبرأ الله تصديقه بأن يكون الضمير راجعا إليه بقرينة المقام أو اريد بالإيمان المؤمن مجازا أو أهل الإيمان بحذف المضاف وفيه دلالة على أنه إذا تاب عن الفرية وأكذب نفسه عنها عاد إلى الإيمان ويسمى مؤمنا. قوله (قال الله عز وجل) بيان لدم تسمية الرامي مؤمنا وحاصله إن الله تعالى سماه في الآية المذكورة فاسقا وجعل الفاسق في قوله * (أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا " مقابلا للمؤمن فهو غير مؤمن وله وجه آخر وهو أنه تعالى سماه فاسقا وسمى الفاسق كافرا فهو كافر والكافر ليس مؤمنا أما الأول فلما مر، وأما الثاني فلقوله تعالى * (ومن يحكم بما أنزل الله فاولئك هم الفاسقون " " ومن يحكم بما أنزل الله فاولئك هم الكافرون ". قوله (قال الله عز وجل إن المنافقين هم الفاسقون) دليل على جعلة منافقا إذ حصر الفاسق في المنافق يدل على أن كل فاسق منافق. قوله (وليست تشهد الجوارح على مؤمن - ألخ) هذا صريح في أن شهادة الجوارح مختصة بالكافرين كما ذهب إليه بعض المفسرين وماله إليه الشيخ بهاء الملة والدين في الحديث الخامس من الاربعين والظاهر أن شهادتها بطريق النطق والقادر الذي أقدر اللسان على النطق قادر على انطاقها واقدارها عليه ويحتمل أن يكون بلسان الحال فإن كان عضو لما كان مباشرا لفعل من الأفعال كان حضور ذلك العضو وما صدر عنه في علم الله بمنزلة الشهادة القولية بين يديه وهذا الإحتمال بعيد جدا بل يأباه ظاهر الآية. قوله (ولا يظلمون فتيلا) الفتيل ما يكون في شق النواة من الخيط وقيل ما يفتل بين الاصبعين من الوصخ وهو كناية عن نفي الظلم مطلقا. قوله (وسورة النور أنزلت بعد سورة النساء) الظاهر أنه لم يذكره لبيان السابق إذ لا تعلق له به بل ذكره لبيان الواقع والأشعار بأن سبيلا في آية النساء هو الجلد الذي في آية النور لأن القران بعضه يفسر بعضا والراسخون في العلم يعرفونه بالهام الهى وتعريف نبوي. قوله (واللاتي يأتين الفاحشة - الخ) قيل المراد بالفاحشة الزناء وقيل المساحقة وبالإمساك منعهن عنها أو حبسهن في البيوت فجعلها سجنا عليهن ولعل المضاف إلى الموت محذوف أي ملك الموت والسبيل هو الجلد ولم يذكره استغناء بقوله * (الزانية والزاني فاجدلدوا ".


[ 98 ]

قوله (ولا تأخذكم بهما رأفة " قال الفاضل الأردبيلي هي تدل على تحريم ترك الحد أو البعض منه كما أو كيفا رحمة لهما بل مطلق الرحمة بأن يقال مسكين عذبوه، أو حصل له عذاب كثير ونحو ذلك بالجملة الرحمة في دين الله أي طاعته وحكمته بخلاف مقتضاه حرام بل يفهم أنها تسلب الإيمان بالله واليوم الآخر يعني أن المؤمن بهما لا يفعل ذلك، وفي حضور طائفة عند إقامة الحد زيادة في التنكيل فإن التفضيح ينكل أكثر ما ينكل التعذيب، والطائفة قيل: أقلها ثلاثة وقيل: اثنان وقيل أربعة وقيل واحد وقيل جميع يحصل به التشهير. (1) * الأصل 2 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن إسماعيل، عن محمد بن الفضيل، عن أبي الصباح الكناني، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قيل لأمير المؤمنين (عليه السلام): من شهد أو لا إله إلا وأن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان مؤمنا ؟ قال: فأين فرائض الله ؟ قال: وسمعته يقول: كان علي (عليه السلام) يقول: لو كان الإيمان كلاما لم ينزل فيه صوم ولا صلاة ولا حلال ولا حرام. قال: وقلت لأبي جعفر (عليه السلام): إن عندنا قوما يقولون: إذا شهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فهو مؤمن قال: فلم يضربون الحدود ولم تقطع أيديهم ؟ ! وما خلق الله عز وجل خلقا أكرم على الله عز وجل من المؤمن، لأن الملائكة خدام المؤمنين وأن جوار الله للمؤمنين وأن للمؤمنين وأن الحور العين للمؤمنين، ثم قال: فما بلا من جحد الفرائض كان كافرا ؟ * الشرح


1 - قوله " يحصل به التشهير " هذا الحديث بطوله رد على المرجئة وهم كانوا جمعاعة في صدر الإسلام يرون أنه لا يضر مع الإيمان شئ من عمل الجوارح كما مر مرارا فهم نظير جماعة من عوام الشيعة يزعمون السعادة الاخروية تنحصر في ولاية أهل البيت (عليهم السلام) ولا يضر مع ولايتهم ترك العبادات وارتكاب المنهاهي والقباوئح ومثلهم جماعة من الزنادقة المتظاهرين بالإسلام يطمعون أن يعدهم المسلمون من جماعتهم ويصافوهم المودة ويعاونوهم في مقاصدهم يقولون بأفواههم نحن مسلمون وإن تركوا الصلاة والصوم وسائر ما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويستهزؤون باكثر أحكامه ويجدون في نقضها ونسخها وبيان الحجة التي أقامها الإمام (عليه السلام) أنه لو كان الإيمان بلا عمل سببا للنجاة في الآخرة لم يكن فائدة في تتابع الانبياء واحدا بعد واحد ونسخ شريعة باخرى وتعذيب من يبقي على الدين المنسوخ ولا يؤمن بالدين الناسخ فقد نسخ المسيح (عليه السلام) سبت اليهود وبعض أحكامهم وعذب اليهود لعدم إيمامنهم به مع أن جميعهم كانوا على نفي الشرك ولم يكن الإيمان بالنبي إلا مقدمة للعمل بشريعته، وأيضا ورد في آيات كثيرة في السور المكية الاكتفاء بالإيمان ونفي الشرك في النجاة ولكن في السور المدنية آيات في مؤاخذة الناس في الآخرة بعمل الجوارح وإن لم يكونوا مشركين هي ناسخة للآيات المكية وصارت المنسوخة لأصحاب الارجاء من المتشابهات التي يتمسك بها الذين في قلوبهم زيغ. (ش) (*)

[ 99 ]

قوله (قيل لأمير المؤمنين (عليه السلام) من شهد أن لا إله إلا - ألخ) هذا القول يحتمل أن يكون استفهاما واخبارا. وقوله (عليه السلام) فأين فرائض الله يدل على أنها معبترة في الإيمان ولكن بعد الهجرة وأما قبلها فلا، كما مر. قوله (لو كان الإيمان كلاما لم ينزل) أي لو كان الإيمان كلاما لسانيا وهو الإقرار بالشهادتين أو قلبيا أيضا وهو التصديق فإن كان يطلق على المعقول أيضا لم ينزل هذه الاحكام التي وقع الوعيد والتغليظ فيها وتوجه الشرطية ظاهر فاإن مناط الكرامة والثواب والملامة والعقاب هو الإيمان وعدمه هو فلو كان الإيمان مجرد كلام لم ينزل هذه الأحكام فإن قلت لعل الإيمان وعدمنه مناط لأصل الثواب والعقاب وتفاوت الدرجات والدركات لأجل تلك الأحكام فيتوجه المنع إلى الشرطية قلنا المقصود أن الدرجات أيضا للأيمان فيتم الشرطية إذ محصلها أن الإيمان موجب الاستحقاق الثواب والدرجات العالية فلو كان كلاما فقط لم ينزل احكام والحاصل أن كلامنا في الإيمان الكامل، وظاهر أنه ليس مجرد كلام بل الأعمام والاحكام معتبرة فيها. قوله (فلم يضربون الحدود ولم تقطع أيديهم) التعذيب بالضرب والقطع والإهانة بهما يدل على أن الزاني والسارق مثلا ليسا بمؤمنين لأن المؤمن عزيز لا يعذب ولا يهان. قوله (ثم قال فما بلا من جحد الفرايض كان كافرا) لعل المراد أن جاحد الفرائض مثل الصلاة والزكاة والصوم وغيرها كافر عندهم أيضا وما ذلك إلا لأنها معتبرة في الإيمان وائذا كان كذلك كان تاركها أيضا كافرا كما يدل عليه ما روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) " أن الكفر كما يطلق على كفر الجحود كذلك يطلق على ترك ما أمر الله عز وجل به " وما روي عنه (عليه السلام) في تفسير قوله تعالى * (إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا " قال اما " آخذ فهو شاكر واما تارك فهو كافر " والكفر بهذا المعنى ينافي الإيمان الكامل دون إيمان التصديق وما روى من أن المؤمن لا يدخل النار يراد به المؤمن الكامل ثم المفهوم من هذا القول أن الفرائض معتبرة في الإيمان الكامل، وأما أنها من اجزائه أو شرايطه أو هي أيضا إيمان فلا دلالة فيه على شئ من ذلك ولكن المشهور الأول وعليه روايات منها الروايات الاولى من هذا الباب والثاني محتمل والثالث مدلول بعض الأخبار كما سيجئ في الباب الآتي من تسمية الصلاة ايمانا. * الأصل 3 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن سلام الجعفي قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الإيمان، فقال: الإيمان أن يطاع الله فلا يعصى. قوله (فقال الإيمان أن يطاع الله فلا يعصى) قد ذكرنا أن الإيمان في عرف الأئمة (عليهم السلام) هو الإيمان


[ 100 ]

الكامل الذي لا يستحق صاحبه الخزي والخذلان وليس ذلك إلا التصديق والطاعة لله تعالى في أوامره ونواهيه فكان ما عداه ليس بإيمان حقيقة، وليس المقصود نفي الإيمان عن غيره (1) كثير من الآيات والروايات دالة على أن التصديق إيمان.


1 - " ليس المقصود نفي الايمان عن غيره " أحاديث هذا الباب أيضا رد علبى المرجئة يرون الفساق الصالح سواء في الفضل عند الله ليصير موجبا لعدم تنفر الناس عن بني أمية والاجتناب عن لعنهم والتبرى منهم ولكن الإيمان الظاهر من الفساق في مذهبنا لا يؤثر إلا في بعض أحكام الدنيا وأما الفضل عند الله ومصاقاة المودة معهم وأعانتهم كسائر الصلحاء فلا ولما كان هذا المذهب من الاراء غير المحمودة التي تتفرع عليها مفاسد كثيرة في الامة بالغ الأئمة (عليهم السلام) في نقضه وردهن فإنه يوجب جرأة الولاة على الشرو الظلم واطمينانهم من مخالفة العامة وثورتهم ويوهن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعدم حرمة للصلحاء في الجامعة الانسانية وعدم رغبة الناس في التشبه بهم وأيضا إن كان الصالح والطالح سواء في الحرمة والفضل بطل مكارم الاخلاق وارجت الهمجية. (ش) (*)

[ 101 ]

* الأصل (باب) في أن الإيمان مبثوث لجوارح البدن كلها * الشرح قوله (باب في أن الإيمان مبثوت لجوارح البدن) كلها اللام صلة لمبثوث أو بمعنى في ظرف له ويؤيده وجود في بدلا لها في بعض النسخ وهو الأظهر. * الأصل 1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن بكر بن صالح، عن القاسم بن بريدة قال: حدثنا أبو عمر والزبيري، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: أيها العام أخبرني أي الأعمال أفضل عند الله ؟ قال: ما لا يقبل الله شيئا إلا به، قلت: وما هو ؟ قال: الإيمان بالله الذي لا إله إلا هو، أعلى الأعمال درجة أشرفها منزلة وأسناها حظا. قال: قلت: ألا تخبرني عن الإيمان أقول هو وعمل ؟ أم قول بلاعمل ؟ فقال: الإيمان عمل كله والقول بعض ذلك العمل، بفرض من الله بين في كتابه، واضح نوره، ثابتة حجته، يشهد له به الكتاب ويدعوه إليه، قال: قلت: صفه لي جعلت فداك حتي أفهمه، قال: الإيمان حالات ودرجات وطبقات ومنازل، فمنه التام المنتهى تمامه ومنه النقص البين نقصانه ومنه الراحج الزائد رجحانه، قلت: إن الايمان ليتم وينقص ويزيد ؟ قال: نعم قلت: كيف ذلك ؟ قال: لأن الله تبارك وتعالى فرض الإيمان على جوارح ابن آدم وقسمه عليها وفرقه فيها، فليس من جوارحه جارجة إلا وقد وكلت من الإيمان بغير ما وكلت به اختها فمنها قلبه الذي به يعقل ويفقه ويفهم وهو أمير بدنه الذي لا ترد الجوارح ولا تصدر إلا عن أريه وأمره ومنها عيناه اللتان يمشي بهما وفرجه الذي الباه من قبله، ولسانه الذي ينطق به ورأسه الذي فيه وجهه، فليس من هذه جارحة إلا وقد وكلت من الإيمان بغير ما وكلت به اختها، بفرض من الله تبارك اسمه، ينطق به الكتاب لها ويشهد به عليها ففرض على القلب غير ما فرض على السمع وفرض على السمع غير ما فرض على العينين وفرض على العينين غير ما فرض على اللسان وفرض على اللسان غير ما فرض على اليدين وفرض على اليدين غير ما فرض على الرجلين وفرض على الرجلين غير ما فرض على الفرج غير ما فرض على الوجه، فأما ما فرض على القلب من الإيمان فالإقرار والمعرفة والعقد والرضا والتسليم بأن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إلها واحدا، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا وأن محمدا عبده ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) والإقرار بما جاء من عند الله من نبي أو كتاب فذلك ما فرض الله على


[ 102 ]

القلب من الإقرار والمعرفة وهو عمله وهو قول الله عز وجل * (إلا من اكره وقلبه مطمئن بالايمان ولكن من شرح بالكفر صدرا) * قال: * (ألا بذكر الله تطمئن القلوب) * وقال: * (الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم) * وقال: * (إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء) * فلذلك ما فرض الله عز وجل على القلب والتعبير عن القلب من الإقرار والمعرفة وهو رأس الإيمان، وفرض الله على اللسان القول والتعبير عن القلب بما عقد عليه، وأقربه، قال الله تبارك وتعالى * (وقولوا وما للناس حسنا) * وقال: * (قولوا آمنا بالله وما انزل إلينا وما انزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون) * فهذا ما فرض الله على اللسان وهو عمله، وفرض على السمع أن يتنزه عن الإستماع إلى ما حرم الله وأن يعرض عما لا يحل له مما نهى الله عز وجل عنه والاصغاء إلى ما أسخط الله عز وجل فقال في ذلك: * (وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يفكر بها ويستهزء بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره) * ثم استثنى الله عز وجل موضع النسيان فقال: * (وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين) *. فقال: * (فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه اولئك الذين هديهم الله وأولئك هم اولوا الأباب) * وقال عز وجل: * (قد أفلح المؤمنون الذينهم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغوا معرضون والذين هو للزكوة فاعلون) * وقال: * (إذا سمعوا اللغو، أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم) * وقال: * (وإذا مروا باللغو مر وأكراما) * فهذا ما فرض الله على السمع من الإيمان أن لا يصغى إلى ما لا يحل له وهو عمله وهو من الايمان، وفرض على البصر أن لا ينظر إلى ما حرم الله عليه وأن يعرض عما نهى الله عنه، مما لا يحل له وهو عمله وهو من الإيمان، فقال تبارك وتعالى: * (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم) * فنهاهم أن ينظروا إلى عوارتهم وأن ينظر المرء إلى فرج أخيه ويحفظ فرجه أنه ينظر إليه وقال: * (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن) * من أن تنظر إحديهن إلى فرج أختها وتحفظ فرجها من أن ينظر إليها. وقال: كل شئ في القرآن من حفظ الفرج فهو من الزنى إلا هذه الآية فإنها من النظر، ثم نظم ما فرض على القلب واللسان والسمع والبصر في آية اخرى فقال: * (وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم) * يعني بالجلود: الفروج والأفخاذ. وقال: * (ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل اولئك كان عنه مسئولا) * فهذا ما فرض الله على العينين من غض البصر عما حرم الله عز وجل وهو عملهما وهو من الإيمان. وفرض الله على اليدين أن لا يبطش بهما إلى ما حرم الله وأن يبطش بهما إلى ما أمر الله عز وجل وفرض عليهما من الصدقة وصلة الرحم والجهاد في سبيل الله والطهور للصلاة، فقال:


[ 103 ]

* (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاعسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤسكم وأرجلكم إلى الكعبين) * وقال: * (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخمنتموهم فشدوا الوثاق فاما منا بعد وإما فداءا حتى تضع الحرب أو زارها) * فهذا ما فرض الله على على اليدين لأن الضرب من علاجهما. وفرض على الرجلين أن لا يمشي بهما إلى شئ من معاصي الله وفرض عليهما المشي إلى ما يرضي الله عز وجل فقال: * (ولا تمس في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا) * وقال: * (واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن النكر الأصوت لصوت الحمير) * وقال: فيما شهدت الأيدي والأرجل على أنفسهما وعلى أربابهما من تضييعهما لما أمر الله عز وجل به وفرضه عليهما: * (اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون) * فهذا أيضا مما فرض الله على اليدين وعلى الرجلين وهو عملهما وهو من الإيمان وفرض على الوجه السجود له بالليل والنهار في مواقيت الصلاة فقال: * (يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون) * فهذه فريضة جامعة على الوجه واليدين والرجلين، وقال: في موضوع آخر: * (وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا) * وقال فيما فرض على الجوارح من الطهور والصلاة بها وذلك أن الله عز وجل لما صرف نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الكعبة عن البيت المقدس فأنزل الله عز وجل * (وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرؤف رحيم) * فسمى الصلاة إيمانا فمن لقى الله عز وجل حافظا لجوارحه موفيا كل جارحة من جوارحه ما فرض الله عز وجل عليها لقى الله عز وجل مستكملا لإيمانه وهو من أهل الجنة ومن خان في شئ منها أمر تعدي ما أمر الله عز وجل فيها لقى الله عز وجل ناقص الإيمان، قلت: قد فهمت نقصان الإيمان وتمامه، فمن أين جاءت زيادته ؟ فقال: قول الله عز وجل: * (وإذا ما انزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون * وأما الذين في قلوبهم رض فزادتهم رجسا إلى رجسهم) * وقال: * (ونحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى) * ولو كان كله واحدا لا زيادة فيه ولا نقصان لم يكن لأحد منهم فضل على الآخر ولا ستوت النعم فيه ولا ستوى الناس وبطل التفضيل ولكن بتمام الإيما دخل المؤمنون الجنة وبالزيادة في الإيمان تفاضل المؤمنون بالدرجات عند الله وبالنقصان دخل المفرطون النار. * الشرح قوله (الإيمان بالله) أراد به الإيمان بالله وبالرسالة والولاية لأن كل واحد منها بدون الآخر ليس بإيمان ولافضل له فضلا عن أن يكون أفضل وأشار بقوله الذي لا إله إلا هو إلى أن الإيمان به مع


[ 104 ]

الشرك ليس بإيمان وبقوله أعلى الأعمال درجة إلى أنه عمل وسيصرح به وكون درجته أعلى باعتبار أنه أعظم الأعمال وعلو درجة كل بقدر عظمته لكون منزلته أشرف لتوقف قبول سائر الأعمال وصحتها عليه وكون حظه ونصيبه أسنى وأرفع باعتبار أن ثوابه وجزاءه أكمل وأجزل. قوله (قلت ألا تخبرني عن الإيمان) لما كان الجواب المذكور مجملا لم يعرف منه حقيقة الإيمان سأل السائل عنها وكأنه أراد بالقول المركب المعقول والملفوظ أعنى الإقرار باطنا بالتصديق وظاهرا باللسان وبالعمل عمل سائر الجوارح إذ القول بأن الإيمان محض الإقرار باللسان بعيد لا يحمل كلام السائل عليه فأجاب (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن الإيمان عمل كله أي كل أفراده على ما هو ظاهر من التفصيل الآتي مثل قوله تعالى * (وقال الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم " أو كل أجزائه على أن يكون الإيمان مركبا من الجميع والحق أن الإيمان الكامل مركب من الجميع وأن كل واحد أيضا يسمى إيمانا لأن انقياد كل عضو واطاعته فيما أمر به إيمان كما سيجئ فعلى كل عضو إيمان، ومجموع الأعمال المختلفة من حيث المجموع أيضا إيمان ويعبر عنه بالايمان الكامل وهو الذي ينجي صاحبه من الخزي والعقاب فقوله (عليه السلام) " والقول بعض ذلك العمل " معناه على الأول أنه بعض أفراد ذلك العمل الذي هو الإيمان وعلى الاخير أنه بعض أجزائه فليتأمل. قوله (بفرض من الله الظرف متعلق بقوله " الإيمان عمل كله " أو بقوله " والقول بعض ذلك المعل " أو بهما و " بين " بالتنوين و " واضح " وصفان لغرض والضمير وفي نوره وحجته راجع إليه، والمراد بالنور العلم، واضافته باعتبار تعلقه به أو المراد به الدليل سمى به لأنه يوصل إلى المطلوب كالنور والأول أولى لأن هذا المعنى يفهم من قوله ثابتة حجته والتأسيس خير من التأكيد والظاهر أن يشهد ويدعوه حال عن فرض وأن ضمير له وإليه راجع إلى الله تعالى وضمير به والبارز في يدعوه للفرض [ ودعوة الفرض ] إليه سبحانه نسبته إليه وبيانه أنه منه، ويحتمل أن يكون حالا عن الإيمان وأن يكون ضمير له ويدعوه راجعا إليه وضمير به وإليه للعمل أي يشهد الكتاب للإيمان بأنه عمل، هذا الذي ذكرناه من باب الاحتمال وألله أعلم بحقيقة كلام وليه. قوله (الإيمان حالات ودرجات وطبقات ومنازل) إشارة إلى أن للإيمان مراتب متكثرة وهي حالات للإنسان باعتبار قيامها به ودرجات باعتبار ترقيه من بعضها إلى بعض ومنه يظهر سر ما روي من " أن الإيمان بعضه من بعض " وطبقات بإعتبار تفاوت مراتبها في نفسها وكون بعضها فوق بعض ومنازل باعتبار أن الإنسان ينزل فيها ويأوي إليها فمنه التام المنتهى تمامه كايمان الانبياء والأوصياء ومنه الناقص البين نقصانه وهو أدني المراتب الذي دونه الكفر ومنه الراحج الزائد رجحانه وهو على مراتب غير محصورة باعتبار التفاوت في الكمية والكيفية وإلى هذه الأقسام أشار أمير


[ 105 ]

المؤمنين (عليه السلام) بقوله " فمن الإيمان ما يكون ثابتا مستقرا في القلوب ومنه ما يكون عواري بين القلوب والصدور إلى أجل معلوم " قسم الإيمان إلى قسمين لأن الإيمان إن بلغ حد الكمال فهو القسم الأول وإلا فهو القسم الثاني، استعار له لفظ العواري باعتبار كونه في معرض الزوال كالعواري وكنى بكونه بين القلوب والصدور عن كونه مترددا غير مستقر ولا متمكن في جوهر النفس. والقسمان الاخيران هنا أعنى الناقص والراجح داخلان في العواري. والله هو الموفق الهداية ومنه البداية والنهاية. قوله (قلت إن الإيمان ليتم وينقص ويزيد) لا وجه لسؤاله بعد ما عرف أن للإيمكان درجات وأنه عمل إذ لاريب في أن العمل يقبل الزيادة والنقصان وكأنه طلب زيادة التقرير والتوضيح ليعرف حقيقة الحال أو ظن أن المراد بالعمل عمل مخصوص أن نقص انتقى الإيما وإن زاد لم يكن للزيادة مدخل فيه، فأجاب (عليه السلام) بقول نعم تصديقا لذلك وتصريحا بأن جنس الأعمال أنواعه متكثرة يزداد الإيمان باعتبراها وينقص، قال المحقق الطوي: الإيمان في اللغة التصديق وفي العرف التصديق المخصوص وهو التصديق بالله وبرسوله وبما ثبت أنه جاء به الرسول هذا القدر من الإيمان لا يقبل الزيادة والنقصان إذ إلا نقص منه ليس بإيمان والزائد لا مدخل له فيه بل في كماله، ومن علاماته الإتيان بالصالحات وترك المنهيات وبهذا الإعتبار بتحقيق فيه الزيادة والنقصان. قوله (وقسمه عليها وفرقة فيها) هذه القسمة أما قسمة الكلى على جزئياته أو قسمة الكل على أجزائه والأول قريب من الشكر بالمعنى اللغوي، الثاني من الشكر بالمعني العرفي. قوله (فمنهما قلبه الذي به يعقل ألخ) المراد بالقلب الروح والعقل والنفس الناطقة بالاعتبارات وقد يطلق على القوة المميزة (1) فإذا رجعت الجوارح إلى أمره ورأيته وتدبيره في أفعالها حصلت السياسة البدنية تحققت ملكة العدالة وانتظمت الامور وإن خالفته فسد النظام وذاع الشرور واستولى المرض عليها حيت يزول عنها استعداد الخير بالمرة.


1 - " على القوة المميزة " ويقال فيها في اصطلاح الحكماء العقل العملي وليس إلا خاصة من خواص النفس الناطقة كالعقل النظري وبالجملة للنفس قوتان نظرية بها يدرك حقائق الكليات على ما هي عليه غير آلة والجزئيات بتوسط الآلة وقوة عملية يدرك بها حسن بعض الأفعال وقبح بعضها وقالوا تسرع الصبي إلى إدراك قباحة بعض الامور ككشف العورة دليل على قوة النفس النطقية بخلاف الذي لا يدرك إلا متأخرا والحيوان غير الناطق لا يدرك قبح شئ أو حسنه، والدليل على أن العقل النظري غير المعلى عدم اختلاف الامم في الاوليات النظرية كالكل أعظم من الجزء والاثنان نصف الاربعة واختلافهم في أوليات القوة العملية كقبح ذبح الحيوانات عند أهل الهند وحسن شرب الخمر عند النصاري. (ش) (*)

[ 106 ]

قوله (وفرجه الذي الباه من قبله) بكسر القاف أي من عنده. والباه: جماع كردن. قوله (ينطق به الكتاب لها ويشهد عليها) الضمير في به في الموضعين للإيمان أو للفرض وفي لها وعليها للجارحة. قوله (فأما ما فرض على القلب من الإيمان فالإقرار والمعرفة والعقد والرضا والتسليم بأن لا إله إلا الله) لعل المراد بالإقرار الإقرار بما جاء به الرسول باطنا بالقلب لا ظاهرا باللسان لأن المفروض أنه من فعل القلب، وبالمعرفة التصديق بالتوحيد والرسالة، بالعقد رسول ذلك التصديق وثبوته أو العطف للتفسير، وبالرضا بقضاء الله وهو من ثمرة المحبة فإن من أحب الله لا ينكر ما صدر منه ويكون راضيا به وإن كان بشعا مرا مخالفا لطبعه، ويكون الموت والحياة والفناء والبقاء والفقر والغنى وإقبال الدنيا وادبارها عنده سواء لا يرجح أحدهما على الآخر لصدوره من المحبوب وكل ما صدر من المحبوب فهو محبوب، والتسليم فوق الرضا لأن العبد في مقام الرضا يرى نفسه ويعد كل فعله عز شأنه موافقا لطبعه، في مرتبة التسليم يسلم نفسه وطبعه وما يوافقه ويخالفه إليه ومن ههنا يظهر أن الإيمان القلبي يتفاوت قوة وضعفا (1) لأن زواله يوجب الدخول في الكفر وبخلاف البواقي فإن زوالها يوجب زوال الكمال وربما يشعر به ما نقلناه عن المحقق سابقا والظاهر أن قوله " بأن لا إله إلا الله - إلى آخره " متعلق بالإقرار والعمرفة والعقد وأن قوله " والإقرار بما جاء من عند الله معطوف على أن لا إله إلا الله فيكون الاولان بيانا للآخرين الاخير بيانا للأول. قوله (وقلبه مطمئن بالإيمان حال مؤكدة لأن الإكراه لا ينفك عنه غالبا ودليل على أن الإيمان من الفروض القلبية وعلى أن لا يزول بالإكراه واظهار نقيضه باللسان عند التقية وعلى أن الإقرار باللسان وغيره من الأعمال بدونه ليس بإيمان.


1 - قوله " يتفاوت قوة وضعفا " يوصف الإيمان بالقوة والضعف والقلة والكثرة بإعتبار يؤمن به لا باعتبار نفس معناه المصدري كما أن العلم يوصف بالقلة والكثرة باعتبار المعلوم ولكن الظن يوصف بالشدة والضعف باعتبار نفس معناه المصدري والفرق أن الظن يجتمع مع تجويز النقيض وهو قريب وبعيد بخلاف العلم والإيمان فإنهما الاعتقاد بالشئ مع عدم تجويز الخلاف أصلا، ولا يتصور فيه تفاوت أصلا والغرض من هذه الأحاديث كما قلنا الرد على المرجئة حيث كان مذهبهم التقريب والمصافات بين فساق بني امية والمتدينين من رعاياهم عكس مذهب الخوارج حيث كانوا على تشديد العداوة واثارة البغضاء ليسهل عليهم الخروج على الولاة وتوهين ملك بني امية يتكفيرهم وكان ضرر المرجئة أشد ولذلك قال أمير المؤمنين (عليه السلام) لاتقالوا بعدي الخوارج فإنه ليس من طلب الحق فأخطا (يشير إلى الخوارج) كمن طلب الباطل فأصاب (إشارة إلى بني امية). (ش) (*)

[ 107 ]

قوله (وقال إن تبدوا) أي أن تبدوا ما في أنفسكم من الإيمان والكفر والكبر والعجب وغيرها من المعاصي القلبية أو تخفوها يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء بالفضل إذا كان من أهله ويعذب من يشاء بالعدل إذا كان من أهل وهذه الآية دلت بعمومها على المؤاخذة والتعذيب بنية المعاصي والمخاطرات النفسية ويمكن تخصيصها بالعقايد القلبية والخبائث النفسية مثل الإيمان والكفر والكبر والعجب وأمثالها لما يظهر من ظاهر استشهاد المعصوم هنا ولدلالة والاخبار الكثيرة الآتية في أبوابها على عدم المؤاخذة بالنية والمخاطرات ولقوله تعالى * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت " فإن ذكر الاكتساب في طرف المعصية دليل على أنه لا يعذب بها إلا بعد المبالغة في الكسب، والمبالغة لا يتحقق الا بعد اليجاد المنوي والايتان بها بخلاف الطاعبة فانه يثاب بها لاصل الكس وهو يتحقق بالينة فيثاب بها كما يثاب بفعل المنوي، وقيل أن نية المعصية معصية يقتضى العقوبة ولكنه تعالى يعفو عن المؤمنين ويكون المراد بقوله فيغفر لمن يشاء المؤمنون والله أعلم. قوله (وفرض الله على اللسان القول والتعبير عن القلب) دل على وجوب الاقرار باللسان بالاعتقادات مثل الإيمان وغيره، ولا يدل على اشتراط قبول الإيمان القلبي به كما ظن نعم يشترط عدم الإنكار باللسان لقوله تعالى * (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم " وينبغى أن يراد بالقول القول الواجب مطلقا مثل أداء الشهادات والإقرار بحقوق الناس واظهار العقايد القلبية والقول الحسن للناس مثل تعليم العلوم والامر بالمعروف والنهي عن المنكر وأمثال ذلك حينئذ ذكر التعبير بعده من باب ذكر الخاص بعد العام لزيادة الاهتمام، ومن ههنا ظهر أن عطف العبير على القول ليس للتفسير، وحمله على التفسير مع أنه خلاف الظاهر مخل لوجهين: الاول أن الفروض اللسانية غير منحصرة في التعبير بل هي أكثر من أن تحصى، والثاني لا يناسب قوله (عليه السلام) استشهادا له قال الله تبارك اسمه * (وقولوا للناس حسنا " إذ لا يدخل له في التعبير عن القلب بخلاف ما قلنا فان هذا شاهد للقول وما بعده شاهد للتعبير، وينبغى أيضا أن يراد بالاقرار في قوله " وأقربه " الاقرار القلبي لا سناده إلى القلب وهو ظاهر. قوله (وفرض على السمع أن يتنزه عن الإستماع إلى ما حرم الله) يندرج فيه جميع المحرمات السمعية مثل الغناء والغيبة وصوت الاجنبية والمزامير ونحوها وكلام الكذب وذم الائمة (عليهم السلام)، وإنكار حقوقهم واستهزاء المؤمنين وغيرها. قوله (فقال في ذلك وقد نزل عليكم في الكتاب) ذلك اشارة إلى النهى عن استماع ما حرم الله والاصغاء إلى ما أسخط الله، والمراد بالايات الائمة (عليهم السلام) أو الاعم يعنى إذا سمعتم الرجل يجحذ


[ 108 ]

الحق ويكذب به ويقع في الائمة ويستهزئ بهم فقوموا من عنده ولا تقاعدوه ولا تجالسوه حتى يخوص ويشرع في حديث غيره فحينئذ يجوز مجالسته لاشادة وغيره مما يجوز الجلوس معه ثم استثنى موضع النيسان إذ لا يكلف معه فقال * (أما ينسينك الشيطان " حرمة المجالسة * (فلا تقعد بعد الذكرى " للحرمة * (مع القوم الظالمين " وهم المذكورون، والاظهار في مقام الاضمار للتنصيص على ظلمهم وللتصريح بعلة الحرمة. قوله (فبشر عباد الذين) الاضافة للتشريف والاشعار بأنهم هم المستحقون بأن يسموا عبادا وأحسن القول ما فيه رضاء الله تعالى أو رضاه أكثر، وما هو أشد على النفس وأشق، هذه كلمة جامعة يندرج فيها القول في أصول الدين وفروعه والاصلاح بين الناس، وروى أنه المراد به نقل الحديث باللفظ من غير زيادة ونقصان والتعميم أحسن. قوله (والذين هم عن اللغو معرضون) اللغو الفحش وما لاخير فيه من الكلام ويكفى في الاستشهاد كون بعض أفراده حراما والاعرض عنه واجب مثل الغناء والذف والصنج والبطل والطنبور والاكاذيب وغيرها. قوله (وإذا مروا باللغو مروا كراما) أي مكرمين أنفسهم عن استماع اللغوا الكريم من الناس الشريف الذي يتبرأ من أمثال الامور المذكورة. قوله (فهذا ما فرض الله على السمع من الإيمان أن لا يصغى إلى ما لا يحل) هذا إشارة إلى المذكور من الواجبات والمرحمات، والضاهر أن " من الإيمان " مبتدا و " أن لا يصغى " خبره، واكتفى بذكر عدم الاصغاء إلى ما لا يحل عن ذكر الاصغاء إلى ما يجب ولو جعل " من " بيانا لما بقى أن لا يصغى منفصلا ولا محل له من الاعراب إلا أن يجعل بدلا لما وهو بعيد. قوله (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم) قال في مجمع البيان " يعضوا " مجزوم لأنه جواب شرط مقدر تقديره قل للمؤمنين غضوا فإنك ان تقل لهم يضغوا ثم قال ويجوز أن يكون مجزوما على تقدير ليغضوا. وقيل خبر بمعنى الامر والاوسط أوسط عند الفاضل الاردبيلي حيث قال ولعل اللام مقدر والتقدير ليغضوا ثم ذكر الاول ورده من غير وجه وجيه ولم يذكر الثالث، وقال صاحب الكاشف " من " للتبعيض والمراد غض البصر عما يحرم. والاقتصار على ما يحل وهو مذهب سيبوية، وجوز الاخفش أن يكون زايدة وبعض أصحابنا رد الاخير لضعف زيادة من في الاثبات الاشاذا ورجح الاول لأنه لا يجب الغض عن جميع المحرمات لجواز النظر إلى شعور المحرمات وأبدانها عدا العورة والى وجوه الاجنبيات وكفيها وقدميها قي أحدى الروايتين أو في حال الضرورة كالنظر للعلاج أو تحمل الشهادة أو اقامتها والى المخطوبة مع امكان النكاح وبدونه إلى وجوه


[ 109 ]

الاماء المستعرضات للبيع، والفاضل الاردبيلي رجح الثاني ورد الاول بأن التبعيض يفيد غض بعض البصر دون البعض لا بعض المبصر وهو المطلوب والمعقول كما يفهم من قوله " والمراد - إلى آخره " أقول يمكن أن يراد بالتبعيض غض بعض البصر بارخائه في الجملة بحيث لا يرى المحرم لا تطبيقه رأسا ويراد به على أي تقدير ترك النظر إلى ما لا يحل. قوله (فنهاهم أن ينظروا إلى عوراتهم) دل على أن الامر بالشئ نهى عن ضده أي نهاهم أن ينظر كل واحد إلى عورة غيره، ذكرا كان أم انثى، قبلا كام أم دبرا، وأن ينظر المرء إلى فرج أخيه وكذا فرج اخته والعطف للتفسير ويمكن أن يراد بغض البصر ترك النظر إلى كل ما لا يحل والمذكور أكمل أفراده وهذا ناظر إلى قوله * (يغضوا من أبصارهم " وتفسير له وقوله " ويحفظ فرجه " ناظر إلى قوله تعالى * (ويحفظوا فروجهم " وتفسير له والظاهر ان عطف يحفظ على ينظر غير صحيح لعدم صحيح لعدم اندراجه تحت النهى، وكأنه عطف على نهاهم باضمار فعل أي وأمره أن يحفظ فرجه فليتأمل. قوله (من أن تنظر احديهن إلى فرج اختها وتحفظ فرجها من أن ينظر إليها) " من " متعلق بيغضضن ويحفظن أو بفعل مقدر بقرينة السابق أي نهاهن من أن تنظر وهذا ناظر إلى يغضضن وتفسير له، وقوله " وتحفظ فرجها " ناظر إلى يحفظن وتفسير له ولا يبعد تعميم الغض ليشمل كل ما لا يحل لهن النظر إليه والمذكور بعض أفراده وتخصيص الحفظ بما ذكر إلا أن التوافق بين القرينتين، وهذه الرواية وغيرها يدل على المذكور. قوله (فانها من النظر) لما كان النظر إلى العورة مع قبحه مثيرا للشهوة والفساد غالبا حرم النظر إليها وأوجب حفظها عنه ودفعا للفساد. قوله (ثم نظم ما فرض على القلب واللسان والسمع والبصر في آية اخرى) فيه أن الفروض القلبية واللسانية غير مندرجة في الآية الاولى والفروض اللسانية في الاية الثانية ويمكن ان يقال يفهم ذلك من قوله " يستترون أن يشهد عليكم " ومن قوله * (ولا تقف ما ليس لك به علم " فان استتار الشئ عبارة عن اضماره في القلب وعدم اظهاره باللسان وعدم متابعة غير المعلوم عبارة عن عدم التصديق به وعدم اظهار العلم به باللسان والله أعلم. قوله (وما كنتم تستترون) قيل كنتم تستترون القبايح عند فعلكم اياها وما كنتم عالمين ولا ظانين بشهادة الجوارج على أنفسها فيدل على أنهم مكلفون بالفروع ولولاه لم يشهد على أنفسها وقيل لعل المراد بها أنكم ما كنتم لتستتروا وتددفعوا شهادتها على أنفسكم بعدم. قوله (إن السمع والبصر والفؤاد) قد فرض الله تعالى على هذه الأعضاء فرائض يحتج بها عليك


[ 110 ]

ويسألك عن كل واحد يوم القيامة فيما صرفته أصرفته فيما خلق لاجله أو في غيره، فوجب أن لا تستعمله في محرم لأنه يشهد عليك وعلى نفسه بما فعل من خير أو شر. قوله (إلى ما حرم الله) مثل القتل والضرب والنهب والسرقة وكتابة والكذب والظلم ونحوها. قوله (وفرض عليهما من الصدقة وصلة الرحم) إذ إيصال الصدقة إلى الفقراء وإيصال الخير إلى الأقرباء والضرب والبطش والشد في الجهاد والطهور للصلوة بغسل اليدين ومسح الرأس والرجلين من فروض اليد واسيتشهد للطهور والجهاد بالايتين ويفهم منه وجوب استعمال اليد في غسل الوجه وهو أما لأنه الفرد الغالب أو لأن فرد الواجب التخييري أيضا واجب وإن كان التخصص ببعض الأفراد مستحبا. قوله (فضرب الرقال) ضرب الرقاب عبارة عن القتل بضرب العنق وأصله فاضربوا الرقاب ضربا حذف الفعل واقيم المصدر مقامه واضيف إلى المفعول، والاثخان اكثار القتل أو الجراح بحيث لا يقدر على النهوض، والوثاق بالفتح والكسر ما يوثق به وشده كناية عن الاسر، ومنا وفداء مفعول مطلق لفعل محذوف أي فأما تمنون منا وأما تفدون فداء وأوزار الحرب آلاتها مثل السيف والسنان وغيرهما والمروى ومذهب الاصحاب أن الاسير ان أخذ والحرب قائمة تعين فتله أما يضرب عنقه أو بقطع يده ورجله من خلاف، وتركه حتى ينزف ويموت وان أخذ بعد انقضاء الحرب تخير الإمام بين المن والفداء الاسترقاق ولا يجور القتل، والاسترقاق علم من السنة. قوله (وفرض عليهما المشي إلى ما يرضى الله عز وجل) مثل الحج والجهاد والزيارات وقضاء حوائج المؤمنين والذهاب إلى الصلاة والقيام فيها ونحوها. قوله (اليوم نختم على أفوواهم) قيل هذا ينافي ما روى أن الناس في ذلك اليوم يحتجون لانفسهم ويسعى كل منهم من فكاك رقبته كما قال سبحانه * (يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسهما والله سبحانه يلقن من يشاء وحجته ويرشد إليه أيضا ما روي في دعاء الوضوء " اللهم لقنى حجتي يوم ألقاك ". واجيب بأن الختم مخصوص بالكفار كما قاله بعض المفسرين أو أن الختم يكون بعد الاحتجاج والمجادلة كما في بعض الروايات، وبالجملة المعلوم أن الختم يقع في ذلك اليوم فيجوز أن يقع الختم في مقام ويقع المجادلة في مقام آخر. قوله (فهذه فريضة جامعة على الوجه واليدين والرجلين أي الركوع والسجود والعبادة وفعل الخير فريضة على الاعضاء المذكورة غير مختصة بأحدهما أما الركوع فلان للوجه فيه نصيبا من الفرض وهو الانحناء وللرجلين كذلك وهو القيام، ولليدين كذلك وهو وصولهما إلى الركبتين هذا في الفرائض، وأما أفعالها المندوبة فكثيرة تعرف بالنظر في كتب الفروع، وأما السجود ففرض


[ 111 ]

الرجل وضع الركبتين والابهامين على الأرض. وأما العبادة وفعل الخير فظاهر إذ لكل عضو من الأعضاء فيهما نصيب من الفرض ولعل الترجي للتحقيق لأن حقيقته عليه عز شأنه محال، وإنما جئ به لئلا يغتر العابد بفعله. قوله (وقال في موضوع آخر وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا) أي المساجد السبعة وهي الأعضاء المشهورة أعنى الجنبهة والكفين والركبتين والابهامين لله أي خلقت لأن يعبد بها الله فلا تشركوا معه غيره في سجودكم عليها وهذا التفسير هو المشهور بين المفسرين والمذكور في حديث حماد عن أبي عبد الله (عليه السلام) والمروي عن أبي جعفر محمد بن علي بن موسى (عليهم السلام) حين سأله المعتصم عن هذه الآية، وبه قال سعيد بن جبير والزجاج والفراء ويؤيده قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) " أمرت أن أسجد على سبعة اراب " أي أعضاء وعلى هذا لا عبرة بقول من قول المراد بها المساجد المعرفة. ولا بقول من قال هي بقاع الأرض كلها متمسكا بقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) جعلت الأرض مسجدا " ولا يقول من قول: هي المسجد الحرام، والجمع باعتبار أنه قبلة لجميع المساجد ولا بقول من قال هي السجدات جمع مسجد بالفتح مصدرا أي السجودات لله فلا يفعل لغيره لأن المعصومين أولي بمعرفة منازل القرآن ومراده من غيرهم نعم حمل االية على الأعم وجعل المذكور هنا أظهر أفراده وأكملها ممكن. قوله (وقال فيما فرض - ألخ) كان المراد وقال هذه الآية يعني أن المساجد لله فيما فرض الله على الجوارح السبعة من الطهور والصلاة بها فهذه أيضا فريضة جامعة على الوجه واليدين والرجلين كالسابقة، ولعل ذلك في قوله " وذلك أن الله عز وجل الخ " إشارة إلى كون القرآن دليلا على بث الإيمان على الجوارح، وتفصيل القول فيه أن الآيات المذكورة إنما دلت على أنه تعالى فرض على كل جارحة شيئا غير ما فرضه على الاخرى، ولم يثبت بهذا القدر من جهة القرآن ما ذكره أو لا من أنه تعالى فرض الإيمان على جوارح إبن آدم وقسمه عليها وفرقة فيها فأشار هنا إلى إثبات ذلك بالقرآن وحاصله أن الآية هي قوله عز وجل * (وما كان الله ليضيع إيمانكم " دلت على أن الصلاة إيمان ولا ريب في أن الصلاة مركبة من أفعال جميع الجوارح فقد ثبت أن الإيمان مركب منها هذا ما خطر بالبال على سبيل الاحتمال والله أعلم. قوله (وهو من أهل الجنة) كامل الإيمان من أهل الجنة قطعا وناقص الإيمان قد يدخل النار وهذا أحد وجوه الجمع بين ما دل على أن المؤمن لا يدخل النار وما دل على أنه يدخلها. قوله (ومن خان في شئ منها أو تعدي ما أمر الله) الظاهر أن الخيانة فعل المنهيات، والتعدي ترك المأمورات.


[ 112 ]

قوله (قلت قد فهمت نقصان الإيمان وتمامه فمن أين جاءت زيادته) لما ذكر (عليه السلام) أو لا أن الإيمان مفرو على الجوارح وأنه يزيد وينقص، وعلم السائل الأول صريحا من الآيات المذكورة والثاني ضمنا أو التزاما منها للعلم الضروري بأن العمل يزيد وينقص سأل عن الآيات الدالة على الثاني صريحا أو قصده من السؤال إني قد فهمت مما ذكر نقصان الإيمان العملي وتمامه باعتبار أن العمل يزيد وينقص فمن أن جاءت زيادة الإيمان التصديقي وأية آية تدل عليها، وفيه حينئذ استخدام إذ أراد بلفظ الإيمان الإيمان العملي وبضميره الإيمان التصديقي والاستخدام شائع عند البغاء، وعلى التقديرين لا يرد أنه إذا علم نقصان الإيمان وتممه فقد علم زيادته لأن في التام زيادة ليست في الناقص. قوله (فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا) دل على أن الإيمان سبب للإيمان يعني أن الدرجة التحتانية منه سبب لحصول الدرجة الفوقانية، وكذلك الكفر ومن ثم قيل الخير والشر يسريان. قوله (وزدناهم هدى) المراد به الهداية الخاصة المختصة بالاولياء وهي بصيرة قلبية زايدة على أصل التصديق (1) قوله (ولو كان كله واحدا) أي لو كان كل الإيمان واحدا لا زيادة فيه ولا نقصان لم يكن لأحد من المؤمنين فضل على الآخر لأن الفضل إنما هو الالطاف والتوفيقات وغيرها، ولا ستوى الناس في الدخول في الجنة لا ستوائهم في الإيمان الموجب لدخولها، وبطل تفضيل بعضهم على بعض الدرجات واللوازم كلها باطلة بالنسبة والآيات ولكن بتمام الإيمان باعتبار أصل التصديق والعمل بالدرجات وترك المنهيات دخل المؤمنون المتصفون به الجنة وبالزيادة في الإيمان لذلك مع العمل بالأعمال المندوبة والآداب المرغوبة والاخلاق والمطلوبة تفاضل المؤمنون المتصفون بها بالدرجات العالية والمقامات أو في التقصير في الاعمال الواجبة بترك الواجبات وفعل بالمنهيات دخل المفرطون في النار وقد ظهر من ذلك أن المدعين للإيمان ثلاثة أقسام تام وزايد وناقص وقد علم حكم كل واحد منها والله هو الموفق. * الأصل


1 - قوله " زائدة على أصل التصديق " وأصل التصديق غير قابل للزيادة والنقصان كما قلنا وإنما التشكيك في أخضاع سائر المدارك فإن الذي يبصر شيئا ويسمع صوته ويلمس سطحه ويذوق طعمه غير من يسمع صوته فقط والذي يعتقد بوجود شئ لرؤية آثاره غير من يراه نفسه والمؤمن بالله متقيق بوجوده قطعا لا ظنا فقد يكون له دليل واحد وقد يكون له أدلة كثيرة بمنزلة من يشاهده ويتأثر بالإيمان جميع قواه وبذلك يتفاوت درجاتهم. (ش) (*)

[ 113 ]

2 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، ومحمد بن يحيى عن أحمد بن محمد بن عيسى، جميعا، عن البرقي، عن النضر بن سويد، عن يحيى بن عمران الحلبي، عن عبيد الله بن الحسن بن هارون قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): * (إن السمع والبصر والفؤاد كل اولئك كان عنه مسئولا) * قال: يسأل السمع عما سمع والبصر عما نظر إليه والفؤاد عما عقد عليه. * الشرح قوله (عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، ومحمد بن يحيى عن أحمد بن محمد بن عيسى، جميعا، عن البرقي، عن النضر بن سويد) الظاهر أن لفظة عن أبيه أو جميعا زائدة بل لا محصل له لأن البرقي ليس إلا محمد بن خالد ولا معنى لرواية البرقي عن البرقي وقد يقال المراد بالبرقي خالد لأن البرقي لقب لهذه القبيلة أو نسبة إلى مسكنهم. * الأصل 3 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان أو غيره، عن العلاء، عن محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن الإيمان فقال: شهادة أن لا إله إلا والإقرار بما جاء من عند الله وما استقر في القلوب من التصديق بذلك، قال: قلت: الشهادة أليست عملا ؟ قال: بلي قلت: العمل في الإيمان ؟ قال: نعم الإيمان لا يكون إلا بعمل والعمل منه ولا يثبت الإيمان إلا بعمل. * الشرح قوله (فقال شهادة أن لا إله إلا الله) كأنها كناية عن الشهادتين والمراد بها الإقرار اللساني وبما بعدها الإقرار القلبي وفيه دلالة على أن الإيمان مركب من الشهادة والتصديق، وهذا نوع من الإيمان الكامل وسماه بعض المحققيق بإيمان الصديقين إن كان مع الشهادة خلو النفس عن غيره تعالى وتنزههما عن هواها فإن لا إله إلا الله دل على التتوحيد وهوا نما يتحقق في نفس الأمر بالتنزه عن الشرك الجلي والخفي، وإنما قلنا هذا نوع من الإيمان والكامل لأن له أنواعا آخر منها مركب من التصديق وتخلية النفس عن الرذائل وتحليتها بالفضائل ومنها مركب من التديق أو أعمال الجوارح، ومنها مركب من الجميع وهذا أفضل الأنواع. قوله (قال نعم الإيمان لا يكون إلا بعمل) لعل المراد أن الإيمان لا يوجد أو لا يكن إيمانا إلا بعمل، والعمل بعض منه ولا يثبت الإيمان في نفس الأمر إلا بعمل كما أن الكل لا يجود إلا بجزء ولا يكون كلا إلا بجزء والجزء بعض منه ولا يثبت الكل في نفس الأمر إلا بجزء فيفيد أن الإيمان مركب والعمل بعض أجزائه وهو الإيمان الكامل أو المراد أن الإيمان وهو التصديق لا يكون إلا مقرونا بالعمل والعمل من شيم أهل الإيمان ومحاسنه التي تقتضي الإيمان الاتيان بها ولا يثبت


[ 114 ]

الإيمان عندنا أو لا يستقر في نفس الأمر إلا بعمل لأن التصديق أمر قلبي لا يثبت إلا بدليل وهو العمل أو لا يستقر إلا به، فل يفيد أنه مركب، والاول أنسب بظاهر صدر الحديث وعلى التقديرين لا يريد أن أول هذا الكلام يدل على أن العمل جزء من الإيمان وظاهر آخره على أنه خارج منه دليل عليه على أنه لو حمل على هذا لامكن أن يقال أن المراد بالإيمان الأول الإيمان الكامل، بالثاني التصديق فيكون المقصود أن الإيمان مطلقا لا يتحقق ولا يعلم إلا والله أعلم. * الأصل 4 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن عثمان بن عيسى، عن عبد الله بن مسكان، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: ما الإسلام ؟ فقال: دين الله اسمه الإسلام وهو دين الله فهو مسلم ومن عمل بما أمر الله عز وجل به فهو مؤمن. * الشرح قوله (قال قلت له ما الإسلام ؟ قال دين الله اسمه الإسلام) كما قال تعالى * (إن الدين عند الله الإسلام " وقال * (ومن يبتغ غير الإسلام دينا " وهو دين الله قبل أن تكونوا وتوجودا على هذا المكان المخصوص حيث كنتم في الاظلة أو في العلم وبعد أو تكونوا فمن أقر بدين الله فهو مسلم ومن عمل مع ذلك بما أمر الله عز وجل به فهو مؤمن، لا يقال الظاعر أن ما هنا سؤال عن الحقيقة لا عن الحكم. فقوله فمن أقر بدين الله فهو مسلم حيث وقع جوابا عن السؤال المذكور وجب أن يكون حدا لأن المقول في جوابه هو الحد فيلزم أن يكون الإسلام مجرد الاقرار بما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وإن لم يكن معه تصديق وليس الأمر كذلك لقوله تعالى * (ورضيت لكم الإسلام دينا " والله سبحانه لا يرضى إقرارا بدون تصديق بقلب والا لكان راضيا عن المنافقين وأنه محال قطعا، لانا نقول لا يلزم من كونه تعالى لا يرضى الإسلام بدون التصديق أن يكون التصديق جزءا من الإسلام خارج عن المهية (1) يكون سؤالا عن الذاتي سواء كان تمام الذاتيات أو بعضها، وقد جوز هذا بعض المحققين إلا أن


1 - قوله " والشرط خارج عن المهية " وعلى ذلك عمل الفقهاء وهم المهرة في أمثال هذه الامور مثلا إذا قيل يجب السجدة لتلاوة بعض الايات قالوا يجب في سجدة التلاوة ما عرف بالشرح دخله في ماهية السجدة ومعناها في الصلاة لا ما هو شرط فيها فوضع الجبهة على ما يصح السجود عليه وعدم كون محل السجدة مرتفعا عن مكان الرجلين ووضع المساجد السبعة على الارض واجب ولا يجب الاستقبال والطهارة والذكر وغيرها مما يعتبر في سجدة الصلاة شرطا فإنها داخلة في المطلوب منها في الصلاة لا في صحة اطلاق اسم السجدة ولم يعلم ما يؤخذ في ماهية السجدة الامن احكام سجدة الصلاة. (ش) (*)

[ 115 ]

الاول مشهور بين أرباب المعقول، ومما يؤيد ذلك أن للفصل والخاصة آلة يسئل بها عنهما فلو اختص ما بتمام الحقيقة بقى بعض الذاتيات بلا آلة بها عنه، ولو سلم فنقول ما اسقط التصديق في تفسير الإسلام لأن الاقرار غير مختص باللسان بل يشمل فعل القلب أعنى التصديق لأن التصديق نوع من الاقرار، ولو سلم فنقول المراد بالاقرار هو الفرد الكامل المقارن للتصديق إذ ما ليس بمقارن له كانه ليس باقرار، وأما عدم ذكر الإقرار في الايمان فلانه يعلم بالمقايسة مع احتمال أن يكون المقصود ذكر ما يمتاز به كل واحد عن الآخر. * الأصل 5 - عنه، عن أبيه، عن النضرب بن سويد، عن يحيى بن عمران الحلبي عن أيوب بن الحر، عن أبي بصير قال: كنت عند أبي جعفر (عليه السلام) فقال له سلام: إن خيثمة بن أبي خيثمة يحدثنا عنك أنه سألك عن الإسلام فقلت له: إن الإسلام من استقبل قبلتنا وشهد شهادتنا نسك نسكنا ووالى ولينا وعادى عدونا فهو مسلم، فقال: صدق خيثمة، قلت: وسألك عن الإيمان فقلت: الإيمان بالله والتصديق بكتاب الله وأو لا يعصى الله، فقال: صدق خيثمة. * الشرح قوله (فقلت له إن الاسلام من استقبل قبلتنا وشهد شهادتنا ونسك نسكنا) نسك لله ينسك من باب قتل تطوع بقربة والنسك بضمتين اسم منه والناسك الذي يؤدي المناسك وهي الطاعات، وسميت الذبيحة نسكة لأن قربانها طاعة، ويحتمل أن يراد بالنسك الاتيان بالحج إذا عرفت هذا لفنقول ظاهر هذا الكلام أن الإسلام الإقرار بالشهادتين، وفعل الطاعات ومحبة أولياء الائمة (عليهم السلام)، ومعاداة أعدائهم سواء كان معه تصديق أم لا، وأن الناصب ليس بمسلم وأن الايمان التصديق بالتوحيد والرسالة والولاية فان كل ذلك مندرج في الايمان بالله والتصديق بكتاب الله، وعدم المعصية بفعل الطاعات وترك المنهيات فالايمان أخص من الإسلام. * الأصل 6 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن أبي عمير، عن جميل بن دراج، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الإيمان، فقال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، قال: قلت: أليس هذا عملا ؟ قال: بلي، قلت: فالعمل من الإيمان ؟ قال: لا يثبت له الإيمان إلا والعمل منه. * الشرح قوله (شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله) خص الشهادتين بالذكر لأنها أعظم أفراد الايمان على تقدير وأعظم أجزائه على تقدير آخر مع دلالتهما على التصديق الذي هو الإيمان في


[ 116 ]

الأصل وليس المقصود حصر الايمان فيهما فلا ينافي سائر الاخبار. قوله (قال لا يثبت له الإيمان إلا بالعمل والعمل منه) لعل المراد أن الإيمان عبارة عن التصديق والعمل، ويطلق على نفس العمل أيضا كالشهادتين والصلاة ونحوهما، وعلى هذا لا يثبت له الإيمان إلا بالعمل كما لا يثبت الكل إلا بالجزء والعمل منه أي بعض أجزائه على تقدير وبعض أفراده على تقدير آخر. وقد مر توجيه آخر قبيل ذلك والله أعلم. * الأصل 7 - بعض أصحابنا، عن علي بن العباس، عن علي بن ميسر، عن حماد بن عمر والنصيبي قال: سأل رجل العالم (عليه السلام) فقال: أيها العالم أخبرني أي الأعمال أفضل عند الله ؟ قال: ما لا يقبل عمل إلا به، فقال: وما ذلك ؟ قال: الإيمان بالله الذي هو أعلى الأعمال درجة وأسناها حظا وأشرفها منزلة، قلت: أخبرني عن الإيمان أقول وعمل أم قول بلا عمل ؟ قال: الإيمان عمل كله والقول بعض ذلك العمل بفرض من الله بينه في كتابه، واضح نوره، ثابتة حجته، يشهد به الكتاب ويدعو إليه، قلت: صف لي ذلك حتى أفهمه، فقال: إن الإيمان حالات ودرجات وطبقات ومنازل فمنه التام المنتهى تمامه ومنه الناقص المنتهى نقصانه ومنه الزائد الراحج زيادته، قلت: وإن الإيمان ليتم ويزيد وينقص ؟ قال: نعم، قلت: وكيف ذلك ؟ قال: إن الله تبارك وتعالى فرض الإيمان على جوارح بني آدم وقسمه عليها وفرقه عليها فليس من جوارحكم جارحة إلا وهي موكلة من الإيمان بغير ما وكلت به اختها، فمنها قلبه الذي به يعقل ويفقه ويفهم وهو مير بدنه الذي لا ترد الجوارح ولا تصدر إلا عن رأيه وأمره، ومنها يداه اللتان يبطش بهما ورجلاه اللتان يمشي بهما وفرجه الذي الباه من قبله ولسانه الذي ينطق به الكتاب ويشهد به عليها، وعيناه اللتان يبصر بهما، وأذناه اللتان يسمع بهما وفرض على القلب غير ما فرض على اللسان وفرض على اللسان غير ما فرض على العينين وفرض على العينين غير ما فرض على السمع وفرض على السمع غير ما فرض على اليدين وفرض على اليدين غير ما فرض على الرجلين وفرض على الرجلين غير ما فرض على الفرج وفرض على الفرج غير ما فرض على الوجه، فأما ما فرض على القلب من الإيمان فالإقرار والمعرفة والتصديق والتسليم والعقد والرضا بأن لا إله إلا الله وحد لا شريك له، أحدا، صمدا، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا وأن محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) عبده ورسوله. * الشرح قوله (قال سال رجل العام (عليه السلام) فقال يا ايها العالم) هذا الخبر مذكور في صدر الباب متنا مع اختلاف في السند وتغيير يسير في المتن وحذف في الآخر.


[ 117 ]

قوله (ولسانه الذي ينطق به الكتاب ويشهد به عليها) الظاهر أن المراد بالكتاب القرآن، والضمير في يشهدوا راجع إليه وفي به إلى النطق أو إلى اللسان بحذف مضاف، أي بأقواله وفي عليها إلى اللسان واللسان يذكر ويؤنث كما صرح به في المغرب ونطق القرآن باقوال اللسان خيرا وشرا وشهادته عليها كثير، ويحتمل أن يراد بالكتاب كتاب الأعمال وصحيفتها وشهادته عليها يوم القيامة ظاهرة، وقراءة الكتاب بضم الكاف وشد التاء وارادة الحفظة بعيدة. قوله (فأما ما فرض على القلب من الإيمان والإقرار والمعرفة) كذا في النسخ والظاهر فالإقرار بالفاء ليكون جوابا لاما وموافقا لما مر في صدر الباب ولعل الواو سهو من النساخ أو زائدة. قوله (أحدا صمدا) هما في أكثر النسخ منصوبان وفي بعضها مرفوعان. * الأصل 8 - محمد بن الحسن، عن بعض أصحابنا، عن الأشعث بن محمد، عن محمد بن حفص ابن خارجة قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: - وسأله رجل عن قول المرجئة في الكفر والإيمان وقال: إنهم يحتجون علينا ويقولون: كما أن الكافر عندنا هو الكافر عند الله فكذلك نجد المؤمن إذ أقر بايمانه أنه عند الله مؤمن، فقال: سبحان الله وكيف يستوي هذان والكفر إقرار من العبد فلا يكلف بعد إقراره ببينة والإيمان دعوى لا يجوز إلا بينته عمله ونيته فإذا اتفقا فالعبد عند الله مؤمن والكفر موجود بكل جهة من هذه الجهات الثلاث من نية أو قول أو عمل والأحكام تجري على القول أو العمل، فما أكثر من يشهد له المؤمنون بالإيمان ويجري عليه أحكام المؤمين وهو عند الله كافر وقد أصاب من أجرى عليه أحكام المؤمنين بظاهر قوله وعمله. * الشرح قوله (وسأله رجل عن قول المرجئة في الكفر والإيمان (1)


1 - قوله " عن قول المرجئة في الكفر والإيمان " هم فرقة من فرق الإسلام وهم والخوارج على طرفي نقيض كان هؤلاء يعتقدون كفر الفساق وعم على غاية البغض والعداوة مع بني امية الولاة في عصرهم والمرجئة كانوا يعتقودن تساوي الصالح والطالح والعابد والفاسق في الفضل عند الله وكانوا متملقين ومائلين إلى ولاتهم وكان يؤيدهم سياسة بني امية أوجدتهم وروجت آرائهم بين المسلمين وذلك لأن ظلم بني امية وتجارهم بالفسق والفجور بل كفرهم الباطني نفرهم لأنهم كانوا من بقايا محاربي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في أحدوا الاحزاب وغيرها - لما ينحسم حب الجاهلية ولا حقدهم على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بقتل أشياخهم من قلوبهم عبد وقد ظهر منهم الإنكار عليه وعلى أهل بيته والعادة بعد ظهور كل دين وملة حقة أن يبقي جماعة ممن لا يؤمن بها سنين بل قرونا يثيرون الفتن ولم يكن بنوامية يصرحون بما في ضمائرهم خوفا من الناس ولا بناء دولتهم كان على دين عدوهم فاخفوا في قلوبهم ما أنبأ عنه أعمالهم فقتلوا الحسين (عليه السلام) وأسروا أهل بيت نبيهم وقتلوا أهل المدينة = (*

[ 118 ]

فاسد، وهم فرقة من فرق الإسلام يعتقدون أنه لا يضر مع الإيمان معصية كما أنه لا ينفع مع الكفر طاعة صادقين في المشبه به كاذبين في المشبه، ومجمل قولهم في حقيقتهما أن الإيمان محض إقرار اللسان بالشهادتين وما جاء به الرسول، والكفر مقابل له وهو إنكاره شيئا من ذلك وبذلك بنوا أن الكافر عندنا كافر عند الله تعالى وكذا المؤمن عندنا مؤمن عنده تعالى وهو ظاهر بناء على أصلهم، والسائل سأل عن صحة ذلك وبطلانه فأجاب (عليه السلام) بأنه باطل لبطلان أصلهم، وذلك لأن الإيمان عبارة عن التصديق والإقرار والعمل، والكفر إنكار شئ من ذلك وإذا كان كذلك كان الكافر عندا بترك واحد من الامور المذكورة كافرا عند الله تعالى، وأما المؤمن عندنا وهو المتصف بالامور الثلاثة أما بالاخيرين فقطعا وأما بالاول فظنا لدلتهما عليه دلالة غير قطعية لأن العقل يجوز عدمه تجويزا مرجوعا فلا يلزم أن يكون مؤمنا عند الله تعالى لجوز أن يكون مقرا عامله غير مصدق والله سبحانه عالم بعدم تصديقه فهو مؤمن عندنا تجري عليه أحكام الإيمان وكافر عند الله تعالى. قوله (والكفر إقرار) أي الكفر من العبد على نفسه بعدم الإيمان، فلا يكلف بعد إقراره بينة على المقربه وهو عدم الإيما كما في سائر أقارير العقلاء على أنفسهم بل الإقرار بعدم الإيمان أولى بعم التكليف لأن كل إقرار غيره يجوز العقل عدم تحقق المقر به في نفس الأمر بخلاف الإقرار بالكفر فإنه عبارة عن إنكار شئ من أجزاء الإيمان وتركه هو عين الكفر، فلا يحتاج إلى بينة قطعا بخلاف الإيمان فإنه دعوى لثبوته له، ولا يجوز ذلك ولا يثبت إلا ببينة كما في سائر الدعاوي وبينته عمله المتعلق باللسان والجوارح، ونيته المتعلقة بالقلب وهي التصديق فإذا اتفق العمل والنية شهد


= قتلا عاما لنصرتهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يقبلوا أحدا ممن يتولاهم في ولايتهم بل قتلوهم وشردوهم وسلطوا على صلحاء الامة فساقهم كزياد بن أبيه وعبيد الله والحجاج بن يوسف وأوجب ذلك تنفلر الناسع عنهم وثورتهم وقيام الناس من كل ناحية عليهم ولم ينجع فيه التشديد والتشريد والقتل والنفي وتجرأ عليهم الخورج ورأوا جهادهم أفضل من جهاد الكفار الاصليين وخرج عليهم جماعع ة من الصلحاء في كل ناحية وأظهروا أو التبري منهم اللعن عليهم واجتهدوا في إزالة ظلمهم فرأت بنوامية أن التوسل بما توسلوا به أو لا أضر بمقصدهم وافنى لدولتهم فاخترعوا لهم مذهب المرجئة وغرضهم ان بني امية مسلمون مؤمنون وأن ظهر منهم الفجور والقتل والمناهي وهم الصلحاء سواء عند الله في الفضل فيجب مودتهم والمصافاة معهم وأعانتهم في التدبير الملكي ونصرهم في جهاد عدوهم وبالجملة دفع تنفر الناسوما يلزمه ولما كان هذا من أضر الاراء في فرق الإسلام بل منافيا لأصل تشريع هذا الدين وكل دين بل لو لا احتمل الشبهة الممكنة في حقهم لحكم بكفرهم لمخالفتهم ضروري الإسلام بل ضروري كل دين ولا نتفي فائدة إرسال الرسل وأنزل الكتب ولم يبق للطاعات وأكتساب الفضائل ومكارم الاخلاق موقع، رد الأئمة (عليهم السلام) في هذه الأحاديث رأيهم ومذهبهم. (ش) (*)

[ 119 ]

شاهدا عدل فالعبد عند الله مؤمن، وإن اختلفا بأن يشهد العمل دون النية فهو ليس بمؤمن عند الله تعالى ومؤمن عندنا لانا نحكم بظاهره على باطنه فنحكم بأنه مؤمن مصدق حكما ظنيا غالبا فقولهم بأن كل مؤمن عندنا مؤمن عند الله باطل. وأما قولهم الكافر عندنا كافر عند الله فهو صحيح إذا الكفر موجود بانتفاء كل جهة من هذه الجهات الثلاثة المعتبرة في الإيمان وجودا من نية وتصديق أو قول باللسان أو عمل بالجوارح يعني يتحقق الكفر بانتفاء واحد من هذه الثلاثة فمن انتفعى منه واحد منها وعلمنا ذلك فهو كافر عندنا كما هو كافر عند الله تعالى وأما إذا لم نعلم كما إذا انتفت منه النية لأن علمنا بالنية متعسر وقد ظهر مما ذكر أن المشهود له بالإيمان والمجرى عليه أحكام المؤمنين وهو كافر عند الله كثير وإن من أجرى عليه الاحكام مصيب لأنه مكلف بالحكم على ظاهر قوله وعمله الدالين على النية وليس مكلفا بالحكم على الباطن لعدم علمه ولكن لما كان تخل المدلول عن اللفظ وما يجري مجراه كثيرا كان وجود القول والعمل بدون النية كثيرا ولذلك كان وجود الكافر عند الله كثيرا. * الأصل


[ 120 ]

(باب السبق إلى الإيمان) * الشرح قوله (باب السبق إلى الإيمان) (1) * الأصل 1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن بكر بن صالح، عن القاسم بن بريد قال: حدثنا أبو عمر الزبيري، أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: إن للإيمان درجات ومنازل، يتفاضل المؤمن ومن فيها عند الله ؟ قال: نعم، قلت: صفه لي رحمك الله حتى أفهمه، قال: إن الله سبق بين المؤمنين كما يسبق بين الخيل يوم الرهان ثم فضلهم على درجاتهم في السبق إليه، فجعل كل أمرئ منهم على درجة سبقه، لا ينقصه فيها من حقه ولا يتقدم مسبوق سابقا ولا مفضول فاضلا. تفاضل بذلك أوائل هذه الامة و أواخرها ولو لم يكن للسابق إلى الإيمان فضل على المسبوق إذا للحق آخر هذه الامة أولها. نعم ولتقدموهم إذا لم يكن لمن سبق إلى الإيمان الفضل على من أبطأ عنه ولكن بدرجات الإيمان قدم الله السابقين وبالإبطاء عن الإيمان أخر الله المقصرين لأنا نجد من المؤمنى من الآخر من هو أكثر عملا من الأولين وأكثرهم صلاة وصوما وحجا وزكاة وجهادا وإنفاقا ولم لم يكن سوابق يفضل بها المؤمنون بعضهم بعضا عند الله لكان الآخرون بكثرة العمل مقدمين على الأولين ولكن أبي الله زع وجل أن يدرك آخر درجات الإيمان أولها ويقدم فيها من أخر الله أو يؤخر فيها من قدم الله. قلت: أخبرني عما ندب الله عز وجل المؤمنين إليه من الاستباق إلى الإيمان، فقال: قول عز وجل: * (سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض اعدت للذين آمنوا بالله ورسله) * وقال: * (السابقون السابقون * اولئك المقربون) * وقال: * (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه) * فبدأ بالمهاجرين الأولين على درجة سبقهم، ثم ثنى بالأنصار ثم ثلث بالتابعين


1 - قوله " باب السبق إلى الإيمان " قد مر كتاب العقل والجهل أن الثواب على العقل وما في هذا الباب يؤيده فإن السابق إلى الإيمان لابد أن يكون عقه أقوى ومعارضة الوهم له أضعف وإلا فلا يسبق إلى الإيمان والوهم يأمر بحفظ العادات ويخاف عن مخالفة الجمهور ولا يجوز ترك ما عليه أكثر الناس ولا يقدم على المخالفة إلا من اطمئن بعقله وتجرأ على تخطئة الجمهو ولم يتأثر برأى الاكثرين وضعيف العقل لا يطمئن بصحة رأيه إلا إذا رأي المشهور موافقين له هذا بناء على أن يكون المراد السبق بالزمان وأما الانواع الآخر من السبق فظاهر. (ش) (*)

[ 121 ]

لهم بإحسان، فوضع كل قوم على قدر درجاتهم ومنازلهم عنده، ثم ذكر ما فضل الله عز وجل به أولياءه بعضهم على بعض، فقال عز وجل: * (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم فوق بعض درجات - إلى آخر الآية -) * وقال: * (ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض) * وقال: * (انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا) * وقال: * (هم درجات عند الله) * وقال: * (ويؤت كل ذي فضله) * وقال: * (الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله) * وقال: * (فضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما * درجات منه ومغفرة ورحمة) * وقال: * (لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل اولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا) * وقال: * (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين اتوا العلم درجات) * وقال: * (ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولانصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطؤن موطا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا: إلا كتب لهم به عمل صالح) * وقال: * (و ما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله) * وقال: * (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) * فهذا ذكر درجات الإيمان ومنازله عند الله عز وجل. * الشرح قوله (قال إن الله سبق بين المؤمنين) أي قرر السبق وقدره بين المؤمنين في الإيمان نديهم إليه كما يسبق بين الخيل يوم الرهان فمنهم في المقام الادنى وهو مقام بتحقيق فيه المسبوقية دون السابقة، ومنهم في المقام الأعلى وهو مقام يتحقق فيه السباقة دون المسبوقة وهو مقام خاتم الأنبياء، وبين المقامين مقامات غير محصورة يجتمع فيها السابقية والمسبوقية باعتبارين، والتشبيه من باب تشبيه المعقول بالمحسوس لقصد الايضاح. قوله (فجعل كل أمرئ منهم على درجة سبقه) المراد بجعله عليها أعطاؤه المقرر له في تلك الدرجة من الاجر والثواب والتقرب من غير أن ينقص من حقوقه فيها، وفي الاقتصار بنفي النقص دون الزيادة ايماء إلى جوازها من باب التفضل وإن لم يستحق. قوله (ولا يتقدم مسبوق سابقا) كما أن المسبوق في المشبه به لا يتقدم سابقا لعدم وسعه ذلك، وللزوم خلاف الفرض كذلك المسبوق في المشبه لا يتقدم سابقا في الكمال والمنزلة والاجر والتقرب لأنه تعالى حكيم عدل لا يجوز، بل يضع كلا في موضعه. قوله (تفاضل بذلك أوائل هذه الامة وأواخرها) ذلك إشارة إلى السبق والاوائل والاواخر أما بحسب الدرجات أو بحسب الوجود والازمان كالصحابة والتابعين إلى يوم الدين فكما أن في عصرنا هذا يقع التفاضل بعلو الدرجة في الإيمان والعلم تخلية النفس عن الرذائل وتخليتها


[ 122 ]

بالفضائل حتى أن من قدم المفضول على الفاضل ورجحه عليه، كان رأيه ضعيفا وعقله خفيفا كذلك في أوئل هذه الامة، ومن هذا يظهر أن تقديم العجل على علي (عليه السلام) كان باطلا ولعل الغرض الأصلي من هذا الحديث هو التنبيه عليه وإن كان ظاهره أعم. قوله (ولو لم يكن للساق إلى الإيمان فضل على المسبوق إذا للحق آخر هذه الامة أولها) أي للحخق آخر هذه الامة بحسب درجات الإيمان أولها بحسبها فيساويهم في الدرجة أو للق آخر هذه الامة بحسب الازمان كالتابعين ومن بعدهم أول هذه الامة بحسبها كالصحابة من المهاجرين والأنصار، وذلك لأنه إذا سقط إعتبار السبق لزم التسائي والإشتراك في الدرجة. قوله (نعم ولتقدموهم) " نعم " تصديق لمضمون الشرطية المذكورة وتمهيد لشريطة اخرى أفخم من الاولى، وتصديق لمضمونها أيضا أي إذا لم يكن لمن سبق إلى الإيمان الفضل على ما أبطأ عنه لتقدم آخر هذه الامة بحسب ما ذكر أول هذه الامة بحسبه فقوله " لتقدموهم " جزاء الشرط على تقدير جواز تقديمه، أو دليل على جزائه المحذوف على تقدير عم جوازه وبناء الشريطة الاولى على عدم تكثر العمل في آخر هذه الامة وبناء هذه الشرطية على اعتباره فيهم، ووجه الشرطية أن السبق إلى الإيما إذا لم يكن له مذخل في الترجيح لزم تقدم الآخر مع زيادة العمل وتكثره لاختصاصه بهذا المزية، وأعلم أن المراد بالإيمان أما نفس التصديق أو التصديق مع العمل ولكن واحد منهما درجات ومنازل بعضها فوق بعض وآخرها غاية الكمال للبشر كمرتبة عين اليقين أو أعلى منها وصرف جيمع الجوارح في جميع الاوقات في جميع ما خلقت له ثم المراد بالمسابقة إليه أما المسابقة إلى درجاته ومنازله وطلب الأعلى فالأعلى إلى غايتها وهي بزيادة العلم والعمل، أو المسابقة إلى أصله وهي السبق الزماني على سبيل منع الخلو، والأول في الموضعين أولى من الاخير نظرا إلى ظاهر الحديث فمن اجتمع فيه المسابقة بالمعنيين كأمير المؤمنين (عليه السلام) فهو الكامل مطلقا والسابق على الإطلاق ومن انتفى عنه الامران هو الناقص للاحق مطلقا ومن له سبق الزمان إلى الإيمان مع انتفاء الزيادة عنهما أو بالعكس فهو السابق وأعلى درجة وأما إذا تعارض الامران بأن يكون لاحدهما سبق الزمان وللآخر زيادة العمل فظاهر هذا الحديث أن السابق زمانا أفضل وأعلى درجة من الآخر، وتخصيص ذلك بالصحابي محتمل لأن السابق أعون للنبي من اللاحق والتعميم أظهر والله أعلم. قوله (ولكن بدرجات الإيمان) لما كان الشرط في القضيتين هو عدم الفضل للسابق على المسبوق يستلزم لحوق المسبوق به أو تقدمه عليه بالاعتبارين كما أشرنا إليه أشارهنا إلى نفي التالي فيهما باثبات نقيض الشرط بحكم الله تعالى إذ نقيضه وهو ثبوت الفضل للسابق يستلزم عدم


[ 123 ]

اللحوق والتقدم وهو ظاهر. قوله (لانما نجد من المؤمنين) كأنه بيان للشرطية الثانية وتوجيه لمضمونها وحاصله أنا نجد من آخر هذه الامة من هو أكثر عملاه وعبادة من أولها فلو لم يكن للسابق إلى الإيمان والتصديق وأعلا درجاتها المبتنية على اليقين والرضا والعلم والحكم وتخلية النفس عنم الرذائل وتحليتها بالفضائل فضل على المسبوق لكان المسبوق بسبب كثرة الإيمان أولها ويلحق صاحب الآخر بصاحب الاول وكذا أبي أن يقدم في درجات الإيمان من أخر الله أو يؤخر فيها من قدم الله بل كل في درجته لا يقدم ولا يؤخر فقوله " ولكن أبي الله " إشارة إلى بطلان التالي تأكيدا لما مر، وفيه سر لا يخفى وهو أنه إذا كان اللاحق في الإيمان مع كثرة العمل غى لاحق بالسابق إليه ولا مقدم عليه مع قلة عمله كان تقديم الغاصب الأول المنتحل لأسم الخلافة مع تأخره في الإيمان على تقدير تسلم إيمانه، ومع قلة عمله على العالم الرباني والمؤمن الوحداني علي بن أبي طالب (عليه السلام) مع تقدمه إلى الإيمان وسبقه إلى أعلى مراتبه وكثرة عمله باتفاق الخاصة والعامة باطلا بالضرورة. قوله (قلت أخبرني عما ندب الله عز وجل) لما دل كلامه (عليه السلام) سابقا على أنه تعالى طلب منهم الاستباق إلى الإيمان ودعاهم إليه سأله الزبيري عن موضع من القرآن يدل عليه. قوله (سابقوا إلى مغفرة) أي سارعوا مسارعة السابقين في المضمار إلى سبب مغفرة من ربكم من الأعمال الصالحة الموافقة لمقتضى النواميس الالهية والكمالات النفسانية، وأعظم تلك الأعمال هو الإيمان الكامل البالغ إلى النهاية المتوقف على جميع الكمالات النفسانية. قوله (وجنة عرضها كعرض السماء والأرض) قال الفاضل الأردبيلي كنى بالعرض عن مطلق المقدار وهو متعارف ونقل على ذلك الأشعار في مجمع البيان وأنه لما علم أن عرضه الذي هو أقل من الطول عرفا في غير المتساوي علم أن طوله أيضا يكون أما أكثر أو مثله، وقال القاضي ذكر العرض للمبالغة في وصفها بالسعة على طريق التمثيل لأنه دون الطول وعن ابن عباس أنها كسبع سموات وسبع أرضين ولو وصل بعضها وظاهر الآية وجب المسارعة أو رحجانها إلى الطاعة الموجبة للدخول في الجوة وأعظمها الإيمان بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر والترقي إلى مقاماته العالية. قوله (أعدت للذين آمنوا بالله ورسوله) ظاهر هذا الآية وغيرها من الآيات والروايات أن الجنة مخلوقة الآن وكذا النار قال الفاضل المذكور: قول به الاصحاب وصرح به الشيخ المفيد في بعض رسائله وقال أن الجنة مخلوقة مسكونة سكنتها الملائكة وظاهر الآية أنها في السماء والظاهر أن المراد به أنه يكون في السماء ويكون البعض الآخر فوقها أو يكون أبوابها فيها أو فوق الكل وما


[ 124 ]

ذكره الحكماء من " أن السماء لا تقبل الخرق والالتيام وأن فوقها لاخلاء وللاملاء " غير مسموع شرعا (1) كلامه أعلى الله مقامه، وقال القاضي فيه دلالة على أن الجنة مخلوقة وأها خارجة عن هذا العالم (2) جماعة من المعتزلة إلى أنهما غير مخلوقين وإنما تخلقا يوم القيامة. قوله (وقال السابقون) السابقون مبتدأ وخبر أي السابقون إلى ما دعاهم إليه من التوحيد والإيمان والإخلاص والطاعة هم السابقون إلى المقامات العلية والدرجات الرفيعة أو السابقون ذلك هم السابقون الذي عرفت حالهم وبلغك وصفهم، ويكون تعريف الخبر للمبالغة والإشارة إلى ما هو معلوم لك، وهذا بحسب الظاهر خبر، وبحسب المعنى حث على المسابقة إلى ما ذكر.


1 - قوله " ما ذكره الحكماء غير مسموع شرعا " ما ذكر الحكماء يعني امتناع الخرق على الفلك مما لم يدل عليه عقلي ولم يبينوه ببرهان تعليمي كما هو دأبهم في الفلكيات اعترف بذلك المنصفون منهم وصرحوا بأن الدليل خاص بمحدد الجهات وعلى فرض صحته فلا يوجب عبور الملائكة والأجسام الاخروية خرقا كما لا يجوب دخول الملائكة في القبور نبشا وفي البيوت خراب الجدار والبحث الذي أورده الشارح بحث طويل جدا لا يمكن حق ادائه في هذا الموضع ولا يناسب فيه إلا إشارة مختصرة فنقول أولا الحق أن الجنة والنار موجودتان فعلا وأن خالف فيه جماعة من المسلمين وربما ينسب إلى السيد الرضى (رضي الله عنه)، وثانيا بناء على وجودهما فعلا فالحق أن مكان الجنة في السموات أو فوقها ومكان النار تحت الأرض أو تحت البحر، ثالثا أن أحكام الاجسام الدنيوية المينية على التجربيات والعادات غير جارية في الأجسام الاخروية ولا يجوز التشكيك في وجود الجنة والنار أو في مكانهما بعدم إمكان جريان أحكام الأجسام الدنيوية عليها، لأن التجربة خاصة بالدنيوية منها مثلا إذا قيل كيف يرتفع الصلحاء من الأرض وكيف يصعدون إلى السماء يوم القيامة ولم يرد في رواية أو آية ذكر صعودهم وآلة صعودهم وإن إلا بدان مائلة إلى الأرض لجاذبيتها وأن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وكثيرا من خواص أصحابه وأصحاب الائمة (عليهم السلام) كيف رأوا أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار مع هذه المسافة البعيدة بين الأرض إلى السموات وحيلولة الأرض بين الأبصار وبين جهنهم وكيف يفتح من الجنة التي في السماء باب إلى قبوب الصالحين وكيف يرى ذلك صاحب القبر مع كونه ميتا ولا يراه الناس مع كنهم أحياء وأمثال ذلك كثيرة مما دعا المعتزلة إلى إنكار أصل وجودهما فعلا وما يتفرع عليه. وجواب ذلك وأمثاله أن حكم الاخرة غير حكم الدنيا فإنه عالم آخر لا يقاس ما فيه بما في هذا العالم ولا يمتنع هناك الاتصال من بعيده والرؤية مع الفاصلة والعبور من الموانع والحواجب العنصرية كما يدخل الملائكة في القبور ويغير نبش وتجوز الافلاك بغير خرق وفي بين لا خرق فيه لقبض روح المحصورين فيه ولتفصيل ذلك مجال واسع في موضعه إن شاء الله. (ش) 2 - قوله " وأنما خارجة عن هذا العالم " لأن الجنة أوسع من عالم الاجسام بسماواتها وأرضها لأن عرضها السموات والأرض فكيف يكون في موضع منه. (ش) (*)

[ 125 ]

قوله (والسابقون الاولون من المهاجرين والأنصار) قال المفرسون: السابقون الاولون من المهاجرين هم الذين صلوا إلى القبلتين أو شهدوا بدورا أو أسلمون قبل الهجرة ومن الأنصار أهل بيعة العقبة الاولى وكانوا سبعة نفر وأهل بيعة العقبة الثانية، وكانوا سبعين، وقال الفاضل النيشابوري: الظاهر أن الآية عامة في كل من سبق بالهجرة والنصرة، وقال أكثر العلماء كلمة " من " للتبعيض وإنما استحق السابقون منهم هذا التعظيم لأنهم آمنوا وفي عدد المسلمين قلة وفيهم ضعف فقوى الإسلام بسببهم، وكثر عدد المسلمين واقتدى بهم غيرهم، وقيل للتبيين فيتناول المدح جميع الصحابة. قوله (والذين اتبعوهم باحسان) قال صاحب الكشاف والنيشابوري هم الذين آمنو حين قدم عليهم أبو زارة مصعب بن عمير فعلمهم القرآن وقال القاضي: هم اللاحقون بالسابقين أو من اتبعوهم بالإيمان والطاعة إلى يوم القيامة. قوله (ثم ذكر ما فضل الله عز وجل به أولياءه) بعد ما فرغ عن ذكر آيات دلت على الدعاء إلى الاستباق ذكر آيات دلت على ما يترتب عليه من التفضيل وأعلاء الدرجة. قوله (تلك الرسل) في الكشاف تلك إشارة إلى جماعة الرسل التي ذكر قصصها في سورة أو التي ثبت علمها عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). قوله (ورفع بعضهم فوق بعض درجات) في الكشاف أي منهم من رفعه على سائر الأنبياء فكان بعد تفاوتهم في الفضل أرفع منهم بدرجات كثيرة، والظاهر أنه أراد محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) لأنه هو المفضل عليهم حيث أوتى ما لم يؤته أحد من الآيات المتكاثرة المرتقية إلى ألفف آية أو أكثر ولو لم يؤت إلا القرآن وحده لكفى به فضلا منيفا على ساير ما أوتى الأنبياء لأنه المعجزة الباقية على وجه الدهر دون ساير المعجزات، وفي هذه الابهام من تفخيم فلضله وأعلاء قدره ما لا يخفى لما من الشهادة على أنه العلم الذي لا يشتبه والتميز الذي لا يلتبس. قوله (هم درجات) أي ذوو درجات متفاوتة بعضها فوق بعض. قوله (ويؤت كل ذي فضل فضله) فوجب بحسب وعده الصادق أن يضع كل ذي فضل في منزلته ودرجته فدرجة الفاضل أرفع من درجة غير ودرجة الأفضل أعلى من درجة المفضول، ودرجة السابق إلى الإيمان أشرف وأرفع من درجة المسبوق وقدرد الله عز شأنه بهذه الآية وأمثالها على من علم أنه سيزعم جواز تفضيل المفضول على الأفضل بل الجاهل على الفاضل، ومن زعم أن الأفضلية بإعتبار الزيادة في الثواب واعلاء الدرجة في الآخرة لا بإعتبار السبق والكمال في الإيمان والزيادة في العمل لله تعالى ولم يدر أن الزيادة في الثواب والدرجة إنما هي بالاعتبار


[ 126 ]

المذكورة، والالزم الذكب بالوعد والوعيد وبطلان الكتاب والشريعة نعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. قوله (وقال الذين آمنوا وهاجروا) أي قال الذين آمنوا بالله ورسوله واليوم الاخر ايمانا لا يشوبه شك وهاجروا إلى الرسول وفارقوا الاوطان وتركوا الا رقاب والجيران وطلبوا مرضات الله وجاهدوا في سبيل الله بصرف أموالهم ورفع أنفسهم الى الله ودفع هواها أعظم درجة عند الله ممن لم يتصف بالصفات المذكورة لازالة طمعهم عن الحياة الدنيوية، وبذل أرواحهم القدسية طلبا للحياة الاخروية، وصرف همتهم العالية لاعلاء كلمة الحق وتقوية الدين، فلذلك صاروا أعظم درجة عند رب العالمين، والله لا يضيع اجر المحسنين ومن هذا يظهر أن علي بن أبي طالب صلوات الله عليه أعظم درجة من جميع الصحابة لأنه آمن وهاجر وجاهد حين فشلوا وفروا كما يهر بالنظر في حاله وحالهم في حرب حنين وأحد وخيبر وغيرها من الحروب. قوله (وقال فضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما درجات منه ومغفرة ورحمة) أجرا مفعول ثان لفضل باعتبار تضمنه معنى الاعطاء كأنه قيل وأعطاهم زيادة على القاعدين أجرا عظيما، وكل واحدة من درجات منه ومغفرة ورحمة بدل من أجرا، ويجوز أن تكون منصوبا على المصدر لأن فضل بمعنى آجر كأنه قيل: وآجرهم زيادة على القاعدين أجرا عظيما، والبدل بحاله، ويجوز أيضا أن ينتصب درجات بنزع الخافض أي بدرجات، أو على المصدر لانها تدل على التفضيل فكأنه قيل: فضلهم تفضيلات كقولك ضربته أسواطا أي ضربات الاسواط تدل على الضربات وحينئذ ينتصب أجرا على أنه حال عنها تقدمت عليها لانها نكرة، ومغفرة ورحمة على المصدر باضمار فعلهما أي فنغر لهم مغفرة ورحمهم رحمة، كذا ذكره المفسرون. وههنا شيئان لا بأس أن نشير اليهما الاول أن النيشابوري قال في تفسيره: استدلت الشيعة ههنا بأن عليا (عليه السلام) أفضل من غيره من الصحابة لأنه باليسبة إليهم مجاهدوهم بالاضافة إليه قاعدون لما اشتهر من وقايعه و اقدامه وشجاعته وحمايته، وأجاب أهل السنة بأن جهاد أبي بكر بالدعوة إلى الدين وهو الجاهد الاكبر حين كان الاسلام ضعيفا والاحتياج إلى المدد شديدا وانما جهاد على (عليه السلام) ظهر بالمدينة في الغزوات وكان الاسلام في ذلك الوقت قويا ولاحق أنه الاية لاتدل الاعلى تفضيل المجاهدين على القاعدين أما على تفضيل المجاهدين بعضهم على بعض فلا انتهى، أقول هذا المجيبت اعترف بأن عليا (عليه السلام) في الغزوات سابق علي أبي بكر وغيره وسبقة (عليه السلام) في العلم والعمل والزهد أشهر من أن ينكره أحد من المعاندين، وأما ما ذكره من جهاد أبي بكر في الدين حين كان ضعيفا فلا أثر له، وأي جهاد كان له لم يكون لعلي (عليه السلام) مع أن دعوته (عليه السلام) إلى الدين وارشاد الصحابة


[ 127 ]

أجمعين وارجاع الثلاثة كثيرا عن الباطل إلى الحق المبين أشهر من أن يخفى وأكثر من أن يحصى، والثاني أن فاضلا من الشيعة كان في مجلس حاكم من أهل السنة وكان فيه أيضا علم ذوذنب (1) فذكر ذوذنب أن عائشة كانت أفضل من فاطمة (عليها السلام)، فقال الحاكم لذلك الفاضل: ما تقول ؟ فقال: أيها الامير أنا أقول في شأنها ما قال الله تعالى وقرأهذه الاية رمزا إلى الحق واشارة إلى ارتدادها بخروجها على علي (عليه السلام) فضحك الحاكم بمعرفة قصده وخاطب ذا الذنب فقال ما تقول ؟ فبهت الذي كفر. قوله (وقال لا يستوي منكم من انفق من قبل الفتح) إذا انفاق الاموال في سبيل الله والمقاتلة من قبل الفتح أعظم وأشرف وأسبق وأشق على النفس منهما من بعد الفتح لوقوعهما عند ضعف الاسلام وقوة الكفر وكثرة العدو وشدة شوكتهم فلذلك صارا سببا لرفع درجات السابقين وعظمتها. قوله (والذين اوتوا العلم درجات) قيل المراد الرفعة في مجلس النبي وهو المناسب للمقام والمشهور الرفعة في درجات ثواب الاخرة. قوله (وقال ذلك بانهم لا يصيبهم ظمأ) ذلك اشارة إلى وجوب الجهاد المفوهم من الاية السابقة والمنع من التخلف عنه وما بعده يحث عليه ويجرى مجرى المنع من التخلف والظمأ شدة العطش والنصب الاعياء والتعب والمخمصة المجاعة الشديدة والموطئ أما اسم مكان أو مصدر. والضمير في " يغيظ " عائذ الى الوطى وفيه دلالة على أن من قصد طاعة الله كان قيامة وقعوده مشية وحركته وسكونه كلها حسنات تكتب في ديوان عمله. قوله (وما تقدموا لانفسكم من خير) فيه حث على الخير وترغيب فيه والمراد به الانفاق أو الاعم. قوله (وقال فمن يعلم مثقال ذرة خيرا) يدل على أن عمل الخير سبب لعلوا الدرجة ورفع


1 - قوله " عالم ذوذنب " كانه كان ناصيبا يشعر به اصراره على تفضيل عائشة وأكثرهم على تفضيل فاطمة السهيلي وهو من أعاظم علماء أهل السنة يذكر عن أبي بكر بن داود أنه سئل أعائشه أفضل أم خديجة ؟ فقال: عائشة أقرئها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) السلام من جبرئيل وخديجة أقروئها جبرئيل السلام من ربها على لسان محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فهي أفضل. قيل له: فمن أفضل أخديجة أم فاطمة ؟ فقال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: ان فاطمة بضعة منى فلا أعدل ببضعة من رسول الله أحدا، قال السهيلي: وهذا استقرء حسن ويشهد لصحة هذا الاستقراء أن أبا لبابة حين أرتبط نفسه وحلف أن لا يحله الا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فجاءت فاطمة لتحله فأبى من أجل قسمه فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): انما فاطمة مضغة مني فحلته قال: ويدل على تفضيل فاطمة قوله (عليه السلام) لها أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة الا مريم فدخل في هذا الحديث امها رأخواتها وقد تكم الناس في المعنى الذي به سادت به فاطمة غيرها إلى آخر ما قال. (ش) (*)

[ 128 ]

المنزلة، وعمل الشر خلاف ذلك ففيه ترغيب في الخير وتبعيد عن الشر. * الأصل


[ 129 ]

(باب درجات الإيمان) 1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن السحن بن محبوب، عن عمار بن أبي الأحوص، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله عز وجل وضع الإيمان على سبعة أسهم على البر والصدق واليقين والرضا والوفاء والعلم والحلم، ثم قسم ذلك بين الناس، فمن جعل فيه هذه السبعة الأسهم فهو كامل، محتمل، وقسم لبعض الناس السهم ولبعض السهمين ولبعض الثلاثة حتى انتهوا إلى [ ال‍ ] سبعة ثم قال: لا تحملوا على صاحب السهم سهمين ولا على صاحب السهمين ثلاثة فتبهضوهم، ثم قال: كذلك حتى ينتهى إلى [ ال‍ ] سبعة. * الشرح قوله (إن الله عز وجل وضع الايمان على سبعة أسهم) هذه الاسهم كلها من أفعال القلب (1)


1 - قوله " هذه الاسهم كلها من أفعال القلب " ومن مراتب السلوك في إصلاح العرفاء وهو حركة نفسانية من النفقص إلى الكمال الانساني وقد تكلم فيها العلماء بهذا الشأن ومن أحسن ما صنف فيه كتاب أوصاف الاشراف للمحقق الطوسي الذي أشار إليه الشارح، واعلم أن تلك المراتب غير متناهية من جهة التقسيم كسائر الحركات كما أن السير في المسافة ينقسم إلى الفراسخ والاميال والاذرع والاصابع وباعتبار كل تقسيم يختلف عدد الاقسام فان قسمنا مسافة بالفراسخ وحصل عشرة اقسام مثل كانت بالاميال ثلاثين قسما وبالاذرع مائة وعشرين ألف ذراع والمسافة واحدة كذلك السير إلى الكمال الالهي ينضبط باقسام تختلف باعتبارات وقد يعبر عنها باللطائف السبع وأشار إليه الشاعر: هفت شهر عشق را عطار گشت ما * هنوز اندر خم يك كوچه ايم وظبطها المحقق الطوسي في ستة أقسام ثم قسم كل قسم إلى ستة، وقسم صاحب منازل السائرين إلى عشرة وكل قسم إلى عشرة، وقسم مولانا الصادق (عليه السلام) في هذا الحديث إلى سبعة أقسام، وفي حديث إلى عشرة، وفي حديث آخر سيأتي ان شاء الله تعالى أيضا إلى سبعة، وكل قسم منها إلى سبعة فصارت تسعة وأربعين، ثم قسم كل منها إلى عشرة وللناس فيما يعشقون مذاهب وكلها صحيح والاولى بناحفظ اصطلاح الامام (عليه السلام) ووجه الترتيب أن الانسان في مبدء السلوك لا يمكن أن يكون إلى الكمال النفساني فأول المراتب البر ولما كان البر ذادرجات أولها أن يكون معتقدا لحسن الحسن وقبح القبيح ومعذلك يرتكب القبائح مسامحة وغفلة وغرورا كما نرى من كثير من الفساق المعترفين بقبح فعالهم وهؤلاء لا يصدق فعلهم فثاني المراتب الصدق، ثم من صدق قوله فعله قد لا يكون ايمانه خاليا عن شوائب الوهم، ولم يكون له محض اليقين بحيث يبعثه على الحركة على ما يأتي شرحه ان شاء الله في درجات الايمان وثالث المراتب لمزيد الكمال اليقين، ولما لم يكن اليقين بنفسه محركا للانسان إلا بالرضا كما أن العلم بالنافع لا يوجد الحركة إليه إلا إذا اشتاق فرب علم بفنع التجارة لا يتجر لعدم شوقه ورب متيقن بالجنة لا يبعد الله لعدم شوقه لذلك كان الرضا رابعا والوفاء بعد الرضا بمنزلة تحريك العضلات بعد الشوق ثم عبر (عليه السلام) عما يسنح للسالك بعد الوفاء بالشروط، بالعلم والحلم وهو = (*)

[ 130 ]

وصفاته إلا النادر منها، الاول البرأى الاحسان إلى نفسه بفعل الواجبات وترك المنهيات، والى الوالدين والاقربين والاخوان المؤمنين، وقد روى عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال " ومن خالص الإيمان البر بالاخوان والثاني: الصدق وهد القول المطابق للواقع كما هو المشهور وينشأ من استقامة اللسان واعتداله في البيان ويطلق أيضا على فعل القلب والجوارح المطابقين للقواينين العدلية والموازين الشرعية منه والصديق وهو من حصل له ملكة الصدق في جميع هذه الامور ولا يصدر منه خلاف المطلوب عقلا أو نقلا، كما صرح به المحقق الطوي في أوصاف الأشراف. الثالث: اليقين وهو الحالة التي تحصل للإنسان عند كمال قوته النظرية كما إن التقوى هي الحالة التي تحصل له عند كمال قوته العملية وبعبارة اخرى هو الإعتقاد الجازم المطابق الثابت الذي لا يمكن زواله وهو في الحقيقة مؤلف من علمين العلم بشئ والعلم بأنه لا يمكن خلاف ذلك العلم. وله مراتب مذكورة في القرآن علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين، قال الله تعالى * (لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين " وقال * (وتصلية جحيم ان هذا لهو حق اليقين " وهذه المراتب مترتبة في الفضل والكمال مثلا العلم بالنار بتوسط النور أو الدخان هو علم اليقين والعلم بها بمعاينة جرمها المفيض للنور عين اليقين والعلم بها بالوقوع فيها ومعرفة كيفيتها التي لا تظهر بالتعبير حق اليقين، وبالجملة علم اليقين يحصل بالبرهان، وعين اليقين بالكشف، وحق اليقين بالاتصال المعنوي الذي لا يدرك بالتعبير، الرابع الرضاء بقضاء الله في النفس والمال والوالد حلوا كان ام مرا، الخامس الوفاء بعهد الله وهو ما عقدوه على أنفسهم من الشهادة بربوبيته حين اشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى أو الاعم منه ومن الوفاء بالرسالة والولاية والتكاليف وعهود الناس وشروطهم الجايزة، السادس العلم بالاحكام الدينية والشرايع النبوية والاخلاق النفسية، وبالجملة المراد به البصيرة القلبية في أمر الدين وهي التي توجب استيلاء الخوف والخشية على القلب كما قال جل شأنه * (إنما يخشى الله من عباده العلمؤا " السابع الحلم وهو هيئة حاصلة للنفس من الاعتدال في القوة الغصبية مانعة لها من الانفال بسهولة عن الواردات المكروهة الموذية التي من شأنها تحريك النفس إلى الانتقام والتسلط والترفع والغلبة وبالجملة هو صفة يوجب سكون النفس وتأنيها عند هيجان الغضب.


= العلم المفيد في الآخرة وهو المعرفة بالله تعالى وصفاته وأسمائه وأفعاله بما يسمى عندهم بالفناء أو له العلم وآخره الحلم وهذا وجه قريب الإحتمال في ضبط الاسهم السبعة والله العالم بحقيقة كلام وليه وكل كلام من هذا الجنس في أخبار الأئمة (عليهم السلام) ورد مجملا ولم يرد فيه * الشرح يجوز للعقول التدبر فيها وأبداء أقرب الاحتمالات فيه وإلا كان ذكرهم عبثا تعالى أولياء الله عن البعث. (ش) (*)

[ 131 ]

قوله (فهو كامل محتمل) لبلوغ ايمانه حد الكمال واحتماله جميع سهامه وأنحائه. قوله (ثم قال: لا تحملوا على صاحب السهم سهمين) كما أن القوة الجسمانية يتفاوت في أفراد الانسان حتى يقدر أحد بحمل من والاخر بحمل منين والثالث بحمل ثلاثة هكذا، وكذلك القوة الروحانية فتكلف الادنى حين كونه أدنى بما كلف به الاعلى تكليف بما لا يطلق، والثواب والعقاب ليسا بمتساويين كما روى " إنما يداق الله العباد في الحساب يوم القيامة على قدر ما آتاهم من العقول في الدنيا " نعم على الاعلى ان ينقل الادنى إلى درجة بالتعليم والرفق والوعظ مما سيجئ عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال " إذا رأيت من هو أسفل منك بدرجة فارفعه في المسألة بان يكمله ويفقه للترقي إلى درجة أعلى من درجة كما مر في كتاب العقل، ومن ههنا ظهر أن القسمة المذكورة لا توجب الظلم لأن المطلوب من كل أحد ما يقتضيه قسمه ونصيبه وأن كل ذي قسم قابل للدرجة الفوقانية اما في نفس الامر أو في ظنه وتجويزه وان بناء الكمال على التدريج والتعلم والطلب منه تعالى، وفيه دلالة على أن الرجل بعد تحصيل أصل الايمان لو قصر في كماله لقصور في القوة العقلية أو القوة العلمية لا يعد مقصرا ولا يؤاخذ عليه والله أعلم. قوله (فتبهضوهم) بهضه الحمل يبهضه بالضاد أي أثقله وأعجزه وبالظاء أكثر. * الأصل 2 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار ومحمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى جميعا، عن ابن فضال عن الحسن بن الجهم، عن أبي اليقظان، عن يعقوب ابن الضحاك عن رجل من أصحابنا سراج وكان خادما لأبي عبد الله (عليه السلام) قال: بعثني أبو عبد الله (عليه السلام) في حاجة وهو بالحيرة أنا وجماعة من مواليه قال: فانطلقنا فيها ثم رجعنا مغتمين قال: وكان فراشي في الحائر الذي كنا فيه نزولا، فجئت وأنا بحال فرميت بنفي فبينا أنا كذلك إذا أنا بأبي عبد الله (عليه السلام) قد أقبل قال: فقال: قد أتيناك أو قال: جئناك، فاستويت جالسا وجلس على صدر فراشي فسألني عما بعثني له فأخبرته، فحمد الله ثم جرى ذلك قوم فقلت: جعلت فداك إنا نبرأ منهم، إنهم لا يقولون ما نقول. قال: فقال: يتولونا ولا يقولون تبرؤون منهم ؟ قال: قلت: نعم قال: فهو ذا عندنا ما ليس عندكم فينبغي لنا أن نبرأ منكم ؟ قال: قلت: لا - جعلت فدالك - قال: وهو ذا عند الله ما ليس عندنا أفتراه أطرحنا ؟ قال: قلت لا والله جعلت فداك، ما نفعل ؟ قال: فتولوهم ولا تبرؤوا منهم، إن من المسلمين من له سهم ومنهم من له سهمان، ومنهم له ثلاثة أسهم، ومنهم من له أربعة اسهم، ومنهم من له خمسة أسهم، ومنهم من له ستة أسهم، ومنهم من له سبعة أسهم، فليس ينبغي أن يحمل صاحب السهم على ما عليه صاحب السهمين، ولا صاحب السهمين على ما عليه صاحب الثلاثة، ولا صاحب الثلاثة على ما عليه


[ 132 ]

صاحب الأربعة، ولا صاحب الأربعة على ما عليه صاحب الخمسة، ولا صاحب الخمسة على ما عليه صاحب الستة. ولا صاحب الستة على ما عليه صاحب السبعة، وسأضرب لك مثلا إن رجلا كان له جار وكان نصرانيا فدعاه إلى الإسلام وزينه له فأجابه فأتاه سحيرا فقرع عليه الباب فقال له: من هذا ؟ قال: أنا فلان قال: وما حاجتك ؟ فقال: توضأ والبس ثوبيك ومربنا إلى الصلاة قال: فتوضأ ولبس ثوبيه وخرج معه، قال: فصليا ما شاء الله ثم صليا الفجر، ثم مكثا حتى أصبحا، فقام الذي كان نصرانيا يريد منزله، فقال له الرجل أين تذهب. النهار قصير والذي بينك وبين الظهر قليل ؟ قال: فجلس معه إلى أن صلى الظهر، ثم قال: وما بين الظهر والعصر قليل فاحتبسه حتى صلى العصر. قال: ثم قام وأراد أن ينصرف إلى منزله فقال له: إن هذا آخر النهار وأقل من أوله فاحتبسه حتى صلى المغرق ثم أراد أن ينصرف إلى منزله فقال له: إنما بقيت صلاة واحدة قال: فمكث حتى صلى العشاء الآخرة ثم تفرقا فلما كان سحيرا غذا عليه فضرب عليه الباب فقال: من هذا ؟ قال: أنا فلان، قال: وما حاجتك ؟ قال: توضأ والبس ثوبيك وأخرج بنا فصل، قال: اطلب لهذا الدين من هو أفرغ مني وأنا إنسان مسكين وعلى عيال، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): أدخله في شئ أخرجه منه - أو قال: أدخله من مثل هذه وأخرجه من مثل هذا -. * الشرح قوله (وهو بالحيرة) الحيرة بالكسر مدينة كان يسكنها النعمان بن المنذر وهي على رأس ميل من الكوفة. قوله (مغتمين) بالغين المعجمة وفي بعض النسخ " مغتمين " بالعين لمهملة قيل أي داخلين وقت العتمة. قوله (وكان فراشي في الحائر) الحائر المكان المطمئن والبستان كالحير وكربلا. قوله (وأنا بحال) أي من الضعف والكلال. قوله (أنهم لا يقولون ما نقول) من الفضائل أو من المسائل أو من الاعمال الصالحة التي يقولها أصحاب العرفان ويعملها أرباب الايقان، لامن اصول العقائد. قوله (ما نفعل) لما رجع السائل بالمقدمات المذكورة عن الجهل المركب وهو القطع بالبراء منهم إلى الجهل البسيط، استفهم عما يلزمه من التوسط بين التولى والتبرى أو التولى بقوله ما نفعل على صيغة المتكلم، والحاصل أن الاحتمالات ثلاثة التولى والتبرى والسكوت، ولما بطل التبرى استفهم عن أحد الآخرين فأجاب (عليه السلام) بأن اللازم عليكم هو التولى، وفي بعض النسخ " ما يفعل " بالياء وهو حينئذ من تتمة السابق، " وما " نافية والفاعل ضمير عائد إلى الله.


[ 133 ]

قوله (فليس ينبغي ان يحمل صاحب السهم على ما عليه صاحب السهمين) كل من القوة العملية والقوة العقلية أما في مرتبة النقص أو في مرتبة الكمال أو الاولى في مرتبة النقص والثانية في مرتبة الكمال أو بالعكس، فالاحتمالات باعتبار القوتين أربعة ولا ينبغي أن يحمل الناقص على ما عليه الكامل بل ينبغي أن يراعي التوسط في كل مرتبة كما يظهر من المثل. قوله (ثم صليا الفجر ثم مكثا حتى أصبحا) يمكن أن يراد بالفجر الفريضة وبالاصباح الدخول في الصبح المضئ الكامل النور وأن يراد به النافلة مع الحذف أي حتى أصبحا وصليا الفريضة. قوله (أدخله في شئ أخرجه منه) لا يخفى أن هذه العبارة ذات وجهين لأن الشئ يحتمل الإسلام والنصرانية.


[ 134 ]

(باب آخر منه) * الأصل 1 - أحمد بن محمد، عن الحسن بن موسى، عن أحمد بن عمر، عن يحيى بن أبان عن شهاب قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: لو علم الناس كيف خلق الله تبارك وتعالى هذا الحلق لم يلم أخد أحدا. فقلت: أصلحك الله فكيف ذاك ؟ فقال: إن الله تبارك وتعالى خلق أجزاء بلغ بها تسعة وأربعنى جزءا. ثم جعل الأجزاء أعشارا فجعل الجزء عشرة أعشار، ثم قسمه بين الخلق فجعل في رجل عشر جزء وفي آخر عشرى جزء حتى بلغ به جزءا تاما وفي آخر جزءا وعشر جزء وآخر جزءا وعشري جزء وآخر جزءا وثلاثة أعشار جزء حتى بلغ به جزئين تامين، ثم بحساب ذلك حتى بأرفعهم تسعة وأربعين جزءا، فمن لم يجعل فيه إلا عشر جزء لم يقدر على أن يكون مثل صاحب العشرين وكذلك صاحب العشرين لا يكون مثل صاحب الثلاثة الأعشار وكذلك من تم له جزء لا يقدر على أن يكون مثل صاحب الجزئين ولو علم الناس أن الله عز وجل خلق هذا الخلق على هذا لم يلم أحد أحدا. * الشرح قوله (لو علم الناس كيف خلق الله تبارك وتعال هذا الخلق لم يلم أحد أحدا) عدم اللوم باعتبار قصور في القوة النظرية أو في القوة العملية ظاهر ولذلك لايلام شارب الخمر مثلا لوادعى عدم العلم بحرمته وأكن في حقه ولامن أنكر شيئا مما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا لم يبلغه بل اللازم عليه حينئذ هو الإرشاد والتعليم برفق والحاق الناقص بالكامل، كما دل عليه الثاني من هذا الباب، وأما إذا كانت القوتان كاملتين باأن علم مثلا وجوب شئ وقدر على فعله وتركه فإنه يلام قطعا ومنه يظهر الجمع بين الروايات الدالة على اللوم وعدمه فليتأمل. قوله (إن الله تبارك وتعالى خلق اجزاء بلغ بها تسمعة وأربعين جزءا) (1) وما يتبعه من قوة الاعمال والاخلاق كالتوكل والزهد والورع واليقين والرضا وغيرها من الصفات النفسانية، فإنها تبلغ تسعة وأربعين، ثم جعل تلك الاجزاء أعشارا بأن جعل التوكل عشرة أجزاء، وقوة العمل عشرة أجزاء، وقوة والبصر كذلك وهكذا، والحاصل أنه قدر عمل البصر والسمع


1 - قوله " بلغ بها تسعة وأربعين جزءا " حاصلة من ضرب سبعة في نفسها فكأنه قمس المراتب أو لا إلى سبعة ثم كان قسم إلى سبعة نظير ما مر من المحقق الطوي (قدس سره) حيث قسم أو لا إلى ستة أقسام وكل قسم إلى ستة. (ش) (*)

[ 135 ]

واللسان والرجل واليد وعمل القلب أعنى التصديق والاخلاق أعشارا، ويؤبده قوله (عليه السلام) في آخر الباب " وبعضهم أكثر صلاة من بعض وبعضهم أنفذ بصرا من بعض وهي الدرجات ". قوله (فجعل الجزء عشرة أعشار ثم قسمه بين الخلق) أي جعل كل جزء عشرة أجزاء فبلغ المجموع أربعمائة وتسعين جزءا، والمالك للجميع هو الكامل مطلقا والفاقد للجميع هو الناقص مطلقا وما بينهما كامل وناقص بالإضافة والناس بعد تفاوتهم بهذه المراتب متشاركون في أصل القوة التكليفيه والقدرة واللوم باعتبار هذه القوة والقدرة وابطال استعدادهما وصرفهما في غير الجهات المشروعة لا باعتبار ما هو فوق طاقتهما. * الأصل 2 - محمد بن يحيى، عن محمد بن أحمد، عن بعض أصحابه، عن الحسن بن علي بن أبي عثمان، عن محمد بن عثمان، عن محمد بن حماد الخزاز. عن عبد العزيز القراطيسي قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): يا عبد العزيز إن الإيمان عشر درجات بمنزلة السلم يصعد منه مرقاة بعد مرقاة فلا يقولن صاحب الاثنين لصاحب الواحد لست على شئ حتى ينتهي إلى العاشرة فلا تسقط من هو دونك فيسقطك من هو فوقك وإذا رأيت من هو أسفل منك بدرجة فارفعه إليك برفق ولا تحملن عليه مالا يطبق فتكسره، فإن من كسر مؤمنا فعليه جبره. * الشرح قوله (أن الإيمان عشر درجات) (1)


1 - قوله " الإيمان عشر درجات " لا ينافي ذلك تسبيع الأقسام أو جعلها تسعة وأربعين على ما ذكرنا، وأما اختلاف الناس في درجاتهم والتكلم معهم على قدر عقولهم وعدم جواز جمل أحد على شئ لا يقدر فهو مما لا يخفى على المزاولين لهذه الامور كالتدريس والوعظ ووصي به الحكماء أيضا في علومهم التي لا يستلزم الخطأ فيها سوء العاقبة فكيف في علم الدين الذي لا نجاة للضال فيه أبدا. قال الشيخ أبو علي بن سينا في آخر الإشارات القمتك قفى الحكم في لطائف الكلم فصنه عن الجاهلين والمبتذلين ومن لم يررق الفطنة الوقادة والدربة والعادة وكان صغاه مع الغاغة أو كان من ملحدة هؤلاء المتفلسفة ومن همجهم انتهى. ومما أوصى به أفلاطون أن لا يتصدي أحد للفلسفة إذا لم يحكم العلوم التعليمية وكان مكتوبا على مدرسه: من لا يعلم الهندسة فلا يحضرون هنا والسرفيه أن العقل الإنساني قلما يخلص عن شائبة الوهم ومثاله المعروف الميت جماد والجماد لا يخاف عنه يحكم به العقل ولا يذعن به الوهم والإنسان بعد قيام الديلى على عدم الخوف يخاف من الميت متابعة لوهمه ونظير هذا ثابت في كل قضية عقلية قام على صحته البرهان والوهم حاضر يعارضه وقل إن يتفق رجل لا يتشوش خاطره به ويقدر على الجزم بالحق والقطع على الدليل وعدم الاعتناء بالوهم ومما جربنا في العلوم وجربنا عليه في تدريس العقليات منذ سنين الاحتراز من تعليم الفلسفة الإلهية لمن لم يرتض ذهنه بالرياضيات كالهندسة والهيئة ولا نتكم في العقليات مع من لا يعرفها فإن = (*)

[ 136 ]

المركب منه ومن العمل والأجزاء الاصلية المذكورة التي جعل كل واحد عشرة أجزاء. قوله (وإذا رأيت من هو أسفل منك بدرجة فارفعه إليه برفق) ينبغي لأرباب الكمال وأهل الصحة والسلامة أو يرحموا أهل النقص وأرباب الذنوب بانقاذهم واعانتهم على الخروج منهما بالرفق واللطف تدريجا لأن ذلك دأب الانبياء والعلماء العالمين بكيفية التعليم والتفهيم، وفي قوله " فارفعه إليك " دلالة واضحة على أن القيام على الدرجة الاولى ليس من باب الحتم والحصر بل هو قابل للترقي إلى الأعلى فالأعلى حتى يبلغ غاية ما يمكن له من الكمل. لا يقال الخبر السابق دل على أن صاحب عشر جزء لا يقدر أن يكون مثل صاحب العشرين فكيف يؤمر صاحب العشرين بأن يرفعه إلى درجته برفق ؟ لانا نقول لعل المقصود أنه صاحب عشر بالفعل وله استعداد اكتساب عشر آخر على أنه لو فرض اختصاصه بالعشر وعدم استعداده للزائد في نفس الأمر فلا ريب في أن صاحب العشرين لا يعلم ذلك، بل ربما يظن أنه قابل للترقي فهو مأمور بهذا الإعتبار رجاء لتحقق مظنونه والله أعلم. قوله (من كسر مؤمنا فعليه جبره) إن كان كسره بإخراجه عن الدين فعليه أن يدخله فيه بالإرشاد وإن كان يكسر قلبه فعليه أن يرضيه. 3 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن سنان، عن ابن مسكان، عن سدير قال: قال لي أبو جعفر (عليه السلام): إن المؤمنين على منازل منهم على واحدة ومنهم على اثنتين ومنهم على ثلاث ومنهم على أربع ومنهم على خمس ومنهم على سبع فلو ذهبت تحمل على صاحب الواحدة ثنتين ولم يقو وعلى صاحب الثنتين ثلاثا لم يقو وعلى صاحب الثلاث أربعا لم يقو وعلى صاحب الأربع خمسا لم يقو وعلى صاحب الخمس ستا لم يقو على صاحب الست سعبا لم يقو وعلى هذه الدرجات. * الأصل 4 - عنه، عن علي بن الحكم، عن محمد بن سنان، عن الصباح بن سيابة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) 2: قال: ما أنتم والبراءة، يبرء بعضكم من بعض، إن المؤمنين بعضهم أفضل من بعض، وبعضهم أكثر صلاة من بعض، وبعضهم أنفذ بصرا من بعض وهي الدرجات. * الشرح قوله (وبعضهم أنفذ بصرا) لعل المراد بالبصر البصر القلبي فهو إشارة إلى تفاوت الدرجات في


= الخاطر يتبلبل ويتشوش عند سماع البرهان ويتردد بين قبول البرهان ومتابعة أوهامه المرتكزة الراسخة في قلبه منذ حداثته إلى أن كمل ومن أحسن ما يؤثر في إقامة الذهن البراهين الرياضية. (ش) (*)

[ 137 ]

القوة النظرية وما قبله إلى تفاوت الدرجات في القوة العملية، وكان قوله " وهي الدرجات " إشارة إلى الدرجات التي في قوله تعالى * (هم درجات عند الله ".


[ 138 ]

* الأصل (باب نسبة الإسلام) * الشرح قوله (باب نسبة الإسلام) أي صفته التي يتضح بها أمره وحقيقته، يقال نسبته إلى الشئ نسبا من باب طلب أي عزوته إليه وانتسب هو إليه اعتزى والإسم النسبة بالكسر ولما كانت نسبة شئ إلى شئ توضيح امره وحاله وما يؤول هو إليه أراد بها هذا من باب ذكر الملزوم وإرادة اللازم. * الأصل 1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن بعض أصحابنا رفعه قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): لأنسبن الإسلام نسبة لا ينسبه أحد قبلي ولا ينسبه أحد بعي إلا بمثل ذلك: إن الإسلام هو التسليم والتسليم هو اليقين واليقين هو التصديق والتصديق هو الإقرار والإقرار هو العمل والعمل هو الأداء، إن المؤمن لم يأخذ دينه عن رأيه ولكن أتاه من ربه فأخذه، وإن المؤمن يرى يقينه في عمله والكافر يرى إنكار في عمله، فو الذي نفسي بيده ما عرفوا أمرهم، فاعتبروا إنكار الكافرين والمنافقين بأعمالهم الخبيثة. * الشرح قوله (إن الإسلام هو التسليم والتسليم هو اليقين هو التصديق والتصديق هو الإقرار والإقرار هو العمل والعمل هو الأداء) (1) (عليه السلام) إلى أن الإسلام وهو دين الله الذي أشار إليه جل شأنه بقوله * (ان الدين عند الله الإسلام " يتوقف حصوله على ستة امور حتى أن ينتفى بانتفاء واحد منها الأول التسليم وهو بذل العبد نفسه ورضاه بالأحكام الإلهية والنوائب وإن كان مرة في طبعه، الثاني اليقين بالله واليوم الآخر والثواب والعقاب وهو العلم به مع زوال الشك، الثالث التصديق الذي هو الإيمان الخالص، الرابع الإقرار بما يجب الإقرار به، الخامس العمل بالجوارح، السادس أداء ما افترض الله به بل ما ندبه إليه إلا أنه حمل كل لاحق على سابقه وكل واحد على الإسلام على سبيل القياس المفصول النتايج وإن كانا متغايرين يتوقف السابق على اللاحق لشدة الاتصال بينهما، ثم هذه العبارة لا تخلو من لطف وهو أنه جعل الذي هو الإيمان الخالص الحقيقي بين ثلاثة وثلاثة واشتراك الثلاثة التي قبله في أنها من مقتضياته وأسباب حصوله، واشتراك الثلاثة التي بعده في أنها


1 - قوله " والعمل هو الاداء " وفي نهج البلاغة " والإقرار هو الاداء والاداء هو العمل " وتكلم في هذا الحديث شراح نهج البلاغة واستدل به ابن أبي الحديد على صحة مذهبه وهو إن العمل من الإيمان. (ش) (*)

[ 139 ]

من لوازمه وآثاره وثمراته، وبالجملة جعل التصديق الذي هو الإيمان وسطا عدلا، وجعل أول مراتبه من جهة الإسباب مراقبة الإسلام، وثانيها التسليم، ثالثها اليقين، وجعل أول مراتبه من جانب المسببات الإقرار، وثانيها العمل، وثالثها الأداء فليتأمل. قوله (إن المؤمن لم يأخذ دينه عن رأيه ولكن أتاه من ربه فأخذه) هذا بمنزلة التأكيد لقوله " إن الإسلام هو التسليم " لأن دين الحق لا يجوز أخذه من الرأي بل يجب أخذه من الرب بلا واسطة أو بواسطة عالم رباني، ومن أخذه من الرب كان من أهل التسليم له. قوله (إن المؤمن يري يقينه في عمله والكافر يرى إنكاره في عمله يرى أما مجهول من الرؤية أو معلوم من الاراءة وما بعده على الأول مرفوع وعلى الثاني منصوب، وهذا بمنزلة الدليل والتأكيد لما لزم من قوله واليقين هو العمل وصريح في أن العمل معتبر في الإيمان وإن كل من كان عمله خبيثا غير واقع على القوانين الشرعية فهو كافر أو منافق وإن كان مدعيا للإيمان، وإن الإيمان هو التصديق القبلي والعمل دليل عليه فكال ما دل على ان كان مدعيا للإيمان، وإن العمل أو دل على أنه العمل فلابد من حمله على أن إضافه العمل إليه إضافة كما لا أنه جزء منه بحيث ينتفي الإيمان بانتفائه، لا يقال إذا كان الإيمان نفس التصديق وجب أن لا يتفاوفت إذا لتصديق لا يزيد ولا ينقص لأنه علم والعلوم لا تتفاوت فوجب أن يكون إيمان أحدنا مثل إيمان أمير المؤمنين (عليه السلام) وأنه باطل قطعا، لانا نقول لا نسلم أن العلوم لا تتفاوت وقد زعم النووي من العامة أن التصديق الواحد يزيد بإعتبار كثرة الادلة وإن كان هذا لا يخلو من شئ لأن كثرة الادلة إنما يفيد العلم بالشئ من جهات متعددة لا تفاوت العلم ولو نسلم أن تفاوت مراتب الإيمان وقع من جهة التصديق بل من جهة الأعمال المنضافة إليه لأجل الكمال، والحاصل أن العمل غير داخل في حقيقة الإيمان لا أنه غير داخل في حقيقة أفراده والتفاوت إنما هو بين الأفراد لا بين الحقيقة فليتأمل. * الأصل 2 - عنه، عن أبيه، عن عبد الله بن القاسم، عن مدرك بن عبد الرحمن، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): الإسلام عريان، فلباسه الحياء وزينته الوقار ومروته العمل الصالح وعماده الورع ولكل شئ أساس، وأساس الإسلام حبنا أهل البيت. * الشرح قوله (الإسلام عريان فلباسه الحياء) شبه الإسلام بالرجل العريان في النقض والضعف وأثبت اللباس له ترشيحا للتشبيه. وشبه الحياء به لأنه يمنع من المعاصي ويحجب عن القبايح ويحسن الصورة ويفع العار كاللباس الفاخر الساتر وزينته الوفاء بعهد الربوبية والرسالة والولاية، أو الاعم منه


[ 140 ]

ومن عهود الناس ولا يبعد أن يراد به الإقرار والتسليم، ومروته العمل الصالح وهو من آثارها إذ من شأن المروة وهي كمال الرجولية الحث على فعل ما ينبغى فعله، وعماده الورع من المنهيات والمكروهات بلا عن المشتبهات أيضا لأن ذلك يوجب ثبات الإسلام وبقاءه كما أن فعل المنهيات يوجب زواله وفناءه. قوله (ولكل شئ اساس) الظاهر أنه كلام أبي عبد الله (عليه السلام) واستعار أساس الإسلام لحب أهل البيت عليهم السلام إذا حبهم مبدء للإسلام ودين الحق وأصل له لما يعتبر فيه وبه بناؤه وثباته. علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن علي بن معبد، عن عبد الله بن القاسم، عن مدرك ابن عبد الرحمن، عن أبي عبد الله مثله. * الأصل 3 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن عبد العظيم بن عبد الله الحسني. عن أبي جعفر الثاني (عليه السلام)، عن أبيه، عن جده صلوات الله عليهم قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الله خلق الإسلام فجعل له عرصة وجعل له نورا وجعل له حصنا وجعل له ناصرا. فأما عرصته فالقرآن، وأما نوره فالحكمة وأما حصنه فالمعروف، وأما أنصاره فأنا وأهل بيتي وشيعتنا، فأحبوا أهل بيتي وأنصارهم فإنه لما أسرى بي إلى السماء الدنيا فنسبني جبرئيل (عليه السلام) لأهل السماء، استودع الله حبي وحب أهل بيتي وشيعتهم في قلوب الملائكة، فهو عندهم وديعة إلى يوم القيامة. ثم هبط بي إلى أهل الأرض فنسبني لأهل الأرض فاستودع الله عز وجل حبي وحب أهل بيتي وشيعتهم في قلوب مؤمني امتي فمؤمنوا امتي يحفظون ويديعتي في أهل بيتي إلى يوم القيامة، ألا فلو أن الرجل من امتي عبد الله عز وجل عمره أيام الدنيا ثم لقى الله عز وجل مبغضا لأهل بيتي وشيعتي ما فرج الله صدره إلا عن النفاق. * الشرح قوله (إن الله خلق الإسلام فجعل له عرصة) شبه الإسلام بالدر في الرجوع إليه والسكون فيه والانس به وجعل له عرصة وهي موضع واسع فيها لابناء فيه وجعل له نورا يرى به ما خفى كما أن للبيت نورا، وجعل له حصنا يمنع من خروج المصلح عنه ودخول المفسد فيه كما أن للدار حصنا مانعا من ذلك، وجعل له ناصرا ينصره ويروجه ويتدبر في أمره واصلاحه كما أن للدار ناصرا كذلك فأما عرصته فالقرآن لأن أهله يستريح فيه ويسير إليه وأيضا لايدخل في الدين إلا ما يدخل في الدين إلا ما يدخل في القرآن كما أنه لايدخل في الدار إلا ما يدخل في العرصة، وأما نوره


[ 141 ]

فالحكمة (1) فالمعروف لأن المعروف واقامته يوجب حفظه من خروج الحق عنه ودخول الباطل فيه وأيضا حفظه يوجب حياة الإسلام وتركه يوجب هلاكه فهو يشبه الحصن، وأما أنصاره فأنا وأهل بيتي وشيعتنا ولعل المراد بالشيعة من كان تابعا لهم في العلم والعمل إذ لا يتصور النصرة بدونهما. قوله (ثم هبط بي إلى أهل الارض فنسبني لاهل الارض) فان قلت كيف ذكر نسبه لاهل الارض والمؤمنون به إلى يوم القيامة لم يكونوا موجودين في ذلك الزمان، قلت لعله نادى بقوله " يا أيها


1 - قوله " وأما نوره فالحكمة " القرآن والحكمة وبعبارة اخرى الشرع والعقل ولن يفيد العقل والحكمة ان الم ينظر بهما إلى القرآن ولا يستفيد من القرآن إذا لم يتدبر فيه بعقله فالقرآن عرصة يرى ما فيها بنور العقل والحكمة وقد روى في آخر كتاب العقل (المجلد الاول صفحة 437) عن أمير المؤمنين (عليه السلام) " بالعقل استخرج غور لحكمة وبالحكمة استخرج غور العقل إلى آخره " وفي حديث ورد في عرض نسخ الكافي آخر كتاب العقل والجهل عن الصادق (عليه السلام) في حديث طويل: " أو أول الامور ومبدأها وقوتها وعمارتها التي لا ينتفع شئ إلا به، العقل الذي جعله الله زينة لخلقه ونورا لهم، فبالعقل عرف العباد خالقهم، وأنهم مخلوقون، وأنه المدبر لهم، وأنهم المدبرون، وأنه الباقي وهم الفانون، واستلوا بعقولهم على ما رأوا من خلقه، من سماوه وأرضه، وشمسه وقمره، وليله ونهاره، بأن له ولهم خالقا ومدبرا لم يزل ولا يزول، وعرفوا به الحسن من القبيح، وأن الظلمة في الجهل، وأن النور في العلم، فهذا ما دلهم عليه العقول. قيل له: فهل يكتفي العباد بالعقول دون غيره ؟ قال: إن العاقل لدلالة عقله الذي جعله لله قوامه وزينته وهدايته، علم أن الله هو ربه، وعلم أن لخالقه محبة، وأن له كراهية، وأن له طاعة، وأن له معصية، فلم يجد عقله يدل على ذلك وعلم أونه لا يوصل إليه إلا بالعلم وطلبه، وأنه لا ينتفع بعقله ان لم يصب ذلك بعلمه، فوجب على العاقل طلب العلم والادب الذي الاقوام له به ". قال الراغب الإصفهاني في كتابه المسمى بالذريعة: لله عز وجل رسولان إلى خلائقه أحدهما من الباطن وهو العقل، والثاني من الظاهر وهو الرسول ولا سبيل لاحد الانتفاع بالرسول الظاهر ما لم يتقدمه الإنتفاع بالباطن فالباطن يعرف صحة دعوى الظاهر ولولاه لما كان تلزم الحجة ولهذا أحال الله من يشكك في وحدانيته وصحة نبوة أنبيائه على العقل وأمر أن يفزع إليه في معرفة صحتهما فالعقل قائد والدين مسددو لو لم يكن العقل لم يكن الدين باقيا ولو لم يكن الدين لاصبح العقل حائرا واجتماعهما كما قال تعالى " نور على نور " ونقل الفيض (رحمهم الله) في كتاب عين اليقين عن بعض الفضلاء وهو الراغب في تفضيل النشأتين قال: أعلم أن العقل لن يهتدى إلا بالشرع والشرع لن يتبين إلا بالعقل والعقل كالاس والشرع كالبناء ولن يثبت بناء ما لم يكن اس ولن يغنى اس ما لم يكون بناء، وأيضا العقل كالبصر والشرع كالشعاع ولن ينفع الصبر ما لم يكون شعاع من خارج ولن يغنى الشعاع ما لم يكن بصر. قال: وأيضا فالعقل كالسراج والشرع كالزيت الذي يمده فما لم يكن الزيت لم يشعل السراج وما لم يكن سراج لم يضئ الزيت انتهى. وقال الرضا (عليه السلام): " لا يعبأ بأهل الدين ممن لا عقله له ". وقال الصادق (عليه السلام) " ليس بين الإيمان والكفر الإقلة العقل " وكل ذلك مأخوذ من كلام أمير المؤمنين (عليه السلام). (ش) (*)

[ 142 ]

الناس هذا محمد بن عبد الله رسول الله وخاتم النبيين " فسمع صوته من في أصلاب الرجال وأرضام النساء يوم القيامة فأجاب من أجاب كما نادى خليل الرحمن للحج أو أراد بذكر نسبه لاهل الارض ذكره في القرآن فانهم يسمعونه بطنا بعد بطن وعصرا بعد عصر إلى يوم القيامة فيحبهم شيعتهم ويبغضهم عدوهم والله أعلم. * الأصل


[ 143 ]

(باب خصال المؤمن) 1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسين بن محبوب، عن جميل بن صالح، عن عبد الملك بن غالب، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ينبغي للمؤمن أن يكون فيه ثماني خصال: وقورا عند الهزاهز، صبورا عند البلاء، شكورا عند الرخاء، قانعا بما رزقه الله، لا يظلم الأعداء ولا يتحامل للأصدقاء، بدنه منه في تعب والناس منه في راحة، إن العلم خليل المؤمن والحلم وزيره والعقل أمير جنوده والرفق أخوه والبر والده. * الشرح قوله (وقورا عند الهزاهز) الوقور فعول من الوقار وهو الحلم والرزانة، والهز: التحريك، يقال هززته هزا فاهتز من باب قتل أي حركته، والهزاهز الفتن يهتز الناس فيها. قوله (صبوا عند البلاء) البلاء اسم لما يمتحن به من شر أو خير، ويقال بالفارسية " زحمت ونعمت " وكثر استعماله في الشر والصبر وهو حبس النفس على الامور الشاقة عليها وترك الاعتراض على المقدور وعدم اظهار الشكاية والاضطراب من أعظم خصال الإيمان. قوله (شكورا عند الرخاء) الرخاء النعمة والخصب وسعة العيش، والشكر الإعتراف بالنعمة ظاهرا وباطنا ومعرفة حق المنعم والاتيان بطاعته وترك معصيته والشكور للمبالغة فيه. قوله (قانعا بما رزقه الله) لا يبعثه الحرص على الحرام وجمع ما لا يحتاج إليه وتضييع العم فيما لا يعنيه. قوله (لاينظلم الاعداء) المقصود في الظلم على الناس خص الاعداء بالذكر لانهم مورد الظلم إذ العداوة تبعث عليه غالبا. قوله (ولا يتحامل للاصدقا) أي لا يتحامل على الناس يعني لا يجوز عليهم لاجل الاصدقاء وطلب مرضاتهم، وقيل لا يتحمل الوزر لاجلهم كما إذا كان عندك شهادة على صديقك لغيره فلا تشهد له رعاية للصداقة. قوله (بدنه منه في تعب والناس منه في راحة) لقيامة بالعبادات ليلا ونهارا واشتغاله بالطاعات سرا وجهارا حتى أسهرت لياليه وأظمأت هواجره وكان همه بعد ذلك رفع الاذي عن الناس وايصال الخير إليهم، فهم منه في راحة دنيوية واخروية. قوله (ان العلم خليل المؤمن) اشارة إلى ما هو الاصل الجميع ما ذكر لتوقف الخصال المذكورة على هذه الامور، والخلة - بالضم - الصداقة والمحبة التي تخللت القلب فصارت خلاله أي في


[ 144 ]

باطنه والخليل الصديق فعيل بمعنى فاعل وقد يكون بمعنى مفعول، وانما كان العلم خليل المؤمن لأنه ينفعه غاية النفع كالخليل، والمراد بالمؤمن النفس الناطقة المطيعة المنزلة إلى هذا البدن لتحصيل معرفة الحق من جهة آثاره، ومشاهدة عجايب صنعه، والتقرب منه قبل العود وبعده على الوجه الاكمل كما قال عز شأنه * (سنريهم آياتنا في الافاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق " ولما كان ذلك التحصيل لايتم إلا بالاعضاء والحواس الظاهرة والباطنة والشهوة والغصب والحلم والعقل وغيرها خلقت لها هذه الامور وجعلت جنودها وهي سلطان على الجميع تأمر كل واحد بما خلق له تناه عن غيره فتأمر اللسان بالقول الصحيح وتأمر البصر بالنظر الصحيح وتأمر الشهوة بطلب ما ينفع البدن وتأمر الغضب بدفع ما يضره، وقس عليه وكما أن للسلطان الظاهر وزيرا يشاوره في نظام أمره ومملكته وأميرا لجنوده يقهر الاعداء بحسن تدبيره ويضبط امور عساكره، كذلك لسلطان البدن وزير وأمير فوزيره الحلم وأمير العقل إذ العقل ينهى إليه أن مرسوم اليد مثلا الاخذ والاعطاء الصحيحين، ومرسوم اللسان القول اللين والاقوال الصحيحة الوافقة للقوانين الشرعية، ومرسوم الشهوة هو القدر الضروري من الطعام والشراب ونحوهما، ومرسوم الغضب هو دفع المانع منه ودفع العدون المفسد فيأمر الوزير وهو الحلم بأن يعطى كل واحد ما أنهاه الامير إليه ويمنعه من التجاوز عنه، فأمير البدن إذا رجع اليهاتم نظام مملكته وصارت جنوده مسخرة له فتحمل له السعادة الابدية والتقرب بالحضرة الربوبية ولو انعكس الامر وعصت الرعايا وغلبت الشهوة والغضب على الامير والوزير زالت سلطنته وخربت مملكته ونكست أحواله وبعد عن مولاه وهو من الخاسرين. قوله (والرفق اخوه والبر والده) أي الرفق وهو اللين والتلطف بالصديق والعدو والجليس والرفق، بمنزلة الاخ في دفعه الشر عنه. والبر هو الإحسان إلى الخلق بمنزلة الوالد في جلب النفع وطلب الخير له. * الأصل 2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله، عن أبيه (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه: الإيمان له أركان أربعة التوكل على الله، وتفويض الأمر إلى الله، والرضاء بقضاء الله، والتسليم لأمر الله عز وجل. * الشرح قوله (الإيمان له أركان أربعة) المراد بالايمان اما التصديق الجازم الثابت المطابق للواقع أو هو مع العمل، ولكامله أو لثباته واستقراره أركان لو انتفى أحدها لبطل كماله وزال استقراره الاول


[ 145 ]

التوكل على الله وهو الإعتماد عليه والوثوق به في الرزق وغيره من الضروريات، وقطع تعلق القلب بغيره من الاسباب والمسببات وهو يوجب قوة الإيمان وثابته إذ لو انتفى التوكل عليه وتعلق القلب بغيره من الاسباب والمسببات والوسائط تحركت الجوارح إلى تحصيلها وفرغ القلب عن ذكره وذهلت الجوارح عن طاعته، وهو يجب ضعف الإيمان، الثاني تفويض الامر في دفع شر الاعداء وكيد الخصماء ومكائذ النفس ووسائس الشيطان أو مطلقا إلى الله كما فوض مؤمن آل فرعون أمره إلى الله * (فوقاه الله سيئات ما مكروا " فإن من استكفاه كفاه الله وفرغ هو لذكره وطاعته وهو يوجب قوة الإيمان وثباته، الثالث الرضا بقضاء الله في حصول الشدة والرخاء ونزول المصيبة والبلاء، وهذه خصلة شريفة توجب كمال الإيمان وثباته، وانتفاؤها يوجب السخط بالله وبصنعه، وذلك يوجب نقص الايمان بل زواله غالبا، الرابع التسليم لأمر الله عز وجل والانقياد له في الشرايع والأحكام والحدود وكل ما أنزله على رسوله وهو في الحقيقة قبول قول الله وقول الرسول والأوصياء وأفعالهم ظاهرا وباطنا وتلقيها بالبشر والسرور وان كان ثقبلا على النفس وغير موافق للطبع، وهو أصل عظيم لرسوخ الإيمان وكماله إذ لو انتفعى استولى ضده وهو الشك عن القلب والشك ينافي أصل الإيمان فضلا عن كماله. * الاصل 3 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه عمن ذكره، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلي، عن أبيه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إنكم لا تكونون صالحين حتى تعرفوا ولا تعرفون حتى تصدقوا أو لاتصدقون حتى تسلموا أبوابا أربعة لا يصلح أولها إلا بآخرها، ضل أصحاب الثلاثة وتاهوا تيها بعيدا، إن الله تبارك وتعالى لا يقبل إلا العمل الصالح ولا يتقبل الله إلا بالوفاء بالشروط والعهود، ومن وفي الله بشروطه واستكمل ما وصف في عهده نال ما عنده واستكمل وعده، إن الله عز وجل أخبر العباد بطريق الهدى وشرع لهم فيها المنار وأخبرهم كيف يسلكون، فقال: * (وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى) * وقال: * (إنما يقتبل الله من المتقين) * فمن اتقى الله عز وجل فيما أمره لقى الله عز وجل مؤمنا بما جاء به محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، هيهات هيهات فات قوم وماتوا قبل أن يهتدوا وظنوا أنهم آمنوا، وأشركوا من حيث لا يعلمون، إنه من أتى البيوت من أبوابها اهتدى ومن أخذ في غيرها سلك طريق الردي، وصل الله طاعة ولي أمره بطاعة رسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وطاعة رسوله بطاعته، فمن ترك طاعة ولاة الأمر لم يطع الله ولا رسوله وهو الإقرار بما نزل من عند الله، خذوا زينتكم عند كل مسجد والتمسوا اليوت التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها أسمه، فإنه قد خبركم أنهم رجال لاتلهيهم تجارة ولابيع عن ذكر الله عز وجل وإقام الصلاة


[ 146 ]

وإيتاء الزكوة، يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار، إن الله قد استخلص الرسل لأمره، ثم استخلصهم مصدقين لذلك في نذره فقال: * (وإن من امة إلا خلا فيها نذير) * تاه من جهل واهتدى من أبصر وعقل، إن الله عز وجل: * (فأنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) * وكيف يهتدي من لم يبصرو كيف يبصر من لم ينذر اتبعوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأقروا بما نزل من عند الله واتبعوا آثار الهدى، فانهم علامات الأمانة والتقى، واعلموا أنه لو أنكر رجل عيسى بن مريم (عليه السلام) وأقر بمن سواه من الرسل لم يؤمن، اقتصوا الطريق بالتماس المنار والتمسوا من وراء الحجب الاثار. تستكموا أمر دينكم وتؤمنوا بالله ربكم. * الشرح قوله (عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه) قد مر هذا الحديث سندا ومتنا في أوائل كتاب الحجة في باب معرفة الإمام والرد إليه وذكرنا شرحه مفصلا. قوله (إنكم لا تكونوا صالحين حتى تعرفوا) ذكر امورا أربعة كل سابق موقوف على اللاحق لظهور أن الصلاح وهو التحلى بالفضائل الظاهرة والباطنة والتخلى عن الرذائل متوقف على معرفتها والمعرفة متوقفة على التصديق أذهى بدونه نفاق واستهزاء، والتصديق موقوف على تسليم أبواب أربعة. ولعل المراد بها الإقرار بالله، والإقرار بالرسول، والإقرار بما جاء به الرسول، والإقرار بالأئمة (عليهم السلام) بعده، أو المراد بها الرسول وعلى والحسن والحسين (عليهم السلام)، أو المراد بها الأربعة المذكورة في الآية الآتية وهي التوبة والإيمان والعمل الصالح والاهتداء وهو متابعة الإمام ولكن لا يخلو هذا من مناقشة. قوله (لا يصلح أولها إلا بآخرها) فلا يصلح الإقرار بالله والتسلم له إلا بالإقرار بالإمام والتسلم له. قوله (لا يقبل إلا العمل الصالح) وهو المشتمل على ما يعتبر في تحققه وصلاحه شرعا داخلا كان أم خارجا ومن جملة ذلك التسليم للأبواب الأربعة وهو شرط الله وعهده على عباده في صلاح العمل وقبوله واستحقاق الاجر به. ولا يتقبل الله من العاملين أعمالهم إلا بوفائهم بشروطه وعهوده ومن وفي الله بشروطه وحفظها وأتي بما وصف في عهده على وجه الكمال ورعاه وعبد بإرشاد الرسول والهداة من بعده نال ما عنده من الثواب الجزيل واستمكمل وعده من الأجر الجميل كما قال عز وجل أوفوا بعهدي أوف بعهدكم أي أوفوابما عاهدتكم عليه من الامور المذكورة أوف بعهدكم من الثواب والجزاء. وقيل إن للوفاء عرضا عريضا أو له الإقرار بالشهادتين وآخر الاستغراق في التوحيد. قوله (إن الله عز وجل اخبر العباد بطرق الهدي) بيان للشروط والعهود المذكورة أو تأكيد لها أو


[ 147 ]

دليل عليها ولذا ترك العطف، والمراد بطرق الهدي طرق الشرع الموصلة إلى المطلوب الهادية إلى مقام القرب وبالمنار وهي جمع المنارة على غير قياس يعني موضع النور ومحله أعلام الهدي وهم الحجج (عليهم السلام) لأنهم محال أنوار الله تعالى وعلومه التي بمنزلة النور في الإيصال إلى المطلوب باخبارهم كيفية سلوكهم طرق الشرع والزامهم باقتفاء آثار الحجج واتباع أقوالهم وأعمالهم وعقائدهم فقال عز وجل: (وإني لغفار لمن تاب) عن الباطل ورجع إلى وإلى الحجج (وآمن) بي وبهم (وعمل صالحا) ببيانهم وإرشادهم، (ثم اهتدى) إلى وإلى مقام قربى أو إلى العلم بأنه لا يتحقق المغفرة والعمل الصالح بدون التوبة والإيمان المذكورين. (وقال عز وجل إنما يتقبل الله من المتقين) الذين يتمكون بما جاء به الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وبين لهم الحجج ولم يتجاوزوه ويقومون على ما أمرهم الله به وينتهو أعمانها هم عنه. (فمن اتقى الله عز وجل فيما أمره) من متابعة الحجج واقتفاء آثارهم. (لقى الله عز وجل) يوم القيامة مؤمنا (بما جاء به محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) هيهات هيهات) أي بعد التقوى واللقاء بالإيمان. (فات قوم ) في الضلالة (وماتوا قبل أن يهتدوا) إلى الله والحجج (وظنوا أنهم آمنوا) بالله والحال أنهم (أشركوا) به (من حيث لا يعلمون) أنه اتباع الهوى وترك متابعة الحجج شرك بالله العظميم، ثم أوضح ذلك على سبى الاقتباس من القرآن الكريم بقوله (أنه من أتى البيوت) بيوت الشرع (من أبوابها) وهي الحجج (اهتدى) إلى دين الله الموصل إليه (ومن أخذ في غيرها سلك طريق الردي) أي الضلال والهلاك وسر ذلك أن الوصول إلى الله متوقف على سلوك سبيله المتوقف على العلم بالمبدأ والمعاد والقوانين الشرعية المقررة بالوحي وشئ من ذلك لا يتسير إلا بالإرشاد معلم رباني وهو النبي ومن يقوم مقامه من الأوصياء والعلماء التابعين لهم فمن أخذ منهم فقد أهتدى، ومن عدل عنهم فقد سلك سبيل الردى وضل عن سبيل الحق، ومثله كمثل من قصد جهة الشرق وهو سلك سبيل الغرب فكلما بالغ في السير بعد عن المقصد وضل عن سبيه وهو الضلال البيعد (ثم أكد ذلك بقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) وصل الله طاعة ولي أمره بطاعة رسوله وطاعة رسوله بطاعته) في قوله * (أطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم " وهو مفيد التلازم (فمن ترك طاعة الأمر لم يطع الله ولا رسوله) لأن ترك اللازم يوجب ترك الملزوم والحال أن الإقرار بطاعة ولاة أمر (وهو الإقرار بما نزل من عند الله) وهي الآية الكريمة لأن كل من أقربه فقد أقر بالأولين أيضا دون العكس فإن كثيرا من الناس أقروا بالأولين دون الأخير فهم لم يقروا بما نزل من عند الله ثم بالغ في الإقرار بولاة الأمر وحث عليه بقوله (خذوا زينتكم عند كل مسجد) والزينة مطلق ما يتزين به شرعا، ومنه الإقرار


[ 148 ]

والتصديق بولاية الأمر لأنه أعظم ما يتزين به الظاهر والباطن (والتسموا البيوت التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيما أسمه) أي اطلبوها وهي بيوت النبوة والوصاية التي شرفها الله تعلى على بيوتات ساير الأنبياء والأوصياء، ويذكر فيما اسم الله وآياته، كما أشاره إليه بقوله (فإنه قد خبركم أنهم) أي الرسول وولاة الأمر (رجال لا تلهيهم تجارة) أي مطلق إلا كتساب (ولا بيع عن ذكر الله) عز وجل (وأقام الصلاة وايتاء الزكوة يخافون يوما) أي عذابه أو شره (تتقلب فيه القلوب والأبصار) ظهر البطن ومن جانب إلى جانب كتقلب الحية على الرمضاء، وذلك لكثرة شدائده وعظمة مصايبه. قوله (إن الله قد استخلص الرسل لأمره) " الاستخلاص " رهانيدن خواستن ورهانيده خواسان وپاك شدن خواستن، وكان النذر بضمتين جمع النذير، وأن المراد به على بن أبي طالب وولاة الأمر بعده. أن جعل الرسول خالصين لأمره فارغين عما عداه بالمجاهدات النفسانية والتأييدات الربانية ثم جعلهم خالصين من باب التأكيد حال كونهم مصدقين لأجل خلوصهم في نذره أي في وصف الأولياء وتعيين الأوصياء (فقال وإن من أمة إلا خلا فيها نذير) فكيف يجوز أن لا يكون في هذه الامة نذير منصوب من قبل الله وقبل رسوله، وفيه رد على من جعل الكفرة صاحبين للخلافة قابلين للنيابة (تاه) أي تحير في الدين وضل الطريق من جهل النذير واهتدى من أبصره وعقله. قوله (إن الله عز وجل يقول فإنها لا تعمى الأبصار) فيه تسيهيل لأول وتقبيح للثاني، وإشارة إلى أن السبب الجهل ذهاب البصيرة وابطال القوة القلبية التي بها تدرك الصور الحقة والأسرار الالهية وابطالها يتحقق تارة بعدم التفكر والتدبر، واخرى بمتابعة القوة الشهوية والغضبية حتى ينزل في الدرجة الحيوانية. قوله (كيف يهتدى من لم يبصر وكيف يبصر من لم ينذر) إشارة إلى أن الهداية إلى الدين بدون البصيرة والبصيرة بدون هذاية الهادي وإرشاد المنذر محال ولذلك أمر باتباع الرسول الأئمة الهداة بعده فقال (اتبعوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأقروا بما نزل من عند الله) ومنه طاعة ولاة الامر (واتبعوا آثار أئمة (الهدى من العقائد والاقوال والأفعال والاخلاق (فإنهم علامات الامانة والتقى) إذ بهم يعرف الأمانة أي الدين والتقوى، ويعلم أركانهما وشرائطهما وكيفية الوصول إليهما والتقوى ملكة تحدث من ملازمة المأمورات واجتناب المنهيات والمشتبهات وثمرتها حفظ النفس عن الدنيا. قوله (وأعلمو أنه لو أنكر رجل عيسى بن مريم) المقصود أن من أنكر واحدا من الأئمة أو أزاله عن موضعه لم يؤمن بالله، وذكر عيسى بن مريم على سبيل التمثيل وإلا فالحكم مشترك وهو أن منكر أحد من الرسل غير مؤمن بالله تعالى مما ذهب إليه حذاق المتكلمين ودليلهم على ذلك هو السمع دون العقل إذ لا يمتتنع في العقل أن يعرف الله من كذب رسوله لأنهما معلومان لا ارتباط


[ 149 ]

لأحدهما بالآخر عقلا، لا يقال العقل دل عليه لأن منكر الرسول مقر باله غير مرسول لهذا الرسول، ولا شئ من المقر باله غير مرسل لهذا الرسول مقر بالله سبحانه فلا شئ من منكر الرسول، ولا شئ من المقر باله غير مرسل لهذا الرسول مقر بالله سباحنه فلا شئ من منكر الرسول مقر بالله سبحانه فلا يكون مؤمنا به وهو المطلوب أما الصغرى فصادقة لأنها الواقع وأما الكبرى فلأن إلا له الذي لم يرسل هذا الرسول ليس هو الله سبحانه. لانا نقول يصير النزاع لفظيا والكبرى فيها مصادرة. أما الأول فلان الخلاف يتوجه إلى أن العارف بالشئ المقربه من وجه وغير مقربه من وجه آخر هل يسمى عارفا لذلك الشئ أم لا، وأما الثاني فهو ظاهر فليتأمل. قوله (اقتصوا الطريق بالتماس المنار) قص الأثر واقتصه إذا تبعه، أي ابعوا الطريق وأطلبوه بطلب أعلامه التي نصب لمعرفته كيلا تضلوا. قوله (والتمسوا من وراء الحجب الآثار أي اطلبوا آثار الأئمة وأخبارهم من وراء حجب شبهات الجاحدين، أو من ورائهم، ففيه أمر بالرجوع إليهم عد غيبتهم بخلاف السابق فإنه أمر به عند حضورهم، ويحتمل أن يراد بالحجب الأنبياء ففيه حث على اقتفاء آثار أقدامهم وسلوك طريقتهم، ولا يتحقق ذلك إلا بإرشاد الأوصياء. * الأصل 4 - عنه، عن أبيه، عن سليمان الجعفري، عن أبي الحسن الرضا، عن أبيه (عليهم السلام) قال: رفع إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قوم في غزواته فقال من القوم ؟ فقالوا مؤمنون يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: وما بلغ من إيمانكم ؟ قالوا: الصبر عند البلاء والشكر عند الرخاء والرضاء بالقضاء، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): حلماء علماء كادوامن الفقهن أن يكونوا أنبياء، وإن كنتم كما تصفون، فلا تبنوا مالا تسكنون ولا تجمعوا مالا تأكلون واتقوا الله الذي إليه ترجعون. * الشرح قوله (فقال من القوم) سأل عما يوجب تعيينهم من الخصال والصفات (فقالوا مؤمنون) أي نحن أو القوم مؤمنون، ولما كان للإيمان آثار ولوازم شريفة يدل عليه سأل عما بلغهم منها من أجل إيمانهم فقالوا: الصبر على المشاق عند البلاء والشكر للمنعم عند الرخاء والرضاء بالقضاء، ولما كانت هذه الامور من آثار العلم والحكمة والحلم وكانت من أعظم صفات الأنبياء قال (صلى الله عليه وآله وسلم) حلماء علماء (1)


1 - قوله " علماء حلماء " لأنهم استنبطوا لوازم الإيمان يعقلهم فإنهم فهمو أن المؤمن يصبر عند البلاء إذ علموا من ما يصيب الإنسان إنما هو من الله تعالى وهو لا يريد السوء لعبادة والشكر عند الرضا لأن النعمة منه = (*)

[ 150 ]

التشابه والتقارب، ثم لما كانت هذه الصفات تقتضي الزهد في الدنيا والتقوى أن الإتيان بالمأمورات وترك المنهيات حثهم على الأول بقوله: إن كنتم صادقين، فلا تبنوا ما لم تسكنون ولا تجمعوا مالا تأكلون وخصهما بالنهي لأنهما من أعظم مطالب الراغبين في الدنيا وعلى الثاني بقوله (واتقو الله الذي إليه ترجعون) وفيه وعد ووعيد جميعا.


= تعالى، والرضا بالقضاء يعم ذلك وغيره، وسماهم الفقهاء لاستنباطهم وعدم وقوفهم على حفظ ما سمعوا. (*)

[ 151 ]

* الأصل (باب) 1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، ومحمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، وعدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، جميعا، عن الحسن بن محبوب، عن يعقوب السراج، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) وبأسانيد مختلفة، عن الأصبغ ابن نباتة قال: خطبنا أمير المؤمنين (عليه السلام) في داره - أو قال: في القصر - ونحن مجتمعون، ثم أمر صلوات الله عليه فكتب في كتاب وقرئ على الناس وروى غيره أن ابن الكواء سأل أمير المؤمنين (عليه السلام) عن صفة الإسلام والإيمان والكفر والنفاق، فقال: أما بعد فان الله تبارك وتعالى شرع الإسلام وسهل شرائعه لمن ورده وأعز أركانه لمن حاربه وجعله عزا لمن تولاه وسلما لمن دخله وهدى لمن ائتم به وزينة لمن تجلله وعذرا لمن انتحله وعروة لمن اعتصم به وحبا لمن استمسك به وبرهانا لمن تكلم به ونورا لمن استضاء به وعونا لمن استغاث به وشاهدا لمن خاصم به وفلجا لم حاج به وعلما لمن وعاه وحديثا لمن روى وحكما لمن قضا وحلما لمن جرب ولباسا لمن تدبر وفهما لمن ويقينا لمن عقل وبصيرة لمن عزم وآية لمن توسم وعبرة لمن اتعظ ونجاة لمن صدق وتؤدة لمن أصلح وزلفى لمن اقترب وثقة لمن توكل ورخاءا لمن فوض وسبقة لمن أحسن وخيرا لمن سارع وجنة وظهيرا لمن رشد وكهفا لمن آمن وأمنة لمن أسلم ولمن صبر ولباسا لمن اتقى رجاء لمن صدق وغني لمن قنع، فذلك الحق، سبيله لهدى ومأثرته المجد وصفته الحسنى فهو أبلج المنهاج مشرق المنار، ذاكي المصابح، رفيعه الغاية، يسير المضار، جامع الحلبة، سريع السبقة. أليم النقمة، كامل العدة، كريم الفرسان، فالإيمان منهاجه والصالحات مناره والفقه مصابيح والدنيا مضماره والموت غايته والقيامة حلبته والجنة سبقته والنار نقمته والتقوى والمحسنون فرسانه، فبالإيمان يستدل على الصالحات وبالصالحات يعمر الفقه وبالفقه يرهب الموت وبالموت تختم الدنيا وبالدنيا تجوز القيامة وبالقيامة تزلق الجنة والجنة حسرة أهل النار والنار موعظة المتقين والتقوى سنخ الإيمان. * الشرح قوله (وروى غيره أن ابن الكواء) الظاهر أن ضمير غير راجع إلى الاصبغ بن نباته، وعبد الله ابن الكواء من رجال أمير المؤمنين (عليه السلام) خارجي ملعون. قوله (شرع الإسلام) أي أظهره وأوضحه أو جعله شريعة للعقول وطريقا لها لتسلكه إليه. قوله (وسهل شرائعه لمن ورده) الشرائع جمع الشريعة وهي طريق الماء. والمراد بها قواعده


[ 152 ]

وأركانه وخطاباته على سبيل الإشراة، وبتسهيلها أظهارها وايضاحها وجعلها سهل المأخذ بحيث يفهمها الفصيح وإلا لكن ويدركها الغبي والفطن. قوله (وأعز أركانه لمن حاربه) لعل المراد با عزاز أركانه - أي قواعد وقوانينه وأحكامه وحدوده - حمايتها بنصره ورفعا بأهله على من قصد محاربته وهدمه وأطفاء نوره وإزالة بنيانه مغالبة من المشركين والجاحدين والجاهلين. قوله (وجمعله عزا لمن تولاه) في الدنيا من القتل والاسر والنهب بالعدوان وفي الآخرة من العذاب والنكال والخزي والخذلان. قوله (وسلمان لمن دخله) استعمار له لفظ السلم بالكسير وهو الصلح باعتبار عدم أذاه لمن دخل فيه وانقاد لحكمه فهو كالمسالم المصالح له، وقد لاحظ شبهه بالغالب من الشجعان باعتبار مسالمته ومصالحته لمن تبعه وانقاد لأمره، وايذائه لمن خالفه وعانده وفي معنى مسالمته معه جعله محقون الدم مستقرا في يده ما يملكه ومحفوظا في الآخرة من عقوبة المخالفة. (وهدي لمن ائتم به) فإنه يهديه إلى سعادة الدنيا والآخرة التي أعظمها قرب الحق وهو المطلبوب من خلق الإنسان. (وزينة لمن تجلله) ي جعله بردا ولباسا من قولهم جلل فرسا له فتجلل. ولاريب في أن أحكام الإسلام بعضها يتعلق بالظاهر وبعضها يتعلق بالباطن، ومن تلبس بها يتزين ظاهره وباطنه فيصير إنسانا كاملا له صورة مزينة ظاهرا وباطنا (وعذرا لمن انتحله) العذر بالضم وضمتين والمعذورة إسم لما يرفع به اللوم. والانتحال أما بمعنى أخذ النحلة والدين أو بمعنى ادعائه وانتسابه إليه مع عدم كونه له، والإسلام على الأول عذر له في الدنيا والآخرة ويرفع به اللوم عنه مطلقا. على الثاني عذر له في الدنيا ويرفع عنه لومها مثل القتل والاسر والنهب والأذي وغيرها. (وعروة لمن اعصتم به) عروة سته كوزه ودسته هر جيز، واعتصام دست در زدن. لا حظ شبه الإسلام بالعروة لأنه عروة الخيرات كلها فمن اعتصم به ملك جميعها ورفعها لنفسه. (وحبلا لم استمسك به) لأن الإسلام حبل الله المتين بينه وبين خلقه فمن استمسك به خرج من حضيض النقص إلى أوج الكمال ومن جب الغربة والفراق إلى المنزل القرب والوصال، والحبل يطلق على الرسن وعلى العهد والأمان والكل محتمل. (وبرهانا لمن تكلم به) لأن من علم حقيقته وعرم أسراره غلب به على من حجده وأنكره عند المناظرة ولذلك كان العالم بالشرع كما ينبغي فائقا على الباطل وأهله دائما. (ونورا لمن استضاء به) شبهه بالنور واستعار له لفظه ورشحه بذكر الاستضاءة، ووجه المشابهة


[ 153 ]

أنه يهدى انفس الناطقة المستضيئة به في ظلمات البشرية والغواشي النفسانية إلى فناء القدس وطريق الجنة. (وشاهدا لمن خاصم به) الشاهد أعم من البرهان لتناوله الجدل والخطابة مع احتمال ارادة أنه برهان لمن احتج به وشاهد لمن جعله مؤيدا. (وفلجا لمن حاج به) الفلج بالفتح والسكون الظفر وافوز كالافلاج، والإسم منه الفلج لاضم والسكون وهو الغلبة وجعله فلجا من باب المبالغة لكونه تاما في الغلبة فكأنه نفسها. (وعلما لمن وعاه) اطلاق العلم على الإسلام من باب اطلاق المسبب على السبب لأن الإسلام سبب لحصول العلم لمن وعاه وحفظه وتوقف وعيه وحفظه على قدر من العلم به لا ينافي ذلك لأن العلم به يزداد ويتكامل بالتدريج حتى يبلغ غاية الكمال. (وحديثا لمن روى) خبرا جديدا مشتملا على المواعظ والنصايح والقصص والاحكام والحدود وغيرها لمن روى، وأخبر، وفيه حث على روايته. وفي السابق على درايته. (وحكما لمن قضى) أي وجعله حكما زاجرا عن القبائح باعثا على المحاسن لمن اريد القضاء والحكم وهو أصل له. (وحلما لمن جرب) إطلاق الحكم على الإسلام مجاز من باب اطلاق المسبب على السبب لأن الإسلام سبب لحصول ملكة الحلم لمن جرب الامور وتفكر في عواقبها وعرف قبح السفه الناشي من طغيان القوة الغضبية وتجاوزها عن الإعتدال. ومن خفة النفس وحركتها إلى مالا يليق مثل والضرب والبطش والشتم والترفع والتسلط والغلبة وغيرها من المفاسد. (ولباسا لمن تدبر) فان من تفكر فيه وتدبر في أو امره وزواجره وربط نفسه بقوانينه ومعارفه حصلت له حالة متوسطة معتدلة محيطة بباطنه شبيهة باللباس في الاحاطة والشمول والزينة وهي لباس العلم والمعرفة، وأطلق تلك الحالة على الإسلام اطلاقا للمسبب على السبب لأن الإسلام ومعارفه سبب لها. (وفهما لمن تفطن) الفهم جودة تهيؤ الذهن لقبول ما يريد عليه ولما كان الإسلام والدخول فيه ورياضة النفس بقوانينه لاتصاف الذهن بذلك التهيؤ وقبوله للانوار العقلية والاسرار الربوبية أطلق لفظ الفهم مجازا اطلاقا لاسم المسبب على السبب. (ويقينا لمن عقل) لما كان اليقين هو العلم الإستدلالى مع زوال الشك، وكان الإسلام والدخول فيه والتمسك بقوانينه سببا لحصوله أطلق عليه لفظ اليقين مجازا على نحو ما مر. (وبصيرة لمن عزم) أي من عزم على أي أمر من الامور الدنيوية والاخروية وقصد فعله فان في الإسلام بصيرة لكيفية فعله على الوجه الذي ينبغى وهذا الإطلاق أيضا مثل ما مر.


[ 154 ]

(وآية لمن توسم) أي من تفرس طرق الخير الموصلة إلى الحق ومقاصده التي ترشد إلى ساحة القدس فان الإسلام آية وعلامة لذلك المتفرس المتوسم فإذا اهتدى بها سلك طريق مهدي. ( وعبرة لمن اتعظ) عبرت اعتبار گرفتن پند گرفتن، ومتع پند گيرنده وذلك ظاهر لأن في الاسلام عبرة للمعتبر وعظة للمعتظ لما فيه من أخبار القرون الخيالية وأحوال الايام الماضية وكيفية تصرف الزمان بهم وجريان القضاء فيهم مثل قوم فرعون وعاد وثمود وقوم نوح وصالح وهود وغيرهم ممن لا يحصى كثرة. (ونجاة لمن صدق) فان الإسلام سبب لنجاة من صدق الرسول فيما جاء به ودخل فيه من القتل والاسر والنهب والاذي في الدنيا، ومن العذاب والعقوبة في الاخرة، والإطلاق فيه وفيما سبق مثل ما مر. (وتؤده لمن أصلح) التؤده - بضم التاء وسكون الهمزة وفتحها - الرزانة والتأنى وذلك ظاهر لأن من أصلح بقواعد الإسلام وتبع حكمه كان الإسلام سببا لتأنيه ورزانته. (وزلفى لمن اقترب) زلفى نزديك شدن يعني أن الإسلام سبب القرب من الله لكل من اقترب إليه، والحاصل أن كل من اقترب فسبب قربه هو الإسلام باعتبار التمسك بذيله، والعمل بقوانينه. (وثقة لمن توكل) أي هو سبب ثقة واعتماد لمن توكل على الله لاشتماله على الوعد الصادق من يتوكل على الله فهو حسبه وغير ذلك وهو يوجب زيادة استعداد للتوكل. (ورخاء لمن فوض) أي هو رخاء سهل غير صعب لمن فوض فعله إليه ولم يتكلف فان الإسلام ملة سمحة سهلة. وقيل من ترك البحث والإستقصاء من الدليل فتمسك باحكام الإسلام ودلائل القرآن والسنة المتداولة بين أهله، وفوض أمره إليه استراح بذلك التفويض ولا يقع في تعصب، وقيل: المراد أن المسلم إذا كمل اسلامه وفوض أمره إلى الله كفاه في جميع الامور وأراحه من الاهتمام بها. (وسبقة لمن أحسن) السبقة والسبق بفتحتين الخطر وهو ما يتراهن عليه المتسابقان أي الإسلام خطر لمن أحسن إلى أهله أو لمن أحسن صحبته، أو لمن أحسن العمل فيه، أو الاعم من الجميع وبالجملة هو نصيب للمحسن وكأن غير المحسن ليس له نصيب فيه. (وخيرا لمن سراع) الخير ما ينفع في الدنيا والاخرة، والإسلام خير لمن سارع إليه لأنه ينفعه فيهما. (وجنة لمن صبر) استعار لفظ الجنة للاسلام لأنه يحفظ من صبر على العمل بقوعده وأركانه من العقوبة الدنيوية والاخروية كما أن الجنة تحفظ صاحبها من شر الاعادي وعقوبتهم. (ولباسا لمن اتقى) فان من التقى الله حق تقاته واجتنب عما يضر في الاخرة من محرماته ومكروهاته وترك واجاته حصلت له حالة معتدلة محيطة بظاهره، وسمى تلك الحالة الشبيهة باللباس في الاحاطة والشمول والزينة اسلاما مجازا تسمية للمسبب باسم السبب، لأن تلك الحالة حصلت بسبب


[ 155 ]

الإسلام ومتابعته. فالمراد باللباس هنا لباس الظاهر وهو لباس التقوى وفي السابق لباس الباطن المحيط بالنفس الناطقة الحاصل بالتدبر والتفكر في معارف الإسلام وأسراره والله أعلم. (وظهيرا لمن رشد) ظهير يارى كننده وهم پشت، ورشد راه راست يافتن، وانما كان الإسلام ظهيرا لمن رشد وسلك طريقا مستقيما وهو طريق الحق قواعده ترشد إليه، وقوانينه تدل عليه، فهو يعينه ويمده إلى أن يبلغ إلى الغاية ويصل النهاية. (وكهفا لمن آمن) كهف غارى كه دركوه باشد، وپناهي كه دفع كند از شخص حوادث را. يعني من آمن بالله ورسوله واليوم الاخر فقد دخل في الإسلام الذي بمنزلة الكهف في دفع الضر عنه إذ كل ضرر يعود إلى أحد فانما يعود إليه بمخالفة قانون من قوانين وخروجه منه. (وأمنة لمن أسلم) أمنة ايمن داشتن وبى ترس شدن. يعني من أسلم الله ودخل في الإسلام كان آمنا من غيره فالإسلام سبب لأمنه، فاطلاق الامنة على الإسلام للمبالغة في السببية. (ورجاء لمن صدق) يعني من صدق النبي والعترة النبوية دخل في الإسلام، والإسلام سبب لرجائه المثوبات الدنيوية والاخروية. (وغني لمن قنع) غنى آسوده داشتن وفائده دادن وبس كردن وقناعت باندك جيزي اكتفا كردن. ولعل المراد أن من قنع بالقليل من المال واكتفى بالكفاف من الرزق فالإسلام غنى له امالان التمسك بقواعده والاعتماد بقوانيه يوجب وصول ذلك القدر إليه كما قال عز وجل * (ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب " أو لأنه يحثه على القيام بها ويفيده الثبوت عليها لاشتماله على فوائد القناعة ومضار عدمها والله أعلم. (فلذلك الحق سبيله الهدى) هدى راه نمودن وبيان كردن وراه راست. " والفاء " للتفريع، وذلك للتنبيه على علو المنزلة يعني ذلك الحق الثابت الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه وهو الإسلام، سبيله اراءة الطريق الموصولة إلى المطلوب، أو سبيله السبيل المستقيم الموصل إليه، أو سبيله بيان ما يحتاج إليه الإنسان. (ومأثرته المجد) المأثره - بالسكون بعد الفتح قبل الضم - المكرمة واحدة المآثر وهي المكام من الأثر وهو النقل والرواية لأنها تنقل وتروي والمجد الكرم والشرف، ورجل ما جدأي كريم الشريف، ولعل الحسني مثل الدعوة إلى الخير ونحوها. (فهو أبلج المنهاج) الابلج الواضح من بلج الحق إذا وضح وظهر، ومنهاج الإسلام طريقة التي يصدق على من سلكها أنه مسلم وهي الإقرار بالله ورسوله والتصديق بما جاء به الرسول ووضوحها ظاهر. (مشرق المنار) الإشراق بالقاف الاضاءة، والمنار الأعمال الصالحة التي يتنور بها قلوب العارفين كالعبادات الخمس ونحوها، وكونه مشرقة ظاهر، وقد يقرئ بالفاء. وكونها


[ 156 ]

مشرفة عالية على غيرها من العبادات أيضا ظاهر. (ذاكى المصابح) الذاكى المتوقد المستنير يقال ذكت النار إذا اشتد لهبها واستنار، والمصباح چراغ، والجمع مصابيح استعاره للفقه والمعارف الإسلامية ورشحه بالذكاء ووصفه بالذكاء والاستعارة اما لأنه في نفسه نور الهى مستنير وإطلاق النور على العلم شايع أو لظهوره من الأدلة الإسلامية وهي الكتاب والسنة بل يكون أن يراد به نفس هذه الأدلة: وقيل أريد به علماء الإسلام وكنى بالذكاء عن صفاء عقولهم، أو من ظهور العلم واقتداء الخاق بهم. (رفيع الغاية) كما جعل للإسلام مصباحا وللمصباح ذكاء كذلك جعل له غاية وللغاية رفعة ولعل المراد بغايته الوصول إلى الجنة، وفعته ظاهرة إذ لا غاية أرفع منه منزلة وأعلى منه مرتبة، أو المراد الموت المعروف أو موت الشهوات وكون كل واحد رفيعا لكونه سببا للوصول المذكور والتقرب بالحق. (يسير المضمار) المضمار الميدان ومضمار الإسلام الدنيا وهي يسير قليل يسهل السبق فيها إلى الله تعالى، وفي بعض النسخ " بشير " وبالشين المعجمة فكأنها تبشر للسابق بما عند الله تعالى. (جامع الحلبة) الحلبة وزان سجدة وضربة خيل يجمع من كل أوب للسابق ولا يخرج من وجه أاحد يقال جاءت الفرس في آخر الحلبة أي آخر الخيل وهي بمعنى الحليبة، ولهذا تجمع على حلايب، وقد شبه المسلمين بالحلبة واستعار لهم لفظها حيث اجتمعوا في الإسلام للسباق إلى طاعة الرب وقد شاع إطلاقها على محلها تجوزا، وهذا الإطلاق هو الاولى بالإرادة هنا بالنظر إلى ما سيأتي ومحلها هنا هو القيامة لأنها محل لاجماعهم فيها للسباق إلى حضرة الله التي هي بالجنة كاجتماع الخيل في الحلبة للسباق إلى السبق وهو الرهن. (سريع السبقة) سبقتها الجنة وسرعتها ظاهرة لأن مضمارها وهي الدنيا التي هي مدة العمر في زمان التكليف يسير. (أليم النقمة) أليم درد رساننده بمعنى المولم ونقمته النار وايلامها ظاهر. (كامل العدة) العدة بالضم والشد ما اعداته وهيأته من مال أو سلاح أو غير ذلك مما ينفعك يوما ما، والمراد هنا التقوى والورع وكمالهما ظاهر. (كريم الفرسان) المراد بالفران أهل الإحسان وعلماء الإسلام، وكونهم وكرماء وشرفاء ظاهر باعتبار اقتباس الأنوار منهم وهدايتهم للضعفاء. (فالإيمان منهاجه) لما جعل سابقا للإسلام منهاجا أي طريقا واضحا يوصل إلى الرحمن عينه هنا بأنه الإيمان، فهذا ناظر إلى قوله أبلج المنهاج. وقس عليه ما بعده. (والصالحات مناره) أي الأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة علامات الإسلام بها يعرف


[ 157 ]

الإسلام والداخل فيه. (وفقه مصابيحه) في أنه طريق الحق ويرى به وجه المطلوب ولذلك استعار له لفظ المصباح). (والدنيا مضماره) إذ هي محل للتسابق إلى الطاعات، والسعي إلى القربات، وقد وصفها سابقا بأنها يسير للتحريك إلى التسابق فيها. (والموت غايته) أي الموت المعروف غايته التي هي سبب الوصول إلى الله تعالى أو موت الشهوات فانها أيضا غاية قريبة للإسلام موصلة إليه تعالى وهذه الفقرة متعلقة بقوله رفيع الغاية فكان الانسب أن يقدم على قوله " والدنيا مضماره " ولعل التأخير هنا لاجل أن ذكر الغاية بعد ذكر المضمار أنسب بحسب الواقع والتقديم سابقا باعتبار الرفعة والشرف. (والقيامة حلبته) قد ذكرنا أن الحلبة هي الخيول المجتمعة من كل أوب للسابق وأنها تطلق على محلها أيضا وباعتبار هذا الإطلاق استعار لفظ الحلبة للقيامة لانها حلبة الإسلام ومحل إجتماع المسلمين للسابق إلى حضرة الله التي هي الجنة كاجتماع الخيل في الحلبة للسابق إلى الرهن. (والجنة سبقة) السبقة ما يوضع بين أهل السابق وهي الثمرة المطلوبة منه واستعارها للجنة لكونها الثمرة المطلوبة من الإسلام والغاية المقصودة من الدين كما أن السبقة غاية سعي المراهنين. (والنار نقمة) لما جعل سابقا للاسلام نقمة مولمة لمن خالفه فسر هنا بأن نقمته النار وهي أشد النقمات. (والتوى عدته) لانها تنفع صاحبها في أرشد الاوقات وأعظمها وهو القيامة كما أن العدة من المال تنفع صاحبها في وقت الحاجة. (والمحسنون فرسانه) استعار لفظ الفرسان لارباب الإحسان، وعلماء الدين وهم فرسان الإحسان والعلوم لملاحظة تشبيه الإحسان والعلوم بالفرس الجواد. (فبالايمان يستدل على الصالحات) لدلالة المجمل على المفصل اذيخل في الايمان التصديق بما جاء به النبي اجمالا ومنه الاخلاق الفاضلة والاعمال الصالحة كالعبادات والخمس ونحوها وأيضا الإيمان منهج الإسلام وطريقة الواضح ولابد للطريق من زاد يناسبه وزاد طريق الاسلام هو الاخلاق والاعمال الصالحة، وهو ينقتضيها ويطلبها فيدل الإيمان عليها كدلالة السبب على المسبب، وما وقع في بعض الروايات من أن الاعمال تدل على الإيمان فهو باعتبار أن الاثر يدل على المؤثر، والمسبب على السبب. (وبالصالحات يعمر الفقه) ولما شبه آنفا الفقه بالمصباح في الهداية إلى المطلوب وكان تعمير المصباح الحقيقي بالدهن كان تعمير الشبيه بالمصباح أيضا يشبه بالدهن وهو الاعمال الصالحة، ولذلك روى أن العلم مقرون بالعمل فان عمل بقى والا ارتحال، وبعبارة اخرى الفقه نور نفساني، والعمل نور جسماني وللظاهر تأثير في الباطن، فالعمل يوجب ثبات الفقه وزيادته وزيادته وهو


[ 158 ]

المراد بتعميره. (وبالفقه يرهب الموت) لأن الفقه بما بعد الموت والعلم اجمالا وتفصيلا بما يرد على الإنسان بعده من الخير والشر والحساب والميزان والصراط وغيرها من أحوال البرزخ والقيامة وأهوالها يوجب الخوف من الموت لامن حيث هو موت. بل من حيث أنه لا يدري ما يفعل به بعده، ويوجب ذلك كما الإستعداد لما بعده والله هو الموفق. (وبالموت تختم الدنيا) لأن الدنيا مضمار، والموت غايته فإذا ورد ختمت الدنيا وانقطع السير فيها، ثم لاعود إليها. (وبالدنيا يجوز القيامة) ومن ثم قيل من مات قامت قيامته. (وبالقيامة تزلف الجنة) أي تقرب (والجنة حسرة أهل النار) لما رأوا من كمال نعيمها وحرمانهم عنها مع شدائد عقوبتهم بالنار (والنار موعظة المتقين) موعظة پند دادن، وذلك المتقين يتعظون من النار وشدائدها ويتركون كل ما يؤثم، ويجتنبون عن كل ما يوجب الدخول فيها. (والتقوى سنخ الإيمان) السنخ من كل شئ أصله، الجمع أسناخ. مثل حمل وأحمال، وذلك لأن المراد بالإيمان الإيمان الكامل، وقد مر أن كماله بالاعمال فله سنخان: أحدهما اليقين وهو الكمال في القوة النظرية، والثاني التقوى وهي الكمال في القوة العملية فإذا تحققها تحقق كمال الإيمان فهما سنخاه.


[ 159 ]

* الأصل (باب صفة الإيمان) 1 - بالاسناد الأول، عن ابن محبوب، عن يعقوب السراج، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سئل أمير المؤمنين (عليه السلام) عن الإيمان، فقال: إن الله عز وجل جعل الإيمان على أربع دعائم: على الصبر واليقين والعدل والجهاد، فالصبر من ذلك على أربع شعب: على الشوق والاشفاق والزهد والترقب، فمن اشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات، ومن أشفق من النار رجع عن المحرمات، ومن زهد في الدنيا هانت عليه المصيبات، ومن راقبت الموت سارع إلى الخيرات، واليقين على أربع شعب: تبصرة الفطنة، وتأول الحكمة، ومعرفة العبرة، وسنة الأولين. فمن أبصر الفطنة عرف الحكمة، ومن تأول الحكمة عرف العبرة، ومن عرف العبرة عرف السنة ومن عرف السنة فكأنما كان مع الأولين واهتدى إلى التي هي أقوم ونظر إلى من نجى ما ومن هلك بما هلك وإنما أهلك الله من أهلك بمعصيته وأنجى من أنجى بطاعته، والعدل على أربع شعب: غامض الفهم، وغمر العلم، وزهرة الحكم وروضة الحلم، فمن فهم فسر جميع العلم، ومن علم عرف شرائع الحكم، ومن الحكم، ومن حلم لم يفرط في أمره وعاش في الناس حميدا، والجهاد على أربع شعب: على الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والصدق في المواطن وشنآن الفاسقين، فمن أمر بالمعروف شد ظهر المؤمن، ومن نهى عن المنكر أرغم أنف المنافقين وأمن كيده، ومن صدق في المواطن قضى الذي عليه ومن شنأ الفاسقين غضب لله ومن غضب لله غضب الله له، فذلك الإيمان ودعائمه وشعبه. * الشرح (إن الله عز وجل جعل الإيمان على أربع دعائم) (1) لاحقيقته لأن حقيقته التصديق لما مر مرارا، والدعامة معروفة، وقد شبه الإيمان بالبيت من الشعر ونحوه مما يكون اعتماده على الدعائم، ولاحفظ في ذلك أن الإيمان هو المقصود الاصلي وأن الامور الاربعة مقصودة لحفظه وبقائه. (على الصبر واليقين والعدل والجهاد) قدم الاهم ولكل واحد منها مدخل عظيم في تحقيق الإيمان وثباته وبقائه، والمراد بالصبر الثبات على أحكام الكتاب والسنة وخلع النفس عن


1 - قوله " على أربع دعائم " قدمر أن هذه الامور النفسانية التي تعدمن درجات الايمان أو مراتب السلوك ينقسم باعتبارات مختلفة إلى أقسام مختلفة لا منافاة بينهما وجميعها صحيحة بإعتبار ويتداخل أقسامها (ش). (*)

[ 160 ]

الشهوات ومنعها عن الجزع عند المصيبات، وهو كنز من كنوز الجنة وطريق عظيم للدخول فيها. وباعث قوى للبقاء على الإيمان، وباليقين العلم مع زوال الشك وعدم احتمال طريانه وحاصله مشاهدة الغيوب بأنوار القلوب وملاحظة والتوسط في القوة الشهوية والغضبية وبالعدل ملكة الإعتدال في القوة النظرية والعملية والتوسط في القوة الشهوية والغضبية وهو مثمر لقوة الإيمان وكماله، وبالجهاد المجاهدة النفسانية والبدنية والمراقبة الروحانية، والله سبحانه أظهر الدين وطلب الإيمان به وجعل عزهما وكمالهما في الجهاد فمن جاهد كما إيمانه وشارك المجاهدين، ومن فقد نقص إيمانه وشارك المتخلفين والمنافقين. (فالصبر من ذلك على أربع شعب) لما فرغ من دعائم الإسلام شرع في ليس منها وكذا العلم والجهاد وذكر منها ما هو من الإيمان وذكر لكل واحد منها أربع شعب والشعب وثمراتها. والشعب جمع الشعبة، والمراد بها هنا الأغصان فقد شبه الصبر مثلا بشجرة في في كونه أصلا والشعب بالاغصان في كونها فروعا، وما يترتب على الشعب بالاثمار في كونه حاصلا. (على الشوق) أي الشوق إلى الجنة ونعيمها ودرجاتها وهو ميل النفس إلى الشئ بعد تصوره وتصور والبصر أصل له إذ هو لا يصحل بدون الصبر عن أحكام الله ومكاره النفس، وهو مع ذلك سبب لكمال الصبر وثباته. (والاشفاق) وهو الخوف من نار جهنم أو من نار الفراق لأن الصابر بترقياته يصل إلى أعلى مراتب القرب فيحصل له الخوف مما ذكر وهو سبب لبقاء الصبر وثباته. (والزهد) أي الزهد في الدنيا وزهراتها وهو لا يحصل بدون الصبر في الصاعات وزجر النفس عن املنهيات وهو مع ذلك سبب لثبات الصبر. (والرقب) أي ترقب الموت وانتظاره وهو لا يحصل بدون الصبر لأن الصابر هو الذي يطلب الحياة الحقيقية التي تحصل بالموت والترقب سبب لبقاء الصبر وكماله ثم أشار إلى فوائد تلك الشعب وثمراتها بقوله. (فمن اشتاق إلى الجنة سلاعن الشهوات) أي فارقها وطيب نفسه عن جميع مشتهياتها التي هي طرق النار لأن من اشتاق إلى شئ يجتنب عما يوصل إلى ضده. (ومن أشفق من النار رجع عن المحرمات) لانها مؤدية إلى النار، وسبب لها ومن خاف من المسبب يفر عن السبب فمن ادعى الاشفاق وارتكب الحرام فهو كاذب. (ومن زهد في الدنيا هانت عليها المصيبات) إذ منشأ صعوبتها هو الميل إلى الدنيا ومحبة قنياتها والشوق إلى لذاتها وراحتها النفسانية والبدنية، ومن ثم يكون الفقر والبلاء عند الزهاد أحسن من الفراق والغناء.


[ 161 ]

(ومن راقب الموت سارع إلى الخيرات) حذرا من أن يموت قبل أن يدركها، ولعلمه بأنها سبب للحياة الابدية التي هي الحياة الحقيقية فيستعد لها بالتبادر إلى الأعمال الصالحة، ولما فرغ من شعب الصبر وبيان فوائدها أشار إلى شعب اليقين فوائدها بقوله: (واليقين على أربع شعب تبصرة الفطنة) الفطنة جودة الذهن وتهيؤه لا دراك الأشياء وأحوالها كما هي، والاضافة من باب اضافة المصدر إلى مفعوله، والمراد برؤيتها التوجه إليها. والتأمل فيها وفي مقتضاها من العلوم والمعارف، وجعلها فاعلا للمصدر وارادة رؤيتها للأشياء وإن كان محتملا في نفسه لكن ينافي قوله فمن أبصر الفطنة. (وتأول الحكمة) التأول بمعنى التأويل وهو تفسير ما يؤول إليه الشئ، والحكمة العلم الذي يمنع الإنسان من القبيح مطلقا، والمراد بتأولها الوصول إلى غورها ليعرف الأولين فانهم عبرة لاولى الأبصار ومحل لاعتبار ما كانوا فيه من نعيم الدنيا ولذاتها، والمباهاة بكثرة أسبابها وزهراتها ثم مفارقتهم لذلك كله بالموت وبقاء الحسرة والندامة لهم حجبا حائلة بينهم وبين الوصول إلى حضرة جلال الله. (وسنة الأولين) أي ومعرفة سنتهم وطريقتهم من خير يوجب النجاة وشر يوجب الهلاك، ثم أشار إلى فوائد هذه الشعب والترتيب بينهما بقوله: (فمن أبصر الفطنة) ونظر إلى وجه مقتضاها (عرف الحكمة ومن تأول الحكمة) وبلغ غورها ( عرف العبرة) بأحواله وأحوال الماضين. (ومن عرف العبرة عرف النسة) أي سنة الأولين وطرزهم وطريقتهم. (ومن عرف السنة فكأنما كان من الأولين) في حياتهم فيرى أعمالهم وما يتعقبها من العقوبات مالدنيوية، أو بعد موتهم فيرى حسراتهم وعقوباتهم الاخروية (واهتدى بذلك إلى) الطريقة (التي هي أقوم) الطرايق وأفضلها. (ونظر إلى من نجى بما نجى) من الأعمال الصالحة والاخلاق المرضية. (ومن هلك بما هلك) من الأعمال الباطلة والاخلاق الفاسدة. (وإنما أهلك الله من أهلك) من الامم السابقة وغيرهم (بمعصية). (وأنجى من أنجى بطاعته) يظهر كل ذلك لمن نظر من الآيات والروايات، وفيه ترغيب في الطاعة وزجر عن المعصية. (والعدل على أربع شعب) أوليها (غامض الفهم وغمر العلم) الإضافية فيها إضافة الصفة إلى الموصوف أي الفهم الغامض الذي ينفذ في بواطن الأشياء والغامر أي الغائر الذي يطلع عليه أذهان الاذكياء. ولو كان الغايص من الغوص بدل الغامض كان له أيضا


[ 162 ]

معنى صحيح والغايص الذي يدخل في الما ليطلع على ما فيه من اللؤلؤ ونحوه لياخذه واستعير للفهم الغايض الذي ينفذ في دقائق الأشياء ويطلع على أسرارها وحقائقها (و) اخريها: (زهرة الحكم وروضة الحلم أي نضارتهما وغضارتهما وحسنهما وكمالهما، والتركيب من باب لجبين الماء، وجعله من باب المكنية والتخييلية بعيد، والمراد بزهرة الحكم الحكم المعجب للانام وبروضة الحلم الحلم المكمل للنظام، ثم أشا إلى ثمرات تلك الشعب وفوائدها المترتبة عليها بقوله. (فمن فهم بالفهم الغامض أو الغايص. (فسر جميع العلم) الشرعي والقانون العقلي والنقلى لأن هذا التفسر من شأن الفهم المذكور وآثاره. (ومن علم) كذلك. (عرف) جميع (شرائع الحكم) ومشاربه وموارده ذلك من آثار العلم الغامر. (ومن حلم لم يفرط في أمره) ولم يقصر فيه أصلا لأن شأن الحليم الكامل هو التحرز عن طرف الافراط والتفريط والإستقرار في الوسط. (وعاش في الناس حميدا) أي محمودا لأنه يطفئ نائرة الغضب عند نزول التعب ومكاره النفس فيحمده الناس وينصروونه كما قيل: الحلم يكتسب المدح من الملوك والمحبة من المملوك. (والجهاد على أربع شعب) أوليها (الامر بالمعروف والنهي عن المنكر) أي الامر بالطاعة والنهي عن المعصية بالشرائط والمراتب المذكور في كتب الفروع (و) ثالثها (الصدق في المواطن) أي مواطن جهاد النفس والعدو والفاسق بالامر والنهى ومنه أن يكون قوله موافقا لفعله، وفعله موافقا لقلبه، وقلبه موافقا لرضا الله تعالى، (و) رابعها (شنآن الفاسقين) أي بغضهم وهو راجع إلى انكارهم بالقلب ومقتصى الإيمان، وليس بداخل في النهي عن المنكر عند جماعة. ومن الاصحاب من أدخله فيه مجازا. ولما فرغ من شعب الجهاد أشار إلى فوائدها بقوله: (فمن أمر بالمعروف شد ظهر المؤمن، ومن نهي عن المنكر أرغم أنف المنافق وأمن كيده) والمراد بشد ظهر المؤمن تقويته وامداده، وبارغام أنف المنافق اهانته واذلاله وذلك لأن الامر بالمعروف تحريص العبد على ما يقربه إلى الله تعالى باتباع شرائعه، والنهي عن المنكر زجره عما يبعده منه ومن الندم عاجلا وآجلا، ومن البين أن من اتصف بهذه الصفة يكون مقويا ومرغما وآمنا. (ومن صدق في المواطن) كلها (قضى الذي) يجب (عليه) من القول الحق وغيره، ودخل في زمرة الصادقين الذين مدحهم الله في كتابه الكريم بقوله * (يوم ينفع الصادقين صدقهم (ومن شنأ الفاسقين) وأبغضهم لفسقهم (غضب الله) طلبا لمرضاته. (ومن غضب لله غضب الله له) وأرضاه في الدنيا والآخرة. نعم من كان لله كان الله له، رضي الله عنه ورضي عنه. (فذلك الإيمان ودعائمه


[ 163 ]

وشعبه) وثمرات شعبه والله هو الموفق للصواب. * الأصل


[ 164 ]

(باب) فضل الإيمان على الإسلام واليقين على الإيمان 1 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن سالم، عن أحمد بن النضر، عن عمرو بن شمر، عن جابر قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): يا أخا جعفر إن الإيمان أفضل من الإسلام وإن اليقين أفضل من الإيمن وما من شئ أعز من اليقين. * الشرح قوله (إن الإيمان أفضل من الإسلام) (1) وهي التصديق والإقرار بالولاية، وقد مر سابقا ما يوضحه فلا نعيده (وان اليقين أفضل من الإيمان) لأن الإيمان أما نفس التصديق، وهو مع العمل، سواء حصل ذلك بالبرهان أو بالتقليد كما في أكثر العلوم وسواء احتمل النقيض أولا واليقين غاية الكمال في القوة النظرية ألتي لا تحتمل النقيض سواء حصلت بالبرهان وهو علم اليقين أو بالمجاهدات والرياضيات النفسانية والهدايات الخاصة بالاولياء وهو عين اليقين وحق اليقين، وبالجملة هو أعلم مراتب العلم وأشرفها ولا ريب في أنه أفضل من الإيمان، (وما من شئ أعز من اليقين) أي أرفع درجة، أو أقل وجودا من علامة قتله في أكثر الخلق صدور المعصية منهم، إذا لا يصدر معصية من أهل اليقين وإنما يكون لهم ظن ضعيف يزول بأدنى وسوسة النفس والشيطان ألا ترى أن الطيب إذا أخبر أحدهم بأن الشئ الفلاني يضره، أو يوجب زيادة مرضه، أو بطؤبرئه يتبع قوله المفيد للظن ويترك ذلك الشئ حفظا لنفسه من الضرر الضعيف، ولا يتبع قول الله تعالى ولاقول رسوله بأن هذه معصية مهلكة وليس ذلك إلا لأن ظنه بقولهما دون الظن بقوله ذلك الطيب. * الأصل 2 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد والحسين بن محمد، عن معلى بن محمد جميعا، عن الوشاء، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: سمعته يقول: الإيمان فوق الإسلام بدرجة، والتقوى فوق الإيمان بدرجة، واليقين فوق التقوى بدرجة، وما قسم في الناس شئ أقل من اليقين. * الشرح قوله (الإيمان فوق الإسلام بدرجة، والتقوى فوق الإيمان بدرجة، واليقين فوق التقوى بدرجة)


1 - " إن الإيمان أفضل من الإسلام " في صدر الحديث يا أخاجعف المشهور في إسم هذه الطائفة بصيغة النسبة والنسبة إليه جعفى أيضا ويا أخاجعف فالظاهر أنه تصحيف من بعض النساخ. (ش) (*)

[ 165 ]

فاليقين أفضل من التقوى والتقوى أفضل من الإيمان. والإيمان أفضل من الإسلام فدل على أن كل مؤمن مسلم دون العكس لإعتبار خصوصية في الإيمان دون الإسلام، كما مر. وإن كان متق مؤمن دون العكس لأن المتقي يؤثر ذكر من لم يزل ولا يزال على ذكر من لم يكن فكان، وطاعة من لم يزل ولا يزال على خدمة من لم يكن فكان، ومحبة من لم يزل ولا يزال على محبة من لم يكون فكان، وكل مؤمن ليس كذلك. وأيضا التقوى من الوقاية، وهي في اللغة فرط الصيانة وفي العرف صيانة النفس عما يضرها في الاخرة وقصرها على ما ينفعه فيها ولها ثلاث مراتب: الاولى التقوى من العذاب الخلد باظهار الشهادتين وهي أدناها ؟ والثانية التجنب عن كل ما يؤثم من فعل أو ترك حتى الصغاير عند قوم وهو المتعارف في عرف الشرع باسم التقوى. والثالثة التوقى عن كل ما يشتغل القلب عن الحق والرجوع إليه بالكلية وهو لخاص الخاص، والمراد بالتقوى هنا أحد المعنيين الاخيرين وكونه فوق الإيمان ظاهر إذا كل مؤمن ليست له هذه المرتبة سواء اريد بالايمان التصديق فقط، أو هو مع العمل. أما التصديق فظاهر، وأما التصديق مع العمل فباعتبار أن التجنب عن الكل حتى عن المباحاب والمكروهات والمضتبهات معتبر في التقوى دون لأنه مقول بالاضافة أو باعتبار أن الملكة معتبرة فيها لافيه فليتأمل، وعلى أن كل من اتصف باليقين بالتقوى دون العكس أما الاول فظاهر بالتأمل فينا ذكرنا، وأما الثاني فلان التقوى قد توجد بدون اليقين كما في بعض المقلدين (وما قسم الناس شئ أقل من اليقين) ثم حق اليقين أقل من عين اليقين وعين اليقين أقل من علم اليقين. * الأصل 3 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسس، عن الحسن بن محبوب، عن علي بن رئاب، عن حمزان بن أعين قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: إن الله فضل الإيمان على الإسلام بدرجة كما فضل الكعبة على المسجد الحرام. * الشرح قوله (كما فضل الكعبة على المسجد الحرام) فكما أن حرمة المسجد داخلة في حرمة الكعبة دون العكس. كذلك حرمة الإسلام داخلة في حرمة الإيمان دون العكس. فالإيمان أفضل من الإسلام. * الأصل 4 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، هارون بن الجهم أو غيره عن عمر بن أبان الكلبي، عن عبد الحميد الواسطي، عن أبي بصير قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): يا أبا محمد الإسلام


[ 166 ]

درجة قال: قلت: نعم قال: والإيمان على الإسلام درجة قال: قلت: نعم، قال: والتقوى على الإيمان درجة قال: قلت: نعم، قال: واليقين على التقوى درجة، قال: نعم، قال: فما أوتي الناس أقل من اليقين وإنما تمسكتم بأدنى الإسلام فإياكم أن يقلت من أيديكم. * الشرح قوله (يا أبا محمد الإسلام درجة) لما كان الإسلام أول درجة الدرجات المطلوبة قال: الإسلام درجة. ولم يقل: الإسلام على الكفر درجة كما قال: (والإيمان على الإسلام درجة). قوله (فما اوتي الناس أقل من اليقين) قال بعض الاكابر: معناه ما اوتي الناس شيئا قليلا من اليقين، ويحتمل أن يكون معناه أن اليقين فيهم أقل من كل شئ، والاول يقيد نفي اليقين بالمرة. والثاني يفيد ثبوت قليل منه والاول أنسب بقوله (وإنما تمسكتم بأدني الإسلام فاياكم أن ينفلت من أيديكم) التفلت والافلات والانفلات التخلص من الشئ فجأة. وفيه ترغيب في أمساك مالهم من أدنى الإسلام وحفظه، وتحذير من الغفلة عنه وتفلته فان تفلته يوجب الدخول في الكفر ولعل المراد بالإسلام هنا الإيمان مجازا من باب تسمية الشئ باسم جزئه يقرينة أن المخاطب كان مؤمنا مع أن هذه التسمية لا تخلو من نكتة وهي أن المؤمن خرج من الإيمان خرج من الإسلام ودخل في الكفر. * الأصل 5 - علي بن إبراهيم. عن محمد بن عيسى، عن يونس قال: سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) عن الإيمان والإسلام فقال: قال أبو جعفر (عليه السلام): إنما هو الإسلام، والإيمان فوقه بدرجة، والتقوى فوق الإيمان بدرجة، واليقين فوق التقوى بدرجة ولم يقسم بين الناس شئ أقل من اليقين، قال: قلت: فأي شئ اليقين ؟ قال: التوكل على الله والتسليم لله والرضا بقضاء الله والتفويض إلى الله. قلت: فما تفسير ذلك ؟ قال: هكذا قال أبو جعفر (عليه السلام). * الشرح قوله (قال قلت فأي شئ اليقين ؟ قال: التوكل على الله، والتسليم لله، والرضا بقضاء الله والتفويض إلى الله) تفسير اليقين بما ذكر من باب تفسير الشئ به آثاره إذا اليقين سبب للامور المذكورة، وذلك لأنه إذا حصل لاحد بالبرهان أو الهداية الخاصة أو الكشف بتصفية النفس اليقين بالله وبوحدانيته وعلمه وقدرته وتقديره للاشياء، وتدبيره فيها، وحكمته ألتي لا يفوتها شئ من المصالح، ورأفته بالعباد، وإحسانه إليهم ظاهرا وباطنا، وتقديره كمالات الاعضاء الظاهرة والباطنة، وتدبير منافعها بلا إستحقاق ولا مصلحة منهم ومن غيرهم وإيصال الارزاق إليهم حيث لاشعور لهم


[ 167 ]

بطرقها ولا قدرة لهم على تحصيلها مع عدم جوره بوجه من الوجوه حصلت له حالات قلبية شريفة بعضها أرفع من بعض أحدها العلم بأن من كان كذلك كان قادرا على مستقبل اموره ومهماته وإيصال أرزاقه وتحصيل مراداته، وذلك يبعثه على التوكل عليه في اموره، والإعتماد عليه من الوثوق به كما يثف الموكل على وكيله، وليس معنى التوكل قلع نفسه عن اموره بل لابد من التمسك بها والإعتماد على الله وثانيها العلم بعظمته وكبريائه وإشتمال حكمه على مصالح وإن لم يعلم خصوصياتها وتفاصيلها، وذلك يبعثه على التسليم لله في أحكامه وغاية الانقياد والاخبات والخضوع والخشوع له. وثالثها العلم بأنه ينبغى المحبة له وتفريغ القلب عن غيره وجعله سريرا لحبه، وذلك يبعثه إلى الرضاء بقضاء الله من الصحة والسقم والغنا والفقير وغيرها من المصايب والنوائب الواردة على النفس والمال والود. بل يجده لذة ذلك في نفسه كما هو شأن المحب بالنظر إلى فعل حبيبه وإن كانت مرة في نفس الخلي عن حبه. ورابعها العلم بكمال قدرته وجريان حكمه مع ملاحظة العجز في نفسه وذلك يبعثه على تفويض امره ورده إليه وجعله الحاكم فيه وسلب القدرة عن نفسه ومشاهدة اضمحلال قدرته في قدرة الله وهذا قريب من مرتبة الفناء في الله لاهي لأنه في هذه المرتبة لا يرى لنفسه وجودا ولا لقدرته اسما. قوله (قلت فما تفسير ذلك) كان السائل استبعد تفسير اليقين بالتوكل وما بعده لعلمه بأنه غيره أو استعلم عن حاله ووجه صحته لعدم تفطنه به فأجاب (عليه السلام) بما أجاب لضيق المقام عن ذكره، أو لغير ذلك ومثل هذا الجواب شائع كما تقول: العلم هو العمل فيقال: كيف ذلك، أو ما وجهه فنقول هكذا قالوا. * الأصل 6 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن الرضا (عليه السلام) قال: الإيمان فوق الإسلام بدرجة، والتقوى فوق الإيمان بدرجة واليقين فوق التقوى بدرجة ولم يقسم بيد العباد شئ أقل من اليقين. * الشرح قوله (الإيمان فوق الإسلام بدرجة) قد ذكرنا شرحه ولا بأس أن نعيده لزيادة التوضيح فنقول: الإسلام هو الإقرار، والإيمان أما التصديق، أو التصديق مع الإقرار. وعلى التقديرين فهو فوق الإسلام بدرجة أما على الثاني فظاهر وأما على الأول فلان التصديق القلبي أفضل وأعلى من الإقرار اللساني، كما أن القلب أفضل من اللسان. (والتقوى فوق الإيمان بدرجة) لأن التقوى هو التجنب عما يضر في الاخرة وإن كان ضرره يسيرا وله ثلاث مراتب كما مر، وليست المراد هنا المرتبة


[ 168 ]

الاولى لانها مرتبة الإيمان بل المراد الاخيرتان لانهما فوق الإيمان (واليقين فوق التقوى) إذ التقوى قد لا يكون في مرتبه اليقين. نعم من اتقى وثبت قدمه فيها ترقي في اليقين إلى أن يبلغ أعلى مراتبه وهي مرتبة حق اليقين (1) (عليه السلام) بقوله " لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا ".


1 - قوله " وهي مرتبة حق اليقين " كأنه اريد باليقين غير ما يتبادر إلى أذهاننا لأن اليقين وهو العلم بالواقع في مقابل الظن من شرائط الإيمان بل الإسلام إذ قد مر أن من ظن أن الله واحد، أو ظن أن محمدا رسول الله، وقال اني أظن ذلك وفي القلب منه شئ لا يحكم باسلامه كما صرح به أبو سفيان في مجلس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وردعه عباس وقال اشهد والاضرب عنقك وبالجملة ليس المراد باليقين هنا المعني المقابل للظن بل معنى آخر وكأنه سلامة الإيمان عن معارضة الاوهام وغلبة الوساوس فإن الإنسان قد يعلم ثبوت أمر مثل أن الميت جماد والجماد لا يخاف منه ولا يعترف بأن الميت لا يخاف منه وإن كان متيقنا بأنه جماد كالحجر. وكذلك اليقين بالتوحيد والرسالة قد يكون مع معارضة أوهام كثيرة يمنع الإنسان عن الالتزام بلوازم يقينه وإنما يحصل بعد ارتكاز التوى في قلبه حالة يغلب يقينه على أوهامه ولا يمنعه شئ عن الجري على مقتضى إيمانه كما لا يخاف عمال الموتي عن الاموات ولا يخاف الممارس من المشي على جذع موضوع على جدار عال. (ش) (*)

[ 169 ]

* الأصل (باب) حقيقة الإيمان واليقين 1 - عدة من أصحابنا. عن أحمد بن محمد بن خالد، عن محمد بن إسماعيل بن بزيع عن محمد بن عذافر، عن أبيه، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: بينا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في بعض أسفاره إذ لقيه ركب. فقالوا: السلام عليك يا رسول الله، فقال: ما أنتم ؟ فقالوا: نحن مؤمنون يا رسول الله، قال: فما حقيقة إيمانكم ؟ قالوا: الرضا يقضاء الله، والتفويض إلى الله، والتسليم لأمر الله، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): علماء حكماء كادوا أن يكونوا من الحكمة أنبياء، [ ف‍ ] - إن كنتم صادقين فلا تبنوا ما لا تسكنون ولا تجمعوا ما لا تأكلون واتقوا الله الذي إليه ترجعون. * الشرح قوله (بينا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في بعض اسفاره إذ لقيه ركب) قال بعض المحققين: بينا هي بين الظرفية اشبعت فتحتها ألفا، ويقع بعدها حينئذ إذ الفجائية غالبا وعاملها محذوف يفسره الفعل الواقع بعد إذ عند بعض، وبعضهم يجعلها خبرا عن مصدر مسبوك من الفعل أي بين أوقات سفرة لقى الركب، والركب جمع راكب الدابة مثل صاحب وصحب. قوله (فقال ما أنتم) " ما " كما تكون سؤالا عن حقيقة الشئ كذلك تكون سؤالا عن خواصه وآثاره المترتبة عليه وهو المراد هنا فلذلك أجابوا بها (فقالوا نحن مؤمنون) أي متصفون بالإيمان الكامل (يارسول الله) ولما ادعوا أنهم من أهل الإيمان سألهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن خواص الإيمان وآثاره اللازمة له ليعلم هل علموا الإيمان أم لا ؟ (قال: فما حقيقة ايمانكم) أي ما الذي ينبئ عن كون ما تدعونه من الإيمان حقا ثابتا فأجابوا بأفضل خواص الإيمان وأكمل آثاره التي لا تنفك عنه حقيقة الإيمان الكامل. (قالوا الرضاء بقضاء الله) في جميع الاحوال (والتفويض إلى الله) في جميع الامور (والتسليم لامر الله) والاخباث له في جميع الاحكام. (فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)) في مدحهم لكون هذه الخصال المرضية من آثار العلم والحكمة، وهما من أعظم صفات الانبياء (علماء حكماء كادوت أن يكونوا من الحكمة أنبياء) لأن وجود الاثر دليل على وجود المؤثر، وقد ذكرنا سابقا أن الحكيم أرفع من العليم، وشبههم بالانبياء على وجه المبالغة لكمال التشابه والتقارب، ولما كانت هذه الصفات يقتضى الزهد في الدنيا والتقوى أي التحرز عما يؤثم وتفريغ القلب عن غيره تعالى حثهم على الاول بقوله (فإن كنتم صادقين فلا تبنوا ما لا تسكنون ولا تجمعوا ما لا


[ 170 ]

تأكلون) وإنما خصهما بالنهي لانهما من أعظم مطالب الراغبين في الدنيا، وعلى الثاني بقوله (واتقوا الله الذي إليه ترجعون) وفيه وعد وعيد جميعا وقد مر تفسير التقوى وبيان مراتبها. * الأصل 2 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، وعلي بن إبراهيم، عن أبيه، جميعا عن ابن محبوب، عن أبي محمد الوابشي وإبراهيم بن مهزم، عن إسحاق بن عمار قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) قال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) صلى بالناس الصبح، فنظر إلى شاب في المسجد وهو يخنق ويهوى برأسه، مصفرا لونه، قد نحف جسمه وغارت عيناه في رأسه. فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من قوله وقال: إن لكل يقين حقيقة فما حقيقه يقينك ؟ فقال: إن يقيني يا رسول الله هو الذي أحزنني وأسهر ليلي وأظمأ هو اجري فعزفت نفسي عن الدنيا وما فيها حتى كأني أنظر إلى عرش ربي وقد نصب للحساب وحشر الخلائق لذلك وأنا فيهم وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتنعمون في الجنة ويتعارفون وعلى الأرائك متكئون، وكأني أنظر إلى أهل النار وهم فيها معذبون مصطرخون وكأني الان أسمع زفير النار، يدور في مسامعي، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأصحابه: هذا عبد نور الله قلبه بالإيمان، ثم قال له: إلزم ما أنت عليه، فقال الشاب: ادع الله لي يا رسول الله أن ارزق الشهادة معك، فدعا له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فلم يلبث أن خرج في بعض غزوات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فاستشهد بعد تسعة نفر وكان هو العاشر. * الشرح قوله (فنظر إلى شاب في المسجد) يحتمل أن يكون حارثة بن مالك الأنصاري الاتي (وهو يخفق) أي يضرب أو ينام حتى يسقط ذقنه على صدره وهو قاعد. يقال: خفق برأسه إذا أخذته سنة من النعاس فمال رأسه دون سائره جسده وحينئذ قوله (ويهوى برأسه) كالتفسير له. ومنشأ هذا وما بعده من اصفر اللون ونحافة الجسم وغور العينين قلة الاكل وكثرة السهر والرياضة والعبادة والحزن من امر الآخرة. (فعجب رسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من قوله) لأنه أخبر بشئ نادر الوقوع موجب لحمده واستحسانه والرضاء عنه، والتعجب انفعال النفس لزيادة وصف مدح أوذم في المتعجب منه. ولما ادعى اليقين لنفسه تقاضاه (صلى الله عليه وآله وسلم) بمصداقه أي ما يصدقه وطلب منه شواهد تشهد له بتحقيقة دعواه، وقال (ان لكل يقين حقيقة) أي لكل فرد من أفراده الشخصية كما يشعر به قوله (فما حقيقة يقينك) فان الإضافة تفيد الإختصاص والجزئية أو لكل نوع من أنواعه وهي علم اليقين. وعين اليقين، وحتى اليقين، ولعل المراد بحقيقة اليقين غايته ألتي ينتهي إليها ويستقر فيها ولها آثار شريفة وصفات لطيفة ومارات منيفة دالة على حصولها وتحققها والسؤال وقع عن تلك الاثار فلذلك


[ 171 ]

أجاب بها (فقال: إن يقيني يا رسول الله هو الذي احزنني) في أمر الاخرة أو بالم الفراق وشوق اللقاء (وأسهر ليلي) بترك النوم مع التفكر والتضرع والعبادة (وأظمأ هو اجرى) بالصيام، وترك الشراب والطعام، وبنسبة الأسهار إلى الليل والاظماء إلى الهواجر مجاز عقلي، واظماء الهواجر كناية عن الصوم في حر النهار فان الصوم فيه أشق أو أفضل وثوابه أكمل وأجزل (فغزفت نفسي عن الدنيا وما فيها) ومن نعيمها وزهراتها وعزفت بسكون التاء أي عاقتها وكراهتها نفسي وانصرفت عنها وضم التاء محتمل أي منعت نفسي وصرفتها عنها (حتى كأني أنظر إلى عرش ربي وقد نصب للحساب وحشر الخلائق لذلك وأنافيهم) تمثيل لحال الغايب بحال الشاهد لزيادة الايضاح مع احتمال ارارة الظاهر والإضافة للإحتصاص كبيت الله وكأنه قصد افادة حصول الظن يثبوت خبر كان لاسمه من غير تشبيه أو قصد تشبيه النظر القلبي بالنظر العيني لقصد التوضيح، (وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتنعمون في الجنة ويتعارفون) أي يعرفون بعضهم بعضا ويتكلمون (وعلى الارائك متكئون، وكأني أنظر إلى أهل النار وهم فيها معذبون مصطر خون) أي صايحون مستغيثون. (وكأني الان أسمع زفير النار يدورفي مسامعي) جمع مسمع وهو آلة السمع أو جمع سمع على غير قياس كمشابه وملامح جمع شبه ولمحة، وينبغى أن يعلم أن السالك العارف الموقن الزاهد وإن كان في الدنيا بجسده فهو في مشاهدة بعين بصيرة لاحوال الجنة ودرجاتها وسعاداتها وأهلها وأحوال النار ودركاتها وشقاوتها وأهلها كالذين شاهدوا الجنة بعين حسهم وتنعم أهلها وكالذين شاهدوا النار وعذاب أهلها، وهي مرتبة عين اليقين أو حق اليقين أو مرتبة علم اليقين على احتمال بعيد. والحق أن الجواب بمرتبة عين اليقين أنسب (فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)) بعد ما سمع منه هذه الاثار والامارات التي شواهد صدق على وجود حقيقة اليقين وغاية كماله فيه: (هذا عبد نور الله قلبه بالإيمان) اريد بالإيمان الإيمان الكامل، وقد مر أنه لا يتحقق إلا بعد استقامة جميع الاعضاء الظاهرة والباطنة، ولا ريب في أن الإيمان بهذا المعنى نور الهى يتنور به الظاهر والباطن، وكل يهتدي به إلى ما هو له وقد مر أيضا ان بين الظاهر والباطن مناسبة توجب تأثر كل منهما عن الآخر فنور الظاهر سبب لنور الباطن وبالعكس على وجه لا يدور، وإنما اكتفى بذر نور الباطن وهو نور القلب لأنه المقسود الأعظم والمطلوب الاهم ولأنه المقتضى للصفات المذكورة بلا واسطة (ثم قال له الزم ما أنت عليه) دل أن الكمالات البشرية قد تزول بعد المحافظة، ولذلك قال العارفون الخائفون من زوالها: * (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة أنك أنت الوهاب ". * الأصل


[ 172 ]

3 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن سنان، عن عبد الله بن مسكان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: استقبل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حارثة بن مالك بن النعمان الأنصاري فقال له: كيف أنت يا حارثة بن مالك ؟ فقال: يا رسول الله ! مؤمن حقا، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لكل شئ حقيقة فما حقيقة قولك ؟ فقال: يا رسول الله عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي وأظمأت هو اجري وكأني أنظر إلى عرش ربي [ و ] قد وضع للحساب، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون في الجنة، وكأني أسمع عواء أهل النار في النار، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): عبد نور الله قلبه، أبصرت فاثبت، فقال: يا رسول الله ادع الله لي أن يرزقني الشهادة معك، فقال: اللهم ارزق حارثة الشهادة، فلم يلبث إلا أياما حتى بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بسرية فبعثه فيما ؟ فقاتل فقتل تسعة أو ثمانية، ثم قتل. وفي رواية القاسم بن بريد، عن أبي بصير: قال: استشهد مع جعفر بن أبي طالب بعد تسعة نفر وكان هو العاشر. * الشرح قوله (فقال يا رسول الله مؤمن حقا) أي كامل في خصال الإيمان وهو من سار في طريق الإيمان باكتساب مكارم الأعمال والاخلاق حتى يبلغ أعلاه وترقى بالمجاهدة والوفاء من حضيض نقصه إلى أن بلغ ذراه، ولم ادعى هذه المرتبة ونطق بدعوى حق الإيمان تقاضاه بمصداق ذلك واماراته وطلب منه بيان آثاره وعلاماته (فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لكل شئ حقيقة) أي لكل شئ من الأشياء الظاهرة والباطنة حقيقة بها تمامه وكماله وغاية إليها انتهائه ومآله (فما حقيقة قولك) الظاهر في دعوى ذلك الأمر الباطن الكامن ؟ وما غايته المترتبة عليه وما علاماته الدالة عليه. (فقال: يا رسول الله عزفت نفسي عن الدنيا فاسهرت ليلى وأظمأت هو اجرى وكأني أنظر إلى عرش ربي وقد وضع للحساب، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون) أي يزور بعضهم بعضا (في الجنة وكأني أسمع عواء أهل النار في النار) أي صياحهم. والعوى صوت السباع، وكأنه بالدب والكلب أخص والسالك إذا اجتهد في زيادة العلم والعمل والاخلاق وقطع تعلقه عن المحسوسات ورسوم العادات ومات مع الحياة بلغ مرتبة عين اليقين وشاهد جمال الاسرار، وانكشف له أحوال الآخرة والجنة والنار، ثم إذا رجع إلى نفسه ونظر إلى عالم المحسوسات لا بعين التعلق خطر بباله بعض تلك الأحوال وانتقش في نفسه بعض هذه الآثار ولو شاهد الجنة يجد في نفسه السرور والنشاط، ولو شاهد النار يجد في نفسه الحزن والخوف. وبالجملة تظهر له حالات مع الحياة كما تظهر بعد الموت إلا أن ظهورها بعد الموت لا ينفع بل يوجب الحسرة والندامة بخلاف ظهورها قبله فإنه


[ 173 ]

يوجب السعادة التي هي قرب الحق والاعراض عن غيره بالكلية، وأعلم أن في هذه الرواية ورواية القاسم بن يزيد دلالة واضحة على أن حارثة استشهد في عهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال الفاضل الاسترابادي في رجاله حارثة بن النعمان الأنصاري كنيته أبو عبد الله شهد بدرا واحدا وما بعدهما من المشاهد وذكر هو أنه رأى جبرئيل (عليه السلام) دفعتين على صورة دحية الكلبي أولهما حين خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى بني قريظة، والثاني حين رجع من حنيز. وشهد مع أمير المؤمنين (عليه السلام) القتال وتوفي في زمن معاوية ولا يخفي المنافات بينه وبين الرواية إلا أن تكون هذا غيره. * الأصل 4 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه: إن على كل حق حقيقة وعلى كل صواب نورا. * الشرح قوله (أن على كل حق حقيقة) الحق وهو ضد الباطل كل ما جاء به الرسول من الأحكام والاخلاق والشرائع وجميع ما أمر به ودعا إليه فاخبر (عليه السلام) أن على كل حق ظاهر حقيقة هو ينتهى إليها ويرادبها، وفيها كماله واليها مآله، وقول بعض المحققين في تقسيم ما جاؤ به الشارع إلى شريعة وحقيقة اشارة إليهما حيث أرادوا بالشريعة ظاهر ما ورد به النقل، وبالحقيقة باطن ما بين العبد وبين الله عز وجل فحكم الشريعة على الظاهر، وحكم الحقيقة على الباطن كما روى عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) " نحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر " فقد ظهر أن الحق كالشريعة أول الحقيقة وهي غايته وهو ظاهر وهي بطانته، فكل عبادة ظاهرة أن لم تصدر عن حقيقة باطنة كأعمال المنافقين فهي باطلة، وكل طاعة أن لم تنته إلى حقيقة ثابتة كأفعال المرائين فهي عاطلة، وكذلك الأخلاق لها حق وحقيقة كالتوكل فإن حقه مع العام بضرورة عقد الإيمان مع تعلقهم بالاسباب وحقيقته ينتهى إليها الخاص بقطع الاسباب وسكون السر إلى مسبب الاسباب، وكالحياء فإنه له حقا مع الكل وله حقيقة مع الخواص، وكالتقوى فإن أو له حق وهو تقوى الشرك يشمل عوام المؤمنين وله حقيقة وغاية يبلغها خواص الاولياء، وكذلك الإيمان فإن أو له حق وبه يخرج عن الكفر وهو يشمل عوام المؤمنين وتله حيقيقة وغاية وهي كماله يبغها خواص المؤمنين الذين قال الله تعالى في شأنهم " إنما المؤمن الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلم ربهم يتوكلون " وكذلك اليقين أو له حق وآخره وباطنه حقيقة هي غايته وكماله وبالجملة الحق في كل شئ بمنزلة القشر والحقيقة بمنزلة اللب ولا ينفع القشر بدون اللب وإنما قال: على كل حق ولم يقل لكل حق لتنبيه بالاستعلاء على أن حقية كل شئ باعتبار حقيقته التي هو بها هو حتى لو لم


[ 174 ]

يكن حقيقة كاملة وغاية مرادة منه لم يكن حقا أو باعتبار المجانسة مع قوله (وعلى كل صواب نورا) الصواب ضد الخطأ أي على كل صواب جلى أو خفى من قول أو فعل أو عقد، برهان يحققه ودليل يصدقه كالإيمان واليقين فإن لهما علامات دالة عليهما وبينات كاشفة عنهما حتى أن من ادعاهما ولم تكن له تلك العلامات والبينات كانت دعواه وإنما سمى البرهان نورا لأن البرهان آلة لظهور المعقولات كما أن النور آلة لظهور المحسوسات. * الأصل


[ 175 ]

باب التفكر 1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام): قال كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: نبه بالتكفر قلبك، وجاف عن الليل جنبك، واتق الله ربك. * الشرح قوله (نبه بالتفكر قلبك) دل على أن القلب يغفل عن الحق والآخرة وما ينفع فيها وأنه لابد من تنبيهه عن الغفلة دائما بالتفكر واختلفت العبارة في تفسيره والمرجع واحد. قال الغزالي: حقيقة التفكر طلب علم غير بديهى من مقدمات موصلة إليه كما إذا تفكر أن الآخرة باقية وأن الدنيا فانية، فإنه يحصل له العلم بأن الآخرة خير من الدنيا وهو يبعثه على العلم للآخرة فالتفكر سبب لهذا العلم، وهذا العم يقتضى حالة نفسانية وهو التوجه إلى الآخرة وهذا الحالة يقتضى العمل لها وقس على هذا فالتفكر موجب لتنور القلب وخروجه عن الغفلة، وأصل لجميع الخيرات، وقال المحقق الوطسي: التفكر سير الباطن من المبادي إلى المقاصد وهو قريب من النظر ولا يرتقى أحد من النقص إلى الكمال إلا بهذا السير ومباديه الافاق والانفس بأن يتفكر في أجزاء العالم وذراته، وفي الاجرام العلوية من الافلاك والواكب وحركاتها وأوضاعها ومقاديرها واختلافاتها ومقارناتها ومفارقاتها وتأثيراتها وتغييراتها، وفي الاجرام السفلية وتربيتها وتفاعلها وكيفيتها ومركباتها ومعدنياتها وحيواناتها، وفي أجزاء الإنسان وأعضائه من العظام والعضلات والعصبات والعروق وغيرها مما لا يحصى كثرة، ويستدل بها وبما فيها من المصالح والمنافع والحكم والتغيير على كمال الصانع وعظمته وعلمه وقدرته وعدم ثبات ما سواه، وبالجملة التفكر فيما ذكر ونحوه من حيث الخلق والحكمة والمصالح أثره العلم بوجود الصانع وقدرته ومن حيث تغييره وانقلابه وفنائه بعد وجود أثره الإنقطاع عنه والتوجه بالكلية إلى الخالق الحق، ومن هذا القبيل التفكر في أحوال الماضين وانقطاع أيديهم عن الدنيا وما فيها ورجوعهم إلى دار الآخرة فإنه يوجب انقطاع المتفكر عن غير الله بالطاعة والتقوى، وكذلك أمر بهما بعد الامر بالتفكر، وقال (وجاف عن الليل جنك) وهو كناية عن الامر بالقيام للعبادة في ظلمات الليالي فإن العبادة فيها أفضل كما دلت عليه الايات والروايات (وإتق الله ربك) بترك المحرمات بل المكروهات والمشتبهات. * الأصل 2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن بعض أصحابه، عن أبان، عن الحسن الصيقل قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عما يروي الناس [ أن ] تفكر ساعة خير من قيام ليلة، قلت: كيف تفكر ؟ قال: يمر بالخربة


[ 176 ]

أو بالدار فيقول: أين ساكنوك، أين بانوك، ما [ با ] لك لا تتكلمين. * الشرح قوله (أن تفكر ساعة خير من قيام ليلة) أي تفكر ساعة في عظمته وآلاته وتواتر أياديه ونعمائه أو في سكرات الموت وما بعده من العقوبات أو في محن الدنيا وعدم وفائها وما فيها من المصائب والبليات أو في فناء أهلها وانقطاع أيديهم من التصرفات (خير من قيام ليلة) للعبادة فإن كل ذلك يوجب تنور القلب وصفاء الذهن وترك الدنيا والميل إلى الاخرة وحلاوة الذكر والطاعة وكمال السعادة ومحبة الحق واعراضه عن غيره وإستعمال الاعضاء الظاهرة والباطنة فيما خلقت له، وربما يخطر بالقلب بتفكر ساعة حالة مانعة من المعاصي في مدة العمر فهو أفضل من عبادة ليلة لكثرة فوائده وعظمتها (قلت كيف تفكر) أراد إيضاحه بمثال جزئي فلذلك أتى (عليه السلام) به (قال يمر بالخربة أو بالدار) التي هلك أهلها (فيقول) تحسرا أو تحزنا لحاله وحالهم (أين ساكنوك أين بانوك مالك لا تتكلمين) فإنه إذا تفكر في ذلك تجدهم انقطعوا عن الدنيا وثمراتها، وزالت أيديهم عما كان لهم من أسبابها وزهراتها وانقلوا عن دار الانس والاحبة وخلوا بيت الغربة والوحشة، مالهم من احبائهم ظهير ولا نصير ولا له من أموالهم قطمير ولانقير إذا أوجدهم كذلك خطر بباله أنه يصير مثلهم عن قريب ولا يكون له من ماله حق ولا نصيب فتبرد لذلك قنيات الدنيا في بصره وتحتقر زهراتها في نظره فيقدم إلى اصلاح أمره ومثواه ولا يبيع آخرته بديناه. * الأصل 3 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن بعض رجاله، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: أفضل العبادة إدمان التفكر في الله وفي قدرته. * الشرح قوله (أفضل العبادة ادمان التكفر في الله وفي قدرته) أفضلية العبادة باعتبار عظمة قدرها وكثرة منافعها وآثارها وشرافة لوازمنها وأسرارها ولا ريب في ان ادمان التفكر في الله وفي قدرته أعظم العبادات قدرا وأشرفها أثرا وأفخمها رتبة وأرفعها منزلة، ولذلك وقع الأمر به في آيات متكاثرة وروايات متضافرة وله آثار شريفة ولوازم منيفة كلها عبادات عظيمة كمعرفة الرب وعظمته وعلمه وقدرته واحتقار الدنيا وزهراتها ومعرفة الجنة ودرجاتها ومعرفة النار ولجميع العبادات فهو أفضلها، وليس المراد التفكر في حقيقة ذاته وحقيقتة قدرته وسائر صفاته إذا معرفتها خارجة عن قدرة البشر ولا يصل إليها العقل والتفكر، وكان التفكر فيها مؤديا إلى الضلال المبين والالحاد في الدين بل المراد به التفكر في وضع صنع الله وآثار قدرته فإن التفكر فيها وفي عظمتها يدل على عظمة الصانع


[ 177 ]

والحق وكمال قدرته، ومما يدل على ذلك ما رواه محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: " أياكم والتفكر في الله ولكن إذا أردتم أن تنظروا إلى عظمته فانظروا إلى عظيم خلقه " وما رواه حسين بن المياح عن أبيه قال: سمعت في الحق. وتفكر في الخلق، والعبد ممنوع من الأول ومندوب إلى الثاني. قال الله تعالى: * (ويتفكرون في خلق السموات والأرض - الأية ". * الأصل 4 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن معمر بن خلاد قال: سمعت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) يقول: ليس العبادة كثرة الصلاة والصوم. إنما العبادة التفكر في أمر الله عز وجل. * الشرح قوله (إنما العبادة التفكر في أمر الله عز وجل) الحصر إضافي بالنسبة إلى غير المتفكر أو حقيقي لأن العبادة كلها تابعة للتفكر فلا توجد عبادة بدونه فإن من تفكر أبصر الحق وطرقه الموصلة إليه وهانت الدنيا وما فيها عنده لما رأى من كثرة انقلابها على أهلها وعدم الوفاء لهم فيحصل له كما الميل إلى المولى الحق وغاية الخشوع والطاعة له والشوق إلى لقائه لعلمه بأن الوصول إلى الدرجة العليا، والبلوغ إلى السعادة العظمى، والتخلص عن أهوال العقبى، والتقرب إلى مقام الزلفى إنما يحصل بترك الدنيا والتزام العبادة والتقوى فيصرف نفسه عن ميدان الطغيان ويجريها في مضمار الطاعة ومرضات الرحمن، ويقدم لنفسه ما ينفعه في دار الجنان والتوفيق من الله الملك المنان. * الأصل 5 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن إسماعيل بن سهل، عن حماد، عن ربعي قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه: [ إن ] التفكر يدعوا إلى البر والعمل به. * الشرح قوله (التفكر يدعوا إلى البر والعمل به) لأن التكفر سراج القلب يرى به المتفكر خيره وشره ومنافعه ومضاره وكل قلب لا فكر فيه فهو مظلم لا يرى إلى البر دليلا ولا إلى العمل سبيلا، ومن التفكر أن يتفكر لأي شئ خلق ومن أين جاء وإلى أين يقصد ولأي شئ أنزل في هذا المنزل، وفيها سعادته وشقاوته فإن هذا التفكر أشد جاذب له إلى البر والعمل به، ومنه أن يتفكر في قوله تعالى: * (أو لم يرواكم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم - الآية " إلى غيرها من الآيات الدالة على الترغيب في التفكر فإن التفكر فيها أقوى زاجر له عن الدنيا وأكمل داع إلى البر والعمل به للآخرة إذ من تفكر في أحوال الماضين من الرعايا والسلاطين وأعمالهم


[ 178 ]

وأخبارهم وآثارهم وتفكر في أنهم بنوا ما لم يسكنوا وجمعوا ما لم يأكلوا وسعوا فيما لم ينتفعوا وفي أنهم كم تركوا في أنهم بنوا ما لم يسكنوا وجمعوا ما لم يأكلوا وسعوا فيما لم ينتفعوا وفي أنهم كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين تبرد الدنيا وما فيها عنده، واشرق قلبه بنور ربه حتى رأى بعين البصيرة أحوال الآخرة ومقاماتها ورغبت نفسه عن قنيات الدنيا وزهراتها ومال إلى حضرة الحق والجلال واشتاق إلى كأس القرب والوصال، وعلم أن ذلك لا يحصل إلا بالبر والعلم فعلم أن التفكر يدعو إليهما، نعم ما قيل: ولم أر كالايام للمرء واعظا * ولا كصروف الدهر للمرء هاديا لعمرك يما يدري الفتى كيف يتقى * إذا هو لم يجعل له الله واقيا وأحسن فإن للمرء لابد ميت * وإنك قد تجزى بما كنت ساعيا ومنه أن يتفكر في معاني آيات القرآن عند تلاوته فإذا بلغ آيات الصفات مثل العزيز والحكيم والقدوس يتأمل في أسراره، وإذا بلغ آيات الأفعال مثل خلق السموات والأرض يتأمل في عظمة الخالق، وكمال عمله وقدرته، وعلى هذا فإنه يحصل له بذلك الانقطاع عن الدنيا وملكة الميل إلى البر والعمل به.


[ 179 ]

* الأصل (باب المكارم) 1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، به الهيثم بن أبي مسروق، عن يزيد بن إسحاق شعر، عن الحسين بن عطية، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: المكارم عشر فإن استطعت أن تكون فيك فلتكن، فإنها تكون في الرجل ولا تكون في ولده وتكون في الولد ولا تكون في أبيه، وتكون في العبد ولا تكون في الحر، قيل: وما هن ؟ قال: صدق البأس وصدق اللسان وأداء الأمانة وصلة الرحم وإقراء الضيف وإطعام السائل والمكافاة على الضايع والتذمم للجار والتذمم للصاحب ورأسهن الحياء. * الشرح قوله (قال المكارم عشر) المكرمة بزرگى وبزرگوارى والمكارم بزرگيها وبزرگواريها وينبغى أن يعلم أن النفس الناطقة إذا تركت سلطنتها في ملك البدن وصارت مأسورة في يدقواه حصلت له أخلاق مهلكة مثل الكذب والخيانة والحرص والحسد والفخر والغضب والبخل وقطع الرحم وأمثال ذلك مما يعد في الكتاب ثم تسرى تلك الأخلاق إلى الأعضاء الظاهرة منها الضرب والقتل والنهب والبهتان ونحوها، وبذلك تبعد عن رب العالمين وتستقر في أسفل السافلى وإن راعت سلطنتها فيه وأسرت قواه واعطت كل واحدة ما فيه صلاحها عقلا وشرعا حصلت لها أخلاق صالحة منجية مثل حسن الخلق والرفق والحكمة والعدالة والشجاعة وأمثالها مما يعد في هذا الكتاب أيضا ويصدر بسببها من الأعضاء أفعال حسنة ومكارم فاضلة مثل الصدق وأداء الأمانة وغيرهما من الامور المذكورة وإن المكارم غير منحصرة فيما ذكرو ان اطلاقها عليه مجاز من باب تسمية السبب باسم المسبب لأن ما ذكر من الأفعال سبب لمكارم النفس (فإن استطعت أن تكون فيك فلتكن) دل على أنها كسبية تحصل بمشقة الإكتساب والمجاهدة مع النفس الامارة ورياضتها، وقد بالغ في ذلك بقوله (فإنها تكون في الرجل، ولا تكون في ولده، وتكون في ولده ولا تكون في أبيه وتكون في العبد ولا تكون في الحر) للتنبيه على أنها نعمة عظيمة يمن الله على عباده ممن أخذت يده العناية الإلهية وتوجهت إليه التوفيقات الربانية بحسن سياسته وكمال عزيمته وتمام إرادته إلى معالى الامور (قيل: وما هن ؟ صدق البأس) أي الخوف أو الخضوع أو الشدة والفقر ومنه البائس الفقير أو القوة وصدق الخوف عن المعصية بأن يتركنها ومن التقصير في العلم بأن يسعى في كماله ومن عدم الوصول إلى درجة الابرابر بأن يسعى في إكتساب الخيرات فلوا دعى الخوف في


[ 180 ]

شئ من ذلك وبقى عليه ولم يسع في إزالته فهو كاذب وصدق الخضوع بأن يخضع لله تعالى لا لغيره فمن ادعى الخضوع لله تعالى وهو يخضع لغيره فهو كاذب وصدق الفقر بأن يترك عن نفسه هواها ومتميناتها وآمالها وإلا فهو ليس بفقير، وصدق القوة أن يصرفها في الطاعات فمن صرفها في المعاصي فهو ضعيف عاجز، (وصدق اللسان) بأن لا يتكلم بما ليس فيه رضاه تعالى مثل الكذب واللغو والفحش والغيبة ونحوها بل يتكلم بما فيه رضاه من الامور الدينية أو الدينوية (وأداء الامانة) أي أمانة الناس برا كان أو فاجرا أو أمانة الله تعالى أيضا مثل الامامة وفعل الطاعات وترك منهات والعهود. (وصلة الرحم) أي الإحسان إلى الاقربين من ذوى النسب والاصهار والتعطف عليهم والرفق بهم والرعاية لاحوالهم في السر والعلانية وإن أساؤه فكأنه بالإحسان إليهم وصل ما بينهم وبينه من علاقة القرابة والصهر، ويدخل فيها صلة أقرباء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (واقراء الضيف) أي المؤمن أو المسلم مطلقا أو الاعم منه، ومن الكتابي على إحتمال لدلالة ظاهر بعض الروايات عليه، وأما الحربي ففيه تأمل والظاهر أن الإقراء بمعنى القري المجرد يقال: قريت الضيف أقريه من باب رمى قرى بالكسر والقصر والإسم القراء بالفتح والمد (وإطعام السائل) كذلك والإطعام كما يوجب الثواب الجزيل في الاخرة كذلك يدفع الفقر والبلاء وبوجب زيادة الرزق في الدنيا ثم يتفاوت ذلك بحسب تفاوت نية المطعم وإحتياجه وإستحقاق السائل وصلاحه، (والمكافاة على الصنائع) جمع الصنيعة وهي ما اصطنعته من خير وكل شئ ساوى شيئا حتى صار مثله فهو مكافئ له والمكافاة بين الناس من هذا، ويقال بالفارسية پاداش دادن بمثل وقد يعم ويراد مطلق المجازاة الشامل للمساوي والأزيد والأنقص ثم المكافاة من باب الآداب والإستحباب لجواز الأخذ من غير عوض للروايات منها رواية إسحاق بن عمار قال قلت له: " الرجل الفقير يهدي إلى الهدية يتعرض لما عندي فاخذها ولا أعطيه شيئا ؟ قال نعم هي لك حلال ولكن لا تدع أن تعطيه " (والتذمم للجار، والتذمم للصاحب) التفعل يجئ للتجنب مثل تأثم وتحرج أي تجنب الاثم والحرج، ومنه التذمم وهو مجانبة الذم والتحرز منه والمقوصد أن من مكارم الرجل أن يحفظ ذمام لجار ولصاحب ويطرح عن نفسه ذم الناس له ان لم يحفظه، والذمام بالكسر الحرمة، وما يذم به الرجل على اضاعته من العهد والإمام وغيرهما و (رأسهن الحياء هو خلق غريزي أو مكتسب يمنع من فعل القبيح وخلاف الأداب والتقصير في الحقوق خوفا من اللوم والذم به، ولا يوجد شئ من المكارم بدونه ولذلك هو رأسهن. * الأصل


[ 181 ]

2 - عدة من أصاحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن عثمان بن عيسى، عن عبد الله بن مسكان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله عز وجل خص رسله بمكارم الأخلاق، فامتحنوا أنفسكم، فإن كانت فيكم فاحمدوا الله واعلموا أن ذلك من خير وإن لا تكن فيكم فاسألوا الله وارغبوا إليه فيها، قال: فذكر [ ها ] عشرة: اليقين والقناعة والصبر والشكر والحلم وحسن الخلق والسخاء والغيرة والشجاعة والمروة قال: وروي بعضهم بعد هذه الخصال العشرة وزاد فيها الصدق وأداء الأمانة. * الشرح قوله (إن الله عز وجل خص رسله بمكارم الأخلاق) الأخلاق جمع خلق وهو ملكة للنفس يصدر عنه الفعل بسهولة من غير روية وفكر خلاف الحال، وقد توهم أن الأخلاق كلها خلقية فيكون التكليف بها تكليفا بما لا يطاق وهذا التوهم فاسد لأن الاخلاق قد تتغير وتتبدل كما هو المشاهد في كثير من الناس فإنهم يزاولون ويمارسون خلقا من الأخلاق حتى يصير ملكة لا يقال مدخول الباء أما مقصور كما يقتضيه القاعدة، أو مقصور عليه. فعلى الأول لزم أن لا توجد المكارم في غير الرسل وهو ينافي ما بعده وعلى الثاني لزم أن لا يوجد في الرسل غير المكامر لانا نقول يمكن دفع الأول بأن للمكارم عريضا والمقوصر على الرسل هو الطرف الأعلى، ولا ينافيه وجود ما دونه على تفاوت المراتب في غيرهم، أو بأن خلقية المكارم مقصورة على الرسل جميعا ولا توجد في غيرهم جميعا ولا ينافيه وجودها في بعض الاغيار، ويمكن دفع الثاني بأن الحصر إضافي بالنسية إلى أضداد المكارم يعني أن الرسل مقصورون على المكارم ولا يتجاوزونها إلى أضدادها بخلاف غيرهم وهذا أظهر على أنه يمكن أن يكون المقصود أنه تعالى خص رسله بانزل المكارم إليهم وتقريرهم لها وعلى هذا لا يتوجه شئ. (فامتحنوا أنفسكم) وأختبروها (فإن كانت فيكم فاحمدوا الله) لأنها من أعظم نعمائه لديكم و (واعلموا أن ذلك من خير) عظيم أفاضه عليكم (وإن لا تكن فيكم فاسألوا الله) عن تيسير ذلك الكمال (وارغبوا إليه بالتضرع والإبتهال. (قال فذكرها عشرة) غير العشرة المذكورة في الحديث السابق لكونها غير منحصرة فيها. (اليقين) بالله واليوم الآخر وكتبه ورسله، هو العلم مع زوال الشك وعلاماته العلم بمقتضاه (والقناعة) وهي الرضا بالقليل وفيه راحة في الدارين، وفي الحديث " القناعة كنز لا ينفذ " لأن الانفاق معها لا ينقطع كلما تعذر عليه شئ من امور الدنيا قنع بما دونه ورضى وفيه " عز من قنع وذل من طمع " لأن القانع لا يذله الطلب فلا يزال عزيزا. (والصبر على المصيبة وفعل الطاعة وترك المعصية (والشكر) لله في جميع الأحول باللسان


[ 182 ]

والجنان والأركان (واللحم) بضبط النفس عن الانتقام عند صدور ما يؤذيه عن الغير وهو صفة لها بالاعتدال في القوة الغضبية. (وحسن الخلق) مع الناس بالجميل والطلاقة والبشاشة والتودد والتلطف والاشفاق عليهم (والسخاء) أي بذل المال بسهولة على قدر لابد منه في موضعه وهو فضيلة نفسانية مندرجة تحت الإعتدال في القوة الشهوية وأفضله ما وقع بغير سؤال كما يدل عليه قول أمير المؤمنين (عليه السلام) " السخاء ما كان ابتداء فاما ماكان عن مسألة فحياء وتذمم " أي استنكاف ومجانبة عن الذم (والغيرة) أي الحمية في الدين والاستنكاف عما يغايره وتغير الطبع عما يخالفه (والشجاعة) وهي ملكة للنفس حاصلة من الإعتدال في القوة الغضبية ويبتني عليها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وامضاء الأحكام والحدود والجهاد مع النفس والشيطان والعدو (والمروة) أي كمال الرجولية في الدين ورعاية حال فقراء المسلمات والمسلمين وتفقد أحوال اليتامى والارامل والمساكين. (وقال وروى بعضهم بعد هذه الخصال العشرة وزاد فيها الصدق) أي صدق البأس وصدق اللسان (واداء الامانة) إلى الناس، أو مطلقا وهو أي الصدق مفعول روى وزاد على سبيل التنازع وإن توهم زيادة لفظ بعد أو زاد. * الأصل 3 - عنه، عن بكر بن صالح، عن جعفر بن محمد الهاشمي، عن إسماعيل به عباد قال بكر: وأظنني قد سمعته من إسماعيل، عن عبد الله به بكير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إنا لنحب من كان عاقلا، فهما، فقيها، حليما، مداريا، صبورا صدوقا، وفيا إن الله عز وجل خص الأنبياء بمكارم الأخلاق، فمن كانت فيه فليحمد الله على ذلك ومن لم تكن فيه فليتضرع إلى الله عز وجل وليسأله إياها. قال: قلت: جعلت فداك وما هن ؟ قال: هن الورع والقناعة والصبر والشكر والحلم والحياء والسخاء والشجاعة والغيرة والبر وصدق الحديث وأداء الأمانة. * الشرح قوله (إنا لنحب من كان عاقلا) له جوهر مجرد (1)


1 - قوله " له جوهر مجرد " جرى على اصطلاح الحكماء فإن العقل عندهم يطلق على العقل النظري والعقل العملي، وهما مما امتاز به الإنسان من سائر الحيوانات. فإنها تشترك مع الإنسان في الحس، ويمتاز الإنسان عنها بشيئين: الأول بأنه يدرك الحسن والقبح في الأفعال ويحكم بأن بعض الأعمال حسن وبعضها قبيح، ولا يدرك الحيوان شيئا من ذلك ألبتة، وكذلك كلف الإنسان بتكاليف وصار مسؤلا عن أفعاله " إن السمع والبصر والفؤاد كل اولئك كان عنه مسؤلا " وهذا يسمى العقل العملي وهو الذي أنكره الأشاعرة. والثاني أن يدرك = (*)

[ 183 ]

ويميز بين الحق والباطل والهادي والمضل (فهما) الفهم من صفات العاقل وهو جودة تهيؤ الذهن لقبول ما يرد عليه من الحق وبه ينتقل من المبادى إلى المطالب بسرعة. (فقيها) الفقه العلم بالأحكام من الحلال والحرام وبالأخلاق وآفات النفوس (1) في أمر الدين تابعة للعلم والعمل مستلزمة للخوف والخشية (2) والملاينة مع الناس وترك مجادلتهم ومناقشتهم. (صوقا وفيا) أي دائم الصدق والوفاء، والصدق ملكة تحصل عن لزوم الأقوال المطابقة، والوفاء ملكة تنشأ عن لزوم والأمانة والبقاء عليه وهما فضيلتان داخلتان تحت العفة متلازمتان، وكذلك قال أمير المؤمنين (عليه السلام) أن الوفاء توأم الصدق ولما كان التوأم هو الولد المقارن لولد آخر في بطن واحد شبه به الوفاء لمقارنته الصدق تحت العفة، وفي هذا الحديث تحريص على محبة الموصوف بالصفات المذكورة فيه وإختيار مصاحبته. فإنه دليل إلى سبيل الخيرات ومرشد إلى طرق النجاة ولكن وجدانه متعسر فإن الجاهل قد يدلس فلابد للطالب من حزم وتجسس لئلا يتخذ


= الكليات والمعاني العامة. ولا يدركها الحيوانات والدليل عليه أنه يتكلم، وأكثر كلماته كليات يدرك معناها ويحكى عنها ولا يقدر على ذلك الحيوانات الآخر. فالحيوان يتوجع ويعرض له إلا لم ويحس ويخاف من عدوه، ويحصل له الباعث على الفرار، ويجب أولاده ويحفظها من الافات حتى تكبر وتستغني عن الام، ولكن لا يقدر على لفظ يحكى به عن معين إلا لم والخوف والحب لأنه لم يدرك معنى عاما يشمل أفراد كل منها، وإنما يحصل لها مصاديق هذه المعاني كما يحصل للطفل الصغير قبل أن يتكلم، ولذلك عبر عن إدراك الكلي بالنطق، وبالجملة أشار الشارح بقوله " يدرك به المعقولات " إلى العقل النظري، وبقوله " يميزيين الحق والباطل " إلى العقل العملي وكلاهما حاصل للإنسان بسبب تجرده عن المادة ذاتا وإن تعلق بها فعلا ولاريب أن الإختيار من لوازم النفس المجردة والطبيعة مقهورة مجبورة في أفعالها لا سبيل لها إلى التخلف عما أودع فيها، والإنسان لكونه مختارا غير مجبورا لابد أن يكون له قوة يرحج بها ما ينبغي أن يفعله ويميز ما يجب أن يتركه وهو العقل العملي، ولكونه مستعدا لاستنباط المجهولات من المعلومات أن يكون له عقل نظري يدرك به الكليات إذا لجزئي لا يكون كاسبا ولا مكتسبا. (ش) 1 - قوله " وبالأخلاق وآفات النفوس " جرى على اصطلاح الأئمة (عليهم السلام) في تعريف الفقه. فإن الفقه عندهم (عليهم السلام) كان يشمل علم الأخلاق وغيره. ولكن المتأخرين (رضي الله عنه) عنهم خصصوا الفقه بالاحكام الظاهرية وميزوا بينه وبين علم الاخلاق ولا مشاحة في الاصطلاح. (ش) 2 - قوله " مستلزمة للخوف والخشية " فرق بعض علماء الأخلقا بين الخوف والخشية وقال ابن الخوف من الضعفاء وأهل الاهواء لكثرة معاصيهم وتقصيرهم يخافون العذاب. والخشية حاصلة للعلماء بالله والأولياء لمعرفتهم بعظمة بهم والاستشعار بشدة قهره وكمال رحمته، وعظم قدرته واحاطة علمه وسائر صفاته الكمالية لا للخوف من العذاب إذ لا خوف عليهم ولاهم يحزنون وقال تعالى " إنما يخشي الله من عباده العلمؤا ". (ش) (*)

[ 184 ]

الجاهل مصاحبا ولا يقع في ويل الخذ لأن بعد الإيمان. وأعلم أن المكارم المذكورة في هذا الحديث اثنى عشرة كما في السابق ألا أن اليقين وحسن الخلق والمروة المذكورة في السابق غير مذكورة في هذا الحديث، والورع والحياء والبر المذكورة في هذا الحديث غير مذكورة في السابق. والورع هو الكف عن المحرمات والمشتبهات بل عن المباحات أيضا والبر هو الإحسان بالوالدين والأقربين بل بالناس أجمعين وقد يطلق على الأعمال الصالحة والخيرات كلها. * الأصل 4 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله عز وجل ارتضى لكم الإسلام دينا، فأحسنوا بالسخاء وحسن الخلق. * الشرح قوله (فأحسنوا صحبته بالسخاء وحسن الخلق) فإنهما يوجبان كما الدين وقراره كما أن البخل وسوء الخلق يوجبان نقصانه وفراره. فالدين كالمصاحب أن راعيته قر وإن آذيته فر. * الأصل 5 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه: الإيمان أربعة أركان: الرضا بقضاء الله والتوكل على الله وتفويض الأمر إلى الله والتسليم لأمر الله. * الشرح قوله (الإيمان أربعة أركان الرضاء بقضاء الله والتوكل على والتوكل على الله وتفويض الامر إلى الله والتسليم لأمر الله) الرضاء بقضاء الله سكون النفس تحت محاري القدر وسرورها بما يرد عليها وإن كان ثقيلا عليها لأنه من الحبيب وكل شئ من الحبيب فهو حبيب والتوكل جعل الغير وكيلا في اموره وهو على قسمين أحدهما أن يقصد رجوع التوكيل إليه في إمضائها والاخر أن يقصد استقلاله فيه وهذا القسم وهو التفوض فالتفويض قسم من التوكل وأفضل أفراده، ثم التفويض على قسمين: أحدهما أن يرى المفوض كل ما يفعله المفوض إليه موافقا لطبعه والاخر أن يجرد نفسه عن ملاحظة الموافقة والمخالفة حتى كأنه فوض نفسه وطبعه أيضا إليه، وهذا هو التسليم فالتسليم نوع من التفويض وأكمل أفراده، وإنما كانت هذه الاربعة أركان الإيمان إذ بانتفاء الرضا بقضاء الله يتحقق السخط عليه وهو يوجب هدم بناء الإيمان به، وبانتفاء التوكل يتحقق الحرص في الطلب وفوات كثير من الاعمال الصالحة المعتبرة في الإيمان وهو يوجب هدمه وكذا انتفاء التفويض والتسليم يوجب تحقق تعلقات كثيرة منافية للإيمان الكامل، وبالجملة هذه الامور من لوازم اليقين


[ 185 ]

فانتفاؤها موجب لانتفائه المنافي للإيمان. * الأصل 6 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الحسن بن علي، عن عبد الله بن سنان عن رجل من بني هاشم قال: أربع من كن فيه كمل إسلامه ولو كان من قرنه إلى قدمه خطايا لم تنقصه: الصدق والحياء وحسن الخلق والشكر. * الشرح قوله (أربع من كن فيه كمل إسلامه ولو كان من قرنه إلى قدمه خطايا لم تنقصه) أي خصال، والضمير المفعول في لم تنقصه راجع إلى الإسلام، أو الى من. (الصدق والحياء وحسن الخلق والشكر) قد مر تفسيرها، ولا يخفى أن ثبوتها يستلزم إنتفاء العصيان (1) * الأصل 7 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، وعلي بن إبراهيم عن أبيه، جميعا عن إبن محبوب، عن إبن رئاب، عن أبي حمزة، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ألا اخبركم بخير رجالكم ؟ قلنا: بلي يا رسول الله ! قال: إن من خير رجالكم التقي النقي، المسح الكفين، النقي الطرفين البر بوالديه ولا يجلئ عياله إلى غيره. * الشرح قوله (ألا أخبركم بخير رجالكم ؟ قلنا بلي يا رسول الله قال ان من خير رجالكم) لا يقال أول هذا الكلام ينافي آخره في الجملة لأن قوله خير رجالكم يفيد أنه الخير مطلقا، وقوله من خير رجالكرم يفيد أنه من جملة خير الرجال وبعضهم لانا نقول لعل المراد بالاول الصنف وبالاخر كل فرد من هذا النصف أو نقول الاخير قرينة على أن المراد بالاول الخير الإضافي بالنسبة إلى من لم توجد فيه الصفات المذكورة دون الخير الحقيقي وعلى الإطلاق. (التقي النفي السمح الكفين) " التقي " المحترز عن كل ما يؤثم خوفا من الله تعالى وتبعيدا لنفسه مخالفته و " النقي " النظيف الظاهر والباطن من الوسخ النفساني والدنس الجسماني " والسمح " الجواد المعطي وإسناد الجود والاعطاء إلى الكفين لظهورهما منهما وفي ذكر الكفين مبالغة في كمالهما.


1 - قوله " يستلزم إنتفاء العصيان " أو لأنه ينتهى أمره إلى التوبة يقينا ويموت تائبا ألبتة. (ش) (*)

[ 186 ]

(النقي الطرفين) أي الفرجين أو الفرج واللسان، أو الفرج والبطن وقيل الوالدين (والبر بوالديه) أي المحسن إليهما والمطيع لهما والرفيق بهما والمتحري لمحابهما والمتوقي عن مكارمهما. (ولا يلجئ عياله إلى غيره) مع القدرة على إنفاق ما يكفيهم يقال: أجأته إليه ولجأته بالهمزة والتضعيف أي إضطررته وأكرهته.


[ 187 ]

* الأصل (باب فضل اليقين) 1 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الحسن بن علي الوشاء، عن مثنى ابن الوليد، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ليس شئ الا وله حد، قال: قلت: جعلت فداك فما حد التوكل ؟ قال: اليقين، قلت: فما حد اليقين ؟ قال: ألا تخاف مع الله شيئا. * الشرح قوله (فما حد التوكل ؟ قال اليقين) في المصباح اليقين: العلم الحاصل عن نظر وإستدلال، ولهذا لا يسمى علم الله يقينا. وفي أوصاف الاشراف اليقين إعتقاد جازم مطابق ثابت لا يمكن زواله وهو في الحقيقة مؤلف من علمين: العلم بالمعلوم، والعلم بأن خلاف ذلك العلم محال وله مراتب علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين والقرآن ناطق بذلك والحد في اللغة منتهى كل شئ ونهايته وفي العرف التعريف ويمكن إرادة كلا المعنيين: أما الأول فلان التوكل ينتهى إلى اليقين وهو منتهاه وأثره إذ الإنسان قبل التوكل يظن أن له مدخلا في حصول مهماته فليس له يقين بالله صفاته الذاتية والفعلية كما هو حقه وبعده يرى أن مهماته تحصل على الوجود الاحسن والإكمال فيحصل له يقين كما هو حقه فاليقين حده ومنتهاه. وأما الثاني فلان اليقين أثر من آثار التوكل كما عرفت فتعريفه باليقين تعريف له بأثر من آثاره، وأما جعل الحد بمعنى التعريف وجعل اليقين سببا للتوكل فهو وان كان محتملا في نفسه لكن لا يناسب ما بعده إذ اليقين سبب لعدم الخوف من غير الله دون العكس. (قلت فما حد اليقين ؟ قال ألا تخاف مع الله شيئا) جعل عدم الخوف من غير الله نهاية لليقين وأثرا من آثاره أو تعريفا له مبالغة للسببية لأن الإنسان إذا كملت قوته النظرية باليقين بالله وصفاته العظام لا يخاف الامن الله كما قال عز شأنه * (إنما يخشى الله من عباده العلمؤا " ثم نقول حد الخوف إستعمال الجوارح والاعضاء فيما خلقت له وصرفها عن غيره. ثم حد هذا تفريغ القلب عما عداه بحيث لا ينظر إلى شئ سواه، ولا يرى في الوجود إلا إياه فهو منتهى كل غاية وغاية الغاليات كما ورد في بعض الروايات. * الأصل 2 - عنه، عن معلى، عن الحسن بن علي الوشاء، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، ومحمد


[ 188 ]

بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن أبي ولاد الحناط وعبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من صحة يقين المرء المسلم أن لا يرضي الناس بسخط الله ولا يلومهم على ما لم يؤته الله، فان الرزق لا يسوقه حرص وحريص ولا يرده كراهية كاره، ولو أن أحدكم فر من رزقه كما يفر من الموت لأدركه رزقه كما يدركه الموت، ثم قال: إن الله بعدله وقسطه جعل الروح والراحة في اليقين والرضا وجعل الهم والحزن في الشك والسخط. * الشرح (قال من صحة يقين المرء المسلم أن لا يرضى الناس بسخط الله) ليس كل من يدعى اليقين له يقين صحيح صادق مستمر بل لصحته وثبوته وكونه ملكة علامات، ومن علامات صحته أن لا يرضى الناس أبدا بما يوجب سخط الله تعالى وغضبه عليه كما هو فعل غير موقن فإنه يقول ما يوافق طبع الناس ويعمل ما فيه رضاهم وإن كان فيه سخط الرب لئلا يفوت مقاصده المأمولة منهم، أو لغير ذلك من الاغراض الفاسدة فيترك الامر بالمعروف والنهي عن الكمنكر ويجالس الفاسقين والظالمين، ويساهل معهم ويميل إلى ما هو مستحسن في طباعهم المعوجة ولا يعلم أن أقل ما يفعل الله تعالى بمن جعل رجاه فداء لرضا غيره وسخطه فداء لسخط خلقه بعد مقته هو أن يضرب على قلبه ذل الحجاب وأن يقلب قلب من طلب رضاه ببغضه إياه كما روى من أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس بخلاف الموقن فإنه لما كانت ثقته بالحق وإعتماده على لطفه وإحسانه مع يقينه بأن الخلق مقهورون مضطرون وأن قلوبهم بيده يتصرف فيها ما يشاء كان صليبا في الدين قايما على اليقين يقول الحق ويأمر به وينهى عن الباطل ويزجر عنه ويفر مما فيه رضى الله وسخط الرب ولايبالي أن ذلك بوجب سخطهم ومنعهم لعلمه بأن حصول المقاصد ووصول الارزاق من عند الله تعالى. (ولا يلومهم على ما لم يؤته الله) أي ولايذمهم على ما لم يؤته الله تعالى من الرزق وهو ما يحتاج إليه وينتفع به في التعيش والبقاء وفي إختصاصه بالحلال أو شموله للحرام أيضا خلاف مذكور في موضعه والنهي عن الذم لوجوده الأول أن ذمهم ظلم لهم لانهم لم يمنعوه بل الله لم يؤته ما طلب منهم، الثاني أن ذمهم ينتهي إلى الله لأنه انما يذم المانع من الإعطاء ولا معطى ولا مانع إلا الله فيرجع الذم إليه، الثاليث إن ذمه المانع من الخلق شرك لانها اعتقد أنهم مانع له فذمه فأشرك في المنع مع الله غيره ألا ترى كيف رده عن هذا الشرك إلى التوحيد وعن الجهل إلى العلم وعن الشك إلى اليقين وعن الإضطراب إلى الإطمينان بقوله: (فإن الرزق لا يسوقه حرص حريص ولا يرده كراهية كاره) فإن أمر الرزق ليس بيد أحد حتي


[ 189 ]

يسوقه إليه عند حرصه أو ترده عند كراهته بل هو بيده تعالى يوصله إلى عباده على حسب ما يقتضيه المصلحة من الزيائة والنقصان، ويحتمل أن يكون المراد أن الرزق لا يسوقه إلى أحد حرص حريص ولا يرده عنه كراهة كاره فينبغي أن لا يذم الخلق بالرد والمنع. ويؤيده ما روى من طرق العامة " أن رزق الله لا يسوقه إليك حرص حريص ولا يرده عنك كراهة كاره ". (لو أن أحدكم فر من رزقه كما يفر من الموت لا دركه رزقه كما يدركه الموت) بالغ به في أن رزق كل أحد كموته بيده تعالى يوصله إليه قطعا أراده أو كرهه لأن الحكيم القادر إذا جعل الوجود موقوفا على الرزق يمتنع عليه أن يقطع الرزق مع تحقق الوجود بل وجب عليه إيصاله، وإن لم يكن المرزوق عالما بطرقه ومنه ينشأ الإضطراب وإلهم والحزن، ويحرك إلى السؤال والذم والدافع له هو اليقين والرضا عنه تعالى ولذلك حث على طلبهما للظفر بالروح في القلب والتخلص من الإضطراب وبالراحة في البدن والتنزه من ذل السؤال وخسايس الإكتساب بقوله: (ثم قال إن الله بعدله وقسطه) العطف للتفسير (جعل الروح والراحة) أي راحة القلب وسكونه عن الإضطراب وراحه البدن وفراغه من الاعقاب. (في اليقين والرضا) فإن الموقن بالله وبصفاته العظمى والراضي عنه بالمنع والإعطاء يطمئن قلبه عن التردد والتلون، ويفرغ عن الإعتماد والتحزن وينقلع عن علقة الاسباب ويقول توكله على بب الارباب فيستريح عن تصادم الهموم والإضطراب ويتخلص عن تراكم الغموم والاكتساب لتيقنه بأن رزقه يصل إليه ضمنه عادل حكيم ثم عكس ذلك تأكيدا بقوله (وجعل الهم والحزن) الهم الغم المقلق للنقس أو الغم في تحصيل المطلوب عند صعوبته خوفا من فواته، والحزن غم يصيب الإنسان بعد فوات المحبوب. (في الشك والسخط) لأن الشك يوجب تردد القلب وانزعاجه وتلونه واضطرابه من تجاذب الاسباب وغفلته عن تقدير رب الارباب وكل ذلك يوقعه في الهم والحزن والعذاب وكذا سخط القلب بالمقسوم وعدم الرضا به يوقعه في الهم والحزن والغموم ولذلك قيل: ما العيش إلا في الرضا والصبر في حكم القضاء * ما بات من عدم الرضا إلا على جمر الغضاء * الأصل 3 - ابن محبوب، عن هشام بن سالم قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن العمل الدائم القليل على اليقين أفضل عند الله من العمل الكثير على غير يقين. * الشرح


[ 190 ]

قوله (أن العمل الدائم القليل على اليقين) بذلك أو مطلقا. (أفضل عند الله من العمل الكثير على غير غير يقين) " لابد من اعتبار الدوام في العمل الكثير ليكون نصا على أن الافضلية بإعتبار اليقين ولعل السر فيه أن اليقين يوجب التقوى وكما الإخلاص والفضل يزداد بهما ولذلك قال أمير المؤمنين (عليه السلام) لا يقال عمل مع التقوى وكيف يقل ما يتقبل " وفيه ايماء إلى قوله تعالى * (إنما يتقبل الله من المتقين " وإشارة إلى أن المقبول من الاعمال لا يعد قليلا وكيف يعد قليلا ما يضاعف وينمو عند الله تعالى، وإلى أن العمل على غير يقين قد لا يكون مقبولا وقد سمع (عليه السلام) رجلا من الحرورية يتهجد ويقرأ فقال: " نوم على يقين خير من صلاة في الشك " وذلك لان صلاة الشاك فيما يجب الإعتقاد فيه لا تنفعه عقلا ونقلا، ونوم الموقن ينفعه. * الأصل 4 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الوشاء، عن أبان، عن زرارة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام) - على المنبر -: لا يجد أحد [ كم ] طعم الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه. * الشرح (لا يجد أحد [ كم ] طعم الإيمان) فيه مكنية وتخييلية حيث شبه الإيمان بالطعام في أنه غذاء للروح به ينمو ويبلغ حد الكمال كما أن الطعام غذاء للبدن. (حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه) إشارة إلى أن الإيمان بداية ونهاية وغاية فبداية حق ونهايته حقيقة كما أشار إليه اجمالا بقوله سابقا: أن على كل حق حقيقة وأن المؤمن ينبغى أن يسير في طرق الإيمان باكتساب مكارم الاخلاق حتى يبلغ أعلاه ويترقى بالمجاهدة والوفاء من حضيض النقصان إلى أن يبلغ ذراه فلا يزعجه الهوى ولا تحركه الشهوة والمنى ويقبل بكلية قلبه إلى المولى ويحقق ما قلنا قوله حتى يعلم لذكر الحقيقة بلفظ الغاية وهو حتى الموضوعة لها فجعلها حقيقة الإيمان المترقي إليها باستعمال وظائفه وليس المراد بهذا العلم العلم بسابق قدر الله ونفوذ حكمه فيما قدره وقضاء من عطاء ومنع وضر ونفع لأن هذا أو الإيمان وحقه الذي اشترك فيه المؤمنون كلهم (1)


1 - قوله " اشترك فيه المؤمنون كلهم " قد سبق منا مرارا خصوصا في مقدمة الكتاب أن اليقين بالمعني الذي ذكره الشارح أو لا وهو التصديق الثابت الجازم المطابق للواقع معنى واحد لا يقبل الشدة والضعف بنفسه وهو مناط الإيمان والإسلام إذ لم يحكم أحد من علماء المسلمين من صدر الإسلام إلى زماننا هذا باسلام من يظن صدق رسول الله تعالى، وإنما يحكم بما يدل على يقينه وعلمه المانع من إحتمال النقيض فلا بد أن يلتزم = (*)

[ 191 ]

اليقين حتى كأنه يعاينه كما أخير حارثة بحضرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنه مؤمن حقا وادعى حقيقة الإيمان فطالبه بامارات تلك الحقيقة التي ادعى بلوغها. فقالوا عزفت نفسي عن الدنيا إلى آخر ما ذكره، وما كان هذا الحديث إلا كما روى أن أفضل إيمان المرء أن يعلم أن الله معه حيث كان، فلو كان المراد الإعتقاد بأن الله معهم أينما كانوا علمأ واحاطة لم يكن للتفضيل معنى وفائدة لإشتراك الكل فيه فلابد من أن يراد بلوغ صاحب هذا الإيمان غاية يفضل بها على غيره فكذا المراد هنا أن أحدا لا يجد طعم الإيمان وحقيقته حتى ينتهى إلى غاية يعلم بها يقينا كالعين ان ما أصابه من خير وشر ونفع وضر لم يكن ليخطئه أي يجاوزه إلى غيره، وما أخطأه أي جاوزه إلى غيره لم يكن قط ليصيبه ولا يعرف بلوغ العبد إلى حقيقة هذا الإيمان والعلم إلا بظهور أماراته له ولغيره كما أبان حارثة أمارات ما ادعى من حقيقة إيمانه فيسلم له ويقف هو عند علمه ومن أمارات من بلغ حقيقة هذا اليقين والإيمان أنه يسكن عن طلب الدنيا وثمراتها، وعن التشرف إلى منافعها وزهراتها، وتعذيب القلب والخاطر بانتظارها وتمنيها ثقة بأن ما قسم له منها لا يجاوزه وما جاوزه إلى غيره لا يصيبه فيطمئن قلبه ويرضى بسابق قسمته له فلا يحرص في طلب المنافع ولا يتوجه قلبه إليها كأنه يخاف فيها منع مانع، ولا يتحرك في أسبابها إلا أن يتوجه إليه أمر المولى كقوله * (فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه " فالظاهر منه متحرك والباطن ساكن مطمئن موقن بأنه لا بد من كون جميع ما قدر الله كونه وإمضاءه. ومن لم يبلغ هذه المرتبة فعليه الصبر على ما يكره فإن فيه خيرا لعله يوصله إلى غاية مقام اليقين والرضا. قال بعض الاكابر: لله عباد لا يرضون له منهم بالصبر على ما قدرو قضى بل يتلقون أمر أحكامه باليقين والمحبة والرضا. * الأصل 5 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن زيد الشحام، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أن أمير المؤمنين صلوان الله عليه جلس إلى حائط مائل، يقضي بين الناس فقال: بعضهم، لا تقعد تحت هذا


= بتأويل ما يوهم خلاف ذلك والاظهر أن يحمل الدرجات والمراتب على درجات تغليب العقل على الوهم. إذ قد يتفق أن يعلم الإنسان شيئا علما يقينا ولكن يعارضه وهمه كمن يعلم بعقله أن الميت جماد لا يخاف ولكن يخاف منه بوهمه ومن يعلم أن الباطلة توجب الحرمان والفقر ولا يبالي به لمعارضة وهمه والمؤمن يجب أن لا يعتني بوهمه بكل حال ويغلب عليه، ويلتزم بلوازم يقينه ومثال علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين يشير إلى هذا التأويل فإن الذي يعلم بوجود النار، والذي يراها بعينه كلاهما عالمان. لا يحتمل عندهما عدم وجود النار لكن العين بابصارها تغلب على الوهم غلبة لا تحصل من العلم. والذي ماس النار وأدرك ألم الحدق يجتنب عنها أكثر ممن لم يدركه وهذا حاصل بالتجربة في أفراد الناس، وفي أمثالنا ما معناه لسيع الحية يخاف من الحبل وذكرنا هناك تأويلا آخر ينطبق على كثير من الروايات. (ش) (*)

[ 192 ]

الحائط، فإنه معور فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): حرس امرء أجله فلما قام سقط الحائط قال: وكان أمير المؤمنين (عليه السلام) مما يفعل هذا وأشباهه وهذا اليقين. * الشرح قوله (فإنه معور) بضم الميم وسكون العين وكسر الواو أي ذوعوار يفتح العين وضمها يعنى فيه عيب وخلل يخاف منه القطع والهدم. (حرس أمرء أجله) امرء مرفوع على الفاعلين وأجله منصوب على المفعولية والعكس محتمل والمقصود الإنكار لأن أجل المرء ليس بيده حتى يحرسه. (وهذا اليقين) بالقدر فإنه يسكن النفس في مثل هذه المواضع لعلمه يقينا بأن كل ما قد وقوعه فهو واقع فلا ينفع الفرار منه وكل ما قدر عدم وقوعه فهو غير واقع فلا يضر عدم الفرار. لا يقال لعل تقدير عدم وقوع الحائط عليه مثلا مشروط بالفرار طلبا للقدر وتحرزا عن الهلاك لانا نقول الفرار وعدمه أيضا داخلان في التقدير، ومن جملة المقدر فإن كان المقدر هو الفرار. وقع قطعا وإن كان عدمه لم يقع. فإن قلت لا معنى حينئذ للتكليف بالفرار. قلت التكليف به تكليف بالمقدور التكليف بالمقدر أيضا مقدر فهو واقع على أنه يمكن أن يقال مناط التكليف به إمكانه في ذاته، أو التكليف به مختص بغير الموقن لأن الموقن يتوكل على الله، ويفوض أمره إلى فيقيه عن كل مكروه كما قال عز وجل * (أليس الله بكاف عبده " وكما قال مؤمن آل فرعون * (وأفوض أميري إلى الله إن الله يصير بالعباد فوقاه الله سيئات ما مكروا " وسر ذلك أن المؤمن الموقن المتوكل المفوض امره إلى الله إذا بلغ إيمانه وإيقانه وتوكله وتفويضه حد الكمال لا ينظر إلى الاسباب والوسائط في النفع والضر ولا يتعلق قلبه بها أصلا وإنما كان نظره إلى مسبب الاسباب وتعلق قلبه به وحده وأما من لم يبلغ حد الكمال ولم يغلب عليه مشاهدة اليقين كآحاد المؤمنين فإنه يخاطب بالفرار قضاء لحق الوسائط. هذا الذي ذكرنا من باب الإحتمال والله أعلم بحقيقة الحال. * الأصل 6 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر عن صفوان الجمال قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: * (وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في مدينة وكان تحته كنز لهما) * فقال: أما إنه ما كان ذهبا ولا فضة وإنما كان أربع كلمات: لا إله إلا أنا، من أيقن بالموت لم يضحك سنه، من أيقن بالحساب لم يفرح قلبه، ومن أيقن بالقدر لم يخش إلا الله. * الشرح قوله (وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين) قال القرطبي كان اسمهما اصرم واصيرم، وقال عياض


[ 193 ]

كان أبوهما الصالح جدهما السابع وكان اسمع كاشحا. ففيه أنه تعالى يحفظ الصالح في نفسه وولده وإن بعدوا كما يشعر به قوله تعالى * (إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين " وورى أنه تعالى يحفظه في سبعة من ذريته. (وإنما كان أربع كلمات) حث بالاولى على التوحيد المطلق والتنزيه عن جميع ما لا يليق به تعالى، وبالثاني على تذكر الموت والإستعداد لما بعده والتحزن لاحوال البرزخ، وبالثالثة على تذكر أحوال القيامة وأهوالها سيما الحساب الذي لا يعلم مآل أحواله وهو يوجب زوال الفرح والسرور عن القلب، وبالرابعة على اليقين بالقدر والخوف من الله وحده واقتصر بذكر هذه الخصال لأن الإتصاف بها يوجب البلوغ إلى غاية الكمال. (لا إله إلا الله أنا من أيقن بالموت لم يضحك سنه) السن معروف ويحتمل أن يراد به العمر أي لم يضحك في مدة عمره لأن الضحك ينشأ من الفرح والسرور والموقن بالموت وشدائده وما بعده من القبر وسؤال منكر ونكير فيه وأهوال البرزخ والقيامة والجنة والنار قلبة محزون مغموم دايما لعدم بمال حاله وما يفعل به في تلك المواطن فينقطع عنه أسباب السرور بالكلية. (ومن أيقن بالحساب) عن القليل والكثير. (لم يفرح قلبه) لشدة الحزن والخوف من رجحان سيئاته على حسناته ويوجب ذلك إشتغاله بمحاسبة النفس قبل أن تحاسب. (ومن أيقن بالقدر) قيل المراد به التقدير كما أن المراد بالقضاء الخلق على وفق التقدير، وقيل المراد به تعلق علم الله سبحنه وارادته بالكائنات قبل وجودها. (لم يخشى إلا الله) ومن علامات تخليه الظاهر والباطن عن الرذائل وتحليتهما بالفضائل وعدم الرجوع في جلب النفع ودفع الضر إلا إلى الله. قال عياض قيل: الكنز كان لوحا من ذهب مكتوبا في جانب منه " بسم الله الرحمن الرحيم عجبت لمن أيقن بالقدر ثم نصب عجبت لمن أيقن بالنار ثم ضحك " وفي رواية " لا إله أنا محمد عبدي ورسولي " وفي الشق الاخر " أنا الله الذي لا إله أنا وحدي ولا شريك لي خلقت الخير والشر فطوبى لمن خلقته للخير وأجريته على يديه والويل لمن خلقته للشر وأجريته على يديه " وقيل المكتوب " عجبت لمن آمن بالقدر كيف يحزن ولمن آمن بالرزق كيف يتعب ولمن أيقن بالموت كيف يفرح إله إلا الله محمد رسول الله ". وقيل كان الكنز ما لا مدفونا إنتهى. * الأصل 7 - عنه، عن علي بن الحكم، عن صفوان الجمال، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: لا يجد عبد طعم الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وأن ما أخطأه لم يكن


[ 194 ]

ليصيبه وأن الضار النافع هو الله عز وجل. * الشرح قوله (لا يجد عبد طعم الإيمان) أي لذته وحقيقته (حتى يعلم) يقينا لا يعتريه شك. (ان ما أصابه لم يكن ليخطئه وأن من أخطأه لم يكن ليصيبه) لتيقنه بأن ما أصابه علم الله أزلا بأنه يصيبه فيستحيل أن لا يصيبه، وما أخطأه علم الله بأنه لا يصيبه فيستحيل أن يصيبه كل ذلك لاستحالة أن يصير علمه جهلا هذا فيما لا اختيار للعبد فيه مثل الصحة والسقم والحسن والقبح والطول والقصر إلى غير ذلك ظاهر، فأما في فعله الإختياري مثل الصلاة وتركها والشرب وتركه. والقتل وعدمه إلى غير ذلك فكذلك لعلمه تعالى في الازل بكل ما يق فلا بد من أن يقع لما ذكر ولكن علمه ليس علة لوقوعه بل تابع له، وقد مر توضيحه في كتاب التوحيد. (وأن الظار النافع هو الله عز وجل) الضر والنفع منه تعالى بلا واسطة، والضر يعود إلى النفع العظيم كحمى يوم مثلا فإنها توجب ثوابا جزيلا، وأما الضر والنفع المستندان إلى الغير ظاهرا فهما مستندان إلى الله تعالى عز شأنه باطنا لأنه أقدره عليهما، فاذن ليس الضار النافع إلا هو، فاذن لا بد لكل أحد أن لا يطلب الخير الامنه، ولا يلوذ في دفع الضر إلا إليه. * الأصل 8 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الوشاء، عن عبد الله بن سنان، عن أبي حمزة، عن سعيد بن قيس الهمداني قال: نظرت يوما في الحرب إلى رجل عليه ثوبان فحركت فرسي فإذا هو أمير المؤمنين (عليه السلام) فقلت: يا أمير المؤمنين في مثل هذا الموضوع ؟ فقال: نعم يا سعد ابن قيس إنه ليس من عبد إلا وله من الله حافظ وواقعية معه، ملكان يحفظانه من أن يسقط من رأس جبل أو يقع في بئر، فإذا نزل القضاء خليا بينه وبين كل شئ. * الشرح قوله (ملكان يحفظانه) بدل من حافظ وواقعية، والقضاء الامر أو الحكم بوقوع الشئ على النحو المقدر والحاصل أن مع وجود الحافظ لا يضر شئ ومع عدمه لا ينفع شئ فليس في تحمل آلات الحرب مثل الدرع وغير فائدة وهذا أمر يقتضيه اليقين بالله وبقدره. فإن المستغرق في بحر اليقين لا يرى غيره ولا يخاف أحدا سواه فظلا عن أن يتحرز منه ويحتز من شره، وأما غيره فلما لم يكن له هذه المرتبة كان عليه التمسك بالاسباب والجريان على ظاهر الشعريعة. * الأصل 9 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن علي بن أسباط قال: سمعت أبا الحسن الرضا (عليه السلام)


[ 195 ]

يقول: كان في الكنز الذي قال الله عز وجل: * (وكان تحته كنز لهما) * كان فيه بسم الله الرحمن الرحيم عجبت لمن أيقن بالموت كيف يفرح وعجبت لمن أيقن بالقدر كيف يحزن وعجبت لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يركن إليها وينبغي لمن عقل عن الله أن لايتهم الله في قضائه ولا يستبطئه في رزقه، فقلت: جعلت فداك اريد أن أكتبه قال: فضرب والله يده إلى الدواة ليضها بين يدي، فتناولت يده، فقبلتها وأخذت الدواة فكتبته. * الشرح قوله (كان فيه بسم الله الرحمن الرحيم) كان فيه تأكيد لما سبق والقضاء مشترك بين الحكم والامر ويحمل على أحدهما بالقرينة، وهو هنا يحتمل كلا المعينين، ولا ينافي هذا الخبر ما مر ولا ما ذكرنا من طرق العامة وأقوالهم، لجواز أن يكون كل ذلك مكتوبا فيه. * الأصل 10 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن عبد الرحمن العرزمي، عن أبيه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان قنبر غلام علي يحب عليا (عليه السلام) حبا شديدا فإذا خرج علي صلوات الله عليه خرج على أثره بالسيف، فرآه ذات ليلة فقال: يا قنبر ! مالك ؟ فقال: جئت لأمشي خلفك يا أمير المؤمنين قال: ويحك أمن أهل السماء تحرسني أو من أهل الأرض ؟ ! فقال: لا، بل من أهل الأرض، فقال: إن أهل الأرض لا يستطيعون لي شيئا إلا باذن الله من السماء فارجع، فرجع. * الشرح قوله (إن أهل الارض لا يستطيعون لي شيئا إلا باذن الله) فيه وفيما بعده اشارة إلى أن الايمان بالقدر والاقان به كما روى عنه " ولكل امرء عاقبة سوف يأتيك ما قدر لك " ومن كلامه (عليه السلام) لما خوف من الغية " وإن على من الله جنة حصينة فإذا جاء يومى انفرجت عني وأسلمني " أراد بيومي حضور الموت، وبالانفراج زوال أسباب الحياة المستلزم لعدمها وباسلام الجنية اسلامها له إلى المنية تشبيها للجنة بمن يحفظه ثم يستلمه إلى القاتل، ومن كلامه المنظوم: في أي يوم من الموت افر * ايوم يقدر أم يوم قدر فيوم لم يقدر فلا أرهبه * ويوم قد قدر لا يغني الحذر وفي ذلك ملاحظ لقوله تعالى " وما كان لنفس أن تموت إلى تموت إلى باذن الله كتابا مؤجلا فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون " وقد أشرنا سابقا إلى أن الموقن بالله وقدره لما كان توسله بالله تاما بالغا حد الغاية كان الله يكفيه، ويحصل له أسباب النفع ويدفع عنه أسباب الضر ومن يتوكل على الله فهو حسبه. وأما غيره فلما لم يكن له مثل هذا التوسل والتوكل فربما كان


[ 196 ]

تمسكه بأسباب النفع سببا وشرطا لحصوله له، وفراره عن أسباب الضر باعثا لدفعه عنه. 11 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس عمن ذكره قال: قيل للرضا (عليه السلام): إنك تتكلم بهذا الكلام والسيف يقطر دما، فقال: إن لله واديا من ذهب، حماه بأضعف خلقه: النمل: فلو رامه البخاتي لم تصل إليه.


[ 197 ]

* الأصل (باب الرضا بالقضاء) 1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن جميل بن صالح، عن بعض أشياخ بني النجاشي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: رأس طاعه الله الصبر والرضا عن الله فيما أحب العبد أو كره ولا يرضى عبد عن الله فيما أحب أو كره إلا كان خيرا له فيما أحب أو كره. * الشرح قوله (قال رأس طاعة الله الصبر والرضا عن الله فيما احب العبد أو كره) الرأس العضو المعروف والاصل ومنه رأس المال والاشراف قدرا، ومنه رئيس القوم. وكل واحد منهما محتمل والاول من باب المكنية والتخليلية، والصبر نوع من العفة الحاصلة من الاعتدال في القوة الشهوية، وهو قوة للسان يقتدر بها على حبس نفسه على الامور الشاقة مثل البليات والمصيبات، وفعل الطاعات وترك المنهيات، والرضا عن الله بقضائه فيما أحبه العبد مثل الصحة في الجسم، والسعة في الرزق، ونحوهما، أو فيما كرهه مثل القسم والضيق وغيرهما عبارة عن الإقبال إلى الواردات عن الحق وتلقيها بالقبول، والسرور بها لكونها تحفة وهدية منه تعالى له منافع كثيرة والقضاء الامر والحكم والخلق على وفق التقدير الازلي، ومن ثمة قيل: القضاء والقدر متلازمان لا ينفك أحدهما عن الاخر إذ القدر بمنزلة الاساس والقضاء بمنزلة البناء ووجه كون الصبر والرضا رأس الطاعة ظاهر إذ بانتفاء الصبر في المصيبات والعبادات والمنهيات يتحقق الجزع والشكوى عن الله. وترك الطاعات وفعل المنهيات وكل ذلك يوجب انتفاء الطاعة، وبانتفاء الرضا يتحقق السخط وهو أيضا يوجب انتفاء الطاعة لأن بناء الطاعة على المحبة، وبناء السخط على البغض، وهما لا يجتمعان. واعلم أن رضا العبد وسروره فيما أحب سهل. لأنه موافق لطبعه. وأما رضاه فيما كرهه فصعب لأنه مخالف لطبعه وميله إلى شئ وإلى ضده مشكل، ومن ثمة ذهب جماعة من الناس إلى أن الرضا بما يستكرهه الطبع ويخالف هوى النفس كالبلايا والمصائب غير ممكن، وغاية ما يمكن هي الصبر عنه، والجواب عنه أن الرضا ثمرة المحبة الكاملة ومحبة العبد للرب إذا بلغت حد الكمال يمكن يرجع إرادة نفسه. بل يمكن أن لا يرى لنفسه مرادا غير موارده تعالى لاستغراقه في بحر المحبة، أو لأن فعل المحبوب مثله محبوب أو لأنه لا يجد في نفسه الالم لاشتغال قلبه به. وغفلت عن نفسه فضلا عن الامور الموافقة لها، كما أن المجاهد لتوغله في الجهاد قد لا يجد ألم الجراحة وبالجملة هو أمر ممكن إلا أنه صعب نادر ثم الرضاء بالشئ لا ينافي الدعا لرفعه خلافا لطائفة من المتصوفه


[ 198 ]

المبتدعة حيث قالوا: إن شرط الرضاء ترك الدعاء لرفع البلاء وطلب النعماء. لأن طلب رفع امر وارد منه تعالى وحصول غير ينافي الرضا بما حكم به، وهم في طرف الافراط، ولاطائفة الاولى في طرف التفريط. والجواب عنه أولا بالنقض وهو أن دعاء الانبياء والاوصياء وحثهم عليه أمر مشهور، وفي الكتب السماوية وغيرها مذكرو ولا ينكره أحد من أهل الإسلام، وثانيا بالمنع لا نا لا نسلم أن الطلب المذكور ينافي الرضاء وإنما امنافي له استكراره النفس بالواردات من عند الله تعالى والطلب لا يستلزم الإستكراره، وثالثا بالحل وهو أن الدعاء عبادة أمر الله تعالى بها غير مرة لتضمنها انكسار القلب وعجزه وتضرعه وتواضعه وخشوعه ومخالفة امر الله تعالى تنافي الرضا وههنا بحث مشهور وهو أن المعصية والفكر بلية، والرضا بهما معصية وكفر فكيف يعد من الفضائل وكيف يطلبه الشارع، واجيب عنه بأنه مستثنى لورود النهي عنه كما نقله الغزالي، وأجاب هو بأن المعصية من قضاء الله تعالى ولكن لها وجهان: أحدهما كونهما من فعل العبد بإختياره وسببا لمقته، وثانيهما كونها بقضاء الله وتقديره عدم خلو العالم منها ولا بد من الرضا بها على هذا الوجه دون الاول الذي هو صدورها من العبد، واجيب عنه أيضا بأن الرضاء بالقضاء لا يستلزم الرضاء بالمقتضى. والمقتضى إن كان فعله تعالى أو فعل العبد وهو خير، فالرضاء به مطلوب من دليل خارج وقد مر لهذا زيادة توضيح في كتاب العقل في حديث جنوده. (ولا يرضى عبد عن الله فيما أحب أو كره إلا كان خيرا له فيما أحب أو كره) اسم كان راجع إلى ما قضاه الله بقرينة المقام أي كاف ما قضاه الله خيرا للعبد فيما أحبه وما كره لاشتماله على مصالح جليلة جلية أو خفية كما قال سبحانه " عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم " أو إلى رضاء العبد وهو خير له لأنه يوجب أجرا عظيما وذلك كما أن الدواء مر في مذاق المريض مكروه له إلا أنه خير له في المواقع، فكما أن الحكيم منا يداوى المريض بما هو خير له، وإن كان مكروها لطبعه كذلك الحكيم يفعل بعباده ما هو خير لهم. * الأصل 2 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن أبيه، عن حماد بن عيسى عن عبد الله بن مسكان، عن ليث المرادي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن أعلم الناس بالله أرضاهم بقضاء الله عز وجل. * الشرح قوله (ان أعلم الناس بالله أرضاهم بقضاء الله عز وجل) دل على أن الرضاء بالقضاء تابع للعلم والمعرفة، وأنه قابل للشدة والضعف مثلهما، والوجه فيه أو بناء الرضاء على العلم بأنه عدل حكيم يفعل الأشياء على ما يقتضيه الحكمة والمصلحة، فكلما كان العمل بالله أزيد وأتم كان الرضاء


[ 199 ]

بقضائه أكثر وأعظم. وأيضا الرضاء به ثمرة المحبة والمحبة تابعة للعلم به فكلما زاد العلم زادت المحبة وكما زادت المحبة زاد الرضاء به ألا ترى أن المحبة إذا بلغت حد الكمال وجد المحب كلما صدر من الحبيب لذيذا موافقا لطبعه وإن كان كريها بالنسبة إلى الغير سيما إذ علم أن الحبيب يجعل ذلك وسيلة إلى البر والإحسان. * الأصل 3 - عنه، عن يحيى بن إبراهيم بن أبي البلاد، عن عاصم بن حميد، عن أبي حمزة الثمالي، عن علي بن الحسين (عليهم السلام) قال: الصبر والرضا عن الله رأس طاعة الله ومن صبر ورضي عن الله فيما قضى عليه فيما أحب أو كره لم يقض الله عز وجل له فيما أحب أو كره إلا ما هو خير له. * الشرح قوله (ومن صبر ورضى عن الله فيما قضى عليه) دل بحسب المفهوم على أن من لم يصبر ولم يرض قد يقضى الله عليه ما هو شر له فلابد من القول بأن المفهوم غير معتبر، أو القول بأن ما قضاه شر له لفقده أجر الصبر والرضاء، أو في نظره وبخلاف الصابر والراضي فإنه خير، في نظرهما، وفي الواقع. * الأصل 4 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن محبوب، عن داود الراقي عن أبي عبيدة الحذاء، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال الله عزوجل: إن من عبادي المؤمنين عبادا لا يصلح لهم أمر دينهم إلا بالغنى والسعة والصحة في البدن فأبلوهم بالغنى والسعة وصحة البدن، فيصلح عليهم أمر دينهم وإن من عبادي المؤمنين لعبادا لا يصلح لهم أمر دينهم إلا بالفاقة والمسكنة والسقم في أبدانهم فأبلوهم بالفاقة والمسكنة والسقم، فيصلح عليهم أمر دينهم وأنا أعلم بما يصلح عليه أمر دين عبادي المؤمنين وإن من عبادي المؤمنين لمن يجتهد في عبادتي فيقوم من رقاده ولذيذ وساده فيتجد لي الليالي فيتعب نفسه في عبادتي فأضربه بالنعاس الليلة والليلتين نظرا مني له وإبقاء عليه، فينام حتى يصح فيقوم وهو ماقت لنفسه زارئ عليها ولو اخلي بينه وبين ما يريد من عبادتي لدخله العجب من ذلك فيصيره العجب إلى الفتنة بأعماله فيأتيه من ذلك ما فييه هلاكه لعجبه بأعماله ورضاه عن نفسه حتى يظن أنه قد فاق العابدين وجاز في عبادته حد التقصير فيتباعد مني عند ذلك وهو يظن أنه يتقرب إلي، فلا يتكل العاملون على أعمالهم التي يعلمونها لثوابي فإنهم لو اجتهدوا وأتبعوا أنفسهم وأفنوا أعمارهم في عبادتي كانموا مقصرين غير بالغين في عبادتهم كنه عبادتي


[ 200 ]

فيما يطلبون عندي من كرامتي والنعيم وجناتي ورفيع درجات العلى في جواري ولكن فبرحمتي فليثقوا وبفضلي فليفرحوا وإلى حسن الظن بي فليطمأنوا، فإن رحمتي عند ذلك تداركهم، مني يبلغهم رضواني ومغفرتي، تلبسهم عفوي فإني أنا الله الرحمن الرحميم وبذلك تسميت. * الشرح قوله (قال الله عز وجل ان ما عبادي المؤمنين عبادا لا يصلح أمر دينهم إلا بالغنى والسعة والصحة في البدن فابلوهم بالغنى والسعة وصحة البدن فيصلح عليهم أمر دينهم) الدنيا والإمتحان. فيختبر الغنى بالغنى ليرى أنه يشكره أم يكفره، ولعله بأنه أصلح لدينه، ويختبر الفقير بالفقر ليختبره بأنه يصبر أم يشكو ولعلمه بأنه أصلح لدينه، ووجوه الإبتلاء والإختبار متكثرة وطرق الإمتحان متعددة، والله تعالى عالم يبلو كل أحد بما هو أصلح له فلو اختبر العنى بالفقر أو العكس لفسد دينهما وقس عليها. (وهو ماقت لنفسه زارئ عليها) أي مبغض لها مصبيب ومعاتب عليها لتقصيرها في العبادة، وتركها بالنوم وهذا مع كونه دافعا للعجب من أعظم العبادات. (ولو اخلي بينه وبين ما يريد من عبادتي لدخله العجب) وهو ابتهاج الإنسان وسروره بتصور الكمال في نفلسه واستعظامه إياه لا من حيث أنه من عطاياه تعالى ونعمائه عليه مع طلب زيادته، والخوف من نقصه أو زواله، بل من حيبث أنه وصف له موجب لعلو قدره ورفع درجته وسمو مرتبته وخروجه عن حد النقص والتقصير مع الغفلة عن قياس نفسه إلى الغير بكونه أكمل وأفضل منه، وبهذا القيد ينفصل عن الكبر إذ لابد فيه أن يرى لنفسه مرتبة، وللغير مرتبة ثم يرى مرتبته فوق مرتبة غيره، والعجب من أعظم الذنوب المهلكة حتى روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال " لو لم تذنبوا لخشيب عليكم ما هو أكبر من ذلك العجب العجب " وفيه دلالة على أنه تعالى قد يبلوا العبد بالذنب ليدفع عنه العجب. (فلا يتكل العاملون على أعمالهم التي يعلمونها لثوابي) وإن كانت حسنة تامة الأركان والأفعال لانهم، وإن بالغوا واجتهدوا كانوا مقصرين غير بالغين كنه العبادة وحقيقتها ولأنه لا قدر لعبادته في جنب ثوابها وهو الجنة ونعيهما درجاتها وقرب الحق ولأن مفسدات العبادة كثيرة لا يتحقق العلم بخلوصها منها إلا عند المعاينة وحضور الموت، وفيه دلالة على أنه يجوز العمل لقصد الثواب. (وإلى حسن الظن بي فليطمئنوا) كان يظن منه الغفران حين يستغفر وقبول العمل حين يعمل، والتوبة إذا تاب، والأجابة إذا دعا، والكفاية إذا استكفاه ونحو ذلك. وبالجملة ينبغي أن يعمل ولا


[ 201 ]

يتكل بحسن عمله وكثرته بل يحسن ظنه بالله في قبول عمله ورفع درجته وإحسانه، وأما من يحسن ظنه بالله بدون العمل فهو أحمق ونظيره من لم يزرع في وقته ويتوقع الحصاد كما يتوقعه الزارعون. * الأصل 5 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن صفوان الجمال، عن أبي الحسن الأول (عليه السلام) قال: ينبغي لمن عقل عن الله أن لا يستبطئه في رزقة ولا يتهمه في قضائه. * الشرح قوله (ينبغي لمن عقل عن الله أن لا يسترطئه في رزقه) المجرور في رزقة يعود إلى الله أو إلى " من " أي من عرفه ينبغي أن لا ينب إليه البطؤ والبخل في إيصال الرزق كاليهود قالوا يد الله مغلولة. (ولا يتهمه في قضائه) بالظلم والجور أو بنفيه، أولا يشك فيه بل يستيق من اتهمته في قوله بمعنى شككت في صدقه. * الأصل 6 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن محمد بن إسماعيل، عن علي بن النعمان، عن عمرو بن نهيك بياع الهروي قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): قال الله عزوجل عبدي المؤمن لا أصرفه في شئ إلا جعلته خيرا له، فليرض بقضائي وليصبر على بلائي وليشكر نعمائي أكتبه يا محمد من الصديقين عندي. قوله (عن عمرو بن نهيك بياع الهروي) قال في المغرب ثوب هروي بالتحريك ومروى بالسكون منسوب إلى هرات ومروا، وهما قريتان معروفتان بخراسان، وعن خواهر زاده هما على شط الفرات ولم يسمع ذلك لغيره وفي الإشكال سوى هراة خراسان هراة اخرى هي بنواحي اصطخر من بلاد فارس. (أكتبه يا محمد في الصديقين عندي) الصدق راست گفتن وراست شدن وراست داشتن والمراد هنا تقويم العبد ظاهر وباطنه وتقويم الباطن يتحقق بتخليته عن الرذائل وتحليته بالفضائل وتقويم الظاهر يتحقق بفعل الطاعات وترك المنهيات وإليه يشير قوله تعالى * (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسله ثم لم يرتابوا - إلى قوله - الئك هم الصادقون " ولاريب في أن الصدق بهذا المعنى قابل للزيادة والنقصان، ومن بلغ حد الكمال هو الذي قطع منازل الناسوتية ورفع عوائق البشرية حتى شاهد جمال الأسرار وجلال الحق، واستغرق في توحيده بحيث لا يطلب إلا إياه ويغفل عن مشاهدة ما سواه.


[ 202 ]

* الأصل 7 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن مالك بن عطية، عن داود بن فرقد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أن فيما أوحى الله عز وجل إلى موسى بن عمران (عليه السلام): يا موسى بن عمران ما خلقت خلقا أحب إلي من عبدي المؤمن فإني إنما ابتليته لما هو خير له واعافيه لما هو خير له، وأزوي عنه ما هو شر له لها هو خير له، وأنا العم بما يصلح عليه عبدي، فليصبر على بلائي وليشكر نعمائي وليرض بقضائي، أكتبه في الصديقين عندي، إذا عمل برضائي وأطاع أمري. * الشرح (إذا عمل برضائي وأطاع أمري) لعل المراد أن كتب من اتصف بالخصال المذكورة وهي الصبز على البلاء والشكر على النعماء والرضاء بالقضاء في زمرة الصديقين مشروط بالعمل بما فيه رضا الله تعالى وأطاعة أمره بالشرائع والأحكام ولا يتحققق ذلك إلا بأخذها من أهل العلم. * الأصل 8 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان بن يحيى، عن فضيل ابن عثمان، عن ابن أبي يعفر، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: عجبت للمرء المسلم لا يقضي الله عز وجل له قضاء إلا كان خيرا له وإن قرض بالمقاريض كان خيرا له وإ ملك مشارق الأرض ومغاربها كان خيرا له. * الشرح قوله (عجب للمرة المسلم لا يقضى الله عز وجل له قضاء إلا كان خيرا له) أي عظمت له ذلك وأعده أمرا عظيما لكونه تفضلا مشتملا على نفع عظيم وخير خزيل، والأصل أن الإنسان لا يتعجب من الشئ إلا إذا عظم موقعه عنده وخفى عليه سببه فأخبره (عليه السلام) بذلك ليعلم موقع القضاء ويرضى به لعلو منزلته، وإنما حملنا تعجبه (عليه السلام) على المجاز لأنه لا يخفي عليه أسباب القضاء والتعجب ما خفى سببه ولم يعلم وجهه، والمقاريض جمع المقراض بالكسر وهو آلة القرض، تقول: قرضت الشئ قرضا من باب ضرب أي قطعته. * الأصل 9 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن سنان، عن صالح بن عقبة عن عبد الله بن محمد الجعفي، عن أبى جعفر (عليه السلام) قال: أحق خلق الله أن يسلم لما قضى الله عز وجل: من عرف الله عز وجل. ومن رضي بالقضاء أتى عليه القضاء وعظم الله أجره، ومن سخط القضاء معضى عليه القضاء وأحبط الله أجره.


[ 203 ]

* الشرح قوله (أحق خلق الله أن يسلم لما قضى الله عز وجل من عرف الله عز وجل) أي من عرف الله حق معرفته وعرف حكمته وعدله ولطفه وإحسانه فهو أحق أن يسلم ما قضاه الله عليه من غيره لأن التسليم له، تابع للمعرفة فكلما كانت المعرفة أكمل وأكثر كان التسليم أولى وأجدر. (ومن رضى بالقضاء أتى عليه القضاء وعظم الله أجره) تعظيم الأجر لجريان القضاء عليه والرضا به، فله أجر أن كاملان، وأما الاحباط فيحتمل أن يكون المراد به احباط أجر الرضا، أو احباط أجر جريان القضاء أيضا ويؤيد الأول ما روى عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال " ثواب المؤمن من ولده إذا مات الجنة صبر أو لم يصبر ". * الأصل 10 - علي بن إبراهيم، عن أبيه عن القاسم بن محمد، عن المنقري، عن علي ابن هاشم بن البريد، عن أبيه قال: قال [ لي ] علي بن الحسين صلوات الله عليهما: الزهد عشرة أجزاء، أعلا درجة الزهد أدنى درجة الورع، وأعلى درجة الورع أدنى درجة اليقين، وأعلى درجة اليقين أدنى درجة الرضاء. * الشرح قوله (الزهد عشرة أجزاء، أعلا درجة الزهد أدنى درجة الورع، وأعلى درجة الورع أدنى درجة اليقين، وأعلى درجة اليقين أدنى درجة الرضاء) دل على أن الرضاء فوق اليقين، واليقين فوق الورع، والورع فوق الزهد وجه الترتيب أن الدنيا رأس كل خطيئة فلابد للسالك من الزهد فيما أو لا، ثم بعد الزهد يسهل له ترك المعصية لأن المعصية كلها عايدة إلى الدنيا فيصحل له مرتبة الورع. فإذا حصلت له هذه المرتبة قرب من الحق فيحصل له مرتبة عين اليقين أو حق اليقين، واليقين يوجب المحبة فيحصل له الرضاء لأن الرضاء لازم للمحبة وتابع له وعلى أن لكل واحد منها عشرة أجزاء كل جزء يصدق عليه اسم الكل، فكل جزء من الزهد مثلا زهد فله أفراد متفاوتة والظاهر أن كل جزء فوقاني مشتمل على جزء تحتاني مع زيادة فعلى هذا الجزء العاشر من الزهد مثلا عبارة عن الزهد على وجه الكمال، وإنما قلنا الظاهر ذلك لا حتمال أن يكون العاشر جزء من الزهد الكال كالسوابق، وإن شئت زيادة توضيح المقال فنقول على سبيل الإجمال أن كل خصلة من خصال الخير ليست لها مرتبة شخصية لا تقبل الزيادة والنقصان. بل لها عرض عريض يمكن أن يفرض فيها درجات بعضها فوق بعض، والعلم بتلك الدرجات تفصيلا وتعيينا ليس في وسعنا، وإنما هو عند أهله ففرضها عشرة وبين تفاوت مراتبها على سبيل الاجمال وتفاوت مراتب بعض الخصال على


[ 204 ]

سبيل التفصيل وأشار بذلك إلى الرضاء فوق الجميع، ومن ثم كان مقام الرضاء فوق جميع مقامات السالكين لأن الرضاء ثمرة المحبة الكاملة إذا المحبة في الجملة تكون في كل مؤمن مع انتفاء فضيلة الرضاء عن أكثرهم والمحبة الكاملة ثمرة اليقين بالله وبالكمال ذاته وصفاته وصدق مقاله وحسن فعاله بحيث يرى كل سبب من أسباب المحبة مختصا به، واليقين ثمرة الورع، وهو والأعراض عن كل ما يوجب الإثم، والورع ثمرة الزهد وهو الأعراض عن الدنيا وزهراتها المانعة من السير إلى الحق، وبالجملة السالك إذا أخذ ما يعينه، وترك ما لا يعنيه وصل إلى مقام المشاهدة وإذا وصل إلى هذا المقام يستولى على قلبه المحبة التامة، وإذا حصلت له المحبة حصلت له فضيله الرضاء فيرضى بكل ما صدر منه كما هو شأن المحب مع محبوبه. * الأصل 11 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن محمد بن علي، عن علي بن أسباط، عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لقى الحسن بن علي (عليهم السلام) عبد الله بن جعفر فقال: يا عبد الله ! كيف يكون المؤمن مؤمنا وهو يسخط قسمه ويحقر منزلته والحاكم عليه الله، وأنا الضامن لمن لم يهجس في قلبه إلا الرضاء أن يدعو الله فيستجاب له. * الشرح قوله (كيف يكون المؤمن مؤمنا) " كيف " للإنكار والمقصود نفي الكمال إن لم يقصد تحقير الحاكم. (وهو يسخط قسمه) الواو للحال والقسم - بالكسر - الحصة والنصيب المقدر له لصلاح حاله. (ويحقر منزلته) عند الله تعالى لأنه تعالى جعل ذلك قسما له لرفع منزلته فتحقير القسم السبب لها تحقير لها. (والحاكم عليه الله) عطف على منزلته، و " الله " بدل على الحاكم. أي ويحقر الحاكم عليه وهو الله لأن تحقير حكم الحاكم تحقير له، ويحتمل أن يكون الواو للحال والحاكم حينئذ مبتدأ والله خبره، والمقصود أن تحقير القسم والمنزلة مستلزمة لتحقير الله لأنه الحاكم عليه، أو أنه لا جور في تقسيمه فكيف يحقر ما قدره له من القسم. (وأنا الضامن لمن لم يهجس في قلبه إلا الرضاء) هجس الأمر في القلب أي وقع وخطر (أن يدعو الله فيستجاب له) الرضاء بالقسم شكر للنعمة والمنعم وهو يوجب الزيادة فيكف إذا طلبها من الله فإنه لا يرده. * الأصل


[ 205 ]

12 - عنه، عن أبيه، عن ابن سنان، عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له بأي شئ يعلم المؤمن بأنه مؤمن ؟ قال: بالتسليم لله والرضاء فيما ورد عليه من سرور أو سخط. * الشرح قوله (بأي شئ يعلم المؤمن بأنه مؤمن) لعل المراد بالمؤمن المؤمن الكامل وله علامات أقواها التسليم لله في حكمه وتلقيه بالقبول ظاهرا وباطنا والرضاء بكل ما ورد عليه مما يوجب السرور أو السخط ويوافق الطبع أو يخالفه. قال المحقق الطوسي في أوصاف الأشراف نقل إن واحد من أهل الرضاء مضى له سبعون سنة ولم يقل ليت كان ذاك وليت لم يكن هذا وسئل أي أثر بلغك من الرضاء قال بلغني شائبة من الرضاء وريح منه ومع ذلك لو جعلني الله صراط جهنم ومر على الخلايق كلهم ودخلوا الجنة ثم أدخلني وحدي في النار لم يخطر ببالي لم كان حظى هذا وحظ غيرى ذاك. * الأصل 13 - عنه، عن أبيه، عن ابن سانا، عن الحسين بن المختار، عن عبد الله ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لم يكن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول لشئ قد مضى: لو كان غيره. * الشرح قوله (لم يكن رسول الله (عليه السلام) يقول لشئ قد مضى لو كان غيره) روى مسلم عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: وأن أصابك شئ فلا تقل لو أنى فعلت كذا لم يصبنى كذا فإن " لو " تفتح عمل الشيطان " (1) ينبغي للمؤمن من أن يطلب من طريق أحله الله ما ينتفع به في أمر دنياه وآخرته الذي يصون به دينه وعياله ومروته وعرضه، ولا يعجز في تحصيل ذلك ويتكل على القدر فينسب إلى التفريط شرعا وعادة ومع الطلب فلابد من الاستعانة بالله واللجأ إليه، وبسلوك هاتين الطريقتين يحصل خير الدارين. ثم إن أصابة شئ بعد ذلك ينبغي له التسليم والرضاء بقضاء الله وترك أن يقول لو أننى فعلت كذا لم يصبنى كذا، فإنه يجر إلى وسوسة الشيطان، وأن التدبير يسبق القدر، وقال الابى في كتاب أكمال الاكمال وألحق الشاطبي بلو " ليت " وهو كذلك إذا أريد بليت الندم والتأسف على عدم فعل ما لو فعله لم يصبه. أي تمنى لو فعل ذلك، وقال عياض النهي عن هذا القول مختص بالماضي لأن النهي إنما هو عن دعوى رد القدر بعد وقوعه. وأما مستقبل فيجوز فيه ذلك، ومنه قوله (عليه السلام) " لو لا أن أشق على امتى لامرتهم بالسؤال عند كل صلاة " لأنه مستقبل لا اعتراض فيه


1 - صحيح مسلم ج 8 ص 56 بادنى اختلاف في اللفظ. (*)

[ 206 ]

على قدر مضى، وإنما أخبر فيه أنه كان يفعل ما هو في قدرته لو لا المانع، وأما ما مضى وذهب فليس في القدرة والإمكان فعله. وقال الابى: والذي عندي أن النهي على عمومه ولكنه نهي تنزيه، وقال المازري النهي عن هذا القول في الماضي ينافي ما جاء عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) " لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدى " وأجاب بأن الظاهر أن النهي أما هو عن إطلاق ذلك فيما لا فائدة فيه فهو نهي تنزيه، وأما من يقول تأسفا على فعل طاعة فلا بأس به، وعليه يحمل أكثر ما جاء من استعمال ذلك في الأحاديث.


[ 207 ]

* الأصل (باب) التفويض إلى الله والتوكل عليه 1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن سنان، عن مفضل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: أوحى الله عز وجل إلى داود (عليه السلام) ما اعتصم بي عبد من عبادي دون أحد من خلقي، عرفت ذلك من نيته، ثم تكيده السماوات والأرض ومن فيهن إلا جعلت له المخرج من بينهن وما اعتصم عبد من عبادي بأحد من خلقي، عرفت ذلك من نيته إلا قطعت أسباب السماوات والأرض من يديه وأسخت الأرض من تحته ولم أبال بأي وادهلك. * الشرح قوله (ما اعتصم بي عبد من عبادي دون أحد من خلقي) الاعتصام به دون غيره عبارة عن الإنقطاع عن الغير بالكلية والرجوع إليه والركون إلى فضله وهو معنى التوكل والتفويض والوكيل كما يدفع الضرر عن موكله يجلب النفع إليه أيضا واقتصر على الأول لأن دفع الضرر أهم من جلب النفع على أن جلب النفع لدفع الضرر أيضا. (واسخت الأرض من تحته) السخت بالفتح الصلب الشديد فارسي معرب يستعمله العرب والعجم على معنى واحد، وهو كناية عن تضييق الأمر عليه لأن صلابة الأرض يستلرزم الضيق والضنك في العيش لعدم خروج الزرع والتبات منها. (ولم أبال أي وادهلك) اشارة إلى سلب اللطف والتوفيق عنه وعدم المبالاة بسيره في وادي الضلالة أو وقوعه في وادى جهنم وهلاكه فيهما. * الأصل 2 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن ابن محبوب، عن أبي حفص الأعشي، عن عمر [ و ] بن خالد، عن أبي حمزة الثمالي، عن علي بن الحسين صلوات الله عليهما قال: خرجت حتى انتهيت إلى هذا الحائط فاتكأت عليه فإذا رجل عليه ثوبان أبيضان، ينظر في تجاه وجهي ثم قال: يا علي بن الحسين مالي أراك كئيبا حزينا ؟ أعلى الدنيا ؟ فرزق الله حاضر للبر والفاجر، قلت: ما على ما على هذا أحزن وإنه لكما تقول، قال: فعل الأخرة ؟ فوعد صادق يحكم فيه ملك قاهر - أو قال: قادر - قلت: ما على هذا أحزن وإنه لكما تقول، فقال: مم حزنك ؟ قلت: مما نتخوف من فتنة ابن الزبير وما فيه الناس قال: فضحك، ثم قال: يا علي بن الحسين هل أريت أحدا دعا الله فلم يجبه ؟


[ 208 ]

قلت: لا، قال: فهل رأيت أحدا توكل على الله فلم يكفه ؟ قلت: لا، قال: فهل رأيت أحدا سأل الله فلم يعطه ؟ قلت: لا، ثم غاب عني. علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن محبوب مثله. * الشرح قوله (ينظر في تجاه وجهى) تجاه الشئ بضم التاء وفتحها ما يواجهه، وأصله وجاه قلبت الواو تاء جوازا ويجوز استعمال الأصل فيقال وجاه لكنه قليل وقعدوا تجاه أي مستقبلين له (قال فعلى الآخرة فوعد صادق يحكم فيه ملك قاصر أو قال قادر) الترديد من الراوى حيث لم يحفظ أنه سمع هذا اللفظ أو ذلك لا يقال قوله " فوعد صادق " لا يدفع الحزن على الآخرة ولا ينفيه بل يؤكذه لانا نقول لعل المراد أن العامل للآخرة لا ينبغي أن يحزن عليها لأن الله تعالى وعدلهم الاجر الجميل ووعده صادق، وهو في أمضائه قادر قاهر لا يمنعه أحد، أو المراد أن وعده بالمغفرة: أو وعده أهل العصمة بالدرجات العالية صادق. (قلت مما نتخوف من فتنة أبن الزبير وما فيه الناس) حيث خرج وادعى الخلافة وبايعه أهل مكة وغيرهم في دولة بني امية وسلطانهم وخوفه (عليه السلام) من ثوران نار الفتنة والحرب بينه وبينهم، وقنل السادة العلوية وغيرهم. (قال فضحك) لعل وجه الضحك تنشيط نفس المخاطب وتفريج همه باظهاره أن ذلك سهل ودفع سبب الحزن في غاية السهولة وذلك بأن يدعو الله ويتضرع إليه في دفع الفتنة ورفع الغوائل ويسأله حصول الرفاهية وإلا من ويتوكل عليه في جلب المنافع ورفع المكاره حتى في هذا الدعاء والمسألة (قال فهل رأيت أحدا سأل الله فلم يعطه) هذا تأكيد لما سبق للحث على الدعاء والسؤال ولذلك لم يقل شيئا بعد ذلك وغاب. * الأصل 3 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن علي بن حسان، عن عمه عبد الرحمن بن كثير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الغني والعز يجولان، فإذا ظفرا بموضع التوكل أو طنا. عدة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن محمد بن علي، عن علي بن حسان مثله. * الشرح قوله (قال إن الغني والعز يجولان) أي يقطعان النواحي ويمران في الأطراف كالطير طلبا للمسكن (فإذا ظفرا بموضع التوكل أو طنا) فالمتوكل في غنى وعز دائما أما الأول فلان ألله يكفيه ويأتي بمهماته فهو أغنى الأغنياء. وأما الثاني فلا عتزاله عن الذلك المطلق وهو الالتجاء إلى الخلق وتمسكه بالعز إلا وفروهو اللجأ إلى الله. ومعنى التوكل على الله هو الرجوع إليه والإعتماد عليه


[ 209 ]

والثقة بكفايته، ويمكن أن يقال توكل العبد فيما ينبغي أو يفعله أو يتركه من أمر الدنيا والآخرة هو الإعتماد على الله واليقة بكفايته، والتمك بحوله وقوته وترفب التوفيق والاعانة منه دون الإعتماد على نفسه وحوله وقوته وقدرته وعلمه وما يظنه من الاسباب الضرورية والعادية وغريها لا ترك وظائفه وعمله وأسباب في جلب المناقع ودفع المضار، ومن ثم اشتهر أن التمسك بالاسباب لا ينافي التوكل وفيما يجري عليه من غيره سواء كان من قبل الله أو من قبل غيره هو تفويض نفسه وأمره إلى الله توقعا من أن يرد عليه ما هو خير له والمعلوم أنه لا يرد عليه بعد ذلك إلا ما هو خير له في الدنيا والاخرة فعليه حينئذ القيام بمقام الرضا بالقضاء وهذا أقصى مراتب الكمال، وقال المحقق الطوسي المراد بالتوكل أن يوكل العبد جميع ما يصدر عنه ويرى عليه إلى الله تعالى لعلمه بأنه أقوى وأقدر ويفعل ما قدر عليه على وجه أحسن وأكمل ثم يرضى بما فعل وهو مع ذلك بسعي ويجتهد فيما وكله إليه ويعد نفسه وعلمه وقدرته وإرادته من الاسباب والشروط المخصصة لتعلق قدرته تعالى وأرادته لما صنعه بالنسبة إليه، ومن ذلك يظهر سر لاجبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين. وان أردت زيادة التوضيح فارجع إلى كلامه في أوصاف الاشراف. * الأصل 4 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن محبوب، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: أيما عبد أقبل قبل ما يحب عز وجل أقبل الله قبل ما يحب ومن إعتصم بالله عصمه الله ومن أقبل الله قبله وعصمه لم يبال لو سقط السماء على الأرض أو كانت نازلة نزلت على أهل الأرض فشملتهم بلية، كان في حزب الله بالتقوي من كل بلية، أليس الله عز وجل يقول: * (إن المتقين في مقام أمين) *. قوله (ايما عبد أقبل قبل ما يحب الله عز وجل أقبل الله قبل ما يجب) يقال أقبل قبلك أي قصد قصدك وتوجه إليك، وجعلك قبالة وجهه وتلقاءه، والمراد باقبال العبد نحو ما يحبه الله قصده والإتيان به طلبا لرضاه، وبإقبال الله نحو ما يحبه العبد إفاضة ما يسر به قلبه وتقربه عينه (ومن إعتصم بالله عصمه الله) من الضياع والحاجة كما إعتصم به مؤمن آل فرعون بقوله * (وافوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد " فلجأ من شر فرعون وجنوده إليه سبحانه وإعتصم به فوقاه الله سيئات ما مكروا، وإعتصم به يونس (عليه السلام) في الظلمات بقوله * (لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين " فلجأ من غضبه إليه بالقول وعصمه بقوله * (فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين " وإعتصم به أيوب وأقيل إليه بقوله * (رب اني مسنى الضر وأنت أرحم الراحمين " فاقبل الله إليه بالقبول وعصمه ورفع عنه الكرب والضر. وكذلك لجأ إليه كثير من الأنبياء والمرسلين والصلحاء


[ 210 ]

والمتقين والفاسقين فأقبل الله إليهم بقضاء حوائجهم وإزاحه مكارههم. (ومن أقبل الله قبله وعصمه لم يبال لو سقط السماء) إن جعل لم يبال وحده جوابا للشرط السابق كان جواب الشرط اللاحق قوله (كان في حزب الله) وإن جعل جوابا للشرط اللاحق وجعل المجموع جوابا للشرط السابق كان قوله " كان حزب الله " إستينافا. (بالتقوى من كل بدلية) أي يقيه من كل بلية في الدنيا والآخرة. (ان المتقين في مقام أمين) أي المأمون من البلية وإلافة فيهما. * الأصل 5 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن غير واحد، عن علي بن أسباط، عن أحمد بن عمر الحلال، عن علي بن سديد، عن أبي الحسن الأول (عليه السلام) قال: سألته: عن قول الله عز وجل: * (ومن يتوكل على الله فهو حسبه) * فقال: التوكل على الله درجات منها أن تتوكل على الله في امورك كلها، فما فعل بك كنت عنه راضيا، تعلم أنه لا يألوك خيرا وفضلا وتعلم أن الحكم في ذلك له، فتوكل على الله بتفويض ذلك إليه وثق به إليه وثق به فيها وفي غيرها. * الشرح قوله (فقال التوكل على الله درجات منها أن تتوكل على الله في امورك كلها قد عرفت ان شرط التوكل فيها ليس رفع اليد عن أسبابها بل شرطه عدم الإعتماد عليها والوثوق بها فلو طلب طالب الرزق مثلا رزقة من أسبابه المشروعة كالتاجر من التجارة، والزارع من الزراعة، وليس اعتمادهما على عملهما بل على الله سبحانه، وعلى أن الرزق عليه ان شاء رزقه منهما وإن شاء رزقة من غيرهما حتى لو فسد العلم لم يحزنا لم يكن ذلك منافيا للتوكل، وكذلك لو حمل الخائف من العدو سلاحا وقف الخارج من البيت بابا وشرب المريض دواء، ولم يكن اعتمادهم على السلاح والقف والدواء إذ كثيرا ما يغلب العدو مع السلاح ويسرق السارق بكسر القفل ولا ينفع الدواء بل اعتمادهم عليه عز وجل لم يكن هذا منافيا للتكوكل، وبالجملة قلب المتوكل متوجه إلى الله وتوجهه إلى الوسائط والأسباب بإعتبار أن العالم عالم الأسباب وأن الله تعالى أبي أن تجرى الامور إلا بأسبابها فهو أن ظن سببا وتعرض له ولم يعتمد عليه بل على خالقه فإن تر تيب عليه الأثر شكر وإن لم يترتب لم يسخط ورضى لعلمه بأنه تعالى عالم بمصالح اموره، وأن ما فعله كان محض الخير فهو متوكل مفوض أمره إلى الله (تعلم أنه لا يألوك خيرا) إلا لو التقصير وإذا عدى إلى مفعولين يضمن معنى المنع أي لا يمنعك خيرا وفضلا مقصرا في حقلك. * الأصل


[ 211 ]

6 - عدة من أصحابنا. عن سهل بن زياد، وعلي بن إبراهيم، عن أبيه جميعنا عن يحيى بن المبارك، عن عبد الله بن جبلة، عن معاوية بن وهب، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من اعطي ثلاثا لم يمنع ثلاثا: من أعطى الدعاء اعطي الإجابة ومن اعطي الشكر اعطي الزيادة ومن اعطي التوكل اعطي الكفاية ثم قال: أتلوت كتاب الله عز وجل: * (ومن يتوكل على الله فهو حسبه) * ؟ وقال: * (لئن شكرتم لأزيدنكم) * وقال: * (ادعوني أستجب لكم) * ؟ قوله (ومن أعطى التوكيل أعطى الكفاية) نقل أي خليل الرحمن حين وضع في المنجنيق قال حسبى الله ونعم الوكيل، فلما رمى لاقاه جبرئيل (عليه السلام) في الهواء وقال ألك حاجة ؟ قال أما إليك فلا. قال ذلك إبقاء لتوكله الذي أظهره أو لا فكفاه الله عن النار. (ومن يتوكل على الله فهو حسبه) النشر على غير تتيب اللف فالأول للآخر وهكذا إلى الأول. والشكر الإعترافل بالاحسان والتحديث به والإنقياد للمشكور، وهو بالفعل أظهر منه بالقول. * الأصل 7 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن أبي علي، عن محمد بن الحسن، عن الحسين بن راشد، عن الحسين بن علوان قال: كنا في مجلس نطلب فيه العلم وقد نفدت نفقتي في بعض الأسفار فقال لي: بعض أصحابنا من تؤمل لما قد نزل بك ؟ فقلت: فلانا فقال: إذا والله لا تسعف حاجتك ولا يبلغك أملك ولا تنجح طلبتك، قلت: وما ما علمك رحمك الله ؟ قال: إن أبا عبد الله (عليه السلام) حدثني أنه قرأ في بعض الكتب أن الله تبارك وتعالى يقول: وعزتي وجلالي ومجدي وإرتفاعي على عرشي لأقطعن أمل كل مؤمل [ من الناس ] غيري باليأس ولأكسونه ثوب المذلة عند الناس ولانحينه من قربي ولابعدنه من فضلي، أيؤمل غيري في الشدائد ؟ ! والشدائد بيدي ويرجو غيري ويقرع بالفكر باب غيري ؟ ! وبيدي مفاتيح الأبواب وهي مغلقة وبابي مفتوح لمن دعاني فمن ذالذي أملني لنوائبه فقطعته دونها ؟ ! ومن ذاالذي رجاني لعظيمة فقطعت رجاءه مني ؟ ! جلعت آمال عبادي عندي محفوظة، فلم يرضوا بحفظي وملأت سماواتي ممن لا يمل من تسبيحي وأمرتهم أن لا يغلقوا الأبواب بيني وبنى عبادي، فلم يثقوا بقولي، ألم يعلم [ أن ] من طرقته نائبة من نوائبي أنه لا يملك كشفها أحد غيري إلا من بعد إذني، فمالي أراه لاهيا عني، وأعطيته بجودي ما لم يسألني ثم انتزعه عنه فلم يسألني رده سأل غيري، أفيراني أبدأ بالعطاء قبل المسألة ثم اسأل فلا أجيب سائلي ؟ ! أبخيل أنا فيبخلني عبدي ؟ ! أو ليس الجود والكرم لي ؟ ! أو ليس العفو والرحمة بيدي ؟ ! ليس أنا محل الآمال ؟ ! فمن يقطعها دوني ؟ ! أفلا يخشي المؤملون أن يؤملوا غيري، فلو أن أهل سماواتي وأهل أرضي أملو جميعا ثم أعطيت كل واحد منهم مثل ما أمل الجميع ما


[ 212 ]

انتقص من ملكي مثل عضو ذرة وكيف ينقص ملك أنا قيمته، فيا بؤسا للقانطين من رحمتي ويابؤسا لمن عصاني ولم يراقبني. * الشرح قوله (وعزتي وجلالي ومجدي وإرتفاعي على عرشي) العزة الشدة والقوة والغلبة والسلطنة والملك والجلال والعظمة. والمجد لشرف والكرم الواسع، والإتفارع كناية عن الإستيلاء على جميع الممكنات والاستعلاء على جميع الخلوقات والاحاطة علما وقدرة بها لكون العرش محيطا بجميعها. (لا قطعن أمل كل مؤمن من النا غيري باليأس ولا كسونه ثوب المذلة عند الناس ولا نحينه من قربي ولا بعدهنه من فضلى) باليأس متعلق بقوله لا قطعن، وفيه وعيد على كل من مؤمل غيره تعالى في المقاصد بامور أربعة: الأول الياس من حصول مأموله غالبا أو إلا باذنة تعالى بقرينة ما سيجئ. الثاني احاطة المذلة به وإصافة الثوب إليها من باب إضافة المشبه به إلى المشبه، والكسوة ترشيح للتشبيه، والثالث تبعيده أو ابعاده من قرب رحمته، والرابع تبعيده من إحسانه وإفضاله، وكل ذلك يوجب خسرانه في الدنيا والآخرة. (أيؤمل غيري في الشدائد ؟ ! والشدائد بيدي) ذكر اليد مجاز في بيان أن الشدائد تحت قدرته لا قدرة غيره وقد جرت الحكمة على أن يختبر الله تعالى عبده في الدنيا بالشدائد ليرجع إليه ويتضرع بين يديه في دفعها فإذا رجع إلى غيره مع كون الشدائد بيد ذلك الغير كان ذلك موجبا للتوبيخ والإنكار (ويقرع بالفكر باب غيري) تشبيه الفكر باليد مكنية واثبات القرع لها تخييلية، وذكر الباب ترشيخ، والمقصود ذمته بصرف قلبه وفكره عند الحاجة إلى غيره تعالى (وبيدي مفاتيح الأبواب وهي مغلقة) أي أبواب الحاجات مغلقة ومفاتيحها بيده تعالى وهو استعارة على سبيل التمثيل للتنبيه على أن قضاء الحاجة المرفوعة إلى الخلق لا يتحقق إلا بإذنه أن شاء أن به وإن شاء لم يأذن. (وبابي مفتوح لمن دعاني) وهو أيضا استعارة لتشبيه الغائب بالحاضر، وترغيب السائل بالرجوع إليه، وتنبيه الغافل على سهولة عرض المطلب عليه. (فمن ذا الذي أملنى لنوائبه فقطعته دونها) أي قطعته عند النوائب وهجرته أو منعته عن أمله ورجائه ولم أرفع نوائبه. تقول قطعت الصديق قطيعة إذا هجرته، وقطعته عن حقه إذا منعته. (رجائي لعظيمة) أي لمطالب عظيمة. (جعلت آمال عبادي عندي محفوظة) لاردها إليهم عند طلبهم كالوديعة. (فلم يرضوا


[ 213 ]

بحفظي) حتى جعلوها عند غيري وطلبوها منه (وملا سمواتي ممن لا يمل بتسبيحي) وهم الملائكة (عليهم السلام) الذين لا يفترون من تسبيحه، ولا يسأمون من تقديسه، ولا يخالفونه في أمره (وأمرتهم أن لا يغلقوا الأبواب بيني وبين عبادي) كناية عن عدم منعهم لمن أراد الوصول إليه والسؤال منه، وعرض المقاصد عليه كما يمنع حجاب الملوك، أو عين إيصال حوائج السائلين ومطالبتهم إليهم فإنه تعالى قد يأمرهم بذلك ما دل عليه بعض الروايات. (فلم يثقوا بقولى) والدليل على عدم الوثوق رجوعهم إلى الغير وجعلهم له موضعا للحاجات ومنشاء ذلك معارضة الوهم والخيال، لو رجعوا إلى صرافة العقل وحكمه لوجدوا أن ذلك من أقبح الفعال (ألم يعلم من طرقته نائبة من نوائبي) أي أتته مطلقا ولا وجه لتخصيص اتيانها بالليل (أنه لا يملك كشفها) أي دفعها. (أحد غيري إلا بعدي اذنى) دل ظاهرا على أن العبد لو رجع إلى غيره تعالى في كشف نوائبه فقد تشكف بإذن الله تعالى فهذا مخصص لهما دل على اليأس وعدم القضاء على الإطلاق لا يقال العالم عالم الأسباب فكيف يذم من رجع إلى الغير لظنه أنه سبب لانا نقول الذم بإعتبار أن قلبه تعلق به واعتمد عليه، وأما من لم يركن إليه ولم يثق به ولم يعتمد عليه فالظاهر أنه ليس بمذمون والاولى مع ذلك من يرجع إلى الله فإن شاء الله أن يكون قضاء حاجته على يد أحد جعله وسيلة له شاء أو لم يشأ. (أفيراني أبدأ بالعطاء قبل المسألة ثم أسأل فلم أجيب) الإستفهام للإنكار والتعجب فإن من تأمل مثلا في وجوده وذاته وحالاته السابقة يجد أنه تعالى شأنه أكرمه ونعمه وأحسن إليه بلا سابقة مسألة واستحقاق ما لا يقرره اللسان ولا يحيط به البيان وأن أخرجه من حد النقص إلى حد الكمال بلا التماس أحد ولا معاونة مدد ولا شفاعة شفيع، ثم لا يحصل له العلم بأنه يعطيه في مستقبل الأحوال جميع ما يحتاج إليه، ويصلح جميع ما يرد عليه عنمد السؤال والتفويض والتوكل والرجوع إليه بالتضرع والإبتهال، ولم يتيقن أنه تعالى يقوم بكفايته ورعايته واضطر إلى أن يقرع باب غيره ويلجأ إليه ويظهر الفقر والعجز بين يديه. كان ذلك محل التعجب وإلانكار وأن هذا الشئ عجاب. (أفلا يخشي المؤملون أن يؤملوا غيري) الخشية أما من العقوبة أو من قطع الأمال واليأس عنها، أو من الابعاد عن مقام القرب، أو من إزالة النعماء عنه، أو من رفع الوجود والفيض والجود عنه. (وكيف ينقص ملك أنا قيمه) أي قايم بسياسة اموره (فيا بؤسا للقانطين من رحمتى البؤس


[ 214 ]

والبأس والبأساء والفقر والحزن وكأنه كان غير متعيين وقد ندائه لعظمته فناداه وأحضر ليروه ويتعجبوا منه، ويحتمل أن يكون منصوبا على المفعول لفعل مقد تقديره يا عبادي أبصروا بؤسا للقانطين ونحوه، أو على المصدر تقديره يا عبادي بؤسالهم. وفيه وعيد عظيم لأهل القنوط من رحمته (ولم يراقبني) أي لم يخف عذابي أو لم يحفظ حقوقي. * الأصل 8 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسن، عن بعض أصحابنا، عن عباد بن يعقوب الرواجني، عن سعيد بن عبد الرحمن قال: كنت مع موسى بن عبد الله بينبع وقد نفدت نفقتي في بعض الأسفار، فقال لي بضع ولد الحسين: من تؤمل لما قد نزل بك ؟ فقلت: موسى به عبد الله، فقال: إذا لا تقضى حاجتك، ثم لا تنجح طلبتك، قلت: ولم ذاك ؟ قال: لأني قد وجدت في بعض كتب آبائي إن الله عز وجل يقول - ثم ذكر مثله - فقلت: يا ابن رسول الله أمل علي، فأملأه علي، فقلت: لا والله ما أسأله حاجة بعدها.


[ 215 ]

(باب الخوف والرجاء) 1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن علي بن حديد، عن منصور بن يونس، عن الحارث بن المغيرة، أو أبيه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: ما كان في وصية لقمان ؟ قال: كان فيها الأعاجيب وكان أعجب ما كان فيه أن لابنه خف الله عز وجل خيفة لو جئته ببر الثقلين لعذبك وارج الله رجاء لو جئته بذنوب الثقلين لرحمك، ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): كان أبي يقول: إنه ليس من عبد مؤمن إلا وفي قلبه نوران: نور خيفة ونور رجاء، لو وزن هذا لم يزد على هذا ولووزن هذا لم لم يزد على هذا. * الشرح قوله (قال كان فيها الأعاجيب) جمع الجمع، كالاناعيم والعجب ما يوجب انفعال النفس لزيادة وصف في المتعجب منه والعجيب چيزى كه ازو بغايت شگفت گيرند. (خف الله عز وجل خفية لو جئته ببر الثقلين لعذبك وارج الله رجاء لو جئته بذنون الثلثين لرحمك) الخوف حالة نفسانية موجبة لتألمها بسبب توقع مكروه سببه ممكن الوقوع أو توقع فوات أمر مرغوب فيه ولو كان وقوع سببه معلوما أو مظنونا ظنا غالبا يسمى ذلك إنتظار المكروه أيضا كما يسمى خوفا والتألم فيه أزيد، وأما الخوف والتألم بسبب توقع مكروه علم قطعا عدم وقع شئ من أسبابه فذلك وسواس وماليخولياء والرجاء - بالمد - حالة نفسانية موجبة لفرحها بسبب توقع حصول أمر مطلبوب سببه متوقع أو مظنون أو معلوم ويسمى الأخير انتظاهر المطلوب أيضا والفر فيه أشد، وأما الرجاء والفرح بسبب توقع مطلوب علم عدم وقوع سببه فذلك غرور وحماقة، وسبب الخوف من الله معرفته ومعرفة جلاله وعظمته وكبريائه وغنائه عن الخلق وغضبه وقهره وكماله قدرته على الخلق، وعدم مبالاته بتعذبهم واهلاكهم ومعرفة عيوب نفسه وتقصيره في الطاعات والأخلاق والأداب مع التفكر في أمر الآخرة وشدائدها، وكلما زادت تلك المعارف زاد الخوف وثمرته في القلب ووالبد والجوارح. إذ بالخوف يميل القلب إلى تركها اشهوات ولندامة على الزلات، والعزم على الخيرات ويخضع ويراقب ويحاسب وينظر إلى عاقبة الامور ويحترز من الرزائل كالكبر والحسد والبخل ويذبل الدين ويصفر اللون من الغم والسهر وتشتغل الجوراح بوظائفها ويحصل له بترك الشهوات العفة والزهد وتبرك المحرمات التقوى، وبترك ما يعنى الورع والصدق والإخلاص ودوام الذكر والفكر، ويترفي منها إلى مقام المحبة، ثم منه إلى مقام الرضا وسبب الرجاء معرفته ومعرفة سعة رحمته وفيضه ولطفه ورأفته وإحسانه على العباد، واجراء نعمه


[ 216 ]

عليهم ظاهره وباطنة، جلية وخفية، ضرورية وغير ضرورية حين كونهم أجنة في بطون امهاتهم بلا سبق إستحقاق ولا تقدم إستيهال والتفكر في غنائه عن عبادتهم وتعذيبهم مع عجزهم ومسكنتهم وفقرهم وحاجتهم إليه وذلهم بين يديه، ومن استقرت في قلبه هذه المعارف حصل له الرجاء بنيل الثواب والمغفرة والرحمة، وثمرته الإتيان بما يوجب الوصول إليها كما أن ثمرة الخوف من العقوبة ترك ما يوجب الورود عليها. (ليس من عبد مؤمن إلا وفي قلبه نوران: نور خيفة ونور رجاء) لأن المؤمن لا يخلو من تصور أسباب الخوف والرجاء وتجويز وقوع مقتضى كل واحد منهما بدلا من الاخر وإنتهاء سيره إلى القرب كأهل الايقان، أو إلى العبد كأهل الحرمان بحيث لا يرجع أحدهما على الاخر إذا لو رجح الرجاء لزم الامن لا في موضعه * (أفأمنوا مكر الله إلا القوم الخاسرون " ولو رجج الخوف لزم اليأس الموجب للهلاك * (أنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون " ومنه ظهر أن الخوف غير القنوط وأنه والرجاء ينبغى أن يكونا متساويين مطلقا وقد ذهب إليه أيضا بعض العامة. وقال عياض عبادة الله بين أصلين الرجاء والخوف، ويستحب أن يغلب في حال الصحة الخوف فإذا زاد في الاجل أو انقطع الاجل يستحب أن يغلب الخوف حينئذ خشية أن يقنط فيهلك وفيه أن الدليل لو تم لدل على رجحان الرجاء قبل الاجل أيضا ولم يقل به، والتعليل لعدم غلبة الخوف عند الاجل دل على عدم غلبته أيضا قبله، وقد قال وقيل ينبغى أن يغلب الخوف ليكف عن المخالفات ويكثر من الطاعات، فإذا نت أمارات الموت ينبغى أن يغلب الرجاء لأن ثمرة الخوف وهي الإنكفاف والاكثار في الطاعة تعذرت حينئذ وهو قريب مما ذكر. وقال الابي في كتاب الكمال مقامات الصالحين عند الإحتضار تختلف، فعن بعضهم أن قال لابنه يا بني حدثني عن الرخص لعلى ألقى الله وأنا أحسن الظن به، وعن بعضهم أنه رجى حين إحتضر، وقيل له تقدم على غفور رحيم فقال أفلا تقولون لي تقدم على شديد العقاب على الكبيرة ويؤاخذ بالصغيرة، وهذا بحسب مقامات الخوف بقى شئ وهو أنه قال بعض الافضل الخوف ليس من الفضائل والكمالات العقلية في النشأة الآخرة، وإنما هو من الامر النافعة للنفس في الهرب عن المعاصي، وفعل الطاعات ما دامت في دار العمل، وأما عند إنقضاء الاجل والخروج من الدنيا ألتي هي دار العمل فائدة فيه، وأما الرجاء فإنه باق أبدا إلى يوم القيامة لا ينقطع لأنه كلمانال العبد من رحمة الله أكثر كان ازدياد طعمه فيما عند الله أعظم وأشد لأن خزائن جوده وخيره ورحمته غير متناهية لا تبيد ولا تنقص فثبت أن الخوف منقطع والرجاء أبدا لا ينقطع، وفيه نظر لأن الظاهر أن الخوف عن العقوبة أو عن فوات الثواب أو عن فوات التفضل أو عن فوات رفع المنزلة أو عن ظهور أساءة على رؤس الاشهاد أو عن زلة الدقم على الصراط باق بعد


[ 217 ]

الخروج من الدنيا ثم بقاء الرجاء والطمع فيما عند الله كما حكم به يستلزم الخوف من عدم تحقق المطوع والله أعلم. * الأصل 2 - محمد بن الحسن، عن سهل بن زياد، عن يحيى بن المبارك، عن عبد الله بن جبلة، عن إسحاق بن عمار قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): يا إسحاق خف الله كأنك تراه وإن كنت لا تراه فإنه يراك، فإن كنت ترى أنه لا يراك فقد كفرت، وإن كنت تعلم أنه يراك، ثم برزت له بالمعصية، فقد جعلته من أهون الناظرين عليك. * الشرح قوله (يا إسحاق خف الله كأنك تراه وأن كنت لا تراه فإنه يراك) وشبه الرؤية القلبية بالرؤية العينية قصدا للظهور والإيضاح والأول إشارة إلى مقام المشاهدة وهي مرتبة عين اليقين أو حق اليقين وهو أعلى مراتب السالكين، وفي تلك المرتبة يتصل الطالب بالمطلوب إتصالا معنويا بحيث لا يشاهد الإجماله وكماله. الثاني إشارة إلى مقام المراقبة وهي ثمرة الإيمان ومرتبة عظيمة من مراتب السالكين روى عن روى عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك " وقال جل شأنه * (افمن هو قائم على كل نفس بما كسبت إن الله كان عليكم رقيبا " والمرتبة مراعاة القلب للرقيب وإشتغاله به والمثمر لها هو العلم بأن الله تعالى مطلع على كل نفس بما كسبت وأنه تعال عالم بسرائر القلوب وخطراتها كما هو عالم بظواهر الاشياء وجلياتها وهذا العلم إذا استقر في القلب ولم يبق فيه شبهة يجذبه إلى مراعاة الرقيب والمتصفون بها على صنفين منهم الصديقون ومراقبتهم استغراق القلب بملاحظة العظمة والجلال وإنكساره وتحت الهيبة وإستعمال الجوارح بوطائف الطاعات بحيث لا يتلف القلب إلى الغير أصلا والجوارح إلى الجوارح إلى المباحات فضلا عن المحظورات، ومنهم الورعون وهم قوم لم تدهشوم ملاحظة العظمة والجلال بل بقيت قلوبهم على الإعتدال يتسعها التلفت إلى الاقوال والاعمال ومراقبتهم أن ينظروا إلى جميع حركاتهم وسكناتهم ولحظاتهم وإختيارهم ويرصدوا كل خاطر يسنح لهم فإن كانت الهية عملوا بمقتضاها، وإن كانت شيطانية رفضوها إستحياء من القريب، وإن كانت مبهمة توقفوا حتى يظهر لهم أمرها. (فإن كنت ترى أنه لا يراك فقد كفرت) رؤيته تعالى نوع من العلم وهو العلم بالمبصرات ظاهرها وباطنها كما هي والمنكر له كافر بالله العظيم. (وإن كنت تعلم أنه يراك ثم برزت به بالمعصية فقد جعلته من أهون الناظرين عليك) حيث


[ 218 ]

تترك المعصية عند مشاهدة غيره خوفا من اللوم وحياء ولا تترك عند مشاهدة مع عملك بأنه شاهد حاضر وليس ذلك إلا لأنه أهون عندك من ذلك الغير وهو لازم عليك، وإن لم تقصده وأنا أستغفر الله وأقول يا رب فعلنا كذلك لا لذلك بل لاجل أنا نأمن منك ونرجو رحمتك، ولا نأمن غيرك. * الأصل 3 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن الهيثم بن واقد قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول ؟ من خاف الله أخاف الله منه كل شئ، ومن لم يخف الله أخافه الله من كل شئ. * الشرح قوله (من خاف الله أخاف الله منه كل شئ) ظاهره أن الله تعالى يلقى الخوف منه على الأشياء مع إحتمال أن يكون سر ذلك أن الخائف من الله نفسه قوية قدسية مقربة للحضرة الالهية قادرة على التأثير في الممكنات فلذلك يخاف منه كل شئ حتى الوحوش والسباع والحيات كما نقل ذلك عن كثير من المقربين ومن لم يخف الله نفسه ضعيفة متصفة بالنقصان بعيدة عن التأثر في عالم الإمكان فلذلك يخاف من كل شئ ويتأثر منه ولما كانت القوة والضعف والتأثير والتأثر بسبب القرب من الله وعدمه نسبت الاخافة إليه. * الأصل 4 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن أبيه، عن حمزة بن عبد الله الجعفري، عن جميل بن دراج، عن أبي حمزة قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): من عرف الله خاف الله ومن خاف الله سخت نفسه عن الدنيا. * الشرح قوله (من عرف الله خاف الله) دل على أن الخوف من الله لازم لمعرفته فكلما زادت زائد ولذلك قال عز شأنه * (إنما يخشى الله من عباده العلمؤا " وذلك من عرف عظمته وغلبته على جميع الكاينات وقدرته على جميع الممكنات بالاعدام والافناء من غير أن يسأله أو يمنعه مانع أن يعود إليه ضرر تهيب وخاف منه، وأيضا من عرفه علم إحتياجه إليه في وجوده وبقائه وكمالاته في جميع حالاته ومن البين أن الإحتياج إليه في مثل تلك الامور العظام يستلزم الخوف منه في سلب الفيض والإكرام. (ومن خاف الله سخت نفسه عن الدنيا) أي تركها تقول سخي عن الشئ يسخى من باب تعب


[ 219 ]

أي ترك فمن إدعى الخوف ومال إلى الدنيا غير تارك لها وناهض للعبادة فهو كاذب لأن الخوف يستلزم الاعراض عن الدنيا والتوجه إلى العبادة. * الأصل 5 - عنه، عن ابن أبي نجران، عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: قوم يعلمون بالمعاصي ويقولون نرجو، فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم الموت فقال: هؤلاء قوم يترجحون في الأماني، كذلوا، ليسوا براجين، إن من رجا شيئا طلبه ومن خاف من شئ هرب منه. * الشرح قوله (ويقولون نرجو) أي نرجو رحمة الله أو مغفرته لدلالة الايات والروايات على سعة عفوه وجزيل رحمته ووفور مغفرته. (فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم الموت) بلا توبة ولا تدارك بالمندامة والعبادة. (فقال هؤلاء قوم يترجحون في الاماني) الترجح ميل كردن از طرف بطرف ديگر والأماني آرزوها ودروغها وبي ترسيها جمع الامنية. وفي للسببية. أو بمعنى على أي يميلون عن الحق سبب الاماني أوفيها أو عليها بإعتبار أنها يميل بهم كما تميل الارجوحة بمن فيها أو عليها وهي بضم الهمزة مثال يلعب عليه الصبيان وهو أن يوضع خشبة على تل ويقعد غلامان على طرفيها. (كذبوا) في دعوى الرجاء (ليسوا براجين) بل هم انتحلوا إسم الرجاء وليس لهم معناه أصلا وعلل ذلك بقوله: (إن من رجا شيئا طلبه) بالضرورة وأما تمسكهم بسعة الرحمة فلا يوجب صدقهم في الرجاء فإن سعة الرحمة حق ولكن لا بد لمن يرجوها من العمل الخالص المعد لحصولها وترك الوغول في المعاصي المفوت لهذا الإستعداد وهذا هو الرجاء الصادق الممدوح كرجاء من ألقى البذر في الأرض وأتى بآداب الزراعة رحمته في الحاصل، وما من توغل في المعاصي فرجاؤء الرحمة غير ممدوح ولا معقول كرجاء من لم يزرع أن ينبت الله له زرعا فإن هذا حمق يدم به العقلاء ولا تتبع هؤلاء وإنظر إلى الأنبياء (عليهم السلام) فإنهم مع كونهم أعلم بسعة الرحمة صرفوا أعمارهم في الطاعة لعلمهم بأن توقع الاجر بدون الطاعه محض الغرور والقول بأنا نرجو بدون العمل قول الزور، وانظر أيضا إلى من رجاء امرا من السلطان فإنه لا يعصيه بل يطلب منه ذلك الامر ويخدمه خدمة بالغة طلبا للرضا ويكون خدمته بقدر قوه التوقيع والرجاء ولما كان رجاء شئ مستلزما للخوف من فواته وبالعكس ولذلك قيل الخوف والرجاء متلازمان كان رجاؤهم رحمته مستلزما لخوفهم من فواتها ولذلك أشار إلى أن دعواهم الخوف باطل أيضا على وجه العموم بقوله.


[ 220 ]

(ومن خاف من شئ هرب منه) بالضرورة فليس لهم خوف من فوات الرحمة وإلا لهربوا منه بترك المعاصي الموجبة لفواتها. * الأصل 6 - ورواه علي بن محمد، رفعه قال: قلت لأبي عبد الله (عليهم السلام) إن قوما من مواليك يلمن بالمعاصي ويقولون نرجو ؟ فقال: كذبوا ليسوالنا بموال، اولئك قوم ترجحت بهم الأماني. من رجا شيئا عمل له ومن خاف من شئ هرب منه. * الشرح قوله (إن قوما من مواليك) أي ناصريك وتابعيك القائلين بولايتك المحبين لك، (يلمون بالمعاصي) أي ينزلون بالمعاصي ويفعلونها. (ويقولون نرجو) الرحمة والمغفرة لأنه تعالى واسع الرحمه والمغفرة (فقال كذبوا) في دعوى الولاية والرجاء (ليسوالنا بموال) لأن الموالات ليست بمجرد القول بل هي محبة في الباطن ومتابعة في الظاهر لا انفكاك بينهما والحصر المفهوم من تقديم الظرف يفيد أنهم موال لغيرهم هو الشيطان (اولئك قوم ترجحت بهم الأماني) الباء للتعدية أي أمالتهم الأماني عن طريق الرشاد إلى سبيل الفساد حيث رجوا الرحمة مع انتفاء سببها وهو التمنى المستعمل في المحال دون الرجاء. * الأصل 7 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن بعض أصحابه، عن صالح بن حمزة، رفعه قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن من العبادة شدة الخوف من الله عز وجل يقول الله: * (إنما يخشى الله من عباده العلماء) * وقال جل ثناؤ: * (فلا تخشوا الناس واخشون) * وقال تبارك وتعالى: * (ومن يتق الله يجعل له مخرجا) *، قال: وقال أبو عبد الله (عليه السلام): إن حب الشرف والذكر لا يكونان في قلب الخائف الراهب. * الشرح قوله (إن من العبادة شدة الخوف من الله عز وجل) الخوف مبدؤه تصور عظمة الخالق ووعيده وأهوال الاخرة والتصديق بها وبحسب قوة ذلك التصور والتصديق يكون قوة الخوف وشدته، وهي مطلوبة ما لم يلغ حد القنوط، وربما يشعر ذلك بإعتبار زيادة الخوف على الرجاء، ويمكن أي يقال شدة الخوف تستلزم شدة الرجاء أو يقال ذكر شدة الخوف على سبيل التمثيل كما يشعر به قوله " من العبادة " فإن منها شدة الرجاء. (يقول عز وجل: إنما يحشى الله من عباده العلمؤا) لابد أن نشير إلى هؤلاء العلماء وإلى العلم


[ 221 ]

الذي يورث الخوف والخشية فإنا نرى كثيرا من أهل العلوم الدينيه وغيرها لا يخشون من الله ويفتنون بحب الدنيا والإستكثار منها وصحبة الامراء وسلاطين الجور للجاه والمال ويميلون معهم حيث مالوا وينالون الدنيا على أي وجه اتفق ويتبعون اهداء النفس والشيطان فنقول المراد بهذا العالم العالم الرباني وهو الذي علم الذي علم عظمة الله وجلاله وعزه وقهره لاعلى وجه الإعتقاد فقط بل على وجه يحيط نور العلم ظاهر القلب وباطنه بحيث يمنعه من التوجد إلى الدنيا وما فيها فضلا عن الوسائط إليها ويزجره عن متابعة النفس الامارة في هواها ورداها فإن هذا العلم هو الذي يورث الخشية وثمرته التقوى والورع وسائر الاخلاق النفسانية والعمل بعلم كتاب الله وسنة روس الله، والإعراض عن الدنيا وأهلها ويرشد إلى ما ذكر ما روى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال " أنا أعرفكم بالله وأشدكم له خشية " فإنه كالمفسر للعلم والعالم الخاشى لله والمخصص لهما (1) الطوسي في أوصاف الأشراف أن الخوف والخشية وان كانا بمعنى واحد في اللغة إلا أن بينهما فرقا بين أرباب القلوب وهو أن الخوف تألم النفس من المكروه المنتظر والعقاب المتوقع بسبب إحتمال فعل المنهيات وترك الطاعات. والخشية حالة نفسانيه تنشأ من الشعور بعظمة الرب وهيبته وخوف الحجب عنه بسبب الوقوف على نقصانه وتقصيره في أداه حق العبودية ورعاية الادب فهي خوف خاص وإليه يرشد قوله تعالى * (ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب " والرهبة قريب من الخشية. أقول ولعل المقصود من الخشية هنا المعنى اللغوي بدليل الإستشهاد بالاية * (فلا تخشوا الناس واخشون " دل على أن الخشية وهي شدة الخوف عبادة لأن الله تعالى أمر بها كالاية السابقة إلا أن الامر فيها وقع ضمنا، ثم من خشى الله يخشاه الناس فكنا الله من خشيتهم لما مر * (ومن يتق الله يجعل له مخرجا " التقوى على مراتب الاولى التبرى عن الكفر والشك وهي تحصل بالشهادتين، وثانيها التجنب عما يوثم، وثالثها التنزه عما يشغل القلب عن الحق وبناء الكل على الخوف من العقوبة والبعد من الحق، ولعل المراد هنا أحدى الاخريين مع إحتمال الاولى بعيدا أي ومن يتق الله خوفا منه يجعل له مخرجا من شدائد الدنيا والاخرة كما نقل عن ابن عباس، أو من ضيق المعاش كما يشعر به قوله تعالى * (ويرزقه من حيث لا يحتسب " وكان السر في الأول أن شدائد الدارين من الحرص على الدنيا واقتراف الذنوب والغفلة عن الحق والمتقي منزه عن جميع ذلك وفي الثاني أن فيضه تعالى وجوده عام لابخل فيه وإنما المانع من قبول فيضه هو بعد العبد عنه وعدم إستعداده


1 - قوله " والمخصص لهما " عطف على المفسر أي هذا الحديث مفسر للعلم والعالم ومخصص لهما بالعلم الموجب للخشية والعالم الخاشى. (ش) (*)

[ 222 ]

له بالذنوب. فإذا اتقى منها قرب منه تعالى وإستحق قبول فيضه بلا تعب ولا كلفة. فيجمع بذلك خير الدنيا والاخرة. * الأصل 8 - علي بن إبراهيم، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن الحسن بن الحسين، عن محمد بن سنان، عن أبي سعيد المكاري، عن أبي حمزة الثمالي، عن علي بن الحسين صلوات - الله عليهما قال: إن رجلا ركب البحر بأهله فكسر بهم، فلم بهم، فلم ينج ممن كان في السفينة إلا إمرأة الرجل، فإنها نجت على لوح من ألواح السفينة حتى ألجأت على جزيرة من جزائر البحر وكان في تلك الجزيرة رجل يقطع الطريق ولم يدع لله حرمة إلا انتهكها فلم يعلم إلا والمرأة قائمة على رأسه، فرق رأسه إليها فقال: إنسية أم جنية ؟ فقالت: إنسية، فلم يكلمها كلمة حتى جلس منها مجلس الرجل من أهله، فلما هم بها اضطربت، فقال لها: مالك تنتظربين ؟ فقالت: أفرق من هذا - وأومأت بيدها إلى السماء - قال: فضعت من هذا شيئا ؟ قالت: لا وعزته، قال: فأنت تفرقين منه هذا الفرق ولم تصغي من هذا شيئا وإنما إستكرهتك إستكراها فأنا والله أولي بهذا الفرق والخوف وأحق منك. قال: فقام ولم يحدث شيئا ورجع إلى أهله وليست له همة إلا التوبة والمراجعة، فبينا هو يمشي إذ صادفه ارهب يمشي في الطريق، فحميت عليهما الشمس فقال الراهب للشاب: ادع الله يظلنا بغامة، فقد حميت عليها الشمس، فقال الشاب: ما أعلم أن لي عند ربي حسنة فأتجاسر على أن أسأله شيئا، قال: فأدعو أنا وتؤمن أنت، قال: نعم فأقبل الراهب يدعو الشاب يؤمن، فما كان بأسرع من أن أظلتهما غمامة، فمشيا تحتها مليا من النهار ثم تفرقت الجادة جادتين فأخذ الشاب في واحدة وأخذ الراهب في واحدة فإذا السحابة مع الشاب فقال: الراهب أنت خير مني، لك استجيب ولم يستجب لي، فأخبرني ما قصتك ؟ فأخبر بخبر المرأة فقال: غفر لك ما مضى حيث دخلك الخوف، فانظر كيف تكون فيما تستقبل. * الشرح (وقال أبو عبد الله (عليه السلام) ان حب الشرف والذكر) أي حب الجاه والرياسة والعزة بين الناس وحب الذكر والمدح والثناء منهم والشهرة فيهم. (لا يكونان في قلب الخائف الراهب) لأن حب ذلك من آثار الميل إلى الدنيا وأهلها وهما منزهان عنه، وأيضا حبها من الامراض النفسانية المهلكة والخوف والرهبة يهذبان النفس منها. ومن ثم قالوا: الخوف نار الخوف نار تحرق الوساوس والهواجس. وذكر الراهب بعد الخائف من باب ذكر الخاص بعد العام لزادة الإهتمام إذا الرهبة بمعنى الخشية وهي أخص من الخوف كما مر،


[ 223 ]

وأيضا الراهب هو الخائف التارك لإشغال الدنيا وملاذها حتى حلالها والمعتزل عن أهلها والمتحمل لمشاقها ومشاق التكاليف وغيرها. قوله (إن رجلا ركب البحر) أراد بالبحر السفينة مجازا من باب تسمية الحال باسم المحل بقرينة رجوع الضمير المستتر في قوله فكسر إليه والباء في بأهله بمعنى مع. (إلا انتهكها) انتهاك الحرمة تناولها لما لا يحل والحرمة بالضم إسم من الإحترام مثل الفرقة من الإفتراق والجمع حرمات " فقال أفرق من هذا " الفرق محركة الخوف يقال فرق فرقا من باب تعب أي خاف ويتعدي بالهمزة فيقال افرتيه وإنما خافت من الله مع كونها مستكرهة لاجل التمكين فلذلك إضطربت لئلا تمكنه بقدر الإمكان ويفهم منه أن المستكره على الحرام وجب عليه الدفع قدر القدرة ليتخلص من العقوبة. (فبينا هو يمشي إذ صادفه راهب) بين ظرفية والالف للإشباع ومعمولة لفعل يفسره الفعل الواقع بعد إذ الفجائية أو خبر عن مصدره أي صادفه راهب بين أوقات مشيه، أو بين أوقات مشيه مصادفة الراهب: والمصادفة يكديگر را يافتن، والراهب عابد النصاري وهو المنقطع للعبادة. وفي بعض النسخ " إذ ضامه " بالضاد المعجمة، وفي بعضها " إذ جاءه " والمضامة نزديك كسي رفتن. (وتؤمن أنت) أي تقول آمين وهو بالقصر في الحجاز (1) العربية كلمة على فاعيل ومعناه " اللهم استجب " وقبل " كذلك يكون " وقيل " كذا فليكن " وعن الحسن البصري أنه اسم من أسماء الله تعالى والموجود في مشاهير الاصول المعتمدة أن الشديد خطاء وقال بعضهم التشديد لغة وهو وهم قديم ووجه الوهم مذكور في المصباح. (فمشيا تحتها مليا من النهار) أي زمانا كثيرا وساعة طويلة. (فقال غفرك ما مضى حيث ذخلك الخوف) دل على أن ترك كبية واحدة مع الإقتدار عليها خوفا من الله وخالصا لوجهه موجب لغفران الذنوب كلها ولو كن حق الناس على إحتمال لأن الرجل كان يقطع الطرق مع إحتمال أن يكون المغفرة للخوف مع التوبة إلى الله والمراجعة إلى الناس في حقوقهم كما فيهم من قوله " وليس له همة إلا التوبة والمراجعة ".


1 - قوله " وهو بالقصب في الحجاز " أي أمين على وزن شريف، قال الشاعر: تباعد منى فطحل إذ رأيته * أمين فزاد الله ما بيننا بعدا وهي كلمة غير موضوعة في الاصل للدعاء، بل معناه كذلك فليكن، فتسعمل بعد كل كلام يليق بأن يظهر المخاطب بعده الشوق إلى وقوعه، ولذلك يبطل به الصلاة عندنا. لأنه بمنزلة كلام الادميين نظير أهلا وسهلا ومرحبا وسقيا ورعيا، والتعبير بالدعاء نظير " اللهم استجب " لتقريب المعنى. (ش) (*)

[ 224 ]

* الأصل 9 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي بن النعمان، عن حمزة بن حمران قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن مما حفظ من خطب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: يا أيها الناس إن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم وإن لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم، ألا إن المؤمن يعمل بين مخافتين: بين أجل قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه وبين أجل قد بقى لا يدري ما الله قاض فيه، فليأخذ العبد المؤمن من نفسه لنفسه ومن دنياه لاخرته وفي الشبيبة قبل الكبر وفي الحياة قبل الممات، فو الذي نفس محمد بيده ما بعد الدنيا من مستعتب وما بعدها من دار إلا الجنة أو النار. * الشرح قوله (أيها الناس إن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم) لعل المراد بها مواضع العلوم والحقايق وهي القوانين الشرعية، أو الحجج العالمون بها. (وإن لكم نهاية فإنتهوا إلى نهايتكم) كان المراد بها الغاية المطلوبة للإنسان وهي الكمالات الموجبة للقرب وحملها على الأجل الموعود بعيد. (ألا إن المؤمن يعلم بين مخالفين بين أجل قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه وبين أجل قد بقى لا يدري ما لله قاض فيه) دل على أن الخوف كما يكون بالنسبة إلى ما يأتي بكون بالنسبة إلى ما مضى أيضا وتخصيصه بما يأتي وإطلاق الحزن على ما مضى إصطلاح عند قوم وهذان الخوفان يوجبان تحقق كمال الإنسان، لأن الخوف ما مضى يوجب تصميم العزم بالتوبة والإستغفار والتدارك والإعتراف بالتقصير وإشتغال القلب بذكر الرب والخوف مما يأتي من إحتمال المعصية والإغترار ونقصان الدرجة عن درجة الابرار وإنقلاب والغفلة وترك الطاعات يوجب الإجتهاد في إكتساب الخيرات والمبادرة إلى تحصيل الكمالات والمحافظة لاوقات العبادات، والخالي عن الخوف قاسي القلب فاسد العقل * (فويل للقاسية قلوبهم اولئك في ضلال مبين " (فليأخذ العبد المؤمن من نفسه لنفسه) بأن يأخذ في الدنيا من نفسه فعل الطاعات والقربات وترك المنهيات ورفض الدنيا وأهلها ورسوم العادات، لنفسه في الاخرة (ومن دنياه لاخرته) بأن ينفع متاعها على الفقراء والمساكين وذوي الحاجات من المسلمين ولا ينسى نصيبه من الدنيا وهي مزرعة الآخرة. (وفي التشبية قبل الكبر) لأنه قد لا يصل الكبر فالتأخير مفوت للمقصود أو لان القدرة على العمل وتحمل المشاق في أيام الشباب أقوى أو لأن القوي في أيامه قوية وكما العمل تابع لقوتها. أو لأن العمل إذ صار ملكة في أيامه سهل عليه في أيام الكبر أو لأنه ينبغي أن يكون ميول القلب في أيام إلى الطاعة والإنقياد للاوامر والنواهي ليكون ما يرد على لوح نفسه من الكمالات النافعة في


[ 225 ]

الاخرة (1) تسود مرآة نفسه بالملكات الردية فلم يكد يقبل بعد ذلك الإستضاءة بنور الحق فكان من الاخسرين أعمالا. (وفي الحياة قبل الممات) لأن العمل بعد الموت منقطع كما أشار إليه بقوله: (فوالذي نفس محمد بيده ما بعد الدنيا من مستعتب) مستعتب مصدر على زنة المفعول طلب الرضا أو اسم فاعلي على إحتمال بمعنى طالبه والعتب والعتاب التوبيخ والسخط للذنب والتقصير، يقال عتب عليه عتبا من بابي صرف وقتل، وعاتبه معاتبة وعتابا أي وبخه ولامه وسخط عليه لذنبه وتقصيره والإعتاب الازالة لكون الهمزة للسلب فهو بمعنى الرضا، يقال أعتبه اعتابا أي أزال عنه العتاب وعاد إلى مسرته ورضاه، والإستعتاب طلب الاعتاب والرضا بازالة ما عوتب عليه والمعنى ليس بعد الدنيا من استرضاء وإقالة ذنب وقبول عذر كما قال تعالى " وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين " فالمعتب بفتح التاء المرضى أي أن يطلبوا الرضا والمسرة عنه تعالى ويستقيلوه فلا يرضى عنهم ولا يسرهم ولا يقيلهم لأن محل الإستعتاب والإعتاب والإستقاله والإقالة إنما هو الدنيا قبل حضور الموت وأما بعده فهو دار جزاء. (وما بعدها من دار إلا الجنة أو النار) فمن أطاع ربه في الدنيا فالجنة داره ومن عصاه فالنار منزله وماواه. والمقصود من هذا الحديث حث المكلف على إغتنام الفرصة في زمن المعلة للاستعتاب والإعتذار والتوبة والإستغفار والإستيقاظ عن سنة الغفلة والإجتهاد ورائي الأعمال والإستعداد لما بعد الموت لئلا يقع بعده في الحسرة والندامة فيعذر فلا - يقبل معذرته * (أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر " بل قد يمنع من الإعتذار فيقول * (اخسؤا فيها ولا تكلمون ". * الأصل 10 - عنه. عن أحمد، عن إبن محبوب، عن داود الرقي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: * (ولمن خاف مقام ربه جنتان) * قال: من علم أن الله يراه ويسمع ما يقول ويعلم ما يعمله من خير


1 - قوله " على لوح نفسه من الكمالات النافعة في الاخرة " هذا ما جرى عليه علماء الاخلاق ويدل على قوله تعالى " يوم لا ينفع مال ولا بنون الامن أتى الله بقلب سليم " لأن بنائهم على أن المؤثر بالذات في السعادة الاخروية هو الكمالات الحاصلة للنفس الإنسانية بسبب الملكات الكريمة، وأما عمل الجوارح كالصلاة والصيام والحج فإنما يؤثر بالتسبيب وبالعرض لأنه يوجب رسوخ الملكات، ورسوخ الملكات يوجب السعادة في الاخرة. فعمل الجوارح سبب سبب السعادة ولا يفيد إن لم يكسب للنفس ملكه راسخة، أو صفة ثابتة. (ش) (*)

[ 226 ]

أو شر فيحجزه ذلك عن القليح من الأعمال، فذلك الذي خاف مقام ربه ونهي النفس عن الهوى. * الشرح قوله (ولمن خاف مقام ربه جنتان) قال الشيخ بهاء الملة والدين والمراد بمقام ربه والله أعلم موقفة الذي يوقف فيه العباد، للحساب، أو هو مصدر بمعنى قيامة على أحوالهم ومراقبته لهم، أو المراد مقام الخائف عند ربه وفسر الجنتان بجنة يستحقها العبد بعقائده الحقة واخرى بأعماله الصالحة. أو احديهما لفعل الحسنات والاخرى لترك السيئات أو جنة يثاب بها واخرى يتفضل بها عليه أو جنة روحانية واخرى جسمانية، وقال صاحب الكاشف الخطاب للثقلين فكأنه قيل للخائفين منكما جنتان جنة للخائف الانسى وجنة للخائف الجني وجوز أيضا أرادة الثاني والثالث المذكورين. أقول يجوز أن يراد جنة للخوف لأنه عبادة كما مر وجنة للازمه وهو فعل الطاعات وترك المنهيات ويشعر به ما بعده، وما روى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " من عرضت له فاحشة أو شهوة فإجتنبها من مخافة الله عز وجل حرم الله عليه النار وآمنه من الفرغ الاكبر وأنجز له ما وعده في كتابه في قوله تعالى * (ولمن خاف مقام ربه جنتان " فإن ترتب إستحقاق الجنتين على الخوف والإجتناب يشعر بما ذكرنا. قوله (فذلك الذي خاف مقام ربه ونهي النفس عن الهوى) أشار به إلى أن الموصول في قوله تعالى * (وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فان الجنة هي المأوى " من علم أن الله يراه إلى آخره، وأنه الذي في مقام المراقبة، وأنه الذي له جنتان وأن نهي النفس عن الهوى تابع للخوف، وأن الخوف تابع للعلم المذكور، فلا خوف بدونه كما قال عز وجل * (إنما يخشى الله من عباده العلمؤا ". * الأصل 11 - عنه، عن أحمد بن محمد، عن ابن سنان، عن ابن مسكان، عن السحن بن أبي سارة قال: سمعت أبا عبد الله يقول: لا يكون المؤمن مؤمنا حتى يكون خائفا راجيا ولا يكون خائفا راجيا حتى يكون عاملا لما يخاف ويرجو. * الشرح قوله (لا يكون المؤمن مؤمنا حتى يكون خائفا راجيا) قد شاع إطلاق الإيمان على ما يمنع من الدخول في النار وهذا الإيمان لا يكون إلا مع الصفات المذكورة التي أولها الخوف من الله وأسبابه على كثرتها أما امور مكروهة لذاتها كشدائد الدنيا والاخرة كشدة الموت وعذاب القبر وهول


[ 227 ]

المطلع والموقف بين يديه عز وجل وكشف السر والمناقشة في الحساب والعبور على الصراط والدخول في النار وحرمان الجنة، والحجاب منه تعالى وخوف الحجاب أعلى رتبة وهو خوف العارفين وما قبله خوف العابدين والصالحين والزاهدين أو امور مكروهة لانها تؤدى إلى ما هو مكروه لذاته كنقض التوبة والموت قبلها والتقصير في الطاعة والإفراط في القوة الشهوية والغضبية وسوء الخاتمة والشقاوة في العلم الازلي، والاغلب على المتقين خوف الخاتمة والاعظم خوف السابقة لكون الخاتمة تبعا لها. * الأصل 12 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن فضيل بن عثمان، عن أبي عبيدة الحذاء، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: المؤمن بين مخافتين: ذنب قد مضى لا يدري ما صنع الله فيه وعمر قد بقي لا يدري ما يكتسب فيه من المهالك، فهو لا يصبح إلا خائفا ولا يصلحه إلا الخوف. * الشرح قوله (فهو لا يصبح إلا خائفا) أصبح دخل في الصباح وهذا التأكيد لما سبق من قوله " المؤمن بين مخافتين " أو الغرض منه افادة إستمرار الخوف دائما. قوله (ولا يصلحه إلا الخوف) أذبه يتلافي ما فات ويتدارك ما هو آت كما مر. 13 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان أبي (عليه السلام) يقول: إنه ليس من عبد مؤمن إلا [ و ] في قلبه نوارن: نور خيفة ونور رجاء، لو وزن هذا لم يزد على هذا ولو وزن هذا لم يزد على هذا.


[ 228 ]

* الأصل (باب) (حسن الظن بالله عز وجل) 1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن داود بن كثير، عن أبي عبيدة الحذاء، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (عليه السلام): قال الله تبارك وتعالى: لا يتكل العاملون لي على أعمالهم التي يعملونها لثوابي فإنهم لو إجتهدوا وأتعبوا أنفسهم - أعمارهم - في عبادتي كانوا مقصرين غير بالغين في عبادهم كنه عبادتي فيما يطلبون عندي من كرامتي والنعيم في جناتي، ورفيع - الدرجات العلي في جواري ولكن برحمتي فليثقوا وفضلي فليرجوا، وإلى حسن الظن بي فليطمئنوا، فإن رحمتي عند ذلك تدركهم، ومني يبلغهم رضواني ومغفرتي، تلبسهم عفوي فإني أنا الله الرحمن الرحيم وبذلك تسميت. * الشرح قوله (لا يتكل العاملون لي على أعمالهم) أي لا يعتمدوا في دخول الجنة ونيل ودرجاتها على محض تلك الأعمال وإن كان صحيحة تامة الاركان في نفسها وواقعة مع المبالغة في الإجتهاد لأنها بالنسبة إلى عظمة الحق وما يستحقه من العبادة ناقصة وقد نطقت ألسنة الأولياء بأنهم ما عبدوه حق عبادته فكيف غيرهم وبالنظر إلى النعيم الجنات ورفع الدرجات وكرامة الرب وجوار القرق قاصرة غير قالبة لأقتضائها مع أن مفاسد الأعمال كثيرة لا تخلص منها إلى آخر العمر الأنادرا والاتكال عليها موجب للعجب المهلك غالبا، وعلى هذا لا ينبغي للعاملين أن يتكلوا على محض أعمالهم ولا يثقوا بمجرد أفعالهم، بل ينبغي لهم مع الإجتهاد فيها والإتيان بها تمامة الأركان وتخليصها عن طريان المفاسد وشوائب النقصان أن يثقوا برحمة ربهم في دخول الجنان ويرجوا فضله في الكرامة والإحسان ويطمئنوا إلى حسن الظن به في قبول العمل وجبر النقصان، فإن رحمته عند ذلك تدركهم ورضوانه يبلغهم في دار السلامة، ومغفرته تلبسهم لباس العفو والكرامة وبهذا التقرير ظهر أن طمع من ترك العمل لحسن الظن به مقطوع، وأن قول هذا في هذا الخبر دلالة على أن العمل ليس سببا لدخول الجنة ممنوع كيف وقد قال جل شأنه * (ادخلوا الجنة بما كنتم تعلمون " وملحض القول أن الإحسان بالعمل مع عمل آخر وهو الثقة بفضل الله ورحمته في قبوله سبب لدخول ونيل درجاتها كما قال * (إن رحمة الله قريب من المحسنين " هذا وقد ذهب جماعة من العامة إن العمل ليس سببا لدخول الجنة أصلا وإستعدلوا على ذلك بما رواه مسلم عن


[ 229 ]

النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال " لن يدخل أحدا منكم عمله الجنة " وهذا بناء على أصلهم من أن الله تعالى يجوز أن يعذب المؤمن المطيع ويثيب الكافر، وأوردوا على أنفسهم أن ذلك منقوض بالاية المذكورة وأن العمل إذا لم يكن سببا أصلا فما الفائدة فيه ؟ فأجابوا عن الأول بأن معنى الاية: إدخلوا بأعمالكم رحمة من الله لا إستحقاقا عليه، وقال المازري معناها أن دخول الجنة بالعمل لكن بهدايته له وفضله فصح أنه يدخل الجنة بمجرد العمل. وأجاب أبو عبد الله إلا بي عن الثاني بأن دخول الجنة إنما هو بنعمة الله لا يلغون أثر الأعمال بل يقول لون إنما هو في رفع الدرجات. أقول: يرد على الجواب الأول أن إستفادة من الاية ممنوعة وعلى تقدير التسليم لا يخلو من تناقض لأن قولهم ادخلوها بأعمالكم يفيد ن الأعمال سبب للدخول في الجملة وقولهم لا إستحقاقا عليه يفيد أنها ليست له وعلى جواب المازري أنه لا ينافي كون الأعمال سببا في الجملة وعلى جواب الأبي أنه إذا جاز أن تكون الأعمال سببا لعلو الدرجات لم لا يجوز (1) لدخول الجنة. * الأصل 2 - إبن محبوب، عن جميل بن صالح، عن يزيد بن معاوية، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: وجدنا في كتاب علي (عليه السلام) أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال - وهو على منبره - والذي لا إله إلا هو ما اعطي مؤمن قط خير الدنيا والاخرة إلا بحسن ظنه بالله ورجائه له وحسن خلقه والكف عن اغتياب المؤمنين، والذين إله إلا هو لا يعذب الله مؤمنا بعد التنوبة والإستغفار إلا بسوء ظنه بالله وتقصيره من رجائه وسوء خبقه وإعتيابه للمؤمنين. والذي لا إله إلا هو لا يحسن ظن عبد مؤمن بالله إلا كان الله عند ظن عبده المؤمن، لأن الله كريم بيده الخيرات، يستحيي أن يكون عبده المؤمن قد أحسن به الظن ثم يخلف ظنه ورجاءه، فأحسنوا بالله الظن وارغبوا إليه. * الشرح (وإلى حسن الظن بي فليطمئنوا) هذا هو المطلوب ولذا ذكره في هذا الباب وأما ذكره في باب الرضا بالقضاء فمن باب التبعية وينبغى أن يعلم أن الخوف يقتضى ترك المنهيات والرجاء يقتضي فعل الصاعات والمكلف بعد إتصاله بهما على السواء ينبغي أن لا يتكل على أعماله فإن العبد - كما


1 - قوله " أن تكون الأعمال سببا لعلو الدرجات " ومبنى كلام الشارح أن عمل الجوارح سبب لدخول الجنة ولكن سببيته بالواسطة لأنه سبب لعلو الدرجة، وعلو الدرجة سبب لدخول الجنة، وعلى هذا فلا معنى لنفي سببية العمل لدخول الجنية أصلا. نعم أن اراد قائله نفي السببية بالمباشرة كان له وجه لكن يأبي عنه ظاهر كلام القائلين بالغاء أثر الأعمال. (ش) (*)

[ 230 ]

مر - وإن بالغ كان مقصرا بعد، بل ينبغى أن يحسن ظنه بالله في قبول عمله ورفع درجته ويعتمد على فضله وكرمه ولا يسوء ظنه به فإن حسن الظن ينبعث منه المحبة وهي أعلى مقامات السالكين وسوء الظن ينبعث منه النفرة وهي من أعظم خصال الشياطين، ومما ذكرنا يندفع وتوهم أن حسن الظن يوجب ترجيح الرجاء على الخوف وهذا ينافي ما ممر من إعتبار التساوي بينهما. قوله (والذي لا إله إلا هو ما أعطى مؤمن قط خير الدنيا والاخرة إلا بحسن ظنه بالله) قال بعض الافاضل معناه حسن ظنه بالغفران إذا ظنه حين يستغفر وبالقبول إذا ظنه حين يتوب وبالاجابة إذا ظنه حين يدعو وبالكفاية حين يستكفي لان هذه صفات لا تظهر إلا إذا حسن ظنه بالله تعالى وكذلك تحسين الظن بقبول العمل عند فعله اياه. فينبغي للمستغفر والتائب والداعي والعامل أن يأتوا بذلك موقنين بالإجابة بوعد الله الصادق فإن الله تعالى وعد بقبول التوبة الصادقة والأعمال الصالحة، وأما لو فعل هذه الأشياء وهو يظن أنها لا تقبل ولا تنفعه وفذللك قنوط من رحمة الله والقنوط كبيرة ملهكة وأما ظن المغفرة مع الأصرار وظن الثواب مع ترك الأعمال فذلك جهل وغرور يجر إلى مذهب الرمرجئة والظن هو ترجيح أحد الجانبين بسبب يقتضى الترجيح فإذا خلا عن سبب فإنما هو غرور وتمنى للمحال. * الأصل 3 - محمد بن يحيي، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن إسماعيل بن بزيع، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: أحسنوا الظن بالله. فإن الله عز وجل يقول: أنا عند ظن عبدي المؤمن بي، إن خيرا فخيرا وإن شرا فشرا. * الشرح قوله (قال أحسنوا الظن بالله فإن الله عز وجل يقول أنا عند ظن عبدي المؤمن بي أن خيرا فخيرا وإن شرا فشرا) أقول قد عرفت معناه ومثله من كتب العامة روى مسلم عن النبي (عليه السلام) قال: يقول الله عز وجل " أنا عند ظن عبدي " قال القابسي يحتمل أنه تحذير للعبد مما يقع في نفسه مثل قوله تعالى " فأحزروه " وقال الخطابي معناه أنا عبد ظن عبدي بي في حسن عمله وسوء علمه لأن من حسن عمله حسن ظنه ومن ساء عمله ساء ظنه. * الأصل 4 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن القاسم بن محمد، عن المنقري، عن سفيان إبن عيينة قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: حسن الظن بالله أن لا ترجو إلا الله ولا تخاف إلا ذنبك. * الشرح


[ 231 ]

قوله (قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول حسن الظن بالله أن لا ترجو إلا الله ولا تخاف إلا ذنبك) يعني حسن الظن أن ترجو الفوز بالسعادة الدنيوية من حول الله وقوته وتترقب النعماء الاخروية من فضله ورحمته لامن محض عملك ومجرد سعيك فإن العمل وإن كان في حد الكمال قال في جانب عزته، ناقص في جنب عظمته، لا يوجب الوصول إلى كمال قربه ونعمته، وأن تخاف من ذنبك فإنه يؤديك إلى مقام الوعيد لامن الله تعالى فإنه ليس بظلام للعبيد وفيه إشارة إلى أن حسن الظن مركب من الرجاء والخوف وبه يشعر لفظه أيضا فلو تخلف أحدهما عن الاخر كان ذلك خروجا عن التوسط بالإفراط والتفريط المذمومين عقلا ونقلا ويشير إليه أيضا قول أمير المؤمنين (عليه السلام) " العبد إنما يكون حسن ظنه بربه على قدر خوفه من ربه وإن أحسن الناس ظنا بالله أشدهم خوفا " ومراده (عليه السلام) في قوله على قدر خوفه من ربه على قدر خوف من عذاب ربه لاجل ذنبه فلا ينافي هذا الخبر، وبالجملة المستفاد من هذين الخبرين إن حسن الظن والخوف متلازمان لأنهما معلولا علة واحدة وهي معرفة الله سبحانه إلا أن كل واحد منهما يستند إلى صنف من المعرفة ونو من الإعتبار يكون هو مبدؤه، أما حسن الظن يعني الرجاء فإن العبد إذا عرف ربه ولا حظ غناه عن العالمين وعن طاعتهم بحيث لا يزيد ذلك في ملكه مثقال ذرة وإعتبر جميع أسباب نعمه عليهم ظاهرة وباطنة جلية وخفية مما هو ضروري لهم كآلات التغذية والتنمية ونحوهما مما لا يحصى وما لهم حاجة ما كالإظفار ونحوها وما هو غير ضروري ولكن زينة لهم كتقوسس الحاجبين وإختلاف ألوان العينين وغيرهما وننفكر في صفحات رحمته ولطفه وإحسانه وإنعامه وفي أن العناية الإلهية إذا لم ترض إن يفوتهم تلك النعماء والمزايا في الحاجة والزينة كيف ترضى بسياقهم إلى الهلاك إلا بدى بعد معرفته وتوحيده والإخلاص في عبادته، يحصل له بعد تلك الإعتبارات والملاحضات حسن الظن به والرجاء إلى رحمته وعوه وأما الخوف فإنه إذا عرف الله تعالى ولاحظ صفات جلاله وعظمته وتعاليه وسطوته وإستغناءه عن الخلق أجمعين وأنه لو أهلك العالمين لم يبال ولم يمنعه مانع ولم يسأله سائل وتفكر في سخطه وغضبه وعظم رزية مخالفته ومعصية في إخراجه آدم من الجنة بسبب المخالة السهلة مع كمال عزته ونشوه بين الملائكة وسجوده له وإخراج الشيطان من رحتمته بسبب مخالفة أمر واحد من أوامره وتكبره على آدم وتفكره في الامم الماضية وكيفية أخذهم واهلاكهم بسبب المعصية فمنهم من أهلكم بالصيحة ومنهم عن أغرقهم ومنهم من خسف بهم الأرض ومنهم من مسخهم إلى غير ذلك من أنواع العذاب، يحصل له بتلك الاعتبارات والملاحظات خوف وخشية وإختراق وذبول وذلة وإنكسار. ثم إن الخوف لا يسمى خوفا إلا بعد أن يفيض أثره على الأعضاء الباطنة فيمنعها عن الرذائل كالكبر


[ 232 ]

والحسد والحقد والبخل وسوء الخلق وغيرها، وعلى الأعضاء الظاهرة فيكفها عن المعاصي كما أن الرجاء لا يسمى رجاء حتى يوجب ميل الباطن إلى الأخلاق الفاضلة وميل الظاهر إلى الأعمال الصالحة فالجمع بينهما يوجب استقامة الظاهر والباطن والصبر عند المعصية والطاعة. * الأصل (باب الإعتراف بالتقصير) 1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن سعد ابن أبي خلف، عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) قال: قال لبعض ولده: يا بني عليك بالجد لا تخرجن نفسك من حد التقصير في عبادة الله عز وجلب وطاعته، فإن الله لا يعبد حق عبادته. * الشرح قوله (فإن الله لا يعبد حق عبادته) أي لا يعبد حق عبادته كما وكيفا، كيف وقد اعترف خاتم الأنبياء وسيد الأوصياء بالتقصير، وفيه تنبيه على حقارة عبادة الخلق في جنب عظمته وإحسانه وإستحقاقه لما هو أهله ليدوم شكرهم وجدهم في عباداتهم ولا يستكبروا شيئا من طاعاتهم. * الأصل 2 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن بعض العراقيين، عن محمد بن المثنى الحضرمي، عن أبيه، عن عثمان بن زيد، عن جابر قال: قال لي أبو جعفر (عليه السلام) يا جابر لا أخرجك الله من النقص و [ لا ] التقير. * الشرح قوله (يا جابر لا أخرجك الله من النقص ولا التقصير) أي وفقك لأن تعد عبادتك ناقصة ونفسك مقصرة أو لأن تعد نفسك ناقصة مقصرة، فبالنقص تخرج من الكبر وبالتقصير من العجب وللكسل في العبادة مع ما فيها من الإعتراف بالحاجة والذل والعبودية لأن من عرف تقصير نفسه ونقصها كان في مقام الحاجة والذل والإنكسار ولاعبودية أشرف منها. * الأصل 3 - عنه، عن ابن فضال، عن الحسن بن الجهم قال: سمعت أبا الحسن (عليه السلام) يقول: إن رجلا في بني إسرائيل عبد الله أربعين سنة ثم قرب قربانا فلم يقبل منه فقال لنفه: ما اتيت إلا منك وما الذنب إلا لك، قال: فأوحى الله تبارك وتعالى إليه إليه ذمك لنفسك أفض من عبادتك أربعين سنة.


[ 233 ]

* الشرح قوله (ثم قرب قربانا فم يقبل منه) القربان إسم لما يتقرب به إلى الله تعالى من ذبيحة وغيرها. قيل قبوله عندهم كانت عبارة عن خروج النار وإحراقه. (فقال لنفسه ما أتيت الإمنك وما الذنب الالك) هذا الإعتراف من توابع العلم والحكمة لأن العالم الحكيم يعلم أن فيضه تعالى (1) غير معقول علم أن ذلك لتقصير في عمله ونقص نفسه ثم عدم تأثير عبادته مدة أربعين سنة في صفاء قلبه مع ما روى أن من عبد الله أربعين يوما خالصا لوجه الله ينفجر في قلبه ينابيع الحكمة إنما هو لفساد في عمله مثل الرياء والحسد أو الفجر والعجب أو غيرها، ومنه يعلم أن العمل بدون تصفية القلب غير مقبول (2)


1 - قوله " قوله لأن العالم الحكيم يعلم أن فيضه " مذهب الحكماء أن وجود الممكن عن مبدئه أما أن يتوقف على إستعداد مادة لقبوله كوجود أشخاص الحيوان والنبات وحينئذ لا يوجد إلا بعد حصول ذلك الإستعداد، ولا يتأخر عن الإستعداد البتة. فإذا صار البذر مستعدا لأن يوجد في الصورة النباتية وجد من غير بطؤ وريث لأن فيضه تعالى عام لا يتأخر عن قابلية المستفيض البتة، وإن لم يكون وجود الممكن متوقفا على الإستعداد. بل كان وجوده ممكنا دائما لم يتأخر وجوده الا عن مشية الله تعالى لأن فيضه عام لكل قابل كنور الشمس فإنه يضئ كل شئ يمر في مقابله، ولا يتوقف اضاءته الا على المقابلة، وعلي هذا فإذا عمل المؤمن عملا مؤثرا في تهذيب نفسه وحصول ملكة صالحة في قلبه من غير مانع ومفسد كالعجب والرياء فلا معنى لعدم قبوله كما لا يحتمل عدم تأثير الماء في نمو النباتات وعدم تأثير الغذاء في شبع الحيوان. (ش) 2 - قوله " بدون تصفيه القلب غير مقبول " ويدل عليه أيضا قوله تعالى " يوم لا ينفع ما ولا بنون الامن أتى الله بقلب سليم " ويؤيد هذا الكلام ما ذكرناه سابقا من أن العمل سبب بالواسطة للسعادة الاخروية لا بالمباشرة. وإن السبب المباشر القريب هو الملكة الصالحة الراسخة، وإنما أمر بهذه الأعمال الظاهرة لتحصيل تلك الملكة والغرض الاصلي فيها تحصيل السعادة في الاخرة ومن زعم أن حكمة أنزال الكتب وإرسال الرسل وتشريع الشرائع حفظ نظم هذا العالم وحسن سياسة العباد فهو بمعزل عن الحق قاصر النظر على الماديات " يعلمون ظاهرا من الحيوة الدنيا وهو عن الآخرة هم غافلون ". وقال تعالى " ونفس وما سويها فالهمها فجورها وتقويها قد افلح من زكيها وقد خاف من دسيها " فبين أن فلاح نفس الإنسان بالتزكية وإستدل عليها بأن نفسه مجردة موجودة بأمر الله تعالى ويعرف الفجور والتقوى بالهامه تعالى وكل شئ كان له صفة من الصفات إيا ما كانت فإنما جعلت فيه لغاية يتوخاها البتة بتلك الصفة وليس إدراك الحسن والقبح وإستبشاع المنكرات وتحسين المعروفات بالهام خالقه عبثا في وجود الإنسان، بل لا بد من أن يكون لغاية هي تزكية نفس كما أن وجود رغبة أو رهبة في كل موجود إنما هو لأن ما يرغب فيه غايته ومكمل لوجوده كرغبة الشجر إلى نور الشمس وجعل إدراك الفجور والتقوى في طبيعة النفس لأن فلاحها بتزكيتها وذكرنا شيئا يتعلق بذلك في المجلد الرابع ص 285. (ش) (*)

[ 234 ]

بلوغه حد الكمال من أن يطهر نفسه من الفساد وينزه ظاهره وباطنه عن العلائق ويوجه قلبه إلى الله ويتفكر في معاني الكلمات ألتي يناجيه بها وأسرار الآيات ألتي يتلوها ويعترف بالعحز والتقصير. فإنه إذا كان كذلك في جميع الأوقات أو في أكثرها بلغ قبول الحق وأدرك وصاله حتى تصير إرادته كارادته لا يتخلف عنها المراد، والله ولى التوفيق. (فأوحى الله تبارك وتعالى إليه) ظاهره بلوغ الوحي إليه ويحتمل نزول إلى يني فبلغه. * الأصل 4 - أبو علي الأشعري، عن عيسى بو أيوب، عن علي بن مهزيار، عن الفضل إبن يونس، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: أكثر من أن تقول: اللهم لا تجعلني من المعارين ولا تخرجني من التقصير، قال: قلت: أما المعارون فقد عرفت أن الرجل يعار الدين ثم يخرج منه، فما معنى لا تخرجني من التقصير ؟ فقال: كل عمل تريد به الله عز وجل فكن فيه مقصرا عند نفسك، فإن الناس كلهم في أعمالهم فيما بينهم وبين الله مقصرون إلا من عصمه الله عز وجل. * الشرح قوله (فقال كل عمل تريد به) وجه (الله عز وجل) وهو عمل الدين والاخرة وأما عمل الدنيا فلا ينبغي أن تعد نفسك في ترك الجد فيه مقصرة. (فإن الناس كلهم في أعمالهم فيما بينهم وبين الله مقصرون) إذ ليس أحد وأن اشتد في طلب رضا الله تعالى حرصه وطال في العمل إجتهاده ببالغ حقيقة مالله سبحانه أهله من الطاعة له وكمال الإخلاص ودوام الذكر وتوجه القلب إليه وأداء حق شكر نعمه. إذ هو بكل نعمة يستحق الطاعة والشكر ونعمه غير محصورة كما قال * (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها " فإذا قوبلت الطاعة بالنعمة بقى أكثر نمعه غير مشكورة لا مقابل لها من الطاعة. (إلا من عصمه الله عز وجل) وهم الأنبياء والأوصياء لأن عصمتهم ونورانية ذواتهم وصفاء صفاتهم وخلوص عقائدهم وعزيمة قلوبهم وكما نفوسهم ودوام ذكرهم اخرجتهم عن حد التقصير، ومع ذلك إعترفوا به إظهارا للعجز والنقصان، وإن جاؤا بما هو المطلب من الإنسان على نهاية ما يتصور من القدرة والإمكان، ويمكن أي يكون المراد بهم الملائكة المقربون الذين لا يعصون الله وهم بأمره يعلمون لكن الإستثناء حينئذ منقطع إلا أن يراد بالناس العابد، والله أعلم.


[ 235 ]

* الأصل (باب الطاعة والتقوى) 1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن أخي عرام عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لا تذهب بكم المذاهب، فوالله ماشيعتنا إلا من أطاع الله عز وجل. * الشرح قوله (لا تذهب بكم المذاهب) أي لا تذهبكم المذاهب إلى سبيل الضلال وتمنى احال فالباء للتعدية واسناد الأذهاب إليها مجاز عقلي لأن فاعله النفس الإمارة والشيطان، ولعل المراد به الأعمال القبيحة والعقائد الكاسدة والأماني الفاسدة ألتي من جملتها أن تفعلوا ما تريدون وتقولوا نحن مشتيعون، ونحن نحب أهل البيت، ونرجو شفاعتهم، فإن ذلك لا ينفعكم كما أشار إليه بقوله: (فو الله ما شيعتنا إلا من إطاع الله عز وجل) بالقلب والجوارح مع محبتتا لظهور أن معنى التشيع هو المتابعة لهم قولا وفعلا ولا يتحقق هذا المفهوم إلا لمن أطاع الله كما أطاعوه. * الأصل 2 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال، عن عاصم بن حميد عن أبي حمزة الثمالي، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: خطب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حجة الوداع فقال: يا أيها الناس والله ما من شئ يقربكم من الجنة ويباعدكم من النار إلا وقد أمرتكم به وما من شئ يقربكم من النار ويباعدكم من الجنه إلا وقد نهيتكم عنه، ألا وإن الروح الأمين نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ولا يحتمل أحدكم إستبطاء شئ من الرزق أن يطلبه بغير حله فأنه لا يدرك ما عند الله إلا بطاعته. * الشرح قوله (ما من شئ يقربكم من الجنة ويباعدكم من النار إلا وقد أمرتكم به) المقرب من الجنة هو الأداب الكاملة والعقائد الحقة والأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة والمقرب من النار أضدادها (الأوان الروح الأمين) جبرئيل (عليه السلام) (نفث في روعي) النفث النفخ، ونفث الله الشئ في القلب من باب ضرب ألقاه، والروع بالضم الخاطر والقلب. (إنه لن تموت نفس) موتها مفارقتها للبدن ورفع يدها عن التصرف فيه بأمر الله تعالى (حتى تستكمل رزقها) أي تأخذ رزقها المقدر على وجه الكمال ضرورة أن بقاء تعلقها بالبدن متوقف على الرزق. فمن المحال أن يبقي التعلق وينقطع الرزق.


[ 236 ]

(فاتقوا الله) التقوى هي الإقتداء بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمقتى من يجعل بينه وبين ما يخاف منه وقاية تقية منه " ومنه اتقوا النار ولو بشق تمرة " فأصل التقوى الخوف من الله بملاحظة جلال الله وعظمته وقبح مخالفته وشدة عقوبته، ولما كانت التقوى هي الحاجزه عن تقحم الدنيا والوغول فيها، وطلبها من حيث لا يجوز أمر أو لا بها وعطف عليها ما هو من لوازمها فقال: (وأجملوا في طلب) من الجميل أو الأجمل قال في المصباح: أجملت في الطلب رفقت أي أحسنوا في الطلب ولا يكن كدكم فيه كدا فاحشا ولا مذهب إكتسابكم مذهبا باطلا أو ارفقوا فيه واقتصوا، من الرفق في السير إذا قصد. (ولا يحمل أحدكم إستبطاء شئ من الرزق أن يطلبه بغير حله) أي لا يبعث أحدكم ذلك على طلبه بطريق غير مشروع، فالمصدر المستفاد من أن يطلبه منصوب بنزع الخافض. (فإنه لا يدرك ما عند الله) عن الثواب الجزيل والاجر الجميل والرزق الحلال. (إلا بطاعته) في الأوامر والنواهي، فكما أن من سلك سبيل المصيبة ضل عن سبيل الجنة وإستحق العقاب وحرم عن الثواب. فكذلك من طلب الرزق من غير حله حرم عما عنده تعالى من الرزق الحلال وإستحق العقاب بكسب الحرام كما روى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من " أن الله تعالى قسم الأرزاق بين خلقه حلالا ولم يقسمها حراما فمن اتقى الله وصبره أتاه رزقه من حله، ومن هتك حجاب الله عز وجل واخذه من غير حله قص به من رزقه الحلال وحوسب عليه يوم القيامة " وأعلم أن الرزق عند المعتزلة كل ما صح الإنتفاع به بالتغذي وغيره وليس الحرام عندهم رزقا، وهذا الحديث يدل عليه، وعند الإشاعرة كل ما ينتفع به ذوحياة بالتغذي وغيره وإن كان حراما وخص بعضهم بالأغذية والأشربة وللطرفين دلائل ومؤيدات تركناها تحرزا من الاطناب. * الأصل 3 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن سالم، وأحمد بن أبي عبد الله، عن أبيه، جميعا عن أحمد بن النضر، عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال لي يا جابر أيكتفي من انتحل التشيع أن يقول بحبنا أهل البيت، فوالله ما شيعتنا إلا من إتقى الله وأطاعه وما كانوا يعرفون يا جابر إلا بالتواضع والتخشع والأمانة وكثرة ذكر الله والصوم والصلاة والبر بالوالدين والتعاهد للجيران من الفقراء وأهل المسكنة والغامرين والأيتام وصدق الحديث وتلاوة القرآن وكف الألسن عن الناس إلا من خير، وكانوا امناء عشائرهم في جميع الأشياء، قال جابر: فقلت: يا ابن رسول الله ما نعرف اليوم أحدا بهذه الصفة، فقال: يا جابر لا تذهبن بك المذاهب ولا يعمل بسنته ما نفعه حبه إياه شيئا، فاتقوا الله واعملوا لما عند الله ليس بين الله وبين أحد قرابة، أحب العباد إلى الله عز وجل


[ 237 ]

وأكرمهم عليه أتقاهم وأعملهم بطاعته يا جابر ! والله ما يتقرب إلى الله تبارك وتعالى إلا بالطاعة وما معناه براءة من النار ولا على الله لأحد من حجة، من كان الله مطيعا فهو لنا ولي ومن كان لله عاصيا فهو لنا عدو، وما تنال ولا يتنا إلا بالعمل والورع. * الشرح قوله (فوالله ماشيعتنا إلا من اتقى الله وأطاعه) لعل المراد بالتقوى الامتثال بالزواجز وبالطاعة الإمتثال بالأوامر ويحتمل أن يراد بالتقوى تقوى القلوب وهي تخليته عما يفسده وتحليته بما يصلحه، وبالطاعة طاعة الظواهر بترك المنهيات وفعل المأمورات (وما كانوا يعرفون يا جابر) في عهد الائمة الماضين عليهم السلام. (إلا بالتواضع والتخشع) المراد بالتواضع التذلل لله عند أوامره ونواهية وتقلد العبودية بمعرفة عجزه بين يديه، وكما افتقاره إليه، ولعباده المؤمنين تعظيمهم واجلالهم وتكريمهم وإظهار حبهم والميل إلى مجالستهم ومواكلتهم ولين القول عندهم وحسن المعاشرة معهم والإبتداء بسلامهم والرفق بذوى حاجاتهم والأقوام إلى قضاء حوائجهم والمبادرة إلى خدمتهم وغير ذلك مما يدل على ضعته عندهم وعدم تكبره عليهم، والمراد بالخشوع التذلل لله مع الخوف منه كما صرح به المحققين، ثم قال وبذلك فسر في قوله تعالى * (والذين هم في صلوتهم خاشعون " وقال صاحب المصباح: خضع لغريمه خضوعا ذل وإستكان والخضوع قريب من الخشوع إلا أن الخشوع أكثر ما يستعمل في الصوت والخضوع في الإعناق، أقول: ثم شارع وصف القلب والجوارح به كما روى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) " أنه رأى رجلا يعبث بلحيته قي صلاته فقال: أما أنه لو خشع قلبه لخشعت جوارحه " والمراد بخشوع القلب إشتغاله بذكر الله تعالى وتوجهه إليه، وإعراضه عما سواه، وإذا حصل له هذه الفضيلة حمل الجوارح على ما هو المطلوب مع إنكسار وتذلل وخوف على مخالفتها لغفلة أو سهو أو لغرض من الإغراض النفسانية، وإشتغال الجوارح بذلك عبارة عن خشوعها. (والأمانة) وهي حالة نفسانية توجب سكون القلب وطمأنينته، وعدم ميله إلى المكر والحيلة، ومنه فلان مأمون الغائلة أي ليس له مكر يخشى. ولعل المراد بها حفظ الوديعة والعهد من الله تعالى أو مع الناس، ومن طرق العامة " الأمانة غني " أي من شهربها كئر معاملوه فاستغني. (وكثرة ذكر الله) باللسان والقلب خصوصا في مقام الاوامر والنواهي والنوائب (والصوم والصلاة والصوم والصلاة) على أركانهما وشرائطهما وفعلهما كذلك دليل على كمال القوة النظرية والعلمية، والواو للعطف على الكثرة أو على ذكر الله. (والبر وبالوالدين) بتعظيهما وإطاعتهما في كل ما جاز شرعا وعقلا والإحسان إليهما ودفع


[ 238 ]

الاذي عنهما، وأداء ديونهما وطلب الخير لهما حيين وميتين. (والتعاهد للجيران من الفقراء وأهله المسكنة) أي حفظ حالهم ورعاية أحوالهم وإيصال الخير إليهم وترك أذاهم وتحمل الاذي منهم وعيادة مريضهم وتشييع جنائزهم وعدم التطلع إلى عوراتهم، والفقير والمسكين من ليس له مال ولا كسب يفي بقوت السنة له ولعياله واختلفوا في أن أيهما أسوء حال فقال الاصمعي والشافعي وإبن إدريس والشيخ الطوسي في المبسوط والخلاف: أن الفقير أسوء حالا، وقال الفراء وإن السكيت وثعلب وأبو - حنيفة وإبن الجنيد وسلار والشيخ الطوسي في النهاية: أن المسكين أسوء حالا وللطرفين دلائل مذكورة في محلها. (والغارمين والإيتام) بأداء ديونهم وتفقد أحوالهم ورعاية حقوقهم والرفق بهم والعطف على الفقراء أو على الجريان والأخير أنسب لأنه أعم. (وكانوا امناء عشائرهم في (جميع) الأشياء) العشائر جمع العشيرة وهو المعاشر، ولما كانت الأمانة عامة مطلوبة من جميع الجوارح والشئ عاما صادقا على جميع أفعالها صادر المقصود أنهم كانوا امناءهم بجميع الأعضاء في جميع الأفعال. المذاهب حسب الرجل أن يقول: احب عليا وأتولاه ثم لا يكون مع ذلك فعالا فلو قال: إني احب رسول الله (عليه السلام) فرسول الله خير من علي (عليه السلام) ثم يتبع سيرته (حسب الرجل أن يقول احب عليا) التركيب مثل حسبك درهم أي كافيك، وهو خبر لفظا وإستفهام معنى للإنكار والتوبيخ أي لا يكفيه ذلك ولا ينجيه من العقوبة بدون أن يكون فعالا مبالغا في الفضل ظاهرا وباطنا وتابعا له عليه السلام قولا وعملا، والمحبة والشفاعة وإن كنتا نافعتين في دفع الخلود من النار، ولكنهما لاتوجبان عدم الدخول فيها كما نق عن علي (عليه السلام) في حدينه أنه قال: " المؤمن المسرف على نفسه لا يدري (يعني عند الموت) ما يؤال إليه حاله يأتيه الخبر مبهما مخوفا لم يسويه الله بأعدائنا ويخرجه من النار بشفاعتنا فاعملوا وأطيعوا ولا تتكلوا (يعني على شفاعتنا) ولا تستصغروا عقوبة الله فان من المسرفين من لا تلحقه شفاعتنا إلا بعد عذاب الله يثلاثمائة سنة. (فاتقوا الله واعملوا لما عند الله) قد عرفت أن المؤمن لا يخلو من خوف ورجاء وأن الخوف يقتضى ترك المنهيات وهو التقوى وأن الرجاء يقتضى فعل الطاعات وإنما قدم التقوى لأن تخلية النفس عن الرذائل أقدم من تحليته بالفضائل. (وأكرمهم عليه أتقاهم) كما قال عز وجل * (إن أكرمكم عند الله أتقيكم " والمراد بالكرامة القرب منه تعالى والإستحقاق لقبول فيضه الدنيوي والاخروي مثل الجنة ودرجاتها وثمراتها وقطوفها الدانية وغير ذلك مما أعد الله لاوليائه الأبرار وظاهر أن الكرامة لا تحصل لأحد إلا بالتقوى


[ 239 ]

وهي ضبط النفس عما يوجب البعد عنه تعالى من الرذائل النفسانية والجسمانية. (من كان لله مطيعا فهو لنا ولي) أي من كان مطيعا لله لا لغيره من النفس والشيطان فهو لنا ولي ذاتا وفعلا لا لغيرنا، والولي فعيل بمعنى فاعل أي ناصر ومحب، أو بمعنى مفعول كما في قولهم " المؤمن ولي الله ". (ومن كان لله عاصيا فهو لنا عدو) أي من حيث أنه عاص فيرجع النقص والعداوة إلى فعله: " لا إلى ذاته، ولذلك تدركه الشفاعة وتنجيه من الخلود في النار مع أعدائهم ذاتا وفعلا يدل على ذلك ما روى عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " إن الله خلق السعادة والشقاء قبل أن يخلق خلقه فمن خلقه الله سعيدا لم يبغضه أبدا وإن عمل شرا أبغض عمله ولم يبغضه وإن كان شقيا لم يحبه أبدا وإن عمل صالحا أحب عمله وأبغضه لما يصير إليه فإذا أحب الله شيئا لم يبغضه أبدا وإذا أبغض شيئا لم يحبه أبدا ". (وما تنال ولا يتنا إلا بالعمل والورع) أي الإتيان بالطاعات والإجتناب عن المنهيات، قال بعض المحققين للورع أربع درجات الاولى: ورع التاوئبين وهو ما يخرج به الإنسان عن الفسق وهو المصحح لقبول الشهادة، الثانية ورع الصالحين وهو الإجتناب عن الشبهات خوفا منها من الوقوع في المحرمات. الثالثة: ورع المتقين وهو ترك الحلال خوفا من أن ينجر إلى الحرام مثل ترك التحدث بأحوال الناس لمخالفة أن ينجر إلى الغيبع. الرابعة: ورع السالكين وهو الإعراض عما سواه تعالى خوفا من صرف ساعة من العمر فيما لا يفيد زيادة القرب منه تعال وإن علم أنه لا ينجر إلى الحرام. * الأصل 4 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، ومحمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، جميعا عن ابن أبي عمير، عن هشام بن الحكم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا كان يوم القيامة يقوم عنق من الناس فيأتون باب الجنة فيضربونه، فيقال لهم: من أنتم ؟ فيقولون: نحن أهل الصبر، فيقال لهم: على ما صبرتم ؟ فيقولون: كنا نصبر على طاعة طاعة الله ونصبر عن معاصي الله، فيقول الله عز وجل: صدقوا، ادخلوهم الجنة وهو قول الله عز وجل: * (إنما يوفي الصابرون أجرهم بغير حساب) *. * الشرح قوله (إذا كان يوم القيامة يقوم عنق من الناس) العنق الرقبة، والنون مضمومة للإتباع في لغة حجاز وساكنة في لغة تميم، والمراد بها الجماعة من الناس. (فيقولون كنا نصبر على طاعة الله ونصبر على معاصي الله) لاريب في أن النفوس البشرية مائلة


[ 240 ]

إلى اللذات، هاربة عن المشتقات، وأن المعاصي لذات حاضرة والطاعات مشقات ظاهرة فانفس تريد المعاصي وتهرب عن الطاعة. ولذلك ورد في بعض الأدعية " اللهم لا تكلني إلى نفسه طرفة عين فإنك إن تكلني إلى نفسي أقرب إلى الشر وأبعد من اليخر " فمن حاولها بحسن تقديره وملك زمامها بطلف تدبيره حتى صرفا عن مرامها وإستخرجها عن مقامها وحبسها في مرابض العبادة ومرابط الطاعات وصبر على مجاهدتها ملك غنيمة عظيمة هي رأس مال الصابرين وأقوات قلوب السالكين والزاد في السير إلى رب العالمين وأسباب الدخول في الجنة التي اعدت للمتقين، وإليه أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) " إن الله جعل الطاعة غنيمة إلا كيأس عند تفريط الفجرة " وإنما جعل الطاعة غنيمة إلا كيأس وهم الذين لهم جودة القرايخ لأنهم يأخذونها بالمحاربة مع النفس الإمارة كما يأخذ الغانمون الغنيمة بالجهاد مع الكفار بل جهادهم أعظم من الكفار كما قال (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد رجوعه من بعض الغزوات " رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر وهي جهاد النفس " وإذا حصلت لهم تلك الغنيمة وتمكنت فيهم هذه العزيمة أمكن لهم الدخول في الجنة قبل فراغ الناس لهم تلك الغنيمة وتمكنت فيهم هذه العزيمة أمكن لهم الدخول في الجنة قبل فراغ الناس من الحساب لأن اولئك هم المتقون الذين صبروا في دار الدنيا وأدوا حسابهم فيها، وقد قال الله تعالى * (إنما يوفي الصابرون أجرهم بغير حياب " لأن الحساب إنما هو على من خلط عملا صالحا واخر سيئا، وأما المتقون فلا حساب عليهم كما لاحساب على المشركين فإنهم يدخلون النار بغير حساب. * الأصل 5 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن سنان، عن فضيل بن عثمان، عن أبي عبيدة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: كان أمير المؤمنين صلوات الله عليه يقول: لا يقل عمل مع تقوى وكيف يقل ما يتقبل. * الشرح قوله (لا يقل عمل مع تقوى) كل عمل بنى على التقوى لا يقل لكونه عظيما في ذاته وكثيرا ينمو عند الله تعالى مع توفقه على كثير من الأعمال القلبية التي لا توجد إلا بالمجاهدات النفسانية، ولا يهدم ولا يلحق بالنية الخسران كما قال عز وجل: * (فمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أمن أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم " ثم أكد ذلك وأشار إلى أنه لا ينبغى أن يعد قليلا بقوله: (وكيف يقل ما يتقبل) لأن العمل مع التقوى مقبول قطعا لقوله تعالى: * (إنما يتقبل الله ومن المتقين ".


[ 241 ]

* الأصل 6 - حميد بن زياد، عن الحسن بن محمد بن سماعة، عن بعض أصحابه، عن أبان عن عمرو بن خالد، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: يا معشر الشيعة - شيعة آل محمد - كونوا النمرقة الوسطي يرجع إليكم الغالي ويلحق بكم التالي، فقال له رجل من يقاله سعد: جعلت فداك ما الغالي ؟ قال قوم يقولون فينا مالا نقوله في أنفسنا، فليس اولئك منا ولسنا منهم، قال: فما التالي ؟ قال: المرتاد يريد الخير يبلغه الخير يوجر عليه. ثم أقبل علينا فقال: والله ما معنا من الله براءة ولا بيننا وبين الله قرابة ولا لنا على الله حجة ولا نتقرب إلى الله إلا بالطاعة، فمن كان منكم مطيعا لله تنفعه ولايتنا، ومن منكم عاصيا لله لم تنفعه ولايتنا، ويحكم لا تغتروا، ويحكم لا تغتزوا. * الشرح قوله (كونوا المنرقة الوسطى) النمرقة وساده وهي بضم النون والراء وبكسرهما وبغير هاء وجمعها نمارق، ولعل المراد كونوا بين الناس كالنمرقة الوسطى بين النمارق في الشرف والحسن لأن النمرقه الوسطى أشرف النمارق وأحسنها (1) والتفريط، أو كونوا أهل النمرقة الوسطى كما هو شأن أهل الشرف والمجد. أما على حذف المضاف وهو الأهل، أو على إرادتهم من النمرقة مجازا من باب تسمية الحال بإسم المحل أو تسمية أحد المتجاورين باسم صاحبه ووجه التشبيه أو الغرض منه هو قوله يرجع إليكم الغالي ويلحق بكم التالي. وقيل كونوا ذوي النمرقة الوسطى بحذف المضاف، والنمرقة العليا للرسول وعترته المعصومين (عليهم السلام)، والنمرقة الدنيا لعبيد الدنا وأبنائها فأمر (عليه السلام) بالوسطى، لأن من استقر عليها وتمسك بها أطمأن على الحق واستقر دينه على الهدى وأمن من الضلال والردي كما أن من اتكأ على النمرقة الوسطى استقر عليها ووثق بالراحة مطمئنا آمنا من التعب. (قال قوم يقولون فينا مالا نقوله في أنفسنا) فسر الغالي بأخص صفاته التي بها يمتاز عن غيره وهو أنه يقول بأن واحدا من الأئمة اله أو يجري عليه ما هو من أخص صفاته تعالاى من غلا في


1 - قوله " أشرف النمارق وأحسنها " لا يجب أن يكون الوسطى أشرف النمارق ولا حاجة إلى هذا أيضا بل المراد كنون النمارقة الوسطز مستندة للطرفين إذ يعتمد عليها الجلاس من جانبيها بخلاف النمرقة الموضوعة في طرف فإنها يعتمد عليها الجالس في أحد جانبيها، وليس في جانبها الاخر مكان يجلس أحد فيه فيتكأ عليها وبالجملة النمرقة الوسطز وسادة موضوعة في مكان يمكن أن يتكئ عليها جالس من طرف وجالس آخر من طرف آخر بخلاف الوسادة الموضوعة في الطرف إذ لايتكئ عليها إلا من جانب واحد، وكذلك اتباع الأئمة عليهم السلام يجب أن يرجع كل من الطرفين إليه ويعتمد في رأيه عليه. (ش) (*)

[ 242 ]

الدين غلوا من باب قعد تصلب وتشدد حتى جاوز الحد. (قال المرتاد يديد الخير) فسير التالي بأنه المرتاد أي الطالب، من ارتاد الرجل الشئ إذا طلبه والمطلوب أعم من الخير والشر فقوله يريد الخير تخصيص وبيان للمعنى المراد هنا (يبلغه الخير يوجر عليه) من الإبلاغ والتبليغ وهو الإيصال، وفاعله معلوم بقرية المقام أي من يوصله إلى الخير المطلوب له يوجر عليه لهدايته وإرشاده. (ويحكم لا تغتروا ويحكم لا تغتروا) بالغين المعجمة في الموضعين من الإغترار بالولاية والشفاعة وقد ذكرنا سابقا أن الشفاعة قد لا تنال أحدا إلا بعد تلبثه في جنهم زمانا طويلا فلا ينبغي ترك العمل والإغترار بها أو بالفاء فيهما من الفتور في العمل والتكرير للتأكيد أو بأحدهما في الأول والآخرة في الآخر. * الاصل 7 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن عثمان بن عيسى، عن مفضل بن عمر قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) فذكرنا الأعمال فقلت أنا: مما أضعف عملي، فقال: مه، استغفر الله، ثم قال لي: إن قليل العمل مع التقوى خير من كثير العمل بلا تقوى، قلت: كيف يكون كثير بلا تقوى ؟ قال: نعم مثل الرجل يطعم طعامه ويرفق جيرانه ويوطئ رحله فإذا ارتفع له البال من الحرام دخل فيه، فهذا العمل بلا تقوى، ويكون الآخر ليس عنده فإذا ارتفع له الباب من الحرام لم يدخل فيه. * الشرح قوله (فقلت أنا ما أضعف على فقال مه استغفر الله) أمره بالاستغفار عن ذلك القول لأنه ظلم وجار حيث وضع الضعف في غير موضعه وفيه مدح للمفضل بأنه من أهل التقوى إلا أنه هو ناقله وجماعة من أصحاب الرجال جرحوه عدا الشيخ فإنه في إرشاده، عده من شيوخ أصحاب أبي عبد الله (عليه السلام) وخاصته وبطانته وثاقة الفقهاء الصالحين فإن قلت تضعيف العلم وتقليله إعتراف بالتقصير وإنه مطلوب من كل أحد فكيف أمره بالسكوت ونهاه عن ذلك وأمره بالاستغفار المعشر بأنه خطيئة ؟ قلت: الأقوال والأفعال يختلف حكمهخا باختلاف النيات والقصود وهو لم يقصد بذلك القول أن عمله ضعيف قليل بالنظر إلى عظمة الحق وما يستحقه من العبادة وإنما قصد به ضعفه وقلته لذاته وبينهما فرق ظاهر، والأول هو الاعتراف بالتقصير دون الثاني. (ثم قال لي أن قليل العمل مع التقوى خير من كثير العمل بلا تقوى) دل على أن العمل القليل مع التقوى كثير، والعمل الكثير بلا تقوى قليل وبه تبين خطأ المفضل حيث عد الكثير قليلا. (قلت كيف يكن كثير بلا تقوى) كأنه ظن أنه التقوى ما يقى من النار وهو يصدق على الاعمال


[ 243 ]

الصالحة فحينئذ يستعبد تحقق كثير منها بلا تقوى، وحاصل الجواب أن التقوى فعل الطاعات وترك المحرمات وهو الذي يقى من النار وحينئذ يتحقق كثير من الطاعات بدون التقوى عند فعل المحرمات. (ويوطئ رحله) كناية عن كثرة الضيافة قضاء حوائج المؤمن بكثرة الواردين على منزله فذكره بعد الإطعام من باب ذكر العام بعد الخاص أم الإطعام مختص بالسائل وهذا بأهل الدعوة. * الأصل 8 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن أبي داود المسترق، عن محسن الميثمي عن يعقوب بن شعيب قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: ما نقل الله عز وجل عبدا من ذل المعاصي إلى عز التقوى إلا أغناه من غير مال وأعزه من غيره عشيرة وآنسه من غير بشر. * الشرح قوله (وآنسه من غير بشر) أشار إليه أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله " اللهم إنك آنس الانسين بأوليائك " ولا ريب في أن المتقى يمن أوليائه إذ باطنه متوجه إليه وظاهرع عاكف على الإمتثال بين يديه، ولما كانت أولياؤه في الدنيا غبراء في أبنائها، منفردين عنهم في سلوك سبيله، ومبتهجين بمشاهدة أنوار كبريائه كان الله تعالى هو الانسى لهم وهم برحتهم يألفون وبمناجاته يبتهجون، وبفيض جوده يستفيضون وبالغفلة عنهم يضطربون ويستوحشون. * الأصل (باب الورع) 1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن أبي المغرا، عن زيد الشحام عن عمرو ابن سعيد بن هلال الثقفي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: إني لا ألقاك إلا في السنين، فأخبرني بشئ آخذ به، فقال: اوصيك بتقوى الله والورع والإجتهاد وأعلم أنه لا ينفع إجتهاد لا ورع فيه. * الشرح قوله (فقال اوصيك بتقوى الله والورع والإجتهاد) الوقاية الحفظ يقال وقاه الله السوء يقية وقاية أي حفظه، واتقيت الله اتقيت الله اتقاء أي حفظت نفسي عن عذابه أو عن مخالفته والتقوى اسم منه والتاء مبدلة من الواو والأصل وقوى من وقيت لكنه أبدل ولزمت التاء في تصاريف الكلمة، والورع الكف عن المحارم يقال ورع عن المحارم يرع بكسرتين ورعا بفتحتين ورعة مثل عدة فهو ورع أي كثير الورع وورعته عن الأمر توريعا كففته فتورع، إذا عرفت هذا فنقول إذا نظر العبد في


[ 244 ]

العظمة الإلهية وتفكر في الهيبة الربوبية حصل له خوف وخشية يوجب حفظ نفسه عن المخالفة وميلها إلى الطاعة وترك المعصية ويسمى ذلك الخوف أو الحفظ أو الميل أو الجميع بالتقوى وهي تقوى القلوب المذكورة في الآيات والروايات وقد يسمى أثر ذلك وهو فعل الطاعات وترك المنهيات بالتقوى أيضا. والفرق بينهما بالمعنى الأول والورع وهو ترك ما ينبغي تركه ظاهر. أما الفرق بينها بالمعنى الثاني وبينه ففيه خفاء يمكن رفعه بتخصيص التقوى بفعل الطاعات أو بتعميم الترك في الورع بحيث يشمل ترك المباحات بل الأعم منها أو بأن ذكر الورع بعد التقوى من ذكر العام بعد الخاص أن كانت التقوى عبارة عن مجموع الفعل والترك أو بالعكس إن كان عبارة عن كال واحد منهما ثم نقلو للورع خمسة أقسام ذكرها أرباب القلوب ولا بأس أن نشير إليها وإن ذكرناها آنفا لأن ذكرها هنا لا يخلو من فائدة ما، الأول ورع العادلين هو ترك الفسوق، الثاني ورع الصالحين وهو ترك ما يحتمل التحريم ولكن رخص في تناوله بناء على الظاهر كطعام الملوك وعمالهم وعطاياهم، الثالث ورع المتقين وهو ترك ما ليس في حليته شبهة خوفا من أن يؤدي إلى المحرم أو الشبهة، الرابع ورع الصديقين وهو ترك ما ليس في حليته شبهة ولا يخاف من أن يؤدي إلى حرام أو شبهة لعدم تعلقه بالدين كالمباحات أو لا تصاله بمن يكره إتصاله به كما نقل أن ذاالنون المصري لحقه جوع وهو مسجون فأرسلت إليه امرأة صالحة بطعام على يدي السبحان فأبي أن يأكله واعتذر بأنه وصل إليه يدي ظالم، يعني أن القوة التي أوصلت إليه الطعام لم تكن طيبة، ومن ذلك ما نقل أن بعض العرفاء كان لا يشرب الماء من الانهار التي حفرتها الامراء فالماء وإن كان مباحا في نفسه لكنهار أي أن النهر حفلر بأجرة دفعت من مال حرام، الخامس ورع المقربين وهو صرف القلب عن الإشتغال بما سواه تعالى، وينبغي أن يعلم أن الورع كما ذكره بعض أهل التحقيق قد يشبه بالسواس كمن وجد ثوبين أحدهما لم تلحقه نجاسة والآخر لحقته وغسك فيترك الصلاة بالمغسول لأنه مسته نجاسة وكمن قبل أحديده فيغسلها ويقول أن الخروج من عهدة التكليف بيقين على غسلها لأن من الجايز أن يكون بيد من مسه أوبفى من قيل يده نجاسة لا سيما العوام ومن لا يتحفظ ولا يعرف أحكام الطهارة والنجاسة والظاهر أن أمثال هذه الامو من الوسواس إلا إذا كان المس ممن لا يتحفظ ولا يعرف أحكام الطهارة والنجاسة فإن الظاهر أن الإجتناب منه من الورع، وقال بعض العامة كان هذا من باب الورع وإنما الوسوسة مثل ما يتفق لبعض الناس من اكثار الماء للوضوء وأكثار التدلك ونحو ذلك والمراء بالإجتهاد المبالغة في طلب الدين وأحكامه والعمل بها من الجهد بالفتح وهو طلب الشئ الموجب لوصوله إلى نهايته، يقال جهد في الأمر جهدا من باب نفع إذا طلبه حتى بلغ نهايته.


[ 245 ]

* الأصل 2 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسن بن محبوب، عن حديد بن حكيم قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: اتقوا الله وصونوا دينكم بالورع. * الشرح قوله (اتقوا الله وصونوا دينكم بالورع) أي اتقوا عذاب الله ومخالفته صونوا دينكم عن الضياع والفساد بالورع وترك ما ينبغي الإجتناب عنه من المشتبهات وإن بعد احتمال الحرمة فيها قال أمير المؤمنين (عليه السلام) " الورع جنة " أي جنة من النار، إذ من ترك ملاذ الدنيا فاز بالعقبى ونجا من سهام النار، وقال بعض أهل المعرفة: رأيت في المنام كان القيامة قد قامت والخلق كلهم في الموقف فرأيت طيرا أبيض يأخذوا واحدا من الموقف ويدخله الجنة فقلت ما هذا الطير الذي من الله تعالى على عباده، فنادى مناد أن هذا الطير شئ يقال له الورع. * الأصل 3 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان بن يحيى، عن يزيد ابن خليفة، قال: وعظنا أبو عبد الله (عليه السلام) فأمر وزهد، ثم قال: عليكم بالورع، فإنه لا ينال ما عند الله إلا بالورع. * الشرح قوله (فامر وزهد، ثم قال عليكم بالورع فإنه لا ينال ما عند الله إلا بالورع) أي لا ينال ما عند الله من الأسرار اللأهوتية والأنوار الملكوتية واللوامع الغيبية والصور العينية والمثوبات الاخروية واللذات الروحانية والدرجات العالية في الدار الباقية إلا بالورع فإن المتورع يحاسب نفسه دائما في حركاتها وسكناتها ويتهمها في كل ما تأمر به فإذا خلص، من مهلكاتها تنور قلبه (1) باب الملكوت وظهرت له لو امع لأنوار ولاحت له لوايح الاسرار مرة بعد خرى فيشاده امورا غيبية


1 - قوله " فإذا خلص من مهلكاتها تنور قلبه " تكلم علماء هذا الشأن في الحلالات التي يتبادل على الإنسان من أول سلوكه أن يبلغ ما يمكن يلوغه إليه وقد يقدم بعض المقامات على بعض أحدهم ويؤخره آخرون لإختلاف الحالات الطارية ونظيره رتبة الحكماء في تدرج الإنسان من العقل الهيولاني إلى العقل بالفعل والعقل المستفاد قدم بعضهم العقل المستفاد والاخرون العقل بالفعل باعتبار وقد يكون عقل الإنسان بالنسبة إلى امور عقلا بالملكة وبالنسبة إلى اخرى عقلا بالفعل أو مستفادا، ولا خلاف بين أهل السلوك في أن الورع والإجتناب عن المحارم بل عن الالتفات إلى حظوظ النفس يوجب توجهه إلى العوالم المعنوية وانفتاح باب عالم الملكوت على قلبه وقد علم بالتجربة أن توجه النفس إلى بعض شؤنها يصرفها عن غيرها واللذات والشهوات بعض شؤن النفس والاختلاس من العالم الملكوت أيضا بعض شؤونها يمنع احديهما الاخرى. (ش) (*)

[ 246 ]

في صور مثالية (1) والجد في العبادة والمراقبة ولا عراض عن المشاغل الدنيوية الحسية بالكلية فيحصل له الوجد والشكر والشوق والمحبة فيمحوه تارة بعد اخرى ويجعله فانيا عن نفسه وهكذا حتى يتمكن ويتخلص من التلوين وينزل عليه السكية ويصير ورود هذه الأحوال ملكة له وإذا بلغ هذه المرتبة دخل في عالم الجبروت ولايرى إلا الحي الذي لا يموت ولم له نظامه ونال ماله عند الله كماله وتمامه. * الأصل 4 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن ابن فضال، عن أبي جميلة، عن ابن أبي يعفور، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لا ينفع اجتهاد لا ورع فيه. * الشرح قوله (لا ينفع إجتهاد لا ورع فيه) أي لا ينفع الإجتهاد في الأعمال المطلوبة والأفعال المرغوبة بلا ورع عن المحرمات والمشتبهات وغيرها فإن احداث الباعث للكرامة لا ينفع من الإتيان بالمانع منها. * الأصل 5 - عنه، عن أبيه، عن فضالة بن أيوب، عن الحسن بن زياد الصيقل، عن فضيل ابن يسار قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): إن أشد العبادة الورع. * الشرح قوله (إن أشد العبادة الورع) إذ في كل عبادة جهاد مع النفس الإمارة ولاريب في أن تفاوت العبادت في الشدة والفضيلة بإعتبار تفاوت الجهاد مع النفس في الشدة والضعف ولا في أن الجهاد معها في الورع عن المحرمات أشد فاذن الورع أشد العبادة. * الأصل


1 - قوله " في صور مثالية " أول ما يبدو للسالك في المنام فيرى رؤيا صادقة ويشاهد الغيب في صورة مثالية كالعلم في صورة اللبن والمال في صورة القاذورات ثم يراها في اليقظة إذا حصل له ملك النوم من الأعراض عن عالم الحسن ويقيل ويكثر للناس بحصب اختلاف حالاتهم فقد لا يرى المنغمر في الماديات المقطوع عن عالم المجرادت رؤيا أصلا أو لا يرى رؤيا صادقة وبعد من يرى في النوم كثيرا ويشهد ما يتفق له بعد ذلك قبل وقوعه وهذا يدله على وجود عالم مجرد وموجودات كاملة في ذلك العالم يعلمون منا يأتي قبل وقوعه ويحصل له مرتبة من عين اليقين بعالم التجرد فإذن يتوجه إلى ذلك العالم ويرغب في العزلة والخلوة على ما ذكره الشارح إلى آخر ما ذكره. (ش) (*)

[ 247 ]

6 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن إسماعيل بن بزيع، عن حنان بن سدير قال: قال أبو الصباح الكناني لأبي عبد الله (عليه السلام): ما نلقي من الناس فيك ؟ ! فقال أبو عبد الله (عليه السلام): وما الذي تلقي من الناس في ؟ فقال: لا يزال يكون بيننا وبين الرجل الكلام فيقول: جعفري خبيث، فقال: يعيركم الناس بي ؟ فقال له أبو الصباح: نعم فقال: ما أقل والله من يتبع جعفرا منكم، إنما أصحابي من اشتد ورعه، وعمل لخالقه ورجا ثوابه، فهؤلاء أصحابي. * الشرح قوله (إنما أصحابي من اشتد ورعه وعمل لخالقه ورجا ثوابه) في ذكر الرجاء بعد العمل والورع تنبيه على أنهما سبب لرجاء الثواب لا للثواب وعلى نه لا ينبغي لأحد أن يتكل على عمله، غاية ما في الباب له أن يجعله وسيلة للرجاء وقد مر أن الرجاء بدونهما وغرور وحمق وفيه دلالة على أن (عليه السلام) كره ما قاله أبو الصباح لما فيه من الخشونة وسوء الأدب. * الأصل 7 - حنان بن سدير، عن أبي سارة الغزال، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال الله عز وجل: ابن آدم اجتنب ما حرمت عليك، تكن مع أورع الناس. * الشرح قوله (ابن آدم اجتنب ما حرمت عليك تكن من أورع الناس) الظاهر أن الموصول عام وحينئذ معنى التفضيل واضح. 8 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، وعلي بن محمد، عن القاسم بن محمد، عن سليمان المنقري، عن حفص بن غياث قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) من الورع من الناس، فقال: الذي يتورع عن محارم الله عز وجل. * الأصل 9 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن النعمان، عن أبي اسامة قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: عليك بتقوى الله والورع والإجتهاد وصدق الحديث وأداء الأمانة وحسن الخلق وحسن الجوار وكونوا دعادة إلى أنفسكم بغير ألسنتكم وكونوا زينا ولا تكونوا شينا وعليك بطول الركوع والسجود، فان أحدكم إذا أطاع الركوع والسجود هتف إبليس من خلفه وقال: يا ويله أطاع وعصيت وسجد وأبيت. * الشرح قوله (وحسن الجوار) من حسن الجوار إيصال الخير إلى الجار والتحمل لا ضرار ودفع الضرر


[ 248 ]

عنه وعم الاضرار له وعدم التطلع إلى داره ونحو ذلك. (وكونوا دعاة إلى أنفسكم بغير ألسنتكم) يعني بأعمالكم وأخلاقكم وورعكم فإن الناظر إليها يطلب المتابعة لكم. (فإن أحدكم إذا أطالب الركوع والسجود هتب إبليس من خلفه فقال يا ويله) الهتف الصيحة والصراخ والويل الحزن والمشقة والهلاك من العذاب، وقد يراد به معنى التعجب وأضافه إلى ضمير الغايب دون ياء المتكلم كراهة أن يضيفه إلى نفسه ومعنى النداء فيه يا حزنه ويا هلاكه أحضر فهذا وقتك وأو أنك، فكأنه نادي الويل أن يحضره لما عرض له من الأمر الفظيع وهو الندم على ترك السجود لادم (عليه السلام) ولحقوق ما لحقه من اللعن والطرد ويفهم من قوله: (أطاع وعصيت وسجد وأبيت) أن تأسفه أو لا على تركه طاعة الرب مطلبا واتيان ابن آدم بها وثانيا على تركه خصوص الأمر بأصل السجود وإتيان ابن آدم به وإن كانت السجدتان متغايرتين. * الأصل 10 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن أبي زيد، عن أبيه قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) فدخل عيسى بن عبد الله القمي فرحب به وقرب من مجلسه، ثم قال: يا عيسى بن عبد الله ليس منا - ولا كرامة - من كان في مصر فيه مائة ألف أو يزيدون وكان في ذلك المصر أحد أورع منه. * الشرح قوله (فرحب به) رحب بالتشديد أي قال مرحبا أي أو نزلت مكانا واسعا من الرحب بالضم السعة وبالفتح الواسع وهذا يقال للتعظيم والتكريم. (ليس منا ولا كرامة) أي ليس منا أهل البيت أو ليس من خلص شيعتنا ولعل المراد بالكرامة هي الكون في دار المقامة مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين كما يظهر من الخبر الأتي أو دخول الجنة والفوز بنعيمها بغير حساب. (وكان في ذلك المصر أحد أورع منه) قيل أراد بالأحد غير الشيعة من أهل الخلاف، والتعميم محتمل، فيه حث بليغ لكل أحد على تحصيل نهاية الورع والله ولي التوفيق. 11 - عنه، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن فضان، عن علي بن عقبة، عن أبي كهمس، عن عمرو بن سعيد بن هلال قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) أوصني، قال اوصيك بتقوى الله والورع والإجتهاد وأعلم أنه لا ينفع اجتهاد لاورع فيه. * الأصل


[ 249 ]

12 - عنه، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن سيف بن عميرة، عن أبي الصباح الكناني، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: أعينونا بالورع، فإنه، من لقى الله عز وجل منكم بالورع كان له عند الله فرجا، وإن الله عز وجل يقول: * (من يطع الله ورسوله فاولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبييين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن الئك رفيقا) * فمنا النبي ومنا الصديق والشهداء والصالحون. * الشرح قوله (أعينونا بالورع) الأئمة (عليهم السلام) يتكفلون نجاة الشيعة بالشفاعة وكلما كان ذنوبهم أقل وورعهم أشد وأكمل كانت التنجية والشفاعة عليهم أسهل فلذلك قال (عليه السلام) أعينونا بالورع. (كان له عند الله فرجا) فرجا في النسخ التي رأيناها بالجيم والنصب والحاء محتمل وهو خبر كان واسمه ضمير يعود إلى اللقاء أو الورع (من يطع الله ورسوله) لاريف في أن أطاعتهما لا تتحقق بدون الورع وبذلك ينم الاستشهاد. * الأصل 3 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن محبوب، عن ابن رئاب، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إنا الرجل مؤمنا حتى يكون بجميع أمرنا متبعا مريدا ألا وإن من اتباع أمرنا وإرادته الورع، فتزينوا به يرحمكم الله، وكيدوا أعداءنا [ به ] ينعشكم الله. * الشرح قوله (إنا لا نعد الرجل مؤمنا حتى يكون لجميع امرنا متبعا مريدا) قد ذكرنا آنفا أن المؤمن في عرف الأئمة (عليهم السلام) هو المؤمن الكامل وأن الكمال له مراتب متفاوتة والذي يظهر هنا أن المراد به الفرد الإكمال وهو نادر جدا كما دل عليه ما روى عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال " المؤمنة أعز من المؤمن والمؤمن أعز من الكبريت الأحمر فمن رأي منكم الكبريت الأحمر " (كيدوا أعداءنا به ينعشكم الله) الكيد المكر والاحيتال والمراد هنا الحرب وسميت كيدا لاحتيال الناس فيها، والنعش الرفع والإقامة يقال نعشه الله وأنغشه أي رفعه وأقامه كذا في المصباح، وفيه رد على الجوهري حيث قال يقال نعشه الله ينعشه ولا يقال أنعشه الله، والمعنى حاربوا أعداءنا بالورع لتغلبوا عليهم يرفعكم الله كما يرفع درجات المجاهدين وتلك الغلبة أما بقطع ألسنة طعنهم بنسبة الخبث إلى هذه الفرقة الناجية أو ليرجعوا إليهم بمشاهدة حسن أفعالهم ويؤيد هذا ما مر من قوله (عليه السلام) " وكونوا دعاة إلى أنفسكم بغير ألسنتكم " والله أعلم. * الأصل


[ 250 ]

14 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحجال، عن العلاء، عن ابن أبي يعفور قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): كونوا دعاة للناس بغير ألسنتكم، ليروا منكم الورع والإجتهاد والصلاة والخير، فإن ذلك داعية. * الشرح قوله (فإن ذلك داعية) أي داعية للناس على الإقتداء بكم إذ مشاهدة الخير في الغير يدعو الطالب القابل المستعد إلى الإقتداء به وهو مجرب، والتاء للمبالغة كما في كافية لا للتأنيث باعتبار المدكورات لأن ذلك إشارة إلى المذكور. 15 - الحسين بن محمد، عن علي بن محمد، بن سعيد، عن محمد بن مسلم، عن محمد بن حمزة العلوي قال: أخبرني عبيدالله بن علي، عن أبي الحسن الأول (عليه السلام): قال: كثيرا ما كنت أسمع أبي يقول: ليس من شيعتنا من لا تتحدث المخذرات بورعه في خدورهن وليس من أوليائنا من هو في قرية، فيها عشرة آلاف رجل فيهم [ من ] خلق [ ا ] لله أورع منه. * الشرح قوله (ليس من شيعتنا من لا تتحدث المخدرات بورعه في خدورهن) المراد بالشيعة خلصهم الذين هم من أهل الكرامة المذكورة سابقا، والخدر بالكسر السترو الجمع خدور، ويطلق الخدر على البيت أن كان فيه امرأة وإلا فلا، واخدرت الجارية لزمت الخدر، واخدرها أهلها يتعدي ولا يتعدي وخدورها بالتثقيل أيضا وبالتخفيف أي ستروها وصانوها عن الامتهان والخروج لقضاء حوائجها وفيه أن شهرة الصلاح بل اظهاره ليشتهر أمر مطلوب ولكن بشرط أن لا يكون الأظهار لقصد الرياء والسمعة بل لغرض صحيح مثل الإقتداء به والتحفظ عن نسبة الفسق إليه ونحوهما.


[ 251 ]

(باب العفة) * الأصل 1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن حريز، عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: ما عبد الله بشئ أفضل من عفة بطن وفرج. * الشرح قوله (ما عبد الله بشئ أفضل من عفة بطن وفرج) لا يبعد أو يراد بالبطن ما يشمل الفم أيضا ويؤيده ما روى من طرق العامة " أكثر ما يدخل النار إلا جوفان الفم والفرج " والعفة في اللغة الامتناع يقال عف عن الشئ يعف من باب ضرب عفة بالكسر وعفافا بالفتح إذا امتنع عنه فهو عفيف، وفي العرف حالة نفسانية تمتنع بها عن غلبة الشهوة. وتلك الالة من الأخلاق الشريفة الحاصلة من الإعتدال في القوة الشهوية التي هي مبدأ طلب الغذاء وشوق التذاذ بالمواكل والمشارب والمناكح وإعتدالهما بأنم تقصر في هذه الامور على قانون الشرع والعقل ولا يتجاوز عن حكمهما وذلك بأن يعف البطن واالفم عن الأكل والشرب من الحرام والغيبة والنميمة والقذف واكذب وشهادة الزور والبهتان واللغو الهذيان وغير ذلك من معاصي اللسان ويعف الفرج عن الزناء وما يشبهه ويحلق به الرفث والنظر واللمس وجميع ما حرم من مقدماته وعند ذلك يكون الشرع محفوظا والعقل غالبا وتلك القوة مغلوبة مقوهرة لأمره ونهيه. وأما إذا أفرط تلك القوة في طلب اللذات البطنية والفرجية وخرجت عن حكمخا صار الشرع متروكآ مدروسا والعقل مغلوبا مقهورا وصار إلا مير مأمورا والسلطان رعية كما في الأكثر فإن عقولهم صارت خادمة لشهواتهم، مشغولة بفنون التدبيرات والحيل لتحصيل اللذات المذكورة ولو كان من الحرام، ومما ذكر يظهر أن عفة البطن والفرج عبادة أفضل العبادات لأن كل ما يتصف به العبد ويوجب قرب الحق فهو عبادة ولها مراتب متفاوته في الفضل وأفضلها العفة بكسر القوة الشهوية كسرها مستلزم لكسر القوة الغضبية لأن القوة الغضبية معينة للقوة الشهوية في تحصيل مقتضاها برفع الموانع على وجه التسلط ومن البين أن العفة بكسر هاتين عبادة وأصل لسائر العبادات فهي أفضلها. * الأصل 2 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن إسماعيل، عن حنان عن أبيه قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): إن أفضل العبادة عفة البطن والفرج. * الشرح


[ 252 ]

قوله (أن أفضل العبادة عفة البطن والفرج) وهي الإمتناع عن المحرمات والمشتبهات بل عن الأكثار أيضا فإن البطنه توجب خمود الفطنة ومتابعة الشهوة في الفساد تورث الفساد الأمن عصمه الله. والحاصل أن عفتهما كناية عن كسر القوة الشهوية بل الغضبية أيضا لما عرفت وهو أفضل العبادات اذبه يستقيم الظاهر والباطن وبدونه يقع الفساد فيهما وذلك لأن شهوة البطن والفرج والقيام بمقتضاها لا يحصل إلا بالشره بالمال والحرص في الدنيا وجمع زخارفها وهذا لا يحصل إلا بالجاه وحب الرئاسة وهما لا يحصلان إلا بالخصومة مع الخلق وهي تورث الحسد والتعصب والعداوة والحقد والكبر وترك الفضائل الظاهرة والباطنة وتوجب جميع المعاصي ومن ههنا علم أن عفة البطن والفرج أصل لجميع العبادات وأفضلها. * الأصل 3 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن جعفر بن محمد الأشعري، عن عبد الله بن ميمون القداح، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: أفضل العبادة العفاف. 4 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن أبيه، عن النضر بن سويد عن يحيى عمر ان الحلبي، عن معلى أبي [ بن. ح ] عثمان، عن أبي بصير قال: قال رجل لأبي جعفر (عليه السلام): إني ضعيف العمل قليل الصيام ولكني أرجو أن لا آكل إلا حلالا قال: فقال له: أي الإجتهاد أفضل من عفة بطن وفرج. 5 - علي بن إبراهيم، عن النوافلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، أكثر ما تلج به امتي النار الأجوفان البطن والفرج. 6 - وبإسناده قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ثلاث أخافهن على امتي من بعدي الضلالة بعد المعرفة، ومضلات الفتن، وشهوة البطن والفرج. * الشرح قوله (وبإسناده قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)) أي بإسناد السكوني أو علي بن إبراهيم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال: وقد وقع كل ما خافه (صلى الله عليه وآله وسلم) بعده من الامور الثلاثة لطغيان قوة والغضبية ومتابعة الأهواء النفسانية في الامور إلا من شذ. قيل: هذا الحديث ليس في كتاب الشهيد الثاني. * الأصل 7 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن بعض أصحابه، عن ميمون القداح قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: ما من عبادة أفضل من عفة بطن والفرج.


[ 253 ]

8 - محمد بن يحيى، عن أحمد محمد، عن علي بن الحكم، عن سيف بن عميرة عن منصور ابن حازم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: ما من عبادة أفضل عند الله من عفة بطن وفرج.


[ 254 ]

(باب إجتناب المحارم) 1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن داود إبن كثير الرقي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: * (ولمن خاف مقام ربه جنتان) * قال: من علم أن الله عز وجل يراه ويسمع ما يقوله ويفعله من خير أو شر فيحجزه ذلك عن القبيح من الأعمال، فذلك الذي خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى. * الشرح قوله (ولمن خاف مقام ربه جنتان) قد مر تفسيره في باب الخرف. (قال من علم إن الله عز وجل يراه ويسمع ما يقول) هذا مقام المراقبة وهو يقتضي تجويد العمل وتحسينه لأن من عمل عملا وعلم أن عليه في علمه رقيبا لا يدع شيئا من وجوه الإجادة الاياتي به كما هو مشاهد في أعمال الناس بعضهم لبعض، وينبغي أن يعلم أن للعبد في عبادته ثلاثة مقامات الأول أن يفعلها مستوفاة للأركان والشرائط وهذا هو الذي يسقط معه التكليف وهو مقام أكثر للعابدين، الثاني أن يفعلها كذلك وقد علم أن المعبود جل شأنه يراه ويشاهد وهو مستحضر القلب بذلك وهذا مقام المراقبة. الثالث أن يفعلها كذلك وقد إستفرق في بحر المكاشفة حتى كأنه يرى الله المعبود بالحق وهذا مقام المكاشفة ومقام خاص الخاص كما قال (صلى الله عليه وآله وسلم) " جعلت قرة عيني في الصلاة " والمقام الأول إدني المقامات بحيث لو لم يكن العباد من أهل هذا المقام لم يكن عابدا بل مستهزئا اعاذنا الله من ذلك، والثالث أشرف المقامات وفقنا الله وإياكم لما يحبه ويرضاه. * الأصل 2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه (عليه السلام) عن حماد بن عيسى، عن إبراهيم بن عمر اليماني عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: كل عين باكية يوم القيامة غير ثلاث: عين سهرت في سبيل الله، وعين فاضت من حشية الله، وعين غضت عن محارم الله. * الشرح قوله (عين سهرت في سبيل الله) سبيل الله شامل لجميع الخيرات ومنها طلب العلم وهو السبيل الأعظم. (وعين فاضت من خشية الله) الخشية الخوف والفرق بينهما بأن الخوف تألم النفس من العقاب المتوقع بسبب إرتكاب المنهيات والتقصير في الطاعات، والخشية خوف يحصل عند


[ 255 ]

الشعور بعظمة الحق وهيبته والحجب عنه إصطلاح جديد حسن عند الإجتماع دون الإنفراد. (وعين غضت عن محارم الله) كناية عن ترك النظر فيما لا يجوز. * الأصل 3 - علي، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: فيما ناجى الله عز وجل به موسى (عليه السلام) يا موسى ما تقرب إلي المتقربون بمثل الورع عن محارمي، فإني بيحهم جنات عدن لا اشرك معهم أحدا. * الشرح قوله (ما تقرب إلى المتقربون بمثل الروع عن المحارمي) هذا أول الأقسام المذكورة وهو ورع العدول فليس التفضيل بالنسبة إلى الأقسام ألتي بعده بل بالنسبة إلى فعل الطاعات فدل على أن الإجتناب عن المنهيات من العقائذ والأعمال أفضل من الإتيان بالطاعات مع إشتراكها في تعظيم الرب اما لأن التخلية أفضل من التحلية كما هو المشهور، أو لأن مخالفته أفخم من موافقته أو لأن المعصية أكثر من الطاعة. (فأني إبيحهم جنات عدن) أي آذن لهم في دخولها وأنزلهم فيها وهي مقام عال من مقامات الجنة أعدها للورعين لا يدخلها غيرهم. * الأصل 4 - علي [ بن إبراهيم ]، عن أبيه، عن إبن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن أبي عبيدة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من أشد ما فرض الله على خلقه ذكر الله كثيرا، ثم قال: لاأعني * (سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر) * وإن كان منه ولكن ذكر الله عند ما أحل وحرم، فإن كان طاعة عمل بها وإن كان معصية تركها. * الشرح قوله (قال من أشد ما فرض الله على خلقه ذكر الله كثيرا) قال الله تعالى و * (واذكر ربك في نفسك ترضعا وخفية ودون الجهر من القول بالغذو والإصال " وأصل الذكر التذكر بالقلب ومنه اذكورا نعمتي التي أنعمت عليكم " أي تذكروا. ثم يطلق على الذكر اللساني حقيقة، أو من باب تسمية الدال باسم المدلول ثم كثر إستعماله فيه لضهوره حتى صاره هو السابق إلى الفهم فنص (عليه السلام) على إدارة الأول دون الثاني فقط دفعا لتخصيصه بالثاني وإشارة إلى أكمال أفراده مع الايماء إلى أن الذكر اللساني بدون الذكر القلبي ذكر يثاب به. وقال بعض أرباب القلوب ذكر اللسان مع خلو القلب عنه لا يخلو من فائدة لأنه يمنعه من التكلم باللغو ويجعل لسانه معتادا بالخير، وقد يلقى الشيطان


[ 256 ]

إليه أن حركة اللسان بدون توجه القلب عبث ينبغي تركه، فالائق بحال الذكر أن يحضره قلبه حينئذ رغما للشيطان ولو لم يحضره فالائق به أن لا يترك ذكر اللسان رغما لانفه أيضا وأن يجيبه بأن اللسان آلة للذكر كالقلب ولا يترك أحدهما بترك الاخر فإن لكل عضو عبادة، وأعلم أن الذكر القلبي من أعظم علامات المحبة لأن من أحب أحدا ذكره دايما أو غالبا، وأن أصل الذكر عند الطاعة والمعصية سبب لفعل الطاعة وترك المعصية وهما سببان لزيادة الذكر ورسوخه، وهكذا يتبادلان إلى أن يستولى المذكور وهو الله سبحانه على القلب ويتجلي فيه. فالذاكر حينئذ يحبه حبا شديدا ويغفل عن جميع ما سواه حتى عن نفسه إذ الحب الله، والواصل إلى هذا المقام لا يرى في الوجود إلا هو، وهذا معنى وحدة الوجود لا بمعنى أنه تعالى متحد مع الكل لأنه محال (1) بمعنى أن الموجود في نظر الفاني هو لاغيره لأنه تجاوز عن عالم الكثرة وجعله وراء ظهره وغفل عنه فإنهم. * الأصل 5 - إبن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن سليمان بن خالد قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: * (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجلعناه هباء منثورا) * قال: أما والله إن كانت أعمالهم أشد بياضا من القباطي ولكن كانوا إذا عرض لهم الحرام لم يدعوه.


1 - قوله " لا بمعنى أنه تعالى متحد مع الكل لأنه محال " بل لم يقل به أحد ولا يمكن إن يتفوه به عاقل، وأعلم أن علماءنا رضي الله عنهم قد يذكرون احكاما لامور لا تنفق في الواقع ولا يتحقق إلا نادرا لمزيد التوضيح والبيان كما يذكرون أحكام الخنثى المشكل والمنجم الذي يعتقد الهوية الكواكب وتأثيرها في الحوادث بالوهيتها، مع إنهم يعلمون إنه لا يوجد بعد ظهور الإسلام في هذه الامة منجم قائل بها وهكذا القائلون بوحدة الوجود في الامة وفي كل امة لا يعتقدون اثبات الممكنات وحلول ذات الواجب فيها بل لا يثبتون معه تعالى غيره حتى يحل الواجب في غيره فمرجع وحدة الوجود إلى إنكار الممكنات ونفي الكثرة لا إلى إثبات الكثرات والممكنات وحلول الواجب فيها ومعلوم إن إنكار الممكنات ليس كفرا نعم أن لم يفرض له معنى صحيح كان خرافي نظير مذهب السو فسطائية وإن أول بمعنى صحيح فهو حق وليس كل رأي بالطل خرافي كفرا وهذا البيت مشهور من الحلاج: بين وبينك انييي ينارغنى * فارفع بلطفك انييي من البين وهذا صريح في إن إعتقادهم نفي شخصية الممكن عن نظره حتى لا يرى غيره تعالى لانفي حقية الواجب مستهلكا في الممكنات وبعبارة اخرى الظاهر عند غريهم اثبات ممكن وواجب متغايرين متفاصلين مستقل أحدهما عن الاخر وأما الإتحاد وهو إرجاع الاثنين إلى الواحد فلا يتعقل إلا بنفيى أحدهما لا محالة فإن نفي أحدهم إستقلال الواجب واثبت الممكن فهو كفر وإن نفي الممكن واثبت الواجب فهو ليس بكفر وهذا مراد الشارح. (ش) (*)

[ 257 ]

* الشرح قوله (وقد منا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا) أي عمدنا وقصدنا إلى ما عملوا من عمل كقرى الضعيف وصلة الرحم واغاثة الملهوف وإعانة المظلوم وغيرها فجعلناه هباء منثورا فلم يبق له أثر، والهباء غبار يرى في شعاع الشمس الطالع من الكوة من الهبو وهو الغبار وفيه دلالة على حبط الأعمال بالفسق سواء كان كافرا أم غيره، وخصه بعض المفسرين بالكفر وهو على تقدير الكفر ظاهر إذ لا عبرة بالفرع بعد فقد الأصل وهو الإيمان وأما على تقدير غيره فلعل المراد به حبط ما يساويه مع بقاء الزائد، وفي هذا المقام كلام طويل (1) القبطية بالكسر وهي ثياب بيض رقاق تتخذ من كتان بمصر، وفيى تشبيه أعمالهم بها تنبيه على أن رد أعمالهم ليس من أجل فسادها في نفسها بل لأجل إرتكابهم للحرام سواء كان حق الله تعالى أو حق الناس ولعل ذلك فيمن أخذه عادته. والله أعلم. * الأصل 6 - علي، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من ترك معصية لله مخافة الله تبارك وتعالى أرضاه الله يوم القيامة. * الشرح قوله (من ترك معصية لله) المعصية تشتمل ترك الواجبات وفعل المنهيات ولم يذكر ما أرضاه الله به لأن عقل البشر لا يصل إلى كنه حقيقته ورضوان من الله أكبر.


1 - قوله " وفي هذا المقام كلام طويل " وهو الإختلاف المشهور في الإحباط بيننا وبين المعتزلة ومذهبنا عدم الإحباط ويأول كل ما يوهم منه خلاف على عدم كون العمل المحبط ثوابه صحيحا في الأصل لاأنه صحيح يستحق به الثواب ويرتفع بالفسق فإن عدم إيصال الثواب المستحق إلى صاحب العمل ظلم وكلام الشارح مشتبه والحق واضح. (ش) (*)

[ 258 ]

(باب أداء الفرائض) * الأصل 1 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، وعلي بن إبراهيم، عن أبيه، جميعا، عن ابن محبوب، عن أبي حمزة الثمالي قال: قال علي بن الحسين (عليه السلام) من عمل بما إفرض الله عليه فهو خير الناس. * الشرح قوله (من عمل بما إفترض الله عليه فهو من خر الناس) الظاهر أن لفظ " ما " شامل للأعمال القلبية والبدنية والمالية، والخيرية (1) المطلق من وصل إلى مرتبة العليا منها. * الأصل 2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن الحسين بن المختار، عن عبد الله بن أبي يعفور، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: * (إصبروا وصابروا ورابطوا) * قال: إصبروا على الفرائض. * الشرح قوله (قال إصبروا على الفرائض) لم يرد قصر الصبر عليها بل ذكرها لأن الصبر عليها أعظم والظاهر أن ترك الحرام داخل فيه لأنه أيضا فرض. * الأصل 3 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن عبد الرحمن بن أبي نجران، عن حماد بن عيسى، عن أبي السفاتج، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: * (إصبروا وصابروا ورابطوا) * وقال: إصبروا على الفرائض وصابروا على المصائب ورابطوا على الأئمة (عليهم السلام). * الشرح (ورابطوا على الأئمة (عليهم السلام)) بالنفس والمال والخدمة والإنقياد لهم والإنتظار لفرجهم. * الأصل وفي رواية إبن محبوب، عن أبي السفاتج [ وزاد فيه ] * (فاتقوا الله ربكم فيما إفترض عليكم) *.


1 - قوله " اليخرية تتفاوت " الخير يستعمل بمعنى التفضيل وهو المراد بقرينة المقام ولا تتفاوت مراتبه والاولى أن يقال التفضيل بالنسبة إلى من يعمل بالمستحبات ويترك الفرائض فمن عكس وعمل بالفرائض وترك النوافل خير منه وهو تفسير المجلسي رحمه الله تعالى. (ش) (*)

[ 259 ]

* الشرح قوله (وفي رواية إبن محبوب عن أبي السفاتح وزاد فيه واتقوا الله ربكم فيما إفترض عليكم) ليس في بعض النسخ قوله " وزاد فيه " ولعل التقوى فيما إفترض وهو الإتيان بالواجبات والإجتناب عن المنهيات تفسير للصبر. * الأصل 4 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إعمال بفرائض الله تكن أتقي الناس. 5 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن إبن فضال، عن أبي جميلة، عن محمد الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال الله تبارك وتعالى: ما تحبب إلي عبدي بأحب مما إفترضت عليه. * الشرح قوله (قال الله تعالى ما تحبب إلى عبدي باجب مما إفترضت عليه) مثله ماروى عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه " يقول الله عز وجل ما تقرب عبدي إلي بشئ أحب إلى من أداء ما افترضت عليه " ولعل السبب فيه أنه تعالى عالم بالأسباب ألتي تقرب إلى محبته وكرامته من بعد عنه ينفسه وهواه وعادته فجعل أكبرها فرائض لعظم حرماته وأوعد بالنار حن ضيعه وفرط فيه فيجب على العبد تعظيمه والمبادرة إليه والمبالغة في أحكامه وتفريغ القلب عما يشغله عنه وجعل أصغها نوافل وجعل قبول النوافل موقوفا على أداء الفرائض ومتمما لها ولزيادة التقرب بها ومانعا من التعرض لزهرات الدنيا ومباحاتها بعد الفرائض فينبغي للعبد أن لا يتهاون بها بالإشتغال بالنوافل فيترك الأصل ويتمس بافرع فيفوته الفرع أيضا ولا يقبل منه، بل ينبغي أن يهتم بالفرائض ثم بالنوافل لتكمل فرائضه وتزداد محبته.


[ 260 ]

(باب) (إستواء العمل والمداومة عليه) * الأصل 1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن إبن أبي عمير، عن حماد، عن الحلبي قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إذا كان الرجل على عمل فليدم عليه سنة، ثم يتحول عنه إن شاء إلى غيره ودلك أن ليلة القدر يكون فيها في عامة ذلك، ما شاء الله أن يكون. * الشرح قوله (إذا كان الرجل على عمل فليدم عليه سنة) لعل المراد بالعمل علم المندوب كالدعاء وسائر المرغبات بقرينة جواز التحول وأما الفرائض فيجيب دوامها على الوجه المقدر ولا يجوز تركها وفي الدوام منافع جليلة هي إرتياض النفس في العبادة وإعتيادها عليها وثبات القدم فيها وضبطها عن التقلب والإعتياد به ورجاء القبول وإن لم تكن إبتداء من أهله كما روى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) " إن العبد ليقول اللهم اغفر لي وهو معرض عنه، ثم يقول اللهم اغفر لي وهو معرض عنه، ثم يقول اللهم إغفر لي فيقول سبحانه للملائكة ألا ترون إلى عبدي سألني المغفرة وأنا معرض عنه ثم سألني المغفرة وأنا معرض عنه، ثم سألني المغفرة وعلم عبدي أنه لا يغفر الذنوب إلا أنا أشهدكم أني قد غفرت له " وتوقع مضاعفه الاجر بوقوعها في الأوقات الشريفة التي تكون في السنة مثل ليلة القدر وهي خير من ألف شهر والعبادة فيها كذلك. وفي قوله " ثم يتحول عنه إن شاء إلى غيره " إشارة إلى أن له تركه مع بدل اما لامعه فلا ينبغي لأنه تعطيل في العبودية ولا يليق ذلك بحال العابد العالم لله. * الأصل 2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن حريز، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: أحب الأعمال إلى الله عز وجل ماذا [ و ] ما عليه العبد وإن قال. * الشرح قوله (أحب الأعمال إلى الله عز وجل ما داوم عليه العبد (1) بدوام القليل تدوم الطاعة والعبادة والعبودية وهو أحسن من العبادة في زمان وتركها بعده بالكلية


1 - قوله " ما داوم عليه العبد " يدل على ما مر من أن تأثير العمل في الجزاء بتأثير في النفوس وتجسم ما أثر فيها. (ش) (*)

[ 261 ]

ولانه يربو ثواب القليل مع المداومة على ثواب الكثير المنقطع كما يدل عليه قول أمير المؤمنين (عليه السلام) " قليل يدوم عليه أرجا من كثير مملول " وقوله " قليل يدوم عليه خير من كثير مملول " أي الذي يمل فيه فإن البركة فيه أكثر والثواب فيه أزيد والعبودية فيه أدوم وتأثيره في تنوير القلب بتكراره أشد، وإحتمال كون رضاه سبحانه فيه أعظم كما رواه الصدوق بإسناده عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال " إن الله أخفى في طاعة فلا تستصغروا شيئا من طاعته فربما وافق رضاه وأنت لاتعلم ". 3 - أبو علي الأشعري، عن عيسى بن أيوب، عن علي بن مهزيار، عن فضالة بن أيوب، عن معاوية بن عمار، عن نجبة، أن أبي جعفر (عليه السلام) قال: ما من شئ أحب إلى الله عز وجل من عمل يداوم عليه وإن قل. * الأصل 4 - عنه، عن فضالة بن أيوب، عن معاوية بن عمار، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: كان علي بن الحسين صلوات الله عليهما يقول: إني لاحب أن أقدم على ربي وعملي مستو. * الشرح قوله (إني لاحب أن أقدم علي ربي وعملي مستو) استوى الأعمال اعتدلت وتساوت ولم يفضل بعضها على بعض ولعل المراد به تساوي أفراد كل نوع منه في الكم والكيف بحيث لا يكون بعضها اضعف من بعض وما روى من " أن من ساوي يوماه فهو مغبون " ولعل المراد به الحث على الاكثار في الخير نظرا إلى يوم السابق لأن الأعمال كالفسوق يجر بعضها إلى بعض، أو المراد به التساوي في القرب والنزلة لأن إضافة عمل إلى عمل قبله وإن تساويا لأبد أن تكون موجبة لزيادة القرب وإلا فتكون في العمل خلل وفي النية نقص وهو غبن فاحش فلاينا في المساواة بالمعنى المذكور. 6 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن إسماعيل، عن جعفر بن بشير، عن عبد الكريم بن عمرو، عن سليمان بن خالد قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إياك أن تفرض على نفسك فريضة فتفارقها اثني عشر هلالا.


[ 262 ]

(باب العبادة) * الأصل 1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن إبن محبوب، عن عمر بن يزيد. عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: في التوراة مكتوب: يا إبن آدم تفرغ لعبادتي أملأ قلبك غني ولا أكلك إلى طلبك وعلي أن أسد فاقتك، واملأ قلبك خوفا مني وإن لا تفرغ لعبادتي أملأ قلبك شغلا بالدنيا، ثم لاأسد فاقتك، وأكلك إلى طلبك. * الشرح قوله (يا إبن آدم تفرغ لعبادتي أملاء قلبك غني) التفرغ للعباده والجد فيها وعدم ثقلها على النفس لا يحصل إلا بنزع القلب عن شهوات الدينا، وقطع التعلق بعلاقيها، والتحرز عن المعاصي وكسر القوة الشهوية والغضبية، فإذا حصل ذلك حصل الشوق إلى الله والمحبة له واللذة بعبادته ومشاهدة الأسرار اللاهوتية والأنوار الربوبية ورسوخ القلب فيى الصرف عن الدنيا بحيث لا يوازن بواحد منها الدنيا وما فيها وغني القلب عبارة عن حول هذه الامور له ومن ثمة قيل سعادة المراء معرفة الرب ودوام ذكره وخلوص العبادة له فإن التمرن عليها يوصله إلى مقام القرب والمحبة والإعراض عن غيره. * الأصل 2 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن أبي جميلة قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): قال الله تبارك وتعالى: يا عبادي الصديقين تنعموا بعبادتي في الدنيا، فإنكم تتنعمون بها في الآخرة. * الشرح وله (يا عبادي الصديقين تنعموا بعبادتي في الدنيا) الباء اما صلة أو سببية لان العبادة غذاء روحاني بها يربو الروح وتزداد قوته وسبب للرزق وسعته كما قال * (من يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ". * الأصل 3 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن عمرو بن جميع، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أفضل الناس من عشق العبادة، فعانقها وأحبها بقلبه وباشرها بجسده وتفرغ لها، فهو لا يبالي على ما أصبح من الدنيا، على عسرم أم على يسر. * الشرح


[ 263 ]

قوله (أفضل الناس من عشق العبادة فعانقها) عشق يعشق عشقا من باب تعب والإسم العش بالكسر وهو الإفراط في المحبة أي أحبها حبا مفرطا من حيث أنها وسيلة إلى المحبوب الحقيقي وذريعة للوصول إليه والقرب منه فحبها تابع لحبه وفي قوله " أم على يسر " دلاله على أن السير لا ينافي حبها وتفريغ القلب من غيرها لأجلها وإنما المنافي له تعلق القلب به. قيل ذكرت الحكماء في كتبهم الطبية إن العشق ضرب من الما ليخوليا الجنون والأمراض السوداوية وقرروا في كتبهم الإلهية أنه من أعظم الكلمات وأتم السعادات وربما يظن أن بين الكلامين تخالفا وهو من واهي الظنون فإن المذموم هو العشق الجسماني الحيواني الشهواني والممدوح هو الروحاني الإنساني النفساني والأول يزول وينفيى بمجرد الوصال والإتصال والثاني يبقي ويسمو أبد الإباد على كل حال. * الأصل 4 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن شاذان بن الخليل قال: - وكتبت من كتابه بإسناده له، يرفعه إلى عيسى بن عبد الله قال: - قال عيسى بن عبد الله لأبي عبد الله (عليه السلام): جعلت فداك ما العبادة ؟ قال: حسن النية بالطاعة من الجوه التي يطاع الله منها، أما إنك يا عيسى لا تكون مؤمنا حتى تعرف الناسخ من المنسوخ، قال: قلت: جعلت فدالك وما معرفة الناسخ من المنسوخ ؟ قال: فقال: أليس تكون مع الإمام موطنا نفسك على حسن النية في طاعته، فيمضي ذلك الإمام ويأتي إمام آخر فتوطن على حسن النية في طاعته: قال: قلت: نعم، قال: هذا معرفة الناسخ من المنسوخ. * الشرح قوله (قال حسن النية بالطاعة من الوجوه التي يطاع الله منها) لعل المراد بهذه الوجوه الأئمة (عليهم السلام) واحد بعد واحد لأنهم الوجوه التي يطاع الله تعالى منها لإرشادهم وهدايتهم وبالطاعة الطاعة المعلومة بتعليمهم أو إطاعتهم والإنقياد لهم وبحسن النية تعلق القلب بها من صميمة بلا منازعة ولا مخاطرة كم قال جل شأنه * (فلا وربك لا يؤمنون - إلى قوله - ويسلموا تسليما " ويحتمل أن يراد بالوجوه وجوه العبادات وأنواعها وبحسن النية تخليصها عن شوائد النقص. قوله (أما أنك يا عيسى لا تكون مؤمنا حتى تعرف الناسخ من المنسوخ قال قلت جعلت فداك ومامعرفة الناسخ من المنسوخ) دل على جواز الخطاب بالمجمل وهو ما لم يتضح دلالته أو بالعام المراد به بعض أفراده أو بالمحتمل وقد بينا جوازه في اصول الفقه وقالت المعتزلة لا يجوز لأنه تجهيل للمخاطب وهو قبيح من الحكيم ولانسلم أنه تجهيل بل هو تقرير للحكم وتثبيت له في ذهن السامع حيث يطلبه والمفهوم بعد الطلب اعز من المنساق بلاطلب وباعث للثواب له لقصده


[ 264 ]

الإمتثال بعد البيان غايته لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة. * الأصل 5 - علي بن إبراهيم (عليه السلام) عن أبيه، عن إبن محبوب، عن جميل، عن هارون بن خارجة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: [ إن ] العبادة ثلاثة. قوم عبدوا الله عز وجل خوفا، فتك عبادة العبيد، وقوم عبدوا الله تبارك وتعالى طلب الثواب، فتلك عبادة الاجراء، وقوم عبدوا الله عز وجل حبا له، فتلك عبادة الأحرار وهي أفضل العبادة. * الشرح قوله (قال إن العابدة ثلاثة) أي العبادة المترتب عليها الثواب والكرامة في الجملة ثلاثة أقسام وغيرها مثل عبادة المرائي ونحوها ليس بعبادة فليس بداخل في القسم. (قوم عبدو الله) أي عبادة قوم عبدوا الله عز وجل خوفا من ناره حتى لو لم تكن النار لم يعبدوه فتلك عبادة العبيد إذ العباد فيها شبيه بالعبد في فعله خوفا من السيد وتحرزا من عقوبته وعبادة قوم عبدوه طلبا لثوابه ونعيم الجنة فتلك عبادة الاجزاء إذ حالهم في العبادة مثل حال الأجزاء في المعاملة لو لم يكن الأجر لم يعلموا وعبادة قوم عبدوه لحبهم له واستغراق قلوبهم في ذكره وإعتقادهم بانه أهل للعبادة وغاية الخشوع له فتلك عبادة الإحرار الذين لا ينظرون إلا إليه ولا يعكفون إلا عليه ويغفل قلوبهم بالكلية عن الاغيار فضلا عن الجنة والنار وهي أفضل العبادة لخلوصها من جميع الجهات. وفي صيغة التفضيل دلالة على ان العبادة على الوجيهن السابقين أيضا عبادة صحيحة لها فضل في الجملة فيكون حجة على من قال ببطلان عبادة من قصد التحرز عن العقاب أو الفوز بالثواب. * الأصل 6 - علي، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما أقبح الفقر بعد الغني وأقبح الخطيئة بعد المسكنة وأقبح من ذلك العابد لله يدع عبادته. * الشرح قوله (ما اقبح الفقر بعد الغني) أي وجود الفقر بعد الغني وتعيش العني بعيش الفقير. (واقبح الخطيئة بعد المسكنة) لضعف آلتها وقلة أسبابها. (واقبح من ذلك العابد لله ثم يدع عبادته) وكان السر فيه إن كل واحد منهم إنتقل من المقام إلا على إلى المقام الادنى. ومن البين إن مقام الطاعة ارفع من مقام الغني والمسكنة فترك الطاعة أقبح. * الأصل


[ 265 ]

7 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الوشاء، عن عاصم بن أبي حمزة، عن علي بن الحسين (عليه السلام) قال: من عمل بما إفترض الله عليه فهو من أعبد الناس. * الشرح قوله (من عمل بما إفترض الله عليه فهو أعبد الناس) كان الموصول عام وحينئذ وجه التفضيل ظاهر.


[ 266 ]

(باب النية) * الأصل 1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن إبن محبوب، عن مالك بن عطية، عن أبي، حمزة، عن علي ابن الحسين (عليهم السلام) قال: لا عمل إلا بنية. * الشرح قوله (لاعمل إلا بنية) قال المحقق الطوسي في بعض رسائله النية هي القصد إلى الفعل وهي واسطة بين العلم والعمل إذ ما لم يعلم الشئ لم يمكن قصده وما لم يقصده لم يصدر منه، ثم لما كان غرض السالك العالم هو الوصول إلى مقصد معين كامل على الإطلاق وهو الله تعالى لابد من إشتمالها على قصد التقرب به وعرفها العلامه في القواعد بأنها إرادة إيجاد الفعل على الوجد المأمور به شرعا. وأراد بالإرادة الفاعل فخرجت إرادة الله تعالى لأفعالنا وبالفعل ما يعم توطين النفس على الترك فدخلت الصوم والإحرام وأمثالهما، وبالمأمور به ما يرجح فعله شرعا فدخل المندوب وخرج المباح، إذا عرفت هذا فنقول إستدل الأصحاب بمثل هذا الخبر وبقوله تعالى * (وما أمروا إلا ليعبوا الله مخلصين الدين " على أنه لابد في العبادات من النية حتى قال بعضهم النية بمنزلة الروح والعبادة بمثابة البدن وقال بعضهم النية بذر والعبادة زرع والإخلاص ماء. ومثل هذا الخبر رواه مسلم بإسناده عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال " إنما الأعمال بالنية وإنما لأمرء ما نوى " قال القرطبي ذكر الأئمة أن هذا ثلث الإيمان وقيل ربعه وأن أصول الدين ثلاثة أحاديث أو أربعة هذا أحدهما، وقال المازري: قال الشافعي هو ثلث الإسلام وفيه سبعون بابا من الفقه وأجمع المسلمون على صحته، وقالت الأئمة ولكنه لم يتواتر، وقال الأبي تأمل فيه فإن ابن الصلاح قال لم يتواتر الاحديثان حديث " إنما الأعمال بالنيات " وحديث " من كذب على متعمدا " وحكى الخطابي عن ائمتهم أنه ينبغي لمن صنف كتابا أن يبدأ بهذا الحديث ليبعث الطالبين على تصحيح النية، ثم نقول النفي والإستثناء للحصر قد يكون مطلقا وقد يكون بإعتبار أمر خاص مثل مازيد إلا قايما فإن الحصر فيه بالنسبة إلى العقود مثلا دون ساير الصفات والضابط في ذلك إنه ذلك إنه إن دلت قرينة على تخصيص الحصر بإعتبار أمر معين فهو للحصر بإعتبار ذلك الأمر وإلا فهو للحصر المطلق وانظر الحصر في الحديث من أي النوعين هو وتعرف ذلك بعد أن تعرف أنه لابد من تقدير محذوف يتم به المعنى ويحتمل أن يكون التقدير لاعمل على وجه الكمال إلا بالنية، ويحتمل أن يكون لاعمل على والأكثر أولى ولأن نفي الصحة أقرب إلى نفي الحقيقة، وإذا تعذر حمل اللفظ


[ 267 ]

على الحقيقة وجب حمله على أقرب المجازات كما بيناه في أصول الفقه، وعلى هذا يفهم منه إشتراط النية في الأعمال كما ذهب إليه الأصحاب. ثم الظاهر أن لفظ العمل يشمل عمل الجوارح والقلب وتخصيصه بالأول لاوجه له ولابد من تخصيص عمل الجوارح باخراج مالا يحتاج إلى النية كغسل الثوب والبدون الظروف من النجاسات وتخصيص عمل القلب باخراج النية لألا تتسلسل وفيه دلالة على أن المعتبر في ألفاظ الإيمان والنكاح وغيرها من العقودات والإيقاعات النية دون الألفاظ وحدها إلا ما خرج بالدليل مثل ما ثبت من أن في الحلف تعتبر نية المدعي وفي الأقرار ويحكم على الظاهر ولا يسمع دعوى عدم القصد. * الأصل 2 - علي، عن أبيه، عن النوفلي، عن الكسوني: عن أبيه عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): نية المؤمن خير من عمله ونية الكافر شر من عمله، وكل عامل يعمل على نية. * الشرح قوله (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نية المؤمن خير من عمله ونية الكافر شر من عمله) الحديث متفق عليه بين العامة والخاصة وله وجوه: الأول أن نية المؤمن إعتقادق الحق واطاعة الرب لوخلد في الدنيا وهي خير من عمله إذ ثمرتها الخلود في الجنة بخلاف عمله فإنه لا يوجب الخلود فيها ونية الكافر اعتقاد الباطل ومعصية الرب لوخلد فيها وهي شر من عمله إذ ثمرتها الخلود في النار بخلاف عمله يدل على هذا الوجه حديث آخر هذا الباب. وإضافة إلى المؤمن والكافر فإن الوصف مشعر بالعلية. الثاني أن المؤمن ينوي خيرات كثيرة خارجة عن قدرته وهو يثاب بها بدون عمل فنيته بهذا الإعتبار خير من عمله لأن ثوابها أكثر من ثوابه كما ديل عليه الخبر الاتي والكافر ينوي شرورا كثيرة لا يقدر على العمل بها فنيته شر من عمله ولا ينافي في ذلك ما روى من " أن العبد إذاهمه بشر لم يكتب عليه شئ حتي يعمل " لأن كون النية شرا لا ينافيه عدم كتب المنوي وعدم العقوبة به على سبيل التفضيل على أن أكثر العامة والمتكلمين والمحدثين ومنهم القاضي البيضاوي ذهبوا إلى أنه يؤاخذهم سيئة إذا بلغ مرتبة العزم والتصميم وتوطين النفس على الفعل لكن بسيئة العزم والتوطين لأنها معصية لاسيئة المعزوم عليه لأنه لم يفعله فإن فعله كتب سيئة ثانية، الثالث أن النية روح العمل والعمل بمثابة البدن لها فخيرية العمل وشريته تابعتان لخيرية النية وشريتها كما أن شرافة البدن وخباثته تابعتان لشرافة الروح وخباثته فبهذا الإعتبار نية المؤمن خير من عمله ونية الكافر شر من عمله، الرابع أن نية المؤمن وقصده أو لاهو الله وثانيا العمل لأنه يوصل إليه ونية الكافر وقصده غيره تعالى وعمله يوصله إليه وبهذا الإعتبار صح ما ذكر، وهذان


[ 268 ]

الوجهان إستفدنا هما من كلام المحقق الطوسي في بعض رائله وإن لم يكن صريحا فيهما، الخامس أن " خيرا " ليس للتفضيل و " من " تبعيضية صفة لم يعني أن نية المؤمن عمل خير من جملة أعماله ونية الكافر عمل شر من جملة أعماله وهو منقول عن السيد المرتضى وبه يندفع التنافي بين هذا الحديث وبين ماروى عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أفضل الأعمال أحمزها، وأما الوجوه السابقة فيرد على ظاهرها أن العمل أشق من النية فيكون خير أمنها بحكم هذا المروى فكيف تكون النية خيرا منه والجواب أن العمل ليس أشق من النية بل الأمر بالعكس لأن النية ليست مجرد التلفظ مخصوص وحصول معناه في القلب بل حصولها متوقف على تتزيه الظاهر والباطن عن الرذائل كلها وتوجه القلب إلى المولى بالكلية وإعراضه عن جميع ما سواه وتطهير العمل عن جميع ما يوجب نقصه وفساده ولاريب في أن النية على هذا الوجه أشق من العمل كما يدل عليه ماروى عن أمير المؤمنين (عليه السلام) " أن تصفية العمل أشد من العمل وتليص النية من الفساد أشد على العاملين من طول الجهاد " الحديث طويل مذكور في كتاب الروضة أخذنا منه موضع الحاجة، ثم أشار إلى أن قبول العمل ورده وخيره وشره تابعة للنية بقوله " وكل عامل يعمل على نية أن خيرا فخير وإن شرا فشر " ومن طرق العامة " إن الله لا ينظر إلى صوركم وإنما ينظر إلى قلوبكم " يعني إلى نياتكم من باب إطلاق المحل على الحال. * الأصل 3 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن هشام بن سالم، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن العبد المؤمن الفقير ليقول: يا رب ارزقني حتى أفعل كذا وكذا من البر ووجوه الخير، فإذا علم الله عز وجل ذلك منه بصدق نية كتب الله له من الأجر مثل ما يكتب له لو عمله، إن الله واسع كريم. * الشرح قوله (كتب الله له من الأجر مثل ما يكتب له لو عمله) يمكن ان يجعل تفسيرا لما مر من أن نية المؤمن خير من عمله لأن المؤمن ينوي خيرات كثيرة لا يساعده القدرة أو الزمان على فعلها فيثاب بها فيكون الثواب على النية أكثر من الثواب على العمل فتكون النية خيرا منه وهذا الوجه ينسب إلى إبن دريد اللغوي كما صرح به الشيخ في الأربعين، ولعل المراد أنه يكتب له أجراه مضاعفا كما ينقضيه لفظ المثل وأن أجر النية من حيث هي مثل أجر العمل من حيث هو، لا أنه مثل أجره مع النية فلا يلزم زيادة الشئ على نفسه أو الغاء العمل وإثابة المؤمن بنية أمر متفق بين الامة روى مسلم بإسناده عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال " من طلب الشهادة صادقا أعطيها ولو لم تصبه " وبإسناد


[ 269 ]

آخر عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال " من سأله الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه " قال المازري وفيهما دلالة على أن من نوى شيئا من أفعال البر ولم يفعله لغذر كان بمنزلة من عمله، وعلى استحباب طلب الشهادة ونية الخير وقد صرح بذلك جماعة من علمائهم حتى قال الأبي لو لم ينوه كان حاله حال المنافق لا يفعل الخير ولاينويه، وقيل " مر رجل من بني إسرائيل سنة القحط على جبل من الرمل فقال: لو كان حنطة لانفقته على الفقراء فأوحى الله رسول ذلك العصر أن يقول له إن الله قبل صدقتك وأعطاك أجر إنفاقه لو كان حنطة ". 4 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن علي بن أسباط، عن محمد بن إسحاق بن الحسين، عن عمرو، عن حسن بن أبان، عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن حد العبادة ألتي إذا فاعلها كان مؤديا ؟ فقال: حسن النية بالطاعة. * الشرح قوله (فقال حسن النية بالطاعة) لعل المراد به حسن النية بطاعة الإمام والإقبال عليها من صميم القلب أو المراد به تزكية نية العبادة عن جميع النقئص وتصفيتها عن غير وجه الله تعالى، وجعله حد العبادة لأن العبادة به عبادة فيفهم أنه شرط لقبولها. * الأصل 5 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن القاسم بن محمد، عن المنقري، عن أحمد بن يونس، عن أبي هاشم قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إنما خلد أهل النار في النار لأن نياتهم كانت في الدنيا أن لوخلدوا فيها أن يعصو الله أبدا، وإنما خلد أهل الجنة في الجنة لأن نياتهم كانت في الدنيا أن لو بقوا فيها أن يطيعوا الله أبدا، فبالنيات خلد هؤلاء وهؤلاء، ثم تلا قوله تعالى: * (قل كل يعمل على شاكلته) * قال: على نية. * الشرح قوله (قل كل يعمل على شاكلته قال على نيته) كان المراد نظرا إلى ظاهر الإستشهاد أن كل أحد بمنزلة من يعمل على نيته فإن كانت الطاعة أبدا فهو مطيع أبدا فيستحق الخلود في الجنة وإن كانت نية المعصية أبدا فهو عاص أبدا فيستحق الخود في النار.


[ 270 ]

* الأصل (باب) 1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن إبن محبوب، عن الأحول، عن سلام ابن المستنير، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ألا إن لكل عبادة عبادة شرة تصير إلى فترة، فمن صارت شرة عبادته إلى سنتي فقد إهتدى ومن خالف سنتي فقد ضل وكان عمله في تباب أما إني اصلي وأنام وأصوم وأفطر وأضحك وأبكي فمن رغب عن منهاجي وسنتي فليس مني. وقال: كفي بالموت موعظة، وكفى باليقين غني، وكفى بالعبادة شغلا. * الشرح قوله (ألا أن لكل عبادة شرة ثم تصير إلى فترة فمن صارت شرة عبادته إلى سنتي فقد إهتدى) الشرة وزان الشدة: الحدة والرغبة والنشاط في العمل والفترة بفتح الفاء الضعف الكسل فيه وأصلها الإنكسار، يقال فتر عن العمل فترة وفتورا إذا إنكسر حدته، ولعل المراد أن للمبتدي في العبادة نشاطا تاما وارادة حادة ورغبة كاملة تبعث النفس على الجد فيها وتحمل مشاقها فإذا دام ذلك يعتري النفس فتور وضعف عن العبادة إما لملال الطبع وسامته أو لمنع من جهة الحق عز وجل يمتحن به العباد ليريه عجزه فلا يعجب بعمل نفسه بل يرى تمكنه من العمل بحسن توفيقه أو ليختبر ما عنده من الصدق فإن هو سكن ولم يتألم لذلك فلا يردها عليه فإنه لايعرف قدرها وإن هو توجع وتضرع وجزع فردها إليه وزاده ثم بين حال الشرة بقوله " فمن صارت شرة عبادته إلى سنتي " أي طريقتي وهي طريقة العدل والإقتصاد ولم تتجاوز عنها فقد إهتدى لأن طريق الإقتصاد قلما يعتريه الفتور وأما المتجاوز عنه فإنه في معرض الفتور لسأمة النفس وملالها غالبا كما يظهر من الباب الآتي. هذا الذي ذكرنا على سبيل الإحتمال والله أعلم بحقيقة الحال قال (كفى بالموت موعظة) الموعظة هي الزاجرة عن الدنيا الركون إليها والداعية إلى الآخرة وقرب الحق وأعظمها هو الموت إذ العاقل إذا تفكر فيه وفي غمراته وما يعقبه من أحوال البرزخ والقيامة وأهوالها والحساب والعقاب وما فعله بمهل الدنيا من قطع أيديهم عنها وإخراجهم منها طوعا أو كرها هانت عنده الدنيا وما فيها وإجتها في الطاعة وتحرز عن المعصية (وكفي باليقين غني) الغني ما يغنى عن غير الله تعالى ويرفع الحاجة إليه واليقين بالله وباليوم الآخر وبحصول ما وعده الله من الجزاء والإرزاق أقوى ما يغني عن غير الله سبحانه لأنه نور موجب لوصول السالك إلى الحق وإتصاله به إتصالا معنويا بحيث لا يشاهد غيره فضلا عن الإحتياج إليه (وكفى بالعبادة شغلا) لأن كل شغل غير


[ 271 ]

العبادة فهو لو ولعب يوجب البعد عنه تعالى وتنقطع ثمرته بخلاف العبادة فإنها توجب قربه تعالى وتدوم ثمرته وفيه ترغيب في العبادة وهي مرتبة عظيمة لا يعطيها الله تعالى إلا من يحبه ألا ترى أن الله تعالى حين أراد أن يلبس نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) حلة الشرف والكرامة نسب العبودية إليه فقال " أنزل على عبده الكتاب ". * الأصل 2 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن الحجال، عن ثعلبة، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): لكل أحد شرة ولكل شره فترة، فطوبى لمن كانت فترته إلى خير. * الشرح (لكل أحد شرة ولكل شرة فنرة فطوبى لمن كانت فترته إلى خير) لعل المراد أن الشرة قد تقضي التجاوز عن حد الإقتصاد وتوجب الكلال والفتور في الأعمال فطوبى لمن كانت فترته إلى الخير وهو القصد لاإلى الإعراض فالإقتصاد أمر مطلوب قد وقع الحث على المتسك به حيث مدح في الأول من إنتهت شرته، إليه، وفي هذا الحديث من رجع عن شرته عند التجاوز وقام عليه. وللحديث إحتمالات آخر ذكرناها في آهر كتاب العلم.


[ 272 ]

(باب الإقتصاد في العبادة) * الأصل 1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن سنان، عن أبي الجارود، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن هذا الدين متين فأغلوا فيه برفق ولا تكرهوا عبادة الله إلى عباد الله، فتكونوا كالراكب المنبت الذي لاسفرا قطع ولاظهرا أبقي. محمد بن سنان، عن مقرن، عن محمد بن سوقة، عن أبي جعفر (عليه السلام) مثله. * الشرح قوله (إن هذا الدين متين فاوغلوا فيه برفق) إسم الدين يقع على جميع ما تعبد الله به خلقه من توحيده وطاعته والإنقياد لحكمه وهو جملة الإسلام كما قال تعالى " إن الذين عند الله الإسلام " ووصفه بأنه متين أي قوي شديد من متن الشئ من متن الشئ - بالضم - متانة اشتد وقوى فهو متين التنبيه على أنه لا يقدر على تحمله إلا المؤمنون ذلك كما قال الله تعالى في وصف الصلاة * (وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين " وهم المؤمنون العارفون، وإلا يغال السير الشديد، يقال أوغل القوم وتوغلوا إذا أمعنوا في سيرهم، والمنبت الرجل الذي إنقطع به في سفره وعطبت راحلته وهو مطاوع بته بتا من باب ضرب وقتل أي قطعه يعني سيروا فيه سيرا سريعا وإبلغوا الغلية القصوى منه بالرفق ولا تحملوا على أنفسكم من العمل ما لا تطيق فينقطع كالذي لا يقطع طيقه ويهلك راحته. والمراد بالرفق الإقتصاد في العبادة وترك التعمق فيها لأن التعمق فيه يوجب غالبا كراهة النفس لها وبغضها إياها والإعراض عنها وهو مذموم قطعا ولقد أحسن في أيضاح المقصود بالإتيان بالتمثيل البديع لأنه شبه النفس الناطقة في السير إلى الله بالمسافر. وشبه البدن وقواه بالمركوب لأن النفس في سيرها تحتاج إليهما كما أن المسافر في سيره يحتاج إلى المكروب وكما أن المسافر إذ جد في السير جدا وحمل على مركوبه أثقالا كثيرة يهلك دابة قبل أن يقطع سبيله ويبلغ مقصده فيبقى متحيرا كذلك النفس إذا جدت في طرق الأعمال وحملت على مركوبها أعمالا كثيرة شاقة تمل البدن وتكل قواه وذلك يضعفهما ويهلكهما فتبقى متحيرة قبل الوصول إلى المطلوب فلا بد لها من ترك الإفراط والتفريط وإحتيار التوسط كما أنه لا بد من ذلك لذلك المسافر. وبالجملة العبادة خلاف مقتضى الطبع فلا بد من أه يسلك فيه سبيل التدريج والمداراة ليكون له نشاط في الأعمال والأفعال وهذا في المرغبات وأما المفروضات فلا بد من أدائها وتعاهدها في وإن كانت ثقلية.


[ 273 ]

* الأصل 2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، ومحمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، جميعا، عن إبن أبي عمير، عن حفص بن البختري، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لاتركرهوا إلى أنفسكم العبادة. * الشرح قوله (قال لا تكرهوا إلى أنفسكم العبادة) زجر بهذا الكلام المبالغين في الجدو الإجتهاد وتحمل مشاق العبادات فربما كرهت النفس العبادة وذهب أجرها وندبهم إلى أخف العبادات على النفوس وأسهلها ليعملها بخفة ونشاط وطواعية لا بعسر وكراهية، فيكون ذلك أنظ لها في عبادة الله وأبلغ في حضور القلب مع الله واجتماع الهم بين يديه فيقبل الله عليه ويوصله إليه، وبالجملة أحاديث الباب ظاهرة في الأمر بالرفق في العبادة وترك طلب النهاية فيها إذ خير الأمور أوساطها، فلا يستحسن قيام جميع الليالي وصيام جميع الايام فإن لنفسك عليك حقا ولعينك عليك حقا ولان العمل وإذا قال دام واجتمع فقليله لطول الزمان كثير وخف على النفس تعهده بخلاف إذا كثر ولم تضبطه عادة، فإنه قد يؤدي إلى الترك فيحرم عن العبادة وهو مع ذلك مكره لها وهذا مذموم جدا، ألم تسمع إن اشرف العابدين وسيد المرسلين كان ينام ويأكل ويشرب وينكح ويصاحب الناس ويصوم ويفطر ومع ذلك كان قادرا على أكثر من ذلك، كان ذلك تعليم للامة وترحم لهم وتعطف عليهم ولذلك لم يكلفهم الله إلا ما دون الطاقة بكثر، نعم من استيقن أنه لا يفتر بكثرة العبادة ولا يبغضها بطول مداومتها لا يبعد أن يكون ذلك راجحا بالنظر إليه كما ورد الأمر بعبادات كثيرة المشاق مثل صيام الدهر وبعض الصلوات ونحوهما. * الأصل 3 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن إسماعيل، عن حنان بن سدير قال : سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن الله عز وجل إذا أحب عبدا فعمل [ عملا ] قليلا جزاه بالقليل الكثير ولم يتعاظمه أن يجزي بالقليل الكثير له. 4 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال، عن الحسن بن الجهم عن منصور، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: مر بي أبي وأنا بالطواف وأنا حدث وقد اجتهدت في العباد، فرآني وأنا أتصاب عرقا، فقال لي: يا جعفر يا بني إن الله إذا أحب عبدا أدخله الجنة ورضي عنه باليسير. 5 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حفص بن البختري وغيره عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: اجتهدت في العبادة وأنا شاب، فقال لي أبي: يا بني دون ما أراك تصنع، فإن الله عز وجل إذا


[ 274 ]

أحب عبدا رضي عنه بالسير. 6 - حميد بن زياد، عن الخشاب، عن ابن بقاح، عن معاذ بن ثابت، عن عمرو بن جميع، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (عليه السلام): يا علي إن هذا الدين متين، فأوغل فيه برفق ولا تبغض إلى نفسك عبادة ربك [ ف‍ ] - إن المنب يعني المفرط لا ظهرا أبقى ولا أرضا قطع، فاعمل عمل من يرجو أن يموت هرما وأحذ حذر من يتخوف أن يموت غدا. * الشرح قوله (فاعمل عمل من يرجو أن يموت هرما وأحذر حذر من يتخوف أن يموت غدا) أي أعمل في الطاعات والخيرات برفق وتأن وأخذ حظ من جميع أنواعها كعمل من يرجو أن يكون أجله ممتدا إلى الهرم وأحذر عن المنهيات كحذر من يخاف أن يموت غذا ولعل السر فيه أن العبادات أعمل وفيه تعب الاركان وشغل عما سواها فأمر فيها بالرفق والاقتصاد كيلا تكل بها الجوارح ولا تبغضها النفس ولا تفوت بسببها حق من الحقوق فاما الحذر من المعاصي والمنهيات فهو ترك واطراح ليس فيه كثير كد ولا ملالة ولا شغل عن شئ فيترك ترك من يخاف أن يموت غدا على معصية الله تعالى ولهذا قال (عليه السلام) " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شئ فانتهوا " وقيل الفرق أن فعل الطاعات نفل وفضل وترك المخالفات حتم وفرض.


[ 275 ]

(باب) (من بلغه ثواب من الله على عمل) * الأصل 1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من سمع شيئا من الثواب على شئ فصنعه، كان له، وإن لم يكن على ما بلغه. * الشرح قوله (من سمع شيئا من الثواب على شئ فصنعه) الحديث حسن الطريق مضمونه مؤيد بالخبر الذي بعده (1) بابويه عن علي بن موسب عن أحمد بن محمد عن علي بن الحكم عن هشام بن صفوان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال " ومن بلغه. شئ من الثواب على شئ من الخير فعمله كان له أجر ذلك وإن كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يقله " كان المراد أن من سمع رواية صادقه بحسب ظنه دالة على الثواب المترتب على فعل شئ أو تكره فصنع ذلك الشئ وأتى به طلبا لذلك الثواب كان له أجر ذلك الشئ وان لم يكن المسموع على ما بلغه. وقال الشيخ في الأربعين يحتمل أن يراد بسماع الثواب


1 - قوله " مضمونه مؤيد بالخبر الذي بعده " وهو من فروع حسن الظن بالله المرغوب إليه فيما سبق من الأحاديث ومن الصفات التي تبقى مع النفس بعد مفارقة البدن وتنفع الإنسان بنفسها مباشرة في الآخرة لامن الصفات المقدماتية التي إلا بالواسطة والعرض فإن الملكات الحسنة على قسمين قسم منها كالعفة والشجاعة والسخاء يختص بهذه الحياة والدنيا ما دامت النفس في البدن وممنوة بالشهوات والاوهام والصفات البدنية وفائدة هذه الملكات حفظ النفس عن غوائل الشهوات وأمثالها فلو لم يكن في الإنسان شهوة لم يكن عفة ولو لم يكن خوف لم تحسن الشجاعة السخاء وبعد فراق النفس عن البدن لم تكن فيه شهوة القبائح فلا معنى لوجوده العفة ولم يتحقق فيه خوف الموت فلا معنى لتحسين صفة الشجاعة له. وأما معرفة الله تعالى وصفاته الكمالية وحسن الظن به والإعتماد عليه والتلذذ بقربه فهي مما يعقل وجوده للنفس الإنسانية بعد الموت وقد تكون المكله غير الباقية مستلزمة لصفة يمكن ان تبقى مع النفس كنية فعل الخير فإنها تستلزم حب الخير والصبر فإنه يتضمن الرضا بحكم الله تعالى، ولمثل تلك الصفات حكم في الآخرة ويثاب عليها وقد مر في سر خلود المؤمنين من النعيم وخلود الكفار في الجحيم بقاء نية الخير أو الشر في قلوبهم فهم يعذبون بسبب النية كشجرة تثمر ثمرا رديا لعيب طرى على أصله وبالجملة فحسن الظن بالله ملكة فاضلة إذا رسخت في النفس كمل إيمانها بالله ورجاء الثواب من عمل لا يحتمل كونه مبغوضا تفرب إليه وذكر لالائه ولطفه وهو حسن عقلا يستحق به الثواب والطريق الذي ذكرناه في التسامح في أدلة السنن أنسب وألصق بعلم الأخلاق والكلام مما ذكره الشارح فإنه أنسب بالفقه. (ش) (*)

[ 276 ]

مطلق بلوغه إليه سواء كان على سبيل الرواية أو الفتوى أو المذاكرة أو نحو ذلك كما رآه في شئ من كتب الحديث أو الفقه مثل ويؤيد هذا التعميم أنه ورد في آخر عن الصادق (عليه السلام) " من بلغه شئ من الثواب " ويمكن أن يراد السماع من لفظ الراوى أو المفتى خاصة فإنه هو الشائع الغالب في الزمن السالف، وأما الحمل على التحمل بأحد الوجوه الستة المشهورة فلا يخلو من بعد وظاهر الاطلاق أن صدق الناقل غير شرط في ترتب الثواب فلو تسائي صدقه وكذبه في نظر السامع وعمل بقوله فاز بالاجر نعم بشرط عم ظن كذبه بقيام بعض القرائن والظاهر أن تصريح الوراي بترتيب الثواب غير شرط بل قوله اإن العمل الفلاني مستحب أو مكروه كاف في ترتيب الثواب على فعله أو تركه انتهى، وأنت خبير بأن هذا الحديث على الإحتمال الأول يدل على أن يجوز العمل باخبار الاحاد المعتبر وعلى الاحتمال الذي ذكره الشيخ يدل عليه وعلى جواز العمل بالاخبار الضعيفة الدالة على استجاب فعل عمل أو تركه وهو الموافق لمذهب الاصحاب. ويرد عليهم إشكال وهو أن الاستحباب الاعمال التي ورد بها أخبار ضعيفة ولا يثبت بالحديث الضعيف فيكف يصح قولهم باستحباب الاعمال التي ورد بها أخبار ضعيفة وحكمهم بترتيب الثواب عليها ولهم في التفصى عنه أقوال فقال الشيخ (رضي الله عنه) - حكمهم باستحباب تلك الأعمال وترتب الثواب عليها ليس مستندا في الحقيقة إلى الأحاديث الضعيفة بل إلى هذا الحديث الحسن المشتهر المعتضد بغيره من الأحاديث، ووجه عدم استنادهم إلى هذا الحديث في وجوب ما تضمن إلا ترتب الثواب على العمل وهو يقتضى الأمر بالعمل، وقيل إذا وجد حديث ضعيف في فضيلة عمل ولم يكن هذا العمل ما يحتمل الحرمة والكراهة فإنه يجوز العمل به ويستحب لأنه مأمون الخطر ومرجو النفع إذ هو دائر بين الإباحة والاستحباب فالاحتياط العمل لرجاء الثواب وأما إذا دار بين الاستحباب والحرمة فلا وجه لاستحباب العمل به وكذا إذا دار بينه وبين الكراهة الشديدة إذ في العمل به دغدغة الوقوع فيها وأما إذا كانت الكراهة أضعف من الاستحباب فالاحتياط العمل وكذا إذا تساويا، وقيل: معنى قولهم يجوز العمل بالحديث الضعيف في فضايل الأعمال دون المسائل الحلال والحرام أنه إذا ورد حديث صحيح أو حسن في استحباب عمل وورد حديث ضعيف في أن ثوابه كذا وكذا جاز العمل بهذا الحديث الضعيف والحكم بترتب الثواب على ذلك الفعل وليس هذا الحكم أحد الاحكام الخمسة التي لا تثبت بالاحاديث الضعيفه، وقيل: معنى قولهم الأحكام لا تثبت بالأحاديث الضعيفة أنها لا تستقل بأثباتها لا أنها لا تصير مقوية ومؤكذة لما تثبت تلك الأحكام به ومعنى تجويزهم العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال أنه إذا دل على استحباب عمل حديثان صحيح وضعيف مثلا جاز للمكلف حال العمل ملاحظة دلالة


[ 277 ]

الضعيف أيضا عليه فيكون عاملا به في الجملة والشيخ (قدس سره) رد هذه الأقوال الثلاثة أما أولها فبان خطر الحرمة في هذا الفعل الذي تضمن الحديث استحبابه حاصل إذ لا يتعد شرعا بما فعله المكلف لرجاء الثواب ولا يصير منشأ لاستحقاق الثواب إلا إذا فعله بقصد القربة ولاحظ رجحان فعله شرعا، فإن الأعمال بالنيات وفعله على هذا الوجه مردد بين كونه سنة ورد الحديث بها في الجملة وبين كونه تشريعا وإخالا لما ليس من الدين فيه ولا ريب أن ترك السنة أولى من الوقوع في الدبعة فليس الفعل المذكورة دائرا في وقت من الأوقات بين الإباحة والاستحباب ولا بين الكراهة والاستحباب بل هو دايما دائر بين الحرمة والاستحباب فتاركه متيقن للسلامة وفاعله متعرض للندامة، وأما ثانيها فبأنه مخالف منطوق عبارات القوم فإنها صريحة في استحباب الإتيان بالفعل إذا ورد في استحبابه حديث ضعيف غير قابلة لهذه التأويل السخيف، وأما ثالثها فبانه مع بعده وسماجته يقتضى عدم صحة التخصيص بفضائل الأعمال دون مسايل الحلال والحرام فإن العمل بالحديث الضعيف بهذا المعنى لا نزاع بين أهل الإسلام في جوازه في جميع الأحكام. 2 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن محمد بن سنان، عن عمران الزعفراني عن محمد بن مروان قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: من بلغه ثواب من الله على عمل فعمل ذلك العمل، إلتماس ذلك الثواب، اوتيه، وإن لم يكن كما بلغه.


[ 278 ]

(باب الصبر) * الأصل 1 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن الحسن بن محبوب، عن علي ابن رئاب، عن ابن أبي يعفور، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: الصبر رأس الإيمان. * الشرح قوله (الصبر رأس الإيمان) في الخبر الآتي " الصبر من الإيمان منزلة الرأس من الجسد " وفيه تشبيه المعقول بالمحسوس للإيضاح والوجه ما أشار إليه بقوله " فإذا ذهب الرأس ذهب الجسد كذلك إذا ذهب الصبر ذهب الإيمان " وذلك لما ذكرنا سابقا من أن الإنسان مادام في هذه النشأة كان موردا للصائب والافات ومحلا للنوائب والعاهات، ومتوجها إليه الاذي من بني نوعه في المعاملات ومكلفا بفعل الطاعات وترك المنهيات والمشتهيات وكل ذلك ثقيل على النفس بشع في مذاقها وهي تتنفر منه نفارا وتتبعاد منه فرارا فلا بد من أن يكون فيه قوة ثابتة ومكلمة راسخة بها يقتدر على حبس النفس على هذه الامور الشاقة والوقوف معها بحسن الأدب وعدم الإعتراض على المقدر بإظهار الشكوى وعدم مؤاخذة من أذاه والإنتقام منه وتلك القوة أو ما يترتب عليها أعنى حبس النفس على تلك الامور ومقاومتها لهواها هي المسماة بالصبر ومن البين أن الإيمان الكامل بل نفس التصديق أيضا يبقى ببقائه ويفنى بفنائه فلذلك هو من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، وفي طرق العامة " الصبر نصف الإيمان " قال إبن الأثير أراد بالصبر الورع لأن العبادة قسمان نسك وورع فالنسك ما أمرت به الشريعة والورع ما نهت عنه وإنما ينتهي بالصبر فكان الصبر نصف الإيمان، أقول الإيمان الكامل نصفه متعلق بالباطن ونصفه متعلق بالظاهر وقوام الظاهر فالصبر نصف الإيمان. * الأصل 2 - أبو علي الأشعري، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن سنان، عن العلاء بن الفضيل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا الرأس ذهب الجسد، كذلك إذ ذهب الصبر ذهب الإيمان. 3 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، وعلي بن محمد القاساني، جمعيا، عن القاسم إبن محمد الإصبهاني، عن سليمان بن داود المنقري، عن حفص بن غياث قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): يا حفص إن من صبر صبر قليلا وإن من جزع جزع قليلا، ثم قال: عليك بالصبر في جميع امروك، فإن الله عز وجل بعث


[ 279 ]

محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) فأمره باصبر والرفق، فقال: * (وإصبر على ما يقولون وإهجرهم هجرا جميلا وذرني والمكذبين أولي النعمة) * وقال تبارك وتعالى: * (إدفع بالتي هي أحسن (السيئة) فإذا الذي بينك فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقيها إلا الذين صبروا وما يلقيها إلا ذو حظ عظيم) *، فصبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى نالوه بالعظائم ورموه بها، فضاق صدره فأنزل الله عز وجل * (ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين) * ثم كذبوه ورموه، فحزن لذلك، فأنزل الله عز وجل * (قد نعلم أنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبون بونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون. ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا واوذوا حتى أتيهم نصرنا) * فألزم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه الصبر، فتعدوا فذكروا الله تبارك وتعالى وكذبوه، فقال: قد صبرت في نفسي وأهلي وعرضي ولا صبر لي على ذكر إلهي، فأنزل الله عزوجل * (ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب، فاصبر على ما يقولون) * فصبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في جميع أحواله ثم بشر في عترته بالأئمة ووصفوا بالصبر، فقال: جل ثناؤه: * (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآيتنا يوقنون) * فعند ذلك قال (صلى الله عليه وآله وسلم): الصبر من الإيمان كالرأس من الجسد، فشكر الله عز وجل ذلك له، فأنزل الله عز وجل * (وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ماكان يصنع فرعون وقومه وما كان يعرشون) * فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) إنه بشرى وانتقام، فأباح الله عز وجل له قتال المشركين فأنزل الله * (اقتلوا المشركين حيث وجد تموهم وخذوهم واحصرونهم واقعدوا لهم كل مرصد) * * (واقتلوهم حيث ثقفتموهم) * فقتلهم الله على يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأحبائه وجعل له ثواب صبره مع ما ادخر له في الآخرة، فمن صبرو احتسب لم يخرج من الدنيا حتى يقر [ الله ] له عينه في أعدائه، مع ما يدخر له في الآخرة. * الشرح قوله (عن القاسم بن محمد الإصبهاني) قال عياض إصبهان سمعناه بفتح الهمزة وحكاه الكبرى بالكسر لاغير (إن من صبر صبر قليلا ومن جزع جزع قليلا) نصب قليلا إما على المصدرية أو على الظرفية أي صبر صبرا قليلا أو صبر زمانا قليلا وهو زمان العمر أو زمان البلية فيه وفيه حث على الصبر لأنه يوجب مع قلته راحة طويلة. (ثم قال عليك بالصبر في جميع امورك) الجمع المضاف يفيد العموم خصوصا مع لفظ الجميع فيدل على أن الإنسان في كل ما يصدر منه من الفعل والترك والعقد وكل ما يرد عليه من المصائب والنوائب من قبله تعالى أو من قبل غيره يحتاج إلى الصبر إذ لا يمكنه تحمل ذلك بدون


[ 280 ]

جهاده مع النفس والشيطان وثباته في مقام المجاهدة بالصبر وحبس النفس عليه قال أمير المؤمنين (عليه السلام) الصبر والشجاعة. (وإصبر على ما يقولون وأهجرهم هجرا جميلا) أمره بالصبر على تكذيبهم وبالهجر عن ذواتهم أو عن مخاصمتهم، وفيه ترغيب في حمل النفس على الصبر والمجاهدة لتخلص من عداوة الخلق والغضب عليهم وشهوة الدنيا والإشتغال بغيره تعالى، والهجر الجميل هو إن يجانبهم ويداريهم ولا يكافيهم ويكل أمرهم إلى الله كما قال: (وذرني والمكذبين أولى النعمة) أي دعني وإياهم فإني اجازيهم في الدنيا والاخرة وأولى النعمة صناديد قريش وغيرهم. (وقال تبارك وتعالى إدفع بالتي هي أحسن) قال عز وجل * (ولا تستوى الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن قال بعض المفسرين صبر الله تعالى بهذه الآية رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) على سفاهة الكفار وعلمه الادب الجميل في باب الدعاء إلى الدين بل في مطلق امور التمدن، و " لا " زائدة لتأكيد نفي الاستواء والمعنى لا مساواة بين الحسنة والسيئة أبدا يعني يكسان نيست نيكي وبدى هرگز كالايمان والكفر والحلم والغضب والطاعة والمعصية واللطلف والمنف والعفو والاخذ ولما كان هنا مظنة سؤال وهو أنه كيف يصنع بالخبيث الموذي قال * (ادفع بالتي هي أحسن السيئة " أي ادفع السيئة بالخصلة التي هي احسن منها وهي العفو وإسم التفضيل مجرد عن عن معناه أو أصل الفعل معتبر فيى المفضل عليه على سبيل الفرض أو المعنى ادفع السيئة بالحسنة التي هي أحسن من العفو والمكافاة وتلك الحسنة وهي الاحسان في مقابل الاساءة ومعنى التفضيل حينئذ بحاله لأن كل واحد من العفو والمكافاة أيضا حسنة إلا أن الاحسان أحسن منهما وهذا قريب مما ذكره صاحب الكشاف من أن " لا " غير مزيدة والمعنى أن الحسنة والسيئة متفاوتان في أنفسهما فخذ بالحسنة التي هي أحسن إذا اعترضك حسنتان فادفع بها السيئة، مثاله مثاله رجل أساء إليك فالحسنة أن تعفو عنه والتي هي أحسن أن تحسن إليه مكان اساءته. (فإذا الذي بينك وبينه عداوة كانه ولى حميم) أي إذا فعلت ذلك صار عدوك مثل الولي الشفيق، ثم مدح هذه الحضلة الكريمة وصاحب هذه السيرة الشريفة بقول: (وما يلقيها إلا الذين صبروا) أي لا يعمل بهذه السجية العظيمة وهي العفو عن الاءساة أو مقابلتها بالاحسان الاكل صبار على تجرع المكاره. (وما يلقيها إلا ذو حظ عظيم) من قوة جوهر النفس الناطقة بحيث لا تتأثر من الواردات الخارجة وقيل الحظ العظيم وقيل الثواب الجزيل.


[ 281 ]

(ولقد نعم أنك يضيق صدرك) كناية عن الغم (بما يقولون) من الشرك والطعن فيك وفي القرآن والاستهزاء بك وبه. (فسبح بحمد ربك) أي فنزه ربك عما يقولون مما لا يليق به متلبسا بحمده في توفيقك له أو فافزع إلى الله فيما نابك من الغم بالتسبيح والتحميد فانهما يكشفان الغم عنك. (وكن من الساجدين) للشكر في توفيقك أو رفع غمك أو كن من المصلين فإن في الصلاة قطع العلائق عن الغير. (قد نعلم أنه ليحزنك الذي يقولون) قد للتحقيق وضمير أنه للشأن (فإنهم لا يكذبونك) في الحقيقة. (ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون) قيل يجحدون مكذبين بآيات الله في الحقيقة، فالباء لتضمين الجحود معنى التكذيب ووضع الظالمين موضع المضير للدلالة على أن ظلمهم بسبب الجحود. (ولقد كذبت رسل) عظام أو كثير. (من قبلك فصبروا على ما كذبوا واوذوا) أي على تكذيبهم وايذائهم، فما مصدرية وفيه تسلية له (صلى الله عليه وآله وسلم) وترغيب فيى الصبر كما قثال * (فاصبر كما صبر اولوا العزم من الرسل ". (حتى اتيهم نصرنا) بشارة بالنصر للصابرين كما قيل الصبر مفتاح الفرج (ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة ايام) فيه أيضا ترغيب للخلص بالصبر في جميع الامور (وما مسنا من لغوب) أي تعب وأعياء. (فاصبر على ما يقولون) أي على ما تقوله اليهود من الكفر والتشبيه أو على ما يقوله المشركون من إنكارهم البعث فإن من خلق العالم بلا أعياء يقدر على حشر الخلائق والانتقم منهم. (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا) دل على أن الصبر للجعل المذكور وإليه أشار أرسطا طاليس بقوله بالصبر على مضض السياسة ينال شرف الرئاسة " (فشكر الله عز وجل ذلك له) شكر الله تعالى لعباده عبارة عن قبول العمل ومقابلته بالإحسان والانعام في الدنيا والآخرة. (وتمت كلمة ربك الحسنى على بني اسرائيل بما صبروا) أي مضت عليهم واتصلت بالإنجاز عدته اياهم بالنصر والتمكين بسبب صبرهم على الشدائد وهي قوله * (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلم الوارثين ونمكن لهم في الأرض ونرى وفرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون ". (ودمرنا) أي أهلكنا دمره تدميرا، ودمر عليه بمعنى (ما كان يصنع فرعون وقومه) قيل هو القصور والعمارات ويحتمل الأعم (وما كانوا يعرشون) قيل هو ما كانوا يرفعون من البنيان كصرح هامان أو ما كانوا يعشرون من الجنات ويحتمل الاعم، يقال عرش يعشر أي بنى بناء من خشب (أو


[ 282 ]

احصروهم) من الدخول في المسجد الحرام أو الاعم منه ومن السير في البلدان (واقعدوا لهم كل مرصد) أي كل ممر وطريق لئلا ينبسطوا في البلاد نصبه على الظرف من رصد رصدا ومرصدا أرقبه، والمراصاد الطريق والمكان يوجد فيه العدو. (وجعل له ثواب صبره مع ما ادخر له في الآخرة) أي جعل له ثواب صبره في الدنيا بنصره وقتل عدوه وفي الآخرة بمزيد الزلفى والكرامة ورفع الدرجات، وهذا معنى شكره للصابرين، ومن ثم روى " الصنرة مع الصبر " وقيل: للصبر عاقة محمودة الاثر. (فمن صبر واحتسب) أي احتسب صبره على أذي الاعداء واعتده فيما يدخر عند الله ويثاب عليه ونوى به وجه الله تعالى لا غيره، والاحتساب بالعمل الاعتداد به وارتقاب الأجر من الله تعالى (لم يخرج من الدنيا حتى يقر الله له عينه في أعدائه) أي يجعل الله عينه قارة باردة في قتل أعدائه وخذلانهم، وهذا كناية عن السرور لأن دمعة السرور باردة (مع ما يدخر له في الآخرة) من الأجر الجميل والثواب الجزيل كما فعل ذلك لرسوله (صلى الله عليه وآله وسلم). * الأصل 4 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن أبي محمد عبد الله السراج، رفعه إلى علي بن الحسين (عليهم السلام) قال: الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، ولا إيمان لمن لا صبر له. 5 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن ربعي بن عبد الله عن فضيل بن يسار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا ذهب الرأس ذهب الجسد، كذلك إذا ذهب الصبر ذهب الإيمان. 6 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن علي بن النعمان، عن عبد الله بن مسكان، عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن الحر حر على جميع أحواله، إن نابته نائبة صبر لها، وإن تداكت عليه المصائب لم تكسره وإن اسر وقهر واستبدل باليسر عسرا كما كان يوسف الصديق الامين صلوات الله عليه لم يضر حريته ان استعبد وقهر واسر ولم تضرره ظلمة الجب ووحتشه وناله إن من الله عليه فجعل الجبار العاتي له عبدا بعد إذ كان [ له ] مالكا، فأرسه ورحم به امة، وكذلك الصبر يعق خيرا، فاصبر ووطنوا أنفسكم على الصبر توجروا. * الشرح قوله (قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول إن الحر حر على جميع أحواله) الحر نقيض العبد والمراد به هنا من نجى عن رق الشهوات النفسانية واللذات الجسمانية وعن سلاسل الزهرات


[ 283 ]

الدنياوية وتوجهت نفسه القدسية إلى مشاهدة الأنوار الإلهية والاسرار الربوبية وهم الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنونهم الآية. ويتحملون في نيران الصبر على فقدان المألوف المرغوب ويصبرون على أذي القوم وعدم وجدان المطلوب، وحالاتهم متفاوتة ويعود حال أعلاهم إلى أن لو صار الحبر مدادا والأشجار أقلاما وعاش الخلائق مخلدين يكتبون اشواقهم إلى يوم التناد لا يستطيعون احصاء ما بهم من الأشواق المبرحة في فؤادهم ومن ثم قيل: من صبر صبر الاحرار نال من فيض الجبار ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. وقال الله سبحانه * (إنما يوفي الصابرون أجرهم بغير حساب ". (ان نابته نائبة نابه أمر ينوبه نوبة أصابه والنائبة النازلة والجمع نوائب (صبر لها) لتوجه قلبه اللطيف إلى جمال الله تعالى وجلاله ولا يخطر غير الحق بباله فضلا عن أن يكون مخالفا لطبعه ولو خطر وقتا ما وذاق مرارته تحمل طلبا لرضاه. (وإن تداكت) الدك الدق وفي التفاعل مبالغة في الشدة والصولة (واستبدل بالعسر يسرا) الظاهر أنه عطف على قهر ولا يتم إلا بتكليف لأن ظاهره أن العسر مدفوع واليسر مأخوذ فلا يناسب الوصل ويمكن أن يكون عطفا على قوله: " وإن تداكت فيكون غاية للصبر وإشارة إلى ما يترتب عليه. وفي بعض النسخ " واستبدل باليسر عسرا " وهو اضح (لم يضرر حريته ان استعبد وقهر واسر) يعني هذه الصفات الشاقة الكريهة على النفوس البشرية لم تدفع حريته أي توجه قلبه إلى الله وصبره في الله على تحمل ثقلها. (ولم تضرره ظلمة الجب وحشته وما ناله أن من الله عليه) الظاهر أن قوله " وما ناله " عطف على ظلمة الجب ولعل المراد به نوائب الزمان وجور الاخوانم وأن قوله " ان من الله عليه " بتقدير اللام أي لأن من الله عليه فيكون تعليلا لقوله لم يضرر في الموضعين وإنما قلنا الظاهر ذلك لا حتملك أن يكون مبتدءا وخبرا، والجملة عطف على لم يضر أو يكون قوله " وما ناله " عطفا عليه وما بعده بيانا لما بتقدير من أو يكون الواو بمعنى مع وفاعل نال حينئذ يوسف (عليه السلام). والعاتى من العتو وهو التجبر والكبر والتجاوز عن الحد والمراد بارساله إساله إلى الخلق نبيا وبرحم الامة به نجاتهم عن العقوبة الابدية بايمانهم به أو من القحط والجوع لحفظه وما زرعوا السنة القحط وادخاره لهم والله أعلم. (وكذلك الصبر يعقب خيرا) أي كما أن صبر يوسف (عليه السلام) اعقب خيرا عظيما له كذلك صبر كل احد يعقب خيرا له ومن ثم قيل اصبر تظفر وقيل. إني رأيت وللايام تجربة * للصبر عاقبة محمودة الأثر


[ 284 ]

وقل من جد في امر يطالبه * فاستصحب الصبر الافاز بالظفر (فاصبروا ووطنوا أنفسكم على الصبر توجروا) توطين النفس على الصبر كناية عن لزومه توجب الاجر لتام في الآخرة ودفع المكروهات واعقاب الخيرات في الدنيا. * الاصل 7 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن عبد الله ابن بكير، عن حمزة بن حمران، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: الجنة محفوضة بالمكاره والصبر، فمن صبر على المكاره في الدنيا دخل الجنة، وجنهم محفوفة باللذات والشهوات فمن أعطى نفسه لذتها وشهواتها دخل النار. * الشرح قوله (قال الجنة محفوفة بالمكاره والصبر - الخ) الحديث متفق عليه بين الخاصة والعامة روى مسلم عن أنس بن مالك قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) " حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات " وهذا من بديع الكلام وجوامعه ومن التمثيل الحسن وأحفاف الشئ جوانبه والمقصود أنه لا يواصل إلى الجنة إلا بتخطى المكاره والصبر عليها ولا يوصل إلى جنهم إلا بتخطى الشهوات والمرور عليها والاطمينان بها ويدخل في المكاره الجد في العبادة والصبر على مشاقها وكظم الغيظ والصبر على الشهوات ويدخل في الشهوات جميع المحرمات كالزناء وشرب الخمر والغيبة وأمثالها، وأما المباحات فلا يدخل فيها ولكن يركه الاكثار منها لأنها قد تقسى القلب وتجر إلى الرغبة في الدنيا بل قد تجر إلى المحرمات. * الأصل 8 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن محبوب، عن عبد الله بن مرحوم، عن أبي سيار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا دخل المؤمن في قبره، كان الصلاة عن يمينه والزكاة عن يساره والبر مظل عليه ويتنحى الصبر ناحية فإذا دخل عليه الملكان اللذان يليان مسائلته قال الصبر للصلات والزكاة والبر: دونكم صاحبكم، فإن عجزتم عنه فأنا دونه. * الشرح قوله (إذا دخل المؤمن في قبره كانت الصلاة عن يمينه - الخ) دل ظاهره على تجسم الأعمال والأخلاق والروايات الدالة عليه وعلى تجسم الاعتقادات أيضا كثيرة فلا ينبغي إنكاره وحمله على


[ 285 ]

التمثيل (1) (فان عجزتم عنه فأنا دونه) فالصبر كصاحبه صابر وكل شئ من الحسن حسن. * الأصل 9 - علي، عن أبيه، عن جعفر بن محمد الأشعري، عن عبد الله بن ميمون، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال دخل أمير المؤمنين صلوات الله عليه المسجد، فإذا هو برجل على باب المسجد، كئيب حزين، فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): مالك ؟ قال: يا أمير المؤمنين اصبت بأبي [ وامي ] وأخي وأخشي أن أكون قد وجلت، فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): عليك بتقوى الله والصبر تقدم عليه غدا، والصبر في الامور بمنزلة الرأس من الجسد فإذا فارق الرأس الجسد فسد الجسد وإذا فارق الصبر الامور فسد الامور. * الشرح قوله (وأخشى أن أكون قد وجلت) قد وجلت الخشية الخوف والوجل الفزع وخلاف الصر (عليك بتقوى الله والصبر) أمره بالصبر عند المصيبة والاجتناب عن الشكاية وغيرها مما يوجى نقص الإيمان أو زواله وهما من أعظم الخصال ولذلك جمعهما الله تعالى في قوله * (وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الامور ". (تقدم عليه غدا) بعد الموت والقيامة (والصبر في الامور بمنزلة الرأس من الجسد المراد بالأمور الامور المطلوبة شرعا سواء كانت أفعالا أو تروكا أو عقايد أو أخلاقا ولو فارقها الصبر لفسدت بغلبة الشيطان على العقل إذ لو يكن للعقل صبر في محاربته لا نهزم في أول صولته وإذا انهزم فسدت تلك الامور كلها.


1 - قوله " فلا ينبغي إنكراه وحمله على التمثيل " يعني إنكار أصل ورود الخبر لأن الروايات الدالة عليه فوق حد الاحصاء ولعله متواترة معنى. وأما حمله على التمثيل ولسان الحال فمجاز بعيد لا يذهب إليه بغير قرينة ولو بنينا على التأويل لهدم أكثر الاصول والعجب إن المجلسي الثاني (رضي الله عنه) انكر تجسم الاعمال مطلقا في بعض كتبه مثل حق اليقين ولكن ولده (رضي الله عنه) في * الشرح من لا يحضره الفقيه أثبته وحققه ولا استبعاد في أن يكون لكل مهية في كل عالم صورة كالعلم في صورة اللبن على ما ثبت في موضعه، فإن قيل ألا تحمل قوله تعالى " إن الصلوة تنهى عن الفحشاء والمنكر " على التمثيل لأن الصلاة لا تتكلم إلا بلسان الحال وقوله " أن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وان مننها لما يشقق فيخرج منها الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله " وقوله " يتفيؤا ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله " كذلك تحملها على التمثيل لأن الحجارة لا تتأثر بالوعظ وظل الأشياء لا يسجد إلا أن حالتهما تشبه السجدة والتأثر قلنا بينهما فرق لأن الآيات بيان حال الاجسام في هذا العالم المحسوس وأما تجسم الأعمال ففي عالم آخر واختلاف الصور في العوالم المختلفة غير بعيد نعم يتوقف ذلك على اثبات تجرد الخيال وهي حافظة الحسن المشترك للنفس وبقائها بعد فساد البدن ولعلنا نبين ذلك إنشاء الله تعالى. (ش) (*)

[ 286 ]

* الأصل 10 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن سماعة ابن مهران، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: قال لي: ما حبسك عن الحج ؟ قال قلت: جعلت فداك وقع علي دين كثير وذهب مالي، وديني الذي قد لزمني هو أعظم من ذهاب مالي، فلو لا أن رجلا من أصحابنا أخرجني ما قدرت أن أخرج، فقال لي: إن تصبر تغتبط وإلا تصبر ينفذ الله مقاديره، راضيا كنت أم كارها. * الشرح قوله (إن تصبر تغتبط وإن لا تصبر ينفذ الله مقاديره ورضا كنت أم كارها) الاغتباط مطاوع غبط تقول غبطته ما نال أغبطه غبطا وغبطة فاغتبط هو كقولك منعته فامتنع والغبطة أن تتمنى حال المغبوط لكونها في غاية الحسن والكمال من غير أن يريد زوالها عنه وليس بحد وحال الصابر في غاية الكمال كما نقل عن بعض الاكابر قال " يقول الله تعالى " لو أن ابن آدم قصدني في أو المصائب لرأي منى العجائب ولو انقطع إلى في أول النوائب لشاهد منى الغرائب ولكنه انصرف إلى أشكاله فرد في أشغاله " ثم الغبطة أما في الآخرة بجزيل الأجر أو في الدنيا بتبديل الضراء بالسراء وذلك لأن شدة المصائب وتداخل بعضها في بعض دليل من قرب الفرج كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام) " أضيق ما يكون الحرج أقرب ما يكون الفرج " ثم إن الله تعالى ينفذ مقاديره على نحو ما أراد فإن كانت راضيا صابرا كان لك أجر الراضي الشاكر، وإن كنت كارها ازدادت مصيبتك فإن فوات الاجر مصيبة أخرى والكراهة الموجبة لحزن القلب وتألمه مصيبة عظيمة ومن ثم قيل المصيبة للصبار واحدة وللجازع اثنتان. أقول بل له مصيبات أربع الثلاثة المذكورة وشماتة الأعداء، ومن ثم قيل الصبر عند المصيبة مصبية على الشامت. * الأصل 11 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن سنان، عن أبي الجارود، عن الأصبغ قال: قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه: الصبر صبران: صبر عند المصيبة، حسن جميل، وأحسن من ذلك الصبر عند ما حرم الله عز وجل عليك، والذكر ذكران: ذكر الله عز وجل عند المصبية وأفضل من ذلك ذكر الله عند ما حرم عليك، فيكون حاجزا. * الشرح قوله (قال أمير المؤمنين (عليه السلام) الصبر صبران صبر عند المصيبة حسن جميل أحسن من ذلك الصبر عند ما حرم الله عز وجل عليك) سواء كان فعل القلب كالعجب والتكبر وغيرهما من الأخلاق الذميمة أو فعل الجوارح كالزناء والغيبة وأمثالها والصبر باعتبار المتعلق أقسام متكثرة


[ 287 ]

متفاوتة، منها الصبر على الفقربان يربط نفسه على رضاه تعالى ويرضى ولا يقول ما يستخطه، ومنها الصبر على الغنى بأن يصير على أداء الحقوق المالية ويترك البطر والفرح على انفاق الازواج والأولاد والخدم من غير اقتار ولا اسرف، ومنها الصبر على ما يأتي به باختياره من فعل الطاعات وترك المنهيات بأن يذكر الله تعالى عند كل أمر ونهى فيأتى بما فيه رضاه. ومنها لاصبر على ما يرد عليه من غير اختياره أصلا كالمصائب والنوائب النازلة عليه من قبله تعالى بان يحبس نفسه عليه من غير اضطراب ولا شكاية ومنها الصبر على ما يرد عليه من غير اختياره وله اختيار في الإتيان بمثله مثل ضرب الغير وظلمه عليه فإن الاولى أن يصبر أو يعفو عنه ولا يعامله بمثله كما قال تالى مخاطبا لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) * (واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جملا ". * الأصل 12 - أبو علي الأشعري، عن الحسين بن علي الكوفي، عن العباس بن عامر، عن العزرمي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): سيأتي على الناس زمان لا ينال الملك فيه إلا بالقتتل والتجبر ولا الغني إلا بالغصب والبخل ولا المحبة إلا باستخراج الدين واتباع الهوى، فمن أدرك ذلك الزمان فصبر على الفقر وهو يقدر على الغني وصبر على البغضة وهو يقدر على المحبة وصبر على الذل وهو يقدر على العز آتاه الله ثواب خمسين صديقا ممان صدق بي. * الشرح قوله (ولا الغني إلا بالغضب والبخل) كان ذكر الغصب على سبيل التمثيل أو اريد به الإكتساب من غير حل فيشمل الطرق الغير المشروعة كلها وفي ذكر البخل معه إشارة إلى أن أكثر الغنى محفوف بالرذيلتين الجلب بالغصب ونحوه والحفظ بالبخل. (وصبر على الذل وهو يقدر على العز) بنيل الملك بسبب القتل والتجبر فهو ناظر إلى قوله " لا ينال الملك ". * الأصل 13 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن إسماعيل بن مهران، عن درست بن أبي منصور، عن عيسى بن بشير، عن أبي حمزة قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): لما حضرت أبي علي بن الحسين (عليهم السلام) الوفاة ضمني إلى صدره وقال: يا يا بني أوصيك بما أووصاني به أبي حين حضرته الوفاة وبما ذكر أن أباه أوصاه به يا بني إصبر على الحق وإن كان مرا. * الشرح قوله (اصبر على الحق وإن كان مرا) وقد اشتهر أن الحق مر لكونه مما يستكرهه الطبع ويثقل


[ 288 ]

عليه كالشئ المر، وسر ذلك أن الحق وكل ما هو من أعمال الجنة شاقة على النفوس ومرة في مذاقها لما فيها من مخالفة أهوائها وكسر أغراضها ومنع لذاتها ومن ثم روي " أفضل الاعمال ما أكرهت عليه النفس " واشتهر تجرع مرارة الدنيا لحلاوة الآخرة بخلاف أعمال النار فإنها سهلة على النفوس غير شاقة عليها لموافقة أهوائها وبلوغ مراداتها ولذاتها من التنعم بأسباب الدنيا واستعمال الدعة والرفاهية. * الأصل 14 - عنه عن أبيه [ عن يونس بن عبد الرحمن ] رفعه، عن أبي جفعر (عليه السلام) قال: الصبر صبران على البلاء حسن جميل، وأفضل الصبرين الورع عن المحارم. * الشرح قوله (الصبر صبران صبر على البلاء حسن جميل وأفضل الصبرين الورع عن المحارم) كان الصبر على الطاعة داخل في الصبر على البلاء لأن الطاعات ابتلاء ويمكن إدراجه في الورع عن المحارم لأن ترك الطاعة حرام في الجملة والمراد بالصبر على البلاء ترك الشكاية إلى الناس ورفض الجزع وضرب اليد على الفخذ وأمثال ذلك. * الأصل 15 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى قال: أخبرني يحيى بن سليم الطائفي قال: أخبرني عمرو بن شمر اليماني يرفع الحديث إلى علي (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): الصبر ثلاثة صبر عند المصيبة وصبر على الطاعة وصبر عن المعصية، فمن صبر على المصيبة يردها بحسن عزائها كتب الله له ثلاثمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين السماء إلى الأرض، ومن صبر على الطاعة كتب الله له ستمائة درجة بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى العرش، ومن صبر عن المعصية كتب الله له تسعمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى منتهى العرش. * الشرح قوله (كما بين السماء إلى الأرض) التشبيه لبيان المقدار في نفس الأمر أو لمجرد اظهار العلو والرفعة (كما بين تخوم الأرض إلى منتهى العرش) التخوم جمع التخم كالفلوس جمع فلس وهو منتهى الأرض وفي المصباح، قال ابن الاعرابي: الواحد تخوم والجمع تخم مثل رسول ورسل، ولعل المراد بالعرش الفلك الأعظم، الاذابة. مثت الشئ أميثه وامواثه - من بابي باع وقال - فانماث إذا ذقته وخلطته بالماء وأذبته والجليد هو الماء الجامد من البرد، وذلك لأن الحسن الخلق


[ 289 ]

لكونه مستلزما لكثير من الفضائل الظاهرة والباطنة يطهر الظاهر والباطن من الأعمال القبيحة، فإنه يمنع اليد من الضرب واللسان من الشتم والفحش والقلب من الحقد والحسد والكبر وقس على ذلك (1) سقط من الاصل الشمس الجليد. * الأصل 8 - عنه، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عبد الله بن سنان. عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: البر وحسن الخلق يعمران الديار ويزيدان في الأعمار. * الشرح قوله (البر وحسن الخلق يعمران الديان ويزيدان في الأعمار) لأنهما من أعظم أسباب العشرة


1 - قوله في ص 278 " بحسب تفاوت الجدبات الربوبية " الإنسان لا يجد بالادلة العقلية والبراهين العلمية أكثر من علم اجمالي بوجود الواجب تعالى وعرفان غيبي تعارضه الاوهام الكثيرة بخلاف ما إذا وجده بالكشف والشهود نظير ما يجد في نفسه من عشقه وشوقه وخوفه ورغبته وتقواه وفجوره ولذته وألمه إلى غير ذلك من ملكاته وحالاته بحيث لا يشك في هذه الحالات من نفسه ولا يعارض معارض من أوهامه كذلك يمكن أن يجد في نفسه ارتباطه مع مبدء قادر قيوم الحكيم وتعلقه به ويعرف في هذا التعلق صفاته تعالى وأسمائه وسائر ما يمكن له معرفته من المبدة عز وجل وبه يتم إيمانه ويكمل ويصير بمنزلة من رآه بعينه ويكلمه في خلواته ويونسه في وحشته ولا يشك فيه كما لا يشك في جوعه وشبعه ولا يعارضه وهمه ولا يمكن الإتصال بالمبدء إلا برفض الرغبة إلى الدنيا فيترتب عليه ترك الحسد والبخل والحرص والسرقة والكذب والخيانة فإن ارتكاب هذه ومثالها ليس إلا للدنيا وتحصيل المال أو الجاه وما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه حتى يجب باحدهما الدنيا وبالآخر الله تعالى، كما أن المستغرق في الدنيا يترك الله لا محالة والمستغرق في حبه تعالى يترك الدنيا إذا تعارضا. (ش) قوله أيضا في ص 287 " بل قيل تعليقها به أكثر " هو الظاهر من أحاديث هذا الباب والعجب أن الناس تركوا علم الأخلاق والعمل بما يقتضيه هذه العلم واقتصروا على الأعمال الظاهرة وظنوا انحصار السعادة الاخروية فيها ولا يهتمون بتزكية النفوس من مهلكاتها عشر ما يهتمون بإزالة النجاسات عن اثوابهم وهو من مضلات الفتن وقال الله تعالى " يوم لا ينفع ما ولا بنون إلا من اتى الله بقلت سليم " وقال " لن ينال الله لحومها ولا دمائها ولكن يناله التقوى منكم " وقال تعالى " ونفس ما سويها فالهمهمنا فجورها وتقويها قد أفلح من زكيتها وقد خاب من دسيها " ولكن اقبالهم على الفقه إنما هو لقرب مسائلة من المحسوسات وكونها أقرب إلى الفهم والعمل، ويظهر العدالة والفسق بالأعمال الظاهرة دون الملكات. والحقوق المالية يحفظ بالفقه ويطلب باحكامه ولذلك ظنوا احتياجهم إلى الفقه أشد من علم الأخلاق. (ش) (*)

[ 290 ]

والخلطة والتعاون وذلك يوجب تعمير الديار والبلاد، وأما أنهما يزيدان الأعمار فبالخاصية أو باعتبار (1) * الأصل 9 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن محمد بن عبد الحميد قال: حدثني يحيى بن عمرو، عن عبد الله بن سنان قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): أوحى الله تبارك وتعالى إلى بعض أنبيائه (عليهم السلام) الخلق الحسن يميث الخطيئة، كما تميث الشمى الجليد. 10 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن علي الوشاء عن عبد الله ابن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: هلك رجل على عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأتي الحفارين فإذا بهم لم يحفروا شيئا وشكوا ذلك إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا: يا رسول الله ما يعمل حديدنا في الأرض، فكأنما نضرب به في الصفا، فقال: ولم إن كان صاحبكم لحسن الخلق، إيتوني بقدح من ماء، فأتوه به، فأدخل يده فيه، ثم رشه على الأرض رشا ثم قال: احفروا، قال حفر الحفارين، فكأنما كان رملا بتهايل عليهم. * الشرح قوله (إن كان صاحبكم لحسن الخلق) أن مخففة بدليل اللام في خبر كان وليس للشرط و " ايتوني " جزاء بل هو ابتداء كلام. فكانما كان رملا يتهايل عليهم أي يصب عليهم من هلت الدقيق في الجراب هيلا من باب ضرب صببته. وقال أبو زيد هلت من التراب صببة بلا رفع اليدين. ويقرب منه قول الازهري هلت التراب الرمل وغير ذلك إذا أرسلته فجرى، وبعضهم يقول هلت الرمل حركت أسفله فسال من أعلاه. * الأصل 11 - عنه، عن محمد بن سنان، عن إسحاق بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الخلق منيحة يمنحها الله عز وجل خلقه، فمنه سجية ومنه نية، فقلت: فأيتهما أفضل ؟ فقال: صاحب السجية، هو مجبول لا يستطيع غيره وصاحب النية يصبر على الطاعه تصبرا، فهو أفضلهما. * الشرح قوله (ان الخلق منيحة الله عز وجل خلقه) المنحية والمنحة العطية والمنح الاعطاء فمنه سجية ومنه نية، السجية الخلق والطبيعة والنية والمكتسبة بقرينة المقابلة يقال


1 - قوله " فبالخاصية أو باعتبار " والظاهر أن طول العمر بسبب أن شراسة الطبع وسوء الخلق يوجبان الروح وقلق النفس واضطراب القلب وامرضا الأعصاب والدماغ وربما يوجب شدة الغضب فجأة أو سكتة. (ش) (*)

[ 291 ]

نويته أنويه أي قصدته، والإسم النية مثقلة والتخفيف لغة. وهذا صريح في أن الخلق منه طبيعي عزيزي خلقه الله في بدء الفطرة ومنه مكتسب بأن يتمرن عليه حتى بصير كالغريزة فبطل قول من قال أنه غريزه لا مدخل للاكتساب فيه (1) يشير إليه قول أمير المؤمنين (عليه السلام) " وعود نفسك الصبر على المكروه فنعم الخلق التصبر " وفيه إشارة إلى الصبر المكتب والترغيب فيه، والمراد بالتصبر مشقته بتكف تحمل الصبر لكونه غير خلقي وهو محمود عند الخالق ومشكو لدي الخلائق وليس المراد به اظهار الصبر مع عدم اتصافه به إذ لا محصل له. * الأصل 12 - وعنه، عن بكر بن صالح، عن الحسن بن علي، عن عبد الله بن إبراهيم عن علي بن أبي علي اللهبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله تبارك وتعالى ليعطي العبد من الثواب على حسن الخلق كما يعطي المجاهد في سبيل الله، يغدو عليه ويروح. * الشرح قوله (قال إن الله تبارك وتعالى ليعطى العبد من الثواب على حسن الخلق كما يعطى المجاهد في سبيل الله) لا شتراكهما في حفظ نظام الخلق ورعاية حقوق أهل الإيمان وأصل الجهاد مع النفس والعدو. (يغدو عليه ويروح) حال عن المجاهد أي يغدو المجاهد على سبيل الله أي يذهب فيه أول النهار أو مطلقا ويروح ويرجع أو يذهب في آخره ومطقا، والمقصود أن ثواب العبد في حسن خلقه مثل ثواب هذا المجاهد الساعي في الجهاد المستمر فيه، وفيه، وفي المصباح غدا غدوا من باب قعد ذهب غدوة وهي ما بين صلاة الصبح وطلوع الشمس ثم كثر حتى استعمل في الذهاب والانطلاق أي وقت كان وراح يروح رواحا أي رجع كما في قوله تعالى * (غدوها شهر رواحها شهر " أي ذهابها شهر ورجوعها شهر وقد يتوهم بعض الناى أن الرواح لا يكون إلا في آخر النهار وليس كذلك بل الرواح والغدو عند العرب يستعملان في المسير أي وقت كان من ليل أو نهار قاله الازهري وغيره، وعليه قوله (عليه السلام) " من راح إلى الجنة الجمعة في أول النهار فله كذا " أي ذهب. * الأصل 13 - عنه، عن عبد الله الحجال، عن أبي عثمان القابوسي، عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله


1 - قوله " لا مدخل للاكتساب فيه " والالزام الجبر والتكليف بما لا يطاق إذ أمر بتحصيل الحسن والفضائل واوعد على القبايح. (ش) (*)

[ 292 ]

تبارك وتعالى أعار أعداءه أخلاقا من أخلاق أوليائه ليعيش أولياؤه مع أعدائه في دولاتهم. * الشرح قوله (إن الله تبارك وتعالى أعار أعداءه أخلاقا) أشار بالاعارة إلى أن أخلاقهم (1) تبقى بعد موتهم ولا تنفعهم فيما بعد. وإنما هي كالعارية فيهم لمصالح المؤمنين وحفظهم عن غايلتهم. وفي رواية اخرى: لولا ذلك لما تركوا وليا لله إلا قتلوه. * الأصل 14 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن الحسين بن المختار، عن العلاء بن كامل قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إذا خالطت الناس فإن استطعت أن لا تخالط أحدا من الناس إلا كانت يدك العليا عليه فافعل، فإن العبد يكون فيه بعض التقصير من العبادة ويكون له حسن خلق، فيبلغه الله ب‍ [ - حسن ] خلقه درجة الصائم القائم. * الشرح قوله (فإ استطعت أن لا تخالط أحدا من الناس إلا كانت يدك العليا عليه فافعل) كأنه اريد باليد العليا المنفقة أو المعطية فإن اليد العليا منفقة معطية واليد السفلى سائلة آخذه، أو اريد بها اليد اليمنى فإن اليمنى أعلى من اليسرى في القوة، وهي على التقديرين كناية عن حسن الخلق كما يشعر به التعليل. * الأصل 15 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن حريز ابن


1 - قوله " أشار بالاعارة إلى أن أخلاقهم " إنما ينبقي الملكات الحسنة مع النفوس بعد الموت إذا كانت راسخة فمن عمل حسنا أو أظهر فضيلة من الفضائل وقتا واعرض عنها في سائر أوقاته لم ينفعه شئ، وأعلم أن الله تعالى هدى عقولنا إلى أن سعادة الإنسان في تحصيل المكلمات الفاضلة لأنه تعالى لم يجعل شوقا في قلوب الإنسان ولا رغبة في أوهام الحيوان ولا صفة من الصفات في شي إلا لمصلحة فيها فجعل المحبة في قلوب الامهات لحفظ الاولاد، والنفرة من العفونات للتجنب من الامراض واستحسان الماء والخضر لتعمير البلاد وازدياد الارزاق، والشهوة لبقاء النسل وكذلك الهم الانسان استحسان الفضائل وتقبيح الرذائل فكل احد يميز بعقله العملي بين الحسن والقبح ويلوم الظالم والقاتل والسارق والزاني ويمدح المحسن السخى العفيف العادل وليس ذلك الخلق في الإنسان عبثا بل لابد أن يكون هذا يفيده فائدة كسائر غرائزه وملكاته قال تعالى " ونفس ما سويها فالهمهما فجورها وتقويها " أي اعطاها معفرة الحسن والقبح بعقله ولذلك مصلحه البتة وهي ما ذكره تعالى بقوله " قد أفلح من زكيها وقد خاب من دسيها ". (ش) (*)

[ 293 ]

عبد الله، عن بحر السقا قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): يا بحر حسن الخلق يسير، ثم قال: ألا اخبرك بحديث ما هو في يدي أحد من أهل المدينة ؟ قلت: بلى، قال: بينا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ذات يوم جالس في المسجد إذ جاءت جارية لبعض الأنصار وهو قائم، فأخذت بطرف ثوبه، فقام لها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فلم تقل شيئا ولم يقل لها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) شيئا حتى فعلت ذلك ثلاث النبي في الرابعة وهي خلفه، فأخذت هدبة من ثوبه ثم رجعت فقال لها الناس: فعل الله بك وفعل حبست رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثلاث مرات، لا تقولين له شيئا ولا هو يقول لك شيئا، ما كانت حاجتك إليه ؟ قالت: إن لنا مريضا فأرسلني أهلي لآخذ هدبة من ثوبه، [ ل‍ ] - يستشفي بها، فلما أردت أخذها رآني فقام فاستحييت منه أن آخذها وهو يراني وأكره أن أستأمره في أخذها، فأخذتها. * الشرح قوله (حسن الخلق يسر) أي سبب لليسر لأن الناس مجبولون بحب من يلاقيهم بحسن الخلق ورعايته. (ألا اخبرك بحديث ما هو في يدي أحد من أهل المدينة) الجملة صفة الحديث و " ما " نافية. قوله (فقام لها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)) حسن الخلق من صفات الأنبياء والأولياء وأفضلهم واكملهم في هذه الفضيلة هو نبينأ (صلى الله عليه وآله وسلم) ولذلك وصفه الله تعالى بقوله * (إنك لعلى خلق عظيم " فإن تنكره مع وصفه بالعظيم يدل على أنه في علو قدره وبحيث لا تصل إليه عقول البشر ولا يحوم حوله طائر الفكر والنظر. (فأخذت هدبة من ثوبه) هدبة الثوب مما يلى طرته والقطعة منه مثال غرقة وضم الدال للاتباع لغة. * الأصل 16 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حبيب الخثعمي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أفاضلكم أحسنكم أخلاقا الموطؤون أكنافا الذين يألفون ويؤلفون وتوطا رحالهم. * الشرح قوله (الموطؤون أكنافا) هذا مثل لمن لأن طبعه وحسن خلقه وحقيقته من التوطية والتمهيد والتذليل، وفراش وطئ أي مذلل ناعم لا يؤذي جنب النائم. والاكناف جمع الكنف بالتحريك وهو الجانب والناحية، أراد الذين جوانبهم ونواحيهم وطئه يتمكن منها من يصاحبهم ولا يتأذي بخلاف سيئ الخلق والمتكبر.


[ 294 ]

(الذين يألفون ويؤلفون) أي يأنسون بالناس ويحبونهم ويجتمعون معهم، في المصباح ألفته ألفا من باب علم آنست به وأحببته والإسم الالفة بالضم والالفة أيضا اسم من الايلاف وهو الالتيام والاجتماع واسم الفاعل آلف مثل عالم والجمع الاف مثل كفار، وتوطأ رحالهم للزيارة أو الضيافة أو لقضاء الحاجة، ورحل الرجل منزله ومأواه وأثاث بيته وفيه ترغيب في حسن الخلق لأنه موجب لذلك كما في قول أمير المؤمنين (عليه السلام) و " أكرم الحسب حسن الخلق " وإنما كان أكرم لأنه أكثر فائدة وأفر عائدة. * الأصل 17 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن جعفر بن محمد الأشعري، عن عبد الله ابن ميمون القداح، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): المؤمن مألوف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف. * الشرح قوله (ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف) لأن عدم الالفة في أهل الدين يوجب أذاهم وتبددهم وتقاطهم وتفرقهم فيه وتدابرهم وعداوتهم وكل ذلك يوجب زوال الخير عنهم كما هو المعلوم بين المتقاطعين. 18 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن حسن الخلق يبلغ بصاحبه درجة الصائم القائم.


[ 295 ]

(باب حسن البشر) * الأصل 1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن الحسن بن الحسين قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عبد المطلب إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فالقوهم بطلاقة الوجه وحسن البشر. ورواه عن القاسم بن يحيى، عن جده الحسن بن راشد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) إلا أنه قال: يا بني هاشم. * الشرح قوله (يا بني عبد المطلب انكم لن تسعوا الناس بأموالكم) الوسع والسعة والجدة الطاقة أي لا يتسع أموالكم لعطائهم ورفع احتياجهم. فوسعوا أخلاقكم لصحبتهم كما أشار إليه بقوله (فالقوهم بطلاقة الوجه وحسن البشر) أي فالقوهم باستبشار الوجه وبشاشته وانبساطه وهو من لوازم التواضع وحسن الخلق. * الأصل 2 - عنه، عن عثمان بن عيسى، عن سماعة بن مهران، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ثلاث من أتى الله بواحدة منهن أوجب الله له الجنة: الإنفاق من اقتار والبشر لجميع العالم والانصاف من نفسه. * الشرح قوله (الإنفاق من اقتار) الاقتار والتقتير التضييق في الرزق يقال اقتر الله رزقه وقتره ضيقه وقلله وذلك بأن ينقص من كفافه شيئا ويعطيه من هو أحوج منه أو من لا شئ له أو بأن ينفق مع ضيقه فيكون ترغيبا في الأيثار كالاية، (والبشر لجميع العالم) البشر بالكسر طلاقه الوجه وبشاشته وهو مطلوب أما للمؤمنين كما قيل ودارهم مادت في دارهم، (والانصاف من نفسه) أنصفت الرجل انصافا عاملته بالعدل والقسط والإسم النصفة بفتحتين لأنك أعطيته من الحق ما تستحقه لنفسك فالمراد به التوسية بين نفسه وبين غيره وعدم رجحان نفسه على في شئ مأخوذ من النصف. * الأصل 3 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن محبوب، عن هشام به سالم، عن أبي بصير، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رجل فقال: يا رسول الله أوصني فكان فيما أوصاه أن قال: ألق أخاك بوجه منبسط. 4 - عنه، عن ابن محبوب، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: ما حد حسن الخلق


[ 296 ]

؟ قال: تلين جناحك وتطيب كلامك وتلقى أخاك ببشر حسن. * الشرح قوله (تلين جناحك) أي تواضع لخلق الله وقد أمر الله به سيد المرسلين فقال * (واحفض جناحك للمؤمنين) وفيه استعارة تمثيلية (وتطيب كلامك) ومنه أن تسمى أخاك بأحسن أسمائه ولا تغلظ في نصحه. * الأصل 5 - عنه، عن أبيه، عن حماد، عن ربعي، عن فضيل قال: صنايع المعروف وحسن البشر يكسبان المحبة ويدخلان الجنة والبخل وعبوس الوجه يبعدان من الله ويدخلان النار. * الشرح قوله (يكسبان المحبة) أي محبته تعالى بمعنى افاضة الرحمة والاحسان أو محبة الخلق له ويؤيد الأول قوله " ويبعد أن من الله " لأن الظاهر أن يترتب على أحد الضدين نقيض ما يترتب على الضد الآخر. * الأصل 6 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن عثمان بن عيسى، عن سماعة عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): حسن البشر يذهب بالسخيمة. * الشرح قوله (حسن الشبر يذهب بالسخيمة) أي بالضغينة والموجودة والحقد قال أمير المؤمنين (عليه السلام) " البشاشة حبالة المودة " أراد أن طلاقة الوجه وحسن البشر تصطاد القلوب بها ولاحظ مشابهة الطلاقة بالحبالة ومشابهة القلوب بالصيد.


[ 297 ]

(باب الصدق وأداء الأمانة) * الأصل 1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن الحسين إبن أبي العلاء، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن عز وجل لم يبعث نبيا إلا بصدق الحديث وأداء الأمانة إلى البر والفجار. * الشرح قوله (إن الله عز وجل لم يبعث نبيا إلا بصدق الحديث) صدق الحديث دائما تابع لملكة إستقامة اللسان التابعة لإستقامة القلب ومن ثم قيل: إذا إستقام القلب إستقام اللسان. وإستقامة القلب تابعة لإستقامة الحقيقة الإنسانية وتمام صورته المعنوية وهذا مستلزم لفيضان النفس القدسية على تفاوت مراتبها وأعلى مراتبها للأنبياء والمرسلين وما دونه لخواص المؤمنين ومن هذا يتحقق التناسب بينهما. (وأداء الأمانة إلى البر والفجار) كما قال تعالى * (إن الله يأمركم أن تؤدوا أمانات إلى أهلها " وقد إبتلى به جم غفير من السالكين وليس لإختبار الناس أعظم منه. * الأصل 2 - عنه، عن عثمان بن عيسى، عن إسحاق بن عمار وغيره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لا تغتروا بصلاتهم ولا بصيامهم، فإن الرجل ربما لهج بالصلاة والصوم حتى لوتركنه إستوحش ولكن إختبروهم عند صدق الحديث وأداء الأمانة. 3 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن إبن أبي نجران، عن مثنى الحناط عن محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من صدق لسانه زكي عمله. * الشرح قوله (من صدق لسانه زكي عمله) لأن صدق اللسان تابع لطهارة القلب وهي مستلزمة لزكاة عمله وطهارته ونموه وبركته والمدح عليه وأيضا اللسان مورد لجميع الإعضاء الظاهرة والباطنة ومتناول لمدركات جميعا فصحته وهي صدقه في الحديث توجب صحة جميع الأعضاء وصدور أعمال الاصحاء منها فلذلك يزكو عمله على الإطلاق كما أن مرضه وهو الكذب يوجب مرض جميع الأعضاء وصدور أفعال المرضى منها، فلذلك لا يزكو شئ من أعماله. وأيضا علة صدقه وهي الخوف من الله والفرار من اللوم في وقت ما وهو وقت أن يسأل عن أعماله الصالحة وإضطراره إلى الجواب عنها يبعثه على تزكية الأعمال.


[ 298 ]

* الأصل 4 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن موسى بن سعدان، عن عبد الله بن القاسم، عن عمرو بن أبي المقدام قال: قال لي أبو جعفر (عليه السلام) في أول دخلة دخلت عليه: تعلموا الصدق قبل الحديث. * الشرح قوله (قال قال لي أبو جعفر (عليه السلام) في أول دخلة دخلت عليه تعلموا الصدق قبل الحديث) الظاهر أن القبل متعلق بتعلموا وفيه ترغيب في التفكر في الكلام لتعرف الصدق، ثم التكلم به ومثله قول أمير المؤمنين (عليه السلام) " لسانه العاقل وراء قلبه، وقلب الاحمق وراء لسانه " يعني أن العاقل يعلم الصدق والكذب أولا ويتفكر فيما يقول ما هو الحق والصدق والأحمق يتكلم ويقول من غير تأمل وتفكر فيتكلم بالكذب والباطل كثيرا وإنما قلنا الظاهر لإحتمال أن يكون بدلا عن قوله " في أول دخلة " أو متعلقا بقال، يعني قال (عليه السلام) إبتداء قبل التكلم بكلام آخر تعملوا الصدق ولكنه بعيد لفظا ومعنى. * الأصل 5 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن أبي كهمس قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): عبد الله بن أبي يعفور يقرئك السلام، قال عليك وعليه السلام إذا أتيت عبد الله فاقرأه السلام وقل له: إن جعفر بن محمد يقول لك: إنظر ما بلغ به علي (عليه السلام) عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فألزمه، فإن عليا (عليه السلام) إنما بلغ ما بلغ به عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بصدق الحديث وأداء الأمانة. 6 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن إبن أبي عمير، عن أبي إسماعيل البصري، عن الفضيل بن يسار قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): يا فضيل إن الصادق أول من يصدقه الله عز وجل، يعلم أنه صادق وتصدقه نفسه تعلم أنه صادق. * الشرح قوله (إن الصادق أول من يصدقه الله) فالكاذب أول من يكذبه الله ثم نفسه وفيه ترغيب في الصدق وتنفير عن الكذب لأن العاقل يتنفر عن تكذيب المخاطب ويستنكف منه كما قال موسى (عليه السلام) * (رب إني أخاف أن يكذبون " فكيف إذا كان المخاطب هو الله عز وجل. * الأصل 7 - إبن أبي عمير، عن منصور بن حازم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إنما سمي إسماعيل صادق الوعد لأنه وعد رجلا في مكان فانتظره في ذلك المكان سنة، فسماه الله عز وجل صادق الوعد، ثم [ قال ] إن الرجل أتاه بعد ذلك فقال له إسماعيل: ما زلت منتظرا لك.


[ 299 ]

8 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن سالم، عن أحمد بن النضر الخزاز، عن جده الربيع بن سعد قال: قال لي أبو جعفر (عليه السلام) يا ربيع إن الرجل ليصدق حتى يكتبه الله صديقا. * الشرح قوله (إن الرجل ليصدق حتى يكتبه الله صديقا) الصديق فعيل للمبالغة في الصدق وهو يطلق على فعل اللسان إذا طابق الواقع فلو قال ضرب زيد وهو لم يضرب أو قال * (وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض " وكان وجه قلبه إلى غيره تعالى مثل الدنيا وغيرها فهو كاذب وعلى فعل القلب مثل النية وصدقها تجريدها عن غير وجه الله تعالى وهو الإخلاص والعزم على الخيرات مع عقد القلب عليها إن وجد ما لافلو كان بدون العقد كان كاذبا وعلى التوافق بين الظاهر والباطن فلو كان لظاهره وقار فصدقه بأن يكون لباطنه أيضا وقار وعلى كل مقام من مقامات الدين إذا حصلت حقيقة مثل الصوم والصلاة والحج والزهد والمحبة والتوكل والخوف والرجاء والرضا والشوق وغيرها فإن هذه الامور صادقة إذا حصلت حقيقتها للمتصف بها وكاذبة إذا لم تحصل. وعلى الوعد إذا وفي بها كما قال سبحانه * (رجال صدقوا ما عاهدو الله عليه " ومن بلغ في هذه الامور وغيرها حد الكمال أو قريبا منه فهو صديق. * الأصل 9 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن الوشاء، عن علي بن أبي حمزة عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن العبد ليصدق حتى يكتب عند الله من الصادقين ويكذب حتى يكتب عند الله من الكاذبين، فإذا صدق قال الله عز وجل صدق وبر، وإذا كذب قال الله عز وجل: كذب وفجر. 10 - عنه، عن إبن محبوب، عن العلاء بن رزين، عن عبد الله بن أبي يعفور، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كونوا دعاة للناس بالخير بغير ألسنتكم، ليروا منكم الإجتهاد والصدق والورع. 11 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم قال: قال أبو الوليد حسن بن زياد الصيقل: قال أبو عبد الله (عليه السلام): من صدق لسانه زكى عمله ومن حسنت نية زيد في رزقه، ومن حسن بره بأهل بيته مد له في عمره. 12 - عنه، عن أبيطالب، رفعه قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): لا تنظروا إلى طول ركوع الرجل وسجوده، فإن ذلك شئ إعتاده، فلو تركه إستوحش لذلك ولكن إنظروا إلى صدق حديثه وأداء أمانته. * الشرح قوله (لا تنظروا إلى طول ركوع الرجل وسجوده) أريد بطولهما الحقيقة أو كثرة الصلاة


[ 300 ]

وتخصيصهما بالذكر من بين الأعمال البدنية على سبيل التمثيل أو للتنبيه على أنهما مع زيادة الفضلية إذا لم يعتد افغيرهما بعدم الإعتداد.


[ 301 ]

(باب الحياء) * الأصل 1 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن إبن محبوب، عن على بن رئاب، عن أبي عبيدة الحذاء، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: الحياء من الإيمان والإيمان في الجنة. * الشرح قوله (الحياء من الإيمان) الحياء وصف للنفس يوجب إنقباضها عن القبيح وإنزجارها عن خلاف الاداب خوفا من اللوم وإنما جعل كالبعض من الإيمان لمناسبة له في أنه يمنع من المعاصي كالإيمان أو لأن المراد بالإيمان الإيمان والكمال المعتبر فيه الأعمال والحياء لكونه داعيا إلى فعل المأمورات وترك المنهيات جزء منه، وبعبارة اخرى الإيمان تصديق وإقرار وإيتمار بالمأمور به وإنتهاء عن المنهي عنه فإذا حصل الإيتمار وإنتهاء بالحياء كان الحياء بعض الإيمان وجزءا منه أو المراد أن الحياء من شيم أهل الإيمان ومكارم أخلاقه ومحاسنه ألتي ينبغي التخلق بها. * الأصل 2 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن سنان، عن إبن مسكان، عن الحسن الصيقل قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): الحياء والعفاف والعي - أعني عي اللسان لأعي القلب - من الإيمان. * الشرح قوله (أعنى عى اللسان لاعي القلب) العي بالكسر يطلق على معنيين أحدهما داء في اللسان وهو لكنة وفهاهة توجب العجز عن البيان والافصاح بمراد الإنسان، وثانيهما داء في القلب يوجب العجز عن إدارك الحق وإبصار المعقولات فأشار (عليه السلام) إلى أنه ليس المراد به المعنى الثاني الذي ينقص الإيمان به نقصانا فاحشا بل المراد به المعنى الأول الذي يوجب نقصان الدنيا وزيادة الاخرة والإيمان والمعنى أن الحياء الذي يوجب مراقبته تعالى ومراعاة أو أمره ونواهيه وادابه والعفاف عن كثير الدنيا أو عن المعاصي أو عن السؤال وعي اللسان وهو قصوره عن البيان أو حفظه عن التكثير فيه والتناول للاقوال الباطلة والمباحة، من الإيمان أي من قبله في المنع عن القبايح أن من أفراده أو من أجزائه أو من شيم أهله ومحاسنه ألتي ينبغي التخلق بها. * الأصل 3 - الحسين بن محمد، عن محمد بن أحمد النهدي، عن مصعب بن يزيد، عن العوام إبن الزبير، عن


[ 302 ]

أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من رق وجهه رق علمه. * الشرح قوله (من رق وجهه رق عمله) لعل المراد أن من ضعف حياؤه ضعف علمه لتوغله في القبايح وهو يوجب نقصان العلم أو المراد أن من ضعف وجهه من السؤال في العلم لحيا الحمق المانع منه ضعف علمه وفي هذا المعنى ما نقل من أنه قيل لبعض الحكماء: بم بلغت ما بلغت ؟ قال بعدم الإستحياء من السؤال في إستكشاف الامور وحل الإشكال. * الأصل 4 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن عبد الله بن المغيرة، عن يحيى أخي دارم، عن معاذ بن كثير، عن أحدهما (عليهم السلام) قال: الحياء والإيمان مقرونان في قرن فإذا ذهب أحدهما تبعه صاحبه. * الشرح قوله (الحياء والإيمان مقرونان في قرن) القرن بالتحريك الحبل الذي يشد الاسيران به والمعنى أن الحياء والإيمان مجموعان في حبل واحد فإذا ذهب أحدهما ذهب إلاخر وتبعه وفيه إشارة إلى أن بينهما تلازما وإلى إن الحياء ليس جزء من الإيمان ولا فردا منه فلا بد من القول به أو بحمل الإيمان هنا على التصديق والقول بأنه لا يستقر في القلب بدون الحياء. * الأصل 5 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن محمد بن عيسى، عن الحسن بن علي بن يقطين، عن الفضل بن كثير، عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لا إيمان لمن لإحياء له. * الشرح قوله (لا إيمان لمن لإحياء له) لما عرفت من إنهما مقرونان في حبل واحد إذا ذهب أحدهما تبعه الاخر، وإن أريد بالإيمان الكامل وجعل الحيا جزءا منه فالوجه ظاهر. * الأصل 6 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن بعض أصحابنا، رفعه قال: قال رسول الله (عليه السلام): الحياء حياءان: حياء عقل وحياء حمق، فحياء العقل هو العلم وحياء الحمق هو الجهل. * الشرح قوله (الحياء حياء أن - الخ) قد ذكرنا في أول الكتاب أن إنقباض النفس عن فعل الخير حياء مجازا كإستحياء المرأة عن تعلم مسائل الحيض وأحكام غسل الجنابة مثلا وإن تقسيم الحيا إليه وهو حياء الحمق وإلى حياء العقل الموجب للإنقباض عن القبيح لا يدل على أنه حقيقة في كلا


[ 303 ]

القسمين. 7 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن بكر بن صالح، عن الحسن بن علي، عن عبد الله ابن إبراهيم، عن علي بن أبي علي اللهبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وكان من قرنه إلى مقدمه ذنوبا بدلها الله حسنات: الصدق والحياء وحسن الخلق والشكر.


[ 304 ]

(باب العفو) * الأصل 1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه عن إبن أبي عمير، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في خطبته: ألا اخبركم بخير خلائق الدنيا والاخرة ؟: العفو عمن ظلمك، وتصل من قطعك، والإحسان إلى من أساء إليك، وإعطاء من حرمك. * الشرح قوله (العفو عمن ظلمك) من صفات الكرام العفو عن الظالم والتجاوز عن المسئ ومن صفات اللئام الإنتقام وطلب التشفي والمعاقبة لدفع الغيظ وهو آفة نفسانية تغير الجهال والناقصين من أجل تأثر نفوسهم عن كل مايخالف هواها. قوله (وتصل من قطعك) باليد واللسان ومراقبة أحواله في كل زمان والإحسان إلى من أساء إليك وهو الحسن ومن الإحسان إلى من أحسن إليك. (وأعطاء من حرمك) فإذا أحسنت إلى أحد ولم يقابل إحسانك بإحسان أو لم يشكرك أو أساء إليك لاترغب عن الإحسان إليه وإلى غيره بسبب الكفران فإنه إذا لم يشكرك فقد يشكرك غيره ولو لم يشكرك أحد فإن الله يحب المحسنين كما نطق به القرآن المبين وكفي به شرفا وفضلا. 2 - عدة من أصابنا، عن سهل بن زياد، عن محمد بن عبد الحميد، عن يونس إن يعقوب، عن غرة بن دينار الرقي، عن أبي إسحاق السبيعي، رفعه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ألا أدلكم على خير أخلاق الدنيا والاخرة ؟ تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك. 3 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى بن عبيد، عن يونس بن عبد الرحمن عن أبي عبد الله نشيب اللفائفي، عن حمران بن أعين قال: أبو عبد الله (عليه السلام): ثلاث من مكارم الدنيا والاخرة: تعفو عمن ظلمك، وتصل من قطعك، وتحلم إذا جهل عليك. 4 - علي، عن أبيه، ومحمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، جميعا عن إبن أبي عمير، عن إبراهيم بن عبد الحميد، عن أبي حمزة الثمالي، عن علي بن الحسين (عليهم السلام) قال: سمعته يقول: إذا كان يوم القيامة جمع الله تبارك وتعالى الأولين والآخرين في صعيد واحد، ثم ينادي مناد: أين أهل الفضل ؟ قال: فيقوم عنق من الناس فتلقاهم الملائكة فيقولون: وما كان فضلكم ؟ فيقولون: كنا نصل من قطعنا و نعطي من حرمنا ونعفو عمن ظلمنا، قال: فقال لهم: صدقتهم ادخلوا الجنة. * الأصل


[ 305 ]

5 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن جهم بن الحكم المدائني، عن إسماعيل بن أبي زياد السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): عليكم بالعفو، فإن العفو لا يزيد العبد إلا عزا، فتعافوا يعزكم الله. * الشرح قوله (فإن العفو لا يزيد العبد إلا عزا في الدنيا) لأن من عرف بالعفو ساد وعظم في القلوب فيزيده عزة، أو في الآخرة لأنه يوجب زيادة إلا جر ورفع الدرجة. * الأصل 6 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن سنان، عن أبي خالد القماط عن حمران، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: الندامة على العفو أفضل وأيسر من الندامة على العقوبة. * الشرح قوله (الندامة على العفو أفضل وأيسر من الندامة على العقوبة) أما إنها أيسر فلان الفعل الواقع إذا ندم عليه لا يمكن عدم إيقاعه قطعا بخلاف غير الواقع إذا ندم على عدم إيقاعه فإنه يمكن إيقاعه غالبا فالتدارك في الأول متعذر وفي الثاني ممكن، وقد تنبه بهذا بعض الملوك فقال ينبغى أن يكون عفو الملك أكثر من عقوبته لأنه أن عفى في مقام يقتضي العقوبة وأخطأ فندم عليه أمكنه أن يتدارك ويعاقب وإن عاقب في مقام يقتضي العفو وأخطأ فندم عليها لا يمكنه التدارك. وأما إنها مع أفضل مع أن النفس في الندامة على العفو راجعة إلى هواها ومقتضاها في القوة الشهوية والغضبية وفي الندامة على العقوبة راجعة إلى الله وإلى خلاف مقتضاها المطلوب شرعا وعقلا، فأما لأنها تابعة للعفو الذي هو أفضل وتابع الأفضل أفضل ولا ينافيه أفضلية الندامة على العقوبة نظرا إلى ذاتها ففيه ترغيب في العفو وتنفير عن العقوبة أو لأن العفو إذا ندم دل ذلك على كما إستحقاق العقوبة بخلاف المعاقب إذا ندم لا يدل ذلك على كمال إستحقاق العفو فللندامة على العفو زيادة فضل ورجحان وهذا الوجه في غاية البعد، أو لأنها أيسر وهذا أقرب الوجوه. * الأصل 7 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن سعدان، عن معتب قال: كان أبو الحسن موسى (عليه السلام) في حائط له يصرم فنظرت إلى غلام له قد أخذ كارة من تمر فرمى بها وراء الحائط، فأتيته وأخذته وذهبت به إليه، فقلت: جعلت فذلك إني وجدت هذا وهذه الكارة، فقال للغلام: فلان ! فلأي شئ أخذت هذه ؟ قال: إشتهيت ذلك، قال: إذهب فهي لك، وقال: خلوا عنه. * الشرح


[ 306 ]

قوله (قد اخذ كارة) هي مقدار معلوم من الطعام وقدر ما يحمل على الظهر. قوله (إذهب فهي لك) دل على ان العفو عن السارق وإعطاء المسروق إياه أفضل وهذا من صفات الكرام. 8 - عنه، عن إن فضال قال: سمعت أبا الحسن (عليه السلام) يقول: ما التقت فئتان قط إلا نصر أعظمهما عفوا. * الأصل 9 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن إبن فضال، عن إبن بكير، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) اتي باليهودية التي سمت الشاة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال لها: ما حملك على ما صنعت ؟ فقالت: قلت: إن كان نبيا لم يضره وإن كان ملكا أرحت الناس منه، قال: فعفا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عنها. * الشرح قوله (أتي باليهودية ألتي سمت الشاة) العفو عنها في هذه الصنية العظيمة الشديدة على النفوس دل لعى عظمة قدر العفو وعلو منزلته، ومثله رواه مسلم عن أنس " ان المرأة يهودية أتت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بشاه مسمومة فأكل منها فجئ بها إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فسألها عن ذلك فقالت أردت أن أقتلك فقال ما كان الله ليسلطك على ذلك أو قال على، قالوا إلا تقتلها قال لا " وروى غير مسلم " إنها لما إعترفت قالت إنما فعلت ذلك لأنك إن كنت نبيا لم يضرك وإن كنت كاذبا أرحت الناس منك " قيل أنه تعالى شفاه في ذلك الوقت ولكن بقي فيه أثر ما فقتله بعد حين. ولذلك قال العلماء إن الله سبحانه قد جمع له بذلك بين كرم النبوة وفضل الشهادة ولا نيافي ذلك قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) " ما كان الله ليسلطك على ذلك " لأن المعني ما كان الله ليسلطك قتلى الان وقال: وفي كفاية الله له (صلى الله عليه وآله وسلم) أمر السم المهلك لغيره معجزة، وقال محي الدين إختلف الرواية هل قلتها ففي هذه أنه لم يقتلها، وفي رواية سلمة أنه قتلها وفي رواية إبن عباس أنه دفعها إلى أولياء بشر وقد كان أكل من الشاة فمات فقتلوها، وقال إبن سحنون: أجمع المحدثون على أنه قتلها، وقال عياض: وجه الجمع أنه لم يقتلها أولا حين أطلع على ما فعلت من السم فلما مات بشر دفعها إلى أوليائه فلم يقتلها في حين وقتلها في آخر، وقال أبو عبد الله الابي هذا الجمع يشكل بأن يقال كيف لم يقتلها أولا وقد نقضت العهد وآذت، وقال الداودي: إنما لم يقتلها لئلا ينقص من عذابها وليبقى أجره موفرا. * الأصل 10 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي


[ 307 ]

جعفر (عليه السلام) قال: ثلاث لا يزيد الله بهن المرء المسلم إلا عزا: الصفح عمن ظلمه وإعطاء من حرمه والصلة لمن قطعه. * الشرح قوله (الصفح عمن ظلمه) أي العفو عن ذنوبه والإعراض عن عقوبته، وأصله الإعراض بصفحة وجهه.


[ 308 ]

(باب كظم الغيظ) * الأصل 1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن إبن أبي عمير، عن هاشم بن الحكم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان علي بن الحسين (عليهم السلام) يقول: ما احب أن لي بذل نفسي حمر النعم، وما تجرعت جرعة أحب إلي من جرعة غيظ لا اكافي بها صاحبها. * الشرح قوله (ما احب إن لي بذل نفسي حمر النعم) ذل النفس بالكسر سهولتها وإنتقيادها وهي ذلول، وبالضم مذلتها وضعفها وهي ذليل، والنعم المال الراعي وهو جمع لا واحد له من لفظه، وأكثر ما يقع على إلا بل قال أبو عبيد: النعم الجمال فقط ويونث ويذكر وجمعه نعمان مثل حمل وحملان وإنعام أيضا، وقيل النعم الابل خاصة، والانعم ذوات الخف والظلف هي الابل والبقر والغنم، وقيل تطلق الأنعام على هذه الثلاثة فإذا انفردت إلا بل فهي نعم وإن انفردت البقر والغنم لم تسم نعما، والمعنى إن ذل نفسي وإنقيادها أو مذلتها بكظم الغيظ أو مطلقا أحب إلى من حمر النعم أملكها أو أتصدق بها وإلا خير أظهر لأن شأنه (عليه السلام) أرفع من أن يحب الدنيا وما فيها، وفيه حض بليغ على كظم الغيظ، وحمر النعم خيارها. قوله (وما تجرعت جرعة أحب إلى من جزعة غيظ لا إكافي بها صاحبها) الجرعة من الماء كاللقمة من الطعام وهو ما يجرع مرة واحدة والجمع جرع مثل غرفة وغرف، وتجرع الغصص مستعار منه وأصله الشرب من عجلة، وقيل الشرب قليلا قليلا وإضافة الجرعة إلى الغيظ من باب لجين الماء، والغيظ صفة للنفس عند إحتدادها موجبة لتحركها نحو الإنتقام والكلام تمثيل. لا يقال الغيظ أمر جبلي لا إحتيار للعبد في حصوله فكيف يكلف برفعه لانا نقول هو مكلف بتصفية النفس على وجه لا يحركها أسباب الغيظ بسهولة وإن اثرت تلك الأسباب فيها وحصل الغيظ له فهو مكلف بتأديب الغيظ بحيث لا يغلب على العقل والشرع وكلا الأمرين مقدور له. * الأصل 2 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن سنان، وعلي بن النعمان، عن عمار بن مروان، عن زيد الشحام، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: نعم الجرعة الغيظ لمن صبر عليها، فإن عظيم الأجر لمن عظيم البلاء وما أحب الله قوما إلا إبتلاهم. * الشرح


[ 309 ]

قوله (ما أحب الله قوما إلا بتلاهم) من ذلك إبتلاؤهم باذي الناس لهم وأمرهم بكظم الغيظ والصبر عليه ليزيد بذلك أجرهم. * الأصل 3 - عنه، عن علي بن النعمان، ومحمد بن سنان، عن عمار بن مروان، عن أبي الحسن الأول (عليه السلام) قال: إصبر على أعداء النعم، فإنك لن تكافي من عصا الله فيك بأفضل من أن تطيع الله فيه. * الشرح قوله (اصبر على اعداء النعم) وهم الظلمة الذين يفترسون الناس لأنهم أعداء نعم الله تعالى ألتي أفضلها وأشرفها الإيمان ومقتضاه من الأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة فإنك (لن تكافي من عصا الله فيك) بالاذي والإضرار والطغيان. (بأفضل من أن تطيع الله فيه) بكظم الغيظ والعفو عنه كما قال عز وجل * (والكاظمين الغيظ والعافين عن النااس " وفي صيغة أفضل دلالة على جواز المكافاة بشرط أن لا يتعدى كما دلت عليه الآية الكريمة ولكن العفو أفضل. * الأصل 4 - عنه، عن محمد بن سنان، عن ثابت مولى آل حريز، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كظم الغيظ عن العدو في دولاتهم تقية حزم لمن أخذ به وتحرز من التعرض للبلاء في الدنيا ومعاندة الأعداء في دولاتهم ومماظتهم في غير تقية ترك أمر الله، فجاملوا الناس يسمن ذلك لكم عندهم ولا تعادهم فتحملوهم على رقابكم فتذلوا. * الشرح قوله (كظم الغيظ عن ا لعدو في دولاتهم تقية حزم لمن أخذ به) الحزم ضبط الأمر وإتقانه والحذر من فواته وإحتلاله وذلك برعاية شرائط نظامه ورفع موانع دوامه، ومن جملة ذلك كظم الغيظ من العدو وعدم إرادة الإنتقام منهم في حال ظهور دولتهم لأن مكافاتهم يوجب التعرض للبلاء وإيقاع النفس في الهلكة والعناء. (ومماظتهم في غير تقية ترك أمر الله) أي مشارئتهم ومنازعتهم تقول ما ظت الرجل مماظة ومظاظا إذا شاردته ونازعته. (فجاملوا الناس يسمن ذلك لكم عندهم) المجاملة بكظم الغيظ وإظهار الوداد والبشاشة ونحو ذلك. والسمن كثرة اللحم والشحم سمن فلان يسمن من باب تعب وفي لغة من باب قرب إذا كثر لحمه وشحمه، ولعل المراد به هنا الشرافة والعظمة وفي بعض النسخ " يسمن الله ذلك إلى آخره "


[ 310 ]

ويسمن حينئذ من باب الأفعال أو التفعيل أي يجعل الله ذلك عندهم شريفا عظيما تورث المحبة لكم (ولا تعادوهم فتحملوهم على رقابكم فتذلوا) لأن إظهار المعاداة وإجراء أحكام الغيظ والغضب مع العجز عن المقاومة والإنتقام يورث ضررا عظيما ومذلة فاحشة وأما مع القدرة على الإنتقام فالعفو أحسن لأنه من صفات الكرام. 5 - علي بن إبراهيم، عن بعض أصحابنه، عن مالك بن حصين السكوني قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): ما من عبد كظم غيظا إلا زاده الله عز وجل عزا في الدنيا والآخرة وقد قال الله عز وجل: * (والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسين) * وأثابه الله مكان غيظه ذلك. * الأصل 6 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن إسماعيل بن مهران، عن سيف بن عميرة قال: حدثني من سمع أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: من كظم غيظا ولو شاء أن يمضيه أمضاه، أملأ الله قلبه يوم القيامة رضاه. * الشرح قوله (أملا الله قلبه يوم القيامة رضاه) كناية عن كثرة إفضاله وإحسانه إليه في ذلك اليوم فلا يرهقه قترو لأذلة (1)


1 - قوله " فلا يرهقه قترو لأذلة " أرى أن ما ذكره الإمام (عليه السلام) يفيد معنى أدق وأعلى مما فسره به الشارح وبيان ذلك إن ملكات النفس وعقايدها وقواها تنقسم إلى ما يبقى بعد الموت لعدم تعلقها بالبدن بوجه، وإلى ما لا يبقى لتوقفها على الأعضاء الظاهرة فالاول كالإيمان بالله العظيم وأصول الدين والمعارف إذ ليس حاملها الحواس والجوارح وكملكة التقوى أو الفجور وأمثال ذلك، وأما الثاني فكالعلوم الجزئية من حيث هي جزئية والمعاني المدركة بالواهمة وأمثالها فلا يبقى للنفس ما تدركه بهذا البصر من حيث هو مدرك بهذا الصبر ولا المحبة والعداوة والخوف الحاصلة بعد رؤية الولد والعدو كالأنثى إذا شاهدت أولادها عرضت لها حالة تبعثها على العطف والتربية والارضاع ولا يعرف الحيوان لها إسما ولا يتعقل مفهوما وإنما يحصل له مصداق المحبة فقط. وكذلك الغنم إذ شاهدت ذئبا عرضت لها حالة تقتضي الفرار والنفرة ونسميها نحن معاشر البشر خوفا ولا يتصور الحيوان له مفهوما بل له المصداق وهو حالة بدنية متعلقة بالأعصاب والدماغ يفقدها كل موجود ليس له عصب ودماغ وكذلك يعرض للإنسان نظير هذه الحالات بقوته الموسومة بالواهمة هي مصاديق مفاهيم كالحسد والغيظ والغضب وهي أي مصاديقها متعلقة بالبدن وأعضائه وعصبه ودماغه ولكن للإنسان عقلا يستطيع أن يعارض به هذه الحالة ويمنعها عن التأثير والحيوان مقهور بالجري على مقتضاها ولا مبدء منع فيه عن ذلك ولذلك كلف الإنسان ولم يكلف سائر الحيوانات والعقل مبدء غير جسماني قاهر على مقتضيات القوة الواهمة ولما كان مجردا غير متعلق بالبدن بقي في البرزخ وعاد في الآخرة والغيظ مقتضى الواهمة وكظمه مقتضى العقل ويبعث يوم القيامة مع العقل ولوازمه من الرضا والأمن والإيمان دون الغيظ. = (*)

[ 311 ]

* الأصل 7 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن إبن فضال، عن غالب عن عثمان، عن عبد الله بن منذر، عن الوصافي، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: من كظم غيظا وهو يقدر على إمضائه حشا الله قلبه أمنا وإيمانا يوم القيامة. * الشرح قوله (حشا الله قلبه أمنا وإيمانا يوم القيامة) أي إيمانا بالله وأمنا من سخطه ويمكن أن يراد بالإيمان النور الفائض بالتجليات الربانية الذي لا يحتمله الاقلوب المقربين. * الأصل 8 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الحسن بن علي الوشاء، عن عبد الكريم به عمرو، عن أبي اسامة زيد الشحام، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال لي: يا زيد إصبر على أعداء النعم، فإنك لن تكافي من عصا الله فيك بأفضل من أن تطيع الله فيه، يا زيد إن إصطفى الإسلام وإختاره، فأحسنوا صحبته بالسخاء وحسن الخلق. * الشرح (فأحسنوا صحبته بالسخاء وحسن الخلق) السخاء هو بذل المقتنيات وصرفها في أهل الحاجة وحسن الخلق مع خلق الله من أعظم أسباب كظم الغيظ فهما مجازان أو كنايتان عنه ولا يبعد أن يكون السخاء شاملا لكظم الغيظ أيضا لأنه من جملة أفراده بوجه. * الأصل 9 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن حفص بياع السابري عن أبي حمزة، عن علي بن الحسين (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من أحب السبيل إلى الله عز وجل جزعتان: جرعة غيظ تردها بحلم وجرعة مصيبة تردها بصبر. * الشرح قوله (من أحب السبيل إلى الله جزعتان) أشار جل شأنه إلى الجرعة الاولى بقوله * (والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس " وإلى الجرعة الثانية بقوله * (وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله إليه راجعون ". * الأصل


= وإذا لم يكظم غيظه وجرى على مقتضاه كالحيوان أوجب ذلك له معاصي كثيرة إعقبت في قلبه نفاقا وقسوة وملكات يتأذي بها في الآخرة ويتألم بها العقل المقهور في الدنيا بلوازم الجهل والهوى. (ش) (*)

[ 312 ]

10 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد، عن ربعي، عمن حدثة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لي أبي: يا بني مامن شئ أقر لعين أبيك من جرعة غيظ عاقبتها صبر، وما من شئ يسرني أن لي بذل نفسي حمر النعم. 11 - علي بن إبراهيم، عن أبي، عن إبن أبي عمير، عن معاوية بن وهب، عن معاذ بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إصبروا على أعداء النعم فإنك لن تكافي من عصا الله فيك بأفضل من أن تطيع الله فيه. 12 - عنه، عن أبيه، عن إبن أبي عمير، عن خلاد، عن الثمالي، عن على بن السحين (عليه السلام) قال: ما احب أن لي بذل نفسي حمر النعم وما تجرعت من جرعة أحب إلي من جرعة غيظ لاأكافي بها صاحبها. 13 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن الوشاء، عن مثنى الحناط، عن أبي حمزة قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): ما من جرعة يتجرعها العبد أحب إلى الله عز وجل من جرعة غيظ يتجرعها عند ترددها في قلبه، إما بصبر وإما بحلم. * الشرح قوله (ما من جرعة يتجرعها العبد أحب إلى عز وجل من جرعة غيظ يتجرعها عند ترددها في قلبه أما بصبر وأما بحلم) المراد بترددها في قلبه إقدام القلب تارة إلى تجرعها لما فيه من الاجر الجزيل والثواب الجميل وإصلاح النفس وتارة إلى ترك تجرعها وإمضائه لما فيه من البشاعة والمرارة. والباء في بصبر للسببية وهو والحلم متقاربان إلا أن الصابر يصبر مع المشقة والحليم لا يرى في نفسه مشقة ومن ثم قيل العادي لا يأمن من الصابر كما يأمن من الحليم.


[ 313 ]

(باب الحلم) * الأصل 1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن أحمد بن محمد بن عن محمد بن عبيد الله قال: لا يكون الرجل عابدا حتى يكون حليما، وإن الرجل كان إذا تعبد في بني إسرائيل لم يعد عابدا حتى يصمت قبل ذلك عشر سنين. * الشرح قوله (لا يكون الرجل عابدا حتى يكون حليما) الحلم الاناة والتثبت في الامور وهو يحصل من الإعتدال في القوة الغضبية ويمنع النفس من الإنفعال عن الواردات المكروهة الموذية، ومن آثاره عدم جزع النفس عند الامور الهايلة وعدم طيشا في المؤاخذة وعدم صدور حركات غير منتظمة منها وعدم إشهار المزية على الغير وعدم التهاون في حفظ ما يجب حفظه شرعا وعقلا وهو من علوا الهمة، والعبادة النفسانية كانت أو بدنية لا عبرة بها ولا تكمل ولا يترتب عليها الاجر الكامل بدونه وقوله " وإن الرجل كان إذا تعبد في بني إسرائيل لم يعد عابدا حتى يصمت قبل ذلك عشر سنين " السكوت عما لا يعني باب من أبواب الحكمة وله مدخل غظيم في إكتساب الحلم ولذلك قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) " تحملوا تسروا وإذا غضب أحدكم: فيسكت ثلاث مرات ". * الأصل 2 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي بن النعمان، عن إبن مسكان، عن أبي حمزة قال: المؤمن خلط عمله بالحلم، يجلس ليعلم، وينطق ليفهم، لا يحدث أمانته الأصدقاء ولا يكتم شهادته الأعداء ولا يفعل شيئا من الحق رياء ولا يتركه حياء، إن زكي خاف مما يقولون وإستغفر الله مما يعلمون، لا يغره (1) قول من جهله ويخشى إحصاء ما قد عمله. * الشرح قوله (لا يحدث أمانته الأصدقاء) كتمان السر والأمانة ووضعهما في صندوق الجنان وعدم فتحه بمفتاح اللسان وعدم إفضائهما لاوثق الاخوان من صفات المؤمن العاقل الكامل في الإيمان فإنه يعلم بنور البصيرة أنه إذا لم يحفظ الأمانة لم يأمن غيره الخيانة وإن كان صديقا له لأن للصديق صديقا ومن ثم قال أمير المؤمنين (عليه السلام) " حفظ ما في الوعاء بسد الوكاء " ومعناه أن حفظ ما في


1 - كذا في جميع النسخ. (*)

[ 314 ]

الجنان إذا أريد أن لا يطلق غيره إنما هو بحفظ اللسان فإنه آلة تلف الإنسان. ومفاسد الإفشاء بعيدة عن الخفاء. قوله (ولا يتركه حياء) قد عرفت أن إنقباض انفس عن الحق وتركه لرقة الوجه يسمى حياء مجازا (إن زكي خاف مما يقولون) إما لعدم وجوده فيه أو لعدم عمله بكونه مقبولا له تعالى أو لا مكان حصول العجل أو لأن الإنسان وإن بالغ فهو في حد النقص أو لأن التزكية تزكيته تعالى لا تزكية البشر * (لا تزكوا أنفسكم ولكن الله يزكي من يشاء ". قوله (وإستغفر الله مما لا يعلمون) قال أمير المؤمنين (عليه السلام) " إذا زكي أحد منهم خاف مما يقال فيه فيقول أنا أعلم بنفسي من غيري وربي أعلم مني بنفسى، اللهم لا تؤاخذني بما يقولون، وإجعلني أفضل مما يظنون، وإغفرلي ما لا يعلمون ". (لا يغيره قول من جهله) فلا يزعجه قول الزور والإفتراء والبهتان والغيبة والنميمة ولا يضطر به ولا يحركه إلى الإنتقام والمكافاة بالمثل بل يتمسك بالصبر والحلم كما هو شأن أرباب الإيمان وأصحاب الإيقان. * الأصل 3 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن إبن فضال، عن إبن بكير، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: كان علي بن الحسين (عليه السلام) يقول: أنه ليعجبني الرجل أن يدركه حمله عند غضبه. * الشرح قوله (أنه ليعجبني الرجل أن يدركه حمله عند غضبه) فيمنع نفسه من التشفي والإنتقام والإقدام على العقوبة ويحملها على العفو مع القدرة على ذلك والعفو من صفات الله وصفات أليائه ومن شق عليه فليتفكر في أمر الخالق جل شأنه فإنه يشرك به ويجعل له ولد ويعتقد له صفات لا تليق به وهو منزه عنها ثم هو يعافيهم ويرزقهم ويعطيهم ويقضى حوائجهم. * الأصل 4 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن علي بن الحكم، عن أبي جميلة، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن الله عز وجل يحب الحيي الحليم. 5 - عنه، عن علي بن حفض العوسي الكوفي، رفعه إلى أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما أعز الله بجهل قط ولا أذل بحلم قط. * الشرح قوله (ما أعز الله بجهل قط ولا اذل بحلم قط) لأن الجهل صفة توجب الذل في الدنيا والاخرة


[ 315 ]

ومنه السفه والاذي والمعاجلة في العقوبة والحلم صفة توجب العزة فيهما أما في الاخرة فظاهر لأنه من جلايل الصفات الموجبة لرفع الدرجات، وأما في الدنيا فظاهر أيضا لأن الحليم عزيز عند الخلايق كلهم ولذلك قال أمير المؤمنين (عليه السلام) " الحلم عشيرة " (1) بالعشيرة يتمتع بالحلم ويتوقر لأجله. * الأصل 6 - عنه، عن بعض أصحابه، رفعه قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): كفى بالحلم ناصرا، وقال: إذا لم تكن حليما فتحلم. * الشرح قوله (كفى بالحلم ناصرا) المراد أن الحلم ناصر كاف للحليم لأن الناس يحبونه ويميلون إليه ويعينونه في المكاره وقال (إذا لم تكن حليما فتحلم) (2)


1 - قوله " الحلم عشيرة " يرى الجهلاء أن الحلم من الضعف والرجل القوى الغيور لا يتحمل إيذاء الناس وقبول الظلم أفحش من الظلم وربما يتمسك بقول الله تعالى " من إعتدى عليكم فإعتدوا عليه بمثل ما إعتدى عليكم " وقال تعالى " ولكم في القصاص حيوة يا أولى الألباب " وقال تعالى " ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا " وأيضا السكوت على الظلم والرضا به يوجب تجرى الظالم فإذا علم إن الناس مأمورون بالسكوت زادوا في الظلم والجواب إن للحلم مقاما ولطلب الحقوق مقاما آخر والقدر المسلم إن الإنسان لا يجوز أن ينقاد لعواطفه المترتبة على شهوته وغضبه بحيث يسلب عنه الإختيار ويجري على ما يقتضيه قوته الواهمة با يجب أن يكون مالكا لنفسه ولا يكون قصاصه وإنتقامه وقيامه على من إعتدى عليه إلا بمقتضى عقليه لارضاء عواطفه ومتابعة هواه وشهواته فإنه بهذا يمتاز عن الحيوان وتربية الحلم هي من وظائف الإنسان لاتربية الهوى فإن الحلم هو الذي يبقى له في الآخرة وهو مقتضى العقل والعقل يبقى بجميع ما يقضيه. (ش) 2 - قوله " إذا لم يكن حليما فتحلم " إستدل جماعة من الفلاسفة بوجود الإختيار للإنسان على تجرده ذاتا وبقائه بعد الموت قالوا كل حالة جسمانية لابدان تحصل جبرا قسر أو لا يستطيع احدان يمتنع عنها ويدفعها عن نفسه بل هي أثر حاصل بتأثير مؤثر خارجي أو داخلي في بعض الأعضاء ونحن مجبورون مقهورون في قبوله كالرؤية بالعين فإنها بتأثير النور في الجليدية ولا نستطيع أن لا نرى مع هذا التأثير أيضا ونعض الأبصار ونطبق إلا جفان قهرا عند تحريك أحد اصبعه إليها ويحصل المحبة والخوف عند حصول أسبابها لدنيا قهرا ويضطرب القلب عند الحزن ويجري الدمع ويعرضنا العطاس عند البرد مطلقا وكان جميع حالاتها وعوارضها ناشئة من مزاجات في البدن وتأثيرات خاصة لخصوص مواد وتراكيب في خلاياها وذراتها لزم كونن جميعها قهرية ولا يكون للنفس إختيار في أي أمر من أمورها ولكن ليس كذلك فإن معارضة الحلم مثلا للغضب وإختيار الإنسان أن يكظم غيظه وقدرته على ذلك تدل على وجود مبدء مستقل له غير متوقف على آلية البدن ولا يجوز أن يغتر بما يتوقفل على آلالة كلاسمع والبصر وغيرهما من القوى الجمسانية فإن لنا حالات غير = (*)

[ 316 ]

فإكتسب الحلم لأن الحلم كساير الاخلاق قد يكون خلقيا وقد يكون كسبيا أو المراد فتكلف الحلم وأظهره فإن ذلك قد يجر إلى إكتساب الحلم والإتصاف به ويؤيده قول أمير المؤمنين (عليه السلام) " إن لم تكن حليما فتحلم فإنه قال من تشبه بقوم إلا أو شك أن يكون منهم " أراد (عليه السلام) إن الحلم أحسن وإن يكن فالتشبه بالحليم حسن. 7 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن عبد الله الحجال، عن إبن أبي عايشة قال: بعث أبو عبد الله (عليه السلام) غلاما له في حاجة فأبطأ، فخرج أبو عبد الله (عليه السلام) على أثره لما أبطأ، فوجده نائما، فجلس عند رأسه يروحه حتى إنتبه، فلما تنبه قال له أبو عبد الله (عليه السلام): يا فلان ! والله ما ذلك لك، تنام الليل والنهار، لك الليل ولنا منك النهار. * الأصل 8 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي بن النعمان، عن عمرو بن شمر عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الله يحب الحيي الحلمى العفيف المتعفف. * الشرح قوله (إن الله يحب الحيي الحليم العفيف المتعفف) يعني أن الله يحب من كان فيه حياء يمنعه عن القبايح وخلاف الاداب وحلم يمنعه من الإضطراب عن توارد المركوهات وإيذاء الخلق والإقدام على الإنتقام وعفة في دينه ونفسه تبعثه على تحصيل الكفاف من المآكل والمشارب والمناكح والمساكن والملابس وغيرها على الوجه المشروع وتعفف يبعثه على الإكتفاء بحرفته وصنعته وحفظ فقره وعدم السؤال من غيره من بني نوعه كما روى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال " من طلب الدنبا إستعفافا عن المسألة وسعيا على عياله وتعففا على جاره لقى الله تعالى يوم القيامة ووجهه كالقمر ليلة البدر ". يحتمل أن يراد بالتعفف التأكيد والمبالغة في العفة وتحمل النفس على ذلك بنوع كلفة، وثمرة محبته تعالى آجلاهي الكرامة الأبدية وعاجلا هي إعانته على تلك الفضائل وإمداده وتوفيقه على زيادتها ودوامها كما روى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) " من يستعفف يعفه الله الحديث ". * الأصل 9 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن على بن محبوب، عن أيوب بن نوح، عن عباس بن عامر، عن ربيع بن محمد المسلى، عن أبي محمد، عن عمران، عن سعيد بن يسار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا وقع


= متوقفة على الالات كادراك الكلي والإختيار. (ش) (*)

[ 317 ]

بين رجلين منازعة نزل ملكان فيقولان للسفيه منهما: قلت وقلت وأنت أهل لما قلت، ستجزي بما قلت: ويقولان للحليم منهما: صبرت وحملت سيغفر الله لك إن أتممت ذلك، قال: فإن رد الحليم عليه إرتفع الملكان. * الشرح قوله (قلت وقلت) بالقاف فيهما وبعض النسخ بالفاء في الثاني يقال فلا الرجل في رأيه وفيل إذا لم يصب فيه ورجل فايل الرأي. (إن رد الحليم عليه إرتفع الملكان) الحليم قد لا يخلو عن عشرة وخفة في وقت ما يسوم الطبع لعدم عصمته إلا أنه بهذا النادر لا يزول عنه إسم الحليم ولا يسلب عنه مدحة الحلم.


[ 318 ]

(باب الصمت وحفظ اللسان) * الأصل 1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر قال أبو الحسن الرضا (عليه السلام): من علامات الفقه الحلم والعلم والصمت، إن الصمت باب من أبواب الحكمة، إن الصمت يكسب المحبة أنه دليل على كل خير. * الشرح قوله (من علامات الفقه الحلم والعلم والصمت) الفقه العلم بالمنافع والمضار أو البصيرة في أمور الدين، وكون الصمت أي السكوت عما لا يعنى من علاماته ظاهر لأنه دال عليه كدلالة الأثر على المؤثر، وكذلك الحلم أي التثبت في الامور. وأما العلم فلعل المراد به آثاره أعنى إثبات الحق وإبطال الباطل وترويج الدين وحل المشكلات، وهو بهذا الإعتبار من آثار الفقه وعلاماته الدالة عليه. فلا يرد أن العلم هو الفقه ولا يصح أن يكون الشئ علامة لنفسه. قوله (إن الصمت باب من أبواب الحكمة) لأن الحكمة وهي معرفة الأحكام وأحوال الموجودات والإنقياد لله وفعل الخيرات لا تحصل إلا بالتفكر والتفكر لا يحصل أو لايتم إلا بالصمت عن اللغو. قوله (إن الصمت يكسب المحبة) أي محبة الله تعال أو محبة الخلق وذلك لأن أكثر أسباب الكلام وأعظم مقامات المجاورة هو المجادلة والمنازعة والمخاصمة والجرح والغيبة والتهمة والفضول والتكذيب والمضحكة والكذب والمزاح الكثير وما لا يعنى وكل ذلك يوجب البغض والعداوة ويبعد عن الخير فالصمت عن ذلك يورث المحبة ويقرب من الخير (أنه دليل على كل خير) لأن السكوت عن الشر لكونه شرا دليل على الخير الذي هو ضده وأيضا السكوت عنه لاعن سهو ولاغفلة بل عن صفاه فكرة في عظمه الحق وآلائه وتواتر أيادية ونعمائه يوجب الإرتقاء إلى مقام العبودية وتحقيق ولائه حتى يصير الغيب به كالعيان ويبلغ العبد لأجله إلى ذروة الإحسان ويتصف بالأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة، وإليه أشار أمير المؤمنين بقوله: " إذا كان في الرجل خلة رايعة فانتظر أخواتها " الخلة الخصلة والرايعة المعجبة من راعني الشئ أعجبني حسنه، يعني إذا كان في الرجل خصلة معجبة حسنة فإنتظر أمثالها من الخصال الحسنة فإن بعضها يجذب بعضا ولا يبعد أن يكون الصمت من هذا القبيل. * الأصل


[ 319 ]

2 - عنه، عن الحسن بن محبوب، عن عبد الله بن سنان، عن أبي حمزة قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: إنما شيعتنا الخرس. * الشرح قوله (إنما شيعتنا الخرس) لعلمهم بمفاسد اللسان فيجتنبون عنها وأيضا لا يتكلمون في امور الدين إلا ما سمعوه من أهله بخلاف العامة فإنهم يتكلمون فيها بالقياس والإستحسان والوجوه العقلية فلهم طرق واسعة. * الأصل 3 - عنه، عن الحسن بن محبوب عن أبي علي الجواني، قال: شهدت أبا عبد الله (عليه السلام) وهو يقول لمولى له [ يقال له ] سالم - ووضع يده على شفتيه - وقال: يا سالم إحفظ لسانك تسلم، ولا تحمل الناس على رقابنا. * الشرح قوله (يا سالم إحفظ لسانك تسلم) أي تسلم من آفات الدنيا والآخرة ومعاصي اللسان وذل النفس فإن من أرخى عنان اللسان جرى في ميدان الطغيان ويتكلم كثيرا بما لا يعنيه وما يضره ويضر غيره ويذله ويدل على سفهه. * الأصل 4 - عنه، عن عثمان بن عيسى قال: حضرت أبا الحسن (عليه السلام) قال له رجل: أوصني، فقال له: إحفظ لسالك تعز، ولا تمكن الناس من قيادك فتذل رقبتك. * الشرح قوله (وقال له رجل اوصني) الإيصاء طلب شئ من غيره ليفعله على غيب منه فقال (إحفظ لسانك تعز) اءذ بالصمت تكون الهيبة والعزة لأن من رآه بخيل إليه أن له شأنا فيهيب منه ويعزه بخلاف ارخاء اللسان فإنه يشين القائل ويبدئ مساوي الجاهل ويصغره في أعين الناس ويذهب بعزه وبهائه. والقياد ككتاب حبل تقاد به الدابة وهو كناية عن التسلط والإضرار والإذلال. * الأصل 5 - عنه، عن الهيثم بن أبي مسروق، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لرجل أتاه: ألا أدلك على أمر يدخلك الله به الجنة ؟ قال: بلي يا رسول الله، قال: أنل مما أنا لك الله، قال: فإن كنت أحوج ممن انيله ؟ قال: فإنصر المظلوم، قال: وإن كنت أضعف ممن أنصره ؟ قال: فاصنع للاخرق يعني أشر عليه، قال: فإن كنت أخرق ممن أصنع له ؟ قال: فاصمت لسانك إلا من


[ 320 ]

خير، أما يسرك أن تكون فيك خصلة من هذه الخصال تجرك إلى الجنة. * الشرح قوله (أنل مما أنا لك الله) أي أعط المحتاجين ما أعطاك الله (فاصنع للاخرق) الاخرق الجاهل من الخرق بالضم وهو الجهل يعني أشر عليه بما ينفعه وفيه حث على أرشاد كل من لم يعلم أمر أمن مصالح الدين والدنيا (فاصمت لسانك الامن خير) الظاهر أن المراد باخير ما يورث ثوابا في الاخرة، أو نفعا في الدنيا (بلا مضرة أحد فيكون المباح مما ينبغى السكوت عنه ويكون الأمر لمطلق الطلب الشامل للوجوب والرحجان، وبالجملة ينظر من يريد الكلام فإن لم يرضروا تكلم وإن رآه أو شك فيه سكت وإحتلف في المباح هل يكتب أم لا نقل عن إبن عباس أنه لا يكتب إذ لايجازي عليه والحق يكتب لقوله تعالى * (ما يلفظ من قوله الآية " * (وكل صغير وكبير مستطر " ولدلالة بعض الروايات عليه أيضا وعدم المجازات لا يدل على عدم الكتابة إذ لعل الكتابة لغرض آخر مثل التحسر والتأسف في تضييع العمر فيما لا ينفع ولا يضر مع القدرة على فعل ما يوجب الثواب بدلالة (أما يسرك أن تكون فيك خصلة من هذه الخصال تجرك إلى الجنة) دل على أن الخصلة الواحدة تجر إلى أسباب الدخول في الجنة وهي الخصال الاخر فإن الخير بعضه يفضى إلى بعض كما مر. * الأصل 6 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن جعفر بن محمد الأشعري، عن إبن القداح، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال لقمان لإبنه: يا بني إن كنت زعمت أن الكلام من فضة، فإن السكوت من ذهب. * الشرح قوله (يا بني إن كنت زعمت أن الكلام من فضة فإن السكوت من ذهب) دل على أن السكوت أفضل من النطق وهو كذلك لأن مفاسد النطق كثيرة لا يمكن التحرز عنها إلا بالسكوت وفيه ترغيب في السكوت وإن زعم أن كلامه حسن، ومن ثم قال بعض الأكابر من نطق فاحسن قادر على إن يصمت فيحسن وليس من صمت فاحسن قادر على أن ينطق فيحسن وهو أيضا يدل على أن السكوت أفضل من النطق. * الأصل 7 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن الحلبي، رفعه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أمسك لسانك، فإنها صدقة تصدق بها على نفسك، ثم قال: ولا يعرف عبد حقيقة الإيمان حتى يخزن من لسانه.


[ 321 ]

* الشرح قوله (أمسك لسانك فإنها صدقة) الضمير راجع إلى الإمساك والتأنيث باعنبار الخير وتشبيه الإمساك بالصدقة باعنبار أنه ينفع صاحبه في الدنيا والاخرة ويدفع عنه البلايا ويوجب قربه من الحق كالصدق (ثم قال ولا يعرف عبد حقيقة الإيمان حتى يخزن من لسانه) أشار بذلك إلى إن الإيمان لايتم إلا بإستقامة اللسان على الحق وخزنه عن الباطل مثل الغيبة والنميمة والقذف والشتم والكذب والزور ونحوها من الامور المضرة وذلك لأن الإيمان عبارة عن التصديق بالله ورسوله والإعتقاد بحقية ما وردت بالشريعة من المأمورات والمنهيات وغيرها وهو يستلزم إستقامة اللسان وهي إقراره بالشهادتين ولوازمها وأمساكه عما لا ينبغي. ومن البين إن الملزوم لا يستقيم بدون إستقامة اللازم، وقد أشار إليه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله " لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه " وأيضا كل ما يتناوله اللسان من إلا باطيل وإلا كاذيب تدخل مفهوماتها في القلوب وهو ينافي دخول حقيقة الإيمان فيه فلا يعرف حقيقته. * الأصل 8 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، ومحمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، جميعا عن ابن أبي عمير، عن إبراهيم بن عبد الحميد، عن عبيدالله بن علي الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: * (ألم إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم) * قال يعني كفوا ألسنتكم. * الشرح قوله (ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا إيديكم قال يعني كفوا ألسنتكم) ظاهره أن المراد بالايدي الالسنة للتشابه بينهما في القوة أو في كونهما آلة مجادلة ويحتمل أن يكون كف الايدي مجازا مرسلا في كف الالسنة لأن كف الالسنة سبب لكف الايدي من الضرب والقتل ونحوهما. * الأصل 9 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن الحلبي، رفعه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): نجاة المؤمن [ في ] حفظ لسانه. * الشرح قوله (نجاة المؤمن حفظ لسانه) أي نجاته في الدنيا والاخرة لأن في كثرة الكلام وإفشاء ما ينبغى اخفاؤه وبال الدنيا ونكال الاخرة. * الأصل 10 - يونس، عن مثني، عن أبي بصير قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: كان أبو ذر رحمه الله يقول: يا


[ 322 ]

مبتغي العلم إن هذا اللسان مفتاح خير ومفتاح شر، فاختم على لسانك كما تختم على ذهبك وورقك. * الشرح قوله (يا مبتغى العلم ان هذا اللسان مفتاح خير ومفتاح شر) فيه ترغيب في التكلم بالخير وتنفير عن التكلم بالشر ولا يتحقق ذلك إلا بالتأمل والتفكر أولا فيما يقول كما هو شأن المؤمن العارف فإنه يتأمل ويتفكر فيما يريد النطق به فإن رآه خيرا أبداه وإن رآه شرا وأراه بخلاف الجاهل فإنه يتكلم بما جرى على لسانه لا يدري ماذا له وماذا عليه ثم حث على كتمان ما ينبغي كتمانه بقوله (فاختم على لسانك كما تختم على ذهبك وورقك) الورق بكسر الراء والإسكان للتخفيف النقرة المضروبة ومنهم من يقوله النقرة مضروبة كانت أو غير مضروبة، وقال الفارابي الورق المال من الدراهم ويجمع على أوراق، وروى مثل ذلك عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال " الكلام في وثاقك ما لم تتكلم به فإذا تكلمت به صرت في وثاقه فاخزن لسانك كما تخزن ذهبك وورقك فرب كلمة سلبت نعمة " وقال بعض الأكابرلا تتكلم بلسانك ما تكسر به أسنانك. * الأصل 11 - حميد بن زياد، عن الخشاب، عن ابن بقاح، عن معاذ بن ثابت، عن عمرو بن جميع، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان المسيح (عليه السلام) يقول: لا تكثر والكلام في غير ذكر الله، فإن الذين يكثرون الكلام في غير ذكر الله قاسية قلوبهم ولكن لا يعلمون. * الشرح قوله (فإن الذين يكثرون الكلام في غير ذكر الله قاسية قلوبهم ولكن لا يعلمون) قساوة القلب شدته وصلابته بحيث يتأبى عن قبول الحق كالحجر الصلب يمر عليه الماء ولا يقف فيه، وفيه دلالة على أن كثرة الكلام في الامور المباحة يوجب قساوة القلب، واما الكلام في الامور الباطلة فقليله كالكثير في النهي عنه وايجاب القساوة. * الأصل 12 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن ابن أبي نجران، عن أبي جميلة عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما من يوم إلا وكل عضو من أعضاء الجسد يكفر اللسان يقول: نشدتك الله أن نعذب فيك. * الشرح قوله (ما من يوم إلا وكل عضو من اعضاء الجسد يكفر اللسان) أي يذل ويخضع له والتكفير هو


[ 323 ]

أن ينحني الإنسان وطأطأ رأسه قريبا من الركوع كما يفعل من يريد تعظيم صاحبه، ثم قال من باب الاستيناف يقول (نشدتك الله أن نعذب فيك) نشد من باب نصر أي سألتك بالله واحلفك به كان هذا القول بلسان المقال ويحتمل أن يكون بلسان الحال. * الأصل 13 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن إبراهيم بن مهزم الأسدي، عن أبي حمزة، عن علي بن الحسين (عليهما السلام) قال: إن لسان ابن آدم يشرف على جميع جوارحه كل صباح فيقول: كيف أصبحتم ؟ فيقولون: بخير إن تركتنا، ويقولون: الله الله فينا ويناشدونه ويقولون: إنما: نثاب ونعاقب بك. * الشرح قوله (ان لسان إبن آدم يشرف على جميع جوارحه) أشرفت عليه أطلعت عليه (فيقول كيف أصبحتم فيقولون بخير إن تركتنا) زبان گفت باسر كه چونى خوشى * بگفتا خوشم گرتو دم در كشى (ويقولون الله الله فينا) أي أحذر الله أو أثق الله أو خف الله في حقنا وأمرنا، ويناشدونه أي يخلفونه بالله، والمناشدة قسم دادن ويقولون (إنما نثاب ونعاقب بك) الحصر اما حقيقي ادعائي أو اضافي بالنسبة إلى بواقي الجوارح فكان كل جارحة تخص هذا باللسان بالنسبة إلى جوارح آخر فلا يردان كل جارحة تثاب وتعاقب بعملها أيضا. * الأصل 14 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، ومحمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، جميعا، عن أبن أبي عمير، عن إبراهيم بن عبد الحميد، عن قيس أبي إسماعيل - وذكر أنه لا بأس به من أصحابنا - رفعه قال: جاء رجل إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا رسول الله أوصني، فقال: إحفظ لسانك، قال: يا رسول الله أوصني قال: إحفظ لسانك، قال: يا رسول الله أوصني، قال إحفظ لسانك، ويحك وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم. * الشرح قوله (قال جاء رجل إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)) كان الرجل كان معاذ بن جبل لتصريح العامة به في روايتهم مثل هذا الحديث (وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم) الحصاد بالفتح والكسر قطع الزرع والحصائد جمع الحصيد وهي ما يحصد من الزرع شبه اللسان وما يقطع به من الأقوال الباطلة بحد المنجل وما يقطع به من النبات.


[ 324 ]

* الأصل 15 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن إبن فضال، عمن رواه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من لم يحسب كلامه من عمله كثرت خطاياه وحضر عذابه. * الشرح قوله (من لم يحسب كلامه من عمله كثرت خطاياه وحضر عذابه) لعل ذلك لأن اللسان له تصرف في كل موجود وموهوم ومعدوم وله يد في العقليات والخياليات والمسموعات والمشمومات والمبصرات والمذوقات والملموسات، فمن حسب أن الكلام ليس من عمله المترتب عليه الثواب والعقاب لم يبال بالكلام في أباطيل هذه الامور وأكاذيبها، فيجتمع عليه من كل وجه خطيئة فتكثر خطاياه. وأما غير اللسان فخطاياه قليلة فإذن خطيئة السمع ليست إلا المسموعات، وخطيئة البصر ليس إلا المبصرات وقس عليهما سائر الجوارح ويقرب منه قول أمير المؤمنين (صلى الله عليه وآله وسلم) " من كثر كلامه كثر خطاؤه، ومن كثر خطاؤ قل حياؤه، ومن قل حياؤه قل ورعه، ومن قل ورعه مات قلبه، ومن مات قلبه دخل النار " وهذا من با القياس المفصول النتايج ينتج من كثر كلامه دخل النار، وروى في هذا المعنى من طريق العامة أيضا " من كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه كثرت ذنوبه، ومن كثرت ذنوبه فالنار أولى به " ولعل المراد بحضور العذاب حضور أسبابه أو حضور نفسه لأن حضور أسباب الشئ دليل على حضور ذلك الشئ، وقد صرح بعض أصحابنا بأن عذاب المستحق له واقع بالعفل وإن جهنم لمحيطة به وأنه داخل فيها ولكن الحجاب مانع من رؤيتها الحكمة تقتضيه. * الأصل 16 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يعذب الله اللسان بعذاب لا يعذب به شيئا من الجوارح فيقول: أي رب عذبني بعذاب لم تعذب به شيئا، فيقال له: خرجت منك كلمة فبلغت مشارق الأرض ومغاربها، فسفك بها الدم الحرام وانتهب بها المال الحرام وانتهك بها الفرح الحرام، وعزتي [ وجلالي ] لأعذبنك بعذاب لا اعذب به شيئا من جوارحك. * الشرح قوله (فيقول أي رب عذبتني بعذاب لم تعذب به شيئا) من الجوارح أي فيقول اللسان ذلك ولعل الاضافة في قوله (من جوارحك) للمجاورة والملابسة أو للاشارة إلى أن سائر الجوارح تابعة له وهو رئيسها (فيقال له خرجت منك كلمة) سواء كانت تلك الكلمة من باب الفتيا أو غيرها.


[ 325 ]

* الأصل 17 - وبهذا الإسناد قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن كان في شئ شؤم ففي اللسان. * الشرح قوله (إن كان ففي شئ شؤم في اللسان) الشوم الشر وشئ مشوم أي غير مبارك، وفيه تنبيه على كثرة شومه لأن له تعلقا بكل خير وشر فميدان شره أوسع من ميدان شر جميع الجوارح، فمن أطلق عنانه في ميدانه أورده في مهاوى الهلاك، ولا شوم أعظم من ذلك. * الأصل 18 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، والحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، جميعا، عن الوشاء قال: سمعت الرضا (عليه السلام) يقول: كان الرجل من بني إسرائيل إذا أراد العبادة صمت قبل ذلك عشر سنين. * الشرح قوله (صمت قبل ذلك عشر سنين) أي صمت عما لا ينبغي في تلك المدة ليصير الصمت ملكة له ثم كان يشتغل بالعبادة والاجتهاد فيها لتقع العبادة صافية خالية عن المفاسد وفيه تنبيه على ان الصمت أصل عظيم في العبادة وخلوصها وبقائها ومعرفلة أحكامه وصيرورتها مرقاة للعباد في الترقيات إلى المقامات العالية. * الأصل 19 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن بكر بن صالح، عن الغفاري، عن جعفر بن إبراهيم قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من رأي موضع كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه. * الشرح قوله (من رأي موضع كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه) أي يهمه أو يقصده من عنيت به أي أهتمت واشتغلت به أو من عنيت فلانا أي قصدته، وفيه تنبيه على أن المتكلم ينبغي أن يعد كلامه من عمله ويتدبر في صحته وفساده وضره ونفعه، فان رآه صحيحا لا يترتب عليه شئ من المفاسد آجلا وعاجلا تكلم به وإن رآه خلاف ذلك أمسك عنه. * الأصل 20 - أبو علي الأشعري، عن الحسن بن علي الكوفي، عن عثمان بن عيسى، عن سعيد بن يسار، عن منصور بن يونس، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: في حكمة آل داود على العاقل أن يكون عارفا بزمانه،


[ 326 ]

مقبلا على شأنه، حافظا للسانه. * الشرح قوله (على العاقل أن يكون عارفا بزمانه مقبلا على شأنه حافظا للسانه) على العاقل أن يعرف حال أهل زمانه من الخير والشر والصلاح والفساد والحق والباطل ويميز بينهم ليصفوله معنى الصحبة، والعشرة ويبدوا له محل الفرقة والعزلة ويتمكن من اجراء السياسة المدنية على القوانين النبوية، ويحب لله ويبغض في الله ويراعى الحزم والتقية في موضعها وإن يقبل على شأنه فيصلح حاله ظاهرا وباطنا بالسياسة البدنية ليتمكن من العروج في المعارج الروحانية وان يحفظ لسانه عن اللغو والمزخرفات الشيطانية قال أمير المؤمنين (عليه السلام) " إذا تم العقل نقص الكلام " (1) تفكره في الله يمنعه من الاشتغال بما لا يعنيه. * الأصل


1 - قوله (عليه السلام) " إذا تم العقل نقص الكلام " إن للانسان قوة تسمى بالمتخلية أو المتصرفة أو المتفكرة أو المتذكرة باعتبارات مختلفة وهي عند الحكماء قوة جسمانية يعنون ان النفس يحتاج في استخدامها إلى آلة جمسانية هي الروح المصبوب في التجويف الأوسط من تجاويف الدماغ وعملها التركيب والتفصيل في مخزونات الذهن أي في القوة الحافظة وممن يستعمل القوة المتخيلة كثيرا الشعراء إذ يتفحصون عن كل شئ وما يناسبه ويشابهه ويتتبعون صفاته ومحاسنه ومقابحه وعما يؤثر في نفوس السامعين من الشوق والنفرة وأمثال ذلك وهذا البحث البالغ عن مكنونات الخواطر لقوت من قوى الانسان يختلف فيها أفراد البشر ضعفا وشدة. ويستعملها أيضا المخترعون والمهندسون بجمع الاشكال وتفريقها ويستعملها العلماء والحكماء عند الاستدلال والتفكر في تهية المقدمات وتركيبها واستباط المجهولات من المعلومات بتفحص ما في حافظتهم ليجدوا ما ينفع في مقصودهم ويستعملها الناس جميعا لتذكر ما غاب عن ذهنم بتتبع ما أرتكر في خاطرهم حتى يتذكروا ما لم ينسوه وقد يتسلسل بسببها مكنوناتهم باختيارهم أو بغير اختيارهم خدمة لقوتهم المسماة بالواهمة وقد اشرنا إلى الواهمة. وعلى كل حال المتخيلة قوة جسمانية إذ يعرض بكثرة أعمالها الكلال والاعياء بل العجز وهذه من صفات الأجسام بخلاف العقل فإن لا يكل بتكثر المعقولات ولا يعجز عن حملها والعقل إذا تم وكمل منع بقاهريته جميع القوى عن الاسترسال فيما لا يفيده وأجبرها على خدمته فلا مجال لمنخيلة العقل إلا في التفكر الصحيح ولذلك قد تسمى متفكرة ولا يبقى لها فرصة لتركيب المفاهيم والمعاني واحضار مكنونات الخواطر مما لا يفيد فائدة أو يفيد ولو صرف النظر عن هذه النقصية والعيب فالكلام بنفسه دليل على العقل وأن صاحبه مدرك للكليات الالفاظ غالبا كليات ولذلك سمى ادراك الكليات نطقا ولا يتكلم الحيوان إذ لا يدرك الكلى بل إنما يتأثر حاسته من الموجودات الخارجية فقط ومن الله تعالى على الإنسان بتعليم البيان فمقصود الإمام (عليه السلام) نقص الكلام وفي الفضول وما يعني ولا ينفع أو يضر، وخلق الكلام ليكون معينا للعقل لاليمنعه عن وظائفه. (ش) (*)

[ 327 ]

21 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن علي بن الحسن بن رباط، عن بعض رجاله، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لا يزال العبد المؤمن يكتب محسنا مادام ساكتا، فإذا تكلم كتب محسنا أو مسيئا. * الشرح قوله (لا يزال العبد المؤمن يكتب محسنا ما دام ساكتا) لا سكوت المؤمن عما لا يعنى إحسان عظيم على نفسه بل على غيره.


[ 328 ]

(باب المداراة) * الأصل 1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ثلاث من لم يكن فيه لم يتم له عمل: ورع يحجزه عن معاصي الله وخلق يدارى به الناس وحلم يرده به جهل الجاهل. * الشرح قوله (ثلاث من لم يكن فيه لم يتم له عمل) العمل التام هو العمل الخالص الغير المشوب بشئ يوجب فساده أو نقصانه وهذه الثلاث أو لها ورع يحجزه عن معاصي الله إذ من لم يكن له ورع يصدر منه المعاصي كثيرا فلا يكون عمله تاما بل مختلطا وثانيها خلق يدارى به لنسا أي يلاطفهم ويلاينهم ويحسن صحبتهم ويحتمل منهم كيلا يتنفروا عنه، ومن لم يكن له هذا الخلق لم يتم له عمل إذا كثيرا ما يصدر منها المكاشفة والخشونة والمناقشة والمجادلة والمقاومة وهذه الامور توجب فساد عمله أو نقصانه، وثالثها حلم يرد به جهل الجاهل أي ملكة لا تنفعل بها النفس عما صدر من الجاهل من السفاهة والايذاء والاستخفاف والاضرار بل ترد بها جميع ذلك بالعفو عنه قال بعض الحكماء: موضعان لا اعتذر من العى فيهما إذا خاطبت جاهلا وإذا سألت حاجة ومن لم يكن له حلم يصدر منه مثل ما صدر من الجاهل فلا يكون عمله تاما أيضا. * الأصل 2 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن الحسين ابن الحسن قال: سمعت جعفرا (عليه السلام) يقول: جاء جبرئيل (عليه السلام) إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا محمد ربك يقرئك السلام ويقول لك دار خلقي. * الشرح قوله (دار خلقي) وإن كانوا كفارا كما دل على قوله تعالى * (وقولا له قولا لينا " ومن جملة المداراة والملاطفة واستجلاب طبايعهم إلى الحق وتأنيسهم به بالحكمة والموعظة الحسنة قليلا قليلا على سبيل التلطف لا دفعة لئلا تشمئز عنه قلوبهم ولا يتنفر عنه طباعهم ولو لم يمكن تأنيسهم به أما لغموضه بالنسبة إلى أفعالهم أو لقوة اعتقادهم الباطل ينبغي أن يحملهم عليه بالحيل والتدبير والمقدمات الخطابية حتى يرجعوا من الجهل المركب إلى الجهل البسيط ثم


[ 329 ]

يداويه. * الأصل 3 - عنه، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن محبوب، عن هشام بن سالم، عن حبيب السجستاني، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال في التوراة مكتوب - فيما ناجى الله عز وجل به موسى بن عمران (عليه السلام) -: يا موسى اكتم مكتوم سري في سريرتك وأظهر في علانيتك المداراة عني لعدوي وعدوك من خلقي ولا تستسب لي عندهم بإظهار مكتوم سري، فتشرك عدوك وعدوي في سبي. * الشرح قوله (اكتم مكتوم سرى في سريرتك) لعل المراد بالسريرة القلب والسر واحد الاسرار وهو ما يكتم، واسرار الحديث اخفاءه والإضافة من باب جرد قطيفة للمبالغة ثم أشار إلى بعض فوائد الكتمان وضرر نقيضه للترغيب فيه بقوله: (ولا تستسب لي عندهم باظهار مكتوم سرى فتشرك عدوك وعدوي في سبى) قال الله تعالى * (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم " وفيه ترغيب في المداراة مع الأعداء والملاطفة والملانية معهم سواء كانت العداوة في الدين أو الدنيا مثل الحقد والحسد وغيرهما لأن المداراة من جملة التدابيرات في دفع العداوة، ومن ثم قيل قمع الشر بالخير خير وبالشر شر ونهى عن المكاشفة بالسب والمخاصمة والمجادلة معهم فإن ذلك كثيرا ما يفضى إلى المعاملة بالمثل وسبهم لله تعالى أي لأوليائه كما دل عليه بعض الروايات وضياع الأموال وهلاك النفوس إلى غير ذلك من المفادس الكلية والجزئية فيتبدد به نظام العالم فينبغي أن يتفكر فيما يدفع به عداوته وكيده بقدر الامكان على ما تقتضيه الحكمة بحيث لا يكون مهيجا للشرو العداوة، وفيه دلالة على أن السبب للفعل كالفاعل له. * الأصل 4 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن محمد بن إسماعيل بن بزيع، عن حمزة بن بزيع، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أمرني ربي بمداراة الناس كما أمرني بأداء الفرائض. 5 - علي بن إبراهيم، عن هارون بن مسلم، عن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): مداراة الناس نصف الإيمان والرفق بهم نصف العيش ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): خالطوا الأبرار سرا وخالطوا الفجار جهارا ولا تمليوا عليهم فيظلموكم، فإنه سيأتي عليكم زمان لا ينجو فيه من ذوي الدين إلا من ظنوا أنه أبله وصبر نفسه على أن يقال [ له ]: أنه أبله لا


[ 330 ]

عقل له. * الشرح قوله (مداراة الناس نصف الإيمان والرفق بهم نصف العيش) لعل الوجه أن الإيمان عبارة عن توجه القلب إلى الله تعالى وترك التعرض لم عداه فإذا تحقق الأول تحقق نصف الإيمان وإذا تحقق الثاني بالمداراة تحقق نصفه الآخر إذ لولا المداراة لاشتغل القلب بوجوه مجادلتهم ومناقشتهم وأيضا الإيمان هو العقد والعمل، والعمل يتم بالمدارة والعيش يتحقق بوجود أسبابه ورفع موانعه ورفع الموانع يتحقق بالرفق ولين الجانب ورفض العنف إذ لو لا الرفق لتحقق موانع العيش من وجوه متكثرة وفسد نظامه فالرفق نصفه. قوله (لا ينجو من ذوي الدين إلا من ظنوا أنة أبله) لكون رسومه وعاداته خلاف رسومهم وعاداتهم من العنف والخشونة والمكر والغدر لزجر نفسه بالاداب الشرعية والأخلاق العقلية فظنوا أنه أبله لا عقل له ولا يفهم شيئا ومن عقله دينه أيضا أنه صبر نفسه إن يقال له أبله لا عقل له ولا يزعجه هذا القول عن شيمته ولا يخرجه عن سجيته، وصبر أما مجرد أو مزيد بالتثقيل، قال في المصباح صبر صبرا من باب ضرب حبست النفس عن الجزع وصبرت زيدا يستعمل لازما ومتعديا وصبرته بالتثقيل حملته على الصبر بوعد الاجرا وقلت له اصبر به. * الأصل 6 - علي بن إبراهيم، عن بعض أصحابه، ذكره، عن محمد بن سنان، عن حذيفة بن منصور قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن قوما من الناس قلت مداراتهم للناس فانفوا (1) من قريش وأيم الله ما كان بأحسابهم بأس وإن قوما من غير قريش حسنت مداراتهم فالحقوا بالبيت الرفيع، قال: ثم قال: من كف يده عن الناس فإنما يكف عنهم يدا واحدة ويكفون عنه أيدي كثيرة. * الشرح قوله (إن قوما من الناس قلت مداراتهم للناس فالقوا (2) ولعل المراد بالناس قريش ويحتمل الاعم ثم أشار مؤكدا بالقسم إلى أن ذلك الالقاء باعتبار فوات حسب انفسهم وماثرها إلا باعتبار فوات حسب آبائهم وماثر أسلافهم بقوله (وأيم الله ما كان باحسابهم بأس) الحسب بفتحتين ما يعده من مأثره وماثر آبائه والمراد به هنا مآثر الأباء وفيه تنبيه على أن المعتبر في شرف كل رجل إنما هو مآثر نفسه، ومن ثم قال الحكماء من فاته مآثر نفسه لم


1 - كذا ولعل الصحيح فنفوا. 2 - كذا ولعل الصحيح فنفوا. (*)

[ 331 ]

ينتفع بماثر أبيه، وايمن اسم استعمل في القسم والتزم رفعه كما التزم رفع لعمر والله وهمزته عند البصريين وصل واشتقاقه من اليمين وهو البركة وعند الكوفيين قطع لأنه جمع يمين عندهم وقد يختصر منه فيقال وايم الله بحذث النون وفيها لغات كثيرة وتفتح همزتها وتكسر ثم اختصر ثانيا فقيل م الله بضم الميم وكسرها وقيل ايم الله اسم برأسه موضوع للقسم. ولما ذكر حال هؤلاء اشار إلى حال من اتصف بالمداراة بقوله (وإن قوما من قريش حسنت مداراتهم فالحقوا بالبيت الرفيع) وهو بيت الشرف والمجد والطاعة والتقوى ومته قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) " سلمان منا أهل البيت " ومحال إن يريد به بيت النسبت لأنه منزه عن الكذب، وقوله اتبعوني تكونوا بيوتا أي تشرفوا وذلك لأن البيت في عرف اللغة يعبر به عن الشرف والمجد كما يقال البيت في بنى فلان أي الشرف والمجد فيهم، وإلى جميع ما ذكر أشرا أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله " رب بعيد أقرب من قريب وقريب أبعد من بعيد " ثم قال (من كف يده عن الناس فإنما يكف عنهم يد واحدة ويكفون عنه ايدي كثيرة) هذا مثل ما قال أمير المؤمنين (عليه السلام) " ومن يقبض يده عن عشيرته فإنما تقبض منه عنهم يد واحدة وتقبض منهم عنه ايدي كثيرة ومن تلن حاشيته (يعني جانبه) يستدم من قومه المودة " قال السيد رضي الدين رضى الله عنه وما أحسن هذا المعنى الذي اراده (عليه السلام) بقوله: " يقبض يده عن عشيرته - إلى تمام الكلام - فإن الممسك خيره عن عشيرته إنما يمسك نفع يد واحدة فإذا احتاج إلى نصرتهم واضطرا إلى مرافدتهم ومعاونتهم قعدوا عن نصره وتثاقلوا عن صوته واستغاثته فمنع ترافد الأيدي الكثيرة وتناهض الاقدام الجمة. وقال بعض الأفاضل تريره ان الإنسان لما كان انتفاعه بالايدي الكثيرة أتم وأولى بصلاح حاله من النفع الحاصل له بقبض يده عن النفع بها وجب عليه أن يستجلب بمديده بالنفع مد الايدي الكثيرة إلى نفعه والا لكان بسبب طلبه لنفع ما من امساك يدا والواحدة عنهم المستلزم لا مساك أيديهم الكثيرة عنه مضيعا على نفسه منافع عظيمة فيكون بحسب قصده لنفع ما مضيعا لما هو أعظم فيكون مناقضا لغرضه، وذلك جهل وسفه، وقوله " ومن تلن " من تمام تأديب الأغنياء لما يعود إليهم نفعه من التواضع ولين الجانب للخلق فاستدرجهم إلى التواضع بذكر ثمراته اللازمة عنه التي هي مطلوبة لكل عاقل وهي استدامة مودة الناس المستلزمة لنفعهم ولعدم مضرتهم المستلزمين لصلاح المتواضع فيما يقصده وبمثل ذلك أدب الله تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث قال: * (واحفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين " وظاهر أن غايته المذكورة وثمرته المطلوبة لا تحصل عند جفاوة الخلق والتكبر كما أشار إليه تعالى بقوله * (ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك ".


[ 332 ]

(باب الرفق) * الأصل 1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عمن ذكره، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبيه، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن لكل شئ قفلا وقفل الإيمان الرفق. * الشرح قوله (إن لكل شئ قفلا) أي حافظا له مانعا من ورود أمر فاسد عليه وخروج أمر صالح عنه من باب الإستعارة وتشبيه المعقول بالمحسوس لقصد الإيضاح. (قفل الإيمان الرفق) وهو لين الجانب والرأفة وترك العنف والجفاوة في الأفعال والأقوال على الخلق في جميع الاحوال سواء صدر منهم بالنسبة إليه خلاف الاداب أو لم يصدر وفيه تشبيه الإيمان بالجوهر والقلب بخزانته والرفق بالقفل لأنه يحفظه عن زواله منه وخروجه عنه وطريان مفاسده عليه. * الأصل 2 - وبإسناده قال، قال أبو جعفر (عليه السلام): من قسم له الرفق قسم له الإيمان. 3 - علي بن إبراهيم، عنه أبيه، عن صفوان بن يحيى، عن يحيى الأزرق، عن حماد بن بشير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله تبارك وتعالى رفيق يحب الرفق فمن رفقه بعباده تسليله أضغانهم ومضادتهم لهواهم وقلوبهم، ومن رفقه بهم أنه يدعهم على الأمر يريد إزالتهم عنه رفقا بهم لكيلا يلقي عليهم عرى الإيمان ومثاقلته جملة واحدة فيضعفوا فإذا أراد ذلك نسخ الأمر بالآخر فصار منسوخا. * الشرح قوله (إن الله تعالى رفيق يحب الرفق) (1)


1 - قوله " إن الله تعالى رفيق يحب الرفق " يدل على أن ملاك حسن الأخلاق وفضائل الملكات وجود مثلها أو ما يناسبها في صفات الله تعالى مثلا الله كريم يحب الكرم فالكرم من الملكات الفاضلة وحليم يجب الحلم، والجود حسن لأن الله جواد والسخاء حسنة وإن لم يوصف الله تعالى بالسخاء لكن وصفت بما يناسبها والشجاعة حسنة ولا يقال له تعالى شجاع لكن يتصف بعدم الخوف وهذا معنى ما قيل تخلقوا بالأخلاق الله تعالى وبالجملة هو الموجود الكامل الجامع لجميع الكمالات المنزه من جميع النقائص، وتحصيل كل كمال تشبه بالخالق تعالى وما يسلب عنه كالجسمية والمحسوسية والمكان والزمان والتركيب وأمثال ذلك من صفات النقص ويجب الترفع عنها على الإنسان بقدر استطاعته وهو معنى التقرب إلى الله وجعلة غاية = (*)

[ 333 ]

أيضا روى مسلم عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال " الله رفيق يحب الرفق، ويعطى على الرفق ما لا يعطى على العنف " قال القرطبي: الرفيق هو الكثير الرفق والرفق يجئ بمعنى التسهيل وهو ضد العنف والتشديد والتعصيب وبمعنى الارفاق وهو اعطاء ما يرتفق به وبمعنى التأني وعدم العجلة وصحت نسبة هذه المعاني إلى الله سبحانه لأنه المسهل والمعطى وغيره المعجل في عقوبة العصاة. اقول للرفق معنى آخر يصح له تعالى أيضا وهو أحكام العمل، قال في المصباح رفقت العمل من باب قتل أحكمته ومعنى يحب الرفق أنه يأمر به ويحض عليه ويريد وصدوره منهم ويثيبهم له ولما أشار إجمالا إلى أنه تعالى رفيق أشار إلى بعض جزئيات رفقه. (فقال فمن رفقه بعباده تسليله اضغانهم) السل والتسليل اخراج الشئ برفق تقول سللت السيف إذا أخرجته من غمده، والضغن الحقد والعداوة والبغضاء، تقول ضغن صدره ضغنا من باب تعب أي حقد، والاسم الضغن والجمع الاضغان مثل حمل وأحمال، ولعل المراد بتسليلها أخراجها بالرفق والتدريج عن قلبوبهم وتوفيقهم على دفعها باستعمال أسبابه وعدم تكليفهم به دفعة فإن دفعها دفعة صعب عليهم. (ومضادتهم لهواهم وقلوبهم) (1) والأسف على فوات الدنيا والغضب والغيظط والغرة وغيرها وبين القلوب العاقلة المقتضية للأخلاق الفاضلة مضادة ترديد كل واحدة الغلبة على الاخرى والله سبحانه لرفقه بهم أمرهم برفعها وإخراجها على سبيل التدريج لا دفعة لئلا يصعف ذلك عليهم. (ومن رفقه بهم أنه يدعهم على الأمر يريد إزالتهم عنه رفقا بهم لكيلا يلقى عليهم عرى الإيمان ومثاقلته جملة واحدة فيضعفوا فإذا أراد ذلك نسخ أمر بالآخر فصار منسوخا) عروة الكوز إذنه والجمع عرى مثل مدية ومدى وعروة الإيمان أحكامه وآثاره وخواصه على التشبيه بالعروة التي يتمسك بها ويستوثق فإن العبد باحكام الإيمان يحمله كما أن شارب الماء يحمل الكوز بعروته.


= للعبادات. (ش) 1 - قوله " ومضادتهم لهواهم وقلوبهم " الهوى هو القوة الواهمة وما يتفرع عليها كالشهوة والغضب والطيش، والقلب القوة العاقلة وما ينشعب منها كالحلم والرفق والتثبت والتؤدة وتلم يجعل الواهمة في الإنسان إلا لمصلحته ولو لم يكن الشهوة وحب المنافع لم يطلب الانسان الطعام والنكاح ولم يتحمل مشقة المكاسب وفسد العالم وخربت البلاد وزال العمران ولو لم يكن العقل واسترسل الناس في طلب شهواتهم واتبعوا عواطفهم مطلقا لم يترتب الغرض المقصود من خلقة الإنسان بل كانوا كسائر الحيوانات ونوعا من أنواعها فرفق الله بهم وجعل فيهم الهوى والقلب وسلط القلب أي العقل والقوة الناطقة على الهوى أي الوهم ليصلحه بالرفق والمداراة ولم ينزع العقل ولا الواهم عنهم حتى يقهرهم على الخير والشر رفقا بهم. (ش) (*)

[ 334 ]

ولعل المراد تعالى يعلم أن صلا العبادة في أمرين وأنه لوكفهم بهما دفعة وفي زمان واحد ثقل ذلك عليهم وضعفوا عن تحملهما فمن رفقه بهم أن يأمرهم بأحدهما ويدعهم عليه حينا، ثم إذا أراد ازالتهم عنه نسخ الأمر الأول بالأمر الآخر ليفوزوا بالمصلحتين وهذا وجه آخر للنسخ غير ما هو المعروف من اختصاص كل أمر بوقت دون آخر والله أعلم. * الأصل 4 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن محبوب، عن معاوية بن وهب عن معاذ بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (عليه السلام): الرفق يمن والخرق شوم. * الشرح قوله (الرفق يمن والخرق شوم (1) بالبناء للمفعول فهو ميمون ويمنه الله ييمنه يمنا من باب قتل إذا جعله مباركا، والخرق بالضم والسكون، اسم ضد الرفق يقال خرق خرقا إذا عمل شيئا فلم يرفق فيه فهو أخرق والانثى خرقاء مثل أحمر وحمراء وقد يفسر الخرق بالجهل لأنه ينشأ منه والشوم ضد اليمن ورجل مشوم أي شرير غير مبارك، وإنما كان الرفق يمنا لأنه منشأ لصحة النظام وسبب للخيرات وكل ذلك مبارك والخرق عكس ذل، فهو غير مبارك. * الأصل 5 - عنه، عن ابن محبوب عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن الله عز وجل رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق مالا يعطي على العنف. * الشرح قوله (ويعطى على الرفق ما لا يعطى على العنف) أي يعطي على الرفق في الدنيا من الثناء الجميل وفي الآخرة من الثواب الجزيل (2)


1 - " والخرق شوم " الخرق أيضا طيش وغضب وتسرع إلى الشر وهي من ولوازم القوة والواهمة وادارك مصاديق المعاني الجزئية وهي جسمانية بدليل أن غير العاقل يسترسل فيما يقتضيه هذه الحالات قهرا جبرا وقلنا أن الجسمانيات تترتب على أسبابها قهرا ولو لو كان العقل أيضا جسمانيا كان ترتب مقتضاه أيضا قهريا. (ش) 2 - قوه " وفي الآخرة من الثواب الجزيل " أصل الرفق ملكة تبقى مع بقاء النفس وهكذا كل ملكة لا يتوقف على آلة جسمانية مثلا ملكة الكتابة والنطق باليد واللسان لا تبقى عند زوال اليد واللسان وأما ملكة الإيمان والتقوى من صفات النفس لا باعتبار تعلقها فتبقى معها لعدم توقفها على الالات البدنية وسيجئ إن شاء الله اثبات بقاء النفس المجردة بملكاتها في موضع أليق. (ش) (*)

[ 335 ]

أن يوصل إليه بالرفلق والعنف فسلوك طريق الرفق أولى لما يحصل من الثناء على صاحبه وغير ذلك من منافعة التي لا تحصى. * الأصل 6 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عمر بن اذينة، عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الرفق لم يوضع على شئ إلا زانه ولا نزع من شئ إلا شانه. * الشرح قوله (أن الرفق لم يوضع على شئ الا زانه ولا نزع من شئ إلا شأنه) زانه من باب سار وزينه بمنى والإسم الزينة والزين نقيص الشين وشأنه من باب باع شيئا عابه، وهذا الحديث رواه مسلم بعينه عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) فهو متفق عليه بين الامة. * الأصل 7 - علي، عن أبيه، عن عبد الله بن المغيرة، عن عمرو بن أبي المقدام، رفعه إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إن في الرفق الزيادة والبركة ومن يحرم الرفق يحرم الخير. * الشرح قوله (أن في الرفق الزيادة والبركة) أي زيادة الرزق والبركة فيه أو زيادة الخير لكونه ذريعة إلى منافع الدنيا والآخرة ومستلزما للخصال المرضية والكمالات السنية بخلاف الخرق فإنه مع كونه نقصا في ذاته وتابعا للجهالات جالب للشرور ومانع من الخيرات. * الأصل 8 - عنه، عن عبد الله بن المغيرة، عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما زوي الرفق عن أهل بيت إلا زوي عنهم الخير. 9 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن إبراهيم بن محمد الثقفي، عن علي بن المعلي، عن إسماعيل بن يسار، عن أحمد بن زيادة بن أرقم الكوفي، عن رجل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: أيما أهل بيت اعطوا حظهم من الرفق فقد وسع الله عليهم في الرزق، والرفق في تقدير المعيشة خير من السعة في المال، وفي الرفق لا يعجز عنه شئ والتبذير لا يبقى معه شئ، إن الله عز وجل رفيق يحب الرفق. * الشرح قوله (أيما أهل بيت اعطوا حظهم من الرفق) أي رفق بعضهم ببعض أورفقهم بخلق الله (فقد وسع الله عليهم في الرزق) لأن الرفق أشد جاذب له وسبب لرفقه تعالى بهم في إيصاله وتسهيل


[ 336 ]

طرقه. وفيه ترغيب في إكتساب الرفق كما أن قوله (والرفق في تقدير المعشية) أي التوسط بين التقتير والتبذير (خير من السعة في المال) بلا تقدير المعيشة، ترغيب في اختيار التوسط في المعيشة وهي مكسب الإنسان الذي يعيش به وأشار إلى وجه ذلك بقوله (والرفق لا يعجز عنه شئ) أي الرفق في تقدير المعيشة لا يضعف ولا يقصر عنه شئ من المال لأن القليل من المال يكفي مع التقدير واقدر الضروري قد ضمنه العدل الحكيم ولابد من حصوله (والتبذير لا يبقى معه شئ) من المال كما هو المشاهد المجرب، ثم حث على الرفق مطلقا أو على الرفق في تقدير المعيشة بقوله (إن الله عز وجل رفيق يحب الرفق) لأنه أقوى سبب لبقاء نظام الكل والجزء المطلوب عقلا وشرعا. * الأصل 10 - علي بن إبراهيم رفعه، عن صالح بن عقبة، عن هشام بن أحمر، عن أبي - الحسين (عليه السلام): قال لي - وجرى بيني وبين رجل من القوم كلام فقال لي -: ارفق بهم فإن كفر أحدهم في غضبه ولا خير فيمن كان كفره في غضبه. * الشرح قوله (فإن كفر أحدهم في غضبه) الغضب كثيرا ما يفضى إلى الكفر بمعنى الإرتداد والجحود وأما الكفر بمعنى ترك المأمور به فهو لازم له قطعا. * الأصل 11 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن علي بن حسان، عن موسى بن بكر، عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) قال: الرفق نصف العيش. * الشرح قوله (الرفق نصف العيش) العيش الطيب يحصل بالكافر والرفق الموجب للتودد والتآلف فالرفق نصف العيش خصوصا مع الخدمة والعبيد والأهل، ومن الرفق بهم أن يصفح عن زلالتهم وأن يكلفهم دون طاقتهم وإن يطعمعم ويلبسعم ما يطعمه ويلبسه. * الأصل 12 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الله يحب الرفق ويعين عليه، فإذا ركبتهم الدواب العجب فأنزلوها منازلها، فإن كانت الأرض مجدبة فانجوا عنها وإن كانت مخصبة فأنزلوها منازلها. * الشرح


[ 337 ]

قوله (فإذا ركبتم الدواب العجب) الفرس الأعجف الضعيف المهزول والانثى العجفاء وتجمع على جعف كصماء على صم وعلى عجاف بالكسر على غير قياس لأن أفعل فعلاء لا يجمع على فعال، وإنما خص العجف بالذكر لأن رعياة حالها أهم والافالحكم - وهو قوله (فانزلوها منازلها) أي منازلها اللائقة بحالها من حيث الماء والكلاء - غير مختص بها لجريانه في غير المهزولة أيضا (فإن كانت الأرض مجدبة فأنجوا عنها) أجدب الأرض وجدها مجدبة لاعشب فيها ولا كلاء من الجدب وهو القحط، ونجا ينجو بالجيم إذا أسرع في السير ونجا من الأمر إذا خلص وأنجاه غيره. وفي طرق العامة عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) " إذا سافرتم في الجدب فإستنجوا أي أسرعوا في السير لتخلصوا منه ". وفي رواية اخرى لهم " فانجوا " كما نحن فيه (وإن كانت مخصبة فانزلوها منازلها) الخصب بالكسر النماء والبركة خلاف الجدب وهو إسم من أخصب المكان بالألف فهو مخصب وأخصب الله الموضع إذا انبت فيه الشعب والكلاء. * الأصل 13 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن عثمان بن عيسى، عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لو كان الرفق خلقا يرى ما كان مما خلق الله شئ أحسن منه. 14 - أبو علي الأعشري، عن محمد بن عبد الجبار، من إبن فضال، عن ثعلبة بن ميمون، عمن حدثه، عن أحدهما (عليه السلام) قال: إن الله رفيق يحب الرفق ومن رفقه بكم تسليل أضغانكم ومضادة قلوبكم وإنه ليريد تحويل العبد عن الأمر فيتركه عليه حتى يحوله بالناسخ كراهية ثتاقل الحق عليه. * الشرح قوله (ومن رفقه تسليل أضغانكم ومضادة قلوبكم) لعل المراد بمضادة القلوب ما يضاد الحكمة والأخلاق الفاضلة. وبالرفق في تسليلها الأمر بإزالتها تدريجا بالحمكة العملية والأداب الشرعية لادفعة فإن أزالتها دفعة صعب والله سبحانه لرفقه بعباده لم يكلف بها. قوله (وإنه ليريد تحويل العبد عن الأمر فيتركه عليه حتى يحوله بالناسخ كراهية تثاقل الحق عليه) لعل الكراهية علة لتحويله بالناسخ والحق الأمر المنسوخ ووجه التثاقل إن النفس يثقل عليها الأمر المكرر وتنشط بالأمر الجديد، أو علة لتحويله بالناسخ دون جمعه معه مع أن في كلا الأمرين صلاح العبد إلا أن الرفق يقتضى النسخ لئلا يتثاقل الحق عليه والله أعلم. * الأصل 15 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول


[ 338 ]

الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما اصطحب إثنان إلا كان أعظمهما أجرا وأحبهما إلى الله عز وجل أرفقهما بصاحبه. 16 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن حسان عن الحسن بن الحسين، عن الفضيل إبن عثمان قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: من كان رفيقا في أمره نال ما يريد من الناس. * الشرح قوله (من كان رفيقا في أمره نال ما يريد من الناس) لأن رفقه بهم يوجب ميل القلوب إليه والتألف والتودد بينهم وله مدخل عظيم لنيل المقصود منهم.


[ 339 ]

(باب التواضع) * الأصل 1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه عن هارون بن مسلم، عن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: أرسل النجاشي إلى جعفر بن أبي طالب وأصحابه فدخلوا عليه وهو في بيت له جالس على التراب وعليه خلقان الثياب قال (عليه السلام): فقال جعفر فأشفقنا منه حين رأيناه على تلك الحال، فلما رأى ما بنا وتغير وجوهنا قال: الحمد لله الذي نصر محمدا وأقر عينه، ألا ابشكم ؟ فقلت: بلى أيها الملك، فقال: أنه جاءني الساعه من نحو أرضكم عين من عيوني هناك فأخبرني أن الله عز وجل قد نصر نبيه محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهلك عدوه واسر فلان وفلان التقوا بواد يقال له: بدر كثير الاراك لكأني أنظر إليه حيث كنت أرعى لسيدي هناك وهو رجل من بني ضمرة فقال له جعفر أيها الملك فمالي أراك جالسا على التراب وعليك هذه الخلقان ؟ فقال له: يا جعفر إنما نجد فيما أنزل الله على عيسى (عليه السلام) أن من حق الله على عباده أن يحدثوا له تواضعا عند ما يحدث لهم من نعمة فلما أحدث الله عز وجل لي نعمة بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أحدثت لله هذا التواضع فلما بلغ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لأصحابه: إن الصدقة تزيد صاحبها كثرة فتصدقوا يرحمكم الله، وإن التواضع يزيد صاحبه رفعة، فتواضعوا يرفعكم الله، وإن العفوا يزيد صاحبه عزا، فاعفوا يعزكم الله. * الشرح قوله (قل أرسل النجاشي) النجاشي ملك الحبشة مخفف عند الأكثر (وعليه الخلقان الثوب) خلق الثوب بالضم إذا بلى وهو خلق بفتحتين والجمع خلقان وفي بعض النسخ " الثياب " والإضافه من باب جرد قطيفة (فاشفقنا منه) أي خفنا يقال أشفق منه إذا خاف واأشفق عليه إذا عطف عليه (عين من عيوني) العين الديبان والجاسوس (إلتقوا بواد يقال له بدر كثير الاراك) بدر موضع بين مكة والمدينة وهي إلى المدينة أقرب، ويقال هو منها على ثمانية وعشرين فرسخا، وعن الشعبي إنه إسم بئر هناك قال وسميت بدرا لأن الماء كان لرجل من جهينة إسمه بدر. والاراك شجر يستاك بقصبانه، الواحدة الاراكة ويقال هي شجرة طويلة ناعمة كثيرة الورق والاغصان خوارة العود ولها ثمر في عناقيد يسمى البرير يملاء العنقود الكف (لكأني انظر إليه حيث كنت أرعى لسيدي هناك) أي لكاني حاضر هناك انظر إليه وحيث تعليل لكاني أنظر إليه (أن من حق الله على عباده أن يحدثوا له تواضعا عن ما يحدث لهم من نعمة) كما ينبغي التواضع لله وهو إظهار الخشوع والخضوع والذل والإفتقار عند ملاحظة عظمته وجلاله كذلك ينبغي التواضع له عند التشرف بنعمة من نعمه


[ 340 ]

الدنيوية والاخروية جسمانية كانت أو روحانية والأول أفضل من الثاني لأنه تعالى إستحق الأول بالذات والثاني بالغير. (إن الصدقة تزيد صاحبها كثرة) أي كثرة أموال وأعوان في الدنيا وكثرة الاجر في الاخرة، ومن ثم قيل الصدقة ثمن نعيم الجنان وأجر خدم الخلد من الولدان (وإن التواضع يزيد صاحبه رفعة) أي التواضع لله وللمؤمنين يوجب رفع قدر صاحبه في الدنيا لميل القلوب إلى محبته وتعظيمة وتوقيره وشغل االالسنة بحسن ذكره وثنائه وتشهيره في الاخرة بعلو المرتبة والاجر الجميل وسمو المنزلة والثواب الجزيل (وأن العفو يزيد صاحبه عزا) لأن من عرف بالعفو ساد و عظم وعز في الدنيا والاخرة. وقد روى نظيره من طرق العامة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال " ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله ". * الأصل 2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن إبن أبي عمير، عن معاوية بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: إن في السماء ملكين موكلين بالعباد، فمن تواضع لله رفعاه ومن تكبر وضعاه. * الشرح قوله (فمن تواضع لله ورفعاه من تكبر وضعاه) دخل في التواضع لله الإمتثال بأوامره ونواهية آدابه وأخلاقه والخشوع له عند ملاحظة عظمته وإظهار ذل النفس والعجز عند مشاهدة نعمته، ولعل المراد بفعهما ووضعهما الدعاء بالرفع والوضع أو اعلام سائر الملائكة بأن فلانا رفيع القدر وفلانا وضيع القدر. أو رفع روح المتواضع ووضع روح المتكبر عند الموت. * الأصل 3 - إبن أبي عمير، عن عبد الرحمن بن الحجاج، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: أفطر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عشية خميس في مسجد قبا، فقال: هل من شراب ؟ فأتاه اوس بن خولي الأنصاري بعس مخيض بعس فلما وضعه على فيه نحاه، ثم قال: شرابان يكتفى بأحدهما من صاحبه، لاأشربه ولا احرمه ولكن أتواضع لله، فإن من تواضع لله رفعه الله ومن تكبر خفضه الله ومن إقتصد في معيشته رزقه الله ومن بذر حرمه الله ومن أكثر ذكر الموت أحبه الله. * الشرح قوله (بعس مخيض بعسل) أي ممزوج والعسل بالضم القدح الكبير والجمع عاس ككتاب، والمخيض فعيل بمعنى مفعول من مخضت اللبن مخضا من باب قتل وفي لغة من بابي ضرب ونفع إذا إستخرجت زبده بوضع الماء فيه وتحريكه (لاإشرابه ولا احرمه) دل على أن الإكتفاء بطعام واحد أولى من تناول الاطعمة الكثيرة الممزوجة وغيرها (ومن أكثر ذكر الموت أحبه الله) لأن ذكر


[ 341 ]

الموت يوجب ترك الدنيا والميل إلى الاخرة والقيام بوظائف الطاعات وتطهير الظاهر والباطن عن الأعمال والأخلاق الرذيلة وكل ذلك يثمر محبته تعالى. * الأصل 4 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الحسن بن علي الوشاء، عن داود الحمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، مثله. وقال: من أكثر ذكر الله أظله الله في جنته. * الشرح قوله (من أكثر ذكر الله أظله الله في جنته) أي من أكثر ذكر الله باللسان والجنان عند الطاعة والمعصية والبلية أدخله في جنته وأظله بأشجارها أو أوقع عليه ظل رحمته في جنته أو أدخله في كنفه وحمايته فإن الظل قد يكنى به عن الكنف والحماية كما يقال فلان في ظل فلان أو أقبل الله عليه حتى كأنه ألقى ظله عليه على سبيل التمثيل والظل يطلق على الإقبال كما يقال أظلك شهر رمضان. * الأصل 5 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن إبن فضال، عن العلاء بن زرين، عن محمد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يذكر أنه أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ملك فقال: إن الله عز وجل يخيرك أن تكون عبدا رسولا متواضعا أو ملكا رسولا، قال: فنظر إلى جبرئيل وأو مأبيده أن تواضع. فقال: عبدا متواضعا، رسولا فقال الرسول: مع أنه لا ينقصك مما عند ربك شيئا، قال ومعه مفاتيح خزائن الأرض. * الشرح قوله (قال ومعه مفاتيح خزائن الأرض) ضمير قال راجع إلى أبي جعفر (عليه السلام) وضمير معه إلى الملك الرسول، والمفتاح الذي يفتح به المغلاق والمفتح مثله وجمع الأول مفاتيح، وجمع الثاني مفاتح بغير ياء، ويمكن حمل مفاتيح خزائن الأرض على الحقيقة وعلى إستعارة لطيفة وذلك أن العجز وعدم التمكن والقدرة على إستيلاء أهل الأرض بخزائنها لما كان مانعا من ذلك شبهه بغلق المانع من الدخول في الدار بتناول ما فيها والقدرة والتمكن لما كان رافعا لذلك المانع شبه بالمفتاح. * الأصل 6 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من التواضع أن ترضى بالمجلس دون المجلس وأن تسلم على من تلقى وأن تترك المراء وإن كنت محقا أو


[ 342 ]

لا تحب أن تحمد على التقوى. * الشرح قوله (من التواضع أن ترضى بالمجلس دون المجلس) وأن إقتضى شرفك صدره كما روى ذلك في وصف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (وإن تسلم على من تلقى) أي على كل من تلقى وإن لم يكن من معارفك إلا ما إستثنى مثل الكتابي والشابة إلا أن تأمن من نفسك أن يدخل فيها شئ ومع ذلك فترك السلام عليها راجح لما يأتي في باب التسليم على النساء (وإن تترك المراء وإن كنت محقا) أي وإن تترك المجادلة والمنازعه مع الخلق والطعن في قولهم ولو كانت في الدرس والمسائل العلمية وإن كنت محقا إلا أن تريد الهداية والإرشاد مع لين القول فإنه أقوى في التأثير، وفي المصباح ماريته أماريه مماراة ومراء جادلته ويقال ما ريته أيضا إذا طعنت في قوله تزييفا للقول وتصغيرا للقايل ولا يكون المراء إلا إعتراضا بخلاف الجدال فإنه يكون إبتداء وإعتراضا (وأن لا تحب أن تحمده على التقوى) لأن حب ذلك من آثار العجب والإدلال والإعتقاد بخروج النفس عن حد التقصير، وكل ذلك مذموم مهلك وقد ذكر أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصف المتقين المتواضعين أنهم " لا يرضون من أعمالهم القليل ولا يستكثرون الكثير فهم لأنفسهم متهمون ومن أعمالهم مشفقون، إذا زكى أحد منهم خاف مما يقال له فيقول أنا أعلم بنفسي من غيري وربي أعلم مني بنفسي اللهم لا تؤاخذني بما يقولون وإجعلني أفضل مما يظنون إغفر لي ما لا يعلمون ". * الأصل 7 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن إبن أبي عمير، عن علي بن يقطين، عمن رواه عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: أوحى الله عز وجل إلى موسى (عليه السلام) أن يا موسى تدري لم إصطفيتك بكلامي دون خلقي ؟ قال: يا رب ولم ذلك ؟ قال، فأوحى الله تبارك وتعالى إليه يا موسى إني قلبت عبادي ظهرا لبطن، فلم وجد فيهم أحدا أذل لي نفسا منك، يا موسى إنك إذا صليت وضعت خدك على التراب - أو قال: على الأرض -. * الشرح قوله (إني قلبت عبادي ظهرا لبطن) في المصباح قلبته قلبا من باب ضرب حولته عن وجهه وقلبت الرداء حولته وجعلت أعلاه أسفله وقلبت الشئ للإبتياع قلبا أيضا تصفحة فرأيت داخله وباطنه وقلبت الأمر ظهر البطن إختبرته ". * الأصل 8 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن إبن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السلام): قال: مر


[ 343 ]

علي بن الحسين (عليه السلام) على المجذمين وهو راكب حماره وهم يتغدون فدعوه إلى الغداء، فقال: أما إني لولا أني صائم لفعلت، فلما صار إلى منزله أمر بطعام فصنع، وأمر أن يتفوقوا فيه، ثم دعاهم فتغدوا عنده وتغدي معهم. * الشرح قوله (مر علي بن الحسين (عليهما السلام) على المجذمين) وفي بعض النسخ " المجذومين " يقال رجل أجذم ومجذوم ومجذم إذ اتهافتت أطرافه بالجذام وهو داء يحدث من غلبة السوداء فيفسد مزاح الأعضاء وربما إنتهى إلى أن يأكلها ويأكل ما يوضع فيها والغرض من هذا الحديث هو إظهار تواضعه (عليه السلام) لله تعالى كما يفهم من قوله (وهو راكب حماره) أو للخلق المجذومين فكيف غيرهم كما يفهم من قوله في الاخر (وتغدى معهم) والتنوق نيك در نگريستن در كارى ونيكو ساختن، أو يقال شئ أنيق أي حسن معجب والظاهر أنه (عليه السلام) أكل معهم في أناء واحد وفيه دلالة على جوازه مصاحبة المجذوم ومعاشرته ومواكلته ويؤيده ما رواه المصنف في كتاب الروضة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال " إن اعرابيا أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال يا رسول الله أني أصيب الشاة والبقرة والناقة بالثمن اليسير وبها جرب فأكره شراءها مخافة أن يعدى ذلك الجرب أبلى وغنمى، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يا أعرابي فمن أعدى الأول ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا عدوى ولا طيرة - الحديث " يعني لاتجاوز العلة صاحبها إلى غيره ومثل هذه الرواية بعينها موجود من طرق العامة أيضا وهو ينافي الرواية المشهورة عندنا وعندهم وهي " فر من المجذوم فرارك من الأسد " فقيل للجمع بينهما أن حديث الفرار ليس للوجوب بل للجواز أو الندب إحتياطا خوف ما يقع في النفس من أمر العدو والسراية وحديث الأكل والمجالسة للدلالة على الجواز سيما إذا لم يوجس في النفس خوف العدو. ومما يؤيد ذلك ما روى من طرق العامة عن جابر أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أكل مع المجذوم فقال " آكل ثقة بالله وتوكلا عليه " ومن طرقهم أيضا أن إمرأة سألت بعض أزواجه (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الفرار من المجذوم فقال كلا والله وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا عدوى، وقد كان لنا مولى إصابه ذلك فكان يأكل في صحافي ويشرب من قداحي وينام على فراشي. وقال بعض العامة حديث الأكل ناسخ لحديث الفرار، ورده بعضهم بأن الأصل عدم النسخ على أن الحكم بالنسخ يقوفق على العلم بتأخر حديث الأكل وهو غير معلوم وقال بعضهم للجمع أن حديث الفرار على تقدير وجوبه إنما كان لخوف أن يقع في العلة بمشية الله فيعتقدان العدوى حق. أقول بقى إحتمال آخر لم يذكره أحد وهو تخصيص حديث لا عدوى بحديث الفرار مع حمل الفرار على الوجوب وأكل المعصوم معه لا يدل على جواز ذلك لغيره لعللمه بأن الله تعالى يحفظه عند تعدي العلة إليه، ثم لو قيل بوجوب الفرار فمنعه


[ 344 ]

من المسجد والإختلاط بالناس والدخول على الحمامات غير بعيد، وقال عياض: إذا كثر المجذومون فقال الأكثر يؤمرون أن ينفردوا في موضع (1) حوائجهم، وقيل لا يلزمهم الإنفراد ولم يختلف في القليل أنهم لا يمنعون ولا يمنعون من صلوة الجمة مع الناس ويمنعون من غيرها، ولو تضرر أهل قرية من جذماء يشاركونهم في الماء فإن قدروا على أن يستنبوطا ماء لأنفسهم فعلوا وإلا إستنبط لهم الاخرون أو يقيمون من يسقى لهم والأفهم أحق بنصيبهم. * الأصل 9 - عدة من أصحبانا، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن عثمان بن عيسى، عن هارون بن خارجة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن من التواضع أن يجلس الرجل دون شرفه. 10 - عنه، عن إبن فضال ومحسن بن أحمد، عن يونس بن يعقوب قال: نظر أبو عبد الله (عليه السلام) إلى رجل من أهل المدينة قد إشترى لعياله شيئا وهو يحمله، فلما رآه الرجل إستحي منه، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): إشتريته لعيالك وحملته إليهم أما والله ولو لا أهل المدينة لأحببت أن أشتري لعيالي الشئ ثم أحمله إليهم. * الشرح قوله (أما والله لو لا أهل المدينة لاحببت) وأنه إذ الامه أهل المدينة بذلك كان الأولى تركه والحوالة على غيره مع الإمكان. * الأصل 11 - عنه، عن أبيه، عن عبد الله بن القاسم: عن عمرو بن أبي المقدام، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: فيما أوحى الله عز وجل إلى دواد (عليه السلام) يا داود كما أن أقرب الناس من لله المتواضعون كذلك أبعد الناس


1 - قوله " يؤمرون إن ينفردوا في موضع " هذا طريقة يسلهكها أهل هذا الزمان والجذام مرض لم يهتد بعد إلى علاجه وينسبه اطباء عصرنا إلى جرثومة يسمونها " دهانسن " ولها قرابة مع جرثومة السل أعادنا الله منها ومن غيرها ولما أثبت التجربة سراية كثير من الأمراض ووردت أحاديث تدل على السراية تكلفوا التأويل ما ورد في نفيها مثل قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) " لا عدوى " بأن ليس المراد من العدوى السراية مطلقا با نحو منها كان يعقده الناس في الجاهلية، أو أنها العلة التامة لإيجاد المرض بحيث لو تجنب المرضى كان مصونا ولو لاقاهم إبتلى حتما وكان هذا سببا لاهمال المرضى وترك تمريضهم ورعايتم وعيادتهم وأما أن إعتقد السراية بمشية الله وتأثيرها في الجملة أن أراد الله فلا محذور فيه ولا يوجب ترك المرضى وإهمالهم، لأن إحتمال التضرر بنجاة الواقع في المهلكة لا يحمل النفوس الخيرة على أن يدعوا المرضى بل يحظرون بنفسهم لنجاتهم وإعانتهم. (ش) (*)

[ 345 ]

من الله المتكبرون. * الشرح قوله (كما أن أقرب الناس من الله المتواضعون) أي المتواضعون لله ولرسوله ولاولى الأمر وللمؤمنين الصالحين ولمن لا يعلم فسقه الموجب لإهانة الدين مع قصد وجه الله تعالى فلو تواضع أحد لغرض إشتهاره بهذه الفضيلة أو لامر دنيوي كان يتواضع أبناء الدنيا لدنياهم وإن لم يكونوا ظالمين فهو من المرائين، ومن ثم قال بعض الأكابر من التواضع أن يرى الرجل نفسه أدنى ممن دنياه أقل ليظهر أن الدنيا لاقدر لها عنده وأرفع ممن دنياه أكثر ليظهر أن لاقدر له عنده بسبب كثرة الدنيا والمراد بوقله إرفع ترك التواضع دون التكبر لأن التكبر مذموم مطلقا ثم الفرق بين المتواضع والمتكبر ظاهر لأن المتواضع في مقام الذل والخشوع والعبودية والمتكبر في مقام العلو والعتو والمضادة ومن البين أن قرب أحد المتقابلين بشئ يستلزم بعد الآخر عنه. * الأصل 12 - عنه، عن أبيه، عن علي بن الحكم رفعه إلى أبي بصير قال: دخلت على أبي الحسن موسى (عليه السلام) في السنة التي قبض فيها أبو عبد الله (عليه السلام) فقلت: جعلت فداك مالك ذبحت كبشا ونحر فلان بدنة ؟ فقال: يا أبا محمد إن نوحا (عليه السلام) كان في السفينة وكان فيها ما شاء الله وكانت السفينة مأمورة فطافت بالبيت وهو طواف النساء وخلى سبيلها نوح (عليه السلام)، فأوحى الله عز وجل إلى الجبال أني واضع سفينة نوح عبدي على جبل منكن، فتطاولت وشمخت وتواضع الجودي وهو جبل عندكم فضربت السفينة بجؤ جؤها الجبل، قال: فقال نوح (عليه السلام) عند ذلك: يا ماري اتقن، وهو بالسريانية [ يا ] رب أصلح، قال: فظننت أن أبا الحسن (عليه السلام) عرض بنفسه. * الشرح قوله (فطافت بالبيت وهو طواف النساء) ذكر أولا طواف البيت وذكر آخرا الجزء الاخير منه للدلالة على أنها أتت بجميع الأفعال حتى الجزء الاخير. (فتطاولت وشمخت) التطاول غلبه كردن بر يكديگر بدرازى، والشموخ بلند كردن وتكبر كردن وفعله من باب منع والجبل الشامخ المرتفع، ومنه قيل شمخ بأنفه إذا تكبر وتعظم وذلك لظن كل واحد من تلك الجبال نظرا إلى عظمة حجمه وزيادة عرضه وطول مقداره أنه ذلك الجبل الموعود. (وتواضع الجودي) نظرا إلى صغر حجمه وقلة عرضه وقصر مقداره وقطع الطمع من أن يكون هو ذلك الجبل الموعود مع وجود الجبال الشامخات. قيل هو جبل صغير كان في نجف أمير المؤمنين (عليه السلام) وقال صاحب القاموس هو جبل بالجزيرة إستوت عليه سفينة نوح (عليه السلام) وفيه دلالة على


[ 346 ]

أن للجبال نفوسا (1) نفوسا مدكرة حين الخطاب بعيد على أن الثاني لا ينافي القول بوجود النفوس لها والله أعلم، (فضربت السفينة بجؤ جؤها الجبل) في الجبل للعهد إشارة إلى الجبل الذي هو الجودي. والجؤ جؤ كهدهد الصدر (قال فظننت أن أبا الحسن (عليه السلام) عرض بنفسه) التعريض توجيه كلام إلى جانب وإرادة جانب آخر لم تذكره فالتعريض خلاف التصريح وهو (عليه السلام) أشار إلى تواضع الجودى، وما بلغه من تواضعه وأراد به تواضع نفسه المقدسة باحتقارها في ذبح الشاة فإن في ذبحها من إظهار العجز والإفتقار ما ليس في ذبح البدنة. * الأصل 13 - عنه، عن عدة من أصحابه، عن علي بن أسباط، عن الحسن بن الجهم، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: قال: التواضع أن تعطي الناس ما تحب أن تعطاه.


1 - قوله " على أن للجبال نفوسا " الذي هدى الناس إلى وجود النفوس ودعاهم إلى القول به في النبات والحيوان مشاهده أمور فيها لا يمكن أن ينسب إلى الطبيعة أي الصورة النوعية ألتي وجدوا مثلها في الجمادات لعدم كونها على نهج واحد فالشجر ينمو ويتفرع من أصله الأغصان والأوراق وفي كل واحد عروق كثيرة دقيقة وغليظه وله خشب وجلد وأزهار وثمار وبالجملة له آلات مختلفة متشتتة لاعلى نهج واحد لأفعال ووظائف مختلفة متجهة إلى مقصد واحد هو مصلحة الجملة والجمادات يترتب عليها آثار على نهج واحد ولو ضم جماد إلى جماد لم يتوجها إلى مقصد واحد في آثارهما ولم يعمل كل لمصلحة الاخر كما نرى في أعضاء النبات وآلاتها، بل يعمل كل المصلحة أفراد أخر كالات التناسل في الزهر والبذر لحفظ النوع قالوا فيوجد في النبات شئ هو مبدء لامور لا يوجد مثلها في الجماد وسموه نفسا وكذلك الحيوان والإنسان، وأما الأفلاك فرأوا فيها حركة مستديرة وإن لم يروا فيها ما في النبات الحيوان من الالات المختلفة فأثبتوا لها أيضا نفوسا إذ لا يمكن نسبة حركة مستديرة إلى طبيعة جمادية مثل من يرى رحى يدور بنفسه من غير أن يرى له مديرا من ماء وهواء وغيرهما ينسب دورانه قهرا إلى جنأو ملك أي إلى موجود حي غائب له إرادة، وأما الجبال فلم يروا فيها ما يستدل به على وجود النفس إذا رأوها كساير الجمادات. ولكن عدم الاثار والشواهد لا يدل على عدم النفس. وإنما الدلالة في الوجود فقط، مثلا وجود الدخان دليل وجود النار أما عدم الدخان فلا يدل على عدم النار، وعدم مشاهدة آثار النفس في الجبال لا يدل على عدم وجود موجود حي مدبر للجبال نظير تدبير نفس الشجر للشجر. نعم يمكن أن يضايق في إطلاق إسم النفس عليه ولكنه أمر إصطلاحي أو لغوى يمكن أن يتخلص عنه بأن يسمى شيئا آخر حتى لا يكون غلطا لغويا والعمدة إثبات وجود مدبر قاهر حي مريد لتدبير كل شئ، وإصطلاح الحكماء على أن يسموا مثله عقلا ولعل الملائكة الموكلين باجبال والرياح والامطار والرعد والبرق وغيرهما على ما أشير إليه في قوله تعالى " والمدبرات أمرا " هذه الموجودات الحية العاقلة المدبرة المسماة بالعقول والله أعلم بالحقيقة والغرض رفع الإستبعاد عن كلام الشارح وإثباته النفس للجبال. (ش) (*)

[ 347 ]

* الشرح قوله (قال التواضع أن تعطى الناس ما تحب أن تعطاه) أي تحب لهم ما تحب لنفسك وتكره لهم ما تكره لنفسك وتجعل نفسك ميزانا بينك وبين غيرك فتريد لغيرك كل ما تريده لنفسك ما الخيرات الدنيوية والاخروية ولا تريد لغيرك كل ما لا تريد لنفسك من القبائح والشرور وذلك من أعظم أفراد التواضع وذل النفس وصرفها عن هواها. * الأصل وفي حديث آخر قال: قلت: ماحد التواضع الذي إذا فعله العبد كان متواضعا ؟ فقال: التواضع درجات منها أن يعرف المرء قدر نفسه فينزلها منزلتها بقلب سليم. لا يحب أن يأتي إلى أحد إلا مثل ما يؤتي إليه، إن رأى سيئة درأها بالحسنة، كاظم الغيظ عاف عن الناس، والله يحب المحسنين. * الشرح قوله (فقال التواضع درجات) التواضع لله وللخلق درجات بإعتبار كمال النفس ونقصهما وتوسطها فمنها أن يعرف المرء قدر نفسه بالنسبة إلى ربه وخالقه ورازقه ومدبره فيقيمها في مقام طاعته ويبعدها عن مقام معصيته ويذكره في جميع الحالات بقلب سليم ذليل نقى منقاد، راضيا بجميع ما فعله فيه من البلاء والالاء وبالنسبة إلى الخلق يجعلها ميزانا بينه وبينهم فلا يجب أن يأتي إلى أحد إلا مثل ما يؤتي إليه فإن روي سيئة منهم بالنسبة إليه دفعها بالحسنة وهي العفو أو الاحسان وبالنسبة إلى الرب بالموعظة البالغة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الوجه المقرر.


[ 348 ]

(باب) (الحب في الله والبغض في الله) * الأصل 1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن عيسى، وأحمد بن محمد بن خالد، وعلي بن إبراهيم، عن أبيه، وسهل بن زياد جميعا، عن ابن محبوب، عن علي بن رئاب، عن أبي عبيدة الحذاء، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من أحب لله وأبضغ لله أعطى لله فهو ممن كمل إيمانه. * الشرح قوله (من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله فهو ممن كمل إيمانه) حث على محبة الأخيار وبغض الأشرار واعطاء المستحق من المال المكتسب من طريق الحلال، والأخيار منهم من تقدست أنفهسم بالطهارة الاصلية والنزاهة الخلقية عن الملكات الردية وهم الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) ومنهم من يطهر نفوسهم عنها بالعلم بقبحها والوعيدات الإلهية وهم التابعون لهم بالعلمو العمل ومحبة هؤلاء من توابع العلم والمعرفة ومحبته تعالى وكمال الإيمان والمحب من أولياء الله ومن ادعى المحبة بدون علم ومعرفة فهو جاهل مغرور يكذبه ما روي " ما اتخذ الله وليا جاهلا " وينبغي لمن أبغض في الله أن يجتنب عن الغيبة كما صرح به الشهيد الثاني رحمه الله حيث قال ان البغض في الله قد يؤدي إلى الغيبة وهو حرام وذلك بأن يبغض على منكر قارفه انسان فيظهر بغضه ويذكر اسمه على غير وجه النهي وكان الواجب أن يظهر يغضه عليه على ذلك الوجه وهذا مما يقع فيه الخواص أيضا فإنهم يظنون أن البغض إذا كان لله كان حسنا كيف كان، وليس كذلك. * الأصل 2 - ابن محبوب، عن مالك بن عطية، عن سعيد الأعرج، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من أوثق عرى الإيمان أن تحب في الله وتبغض في الله وتعطي في الله وتمنع في الله. * الشرح قوله (قال من أوثق عرى الإيمان) العروة الكوز ونحوه والمراد بها هنا الأحكام والأخلاق والآداب اللازمة للايما على سبيل المكنية والتخييلية أي كل عروة يتمسك بها متمسك رجاء نجاة من مهلكة أو ظفر بغنيمة ونعمة ومنزلة فأوثقها الحب في الله والبغض في الله والأعطاء في الله والمنع في الله لأن من تمسك بها تكامل إيمانه واستقام لسانه واستقر جنانه وبه يتحقق التودد والتآلف بين المؤمنين ويتم ويكمل نظام الدنيا والدين، وأما الحب لاجل المنفعة والاحسان فهو


[ 349 ]

وإن كان في غاية النقصان لتعلقه بالإخيار والاشرار ولكونه سريع الزوال وسقوط رتبته عن الحب في الله بهذا الاعتبار لكنه مستحسن عقلا ومطلوب شرعا لأن له مدخلا أيضا في تحقق التآلف والتمدن. * الأصل 3 - ابن محبوب، عن أبي جعفر محمد بن النعمان الأحوال صاحب الطاق، عن سلام بن المستنير، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ود المؤمن للمؤمن في الله من أعظم شعب الإيمان ألا ومن أحب في الله وأبغض في الله وأعطي في الله ومنع في الله فهو من أصفياء الله. * الشرح قوله (ود المؤمن للمؤمن في الله من أعظم شعب الإيمان) وددته أوده من باب تعب ودا بفتح الواو وضمها أحببته والإسم المودة. فسرت الشعبة بالخصلة وأصلها الطائفة والقطعة من الشئ وفي المصباح انشعبت أغصان الشجرة تفرعت عن أصلها وتفرقت ويقال هذه المسألة كثيرة الشعب أي التفاريع، والشبعة من الشجرة الغصن المتفرع منها والجمع الشعب مثل غرف والشعب من الشئ الطائفة منه والشعب بالكسر الطريق وقيل الطريق في الجبل. وفي الفائق الشعبة من الشئ ما تشعب منه أي تفرع كغصن الشجرة وشعب الجبل ما تفرق من رؤسها وعندي شعبة من كذا أي طائفة منه. إذا عرفت هذا فنقول للإيمان شعب كثيرة كالصلاة والزكاة والصوم والعقائد العقلية إلى غير ذلك من الأعمال والأخلاق والأداب الشرعية ومن أعظم ذلك ود المؤمن للمؤمن لحسن صورته الظاهرة بالأعمال الشرعية وصورته الباطنة بالأخلاق المرضية وكلما كانت الصور أحسن وأتم وجب أن يكون المودة أكمل وأعظم ولذلك وجب أن يكون المحبة للرسول وأئمة الدين والأوصياء الراشدين صلوات الله عليهم أجمعين في غاية الكمال ومن لوازم محبتهم متابعة أقوالهم وأعمالهم وعقائدههم وقوانينهم بقد الإمكان ثم بعد ذلك المحبة لاخوان الدين وخلص المؤمنين والعلماء والمتعلمين ومن آثراهم رعاية حالهم وتفقد أحوالهم واصلاح بالهم وقضاء حوائجهم والاهتمام بامورهم ومن داعى المحبة وليست له هذه الآثار فهو معدود من المنافقين والأشرار. * الأصل 4 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الحسن بن علي الوشاء، عن علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعه يقول: إن المتحابين في الله يوم القيامة على منابر من نور، قد أضاء نور وجوههم، ونور أجسادهم ونور منابرهم كل شئ حتى يعرفوا به، فيقال:


[ 350 ]

هؤلاء المتحابون في الله. * الشرح قوله (على منابر من نور) النور الضوء وهو خلاف الظلمة والظاهر أن المراد بالمنبر معناها المعروف (1) المراد بالنور الحقيقية إذا لتحابب من الأعمال الصالحة وهي على تفاوت مراتبها نور يم القيامة، وقوله (حتى يعرفوا) غاية لكونهم على منابر واضاءة نور وجوههم. * الأصل 5 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد، عن حريز، عن فضيل بن يسار قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الحب والبغض، أمن الإيمان هو ؟ فقال: وهل الإيمان إلا الحب والبغض ؟ ثم تلا هذه الآية * ( حبب إليكم الإيمان وزينه في وقلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان واولئك هم الراشدون) *. * الشرح قوله (قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الحب والبغض أمن الإيمان هو) أي عن حب علي (عليه السلام) وبغض عدوه، أو عن حب المؤمنين وبغض عدوهم، أو عن حب الخير والطاعة وبغض الشر والمعصية. والحصر في قوله (وهل الإيمان إلا الحب والبغض) للمبالغة لأن الإيمان بالشي لا يتحقق بدون حب ذلك الشئ وبغض ضده ولعل المراد بالإيمان في الآية على الإحتمال الأول على (عليه السلام) أو الإيمان به. وبالكفر والفسوق والعصيان الثالثة الغاصبون للخلافة، أو المراد بالكفر الإنكار والجحود ظاهرا وباطنا وبالفسوق الإنكار باطنا فقط وبالعصيان ترك متابعة السنة وعدم الامتثال بالأوامر والنواهي مع احتمال أن يراد بالإيمان الإيمان بالله وبرسوله وحججه (عليهم السلام). * الأصل 6 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن محمد بن عيسى، عن أبي الحسن علي بن يحيى


1 - قوله " المنابر معناها المعروف " ان قيل كيف يتعلق تشكيل النور في شكل مدرج وكيف يمكن أن يحبس جسم على نور ولا يسقط ؟ قلنا هذا سؤال راجع إلى عالم آخر وهو عالم القيامة ولا يقاس أحكام ذلك العالم على عالمنا هذا ولا يجب أن يثبت جميع أحكام الدنيا على الآخرة فلعل النور في ذلك العالم يتشكل كما أن العلم يتجسم والنية يتصور ويحشر الناس على صور نياتهم ولعل أجسام الآخرة لا يسقط ويتمكن على النور لأنها ليست ثقيلة، وإنما يضل الناس بقياس عالم على عالم وإثبات أحكام الدنيا على جميع العوالم ولو بنينا على ذلك لزم والعياذ بالله إنكار أكثر الروايات والأخبار الواردة في تفاصيل المعاد فإنها لا تنطبق على أجسام عالمنا هذا ولا يقدم عليه مسلم وأما تأويل المنبر بالدرجات المعنوية فلا ينافي ذلك. (ش) (*)

[ 351 ]

- فيما أعلم - عن عمرو بن مدرك الطائي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأصحابه: أي عرى الإيمان أوثق ؟ فقالوا: الله ورسوله أعلم، وقال بعضهم: الصلاة، وقال بعضهم: الزكاة وقال بعضهم: الصيام. وقال بعضهم: الحج والعمرة، وقال بعضهم: الجهاد، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): كل ما قلتم فضل وليس به ولكن أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله وتوالي أولياء الله والتبري من أعداء الله. * الشرح قوله (فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لكل ما قلتم فضل وليس به ولكن أوثق عرى الإيمان الحب في الله) الأعمال الظاهرة بمنزلة الصورة والأعمال القلبية بمنزلة الروح ونظر الصحابة تعلق بحسن الصورة وكمالها ونظر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تعلق بحسن الروح وكماله ولا شك في أن الحب في الله والبغض في الله والتولي لأولياء الله والتبري من أعداء الله من صفات القلب (1) جميع الخيرات والكمالات وبه يتحقق العروج (2) من الخير غالبا لئلا يقع فيما يفر منه ويبغضه، وبالجملة الأمال القلبية هي المصححة الظاهرة (3)


1 - قوله " من صفات القلب " القلب من اصطلاح كثير من علماء الأخلاق هو النفس الناطقة وصفات الإنسان وملكاته بما هو إنسان تنقسم إلى ما هي له بإعتبار أعضائه وجوارحه الجسمانية وليست هي الكمالات للنفس الناطقة التي توجب سعادتها في الآخرة وبعبارة اخرى ليست من صفات القلب، وإلى ما هي لها مع قطع النظر عن هذه الالات وهي التي تبقى وتوجب سعادتها ويهم علماء الأخلاق أن ينظروا في ذلك ويميزوا بينهما العلامات حتى لا يصرفوا عمرهم في تربية صفات وتكميل ملكات لا تفيد في الآخرة شيئا وهذه العلامات أما شرعية وهي ما ورد من أهل بيت العصمة (عليهم السلام) في المنجيات والمهلكات وأما عقلية اهتدى الناس إليها بعقلهم العملي على ما هو مذهبنا من أثبات الحسن والقبح والعقليين ويتطابق الشرع والعقل في ذلك. (ش) 2 - قوله " به يتحقق العروج " الإيمان أصله اعتقاد وتصديق ولكن لا يمكن انفكاك التصديق بالحقائق والإعتقاد بها عن بهجة للنفس واستحسان لها ولعل معنى الحب والبغض على ما يتبادر إلى ذهن العامة حالة جسمانية مادية توجب ضربان القلب وشحوب اللون واختلاط الذهن وأمثال ذلك ولذلك التزموا بكون إطلاقهما على الله مجازا كقوله تعالى " وإن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله " ولكن المراد هنا مطلق البهجة الذي لا يتوقف على هذه التغييرات الجسمية فإنها نواقص لا تناسب أجسام الآخرة ولا يطرى عليها شئ منها، وأما أصل البهجة وهي الحب الحقيقي فتبقى للمؤمن مع اعتقاده الحق. (ش) 3 - قوله " هي المصححة للأعمال الظاهرة " ولكن من الأسف أن كثيرا من الناس تكروا الأهم واشتغلوا بالمهم واعتمدوا على الأمارات الظنية وتركون الحقائق اليقينية مثل من يعتني في طلب العلم بتحصيل ورقة تدل على مقامه في العلم لأعلى العلم نفسه فربما تكون في يد من ليس له من العلم نصيب وربما لا يكون في يد العالم ورقة تصدق عمله، كذلك الأعمال الظاهرة أمارات ظنية على كمال نفساني ربما تتخلف. والعلم المتعلق بالأخلاق أشرف العلوم العملية. (ش) (*)

[ 352 ]

والأعمال الظاهرة أمارات ظنية على كمال فاعلها ومن ثم ورد في الروايات أن الثواب والعقاب على قدر العقول لأعلى الأعمال الظاهرة فلا ينبغي الغلو في تعظيم من حسنت أعماله الظاهرة إذ لعل الله تعالى يعلم من قلبه وصفا مذموما لا تصح معه تلك الأعمال ولا في تحقير من ضعف فيه بعض تلك الأعمال إذ لعل الله تعالى يعلم من قلبه وصفا محمودا يغفر له بسببه. * الأصل 7 - عنه، عن محمد بن علي، عن عمر بن جبلة الأحمسي، عن أبي الجارود، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): المتحابون في الله يوم القيامة على أرض زبر جدة خضراء، في ظل عرشه عن يمينه - وكلتا يديه يمين - وجوههم أشد بياضا وأضوء من الشمس الطالعة، يغبطهم بمنزلتهم كل ملك مقرب وكل نبي مرسل، يقول الناس: من هؤلاء ؟ فيقال: هؤلاء المتحابون في الله. * الشرح قوله (في ظل عرشه عن يمينه وكلتا يديه يمين) ظاهره أن له عرشا جسمانيا وإن أشرف طرفيه يمين والآخر يسار يستقر في الأول أفضل الخلايق وفي الآخر أدونهم فضلا وكلا الطرفين يمين مبارك يأمن من استقر فيها ولا بعد فيه كما أن له بيتا والإضافة للتشريف والتعظيم ويتحمل أن يراد بالرحمة ولها أفراد متفاوتة فاقواها يمين وأدونها يسار وكلاهما مبارك ينجو من أهوال القيامة ومثل هذا الحديث رواه العامة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال عياض ظاهره أنه سبحانه يظلهم حقيقة من حر الشمس ووهج الموقف وأنفاس الخلائق وهو تأويل أكثرهم قال بعضهم هو كناية عن كنهم وجعلهم في كنفه وستره، ومنه قولهم السلطان ظل الله وقولهم فلان في ظل فلان أي في كنفه وعزته، ويمكن أن يكون الظل هنا كناية عن االتنعم والراحة من قولهم عيش ظليل (يغبطهم بمنزلتهم كل ملك مقرب وكل نبي مرسل) الغبطة حسن الحال وهي إسم من غبطته غبطا من باب ضرب إذا تمنيت مثل ما ناله من غير أن تريد زواله عنه لما أعجبك منه وعظم عندك وهذا جائز فإنه ليس بحسد فإذا تمنيت زواله فهو الحسد وغبط الرسول ذلك لا يوجب أن يكون منزله دون منزلهم فإن ذا المنزل الشريق قد يعجبه منزل آخر دون منزله في الشرافة. * الأصل 8 - عنه، عن أبيه، عن النضر بن سويد، عن هشام بن سالم، عن أبي حمزة الثمالي، عن علي ابن الحسين (عليه السلام) قال: إذا جمع الله عز وجل الأولين والآخرين قام مناد فنادى يسمع الناس فيقول: أين المتحابون في الله، قال: فيقوم عنق من الناس فيقال لهم: إذهبوا إلى الجنة بغير حساب، قال: فتلقاهم الملائكة فيقولون: إلى أين ؟ فيقولون: إلى الجنة بغير حساب، قال: فيقولون: فأي ضرب


[ 353 ]

أنتم من الناس ؟ فيقولون: نحن المتحابون في الله، قال: فيقولون: وأي شئ كانت أعمالكم ؟ قالون: كنا نحب في الله ونبغض في الله قال: فيقولون: نعم أجر العاملين. * الشرح قوله (قام مناد فنادى يسمع الناس فيقول اين المتحابون في الله قال فيقوم عنق من الناس) العنق الجماعة والظاهر أن المنادي غيره تعالى ويفهم من طريق العامة ان المنادي هو الله سبحانه روى مسلم عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " إن الله جل وعلا يقول يوم القيامة أين المتحابون بجلالي اليوم أظلهم في ظلي يوم لاظل الأظلي " وقوله بحلالي أي بسبب تعظيم حقي وطاعتي وطلب رضاي لا لغرض آخر دنيوي هذا النداء نداء تنويه وأكرم. * الأصل 9 - عنه، عن علي بن حسان، عمن ذكره، عن داود بن فرقد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ثلاث من علامات المؤمن: علمه بالله ومن يحب ومن يبغض. * الشرح قوله (ثلاث من علامت المؤمن علمه بالله ومن يجب ومن يبغض) أي عمله بمن ينبغي أن يحبه ومن ينغي أن يبغضه فإن المؤمن يكمل إيمانه بهذه العلوم ويهتدي إلى خير وشره ونفعه وضره. * الأصل 10 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم وحفص بن البختري، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الرجل ليحبكم وما يعرف ما أنتم عليه فيدخله الله الجنة بحبكم وإن الرجل ليبغضكم وما عرف ما أنتم عليه فيدخله الله ببغضكم النار. * الشرح قوله (إن الرجل ليحبكم وما يعرف ما أنتم عليه فيدخله الله الجنة بحبكم) دل على أن الشيعة يدخل الجنة وكذا من أحبه وإن لم تكن أن أهل المعرفة لكن بشرط أن لا يكون من أهل الإنكار (1)


1 - قوله " لكن بشرط إن لا يكون من أهل الإنكار " قال المحقق الطوسي (قدس سره) في التجريد محاربوا على كفرة ومخالفوه فسقه، وقال العلامة (رضي الله عنه) في شرحه المحارب لعلى كافر لقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) " يا علي حربك حربي " ولا شك في كفر من حارب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأما مخالفوه في الأمانة فقد اختلف قول علمائنا فمنهم من حكم بكفرهم.... وذهب آخرون إلى أنهم فسقة وهو الأقوى ثم اختلف هؤلاء على أقوال ثلاثة أحدها أنهم مخلدون في النار لعدم استحقاقهم الجنة. الثاني قال بعضهم أنهم يخرجون من النار إلى الجنة، الثالث، ارتضاه ابن = (*)

[ 354 ]

على الظاهر، وأما دخول غير العارف والمبغض في النار قطعا بسبب البغض فلا ينافي دخوله فيما بسبب عدم المعرفة أيضا لأنه قد يكون للدخول فيها أسباب متعددة على أن عدم المعرفة المقرون بعد الإنكار لا يوجب الدخول فيها كما في المستضعف لأنه في المشية. * الأصل 11 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن ابن العرزمي، عن أبيه عن جابر الجعفي، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إذا أردت أن تعلم أن فيك خيرا فانظر إلى قلبك، فإن كان يحب أهل طاعة الله ويبغض أهل معصيته ففيك خير والله يحبك وإن كان يبغض أهل طاعة الله ويحب أهل معصيته فليس فيك خير والله يبغضك، والمرء مع من أحب. * الشرح قوله (والله يحبك) قيل أصل المحبة الميل وهو على الله سبحانه محال فمحبته للعبد رحمته وهداته إلى بساط قربه ورضاه عنه، وإرادته إيصال الخير إليه، وفعله له فعل المحب وبغضه سلب رحتمته عنه وطرده عن مقام قربه ووكوله إلى نفسه ونظير قوله " والمرء مع من أحب " موجود من طرق العامة أيضا روي مسلم " أن أعرابيا قال لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) متى الساعة ؟ فقال ما اعددت لها قال حب الله ورسوله قال أنت مع من أحببت " وفيه أيضا فضل حب الله وحب رسوله وحب الصالحين وأن محبهم معهم ولا يلزم كونه معهم أن يكون مثلهم في الدرجات واستحقاق الكرامات يظهر ذلك من قولنا لعبد زيد ادخل أنت مع سيدك في هذا المجلس فإن لزيد كانا فيه ولعبده مكانا آخر والظاهر أن مجرد المحبة يقتضى ذلك وإن لم يقرن مع العمل، يدل على ذلك حديث شاب كان


= نوبخت وجماعة من علمائنا أنهم يخرجون من النار لعدم الكفر الموجب للخلود ولا يدخلون الجنة لعدم الإيمان المقتضى لإستحقاق الثواب انتهى. وهنا سؤالان: الأول أن قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) " يا علي حربك حربي " رواية ربمما يكون محاربه (عليه السلام) غير عالم بصحتها فيكف يحكم بكفر من أنكر رواية لا يعلم صحتها، والجواب أن محارب علي (عليه السلام) كانوا معاصرين له (عليه السلام) وكانوا ممن أدركون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ورأوا عنايته به ومحبته له واعتماده عليه ولم يكن عداوتهم لعلي (عليه السلام) إلا لعدم إيمانهم بنبوته باطنا ولا يحتمل في حقهم الجهل بمقام علي عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). الثاني إن المستضعف الجاهل الذي لم يكن مقصرا كيف يحكم بفسقه، والجواب أن مقصود المحقق (رضي الله عنه) بيان الاعتقاد الذي يوجب الفسق من حيث هو اعتقاد ومعذورية القاصر الجاهل أمر آخر كما أن قول الله تعالى " الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة " لبيان اقتضاء هذا العمل ولا ينافي معذورية الزاني جهلا بالموضوع والمستضعف أن فرض وجوده بحيث يعذر العقلاء في مثله مجرميهم إذا جهلوا فالله تعالى أولى بأن يعذره. (ش) (*)

[ 355 ]

يحب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كثير، فلما فقده النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أياما سأل عنه فقال بعض الحاضرين أنه مات وطعنه بأنه كان مراهقا يتبع ادبار النساء فرحمه (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال " والله لقد كان يحبني حبا لو كان نخاسا غفر الله له (1) * الأصل 12 - عنه، عن أبي علي الواسطي، عن الحسين بن أبان، عمن ذكره، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لو أن رجلا أحب رجلا لله لأثابه الله على حبه إياه وإن كان المحبوب في علم الله من أهل النار، ولو أن رجلا أبغض رجلا لله لأثابه الله على بغضه إياه وإن كان المبغض في علم الله من أهل الجنة. * الشرح قوله (لو أن رجلا أحب رجلا لله لاثابه الله) وذلك لأن حبه وبغضه إياه لله راجعان إلى حب طاعة الله وبغض معصيته وهما من جملة الأعمال القلبية الصالحة المقتضية للثواب الجزيل. * الأصل 13 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن عيسى، عن الحسين بن سعيد، عن النضر ابن سويد، عن يحيى الحلبي، عن بشير الكناسي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قد يكون حب في الله ورسوله وحب في الدنيا فما كان في الله ورسوله فثوابه على الله في الدنيا فليس بشئ. * الشرح قوله (قد يكون حب في الله ورسوله وحب في الدنيا الخ) والأول كحب الأخيار والعلماء العباد والزهاد والصلحاء لأجل إرشادهم وهدايتهم وعبادتهم وصلاحهم وزهادتهم فإنه لمحض التقرب من الله وطلب رضاه، والثاني كحب رجل لنيل الإحسان والجاه والمال منه فإنه لاغراض دنيوية داثرة مثل الدنيا فليس بشئ يعتد به. * الأصل 14 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن عثمان بن عيسى، عن سماعة بن مهران، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن المسلمين يلتقيان، فأفضلهما أشدهما حبا لصاحبه. * الشرح قوله (إن المسلمن يلتقيان فافضلهما اشد هما حبا لصاحبه) أي أفضلهما ثوابا وقربة ومنزلة عند الله تعالى اشدهما حبا لصاحبه في الله لا في الدنيا فإنه ليس بشئ يعتد به كما مر.


1 - قوله " لو كان نخاسا غفر الله له " النخاس بايع العبيد والاماء ليس نفس عمله حراما ولا التمتع بالجواري ان كن ملكا له ولكن كثيرا منهم كانوا دلالين يبيعون امام غيرهم ويتمتعون بها من غير وجه محلل. (ش) (*)

[ 356 ]

* الأصل 15 - عنه، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، وابن فضال، عن صفوان الجمال: عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما التقى مؤمنان قط إلا كان أفضلهما أشدهما حبا لأخيه. 16 - الحسين بن محمد، عن محمد بن عمران السبعي، عن عبد الله بن جبلة، عن إسحاق بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كل من لم يحب على الدين ولم يبغض على الدين فلا دين له. * الشرح قوله (فلا دين له) أي على وجه الكمال، أو على نفي الحقيقة إن كان مستخفا والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من المحبة على الدين.


[ 357 ]

(باب ذم الدنيا والزهد فيها) * الأصل 1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن الهيثم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من زهد في الدنيا أثبت الله الحكمة في قلبه وأنطق بها لسانه وبصرة عيوب الدنيا داءها ودواءها وأخرجه من الدنيا سالما إلى دار الإسلام. * الشرح قوله (من زهد في الدنيا) زهد في الشئ وعن الشئ زهدا وزهادة إذا رغب عنه ولم يرده ومن فرق بين زهد فيه وعنه فقد أخطأ كذا في المغرب، وقال صاحب العدة إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سأل جبرئيل (عليه السلام) عن تفسير الزهد فقال جبرئيل (عليه السلام) الزاهد يحب من يحب خالقه ويبغض من يبغض خالقه ويتحرج من حلال الدنيا ويلتفت إلى حرامها فإن حلالها حساب وحرامها عقاب ويرحم جميع المسلمين كما يرحم نفسه ويتحرج من الكلام فيما لا يعينه كما يتحرج من الحرام ويتحرج من كثرة الأكل كما يتحرج من الميتة التي قد اشتد نتنها ويتحرج من حطام الدنيا وزينتها كما يتجنب النار أن يغشاها وأن يقصر أمله وكما بين عينيه أجله. وروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أن الزهد قصر الأمل وتنقية القلب وأن لا يفرح بالثناء ولايغتم بالذم ولا يأكل طعاما ولا يشرب شرابا ولا يلبس ثوبا حتى يلعم أن أصله طيب وأن لا يلتزم الكلام فيما لا يعنيه وأن لا يحسد على الدنيا وأن يحب العلم والعلماء وأن لا يطلب الرفعه والشرف، وقال بعض العلماء أصل الزهد أربعة أشياء الحلم في الغضب، والجود في القلة، والورع في الخلوة، وصدق القول عند من يخاف منه أو يرجو. وقال بعض الأكابران الزهد ثلاثة أحرف زاى وهاء ودال فالزاي ترك الزينة، والهاء ترك الهواء، والدال ترك الدنيا وينبغي أن يعلم أن الزهد في الدنيا والصبر والشكر والتوبة والخوف والرجاء والمحبة والتوكل والرضا وغيرها من الفضائل النفسانية والخصائل الروحانية صفات للنفس وحالات لها حصولها تابع لحصول الحكمة أعنى العلم بالدين ثم أن حصول هذه الأمور ورسوخها سبب لبقاء الحكمة وإستقرارها وثباتها وزيادتها كما قال (عليه السلام) " من زهد في الدنيا أثبت الله الحكمة في قلبه " من الأثبات بالثاء المثلثة أو بالنون فمن أعظم مكارم الصالحين وأجل صفات العارفين الزهد في الدنيا والرغبة فيما عند الله كما أن من إشنع صفات المنافقين وأقبح سمات الغافلين الرغبة في الدنيا والإعراض عما عند الله وعن أحوال الاخرة. والأصل في الأول العلم بأن الدنيا ولذاتها أمتعة باطلة زائلة. والأصل في الثاني الجهل بذهابها وفنائها وبثبات الاخرة وبقائها، قال الله تعالى في وصف


[ 358 ]

الفريقين " فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحيوة الدنيا ياليت لنا مثل ما اوتي قارون أنه لذوحظ عظيم وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون " فانظر كيف نسب الرغبة في الدنيا على الآخرة " ويفهم منه وصف المؤمنين وهو أنهم يستحبون الحياة الاخرة على الحيوة الدنيا وقال في وصف المؤمنين * (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام " وقد سئله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن معنى هذا الشرح فقال " أن النور إذا دخل القلب إنشرح له الصدر وإنفتح، فقيل يارسول الله هل لذلك علامة ؟ قال نعم (1) والإنابة إلى دار الخلود والإستعداد للموت قبل نزوله " فإنظر كيف جعل الزهد وهو (التجافي عن دار الغرور شرط الإسلام وعلامة نور القلب وإنشراح الصدر. ثم الكلام هنا في نفس الزهد وفيما يرغب عنه وفيما يرغب فيه أما الأول فدرجاته ثلاثة: الدرجة السفلى أن يزهد في الدنيا ويتركها وهو له مشقة ونفسه إليها مائلة ولكن يجاهدها ويمنعها عن التوجه إليها وهذا شبيه بامتزهد بل سماه بعض أهل التحقيق به، والدرجة الوسطى أن يتركها طوعا بلا مشقة لإستحقاره إياها بالإضافة إلى ما طمع فيه كمن يترك درهما لدارهم كثيرة فإنه لا يشق عليه ذلك وإن إحتاج إلى إنتظار ما ولكن يرى هذا زهده ويظن أنه ترك شيئا له قدر لأجل ما


1 - قوله " هل لذلك علامة قال نعم " أهل الدنيا لا يهتمون إلا بها وهم غافلون عن الاخرة وجميع أفعالهم وحركاتهم وعلومهم وهممهم وكل شئ منهم مصروفة إلى الدنيا فيعتنون بسلامة بدنهم ولذات أجسامهم أكثر من الإعتناء بأخلاقهم وملكاتهم ويختارون من العلوم ما يستفاد منها في الحياة الدنيا كما يتعلق بالطب والزراعة والتجارة والصنائع الدنيوية لا الفقة والأخلاق والإعتقادات في المبدء والمعاد والسعيد عندهم من تهيأ له وسائل العيش لامن تخلق بالأخلاق الفاظلة ومن حصل على جاه عريض وشهرة فائقة أشرف عندهم من الخامل المستريح من الناس المأمونين من أذاه والرجل الخير من سهل للناس وسائل عيشهم الدنيوي كمخترعي الصنائع وعلامة أهل الاخرة كما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) " التجافي عن الدار الغرور " والتباعد عما يهتم أهل الدنيا به ولما كان الحس من النعم ألتي أعطاها الله الإنسان لمصلحة دنياه وهو متعلق بجوارحه البدنية كان أهم عند هؤلاء من العقل مع أن الحواس كلها وما يتعلق بها من دار الغرور، أما الحواس الظاهرة فمعلوم أنها قوي في جسم تتفرق وتتلاشي وأما الحواس الباطنة فمنها الحس المشترك وهو تابع للحواس الظاهرة، وأما الواهمة فهي قوة تحصل بها للحيوان مصاديق معادن غير محسوسة بالحواس الظاهرة فيحب أولاده ويتنفر من عدوه، ومثل ذلك من حالات تعرض في بدن الحيوان الذي له عصب ودماغ، وأما الحافظة فإعتياد حاصل للأعصاب بكثرة الممارسة كاعتياد اللسان قراءة قصيدة. أو آية حفظها إذا شرع فيها جرى على لسانه إلى آخرها وكإعتياد الكتابة فإنها ملكة في أعصاب اليد تحصل بالتمرين فيكتب الخط الحسن بأنواعه وكذلك تحصل مثل هذا الإعتياد في الدماغ فيجدد صورة سبقت له مرة أو مرات وهو معنى التذكر. والمتخلية كذلك جسمانية إذا يعرض لها بكثرة إستعمالها لها الكلال وليس عروض الكلال إلا للجسم وإنما يبقى العق لعدم تعلقه بجسم وهو متجاف عن دار الغرور مع كل ما يتفرع عليه. (ش) (*)

[ 359 ]

هو أعظم منه والدرجة العليا أن يتركها طوعا ويزهد في زهده ولا يظن أنه ترك شيئا لعلمه بأن الدنيا لا شئ كمن ترك قذرة لأجل جوهر ثمين فإنه لا يرى أن ذلك معاوضة ولايرى أنه ترك شيئا، فإن الدنيا بالقياس إلى الاخرة أخس من قذرة بالقياس إلى جوهر ثمين وهذا هو الزهد الحقيقي وسببه كما المعرفة بخسة الدنيا وكما الاخرة، وأما الثاني فدرجاته أيضا ثلاثة الدرجة السفلى أن يترك المحرمات الشرعية والأعمال القبيحة، والدرجة الوسطى أن يترك مع ذلك الرذائل النفسانية مثل الشهوة والغضب والكبر وحب الرئاسة وأمثالها، والدرجة العليا أن يترك جميع ما سول الله جل شأنه وهو في هذه الدرجة يزهد في نفسه أيضا ولا ترى في الوجود إلا هو وهو معنى الوحدة. وأما الثالث فدرجاته أيضا ثلاثة الدرجة السفلى أن يكون الغرض من زهده هو النجاة من النار ومن سائر الالام كعذاب القبر مناقشة الحساب وخطرات الصراط وبواقي الأهوال المتعلقة بالقيامة، والدرجة الوسطى أن يكون الغرض مع ذلك الرغبة في ثواب الله ونعيم الجنة وللذات الموعودة مثل الحور والقصور وغيرها، والدرجة العليا أن لا تكون له رغبة إلا وجه الله ولقاء ولا يلتفت إلى سواه وهذا زهد المحبين ورغبة العاشقين (1)


1 - قوله " ولا يلتفت إلى سواه زهد المحبى " ربما يختلج في أذهان سفلة الناس أن المحروم من لذة الأكل والنكاح محروم من السعادة ويلزم من ذلك أن تكون الملائكة المقربون والأرواح المقدسة القدسية أنقض من الحيوان في اللذات والسعادات بل ربما يتوهم بعض المتفلسفين أن علم هؤلاء المقربين أنقض من علوم الحيوانات العجم في الكيفية لأن المحسوسات إنما ترك بآلات مادية مركبة من هذه العناصر الأربعة وليس لهم حواس بهذه الصفة فلا يدركون النور والألوان وجمال الطبيعة وزينتها والاصوات وغير ذلك وفاق عليهم الحيوان والإنسان بهذه المزية ولو كان صحيحا لكان الواجب تعالى أيضا مثلهم في ذلك وكيف يتوهم عاقل أن من خلق طبقات العين وشكل الجليدية ولون العنبية وركب عليها الأشفار والحواجب لا يكون عالما بالنور وخواصه وهكذا ساير الأعضاء. والصحيح أن إدراك الأشياء لا يتوقف على وجود جسم ومادة تتأثر بل هي مانعة عن الإدراك ذاتا ولكن الله تعالى لما قدر ترقى الوجود من أسفل مراتبه وهو المادة إلى أعلى درجاته وهو العقل فلم يكن بدمن أن يمر في طريقه على مادة يأخذ طرفا من الإدراك فصار حيوانا وإنسانا وهو منزل بين عدم الإدراك المادي والإدراك الكامل العقلي فيترقي تدريجا في الإدراك ويضعف في المادية فيصير إدراكا صرفا يجتمع فيه جميع السعادات إذ ما من كمال ولذة وبهجة إلا وسببها الإدراك ولا يعقل أن يكون الزاهد المعرض عن الدنيا السافلة المقبل بكليته إلى أشرف الموجودات وأعزها وأكلهما وإدراك عين الكمال أدون في السعادة والبهجة من المنهمك في الشهوات خصوصا مع مشاهدة أمارات الخلود والبقاء والأمن من الموت الذي هو أشد المخاوف على الإحياء والإنسان إذا إرتقى إلى مقام التحقق بالعقل ليس كمن كان في بيت له شبابيك من الحواس يطلع منها على الأشياء ثم حبس وسد عليه تلك الشبابيك ومنع من إدراك الموجودات بل بمنزلة من يخرق حواجب المكان والزمان ويحضر عند كل شئ وفق لإدراكه والإتصال به وبالجملة يوجد للنفوس الناطقة بد لا عن الحواس المادية ما يدرك بها الأشياء أكمل مما كانت تدركه كما ينفتح للنائم عين = (*)

[ 360 ]

الثلاثة الأخيرة حصل سبعة وعشرون نوعا متفاوت المراتب والدرجات ويندرج تحت كل نوع أشخاص وجزئيات غير محصورة والله ولى التوفيق، وقد أشار (عليه السلام) إلى بعض آثار الزهد ولوازمه بقوله (أثبت الله الحكمة في قلبه) حتى يصير قلبه نورا إلهيا وضوءا ربانيا ينقطع عن التعلقات الناسوتية لمشاهدة جمال إسرار الغيبية اللاهوتية. (وإنطق بها لسانه) حتى يقول الحق ويشرد إليه ويصمت عن الباطل ويخوف عليه. (وبصرة عيوب الدنيا داءها ودواءها) أما عيوبها فهي إنها دار بالبلاء محفوقة وبالغدر معروفة وبالفناء موصوفة لا تدوم أحوالها ولا يسلم من الافات نزالها أحوالها مختلفة وأوضاعها مبتدلة ونعمها منصرمة، العيش فيها مذموم والأمان فيها معدوم والطالب لها مغموم وأهلها إعراض مستهدفة ترميم بسهامها وتفنيهم بحمامها، وأما داءها فهو الغفلة عن الحضرة الربوبية والإستحقاق للعقوبة الدنيوية والاخروية، وأما دواؤها فهو تنزيه النفس عن الميل إلى زهراتها والرغبة في قنياتها والعبرة بأحوال الماضين والإتعاظ بأوضاع السابقين حيث كانوا أطول أعمارا وأعمر ديارا وأبعد آثارا وأشد قوة وأكثر أعوانا فقد صارت أصواتهم هامدة ورياحهم راكدة وأجسادهم بالية وديارهم خالية وآثارهم عافيه فإستبدلوا بالقصور المشيدة والنمارق الممهدة الصخور والأحجار المندة والقبور الاصقة اللاطئة والعجب إن المؤمن يعلم أن الأمراض الروحانية ليست بأهون من الأمراض الجسدانية وهو يسعى في دفع هذه الأمراض بقدر الإمكان ويغفل عن دفع الاولى ويضعها في زاوية النسيان، ومن الله التوفيق والتكلان (وأخرجه من الدنيا سالما) (1)


= ينظر بها بعد سلب العين الظاهرة وليس هذا ممتنعا في قدرته تعالى وليس إدراك الإنسان بعد الموت منحصرا في المطالعة خيالاته المحفوظة في ذهنه. (ش) 1 - قوله " وأخرجه من الدنيا سالما " يدل الحديث بسياقة على أن السلامة عند الخروج من الدنيا إنما هي بسبب بصيرة الرجل على عيوب الدنيا وثبات الحكمة في عقله وأن العقل لا يكمل إلا بالزهد والحكمة لا تثبت إلا بالعقل وليس خلق العقل لعمران الدنيا وإلا لم يكن يكمل بالزهد، بل كان يكمل بالحرص كما يكمل الجزبزة والمكر به. ويهمنا هنا بيان شيئين الأول أن العقل أو القلب أو النفس الناطقة - وكل ما شئت فسمه - موجود جوهري مستقل عند البدن بنفسه وليس من أجزاء هذا الدنيا وإعراضها بل هو من عالم آخر ومن سنخ الملائكة المدبرة والعقول القدسية العالمة بجميع الأشياء والمطلعة على الغيوب ألتي ترتبط نفوس الإنسان معها في الرؤيا الصادقة على ما سبق. والثاني أن الموجود الجوهري باق ببقاء علته ولا ينفي أبدا إلا أن ينفي علته وليس كالإعراض والتركيبات ألتي تنفي مع بقاء علتها الفاعلة بتلاشي أجزائها وتفكك عناصرها - قال المحقق الطوسي في التجريد: والسمع دل عليه يعني على العدم. وقال العلامة - (رحمهم الله). في شرحه يدل على وقوع العدم السمع وهو قوله تعالى " هو الأول والآخر " وقوله تعالى " كل شئ هالك إلا وجهه " وقال تعالى " كل من عليها فان " وقد وقع الإجماع على الفناء وإنما الخلاف في كيفيته على ما سيأتي، وقال المحقق = (*)

[ 361 ]

والنواقص في اليقين (إلى دار السلام) وهي الجنة ألتي أعدت للمتقين. * الأصل 2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، وعلي بن محمد القاساني، جميعا، عن القاسم بن محمد، عن سليمان بن داود المنقري، عن حفص به غياث، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: جعل الخير كله في بيت وجعل مفتاحه الزهد في الدنيا ثم قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا يجد الرجل حلاوة الإيمان في قلبه حتى لا يبالي من أكل الدنيا ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): حرام على قلوبكم أن تعرف حلاوة الإيمان حتى تزهد في الدنيا. * الشرح قوله (جعل الخير كله في بيت وجعل مفتاحه الزهد في الدنيا) وبحكم المقابلة جعل الشركله بيت وجعل مفتاحه الرغبع في الدنيا وهذا التمثيل لقصد الإيضاح والتحقيق دون المبالغة لأن كل ما ينبغي أن يتصف به الإنسان من العقائد والأخلاق والاداب والأعمال ألتي بينها الصادقون ورغبوا فيها فهو الخير والمندرج في ترك الدنيا ورفض الميل إليها والتعلق بها وكل ما ينبغى أن يتنزه عنها فهو اشر والمندرج في ترك الدنيا والرغبة فيها يحكم بذلك صريح العقل بعد التأمل فيما يصدر عن الإنسان فان كل ما يصدر عته فالغرض منه أما حب الدنيا كالبخل والحرص والحسد والكبر وترك الزكاة لجمع المال وترك الصلاة لحب الراحة وأمثال ذلك أو حب الله وحب الاخرة ورفض الدنيا كاضداد الامور المذكورة ومن ثم قيل القلب بقدر تعلقه بالدنيا ينقطع تعلقه بالله وباليوم الاخر ويبعد تعلقه بالخير. (ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يجد الرجل حلاوة الإيمان حتى لا يبالي من أكل الدنيا) شبه الإيمان


= الطوسي (رحمهم الله) ويتأول في المكلف بالتفريق كما في قصة إبراهيم (عليه السلام)، وقال العلامة المحققون على إمتناع إعادة المعدوم وسيأتي البرهان على وجوب المعاد وههنا قد بين أن الله تعالى يعدم العالم وذلك ظاهر المناقضة ثم قال عليه الرحمة: تأول المصنف معنى الإعدام بتفريق أجزائه والإمتناع في ذلك فإن المكلف بعد تفريق أجزائه يصدق عليه أنه هالك بمعنى أنه غير منتفع به أو يقال أنه هالك بالنظر إلى ذاته إذ هو ممكن وكل ممكن بالنظر إلى ذاته لا يجب له الوجود إذ لا وجود إلا للواجب بذاته أو بغيره فهو هالك إنتهى، ونقل هو عن الكرامية وهم طائفة من المسلمين والجاحظ وهو من رؤساء المعتزلة القول بإستحالة عدم العالم بعد وجوده فلا تنفى بذاتها ولا بالفاعل لأن وهو شأنه الإيجاد لا الإعدام وهذا لا يثبت مطلوبهم لأنهم إعترفوا بإمكان الوجود للعالم ذاتا والإمكان لا يجتمع مع إستحالة العدم وبالجملة فالإعدام عند العلامة وغيره من المحققين إنما هو بمعنى التفريق في المركبات ولا يتحقق في البسائط الجوهرية والنفس الناطقة تبقى بعد ثبوت تجردها وعدم توقف وجودها على تركيب العناصر في البدن. (ش) (*)

[ 362 ]

بحلو في ميل الطبع وإثبت له الحلاوة من باب المكنية والتخييلية أو شبه أثرا من آثار الإيمان وهو محبة الرب وقربه بالحلاوة في اللذة وإستعار له لفظ الحلاوة والمراد أن الرجل لا يجد محبة الرب وقربه حتى لا يبالي من أكل الدنيا أي لا يهتم به ولا يكثرت له ولا يعبأ ولا يرى له قدرا وهذه الخصلة لا تحصل إلا بتنزيه النفس عن محبة الدنيا والزهد فيها وقطع التعلق عنها بالكلية. * الأصل 3 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن أبي أيوب الخزاز، عن أبي حمزة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: أمير المؤمنين (عليه السلام): إن من أعوان الأخلاق على الدين الزهد في الدنيا. * الشرح قوله (ان من أعون الأخلاق على الدين الزهد في الدنيا) لظهور أن الإشتغال بالدنيا وصرف الفكر في طرق تحصيلها ووجه ضبطها ورفع موانعها مانع عظيم من تفرغ القلب للامور الدينية وتفكره فيها وطلب أمر الاخرة ولذلك روى أن الدنيا والاخرة ضرتان إذ الميل بأحديهما يضر بالاخر فترك الدنيا معين تام على طلب الدين. 4 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، وعلي بن محمد، عن القاسم بن محمد، عن سليمان بن داود المنقري، عن على بن هاشم بن البريد، عن أبيه أن رجلا سأل علي بن الحسين (عليه السلام)، عن الزهد فقال: عشرة أشياء، فأعلى درجة الزهد أدنى درجة الورع، وأعلى درجة الورع أدنى درجة اليقين، وأعلى درجة اليقين أدنى درجة الرضا. ألا وإن الزهد في آية من كتاب الله عز وجل * (لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتيكم) *. * الشرح قوله (إن رجلا سأل علي بن الحسين (عليه السلام) عن الزهد عشرة أشياء فأعلى درجة الزهد أدنى درجة الورع) قال (عليه السلام) في باب الرضاء بالقضاء أعلى درجة الزهد أدني درجة الورع كما في اللواحق وقد مر شرحه بقدر الواسع (1) بقوله: إلا وأن الزهد في آية من كتاب الله عز وجل * (لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتيكم "


1 - قوله " وقد مر شرحه بقدر الواسع " في الصفحة 195 من هذا المجلد وهو من نفائس هذا الكتاب. قوله " أو شرك فهو ساقط " والمراد بالشرك الرياء، وسفيان بن عيينة من أئمة أهل السنة والجماعة وكان فيهم من يتظاهر بالزهد للتقرب إلى الخلفاء والوجاهة عند العامة، ونبه الإمام (عليه السلام) سفيان على ما عند ذويه ليعلمهم ويبصرهم عيوبهم، ومراد الشارع من الأمر بالزهد فراغ القلب عن الدنيا، وطلب الوجاهة والتقرب إلى السلاطين لا يدع في القلب فراغا حتى يفكر في أمور الاخرة. وأما الشك في الاخرة فأمره أعظم من ذلك. (ش) (*)

[ 363 ]

فيه تنفير عن تمنى الدنيا والرضا بحصولها وعن الهم بفواتهم ودلالة على أن الزهد ليس فقد هابل عدم تعلق القلب بها بحيث لا يفرح بحصولها، ولا يحزن بفواتها، وبعبارة اخرى يتركها ويغتم بوجودها لعلمه بأنها من أعظم أسباب الغفلة، ونقل السيد رضى الدين عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال " الزهد بين كلمتين قال الله تعالى " لكيلا تأسوا (أي تحزنوا) على ما فاتكم (من عروض الدنيا) ولا تفرحوا بما آتيكم " ومن لم يأس على الماضي ولم يفرح بما أتي فقد أخذ الزهد بطرفيه، وقيل الزهد تحويل القلب من الأسباب إلى رب الأسباب ومن إتصف بهذين الوصفين فقد حول قلبه إذ الميلان فرع الفرح والمحبة. ومن كلامه (عليه السلام) لئن ساءني دهر غرمت بصيرة * فكل بلاء لا يدوم يسير وإن سرني لم إبتهج بسروره * فكل سرور لا يدوم حقير ومن رأى بعين اليقين هذا المعنى فقد جذب إليه اهدا به وقد عرفت أن للزهد شعبا كثيرة فمراده (عليه السلام) أن هذين الوصفين يصيران المتصف بها متصفا بأوصاف آخر. * الأصل 5 - وبهذا الإسناد، عن المنقري، عن سفيان بن عيينة قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) وهو يقول: كل قلب فيه شك أو شرك فهو شاقط، وإنما أرادوا بالزهد في الدنيا لتفرق قلوبهم للاخرة. * الشرح قوله (كل قلب فيه شك أو شرك فهو ساقط) كان المراد أن كل قلب متعلق بالدنيا وإن فاتته فيه شك في أمر الاخرة إذا ليقين يقتضى رفض الدنيا، أو شرك بالله لمتابعة الهوى، والترديد على سبيل منع الخلو فهو ساقط عن درجة المحبة والسعادة والزهد وبين ذلك بقوله (وإنما أرادوا بالزهذ في الدنيا لتفرغ قلوبهم للآخرة) يعني أن الغرض من الزهد في الدنيا ورفضها تخليص القلب وتطهيره عن حب الدنيا وعن ميله إليها وجعله متوجها إلى أمر الآخرة وما ينفع فيها خالصا له بدوام الذكر والطاعة فمن لم يتحقق فيه هذا الغرض فاتته الدنيا فهو ليس بزاهد فيها وتارك لها بل هو من أهلها فيه شك في أمر الاخرة أو شرك. وأعلم أن تفرغ القلب لأمر الاخرة يبذر السعادة والذكر فيه والطاعة في جميع الجوارح وهي تزيد وتنمو حتى يصير القلب نورا إلهيا يشاهد جلال الله وعظمته وأسراره الغيبية ألتي قلما يقدر على تحملها ثم يتشرف بمقام الانس ثم بمقام المحبة ثم بمقام الرضا ثم بمقام الفناء في الله وهو هذا المقام لا يرى في الوجود إلا هو وإلى هذه المراتب أشار جل شأنه بقوله * (ومن يرد ثواب الاخرة نزد له في حرثه " بخلاف القلب الملوث بشهوات الدنيا فإن الذكر والطاعة لوتحققا لا يؤثر أن فيه بل يفسدان كالبذر في أرض السبخة والطعام في المعدة


[ 364 ]

الممتلية بالإخلاط الفاسدة ولذلك ترى كثيرا من الذاكرين والعابدين لا يجدون من السعادة إلا إسما ولا يعلمون من المعرفة إلا رسما وهم عن قرب الحق محرومون وعن ساحة أسراره مطرودون. * الأصل 6 - علي، عن أبيه، عن إبن محبوب، عن العلاء بن رزين، عن محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): إن علامة الراغب في ثواب الاخرة زهده في عاجل زهرة الدنيا، أما إن الزاهد في الدنيا لا ينقصه مما قسم الله عز وجل له فيها وإن زهد، وإن حرص الحريص على عاجل زهرة [ الحياة ] الدنيا لا يزيده فيها وإن حرص، فالمغبون من حرم حظه من الاخرة. * الشرح قوله (علامة الراغب في ثواب الاخرة زهده في عاجل زهرة الدنيا) لكل حق علامة دالة عليه وعلامة من رغب في ثواب الاخرة الذي أعظمه قرب الحق زهده في زهرة الدنيا لأنها ينافيه ومن رغب في شئ يترك ما ينافيه بالضرورة ويطلب ما يحقق حصوله فمن إدعى الرغبة في ثواب الاخرة وهو راغب في الدنيا فهو كاذب وإنما أقحم لفظ العاجل لأن زهرة الدنيا المتعلقة بالأجل والاخرة كقدر ما يحتاج إليه الإنسان في تحصيل ما ينفع الاخرة لا ينافي الرغبة في ثوابها بل معين لحصوله والمراد بزهرة الدنيا متاعها تشبيها له بزهرة النبات لحسنها في أعين الناس، ثم حث على الزهد وترك الحرص والإجتهاد والرغبة في الدنيا على وجه المبالغة للتنبيه والتأكيد بالتكرير وغيره بقوله (أما إن زهد الزاهد في هذه الدنيا) الإشارة للتحقير (لا ينقصه مما قسم الله عز وجل له فيها وإن زهد) كيف وقد قال الله تعالى * (ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه " فالزهد باعث لوصول القسم والرزق لامانع له (وإن حرص الحريص على عاجل زهرة الدنيا لا يزيده فيها وإن حرص) لأن قسمه من الدنيا ما يحتاج إليه في بقائه والزائد عليه على تقدير حصوله بالحرص ليس قسما له بل لغيره والحاصل القسم وعدم وصوله منوط بالتقدير والمشية فما قدر قمسا له يأتيه وإن زهد وما لم يقدر قسما له لايأيته وإن حرص، ولا ينافي هذا قوله تعالى * (ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها وماله في الاخرة من نصيب " إذ لا دلالة فيه على أن جميع ما أتاه قسم ورزق (فالمغبون من حرم حظه من الاخرة) هذا كالنتيجة للسابق وتعريف المبتداء باللام دل على إنحصار الغبن فيه لما عرفت من أن قسم كل أحد يأتيه زهد أو حرص فلا غبن فيه، وإنما الغبن في فقد النصيب في الاخرة بترك العمل له. * الأصل 7 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن يحيى الخثعمي، عن طلحة بن زيد، عن أبي


[ 365 ]

عبد الله (عليه السلام) قال: ما أعجب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) شئ من الدنيا إلا أن يكون فيها جائعا خائفا. * الشرح قوله (ما أعجب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) شئ من الدنيا إلا أن يكون جايعا خائفا) خوفه كان فوق خوف الخائفين وجوعه مشهور وفي كتب الأحاديث مذكور وقد روى أنه لم يشبع من خبر الحنطة ثلاثة أيام متوالية ولأمن اللحم قط وأنه أهضم أهل الدنيا كشحا وأخمصهم بطنا وأنه إذا إشتد جوعه كان يربط حجرا على بطنه ويسميه المشبع وأنه كان يأكل على الأرض ويجلس جلسة العبد، ويخصف بيده نعله ويرقع بيده ثوبه ويركب الحمار العاري ويردف خلفه وأنه رأى سترا نصبته بعض أزواجه على باب داره فقال لها غيبيه عنى فإنه يذكرني الدنيا وزخازفها فأعرض عن الدنيا بقلبه وأمات ذكرها من نفسه وأحب أن تغيب زينتها من عينه وما ذلك إلا لخسة الدنيا ومتاعها في نظره فليكن لك أسوة حسنة به (صلى الله عليه وآله وسلم) وأعلم أن في الجوع فوائد منها صفاء القلب (1)


1 - قوله " إن في الجوع فوائد منها صفاء القلب " أعلم أن النفس الإنسانية مع تعلقها بالبدن وإتحادها مع القوى لها مقام شامخ بنفسه غير متعلق وكلما إزداد جهة تعلقها شدة إزداد جهة تجردها ضعفا وكلما نقص جهة تعلقها قوى جهة تجردها، وهذا أمارة كونها شيئا مستقلا بنفسه مجردا عن البدن ولا يمكن أن يعترف أحد بأن في الجوع صفاء القلب إلا إذ إعترف بأن القلب أي النفس الناطقة غير البدن وإلا كان كمال البدن بالشبع وكما النفس كذلك وقد مرفى الصفحة 311 إستدلال بعضهم على تجرد النفس بوجود الإختيار لها وأنها لو كانت مادية كان جميع أفعالها قهرية إجبارية كضربان القلب والنبض، وقال بعض العلماء أن الإدراك من خواص الموجود المجرد لأن المادة والجسم ليس من شأنهما الإدراك وليس إنطباع صورة في جسم مقتضيا لأن يحس به وإلا لكان جسم مدركا للعوراض الحالة فيه فالإدراك من عالم آخر غير عالم الماديات إلا أن بعض الإدراكات يحتاج فيها إلى آلة كالسمع والبصر وبعضها لا يحتاج كالعقل والآلة ليست بمدركة قطعا وإنما المدرك من إستعمل تلك الآلة ولايندعم مستعمل الآلة وان عجز عما كان يفعله بوساطة الآلة، كما أن الأعمل لا يقال وجوده بفقد البصر ولا الإصم بفقد السمع ولا المغمى عليه بفقد الحواس كلها فقد يعرض الأغماء فيفيق ويدرك أنه هو الذي كان قال الأغماء مع علومه وملكاته وليس موجودا جديدا وما يدرك بالالات كل مرة محسوس جديد غير ما إدرك أولا، وأيضا يتبدل الجسم وأجزائه ولا يبقى بعد نحو سبع سنين مما كان شئ مع أن علمه بذاته وبغير ذاته هو الذي كان ولو كان النفس عين البدن أو معلولا له لم يبق له بعد سنين شئ من معلوماته السابقة فثبت أن الأعضاء آلات ولا يتغير مستعمل الآلة بتبدل الآلة. وقالوا لو كانت العلوم الكثيرة الحاصلة للإنسان خصوصا للعلماء والحكماء في الفنون المختلفة حالات وعوارض طارية على دماغهم لتشوشت الصور وتداخلت وإمتزجت وإرتفع الإمتياز بينها كما أن الأصوات المختلفة لو تواردت على السمع لم يتمايز وإذا تحركت الأشياء المختلفة سريعا مقابل الصبر لم يميز الصبر بينها مع أن الصور العقلية متمايزة جديدا مع إجتماعها دفعة وجميع علوم إبن سينا المكتوبة في تصانيفه لو كانت حالات عارضة على دماغه وهى محتمعة لم يكن عالما بشئ فثبت أن العلوم كلها عند النفس والدماغ = (*)

[ 366 ]

الأكل تظلمه وتميته، ومنها رقة القلب والالتذاذ بذكر الرب ومناجاته والبطنة تغلظه وتمنع إستقرار الذكر فيه، ومنها العجز والإنكسار والشبع يوجب الغرة والإفتخار، ومنها قرب الحق والشبع يوجب البعد عنه قال الصادق (عليه السلام) " أن البطن ليطغى من أكله أقرب ما يكون العبد من ربه عر وجل إذ أخف بطنه، وأبغض ما يكون العبد إلى الله عز وجل إذا إمتلاء بطنه "، ومنها تذكر الجائعين وتذكر جوع يوم القيامة فيزداد سعيه له وكثرة الأكل توجب الغفلة، عنهما، ومنها التسلط على كسر النفس وكثرة الأكل توجب تسلط النفس، ومنها قلة النوم والإقتدار على العبادة والاكول في غفلة النوم وتضييع العمر، ومنها كثرة الحفظ وقلة النسيان والاكول على عكس ذلك، ومنها صحة البدن والأكل الكثير يوجب أمراضا شديدة، ومنها قلة الإحتياج إلى الأموال وأسباب الدنيا وصرف العمر في جمعها وحفظها، ومنها الإقتدار على الصدقة والإيثار لعدم الحاجة إلى الزائد. * الأصل 8 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن القاسم بن يحيى، عن جده الحسن بن راشد، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: خرج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو محزون فأتاه ملك ومعه مفاتيح خزائن الأرض، فقال: يا محمد هذه مفاتيح خزائن الأرض يقول لك ربك: إفتح وحذمنها ما شئت من غير أن تنقص شيئا عندي، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): الدنيا دار من لا دار له ولها يجمع من لاعقل له، فقال الملك: والذي بعثك بالحق نبيا لقد سمعت هذا الكلام من ملك يقوله في السماء الرابعة، حين اعطيت المفاتيح. * الشرح قوله (خرج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو محزون) لعل حزنه كان لضعف المسلمين وقوة المشركين والإهتمام بتجهيز أسباب الجهاد. قوله (الدنيا دار من لا دار له) أي في الآخرة لأن من له دار في الآخرة وهي الجنة لا يسكن قلبه إلى الدنيا ولا يتخذها دارا وموضع إقامة لنفسه ويحتمل أن يكون المراد أن الدنيا دار من ليست له حقيقة الدار أصلا لافي الآخرة وهو ظاهر لظهور أن بناها على العمل لها وترك الدنيا، ولا في الدنيا


= آلة تنطبع فيها الصور الجزئية شيئا بعد شئ تمحو صورة وتتجدد صورة، وقالوا أن النفس لا دراك الصور الكلية لا يحتاج إلى آلة أيضا لأنها زمان الشيخوخة لا يضعف إدراكه لها كما يضعف حواسه الآلية وأيضا لايكل بإدراك الكليات ولا يعجز عن إدراك ضعيف بعد قوى كما يعجز البصر عن إدراك النور الضعيف أثر القوي لكلاله، وأيضا العقل يدرك ذاته والحس لا يحس ذاته لأن الآلة لا تؤثر في نفسها والعقل ليس بآلة ويجئ إن شاء الله لهذا تتمة. (ش) (*)

[ 367 ]

لظهور أن الدنيا ليست دار إقامة فهي ليست بدار حقيقة، ثم قبح الدنيا والجمع لها بقوله (ولها يجمع من لا عقل له) لأن العاقل يعلم بنور بصيرته إن الدنيا وما فيها منصرمة مؤذية بأهلها مضرة بأمر الآخرة فلا يسكن إليها ولا يشغل بالجمع لها بل يفر منها إلى الله وأما الجاهل فلخمود عقله يغفل عن أمره الآخرة ولا يعلم إلا ظاهرا من الحياة الدنيا وليس له هم إلا الجمع لها، فأنظر أيها الأخ في الله إلى علو همة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كيف ترك الدنيا ورفضها وهي في يده من غير تعب ولاضرر في شئ من أمر آخرته وماله عند الله من المقامات العالية لظهور عيوبها وكثرة مقابحها ومساويها وليكن لك اسوة حسنة بنبيك الأطهر بل أنت أولى بتركها وأجدر لأنك لا تخلو من التعب في تحصيلها ومن الحرمان في عدم حصولها ومن الضرر في أمر الآخرة والدنيا. * الأصل 9 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن إبن أبي عمير، عن جميل بن دراج عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: مر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بجدي أسك ملقى على مزبلة ميتا، فقال لأصحابه: كم يساوي هذا ؟ فقالوا: لعله لو كان حيا لم يساو درهما، فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): والذي نفسي بيده للدنيا أهون على الله من هذا الجدي على أهله. * الشرح قوله (مر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بجدى أسك ملقى على مزبلة ميتا) الأسك مقطوع الاذنين أو صغيرهما مطلقا أو مع لصوقهما بالرأس وقلة أشرافهما والمزبلة بفتح الباء والضم لغة موضع يلقى فيه الزبل بالكسر وهو السرقين ثم عن قيمته (فقال لأصحابه كم يساوي هذا) والغرض من هذا السؤال تقريرهم على أنه خبيث لاقيمة له فهم أقروا بذلك (فقالوا لعلله لو كان حيا لم يساو درهما) فهو على هذه الحالة الكريهة غير مرغوب لأحد فلا تيمه له، والغرض من هذا التقرير تنفيرهم عن الدنيا بشبيهها به وتفضيلها عليه في الهون والخبث لأنه لا ينفع ولا يضر بخلاف الدنيا فأنها تضر كثيرا (فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والذي نفسي بيده للدنيا أهون على الله من هذا الجدي على أهله) نظيره قول أمير المؤمنين (عليه السلام) " والله لدنياكم هذه أهون في عيني من عراق خنزير في يد مجذوم " العراق بعضم العين وتخفيف الراء العظم وأيضا نظيره ما رواه مسلم عن جابر بن عبد الله الأنصاري " أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مر بالسوق فمر بجدى أسك ميت فتناوله فأخذ بإذنه ثم قال أيكم يحب أن هذا له بدرهم ؟ فقالوا ما نحب أنه لنا بشئ وما نصنع به قال تحبون أنه لكم ؟ قالوا والله لو كان حيا كان غيبا فيه لأنه أسك فيك وهو ميت رب فقال فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم " وروى " أن


[ 368 ]

الدنيا يوم القيامة تقول (1) يالاشئ أني لم أرضك لهم في الدنيا كيف أرضاك لهم اليوم ". * الأصل 10 - علي بن إبراهيم، عن علي بن محمد القاساني، عمن ذكره، عن عبد الله ابن القاسم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا أراد الله بعبد خيرا زهده في الدنيا وفقهه في الدين وبصره عيوبها ومن أوتيهن فقد اوتي خير الدنيا والآخرة، وقال: لم يطلب أحد الحق بباب أفضل من الزهد في الدنيا وهو ضد لما طلب أعداء الحق، قلت: جعلت فداك مماذا ؟ قال: من الرغبة فيها، وقال: إلا من صبار كريم، فإنما هي أيام قلائل، ألا إنه حرام عليكم أن تجدوا طعم الإيمان حتى تزهدوا في الدنيا، قال: وسمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إذا تخلى المؤمن من الدنيا سما ووجد حلاوة حب الله وكان عند أهل الدنيا كأنه قد خولط وإنما خالط القوم حلاوة حب الله، فلم يشتغلو بغيره. قال: وسمعته يقول: إن القلب إذا صفا ضاقت به الأرض حتى يسمو. * الشرح قوله (لم يطلب أحد الحق بباب أفضل من الزهد في الدنيا للحق أبواب لا يمكن الوصول إليه إلا بالدخول فيها منها الطاعات وترك المنهيات على أنواعهما ومنها الأخلاق الفاضلة ومنها ترك الأخلاق الباطلة والزهد في الدنيا أعظم هذه الابواب لأنه مفتحا لجميعها ثم أشار إلى ضده على وجه يفيد أن الزهد يوجب محبة الحق وأنه عبارة عن تطهير القلب من الرغبة في الدنيا وميله إليها لا عن ترك الدنيا مع تعلق القلب بها فقال (وهو ضد لما طلب أعداء الحق) وقول السائل (مماذا)


1 - قوله " إن الدنيا يوم القيامة تقول " لا يخفى أن هذا الخبر لا يوافق ما في أذهان بعض الناس من أن الفرق بين الدنيا والآخرة بتقدم الاولى زمانا وتأخر الاخرى كذلك والاخرة عندهم هي الدنيا بعينها لكن في زمان متأخر نظير تأخر امة إبراهيم عن امة نوع (عليه السلام) وكما لا يمكن أن يطلب رجل من عهد إبراهيم (عليه السلام) ان يجعله زمان نوح (عليه السلام) كذلك لا يمكن أن يطلب رجل من عهد مضى الدنيا وإنقضائها أن يجعله من أهل الدنيا والحق أن الفرق بين العالمين ليس بتأخر والتقدم الزمانيين فقط بل بينهما فرق في أمور كثيرة كما يظهر لمن تتبع الايات الكريمة والروايات الكثيرة وليس هنا موضع ذكرها ولذلك لم يجب الله تعالى السائلين عن وفت الساعة وزمانها ولم يقررهم على جهلهم والمعنى أن الدنيا طلبت من الله تعالى أن يجعل الصالحين من أهل الدنيا لاالدنيا المتقدمة زمانا بل الدنيا الجامعة لهذه الصفات المختصة بها من التغير والكون والفساد وأمثالها ولو في زمان تأخر بالنسبة إلى الدنيا السابقة لا بالنسبة إلى الآخرة إذ ليس بعد الآخرة شئ وقد سبق في الصفحة 318 من هذا الجزء قول الشارح قد صرح بعض أصحابنا بأن عذاب المستحق له واقع بالفعل وان جهنم لمحيطة به وإنه داخل فيها ولكن الحجاب مانع من رؤيتها لحكمة تقتضيه. إنتهى، وهذا يدل على عدم تأخر العذاب عن الدنيا تأخرا زمانيا. (ش) (*)

[ 369 ]

سؤال عما طلب أعداء الحق وقوله (عليه السلام) (من الرغبة فيها) بيان للموصول يعني أن ما طلبه أعداء الحق هو الرغبة في الدنيا والميل إليها وهي من أعظم البعد عن الحق والبغض له والمعاندة معه، والظاهر أن قوله (إلا من صبار كريم) أي خير شريف النفس استنثاء من الرغبة فيها أي إلا أن يكون الرغبة فيها من صبار كريم يطلبها من طرق الحلال ويصبر عن الحرام، وإخراج الحقوق المالية وإعانة الفقراء وذوي الحاجات فإن الرغبة في هذه الدنيا من الصالحات ثم حث على الزهد والصبر عليه ونفر من الدنيا بقوله: (فانما هي) أي الدنيا (أيام قلائل) وهي أيام العمر والعمر ينقضى حثيثا وينتهى سريعا إلى الآخرة والصبر على المشاق المنقضية سهل على النفوس العاقلة سيما إذا كان مستلزما للراحة الدايمة ثم أشار إلى بعض آثار الزهد وأشرف مقاماته بقوله (إذا تخلى المؤمن من الدنيا سيما - الخ) أي إذا تخلى المؤمن من الدنيا بأن قطع تعلقه بها وأخرج حبها عن قلبه ارتفع من حضيض النقص أي أوج الكمال ومن مقام الكثرة إلى ساحة القدس والجلال (ووجد) في قبله (حلاة وحب الله وكان عند أهل الدنيا) الراغبين فيها (كأنه قد خولط) واختل عقله، (وإنما خالط القوم) ودخل في قلوبهم (حلاوة حب الله فلم يشتغلو بغيره). وفيه اشارة إلى أعلى درجات الزهد وهو أن يفرغ قلبه عن غير الله تعالى حتى الخوف من النار والطمع في الجنة لسكره بحلاوة المحبة والقرب منه فلا يرى لغيره وجودا فضلا عن أن يشتغل به وهو مقام الفناء في الله وإنما قلنا هذا أعلى درجات الزاهد لأن أدنى درجاته أن يترك الدنيا ويصبر على الترك مع الميل إليها. وأوسطها أن يترك الميل إيها أيضا وهو بعد في مقام الكثرة وإذا داوم عليه وصار ذلك ملكة له وطهر ظاهره وباطنه عن جميع المقابح لأن كلها ناشية من حب الدنيا يرتقى من هذا المقام إلى مقام التوحيد المطلق وعالم القدس فيتجلى فيه أنوار الحق وأسراره ويشاهد بنور البصيرة جماله وكماله وعظمته وقدرته فيستغرق في بحر محبته ويغفل عن نفسه فضلا عن غيره بذوق حلاوة حبه ويصير حينئذ أطواره وأوضاعه وأقواله وأفعاله وحركاته وسكناته غير أطوار أهل الدنيا وأوضاعهم وأقوالهم وأفعالهم وحركاتهم وسكناتهم فيظنون أنه خولط واختل عقله حيث لم يجدوا عقله كعقلهم وفعله كفعلهم ولذلك نسب كفرة قريش الجنون إلى الجنون إلى النبي المبارك (صلى الله عليه وآله وسلم) ويقرب منه قوله (أن القلب إذا صفا ضاقت به الأرض حيت يسمو) القلب من عالم القدس النوراني (1) واستقراره في عالم البدن الإنساني إنما هو بقدر تعلقه به وغفوله عن ذلك العالم الأصلي فإذا صفا


1 - في ذلك كلام يأتي إنشاء الله تعالى. (*)

[ 370 ]

عن الخبائث النفسانية والرذانل الشيطانية والقيودات الدنيوية والتعلقات البشرية والطبيعية واتصف بالكمالات الروحانية والصفات الشريفة الربانية تذكر مكانه الأصلي وقطع يده عن الاسباب وتعلق برب الأرباب فينكشف عنه الحجاب فضاقت به الأرض فيضطرب ويستوحش منها ولا يستقر حتى يسمو ويرتفع من هذا العالم إلى العالم الأعلى ويتشرف بقرب المولى، وإن شئت زيادة توضيح فنقول لما كانت الأرض أعظم أجزاء الإنسان وكانت قواه الظاهرة والباطنة مائلة إليها بالطبع لكمال النسبة بينهما كانت الدواعى إلى زهراتها حاضرة والبواعث إلى لذالتها ظاهرة فربما يشتغل بها ويكتسب الأخلاق والأعمال الفاسدة لتحصيل المقاصد حتى تصير النفس تابعة لها راضية بأثرها مشعوفة بعملها منكدرة بالشهوات منغمسة في اللذات فتحب الاستقرار في الأرض وتركن إليها، وأما إذا منعت تلك القوى عن مقتضاها وصرفتها عن هواها وروضتها بمقامع الشريعة وادبتها بأداب الطريقة حتى غلبت عليها وصفت عن كدوراتها وظهرت عن خبائث لذاته وتخلصت من قيوداتها وتحلت بالأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة والاداب الرفيعة والاطوار المرضية ضاقت بها الأرض حتى تسمو إلى عالم النور والروحانية فتشاهد عالم الأعلى بالعيان وتنظر إلى الحق بعين العرفان ويزداد لها نور الإيمان والإيقان فتعاف جملة الدنيا والاستقرار في الأرض فبدنها في هذه الدنيا وهي في عالم الأعلى. وفيه ترغيب للعقلاء في ترك الدنيا وتحريك لهم إلى ترك الطباع ورسوم العادات وزجر لنفوسهم عن الفضول والمنهيات لتصفو بذلك عن الرذائل الناسوتية وتتصل بالحق وتشاهد الأسرار اللاهوتية وهو غاية مقصد الإنسان ونهاية مطلب أهل العرفان. * الأصل 11 - علي [ عن أبيه ]، عن علي بن محمد القاساني، عن القاسم بن محمد، عن سليمان بن داود المنقري، عن عبد الرزاق بن همام، عن معمر بن راشد، عن الزهري، عن محمد بن مسلم بن شهاب قال: سئل علي بن الحسين (عليهما السلام) أي الأعمال أفضل عند الله عز وجل ؟ فقال: ما من عمل بعد معرفة الله جل وعز ومعرفة رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) أفضل من بغض الدنيا وإن لذلك لشعبا كثيرة وللمعاصي شعبا، فأول ما عصي الله به الكبر وهي معصية إبليس حين أبي واستكبر وكان من الكافرين، والحرص وهي معصية آدم وحواء حين قال الله عز وجل لهما: * (كلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين) * فأخذا مالا حاجة بهما إليه فدخل ذلك على ذريتهما إلى يوم القيامة وذلك أن أكثر ما يطلب ابن آدم مالا حاجة به إليه، ثم الحسد وهي معصية ابن آدم حيث حسد أخاه فقتله، فتشعب من ذلك حب النساء وحب الدنيا وحب الرئاسة وحب الراحة وحب الكلام


[ 371 ]

وحب العلو والثروة، فصرن سبع خصال، فاجتمعن كلهن في حب الدنيا، فقال الأنبياء والعلماء بعد معرفة ذلك: حب الدنيا رأس كل خطيئة، والدنيا ديناء أن دنيا بلاغ ودنيا ملعونة. * الشرح قوله (وإن لذلك لشعبا كثيرة وللمعاصي شعبا) شعب الزهد أضداد شعب المصعية اعني التواضع وهو ضد الكبر والقنوع وهو ضد الحرص والرضا بما آتاه الله وهو ضد الحسد والمذكورات من باب التمثيل وإلا فجنود العقل كلها شعب الزهد وجنود الجله كلها شعب المعصية (والحرص وهي معصية آدم) قال الله تعالى * (وعصى آدم ربه فغوى " قال من نزه الأنبياء عن الذنوب: أن النهي عن تناول الشجرة نهي تنزيه لا تحريم فيكون التناول ترك أولى وأفضل. وأورد عليهم بأن اطلاق اسم العاصي على آدم بهذا الاعتبار يوجب أن يوصف الأنبياء (عليهم السلام) بأنهم عصاة إذ لا يكاد انفكاكهم عن ارتكاب مثل هذا المعنى. واجيب بأن اسم العاصى على آدم بهذا المعنى مجاز والمجاز لا يقاس عليه ولا يتعدى عن موضعه وعلى تقدير جواز القياس عليه بطلان الثاني ممنوع إذ لا محذور في أطلاق اسم العاصي عليهم بهذا الاعتبار (فدخل ذلك) أي الحرص وأخذ مالا حاجة به (وذلك أن أكثر ما يطلب ابن آدم) إنما قال أكثر لأن قدر الكفاف لابد منه وتحصيله عبادة لإحتياج قوام البدن وفعل الطاعات عليه (فتشعب من ذلك) أي من ذلك المذكور وهو الكبر والحرص والحسد وتخصيص الإشارة بالحسد بعيد بحسب المعنى وإن كان قريبا بحسب اللفظ (فصرن سبع خصال) أي فصارت شعب المعاصي المذكورة وهي الكبر والحصر الحسد (كلهن في حب الدنيا) والظرفية باعتبار الأكثر والافحب الدنيا ليس في حب الدنيا (فقال الأنبياء والعلماء) المراد بهم الأوصياء أو الاعم (بعد معرفة ذلك) وهو أن المعاصي والخصال الذميمة كلها في حب الدنيا و (حب الدنيا رأس كل خطيئة) هذا الكلام على سبيل الحقيقة دون المجاز والمبالغة لأن كل خطيئة تابعة لحب الدنيا منبعثة منها لأن الدنيا طريق الهوى وسبيل المنى إلى الشهوات الحاضرة الخيالية واللذات العاجلة الاعتبارية التي منها الكبر والحرص والحسد وحب النساء وغيرها من الخصال المذكورة وغير المذكورة من متعلقات الهوى والمعنى رسما وعادة، وهذه الامور لا تتحصل إلا باستعمال القوة الاشهوية الجالبة والقوة الغضبية الدافعة للموانع منها ويتولد منهما مفاسد كثيرة غيرة محصورة ومن ههنا علم أن كل خطيئة تنبعث من حب الدنيا وتتفاوت باعتبار التفاوت في حبها فمن ترك حبها صار خالصا لمولاه ومن احبها صار عبدا لدنيا ثم أشار إلى أن الدنيا مطلقا ليس بمذمومة بقوله (والدنيا دنياء أن دنيا بلاغ) وهو قدر الكفاف من طريق الحلال وهذا القدر لا بد


[ 372 ]

لكل أحد حتى الانبياء والاوصياء الذين غاية هممهم ترك الدنيا والتوجه إلى المولى وهو المعين للبقاء والعبادة (ودنيا ملعونة) وهي الزائدة عن قدر الحاجة أو الحاصلة من طريق الحرام أو الداعية للنفس إلى الطغيان والقلب إلى العصيان وأهلها إلى الخذلان وتعلق اللعن بها باعتبار بأهلها أو باعتبار أنها بعيدة عن الخير. * الأصل 12 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن ابن بكير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن في طلب الدنيا إضرارا بالأخرة وفي طلب الآخرة إضرارا بالدنيا، فأضروا بالدنيا فإنها أولى بالإضرار. * الشرح قوله (إن في طلب الدنيا أضرارا بالآخرة) لأن توجه الظاهر والباطن إليها وصرف الفكر فيها وفي كيفية تحصيلها وحفظها وإرسال القوة الشهوية والغضبية إلى الجلب والدفع ينافي طلب الآخرة والتوجه إليها ويفهم منه أن المذموم من الدنيا ما يضر بأمر الأخرة، وأما ما لا يضر به كقدر الحاجة في البقاء والتعيش فليس بمذموم بل ممدوح. * الأصل 13 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن أبي أيوب الخزاز، عن أبي عبيدة الحذاء قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): حدثني بما أنتفع به فقال: يا أبا عبيدة أكثر ذكر الموت، فإنه لم يكثر إنسان ذكر الموت إلا زهد في الدنيا. * الشرح قوله (أكثر ذكر الموت فإنه لم يكثر إنسان ذكر الموت إلا زهد في الدنيا) لأن أكثار ذكر الموت وما يلحق الإنسان بعده مع قلب حاضر من أشد الجواذب عن الدنيا إلى الله، وفيه تنفير عن محبة الدنيا للاشتغال بالعمل للأخرة وإنما قلنا مع قلب حاضر لأن أكثر أهل الدنيا يذكرون الموت ويمشون خلق الجنائز ويشاهدون مسكن الموتى ولا تتأثر قلوبهم لاشتغالها بامر الدنيا وتكدرها بفكر زهراتها حتى صارت مظلمة لا يستقر فيها الحق وحقيقة الموت وما بعده وهكذا حال جميع العبادات فإنها ما لم تقترن بحضور القلب لا يحصل منها الأثر المقصود وهو قرب الحق ومشاهدة جلاله والوصول إلى حقيقة كمال الإنسان. * الأصل 14 - عنه، عن علي بن الحكم، عن عمر بن أبان، عن أبي حمزة، عن أبي جعفر (صلى الله عليه وآله وسلم): ملك ينادي


[ 373 ]

كل يوم: إبن آدم ! لد للموت، واجمع للنفاء، وابن للخراب. * الشرح قوله (قال أبو جعفر (عليه السلام) ملك ينادي كل يوم ابن آدم لد للموت واجمع للفناء وابن للخراب) في نهج البلاغة قال أمير المؤمنين (عليه السلام) " أن لله ملكا ينادى في كل يوم لدوا للموت واجمعوا للفنا وابنوا للخراب " قال شارحه ليس اللام فيها للغرض وإنما هي للعاقبة نحو قوله تعالى * (فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا ". * الأصل 15 - عنه، عن علي بن الحكم، عن عمر بن أبان، عن أبي حمزة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال علي بن الحسين صلوات الله عليهما: إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة وإن الاخرة قد إرتحلت مقبلة ولك واحدة منهما بنون فكونوا من أبناء الاخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا [ ألا ] وكونوا من الزاهدين في الدنيا، الراغبين في الاخرة، ألا إن الزاهدين في الدنيا إتخذوا الأرض بساطا والتراب فراشا والماء طيبا وقرضوا من الدنيا تقريضا، ألا ومن إشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات ومن أشق من النار رجع عن المحرمات، ومن زهد في الدنيا هانت عليه المصائب، ألا إن لله عبادا كمن رأى أهل الجنة في الجنة مخلدين وكمن رأى أهل النار في النار معذبين، شرورهم مأمونة وقلوبهم محزونة، أنفسهم عفيفة، حوائجهم خفيفة، صبروا أياما قليلة فصاروا بعقبى راحة طويلة، أما الليل فصافون أقدامهم تجري دموعهم على خدودهم وهم يجأرون إلى ربهم، يسمعون في فكاك رقابهم. وأما النهار فحلماء، علماء، بررة، أتقياء، كأنهم القداح قد براهم الخوف من العبادة ينظر إليهم الناظر فيقول: مرضى - وما بالقوم من مرض - أم خولطوا فقد خالط القوم أمر عظيم، من ذكر النار وما فيها. * الشرح قوله (قال علي بن الحسين (عليهما السلام): إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة) رحل عن البلد وارتحل شخص وسار والمراد بادبار الدنيا تقضيها وانصرامها ففيه إشارة إلى تقضى الأحول الدنيوية الحاضرة بالنسبة إلى كل أحد من صحة وشباب وجاه ومال وكل ما هو سبب لصلاح حاله في الدنيا لدنوها من الإنسان ولما كانت هذه الامور دائما في التغير والتقضى المقتضى لمفارقة الإنسان لها بعدها عنه حسن اطلاق اسم الادبار على تقضيها وبعدها، وتشبيهها بالحيوان في الادبار مكنية واثبات الارتحال لها تخييلية، ونسبة الادبار إليها ترشيخ، أشار إلى أن الأخرة على عكس ذلك بقوله (وأن الآخرة قد ارتحلت مقبلة) الاخرة عبارة عن دار جامعة لأحوال يعود إليها الناس بعد الموت من


[ 374 ]

طاعع ومعصية وسعادة وشقاوة وغيرها ولما كان تقضى العمر شيئا فشيئا باعثا للوصول إلى تلك الدار والورود على ما فيها من خير أو شر كان كل أحد متوجها إليها وإعتبر توجهها إليه أيضا فشبهها بحيوان حامل لأثاث تلك الأحوال مقبلا إليه فعن قريب يتلا قياق * (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال شرا يره " وإلى مضمون الفقرين أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله " كل ماض فكان لم وكل آت فكان قد " أي كان لم يكن وكان قد أتى حذف الفعلان لظهورهما (ولكل واحدة منهما بنون) إستعار لفظ البنين للخلق بالنسبة إلى الدنيا والاخرة ولفظ الأدب لهما ووجه الإستعارة أن الإبن لما كان من شأنه الميل إلى الأب بحسب الطبع أو بحسب توقع النفع ومن شأن أبيه إيصال المتوقع وكان الخلق منهم من يميل إلى الدنيا لتوقع النفع وهي يوصله إليه ومنهم من يميل إلى الاخرة لذلك المشابهة المذكورة ولما كان غرضه حث الخلق على الاخرة والميل إليها والإعراض عن الدنيا قال (فكونوا من أبناء الاخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا) لأن منافع الدنيا خيالية باطلة وسموم قاتلة ومنافع الاخرة حقائق دائمة وفوائد باقية أبدا فينبغي أن تكونوا والهين إليها وراغبين فيها وعاملين لها وأشار إلى أن المقصود ليس مجرد رفض الدنيا وترك العمل لها بل هو مع إزالة حبها عن القلب بقوله: (وكونوا من الزاهدين في الدنيا الراغبين في الاخرة) لأن الزهد هو رفض الدنيا ظاهرا وباطنا ولا يتحقق الرغبة في الاخرة إلا به فأشار إلى بعض آثار الزهد وعلاماته بقوله (ألا أن الزاهدين في الدنيا إتخذوا الأرض بساطا والتراب فراشا والماء طيبا وقرضوا من الدنيا تقريضا) البساط فعال بمعنى مفعول كالكتاب بمعنى المكتبوب والفراش بمعنى المفروش والطيب اللذيذ أو العطر والتقريض بمعنى التقطيع وإزالة الإتصال من قرضت الثواب إذا قطعته بالمقراض، أو بمعنى التجاوز من قرضت الوادي إذا جزته أو بمعنى العدول من قرضت المكان إذ اعدلت عنه، وبعض أطوار الزاهد ما أشار إليه أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصف عيسى على نبينا " وعليه الصلوة والسلام بقوله " فلقد كان يتوسد الحجر ويلبس الخشن، وكان إدامه الجوع، وسراجه بالليل القمر، وظلاله في الشتاء مشارق الأرض، وفاكهته وريحانه ما تنبت الأرض للبهائم، ولم تكن له زوجة تفتنه ولا ولد يحزنه، ولا مال يلفته، ولا طمع يذله، دابته رجلاه، وخادمه يداه " قوله " وكان إدامه الجوع " وجهه قيام بدنه بالجوع كقيامة بالادام. وقوله " ظلاله - إلى آخره " وجهه إستتاره عن البرد بها كستتاره بالضلال (ألا ومن إشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات) أي نسيها ومنع نفسه منها (ومن أشفق من النار رجع عن الحمرمات) جميع الحرمة كالغرفات جمع الغرفة، وذلك لأن الإشتياق إلى الشئ يستلزم التوسل بسببه والإشفاق من الشئ يستلزم التحرز من سببه (ومن زهد في الدنيا هانت عليه المصائب) لأن


[ 375 ]

المصائب الدنيوية كلها راجعة إلى فوات الدنيا ومن زهد فيها سهل فواتها عنده ولا يحزن به. (ألا أن لله عبادا كمن رأى أهل الجنة في البدن مخلدين وكمن رأى أهل النار في النار معذبين) أشار به إلى أن العارف وأن كان في الدنيا بجسده فهو في مشاهدة بعين بصيرته لأحوال الجنة وسعادتها وأحوال النار وشقاوتها كالذين شاهدوا الجنة بعين حسهم وتنعموا فيها وكالذين شاهدوا النار وعذبوا فيها كما مر في حديث حارثة وهي مرتبة عين اليقين وبحسب هذه المرتبة كانت شدة شوقهم إلى الجنة وشدة خوفهم من النار. وأشار إلى بعض أحوال هؤلاء بقوله (شرورهم مأمونة) لأن علمهم بقبح عاقبة الشر يمنعهم عن القصد له والتوجه إليه ولأن مبدأ الشر محبة الدنيا وهم بمعزل عنها. (وقلوبهم محزونة) من إحتمال تقصيرهم فيما مضى أو فيها يأتي وعدم علمهم بعاقبة امورهم وبما يفعل بهم في الدنيا والآخرة، وخوفهم من ألم الفراق والعقبات المستقبلة ولا يسكن حزنهم ولا تطمئن قلوبهم حتى يخرجوا من الدنيا. (أنسهم عفيفة) لإعتدال قوتهم الشهوية ووقوعها على الوسط بين رذيلتي الخمود والفجور فلا يعجزون عن الحق ولا يميلون إلى الفجور (حوائجهم خفيفة) لإقتصارهم في الدنيا على القدر الضروري منها (صبروا أياما قليلة فصاروا بعقبى راحة طويلة) أريد بأيام قليلة مدة عمرهم وهم صبروا فيها على المكاره والشدائد والشدائد وترك الدنيا وإحتمال أذي الخلق والقيام بالتكاليف، وفي ذكره قلة مدة الصبر وإستعقابه للراحة الطويلة ترغيب في الصبر تحمل مشقة كثيرة في مدة قليلة لمنفعية جزيلة راحة طويلة أبدية سهل وتلك الراحة هي السعادة في الجنة كما قال جال وعز * (وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا ". (أما الليل فصافون أقداومهم تجرى دموعهم على خدودهم وهم يجأرون إلى ربهم يسعون في فكال رقابهم) جأر كمنع رفع صوته بالدعاء وتضرع واستغاث، وفيه إشارة إلى كماله في القوة العملية بارتكاب العبادات والتضرع والإستغاثة إلى الله والخوف منه والترقب بما عنده من الكرامة والعفو من التصير، وذكر الليل لأن العبادة فيه أشق وأقرب إلى القربة والقلب فيه أفرع. (وأما النهار فحلماء علماء بررة أتقياء كأنهم القداح، قد براهم الخوف من العبادة) أما النهار عطف على أما الليل وكلاهما يجوز فيه الرفع على الإبتداء والنصف على الظرفية. والحلم فضيلة تحت ملكة الشجاعة وهي الوسط بين رذيلتي المهابة والافراط في الغضب. والعلم اشارة إلى كمالهم في القوة النظرية بالعلم النظري والشرعي وهو معرفة الصانع وصفاته وأحكامه الشرعية. والبر بالفتح والبار الصادق أو التقى وهو خلاف الفاجر وجمع الأول أبرار وجمع الثاني بررة مثل كافر وكفرة وفاسق


[ 376 ]

وفسقة والمعنى أنهم خائفون من الله تعالى وتاركون جميع القبايح البدنية والنفسانية، وأشار إلى ثمرة خوفهم بقوله: " كأنهم القداح " وهي بالكسر جمع القدح بالكسر والتسكين وهو السهم قبل أن يراش ويركتب عليه نصله وأشار إلى وجه الشبه بقوله " قد براهم الخوف من العبادة " وبراهم بفتح الباء وتخفيف الراء مثل هداهم من البرى " وهو تراشيدن تير " يعني قد براهم الخوف كبر القداح في النحافة والدقة وإنما يفعل الخوف ذلك لإشتغال النفس المدبرة للبدن بسبب الخوف عن النظر في صلاح البدن ووقوف القوة الشهوية والغاذية عن أداء بدل ما يتحلل. (ينظر إليهم الناظر) من أهل الدنيا الذي طوره غير طورهم (فيقول مرضى) أي هم مرضى نظرا إلى نحاقة أجساهم (وما بالقوم من مرض أم خولطوا) أي اختلت عقولهم نظرا إلى تكلمهم بكلام خارج عن دركه (فقد خالط القوم أمر عظيم) وهما الخوف من ذكر النار وما فيها وفيه إشارة إلى ما يعرض لبعض العارفين عند ذكر النار وما فيها وإتصال نفسه بالملاء الأعلى، واشتغاله عن تدبير البدن وضبط حركاته وسكناته على نحو حركات أهل الدنيا وسكناتهم من نحول جسمه وتغير هيئته وتكلمه بكلام خارج عن طور كلامهم مستبشع عندهم فينبسه الناظر منهم تارة إلى المرض الجسماني وتارة إلى المرض الروحاني وهو اختلاط العقل واختلاله بالجنون فقال (عليه السلام) أما المرض فمنتف، وأما المخالطة فمتحققة لكن لا بالجنون ونقصان العقل كما توهموا، بل الخوف والذكر والإتصال. وهي داوء للنفس يشفيها من جميع الأمراض المهلكة. * الأصل 16 - عنه، عن علي بن الحكم، عن أبي عبد الله المؤمن، عن جابر قال: دخلت علي أبي جعفر (عليه السلام) فقال: يا جابر والله إني لمحزون وإني لمشغول القلب، قلت: جعلت فداك وما شغلك ؟ وما حزن قلبك ؟ فقال: يا جابر أنه من دخل قلبه صافي خالص دين الله شغل قلبه عما سواه، يا جابر ما الدنيا وما عسى أن تكون الدنيا هل هي إلا طعام أكلته أو ثوب لبسته أو امرأة أصبتها ؟ ! يا جابر إن المؤمنين لم يطمئتوا إلى الدنيا ببقائهم فيها، ولم يأمنوا قدومهم الآخرة، يا جابر الآخرة دار قرار والدنيا دار فناء وزوال ولكن أهل الدنيا أهل غفلة وكأن المؤمنين هم الفقهاء أهل فكرة وعبرة، لم يصمهم عن ذكر الله جل اسمه ما سمعوا بآذانهم ولم يعمهم عن ذكر الله ما رأوا من الزينة بأعينهم ففازوا بثواب الآخرة، كما فازا بذلك العلم، واعلم يا جابر أن أهل التقوى أيسر أهل الدنيا مؤونة وأكثرهم لك معونة، تذكر فيعينونك وإن نسيت ذكروك، قوالون بأمر الله قوامون على أمر الله، قطعوا محبتهم بمحبة ربهم ووحشوا الدنيا لطاعة مليكهم ونظرا إلى الله عز وجل وإلى محبته بقلوبهم وعملوا أن ذلك هو المنظور إليه، لعظيم شأنه. فأنزل الدنيا كمنزل نزلته ثم


[ 377 ]

إرتحلت عنه، أو كمال وجدته في منا منك فأستيقظت وليس معك منه شئ، إني [ إنما ] ضربت لك هذا مثلا، لأنها عند أهل اللب والعلم بالله كفيئ الظلال، يا جابر ! فأحفظ ما إسترعاك الله عز وجل من دينه وحكمته ولا تسألن عما لك عنده إلا ما له عند نفسك، فإن تكن الدنيا على غير ما وصفت لك فتحول إلى دار المستعتب، فلمعري لرب حريص على أمر قد شقى به حين أتاه ولرب كاره لأمر قد سعد به حين أتاه، وذلك قول الله عز وجل: * (وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين) *. * الشرح قوله (أنه من دخل قبله صافي خالص دين الله شعل قلبه عما سواه) لعل المراد بالخالص الإيمان الحقيقي واليقين بالله وإضافة والصافي إليه أما بيانية أو لاميه بأن يراد بالصافي التقرب منه تعالى وحب لقائه ولقاء الآخرة، هذا وجه لشغل قلبه الشريف عما سواه، وأما وجه حزنه فلعله أن الإنسان وان طي مقامات السير ووصل إلى الحق وقرب منه لكنه مادام في هذه الدار لا يخلو من بعد في الجملة، وإنما يحصل القرب التام والوصول الكامل بعد المفارقة منها فالعارف في هذا الدار دائما في شعل عما ذكر وحزن لفقد هذا الكمال الذي لا يتأتي إلا بالموت ولذلك قال علي (عليه السلام) حين ضرب " فزت برب الكعبة " ثم أشار إلى ذم الدنا وترك محبتها على وجه يشعر بتحقيرها بقوله: (يا جابر ما الدنيا وما عسى أن تكون الدنيا هي إلا طعام اكلته، أو ثوب لبسته، أو امرأة أصبتها) للتنبيه على أن جل منافع الدنيا هذه الامور هي منصرمة منقضية لا بقاء لها. والعاقل لا يجب ولا يركن إلى ما هو في معرض الفناء والزوال سريعا، ثم أشار إلى أن المؤمنين السابقين لم يركنوا إلى الدنيا ولم يطمئنوا ببقائهم فيها خوفا من أمر الآخرة وقدومهم إليها بقوله (يا جابر إن المؤمنين لم يطمئنوا ببقائهم فيها ولم يأمنوا قدومهم الآخرة) بل تركوا الدنيا وخافوا قدومهم الآخرة والمراد بالمؤمنين المؤمنون الكاملون وهم الكرماء والمتورعون في مكاسبهم والملازون فيها للأعمال الجميلة الصالحة والأخلاق الفضيلة الكاملة وأداء الحقوق النفسية والبدنية البالغون بذلك إلى أعلى مراتب المحبة وأقصى معارج اليقين، ثم بالغ في الحث على الزهد في الدنيا بقوله: (يا جابر الآخرة دار قرار والدنيا دار فناء وزوال ولكن أهل الدنيا أهل غفلة) للتنبيه على أنه لا ينبغي ايثار الفاني على الباقي ولكن أهل الدنيا لما كانوا جاهلين بقبائح الدنيا غافلين عن أمر الآخرة واختاروا الزائل ترجيحا للشاهد على الغائب وهو محل التعجب ولذلك قال أمير المؤمنين (عليه السلام) " عجبت لعامر دار الفناء وتارك دار البقاء " ثم أشار إلى أن كمال الإيمان والزهد في الدنيا يتحققان


[ 378 ]

بالفقه والفكرة والعبرة بقوله: (وكأن المؤمنين هم الفقهاء أهل فكرة وعبرة لم يصمهم عن ذكر الله جل اسمه ما سمعوا بآذانهم) من أخبار بسطة أيدى السابقين والقاصين وكثرة أموالهم وشدة تمكنهم من الدنيا (ولم يعمهم عن ذكر الله ما رأوا) في أهل الدنيا - (ومن الزينة بأعينهم ففازوا) لترك الدنيا (بثواب الآخرة كما فازوا بذلك العلم) إذا بتفقههم يعرفون الخير والشر ويميزون بين الحق والباطل وبين الباقي والزائل وبفكرتهم يتفكرون في أحوال ما بعد الموت إلى أن يدخل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار، وفي وهوال ما يرد عليه الإنسان بعده من المقامات وصعود بالتخلص منها وبالعبرة يعتبرون بأنفسهم في كيفية وصول الرزق إليهم حين كونهم أجنة في بطون امهاتهم من غير إختيار ولا عمل لهم، وبأحوال الماضين وما كانوا فيه من نعيم الدنيا ولذاتها والمباهات بكثرة الأموال والأعوان، ثم المفارقة لذلك كله بالموت أو الاخذ، وبقاء الحسرة والندامه والأعمال وعلائق الدنيا حجبا حائلة بينهم وبين الرحمة وحضرة جلال الله وذلك يبعثهم على الزهد في الدنيا والإقبال ظاهرا وباطنا إلى الله تعالى والسعي للآخرة رحم الله من تفقه وتفكر وإعتبر فأصبر، ثم أشار إلى جملة من حالات الزاهدين وصفات المتقين بقوله: يا جابر ان أهل التقوى أيسر أهل الدنيا مؤونة) أي ثقلا لأنهم لا يتحملون من الدنيا إلا القدر الضروري في التعيش والبقاء (وأكثرهم لك معونة) لأنهم مستعدون لاعانة المحتاجين في أمور الدنيا والدين سألوا أم لا كما أشار إليه بقوله (تذكر) أي حاجتك، (فيعينونك) فيها (وإن نسبت ذكروك) وأرشدوك إليها وإلى طريق قضائها، ثم يعينونك مع الحاجة إلى الإعانة (قوالون بأمر الله) لأن شأنهم إرشادهم وهدايتهم للخلق إلى ما فيه صلاحهم وزجرهم عما فيه فسادهم (قوامون على أمر الله) يحفظونه من الزيادة والنقصان ويمنعون عنه تصرف أهل الجهل والطغيان فهو بعنايتهم ينتظم ويقوم وبحمايتهم يستقيم ويدوم (قطعوا محبتهم بمحبة ربهم) أي قطعوا محبتهم عن جميع الأشياء وإختاروا محبة ربهم، أو تركوا ما يحبونه وعملوا بما يحبه ربهم. (ووحشوا الدنيا لطاعة مليكهم) أي إنقطعوا عن الدنيا وفروا منها ولم يستأنسو إليها لأن يطيعوا مالكهم فيما أراد منهم من ترك الدنيا أو الأعم منه ومن ترك جميع الشرور وفعل جميع الخيرات بقلب فارغ عن غيره (ونظروا إلى الله عز وجل وإلى محبته بقلوبهم) بقلوبهم متعلق بنظروا وإنما أخرها مع أن النظر مسند إليها في الحقيقة أما للإهتمام بالمقدم أو لقصد الحصر أي نظروا ببصيرة قلوبهم إلى الله وإلى محبته لا إلى غيرهما والأخير أنسب بقوله (وعلموا أن ذلك) أي ذلك المذكور وهو الله ومحبته والإشارة للتعظيم.


[ 379 ]

(هو المنظور إليه لعظيم شأنه) أي هو الذي ينبغي أن ينظر إليه لا إلى غيره لعظمته شأنه وحقارة ما سواه، ثم خاطب جابرا وكل من يصلح للخطاب وزهده في الدنيا بتمثيل بليغ بقبح حال الدنيا وصاحبها فقال (فأنزل الدنيا كمنزل نزلته) في سفرك (ثم إرتحلت عنه، أو كما وجدته في منامك) مثل مال وجاه وإمرأة جميلة. (فأستيقظت وليس معك منه شئ) شبه الدنيا بذلك المنزل في قلة زمان الكون فيه وشبه متاعها بذلك الكمال (1) بالموت الشبيه بالإستيقاظ فلا يكون معك منه شئ كما لا يكون مع المتقيظ من ذلك الكمال شئ. ويظهر منه سر قوله أمير المؤمنين (عليه السلام) (الناس نيام فإذا ماتوا إنتبهوا) والعاقل اللبيب إذا نظر إلى الدنيا بعين البصيرة ووجدها متصفة بالصفات المذكورة زال عنه حبها. قال الشاعر موافقا لهذا التمثيل: نزلنا ههنا ثم إرتحلنا * كذا الدنيا نزول وإرتحال أردنا أن نقيم بها ولكن * مقام المرء في الدنيا محال وقال بعض أكابر الشيعة: " والله لو كانت الدنيا بأجمعها تبقى علينا ويأتي رزقها رغدا ما كان من حق حر أن يذل لها فكيف وهي متاع يضمحل غدا " ثم أشار إلى التمثيل آخر أبلغ وأظهر بقوله (إني إنما ضربت لك هذا مثلا لأنها عن أهل اللب والعلم بالله كفئ الظلال) في سرعة الزوال، أو في أنه ليس بشئ حقيقة، أو في الإستظلال به قليلا ثم الإرتحال عنه، أو في أنه يرى ساكنا وهو يزول بالتدريج آنا فآنا والدنيا كذلك " والظلال " جمع الظل وهو والفئ بمعنى واحد عند كثير من الناس، وقال إبن قتيبة وليس كذلك بل الظل يكون غدوة وعشية والفئ لا يكون إلا بعد الزوال فلا يقال لما قبل الزوال فئ وإنما سمى بعد الزوال فيئا لأنه ظل فاء عن جانب المغرب إلى جانب المشرق، والفئ الرجوع، وقال إبن السكيت الظل من الطلوع إلى الزوال والفئ من الزوال إلى المغرب، وقال ثعلب الظل للشجرة وغيرها للغداة والفئ بالعشاء، وقال رؤبة بن العجاج كلما كانت عليه الشمى فزالت عنه فهو ظل وفئ وما لم تكن عليه الشمس فهو ظل ومن هنا قيل الشمس تنسخ الظل والفئ ينسخ الشمس. (يا جابر فأحفظ ما إسترعاك الله عز وجل من دينه وحكمته) وهي العلم بالشرائع والمراد بحفظه حفظه عن الضياع والعمل وبه وتعليمه لمن هو أهل له.


1 - كما حرف الجر دخلت على كلمة مال لأمن كمل كما توهمه (ش). (*)

[ 380 ]

(ولا تسألن عما لك عنده) من الحقوق مثل الرزق وغيره لأنه لا يترك ما للعبد عليه وما ورد من الحث على الدعاء لطلب لرزق فهو لكن الدعاء عبادة، أو للتوسعة، أو لغير ذلك مما يجئ تفصيله في كتاب الدعاء إن شاء الله تعالى. (إلا ما له عند نفسك) من الطاعة والتسليم والزهد في الدنيا فإنك تحتاج إلى السؤال عنه وطلب المدد الإعانة والتوفيق منه تعالى والإستثناء من الموصول وظاهره الإنقطاع لأن الحقين متغايران لا يصدق أحدهما على الآخر ويمكن أرجاعه إلى الإتصال لأن ماله عند نفسك فهو لك في الحقيقة وثمرته راجعة إليك لأنه أجل من أن يحتاج إلى شئ ويعود إليه فوائد من العباد والله أعلم. (فإن تكن الدنيا على غير ما وصفت لك فتحول إلى دار المستعتب) هذا من الغريب وحقيقته غير معلومة لنا، ولكن نقول على سبيل الإحتمال: لاريب في إتصاف الدنيا بالأوصاف المذكورة والناس فيه ثلاثة أقسام لأن من إعتقد بإتصافها بها وجب عليه الزهد فيها عملا بمقتضى علمه ومن إعتقد بعدم إتصاف أو لم يعتقد بالإتصاف ولا بعدمه فليتحول إليها ليعلم شدائذها وإنقلابها على أهلها وإتصافها بما ذكر بالتجربة والإمتحان والشرط المذكور شامل للأخيرين والمستعتب بالكسر من يطلب الرضا بإزالة ما عوتب عليه وخوطب بالسخط، وإنما قال " فتحول إلى دار المستعتب " ولم يقال فتحول إليها للإشعار بأن كل أهل الدنيا والمائل إليها مستعتب يوم القيمة ونادم على ما كان عليه وطالب للعفو والرضا ولكن لا ينفعه ذلك كما ورد " ما بعد الموت بعد مستعتب ". (فلعمري لرب حريص على أمر قد شقى به حين أتاه ولرب كاره لأمر قد سعد به حين أتاه) كما قال جل شأنه * (وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم " إذ ما من شئ إلا وله جهات متعددة فربما أحد حسن جهة فيطلبه وهو غافل عن قبح جهات آخر، أو عن قبح عاقبة تلك الجهة وربما يدرك قبح جهة فيكرهه وهو غافل عن حسن جهات آخر، أو عن حسن عاقبة تلك الجهة. (وذلك قول الله عز وجل وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين) أي كون مكروه الدنيا سعادة ومرغوبها شقاوة أو حصول السعادة بالمكروهات وحصول الشقاوة بالمرغوبات مضمون هذا القول الكريم، فإن تمحيص المؤمن إنما بكون بورود مكاره النفوس وما يثقل عليها ليخرج من بوتقة الإمتحان خالصا صافيا سعيدا وترك التمحيص في الحريص يوجب محقه وفساده وإمتداده في الغي والطغيان فالتمحيص في المؤمن لطف وإحسان وتركه في الحريص محق وخذلان. * الأصل


[ 381 ]

17 - عنه، عن علي بن الحكم، عن موسى بن بكر، عن أبي إبراهيم (عليه السلام) قال: قال أبو ذر رحمه الله جزى الله الدنيا عني مذمة بعد رغيفين من الشعير أتغذي بأحدهما وأتعشي بالاخر وبعد شملتي الصوف أتزر بإحديهما وأتردى بالاخرى. * الشرح قوله (قال أبو ذر (رضي الله عنه) جزى الله الدنيا عنى مذمة بعد رغيفين من الشعير) أشار إلى أن غير ما ذكره من الدنيا عنده مذموم وأحال ذمه إلى الله تعالى نيابة عند للدلالة على كمال ذمه لأن كل فعل من الفاعل القوى بالغ حد الكمال، وأما ما ذكره فغير مذموم لأن كل شخص يحتاج في بقائه الغذاء واللباس ليكون بدلا عما يتحلل ويحفظه عن الحر والبرد وما بذكره وإتضاه لنفسه هو أقل المراتب منها وبالجملة حث به على ترك الدنيا إلا الضرورة منها. * الأصل 18 - وعنه، عن علي بن الحكم، عن المثني، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان أبو ذر (رضي الله عنه) يقول في خطبته: يا مبتغي العلم كأن شيئا من الدنيا لم يكن شيئا ما ينفع خيره ويضر شره إلا من رحم الله، يا مبتغي العلم لا يشغلك أهل ولا مال عن نفسك، أنت يوم تفارقهم كضيف بت فيهم ثم غدوت عنهم إلى غيرهم، والدنيا والاخرة كمنزل تحولت منه إلى غيره وما بين الموت والبعث إلا كنومة نمتها ثم إستيقظت منها، يا مبتغي العلم قدم لمقامك بين يدي الله عز وجل، فإنك مثاب بعملك كما تدين تدان يا مبتغي العلم. * الشرح قوله (يا مبتغي العلم كان شيئا من الدنيا لم يكن شيئا) خاطب طالب العلم وعمه ما هو خير له وهو الزهد في الدنيا ورغبه فيه بقوله (إلا ما ينفع خيره ويضر شره إلا من رحم الله) الظاهر أن " إلا " حرف تنبيه وما نافية والضمير البارز راجع إلى شيئا والجملة بيان لما قبلها يعنى أن شيئا من الدنيا ليس شيئا يعتد به ويركن إليه العاقل لأنه أما خير أو شر وخيره لا ينفع لأنه في معرض الفناء والزوال وشره يضر إلا من رحم الله وهو الذي عصمه من الشر وفيه زجر عن التعرض لشئ منها وإنما قال من الدنيا ولم يقل في الدنيا لأن في الدنيا شئ يعتد به إذا كان متعلقا بالآخرة فخيره يطلب وشره يترك ولما كان سبب الغفلة في الاكثر هو الاشتغال بالاهل والمال وصرف العمر في رعايتهما وحفظهما نهى عن ذلك بقوله (يا مبتغى العلم لا يشغلك أهل ولا مال عن نفسك) أي عن تحصيل ما ينفعك في يوم لا ينفع مال ولا بنون كما قال جل شأنه * (يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فاولئك هم الخاسرون " ثم رغب في تركها وحكم بأنه سله لقة


[ 382 ]

زمانها بقوله (أنت يوم تفارقهم كضيف بت فيهم ثم غدوت عنهم إلى غيرهم) التشبيه بالضيف في قلة الإقامة وقرب الرحيل وفيه مع ما يليه تنبيه على سرعة الإنتقال والنزول في الاخرة ومشاهدة أهوالها وكراماتها وتحريص على تحمل المشاق فيها وتحصيل زاد الاخرة. (يا مبتغى العلم قدم لمقامك بين يدي الله عز وجل) أي قدم العمل والعمل متوقف على العلم ولذلك خاطب ميتغيه بذلك، وفي قوله " كما تدين تدان " تنبيه على وجوب حسن المعاملة مع الرب إذا كان حسن جزائه بقدر حسن المعاملة معه وقبحه بقدر قبحها. ويؤيده ما روى " وكما تزرع تحصد " لفظ الزرع مستعار لما يفعله الإنسان من خير أو شر، ولفظ الحصد لما يثمر ذلك الفعل من ثواب أو عقاب، ووجه الإستعارتين ظاهر. * الأصل 19 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن القاسم بن يحيى، عن جده الحسن بن راشد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): مالي وللدنيا وما أنا والدنيا إنما مثلي ومثلها كمثل الراكب رفعت له شجرة في يوم صائف فقال تحتها ثم راح وتركها. * الشرح قوله (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما لي وللدنيا وما أنا والدنيا) ومن طريق العامة روى عن إن مسعود أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نام على حصير فقام وقد أثر في جسده فقالوا لو أمرتنا أن نبسط لك ونعمل فقال " مالي وللدنيا وما أنا والدنيا إلا كراكب إستظل تحت شجرة ثم راح وتركها " وهذا من التشبيه التمثيلي ووجه التشبيه سرعة الرحيل وقلة المكث وعدم الرضا به فقد أشار (عليه السلام) إلى أنه على بصيرة من نفسه ويقين من سرعة النزول في الاخرة ومشتاق إلى لقاء الله وحسن ثوابه والكرامة الأبدية المعدة للزاهدين لا إلى الدنيا وزهراتها. والصائف الحار. والقيلولة النوم قبل الزوال. * الأصل 20 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يحيى بن عقبة الأزدي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): مثل الحريص على الدنيا كمثل دودة القز، كلما إزدادت على نفسها لفا كان أبعد لها من الخروج حتى تموت غما، قال: وقال أبو عبد الله (عليه السلام): كان فيما وغط به لقمان إبنه: يا بني إن الناى قد جمعوا قبلك لأولادهم فلم يبق ما جمعوا ولم يبق من جمعوا له، وإنما أنت عبد مستأجر قد امرت بعمل ووعدت عليه أجرا فاوف عملك واستوف أجرك ولا تكن في هذه الدنيا بمنزلة شاة وقعت في زرع أخضر فأكلت حتى سمنت فكان حتفها عند سمنها ولكن أجعل الدنيا بمنزلة قنطرة على نهر جزت عليها وتركتها ولم ترجع إليها آخر الدهر، أخربها ولا


[ 383 ]

تعمرها. فإنك لم تؤمر بعمارتها، وأعلم أنك ستسأل غدا إذا وقفت بين يدي الله عز وجل عن أربع: شبابك فيما أبليته وعمرك فيما أفنيته ومالك مما إكتسبته وفيما أنفقته، فتأهب لذلك وأعد له جوابا، ولا تأس على ما فاتك من الدنيا، فإن قليل الدنيا لا يدوم بقاؤه وكثيرها لا يؤمن بلاؤه، فخذ حذرك، وجد في أرك وإكشف الغطاء عن وجهك وتعرض لمعروف ربك وجدد التوبة في قلبك وإكمش فيه فراغك قبل أن يقصد قصدك ويقضى قضاؤك ويحال بينك وبين ما تريد. * الشرح قوله (مثل الحريص على الدنيا كمثل دودة القز) تشبيه تمثيلي في غاية الحسن واللطف ووجه التشبيه هو أن الدودة تفعل فعلا فيه هلاكها ونفع غيرها وهي لا تعلم وكذلك الحريص على الدنيا. قوله (كان فيما وعظ به لقمان إبنه يا بني إن الناس قد جمعوا قبلك لأولادهم فلم يبق ما جمعوا ولم يبق من جمعوا له) فيه تزهيد في صرف العمر في الفاني كما أن في قوله (وإنما أنت عبد مستأجر - إلى آخره) ترغيب في صرفه في الباقي للباقي والتشبيه بالمستأجر تمثيل للمعقول بالمحسوس فكما أن الأجير لا يستحق الاجرة بدون العلم كذلك أنت لا تستحق الثواب بدون العمل له، ويقرب منه ما روى عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال " الناس في الدنيا عاملان عامل للدنيا في الدنيا قد شغلته دنياه عن آخرته. يخشى على من يخاف الفقر يأمنه على نفسه فيفني عمره في منفعة غيره، وعامل عمل في الدنيا لما بعدها فجاءه الذي له من الدنيا بغير عمل فأحرز الحظين معا وملك الدارين جميعا، فأصبح وجيها عند الله لا يسأل الله حاجة شيئا ثم أشار إلى أن الحرص في الدنيا مهلك بقوله: (ولا تكن في هذه الدنيا بمنزلة شاة) هذا أيضا تشبيه تمثيلي وفيه تزهيد في تناول زهرات الدنيا ومطعوماتها الشهية وكثرة الأكل منها فإن ذلك موجب لقوة النفس الإمارة وطغيانها وسبب لهلاكها ثم أمر بعتم الركون إلى الدنيا والإستقرار فيها للجمع والإدخار بقوله: (ولكن إجعل الدنيا بمنزلة قنطرة على نهر) هذا أيضا تمثيل ووجه ظاهر إذ كل عاقل يعلم أن الدنيا محل العبور لا محل النزول كالقنطرة فأنظر هل ترى فيها من السابقين أحدا، ثم أمر برفض كل ما لا يحتاج إليه بقوله: (أخربها ولا تعمرها فإنك لم تؤمر بعمارتها) لعل المراد بإخرابها ترك ما لا يحتاج إليه من المطاعم والمشارب والملابس والمساكن والمناكح والإقتصار على القدر الضروري في كل منها. إذ لا بد للسالك من زاد للدنيا وزاد للآخرة فزاد الدنيا القدر الضروري مما ذكر وكلما كان أقل فهو أحسن وأفضل وزاد الآخرة العلم والعمل وتهذيب الظاهر والباطن وهو كلما كان اتم وأكثر كان


[ 384 ]

أحسن وأجدر. وفي قوله: (وأعلم أنك ستسال غدا) ترغيب في صرف قوة الشباب والعمر في طلب الدين والعمل به وإكتساب المال من طرق الحلال وإنفاقه في الوجوه المشروعة وإرشاد إلى التأهب والإستعداد للجواب ومراقبة النفس ومحاسبتها في كل آن لئلا يقع في هاوية النقصان والخذلان. (ولا تأس على مما فإتك من الدنيا - إلى آخره) وفيه ترغيب في تطهير القلب عن حب الدنيا أي لا تحزن على ما فاتك من قليل الدنيا وكثيرها. (فإن قليل الدنيا لا يدوم بقاؤه) والعاقل لا يتأسف بقوات قليل لا بقاء له (وكثيرها لا يؤمن بلاؤه) والعاقل لا يتأسف بفوات ما يوقعه في الضرر والبلية (فخذ حذرك) الحذر " تهيئه كار " ولعل المراد به تجهيز أمر الاخرة بتطهير الظاهر والباطن (وجد في أمرك) لعل المراد به تحليلة الظاهر والباطن بالأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة. (وإكشف الغطاء عن وجهك) أي عن وجه قلبك. وغطاؤه ما يحجبه عن مشاهدة المعبود وملاحظة المقصود ويمنعه من الوصول إليه والتقرب منه من مفاسد العقائد ومقابح الأعمال والأخلاق، وكشفه رفعه الموجب لمشاهدة جلاله وكماله والإتصال به إتصالا روحانيا. (وتعرض لمعروف ربك) وهو ما أراد منك، أو أجره في الاخرة، أو ما يفضيه على أهل العرفان (وجدد التوبة في قلبك) اشارة إلى أن التوبة أمر قلبي وهي الندامة عما مضى والعزم على عدم الإتيان بمثله، وإلى رجحان تجديد التوبة بعد التوبة لأن السالك لا بد أن يكون في ندامة بعد ندامة دائما (وأكمش في فراغك) أي عجل وأسرع، أو تشمر وجد في فراغك عما يوجب الغر والخذ لأن لما يوجب العز والإحسان. (قبل أن يقصد قصدك) أي نحوك يقال قصدت قصده أي نحوه (ويقضى قاؤك) أي موتك، أو سو خاتمتك. (ويحال بينك وبين ما تريد) من التوبة والطاعات الأخلاق النافعة بعد الموت أو الرجعة إلى الدنيا وتمنيها بعده لتحصيل ما ينفع في الاخرة عند مشاهاة كرامة الأولياء وشقاوة الأشقياء، أو تأخير الأجل عند الإحتضار فنقول * (رب لولا أخرتني إلى أجل قريب وفاصدق وأكن من الصالحين " والعاقل ينبغى أن يتصور أنه طلب الرجعة فرجع ويسعى في طلب الخيرات في كل زمان بقدر الإمكان ويحفظ نفسه عن الغفلة والنسيان والله هو المستعان. * الأصل 21 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن إبن محبوب، عن بعض أصحابه، عن إبن أبي يعفور قال: سمعت


[ 385 ]

أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: فيما ناجي الله عز وجل به موسى (عليه السلام) يا موسى لا تركن إلى الدنيا ركون الظالمين وركون من إتخذها أبا واما موسى لو وكلتك إلى نفسك لتنظر لها إذا لغلب عليك حب الدنيا وزهرتها، يا موسى نافس في الخير أهله وإستبقهم إليه، فإن الخير كاسمه واترك من الدنيا ما بك الغني عنه ولا تنظر عينك إلى كل مفتون بها وموكل إلى نفسه، وأعلم أن كل فتنة بدؤها حب الدنيا ولا تغبط أحدا بكثرة المال فإن مع كثرة المال تكثر الذنوب لواجب الحقوق ولا تغبطن أحدا برضى الناس عنه، حتى تعلم أن الله راض عنه ولا تغبطن مخلوقا بطاعة الناس له، فإن طاعة الناس له، وأتباعهم إياه على غير الحق هلاك له ولمن إتبعه. * الشرح قوله (يا موسى لا تركن إلى الدنيا ركون الظالمين) أريد بالظالمين أهل الدنيا مثل سلاطين الجور وأتباعهم ومن يحذو حذوهم في الركون إليها. (وركون من إتخذها أبا واما) شبه الدنيا بالاب والام وأهلها بالأطفان في الركون إليها والانس بها (يا موسى لو وكلتك إلى نفسك لتنظر لها) أراد بالنظر لها نظر ميل وإرادة وأما النظر إليها نظر تفكر وعبرة فهو يوجب الإعراض عنها. (يا موسى نافس في الخير أهله) نافست في الشئ منافسة ونفاسا إذا رغبت فيه على وجه المبارات والمغالبة (وإترك من الدنيا ما بك الغني عنه) أما ما لا غني عنه من الضروريات اللائقة شرعا وعقلا فلا ينبغى تركه (ولا تغبطن أحدا برضى الناس عنه حتى تعلم أن الله راضي عنه) دل على عدم جواز الغبطة في أمر الدنيا الغير الضروري وعلى جوازها في أمر الدين والغبطة أن تتمنى حال المغبوط من غير أن تريد زوالها عنه. * الأصل 22 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن عبد الله بن المغيرة، عن غياث بن إبراهيم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن في كتاب علي صلوات الله عليه: إنما مثل الدنيا كمثل الحية ما ألين مسها وفي جوفها السم الناقع، يحذرها الرجل العاقل ويهوى إليها الصبي الجاهل. * الشرح قوله (إنما مثل الدنيا كمثل الحية ما ألين مسها وفي جوفها السم الناقع) أي القاتل وهو من صيغ التعجب وفيه إشارة إلى وجه التشبيه وهو أما متعدد أو مركب من متعدد وعلى التقديرين في المشبه به حسى وفي المشبه عقلي والغرض من هذا التشبيه أما بيان حال المشبه وصفته أو تقبيحه في نظر السامع لبتنفر طبعه عنها وهما إنما يقتضيان أن يكون المشبه به أعرف وأشهر في وجه


[ 386 ]

التشبيه من المشبه ولا ينافي ذلك أن يكون الأمر بالعكس في الاتمية فعلى هذا يمكن أن يكون تأثير سم الدنيا أقوى وأتم لأنه يؤثر في النفس الناطقة ويوجب الهلاك الأبدي، ومس الدنيا كناية عن جمع زهراتها الفانية وإلالتذاذ بها، وسمها عبارة عما يترتب عليه في المآل (يحذرها الرجل العاقل) لعلمه بأن القرب منها وتناولها يوجب هلاكه فيكون انسه وسروره بالحذر عنها والفرار منها والإتصال بالمولى. (يهوى إليها الصبي الجاهل) إطلق على طالب الدنيا لفظ الصبي على سبيل الإستعارة لعدم عمله بما يضره وينفعه إذ ليس له بصيرة باطنية ليدرك بها بواطن الامور، ولذلك نظره مقصور على ظوارهرها وهمه مصروف إلى التمسك بها والركون إليها حتى لو منعه مانع لعارضه أشد المعارضة وقاتله أقبح المقاتلة فربما يحسبه الحرص في سجن المهالك وهو مشعوف بذلك فيأتيه الموت ويفسد عليه وهو في الاخرة من الخاسرين. * الأصل 23 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن أبي جميلة قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): كتب أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى بعض أصحابه يعظه اوصيك ونفسي بتقوى من لا تحل معصيته ولا يرجى غيره ولا الغي إلا به، فإن من إتقى الله عز وجل وقوي وشبع وروى ورفع عقله عن أهل الدنيا، فبدنه مع أهل الدنيا وقلبه وعقله معاين الاخرة، فأطفأ بضوء قلبه ما أبصرت عيناه من حب الدنيا فقذر حرامها وجانب شبهاتها وأضر والله بالحلال الصافي إلا ما لا بد له [ منه ] من كسرة يشد بها صلبه يواري به عورته من أغلظ ما يجد وأخشنه ولم يكن له فيما لا بد له منه ثقة ولا رجاء، فوقعت ثقته، ورجاؤه على خالق الأشياء، فجد وإجتهد وأتعب بدنه حتى بدت الأضلاع وغارت العينان فأبدل الله له من ذلك قوة في بدنه وشدة في عقله وما ذخر له في الاخرة أكثر، فأرفض الدنيا فإن حب الدنيا يعمي ويصم ويبكم ويذل الرقاب فتدارك ما بقي من عمرك ولا تقل غدا [ أ ] وبعد غد، فإنما هلك من كان قبلك بإقامتهم على الأماني والتسويف حتى أتاهم أمر الله بغتة وهم غافلون، فنقلوا على أعوادهم إلى قبورهم المظلمة الضيقة وقد أسلمهم الأولاد والأهلون، فإنقطع إلى الله بقلب منيب من رفض الدنيا وعزم ليس فيه إنكسار ولا إنخزال، أعاننا الله وإياك على طاعته ووفقنا الله وإياك لمرضاته. * الشرح قوله (كتب أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى بعض أصحابه يعظه اوصيك ونفسي بتقوى [ الله ]) الوعظ الأمر بالطاعة وعليه قوله تعالى * (قل إنما أعظكم بواحدة) أي آمركم وقيل الوعظ تذكير مشتمل


[ 387 ]

على زجر وتخويف وحمل على طاعة الله بلفظ يرق له القلب والإسم الموعظة والوصية بالشئ الأمر به وعليه قوله تعالى * (يوصيكم الله في أولادكم " أي يأمركم وقوله " من لا تحل معصيته " بدل أو وصف للجلالة (فإن من إتقى) الظاهر أنه علة لقوله " اوصيك " يعني أمرتك بالتقوى فإن من إتقى الله وإجتنب عن معصية وتنزه عما يشغل عنه (عز) بعزة ربانية لأذل معها. (وقوى) بقوة روحانيه لأضعف فيها (وشبع) بحكمة إلهية لأجل معها. (وروى) بزلال أسرار غيبية وألطاف لا هوتية لا يحتاج معها إلى غيرها (و) لذلك (رفع عقله عن أهل الدنيا) حيث أن عقولهم عكفت كالذباب على ميتة الدنيا وعقله سائر في الملاء الأعلى (فبدنه مع أهل الدنيا) لكون من جنس أبدانهم في الصورة الجسدانية. (وقلبه وعقله معاين الاخرة) لتجرده عن العلائق الجسمانية. (فاطفأ بضوء قلبه ما أبصرت عيناه) من حب الدنيا، الاطفاء اخماد النار حتى لايبفى منها شئ وضوء القلب عبارة عن صورة العلمية المايزة بين الحق والباطل والحسن والقبح، وفي عدحب الدنيا مبصرا مسامحة، وتشبيهه بالنار في الإحراق والاهلاك إستعارة مكنية ونسبة الاطفاء إليه تخلييلية. (فقذر حرامها) القذر الوسخ وهو مصدر قذر الشئ فهو قذر من باب تعب إذا لم يكن نظيفا، وقذرته من باب تعب أيضا وإتسقذرته وتقذرته كرهته لوسخ فأقذرته بالالف وجدته كذلك وكثيرا ما يطلق على النجس وهو المراد هنا. (وجانب شبهاتها) وهي المشتبهات بالحرام مع عدم العلم بأنها حرام كأموال الظلمة الاخذين لأموال الناس ظلما (وأضرو الله بالحلال الصافي) وهو الحلال الخالص من الحرام قطعا (إلا ما لا بد له) وهو أقل المعيشة الذي لا يمكن الوجود والبقاء والطاعة بدونه (من كسرة يشد بها) صلبه الكسرة باكسرة القطعة من الشئ المكسور ومنه الكسر من الخبز المتخذ من دقيق الحنطة والشعير أو غيرهما والجمع كسر مثل سدرة وسدر. (وثوب يواري به عورته من أغلظ ما يجد وأخشنه) حض العوره بالذكر لأنها أهم بالمواراة وإلا فلا بد من ثوب يواري به سائر البدن عند الإحتياج إليه لحفظ الحر والبرد (ولم يكن له فيما لا بد له منه ثقة ولا رجاء) نفي الثقة والإعتماد فيما لا بد منه عند كونه حاصلا ونفي الرجاء عند عدم كوهنه حاصلا. (فوقعت ثقته) عند الحصول (ورجاؤه) عند عدمه (على خالق الأشياء) هذا غاية الزهد والتوكل حيث قطع تعلقه بالوسائط والأسباب وخص تعلقه برب الأرباب. (فجد وإجتهد) أي فجد في السير إليه والعمل له وإجتهد في تهذيب الظاهر والباطن مما يمنع


[ 388 ]

القرب منه (واتعب بدنه) بأنحاء العبادات والرياضيات. (حتى بدت الاضلاع) لشدة هزاله بكثرة التعب وقلة الغذاء (وغارت العينان) لكثرة السهر وقلة النوم (فأبدل الله له من ذلك قوة في بدنه) يتحمل بها الأعمال الشاقة مع ضعف البنية (وشدة في عقله) يدرك بها الأسرار اللاهوتية ويتحمل الأنوار الملكوتية (وما ذخر له في الاخرة) من الاجر الجميل والثواب الجزيل والمقامات العالية والدرجات الرفيعة (أكثر) مما آتاه في الدنيا (فأرفض الدنيا فإن حب الدنيا) وهو ميل النفس إليها بحيث يفرح بحصولها ويحزن بفواتها. (يعمى ويصم ويبكم ويذل الرقاب) المراد بالعمي عمى البصيرة فإن حب الدنيا حاجز بينها وبين الحق وأسراره، مانع من إدراكها. ويحتمل عمى الصبر فان حبها مانع من إدراك البصر تقلبها على أهلها وإدراك نوائبها الدالة على هوانها كما أنه مانع من سماع نداه الداعي إلى فراقها وآيات الحق على زوالها وفنائها ومن التكلم بالأوامر والنواهي وتقبيح المنكرات لأن كل ذلك مناف لما إرتكبه من الميل إلى الدنيا وحب الشهوات وهو مع ذلك موجب لذل الرقاب إذ في حبها وتحصيلها وضبطها وحفظها من أهل الجور مذلة ظاهرة لاولى الالباب (فتدارك ما بقى من عمرك) واصرفه في عبادة ربك وتدارك ما فات وإنصرف عن حب الدنيا إلى المقتضيات (فتدارك ما بقى من عمرك) وإصرفه في عبادة ربك وتدارك ما فات وإنصرف عن حب الدنيا إلى المقتضيات (ولا تقل غدا وبعد غد فإنما هلك من كان قبلك باقامتهم على الأماني والتسويف) هذا قول أهل الأماني والامال ومناطه حب الدنيا فإن حبها يبعثه على صرف العمر في تحصيلها وجمعها وصرف الفكر في كيفية تحصيل ما يأمل ويرجو منها وتدبير إزالة المانع منه وهو بذلك يغفل عن أمر الاخرة وما ينفعه فيها، ولو خطر بباله يسوفه ويقول أفعله غدا وبعد غد وبعد تعمير هذه العمارة إنقضاء هذه التجاوز وإحصاد هذه الزراعة، وهكذا بعد إشتغاله المتولدة بعضها عقب بعض إلى أن يأتيه الموت بغتة وهو في خسران مبين وفيه ردع عن تسويف التوبة والعبادات والقيام على الأماني وحب الشهوات فإن كل ذلك مع قطع النظر عن كونه مانعا بالفعل قد لا يتحصل له بإتيان الموت بغتة وخروج الأمر من يده ووصوله إلى الغد ليس بإختياره على أن الرجوع من الذنوب في الغد ليس بأسهل من اليوم بل هو أصعب لأن المعصية بإستمرارها تشتد وتقوى حتى تصير ملكة فإزالتها حينئذ أشد وأصعب، فإذا عجز عن إزالة الأضعف فهو عن إزالة الأصعب أعجز. (فإنقطع إلى الله بقلب منيب من رفض الدنيا) الظاهر أن فانقطع أمر معطوف على فأرفض الدنيا. والانابة الرجوع إلى الله تعالى و " من " تعليل لها وعزم عطف على قلب وهو عقد الضمير وإلا نخزال الإنقطاع.


[ 389 ]

* الأصل 24 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن عبد الله بن المغيرة وغيره، عن طلحة بن زيد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: مثل الدنيا كمثل ماء البحر كلما شرب منه العطشان إزداد عطشا حتى يقتله. * الشرح قوله (مثل الدنيا كمثل ماء البحر) هذا التمثيل في غاية الحسن والوجه هو إزدياد الحرص في الجمع والشرب المفضى إلى الهلاك بالاخرة، ومن البين أن طالب الدنيا إذا توجه إلى أمر واحذ منها يتولد منه أمور كثيرة وتشبتك فيه إشغال غير محصورة بعضها عقب بعض وصرف العمر فيها والحرص في تحصيلها يوجب هلاكه. 25 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الوشاء قال: سمعت الرضا (عليه السلام) يقول: قال: عيسى بن مريم صلوات الله عليه للحواريين: يا بني إسرائيل لا تأسوا على ما فاتكم من الدنيا كما لا يأسي أهل الدنيا على ما فاتهم من دينهم إذا أصابوا ديناهم.


[ 390 ]

* الأصل (باب) 1 - الحسين بن محمد الأشعري عن معلى بن محمد، عن الحسن بن علي الوشاء، عن عاصم ابن حميد، عن أبي عبيدة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن الله عز وجل يقول: وعزتي وجلالي وعظمتي وعلوي وارتفاع مكاني لا يؤثر عبد هواى على هوى نفسه إلا كففت عليه ضيعته وضمنت السماوات والأرض رزقه، وكنت له من وراء تجارة كل تاجر. * الشرح قوله (وعزتي وجلالي وعظمتي وعلوى وارتفاع مكاني) العزة القوة والشدة والغلبة قيل وعزته عبارة عن كونه منزها عن سمات الامكان وذل النقصان ورجوع كل شئ إليه وخضوعه بين يديه والعظمة في صفة الأجسام كبر الطول والعرض والعمق وفي وصفه تعالى عبارة عن تجاوز قدره عن حدود العقول والأوهام حتى لا يتصور الاحاطة بكنه حقيقته وصفاته عنه ذوى الافهام وعلو علو عقلي على الاطلاق بمعنى أنه لا رتبة فوق رتبته وذلك لأن أعلى مرات الكمال العقلي هو مرتبة العلية ولما كانت ذاته المقدسة مبدأ كل موجود حسى وعقلي لا جرم كانت مرتبته أعلى المراتب العقلية مطلقا وله العلو المطلق في العارى عن الإضافة إلى شئ، وعن امكان أن يكون فوقه ما هو أعلى منه، وهذا معنى قول أمير المؤمنين (عليه السلام) " سبق في العلو فلا أعلى منه " وارتفاع مكانه كناية عن عدم امكان الإشارة إليه بالعقول والحواس. (لا يؤثر عبد هواى على هوى نفسه) المراد بهوى النفس ميلها إلى ما هو مقتضى طباعها من اللذات الحاضرة الدنيوية والخروع عن الحدود الشرعية وبهواه تعالى اعراضها عن هذا الميل وروعها إلى ما يوجب القرب إلى الحضرة الاحدية. (إلا كففت عليه ضيعته وضمنت السموات والأرض رزقه) يجوز في ضمنت تشديد الميم وتخفيفها، والسموات منصوبة على الأول ومرفوعة على الثاني وضيعة الرجل ما يكون منه معاشه كالصنعة والتجارة والزراعة وغير ذلك، ولعل المراد بها المعيشة، ويؤيده ما روى من طريق العامة " المؤمن أخو المؤمن يكف عليه ضيعته " قال ابن الأثير أي يجمع عليه معيشته ويضمها إليه. * الأصل 2 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن العلاء بن رزين، عن ابن سنان، عن أبي حمزة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال الله عز وجل: وعزتي وجلالي وعظمنتي وبهائي وعلو


[ 391 ]

ارتفاعي لا يؤثر عبد مؤمن هواي على هواه في شئ من أمر الدنا إلا جعلت غناه في نفسه وهمته في آخرته وضمنت السماوات والأرض رزقه وكنت له من وارء تجارة كل تاجر. * الشرح (وكنت له من وراة تجارة كل تاجر) الوراء فعال ولامه همزة عند سيبوبه وأبى عهلى الفارسي وياء عند المعامة وهو من ظروف المكان بمعنى قدام وخلف، والتجارة مصدر بمعنى البيع والشراء للنفع وقد يراد بها ما يتاجر فيه من الامتعة ونحوها على تسمية المفعول باسم المصدر، ولعل المراد أن كل تاجر في الدنيا للآخرة يجد نفع تجارته فيها من الجنة ونعيمها وحورها وقصورها، والله سبحانه بذاته المقدسة والتجليات اللائقة وراء هذا لهذا العبد الذي آثر هواه على هوى نفسه. وفيه دلالة على أن للزاهدين في الجنة نعمية روحانية أيضا، ويحتمل احتمالا بعيدا أن يكون كنت له كلاما تاما دالا على أنه تعالى هو الغاية لعمله ويكون ما بعده حالا لفاعل كنت دالا على أنه تعالى هو الرقيسب على عمل كل عامل، والمراد بجعل غناه في نفسه وهمتهن في آخرته كما في الخبر الآخر جعله غنيا في نفسه بإيصال رزقة إليه عن غيره تعالى وجهل همته وهي الإرادة والعزم القوى في أمر آخرته وهما أعظم المراتب الإنسانية إذ الإنسان بذلك الغنى لا يشاهد إلا ربه وبتلك الهمة يبلغ من حضيض النقص إلى أوج الكمال ويخجر من مذلة البعد إلى مقام الوصال.


[ 392 ]

(باب القناعة) * الأصل 1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن سنان، عن عمار بن مروان، عن زيد الشحام، عن عمرو بن هلال قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): إياك أن تطمح بصرك إلى من هو فوقك، فكفى بما قال الله عز وجل لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم): * (ولا تعجبك أموالهم ولا أولادهم) * وقال: * (ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحيوة الدنيا) * فإن دخلت من ذلك شئ فاذكر عيش رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فأنما كان قوته الشعير وحلواه التمر ووقوده السعف إذا وجده. * الشرح قوله (إياك أن تطمح بصرك إلى من هو فوقك) طمح بصره اإلية كمنع ارتفاع لينظر إليه، وأطمح بصره ورفعه وهو تحذير من النظر إلى الفوق فإنه يوجب ميل النفس إلى الدنيا وترك القناعة والصبر والشكر وعدم الرضا بقضاء الله وتقديره بخلاف النظر إلى إلا دون وهذا بالنظر إلى أهل الدنيا، وأما بالنظر إلى أهل الآخرة فالامر بالعكس ثم رغب في القناعة وعدم النظر إلى أهل الدنيا وما في أيديهم من زهراتها بقوله: (فإن دخلت من ذلك شئ فاذكر عيش رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فإنما كان قوته الشمير) أي غالبا (وحلواه التمر وقوده السعف إذا وجده) الوقود بالفتح الحطب والسعف بالتحريك أغصان النخل ما دامت بالخوص وهو ورقة فإن زال الخوص عنها قيل جريدة، والضمير في وجده راجع إلى كل واحد من الامور المذكورة يعني إن دخلك من ذلك شئ ينفخ الشيطان بأنك لم تقنع وتحمل على نفسك المشقة وابناء نوعك في نعمة جزيلة وراحة طوية وطلب سعة المعيشة من أي طريق يمكن فإدفعه بذكر ضيق عيش رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من أن الدنيا وما فيها خلقت له وما كان ذلك إلا لحقارة الدنيا وعنده وطلب رضا الله تعالى وتأس به بخرج الموجود والصبر على المفقود واستيقن أن الرزق مع الحياة ومحال على الحكيم القادر العدل أن يقطع الرزق مع بقاء الحياة. * الأصل 2 - الحسين بن محمد بن عامر، عن معلى بن محمد، وعلي بن محمد، عن صالح ابن أبي حما جميعا، عن الوشاء، عن أحمد بن عائذ، عن أبي خديجة سالم بن مكرم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من سألنا أعطيناه ومن استغنى أغناه الله. * الشرح


[ 393 ]

قوله (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من سألنا أعطيناه ومن استغنى أغناه الله) أي من استغنى عن السؤال أغناه الله عنه باعطاه ما يحتاج إليه ويفهم منه أن من سأل الناس وكله الله إليهم حيث صرف وجهه عنه واعتمد بهم ويدل على ذلك قوله تعالى * (ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه " والتفصيل أن ما تعلق به قلب أحد من مهمات الدنيا أما أن يكون قد قسم له أو لم يقسم فإن قسم فالله تعالى يكفيه مؤونته ويوصله إليه قطعا أما بغير كلفة ومشقة، أو بتهيئة أسبابه، أو بتوفيقه إليها وإن لم يقسم وكفاه عن مؤونة الاهتمام به، وأغنى قلبه عن التعلق به فهو الكافي لمن استكفاه أما بغنى يده، أو بغنى قلبه ومنه يظهر سر الكلية في قوله " ومن استغنى أغناه الله " ونقل عن بعض المتوكلين أنه قال كنت في بعض البوادى وحدي فجعت ولا زاد معى فرفعت حاجتى إلى مولا فهتف بى هاتف أتريد غذاء أم غنا فقلت بل غنا فزال جوعى ووجدت قوة وغنا عن الطعام نحوا من عشرين يوما. * الأصل 3 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن الهيثم ابن واقد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من رضي من الله باليسير من المعاش رضي الله منه باليسير من العمل. * الشرح قوله (من رضي من الله ياليسير من المعاش رضي الله منه باليسير من العمل) لأن من رضي عما على الله باليسير رضي الله عما عليه باليسير كما يقتضيه حسن المعاملة وأيضا النعمة توجب شكرا والعمل منه فكلمات كانت النعمة أقل كان العمل أيضا أقل، وفيه ترغيبل في الرضا بالتقليل من الرزق لأنه يستلزم خفة المؤونة وزوال المشقة من العمل وأيضا من رضي بالقليل من المعاش فقد زهد في الدنيا وطهر ظاهره وباطنه من الأعمال والأخلاق القبيحة التي يقتضيها الدنيا وفرغ من المجاهدات التي يحتال إليها السالك المبتدي وجعلها وراء ظهره فلم يبق عليه إلا فعل ما ينبغي فعله وهذا يسير بالنسبة إلى تلك المجاهدات وهذا الاحتمال ذكره بعض علماء العامة في * الشرح ما رووه عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) " أخلص قلبك يكفيك القليل من العمل ". * الأصل 4 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن أبيه، عن عبد الله بن القاسم عن عمرو بن أبي المقدام، عن أبي عبد الله قال: مكتوب في التوراة: ابن آدم ! كن كيف شئت كما تدين تدان، من رضي من الله بالقليل من الرزق قبل الله منه اليسير من العمل ومن رضي باليسير من الحلال خفت مؤونته وزكت مكسبته وخرج من حد الفجور.


[ 394 ]

* الشرح قوله (كن كيف شئت هذا مثل قوله تعالى " اعملوا ما شئتم " وفيه وعد بالخير ووعيد على الشر كما أن في قوله: (كما تدين تدان) إشارة إلى أن جزاء خير جزاء الشر شر، وترغيب في حسن المعاملة معه تعالى. ثم ذكر للرضا باليسير ثلاثة أوجه للترغيب فيه فقال: (ومن رضى باليسير من الحلال خفت مؤونته وزكت مكسبته وخرج من حد الفجور) الوجه الأول خفة المؤوتة أعنى الثقل والمشقة فإن المشقة في طلب اليسير وحفظه يسير خفيف، والثاني زكاء مكسبه فإن المكسب المشروع لليسير كثير والمكسب المشروع زكى. والثالث الخروف من حد الفجور لما عرفت من زكاء مكسبه مع تنزعه عن الحقوق المالية والميل إلى الدنيا المستلزمة للفجور بخلاف طالب الكثير فإن المكسب الغير المشروع الكثير قليل جدا مع ما يلزمه من الحقوق المالية التي فلما يقوم بها طالبه والركون إلى الدنيا المستلزمة لجميع الفجور والمفاسد. * الأصل 5 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن محمد بن عرفة، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: من لم يقنعه من الرزق إلا الكثير لم يكفه من العمل إلا الكثير ومن كفاه من الرزق القليل فإنه يكفيه من العمل القليل. 6 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان أمير المؤمنين صلوات لله عليه يقول: ابن آدم إن كنت تريد من الدنيا ما يكفيك فإن أيسر ما فيها يكفيك وإن كنت إنما تريد ما لا يكفيك فإن كل ما فيها لا يكفيك. * الشرح قوله (قال أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول ابن آدم إن كنت تريد من الدنيا ما يكفيك) أي أن كنت تريد من الدنيا ما يغنيك عن غيره فإن أيسر ما فيها بغنيك وهو القدر الضروري الذي يتوقف عليه حياتك وقوتك على الطاعة وهذا القدر يأتيك قطعا وتحصيله هيه، وإن كنت تريد ما لا يغنيك فإن كل ما فيها لا يغنيك فإنك حريص في جمع الدنيا ما لا يحتاج إليه. مراتب الحرص غير محصورة فلو فرض أنه جمع لك الدنيا وما فيها تطلب الزائد عليها. ومثل هذا الحديث قول أمير المؤمنين (عليه السلام) " كل مقصر عليه كاف " يعني كاف في مطلوب المقتصر من بقائه وقوته على الطاعة كقليل القوت وغير ذلك. * الأصل


[ 395 ]

7 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن عبد الرحمن بن محمد الأسدي، عن سالم ابن مكرم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: اشتدت حال رجل من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): فقالت له: امرأته لو أتيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فسألته فجاء إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فلما رآه النبي (صلى الله عليه أغناه الله، فقال الرجل: ما يعني غيري، فرجع إلى امرأته فأعلمها، فقالت: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بشر فأعلمه فأتاه فلما رآه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: من سألنا أعطيناه ومن استغنى أغناه الله، حتى فعل الرجل ذلك ثلاثا، ثم ذهب الرجل فاستعار معولا ثم أتى الجبل، فصعده فقطع حطبا، ثم جاء به فباعه بنصف مد من دقيق فرجع به فأكله، ثم ذهب من الغد، فجاء بأكثر من ذلك فباعه، فلم يزل يعمل ويجتمع حتى اشترى معولا، ثم جمع حتى اشتري بكرين وغلاما ثم أثرى حتى أيسر فجاء التي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأعلمه كيف جاء يسأله وكيف سمع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): قلت لك: من سألنا أعطيناه ومن استغنى أغناه الله. * الأصل 8 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن علي بن الحكم، عن الحسين بن الفرات، عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من أراد أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق منه بما في يد غيره. * الشرح قوله (من أراد أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق منه بما في يد غيره) لأن من اتصف بهذه الفضيلة يصرف الله تعالى وجه قلبه عن جميع ما سواه إليه ويفيض بركاته وزلال فيضه عليه ويسد باب حاجاته إلى غيره ولا غنى أعظم منه ومن المحرك إلى تلك الفضيلة هو التفكر في أن الله تعالى كريم لا يضره الاعطاء وخزائنه واسعة لا تنفد وقد رغب في السؤال عند ووعد في الإجابة فلا يخلف وعده بخلاف غير فإنه مثل السائل في الإحتياج وتخيل الفقر في وقت ما وحصول الضرر وكل يبعثه على رد السائل وان اعطاه اعطاه قليلا وذمه روى بضمهما ورفعهما فالنصب بتقدير الفعل أي احتمل المنية وهي الموت ولا تحتمل الدينة وهي السؤال والرفع بتقدير الخبر أي المنية ملتزمة والدنية غير ملتزمة. * الأصل 9 - عنه، عن ابن فضال، عن عاصم بن حميد، عن أبي حمزه، عن أبي جعفر [ أ ] وأبي عبد الله (عليهم السلام) قال: من قنع بما رزقة الله فهو عن أغنى الناس. * الشرح


[ 396 ]

قوله (من قنع بما رزقه الله فهو من أغنى الناس) لأن الغني من لا يحتاج إلى غيره والقانع أولى بذلك من غيره لأن غيره كثيرا ما تضطره الحاجة إلى التوسل بالغير بخلاف القانع فإن قناعته بأدنى ما يكفيه رافعة للأضرار، ومما يبعث على تلك الفضيلة هو العلم بأن غير القانع يطلب الدنيا لثلاثة أشياء الغني والعز والراحة والعلم بأن كل ذلك في تركها لأن من تركها عز ومن قنع بما لا بد أستغني ومن قل سعيه استراح. * الأصل 10 - عنه، عن ابن فضال، عن ابن بكير، عن حمزة بن حمران قال: شكا رجل إلى أبي عبد الله (عليه السلام) أنه يطلب فيصيب ولا يقنع وتنازعه نفسه إلى ما هو أكثر منه وقال: علمني شيئا أنتفع به، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): إن كان ما يكفيك يغنيك، فأدنى ما فيها يغنيك، وإن كان ما يكفيك لا يغنيك فكل ما فيها لا يغنيك. * الشرح قوله (إن كان ما يكفيك يغنيك فأدنى ما فيها يغنيك وإن كان ما يكفيك لا يغنيك فكل ما فيها لا يغنيك) مفهوم الشرطيتين ظاهر أما الأولى فلان أدنى ما في الدنيا يكيه في قوام أمره والمفروض أن ما يكفيه يغنيه فأدنى ما فيها يغنيه، وأا الثانية فلانه إذا كان ما يكفيه لا يغنيه كان ذلك لكمال الحرص ومراتب الحرص غير محصورة فكل ما في الدنيا لو حصل له لا يغنيه لو حصلت بل له الدنيا مرة طلبها مرتين وهكذا. 11 - عنه، عن عدة من أصحابنا، عن حنان بن سدير، رفعه قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام) من رضى من الدنيا بما يجزيه كان أيسر ما فيها يكفيه ومن لم يرض من الدنيا ما يجزيه لم يكن فيها شئ يكفيه.


[ 397 ]

(باب الكفاف) * الأصل 1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن غير واحد. عن عاصم بن حميد، عن أبي عبيدة الحذاء قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): قال الله عز وجل: إن من أغبط أوليائي عندي رجلا خفيف الحال، ذا حظ من صلاة، أحسن عبادة ربه بالغيب وكان غامضا في الناس جعل رزقة كفافا، فصبر عليه، عجلت منيته فقل تراثه وقلت بواكيه. * الشرح قوله (قال الله عز وجل أن من اغبط أوليائي عندي) وجه التفضيل أنه جمع بين الدين والدنيا وأخرج حبها عن قلبه فأكرمه الله بقربه وفضله وخيره. وهذه الامور من أعظم أسباب الغبطة (رجلا حفيف الحال بالحاء المهملة أي ضيق الحال وقليل المعيشة من حفت الأرض إذا يبس نباتها، أو بالخاء المعجمة أي قليل والحظ من الدنيا ولله در من قال: أخص الناس بالإيمان عبد * حفيف الحال مسكنه القفار له في الليل حظ من صلوة * ومن صوم إذا طلع النهار وقوت النفس يأتي من كفاف * وكان له على ذاك اصطبار وفيه عفة وبه خمول * إليه بالاصباع لا يشار وقل الباكيات عليه لما * قضى نحب وليس له يار فذاك قد نجا من كل شر * ولم تمسسه يوم البعث نار (ذا حظ من صلاة، أحسن عبادة ربه بالغيب) أي بالغيب عن الرب، أو عن الخلق والمراد باحسان العبادة اتيانها في أوقاتها بشرائطها وأركانها مع نية خالصة وقلب حاضر عالم بأن الرب يشاهد بل هو يشاهد الرب. (وكان غامضا في الناس أي مغمورا غير مشهور (جعل رزقة كفافا فصبر عليه) الكفاف يالفتح ما لا يحتاج معه ولا يفضل عن الحاجة فهو متوسط بين الفقر والغني وخير الامور أوسطها وإنما سمى بذلك لأنه يكف عن الناس ويغنى عنهم. * الأصل 2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): طوبى لمن أسلم وكان عيشه كفافا.


[ 398 ]

* الأصل 3 - النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أللهم ارزق محمدا وآل محمد ومن أحب محمدا وآل محمد العفاف والكفاف، وارزق من أبغض محمدا وآل محمد المال والولد. * الشرح قوله (قال رسول الله اللهم ارزق محمدا وآل محمد.... العفاف والكفاف) العفاف بالفتح عفة البطن والفرج عن الطغيان، أو العفة من السؤال عن الإنسان، أو الجميع (وأرزق من أبغض محمدا وآل محمد المال والولد) لما كان شئ من المال ضروريا في البقاء والعبادة وهو الكفاف الواقع بين الطرفين طرف الفقر الذي فيه رائحة الكفر والعصيان، وطرف الغني الذي فيه شائبة التكبر والطغيان طلبه لنفسهخ ولمحبيه وطلب لمن أبغضهم طرف الغني والكثرة لأن مفاسده أكثر وأعظم وفتنته أشد وأفخم من مفاسد الفقر وفتنته كما قال عز وجل * (إنما أمواكم وأولادكم فتنة " وقال: * (إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى " وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) " المال مادة الشهوات " وبالجملة لما كان حصول الكفاف مانعا من دواعى طرفي التفريط والإفراط وكان العبد معه مستقيم الأحوال على سواء الصراط طلبه لنفسه ولمحبيته ومضمون الحديث متفق عليه بين الخاصة والعامة. ففي مسلم عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال " اللهم اجعل رزق محمد قوتا " والمراد بالقوت الكفاف وعنه أيضا " اللهم اجعل رزق محمد كفافا " وعنه أيضا " اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا " قال عياض لا خلاف في فضلة ذلك لقلة الحساب عليه فإنما اختلف أيهما أفضل: الفقر أو الغنى، واحتج كل لمذهبه، واحتج من فضل الفقر بدخول الفقراء الجنة قبل الأغنياء، وقال القرطبي القوت ما يقوت الابدان ويكف عن الحاجة هذا الحديث متوسطة بين الفقر والغنى، وخير الامور أوسطها، أيضا فإنه حالة يسلم معها من آفات الفقر وآفات الغنى، قال الابي في كتاب إكمال الاكما: في المسلئة خلاف والمتحصل فيها أربعة أقوال قيل الغنى أفضل، وقيل الفقر والفقر أفضل من الكفاف وأطال الاحتجا عليه في جامع المقدمات والمراد بالرزق المذكور ما ينتفع به (صلى الله عليه وآله وسلم) في نفسه وفي أهل بيته وليس المراد به الكسب لأنه كسب من خيبر ومن غيرها فوق القوت انتهى كلامه. وأعلم أن الأحاديث مختلفة ففي بعضها طلب الغنى واليسار، وفي بعضها طلب الكفاف، وفي بعضها طلب الفقر، وفي بعضها الإستعاذة من الفقر ويمكن أن يقال المراد بطلب الغنى طلب الكفاف لأن الكفاف هو الغنى المطلوب عند أهل العصمة (عليهم السلام) وليس المراد به ما هو المتعارف عند أبناء الدنيا من جمع المال وادخاره والاتساع فيه فوق الحاجة، وبالاستعاذة من الفقر الإستعاذة مما دون الكفاف وهو الفقر


[ 399 ]

عندهم (عليهم السلام) وأقوى أفراده عند أهل الدنيا، وعلى هذا لا تنافي بين الأخبار والله وأعلم. * الأصل 4 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن يعقوب بن يزيد، عن إبراهيم بن محمد النوفلي، رفعه إلى علي بن الحسين صلوات الله عليهما قال: مر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) براعي إبل فبعث يستسقيه، فقال: أما ما في ضروعها فصبوح الحي، وأما في آنيتنا فغبوقهم، فلقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أللهم أكثر ماله وولده، ثم مر براعي غنم فبعث إليه بشاده وقال: هذا ما عندنا وإن احببت أن نزديك زدناك قال: فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): اللهم ارزقه الكفاف، فقال له بعض أصحابه يا رسول دعوت للذي ردك بدعاء عامتنا نحبه ودعوت للذي أسعفك بحاجتك بدعاء كلنا نكره ؟ ! فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى: أللهم ارزق محمدا وآل محمد الكفاف. * الشرح قوله (فقال أما ما في ضروعها فصبوح الحي وأما في آنيتنا فغبوقهم) الصبوح بالفتح شرب الغداة والغبوق بالفتح شرب العشاء فأصلهما الشرب ثم استعمل في المأكل والحي القبيلة من العرب. قوله (وذلك أقرب له مني) أي تقتير رزقه وتضييقه أقرب له منى لأن قبله يفرغ عن غيره تعالى من علاقة المال ويتوحه إليه بالتضرب والابتهال ويطلب ما عنده من الفضل وولقد سمعت من بعض صلحاء أهل الدنيا قال ما صليت بفراغ البال مذ اشتغلت بالدنيا وتحصيل المال. بخلاف توسيع الرزق فإنه يبعد من الله لأنه يشغل القلب عنه إلى الدنيا. وجمع زهراتها وحفظها وترك الحقوق. * الأصل 5 - عنه، عن أبيه، عن أبي البختري، عن بي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله عز وجل يقول: يحزن عبدي المؤمن إن قترت عليه وذلك أقرب له مني ويفرح عبدي المؤمن إن وسعت عليه وذلك أبعد له مني. * الشرح وقوله (ان وسعت بالتخفيف أو التشديد يقال وسع الله رزقه يوسع وسعا من باب نفع ووسعه توسيعا أي بسطه كثرة وأوسع بالالف مثلهما. 6 - الحسين بن محمد، عن أحمد بن إسحاق، عن بكر بن محمد الأزدي، عن أبي - عبد الله (عليه السلام) قال: [ قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ] قال الله عز وجل: إن من أغبط أوليائي عندي عبدا مؤمنا ذا حظ من صلاح، أحسن عبادة ربه وعبد الله في السريرة وكان غامضا في الناس فلم يشر ائليه بالأصابع. فكان


[ 400 ]

رزقه كفافا، فصبر عليه فعجلت به المنية، فقل تراثه وقلت بواكيه.


[ 401 ]

(باب تعجيل فعل الخير) * الأصل 1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن النعمان قال: حدثني حمزة بن حمران قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إذا هم أحدكم بخيرة فلا يؤخره فإن العبد ربما صلى الصلاة أو صام اليوم فيقال له: إعمل ما شئت بعدها فقد غفر [ لله ] لك. * الشرح قوله (إذا هم أحدكم بخيرة فلا يؤخره فإن العبد ربما صلى الصلاة أو صام اليوم فيقال له: إعمل ما شئت بعدها فقد غفر [ لله ] لك) من الله للعبد نفحات في بعض الأوقات، وللعبد مع الله مقام في بعض الساعات، وللعبادة كمال في بعض الانات موجب لرفع الدرجات فلعل زمان قصد الخير والعبادة أحد هاذه الأوقات التي يحصل للعابد فيها مزيد قرب واختصاص لا يضر معهما شئ من موجبات العبد ولا يدفع شرف القرب ومثل هذا الحديث رواه العامة قال القرطبى الأمر في قوله " اعمل ما شئت " أمر اكرام كما في قوله تعالى " إدخلو بسلام آمنين " واخبار عن الرجل بأنه قد غفر له ما تقدم من ذبنه ومحفوظ في الاتى، وقال الابى يريد بالأمر الاكرام ليس أنه اباحة لأن يفعل ما يشاء. * الأصل 2 - عنه، عن علي بن الحكم، عن أبي جميلة قال: قال أو عبد الله (عليه السلام): إفتتحوا نهاركم بخير وأملوا على حفظتكم في أوله خيرا وفي آخره خيرا، يغفر لكم ما بين ذلك إن شاء الله. * الشرح قوله (افتتحوا نهاركم بخير وأملوا على حفظتكم في أوله خيرا وفي آخره خيرا يغفر لكم ما بين ذلك إن شاء الله) إذا كان عمل أول كل يوم وآخره خيرا يندر أن لا يكون وسطه خيرا لأن المداومة على الخير تورث ملكة مانعة من الشر ومن ثم قيل الخير يسرى بعضه إلى بعض كالشر. ولو فرض وقوع الشر في وسطه فهو مغفور له كما قال عز وجل " إن الحسنات يذهبن السيئات " لأن الله تعالى يستحى من العبد أن يقبل أول عمله وآخره ويرد وسطه أو يعذبه به، وأيضا يبعد من كرمه أن يرضى بالعبد أو لا وآخرا ويعذبه ببادرة في الوسط، وأيضا أعمال العبد أوله حسنا وآخر حسنا لأن أوله أو ما يقرع السمع وآخره آخر ما يقرع السمع فيستحسنه السمع ويعه حسنا وكذلك الأعمال. * الأصل


[ 402 ]

3 - عنه، عن ابن أبي عمير، عن مرازم به الحكيم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان أبي يقول: إذا هممت بخير فبادر، فإنك لا تدري ما يحدث. * الشرح قوله (إذا هممت بخير فبادر فإنك لا تدرى ما يحدث) هذا الكلام جامع لوجوه المبادرة إلى الخيرات منها الرجوع إلى الحالة المنافية للتكليف كالهرم المستلزم لضعف العقل والبنية ونقصانهما ، ومنها المرض المانع من الإتيان بها، ومنها فجأة الموت، ومها وسوسة الشيطان إزالة القصد بها، ومنها طريان السهو والنسيان، ومنها تزلزل النفس بخوف الفقر، ومنها فوات المال. ونظير هذا الحديث ما نقل عن أمير المؤمنين (عليه السلام). إذا هبت رياحك فاغتنمها * فان لكل حادثة سكون ولا تغفل عن الإحسان فيها * فلا تدرى السكون متى تكون وفيه ترغيب بليغ في المبادرة إلى الخيرات. * الأصل 4 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن ابن اذينة، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن يحب من الخير ما يعجل. * الشرح قوله (إن الله يحب من الخير ما يجعل) دل على طلب التعجيل أيضا قوله تعالى * (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم " أي على سبب مغفرة وهو الخيرات ومدحهم به في قوله * (اولئك يسارعون في الخيرات " ورغب فيه أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله " لا خير في الدنيا إلا لرجلين رجل أذنب ذنبا فهو يتداركه ورجل يسارع في الخيرات. * الأصل 5 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن علي بن الحكم، عن أبان بن عثمان، عن بشير بن يسار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا أردت شيئا من الخير فلا تؤخره، فإن العبد يصوم اليوم الحار يريد ما عند الله فيعتقه الله به من النار، ولا تستقل ما يتقرب به إلى الله عز وجل ولو شق تمرة. * الشرح قوله (ولا تستقل ما يتقرب به إلى الله عز وجل ولو شق تمرة) أي نصفها فإن نصفها قد يحفظ النفس من الجوع المهلك ولان الإنصاف الحاصلة من المتعدد قد يبلغ قوت الأخذ. وفيه حث


[ 403 ]

على التصديق وعدم تركه لقلته ويحتمل أن يراد به ولو كان يسيرا من أي نوع كان ومثله قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) " لا تحقرون شيئا من المعروف " وقول أمير المؤمنين (عليه السلام) " افعلوا الخير ولا تحقروا شيئا فإن صغيره كبير وقليله كثير " فسر الخير في كلامه (عليه السلام) بالإحسان إلى الضعفاء والانعام عليهم ويمكن حمله على كل ما يتقرب به إلى الله تعالى. * الأصل 6 - عنه، عن ابن فضال، عن ابن بكير. عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من هم بخير فليعجله ولا يؤخره، فإن العبد ربما عمل العمل فيقول الله تبارك وتعالى: قد غفرت لك والا أكتب عليك شيئا أبدا، ومن هم بسيئة فلا يعملها، فإنه ربما عمل العبد السيئة فيراه الله سبحانه فيقول: لا وعزتي وجلالي لا أغفر لك بعدها أبدا. * الشرح قوله (فيقول الله تعالى قد غفرت لك ولا أكتب عليك شيئا أبدا) غفران ذنوبه أما من باب التفضل، أو مستند إلى ذلك العمل لقوله تعالى * (إن الحسنات يذهبن السيئات " فدل على التكفير والمحو بعد الإثبات وأما قوه " ولا أكتب " فيحتمل أن يكون المراد أنه لا يكتب الذنوب التي يفعلها بعد في مدة عمره أما تفضلا وأما لذلك العمل بأن يكون لذلك مدخل في محو ما بعده من الذنوب كما أن له مدخلا في محو ما قبله، ويحتمل أن يكون المراد أنه محفوظ في الاتى من فعل الذنوب ففيه اخبار بأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه ومحفوظ فيما يأتي وبسعة رحمته وشدة سخطه، وبعث على الخوف والرجاء والأعمال الصالحة كلها فإن كان عمل يصلح أن يكون كذلك، ثم قوله (لا وعزتي وجلالي لا اغفر لك بعدها أبدا) لعل المراد به أنه إذا وقع القسم وكله إلى نفسه فيسلط عليه شيطانه ويفتح له باب المعاصي فيخوض في الشرور كلها حتى يخرج من الدنيا بلا إيمان فيستحق بذلك الشقاوة الابدية أو المراد أنه لا يغفر ذنوبه ابدا بل يؤاخد بها وهذا لا يدل على عقوبته ابدا فلا يرد أنه إذا خرج مع إيمان يكف يستحق العقوبة أبدا. * الأصل 7 - علي عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا هممت بشئ من الخير فلا تؤخره، فإن الله عز وجل ربما أطلع على العبد وهو على شئ من الطاعة فيقول: وعزتي وجلالي لا اعذبك بعدها أبدا، وإذا هممت بسيئة فلا تعملها، فإنه رمبا أطلع الله على العبد وهو على شئ من المعصية فيقول: وعزتي وجلالي لا أغفر لك بعدها أبدا. * الأصل


[ 404 ]

8 - أبو علي الأشعري، عن محمد عبد الجبار، عن ابن فضال، عن أبي جميلة عن محمد بن حمران، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا هم أحدكم بخير أو صلة فإن عن يمينه وشماله شيطانين، فليبادر لا يكفاه عن ذلك. * الشرح قوله (إذا هم أحدكم بخير أو صلة فإن عن يمينه وشماله شيطانين فليبادر لا يكفاه عن ذلك) النفوس البشرية ناقرة عن العبادات لما فيها من المشقة الثقيلة عليها، وعن صلة الأرحام والمبرات لما فيها من صرف المال المحبوب لها فإذا هم أحدكم بشئ من ذلك مما يوجب وصوله إلى مقام الزلفى وتشرفه بالسعادة العظمى فليبادر إلى امضائه وليعجل إلى اقتنائه فإن الشيطان ابدا في ممكن ينتهض الفرصة لنفثه في نفسه الأمارة بالسوء ويتحرى الحيلة مرة بعد اخرى في منعها عن الارادات الصحيحة الموجبة لسعادتها وأمرها بالقبايح المورثة لشقاوتها ويجلب عليها خيله من جميع الجهات ليسد عليها طرق الوصول إلى الخيرات وهي مع ذلك قابلة لتلك الوساوس ومايلة بالطبع إلى هذه الخسايس فربما يتمكن منها الشيطان غاية التمكن حتى يصرفها عن تلك الإرادة ويكفها عن هذه السعادة وهذه الحالة مجربة مشاهدة في أكثر الناس. * الأصل 9 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن سنان، عن أبي الجارود قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: من هم بشئ من الخير فليعجله، فأن كل شئ فيه تأخير فإن للشيطان فيه نظرة. * الشرح قوله (فإن للشيطان فيه نظرة) في المصباح نظرت في الأمر تدبرت وانظرت الدين بالالف اخرته والنظرة مثل كلمة بالكسر اسم منه وفي التنزيل " فنظرة إلى ميسرة " أي فتأخير. * الأصل 10 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن علي بن أسباط، عن العلاء، عن محمد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: إن الله ثقل الخير على أهل الدنيا كثقله في موازينهم يوم القيامة، وإن الله عز وجل خفف الشر على أهل الدنيا كخفة في موازينهم يوم القيامة. * الشرح قوله (إن الله ثقل الخير على أهل الدنيا كثقله في موازينهم يوم القيامة وإن الله عز وجل خفف الشر على أهل الدنيا كخفته في موازينهم يوم القيامة) المراد بأهل الدنيا كل من هو منها لامن هو طالب لها ومالك لزهراتها فقط ولكون الخير ثقيلا والشر خفيفا عليهم قل صدور الخير وكثر صدور


[ 405 ]

الشر منهم وكان المراد بثقل الخير في الميزان إن له قدرا واعتبارا وعظمة بالذات والمضاعفة يوجب عظمة صاحبه وعلو قدره بخلاف الشر إذ له خفة وحقارة يوجب خفة صاحبه وتحقيره.


[ 406 ]

(باب الإنصاف والعدل) * الأصل 1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن الحسن ابن حمزة، عن جده [ عن ] أبي حمزة الثمالي، عن علي الحسين صلوات الله عليهما قال: كان رسول الله يقول في آخر خطبته: طوبى لمن طاب خلقه وطهتر سجيته وصلحت سريرته وحسنت علانيته وأنفق الفضل من ماله وأمسك الفضل من قوله وأنصف الناس من نفسه. * الشرح قوله (طوبى لمن طاب خلقه) أي الجنة أو طيب العيش في الدنيا والآخرة لمن طاب وحسن خلقه باتصافه بالأخلاق الحسنة (وطهرت سجيته) أي طبيعته عن الأخلاق القبيحة (وصلحت سريرته) أي قلبه بالعقايد الصالحة والنية الخالصة والمعارف الالهية (وحسنت علانية) بالأعمال الصحيحة والأفعال الحسنة (وانفق الفضل من ماله) باخراج الحقوق الواجبة والمندوبة أو الأعم منهما أو مما فضل من الكفاف. (وامسك الفضل من قوله) بحفظ لسانه عما لا يعنيه من فضول الكلام (وانصف الناس من نفسه) أي كان حكما على نفسه فيما كان بينه وبين الناس ورضي لهم ما رضى لنفسه وكره لهم ما كره لنفسه. وفي المصباح نصفت المال بين الرجلين انصفه من باب قتل قسمته نصفين وانصفت الرجل انصافا عاملته بالعدل والقسط والإسم النصفة بفتحين لأنك اعطيته من الحق ما تستحقه لنفسك. * الأصل 2 - عنه، عن محمد بن سنان، عن معاوية بن وهب، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من يضمن لي أربعة بأربعة أبيات في الجنة ؟ أنفق ولا تخف فقرا وأفش السلام في العالم واترك المراء وإن كنت محقا وأنصف الناس من نفسك. * الشرح قوله (من يضمن لي أربعة بأربعة أبيات في الجنة) الابيات جمع البيت وهو المسكن كالبيوت والضمان الالتزام يقال ضمنت المال وبه ضمانا فانا ضامن وضمين التزمته ويتعدى بالتضعيف يقال ضمنته المال تضمينا أي الزمته إياه والمعنى من يلتزم لي أربعة من الأعمال بسبب أربعة أبيات التزمتها له في الجنة، ثم أشار إلى الأعمال الاربعة على سبيل الاستيناف بقوله:


[ 407 ]

(انفق ولا تخف فقرا) فإنه لما رغب في الأربعة بذكر ثمرتها وهي أنها سبب لبناء بيت لصاحبها في الجنة صار محلا للسؤال فكان السايل قال ما هي حتى أفعلها فقال أنفق يعني انفق فضل مالك في ذوي الحاجات ولا تخف فقرا فإن الانفاق سبب للخلف والزادة وأيضا الفضل لا دخل له في الغني فلا يوجب فواته فقرا. (وافش السلام في العالم) افشاء السلام، وهو الابتداء به على جميع الانام إلا ما أخر به الدليل، سبب للالفة والالتيام وموجب لحسن المعاشرة وتكميل النظام، مع أنه عبادة في نفسه مطلوب في دين الإسلام (واترك المراء) أي الجدال والمنازعة. (وان كنت محقا) وإن كان في المسائل العلمية بل هي أحق بترك المجادلة إلا بالتي هي أحسن كما قال تعالى * (وجادلهم بالتي هي أحسن " وللنفس فيها مكائد عظيمة فالاولى تركها بالكلية إلا من شرفه الله تعالى بالنفس القدسية والكمالات العلمية والعملية فيمكن له التخلص من الأخلاق الرذيلة التي تحصل من المجادلة مثل التكبر والرياء والغضب والحسد والبغض والعجب وغيرها مما لا يخفى على المزاول لها ولهذا وردت الأخبار بالنهي عنها مطلقا رعاية للاكثر. (وانصف الناس من نفسك) وهو التزام العدل في المخالطة والمعاملة حتى يحكم بنفسه على نفسه وهو من أخص الصفات العدلية والفضائل البشرية، وبه يتم نظام العالم ويرتفع الجور في بني آدم. * الأصل 3 - عنه، عن الحسن بن علي بن فضال، عن علي بن عقبة، عن جارود أبي المنذر قالت: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: سيد الأعمال ثلاثة: إنصاف الناس من نفسك حتى لا ترضى بشئ إلا رضيت لهم مثله ومؤاساتك الأخ في المال وذكر الله على كل حال، وليس " سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر " فقط ولكن إذا ورد عليك شي، أمر الله عز وجل به أخذت به، أو إذا ورد عليك شئ نهي الله عز وجل عنه تركته. * الشرح قوله (انصاف الناس من نفسك حتى لا ترضى بشئ لنفسك لهم مثله) من اتصف به لا يريد للناس إلا خيرا ويطلبه لهم بقدر الإمكان ويدفع عنهم شرا ويحكم لهم على نفسه لو كان الحق لهم ولا يأخذ منهم من المنافع إلا مثل ما يعطيهم ولا ينيلهم من المضار إلا مثل ما يناله منهم (ومواساتك الأخ في المال) أي تشريكه وتسويته فيه يقال آسيته بمالي أي جعلته اسوة أقتدى أنا به ويقتدى هوبى نهو ينشأ من ملكة السخاء. (وذكر الله على كل حال) وفي كل مكان سواء كانت الأحوال والامكنة شريفة أم لا (ليس) أي


[ 408 ]

ذكر الله (سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر فقط) وإن كان مجموع ذلك من حيث المجموع وكل واحد من أجزائه ذكرا أيضا. (ولكن إذا ورد عليك شئ أمر الله عز وجل به أخذت به أو إذا ورد عليك شئ نهى الله عز وجل عنه تركته) الذكر ثلاثة أنواع ذكر باللسان وذكر بالقلب والثاني نوعان أحدهما التفكر في عظمة الله وآياته والثاني وذكر ع عند أمره ونهيه والثالث أفضل من الأول والثاني أفضل منهما، ومن العامة من فضل الأول على الثالث مستندا بأن في الأول زيادة عمل الجوارح وزيادة، العخمل يقتضى زيادة الاجر، وفيه أن الزيادة ممنوعة وعلى تقدير التسليم فليست الضابطة كلية لظهور أن الذكر القلبي أشرف الاذكار وأعرق فيها، ومن ثم روى " نية المؤمن خير من علمه " واختلفوا في أن الذكر القلبي هل تعرفه الملائكة وتكتبه أم لا فقيل بالأول لأن الله تعالى يجعل له علامة يعرفه الملائكة بها وقيل بالثاني لأنهم لا يطلعون عليها. * الأصل 4 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن إبراهيم بن محمد الثقفي عن علي بن المعلى، عن يحيى بن أحمد، عن أبي محمد الميثمي، عن روي بن زرارة عن أبيه، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في كلام له: ألا إنه من ينصف النال من نفسه لم يزده الله إلا عزا. * الأصل 5 - عنه، عن عثمان بن عيسى، عن عبد الله بن مسكان، عن محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قالت: ثلاثة هم أقرب الخلق إلى الله عز وجل يوم القيامة حتى يفرغ من الحساب: رجل لم تدعه قدرة في غضبه إلى أن يحيف على من تحت يده، ورجل مشى بين اثنين فلم يمل مع أحدهما على الأخير بشعيرة، ورجل قال بالحق فيما له وعليه. * الشرح قوله (ثلاثة هم اقرب الخلق إلى الله عز وجل يوم القيامة حتى يفرغ من الحساب ليس " حتى " هنا لانقطاع قربه يعد الحساب بل للمبالغة في دوام قربه لأنه إذا كان عند حساب الخلائق في ظل قربه واحسانه وضيافته إكرامه وانعامه كان بعده في ذلك بطريق أولى. (رجل لم تدعه قدرة في حال غضبه إلى أن يحيف على من تحت يده) ظاهره عدم الجور والتعدي في التأديب ويمكن أن يراد به العفو في حقه والعفو أنسب. (ورجل مشى بين اثنين فلم يمل مع أحدهما على الآخر بشعيرة) أي مشى بينهما في أداء رسالة أو قصد أصلاح أو مصاحبة، وقوله " بشعيرة " مبالغة في ترك الميل بالكلية وأقل الميل أن


[ 409 ]

يقول ما يوافق طبع أحدهما ويخالف طبع الآخر. (ورجل قال بالحق فيما له وعليه) هذا هو المراد في هذا الباب لأنه الإنصاف والعدل في القول رهو أن يرضى لغيره ما يرضى لنفسه يكره له ما يكره لنفسه. * الأصل 6 - عنه، عن أبيه، عن النضر بن سويد، عن هشام بن سالم، عن زرارة، عن الحسن البزاز، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال في حديث له: ألا اخبركم بأشد ما فرض الله على خلقه، فذكر ثلاثة أشياء أولها إنصاف الناس من نفسك. * الشرح قوله (فذكر ثلاثة أشياء أولها انصاف الناس من نفسك) هذا أشد لأنه أشق على النفس ولعل الآخرين المواساة وذكر الله في كل حال كما يظهر من الأخبار الآتية أو عدم الميل وعدم الحيف بقرينة السابق. * الأصل 7 - علي بن إبراهيم، عن أبيه عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): سيد الأعمال إنصاف الناس من نفسك، ومؤاساة الأخ في الله، وذكر الله عز وجل على كل حال. * الأصل 8 - علي، عن أبيه، عن ابن محبوب، عن هشام بن سالم، عن زرارة، عن الحسن البزاز قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): ألا اخبرك بأشد ما فرض الله على خلقه قلت: بلي قال: إنصاف الناس من نفسك، ومؤاساتك أخاك، وذكر الله في كل موطن، أما إني لا أقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله أكبر. وإن كان هذا من ذاك ولكن ذكر الله جل وعزفي كل موطن، إذا هجمت علي طاعة أو على معصية. * الشرح قوله (إذا هجمت على طاعة أو على معصية) أي دخلت فيهما ووردت عليهما مع القدرة على امضاء هو النفس كما يشعر لفظ الهجوم. * الأصل 9 - ابن محبوب، عن أبي اسامة قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): ما ابتلي المؤمن بشئ أشد عليه من خصال ثلاث يحرمها، قيل: وما هن ؟ قال: المؤاساة في ذات يده، والإنصاف من نفسه، وذكر الله كثيرا،


[ 410 ]

أما إني لا أقول: سبحان الله والحمد لله [ ولا إله إلا ] ولكن ذكر الله عند ما أحل له وذكر الله عند ما حرم عليه. * الشرح قوله (ما ابتلي المؤمن بشئ أشد عليه من خصال ثلاث يحرمها) أي يمتنع منها وتيركها ولا يتصف بشئ منها، تقول: حرمته حراما من باب شرف وعلم إذا امتنعت فعله وفيه ترغيب للمؤمن في الإتصاف بها وفي قوله (ولكن ذكر الله عند ما أحل له وذكر الله عند ما حرم عليه) حث على ذكره تعالى في جميع الاحوال لأن القلب يميل مرة إلى الخلق ومرة إلى البالط تارة إلى الخير وتارة إلى الشر والجوارح تابعة له في جميع ذلك فلا بد للمؤمن من أن يكون ذاكرا لله تعالى في جميع حركاته وسكناته وتقلب قلبه ونظراته وناظرا إلى جميع أعماله القلبية والبدنية فإن كان خيرا أمسكه بحبل التذكر والإيقان ومال إليه بنور القوة والإيمان، وإن كان شرا يدعه من خوف العقوبة والخذلان كما روي " إذا عرض لك أمر فتدبر عاقبته فإن كان خيرا فامضه وإن كان شرا فانته ". * الأصل 10 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن يحيى بن إبراهيم بن أبي البلاد، عن أبيه، عن جده أبي البلاد رفعه قال: جاء أعرابي إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يرد بعض غزواته، فأخذ بغرز راحلته فقال: يا رسول الله علمني عملا أدخل به الجنة، فقال ما أحببت أن يأتيه الناس إليك فأته إليهم وما كرهت أن يأتيه الناس إليك فلا تأته إليهم، خل سبيل الراحلة. * الشرح قوله (فأخذ بغرز راحلته) الغرز بالفتح والسكون ركاب الراحلة من جلد وإذا كان من خشب أو حديد فركاب. * الأصل 11 - أبو علي الأشعري، عن الحسن بن علي الكوفي، عن عبيس بن هشام، عن عبد الكريم، عن الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: العدل أحلى من الماء يصيبه الظمآن، ما أوسع إذا عدل فيه وإن قل. * الشرح قوله (العدل احلى من الماء يصيبه الظمآن) العدل ملكة للنفس تمنعها من الباطل وتحفظها في جميع حركاتها وسكناتها الظاهرة والباطنة من الميل إلى الجور وهو في مذاق العادل بل الناس كلهم أحلى من الماء البارد في مذاق العطشان ويتضمن هذا تشبيه بالماء في ميل الطبع والالتذاذ والوجه في الماء أجلى وأظهر وفي العدل أتم وأكمل كما يشعر به إسم التفضيل (ما أوسع العدل)


[ 411 ]

كأنه تعجب في سعته بإعتبار تعلقه بكل أمر من الامور الظاهرة والباطنة غير مختص ببعض دون بعض كالعقائد أو الأقوال مثلا أو في شرفه وسعة نفعه لأنه إذا وقع العدل في الناس تنزل السماء رزقها وتخرج الأرض بركتها ويتم نظام العالم، وذلك (إذا عدل فيه) أي في العدل إذ لو جار فيه بتعلقه بأفعال بعض الجوارح والأعضاء دون بعض لم تتحقق سعته بأحد المعنيين المذكورين (وإن قال) أي العدل ووجه قلته أنه يتوفق على الكمال النفس الناطقة بالعلم والحكمة وكمال القوة الغضبية بالشجاعة وكمال القوة الشهوية بالعفة وبالجملة على إستقامة القوى الظاهرة والباطنة حتى يكون جميع الأفعال والأعمال على وفق العقل والشرع، ومن البين أن الإتصاف بهذه الخصال على وجه الكمال لكونه في غاية الصعوبة والإشكال ليس إلا لواحد بعد وأحد هذا الذي ذكرنا في * الشرح هذا الحديث من باب الإحتمال والله أعلم بحقيقة الحال. * الأصل 12 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن إبن محبوب، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من أنصف الناى من نفسه رضي به حكما لغيره. * الشرح قوله (من أنصف الناس من نفسه رضى به حكما لغيره) الظاهر أن رضى على صيغة المجهول أي رضى الله تعالى أو كل عاقل أن يكون هو حاكما لغيره يحكم بين الخلق لأن بناء الحكم على الإنصاف والعدل، وفيه حث على الإتصاف به لأن السياسة البدنية والرئاسة المدنية متوقفة عليه ومفهومه أن غير المتصف به لا يصلح للحكومة. * الأصل 13 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن سنان، عن يوسف بن عمران بن ميثم، عن يعقوب بن شعيب، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: أوحى الله عز وجل إلى آدم (عليه السلام) إني سأجمع لك الكلام في أربع كلمات، قال: يا رب وما هن ؟ قال: واحدة لي وواحدة لك وواحدة فيما بيني وبينك وواحدة فيما بينك وبين الناس قال: يار رب بينهن لي حتى أعملهن، قال: أما التي لي فتعبدني، لا تشرك بي شيئا، وأما التي لك فاجزيك بعملك أحوج ما تكون إليه وأما التي بيني وبينك فعليك الدعاء وعلي الاجابة، وأما التي بينك وبين الناس فترضى للناس ما ترضى لنفسك وتكره ما تكره لنفسك. * الشرح قوله (إني سأجمع لك الكلام في أربع كلمات) دل على أن هذه الكلمات جامعة لكل دال على


[ 412 ]

الخيرات وهو كذلك لأن العارف بالله والسائر إلى الله قصده امور أربعة الأول هو الله تعالى وحده لا شريك له والكلمة الأولى إشارة إليه، والثاني تحصيل المثوبات الاخروية عند كمال الحاجة إليها، والكلمة الثانيه إيماء إليه، والثالث إصلاح حاله في الدنيا وتقويم شأنه وقت السير بتحصيل ما ينبغي وترك ما لا ينبغي بعون الله وتوفيقه، والكلمة الثالثة رمز إليه، والرابع العدل بين رفقائه والإنصاف فيما بينهم ليتمكن لهم السير إلى الله وتكمل نظامهم، وله مدخل عظيم في بقاء النوع والوصول إلى المقصود، والكلمة الرابعة إشارة إليه، وإذا تأملت في هذه الكلمات وجدت الحكمة العملية والنظرية مندرجة فيها وقد قسم ارسطاطا ليس العدل على ثلاثة أقسام الأول رعاية العبودية، والثاني رعاية حقوق المشاركة، والثالث رعاية حقوق الاسلاف، والكلمة الاولى في هذا الحديث إشارة إلى الأول، والكلمة الأخيرة إلى الاخيرين. * الأصل 14 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن إبن فضال، عن غالب بن عثمان، عن روح إن اخت المعلى، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إتقوا الله وأعدلوا شرح فإنكم تعيبون على قوم لا يعدلون. * الشرح قوله (إتقوا الله واعدلوا) أي أطيعوا الله في أوامره ونواهية واعدلوا فيما بينكم ولا تجوروا (فإنكم تعيبون على قدم لا يعدلون) بين الناس فينبغي أن تعدلوا حتى لا يعيب عليكم غيركم ولئلا يتوجه عليكم اللوم والإنكار في قوله تعالى * (لم تقولون مالا تفعلون ". * الأصل 15 - عنه، عن إبن محبوب، عن معاوية بن وهب، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: العدل أحلى من الشهد وألين من الزبد وأطيب ريحا من المسك. * الشرح قوله (العدل أحلى من الشهد وألين من الزبد وطيب ريحا من المسك) رغب في العدل التابع للإعتدال في القوى الإنسانية لتشبيهه أو لا بالشهد وهو العسل في الحلاوة وميل الطبع وثانيا بالزبد في اللينة والزبد مثال قفل ما يستخرج بالمخض من لبن البقر والغنم وثالثا بالمسك في الريح المرغوب فيه وهذه المعاني وإن كانت في المشبه عقلية خفية عند الجاهلين لكنها كحسية جلية عند العارفين. * الأصل 16 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن إسماعيل بن مهران، عن عثمان بن جبلة،


[ 413 ]

عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ثلاث خصال من كن فيه أو واحدة منهن كان في ظل عرش الله يوم لا ظل ظله: رجل أعطى الناس من نفسه، ما هو سائلهم، ورجل لم يقدم رجلا ولم يؤخر رجلا حتى يعلم أن ذلك لله رضى ورجل لم يعب أخاه المسلم بعيب حتى ينفي ذلك العيب عن نفسه، فإنه لا ينفي منها عيبا إلا بداله عيب، وكفى بالمرء شغلا بنفسه عن الناس. * الشرح قوله (في ظل عرش الله يوم لا ظل الأظله) ضمير الإظله يحتمل أن يعود إلى الله وأن يعود إلى العرش فعلى الأول يحتمل أن يكون لله سبحانه يوم القيامة ظلال غير ظل العرش ولكن ظل العرش أعظمها وأشرفها يخص الله سبحانه من يشاء من عباده ومن جملتهم صاحب هذه الخصال الثلاث وعلى الأخير لا ظل هناك إلا ظل العرش وهو ينافي ظاهرا ما روى عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أرض القيمة نار ما خلا ظل المؤمنين فإن صدقته تظله " ومن طريق العامة " المرء في صدقته حتى يقتضى الله بين الخلايق " فإنه يدل على أن في القيامة ظلا غير ظل العرش، ومن ثم قيل إن في القيامة ظلالا بحسب الأعمال تقى أصحابها عن حر الشمس والنار وأنفاس الخلايق ولكن ظل العرش أحسنها وأعظمها، ويمكن الجواب بأنه ليس هناك إلا ظل العرش يستظل بها من يشاء من عباده المؤمنين ولكن لما كان ظل العرش لا ينال إلا بالأعمال وكانت الأعمال بإعتبار أن الأعمال سبب لإستقرار العامل فيه ثم الكون في ظل العرش كما ذكرناه آنفا يحتمل حمله على الحقيقة بأن يظلهم الله تعالى من حر الشمس ووهج الموقف وأنفاس الخلائق، ويحتمل أن يكون كناية عن حفظهم من المكاره وجعلهم في كنف حمايته ورعايته، ويحتمل أن يكون الظل كناية عن الراحة والتنعم ومنه قولهم عيش ظليل (ورجل لم يقدر رجلا ولم يؤخر رجلا حتى يعلم أن ذلك لله رضى) يعني أنه يراقب نفسه في جميع الحركات الظاهرة والباطنة ويجعلها موافقة للقوانين الشرعية (فإنه لا ينفى منها عيبا إلا بداله عيب) فيكون دائما مشغولا بعيب نفسه وتطهيرها عنه فيكون فارغا عن عيب الناس كما أشار إليه بقوله (وكفى بالمرء شغلا بنفسه عن الناس) لأن النفس ما دامت الدنيا محتاجة إلى المعالجة والمداواة آنا فآنا. * الأصل 17 - عنه، عن عبد الرحمن بن حماد الكوفي، عن عبد الله بن إبراهيم الغفاري، عن جعفر بن إبراهيم الجعفري، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من واسى الفقير من ماله وأنصف الناس من نفسه فذلك المؤمن حقا.


[ 414 ]

* الشرح قوله (فذلك المؤمن حقا) أريد أنه المؤمن الكامل الذي تكاملت أخلاقه الفاضلة وتمت أوصافه الكاملة فمن وجد فيه الأمران علم أنه في غاية الكمال من الإيمان. * الأصل 18 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن سنان، عن خالد بن نافع بياع السابري، عن يوسف البزاز قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: ما تدارأ إثنان في أمر قط، فأعطى أحدهما النصف صاحبه فلم يقبل منه إلا اديله منه. * الشرح قوله (ما تدرأ إثنان - الخ) تدارأوا تدافعوا في الخصومة والخدعة، واديل منه أي جعلت الغلبة والنصرة له عليه يقال أدالنا الله على عدونا أي نصرنا عليه وجعل الغلبة لنا وفي الفائق أدال الله زيدا من عمرو نزع الله الدولة من عمرو وآتاها زيدا. 19 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن إبن محبوب، عن أبي أيوب، عن محمد بن قيس، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن لله جنة لا يدخلها إلا أحدهم من حكم في نفسه بالحق. 20 - على بن إبراهيم، عن أبيه، عن إبن أبي عمير، عن حماد، عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: العدل أحلي من الماء يصيبه الظمآن، ما أوسع العدل إذا عدل فيه وإن قل. تم الجزء الثامن ويليه الجزء التاسع أوله باب الإستغناء عن الناس.


[ 415 ]

إستدراك قد تكرر في ما مضى ذكر القلب مرادا به النفس الناطقة إقتباسا من القرآن الكريم * (ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه " أي من نفسين حتى يكون بأحدهما ابنا لواحد وبالآخر ابنا لآخر، أو بأحدهما زوجة وبالاخر أما كما في الظهار وتكرار أيضا في كلام الشارح الإشارة إلى تجرد النفس وهو أهم مبادئ عليم الأخلاق مثل قوله " القلب من عالم القدس " في الصفحة 361 والقلب في إصطلاح علماء الأخلاق هو القوة العاقلة والنفس الناطقة والمراد بكونه من عالم القدر تجرده، فرأينا من أوجب ما علينا بيان هذا المقصد المهم ولا يخفي أن كثيرا مما نرى في خواص النفوس وآثارها تدل على وجود جوهري مستقل عن البدن وأن الأعضاء آلات يحتاج إليها في العمل ويفقد العمل بفقد الالات وكذلك الحواس الظاهرة آلات لا ينعدم صاحب آلالات بفقد إنها والعاقلة لا تحتاج في إدراكها إلى آلة حتى ينعدم التعقل بانعدامها ولو كانت العاقلة أيضا بآلة مع فقد سائر المشاعر. وقال بعض حكمائنا أن الحافظة للصور المثالية ألتي سموها الخيال أيضا غير آلية لا تفنى بفناء الدماغ، وإحتجوا على عدم إحتياج العاقلة إلى الدماغ وعدم حلول الصور المعقولة فيه بوجوه: الأول أن الصورة العقلية غير منقسمة ولو كانت منقسمة لأنتهى إلى أجزاء غير منقسمة وغير المنقسم لا يحل في جسم منقسم. الثاني أن القوة الحالة في الالة لا تشعر بنفسها كالباصرة لاتبصر العين والعقل يشعر بذاته. الثالث أن العقل يدرك المعقولات ولا يثقل عليه حملها وأن كثرت ولا يكل ويتعقل جميعها متساوية في الوضوح والقوى الحاسة الجسمانية كالبصر يكل ولا يبصر الضغيف بعد إدراك النور القوى إلا بعد إستراحة ما ولا يشم الأنف الرائحة الضعيفة أثر القوية لشده تأثره بالقوية وكلاله. ولا يكل العالم إلا عند التفكر لتحصيل المعلومات في المرة الاولى لأن الفكر من المتخلية الثابتة في الدماغ وأما بعد تعقل المعقولات فلا يكل بإستمرار التعقل كالبصر. الرابع أن العقل لا يضمحل بالشيخوخة وضعف الأعضاء وإنما يضعف الفكر والقدرة على تحصيل ما لم يحصله والعمل بما عليم الضعف الالة وأما نفس التعقل فهو ثابت باق ويدرك حكما بعد حكم من غير أن يعجز، ومن زعم أن الشيخ يضعف عقله بتقدم السن إشتبه عليه الفكر بالتعقل أو ما يتوقف من العلوم على معونة الحواس بما لايتقوقف عليها والطبيب إذ شاخ وضعف يستشار ولا يعالج باليد لضعف يده، ولا يميز المرض لغعف عينه وإذنه ولا يزيد علمه لغعف فكره وحافظته، وهذه كلها غير التعقل ومعنى قوله * (لكيلا يعلم بعد علم شيئا يؤول على هذا. الخامس أن عدم كون الإدراك من صفات الجسم بديهي والتشكيك فيه يساوق التشكيك في سائر الامور البديهية


[ 416 ]

وكيف يمكن أن يدرك جسم الصور الحالة فيه ولو كان حلول صورة ما في الدماغ إدراكا للدماغ فلم لا يدرك الجدار النقش الحاصل فيه، فإن قيل هذا المزااج خاص للدماغ ولتركيبه من عناثر خاصة ليست موجودة في الجدار، قلنا فلم لا يدرك الدماغ الملاسة والخشونة والشكل والحفر وسائر ما حل في أجزائه من الإعراض والصفات وما الفرق بين الصورة المعقولة والعلوم الحاصلة في الدماغ وبين سائر صفات نفسه كالشكل والملاسة وكلاهما حالة جسمانية عارضة لجسم الدماغ والإدراك عندكم عبارة عن حلول الصورة في جسم له هذا المزاج والتركيب ولا مناص عن ذلك إلا بأن يلتزم بأن الإدراك ليس حلول حالة جسمانية في جسم بل شئ آخر من غير سنخ حلول عوارض الأجسام. وقال الشيخ لو كان العقل في دماغ لكان العقل أما دائم التعقل للدماغ وأما أن لا يتعقله أصلا، ونعم ما قال وهذا الوجه الخامس هو الحجة القاطعة. وقد مر في الصفحة 356 و 311 وغيرهما ما يؤكد المقصود وقد علمنا من تتبع ما يسمى في علم الأخلاق رذائل ومهلكات أنها جميعا تنسب إلى الغرائز الطبيعية المعلومة للقوة الواهمة كالشهوة والغضب والبعض والحسد فالسعادة كل السعادة في أخضاع الوهم وقهره حتى لايسترسل في الشهوات ويتبع العقل ولا يمنعه من كسب الفضائل وقد ظهر من ذلك أن الوهم وما يتفرغ عليه ليس العالم الروحاني والتجرد في شئ ولاحظ له من القدس أصلا، والعجب أن الغزالي مع تبحره في هذا العلم نقض قول الحكماء في تجرد العاقلة بان الوهم أيضا لا ينقسم مدركاته فإن معنى الحسد والغضب والشهوة وأمثالها لا اجزاء مقدارية لها فلا ينقسم كمعنى الإنسان والحيوان فليست جسمانية وهذا عجيب من مثله لأن معنى الحسد والغضب وأمثالها كلى لا يدركه الحيوان البتة وهو مجرد من جهة كوهه معقولا حاصلا للقوة والعاقلة وإنما الحاصل للحيوان مصاديق هذه المعاني فإذا رأت الشاة ذئبا عرضت في بدنها حالة تبعثها على الفرار وضربان القلب ونسمى نحن معاشر البشر تلك الحالة خوفا ولا تتعقل الشاة معنى الحالة ولا يعرف لها مفهوما ولا لفظا كاحسان الرضيع بوجع رأسه من غير أن يكون له تصور مفهوم إلا لم وجميع ما ذركه في التهافت في نقض تجرد النفس الناطقة من هذه القبيل ناش عن قلة الاعتبار. والخيال في اصطلاح الحكماء هو القوة الحافظة للصور المدركة بالحسن المشترك واختلف الحكماء في تجرد الخيال المصطلح عندهم فالشيخ الرئيس وأتباعه وأنكروا تجرده وجعلوه من عوارض الدماغ بمعنى إنه الة لا مدرك وشيخ الاشراق ومن تبعه ومنهم صدر المتألهين - قده - اعتقد واتجرده ولذلك أمكنهم الإلتزام بأن روح الحيوانا التي الخيال مجردة تبقى بعد موتها وهو متوقف على إثبات أن الحيوان درك وحدة ذاته طول عمره مع تبدل أجزاء بدنه وأنه يبقى مع


[ 417 ]

جميع ما أدركه سابقا واختزن في خياله وبالجملة يتوقف على احاطتنا بخصوصيات إدراكه الخيالي وأما الإنسان فيذكر غالبا ما أحسه بعد أربع سنين من ولادته والتزموا بتجرد الخيال إذ لا يتعقل حول صثدر كثيرة متراكبة بعضها على بعض وبعضها عظمية وبعضها صغيرة متضادة بعضها مع بعض في سنين متطاولة على جسم صغير من غير أن يشوش الصور ويبطل بعضها بعضا. والحيوان حاله غير معلومة لنا فلعله لا يذكر ما مر عليه سنة أو أقل لكن الحدس القوي يؤكد وجود صفات التجرد في خياله وليس هنا موضع التفصيل في ذلك وأما اعتراض الغزالي على الحكماء في استدلالهم على تجرد النفس ببقاء وحدتها طول العمر مع تبدل البدن بأن الحيوان أيضا كذلك يتبدل أجزائه مع أنه واحد من أول نموه إلى أن يموت ولا يقولون بتجرده. فالجواب أنهم لم يعلموا وحدته بالمعنى الذي نراه في الإنسان من حفظ شخصيته ومدركاته وعلومه ولا تكفى الوحدة العرفية وعلى فرض ثبوت وحدته حقيقة يقولون بتجرده. فإن قيل حكمت فيما سبق (في الصفحة 349) بأن الحافظة كسائر الحواس الباطنة جسمانية وهي اعتياد الاعصاب أو الدماغ، قلنا غرضنا هناك الذاكرة فان الحافظة قد نطلق على قوة تحل فيها الخيالي وأما الإنسان فيذكر غالبا ما أحسه بعد أربع سنين من ولادته والتزموا بتجرد الخيال إذ لا يتعقل حول صثدر كثيرة متراكبة بعضها على بعض وبعضها عظمية وبعضها صغيرة متضادة بعضها مع بعض في سنين متطاولة على جسم صغير من غير أن يشوش الصور ويبطل بعضها بعضا. والحيوان حاله غير معلومة لنا فلعله لا يذكر ما مر عليه سنة أو أقل لكن الحدس القوي يؤكد وجود صفات التجرد في خياله وليس هنا موضع التفصيل في ذلك وأما اعتراض الغزالي على الحكماء في استدلالهم على تجرد النفس ببقاء وحدتها طول العمر مع تبدل البدن بأن الحيوان أيضا كذلك يتبدل أجزائه مع أنه واحد من أول نموه إلى أن يموت ولا يقولون بتجرده. فالجواب أنهم لم يعلموا وحدته بالمعنى الذي نراه في الإنسان من حفظ شخصيته ومدركاته وعلومه ولا تكفى الوحدة العرفية وعلى فرض ثبوت وحدته حقيقة يقولون بتجرده. فإن قيل حكمت فيما سبق (في الصفحة 349) بأن الحافظة كسائر الحواس الباطنة جسمانية وهي اعتياد الاعصاب أو الدماغ، قلنا غرضنا هناك الذاكرة فان الحافظة قد نطلق على قوة تحل فيها لصور وقد تطلق على قوة تسترجع المخزون نحضرها عند الحس المشترك والجسماني هو الثاني دون الاولى. راجع الصفحات (27 و 41 و 176 و 292 و 307 و 311 و 320 و 348 و 350 و 356). (ش)

مكتبة يعسوب الدين عليه السلام الإلكترونية