53-  باب حديث شق الكاهن

 1-  حدثنا أحمد بن يحيى المكتب رضي الله عنه قال حدثنا أبو الطيب أحمد بن محمد الوراق قال حدثنا محمد بن الحسن بن دريد الأزدي العماني قال حدثنا

 

===============

(551)

أحمد بن عيسى أبو بشير العقيلي عن أبي حاتم عن أبي قبيصة عن ابن الكلبي عن أبيه قال سمعت شيوخا من بجيلة ما رأيت على سروهم و لا حسن هيئتهم يخبرون أنه عاش شق الكاهن ثلاثمائة سنة فلما حضرته الوفاة اجتمع إليه قومه فقالوا أوصنا فقد آن أن يفوتنا بك الدهر فقال تواصلوا و لا تقاطعوا و تقابلوا و لا تدابروا و بلوا الأرحام و احفظوا الذمام و سودوا الحليم و أجلوا الكريم و وقروا ذا الشيبة و أذلوا اللئيم و تجنبوا الهزل في مواضع الجد و لا تكدروا الإنعام بالمن و اعفوا إذا قدرتم و هادنوا إذا عجزتم و أحسنوا إذا كويدتم و اسمعوا من مشايخكم و استبقوا دواعي الصلاح عند إحن العداوة فإن بلوغ الغاية في النكاية جرح بطي‏ء الاندمال و إياكم و الطعن في الأنساب لا تفحصوا عن مساوئكم و لا تودعوا عقائلكم غير مساويكم فإنها وصمة فادحة و قضاة فاضحة الرفق الرفق لا الخرق فإن الخرق مندمة في العواقب مكسبة للعواتب الصبر أنفذ عتاب و القناعة خير مال و الناس أتباع الطمع و قرائن الهلع و مطايا الجزع و روح الذل التخاذل و لا تزالون ناظرين بعيون نائمة ما اتصل الرجاء بأموالكم و الخوف بمحالكم ثم قال يا لها نصيحة زلت عن عذبة فصيحة إذا كان وعاؤها وكيعا و معدنها منيعا ثم مات . قال مصنف هذا الكتاب رضي الله عنه إن مخالفينا يروون مثل هذه الأحاديث

 

===============

(552)

و يصدقونها و يروون حديث شداد بن عاد بن إرم و أنه عمر تسعمائة سنة و يروون صفة الجنة و أنها مغيبة عن الناس فلا ترى و أنها في الأرض و لا يصدقون بقائم آل محمد ع و يكذبون بالأخبار التي رويت فيه جحودا للحق و عنادا لأهله

 

54-  باب حديث شداد بن عاد بن إرم و صفة إرم ذات

العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد

 1-  أخبرنا محمد بن هارون الزنجاني فيما كتب إلي قال حدثنا معاذ أبو المثنى العنبري قال حدثنا عبد الله بن محمد بن أسماء قال حدثنا جويرية عن سفيان عن منصور عن أبي وائل قال إن رجلا يقال له عبد الله بن قلابة خرج في طلب إبل له قد شردت فبينا هو في صحاري عدن في تلك الفلوات إذ هو وقع على مدينة عليها حصن حول ذلك الحصن قصور كثيرة و أعلام طوال فلما دنا منها ظن أن فيها من يسأله عن إبله فلم ير داخلا و لا خارجا فنزل عن ناقته و عقلها و سل سيفه و دخل من باب الحصن فإذا هو ببابين عظيمين لم ير في الدنيا بناء أعظم منهما و لا أطول و إذا خشبها من أطيب عود و عليها نجوم من ياقوت أصفر و ياقوت أحمر ضوؤها قد ملأ المكان فلما رأى ذلك أعجبه ففتح أحد البابين و دخل فإذا هو بمدينة لم ير الراءون مثلها قط و إذا هو بقصور كل قصر منها معلق تحته أعمدة من زبرجد و ياقوت و فوق كل قصر منها غرف و فوق الغرف غرف مبنية بالذهب و الفضة و اللؤلؤ و الياقوت و الزبرجد و على كل باب من أبواب تلك القصور مصاريع مثل مصاريع باب المدينة من عود طيب قد نضدت عليه اليواقيت و قد فرشت تلك القصور باللؤلؤ و بنادق المسك و الزعفران فلما رأى ذلك أعجبه و لم ير هناك أحدا فأفزعه ذلك ثم نظر إلى الأزقة فإذا في كل زقاق منها أشجار قد أثمرت تحتها أنهار

 

===============

(553)

تجري فقال هذه الجنة التي وصف الله عز و جل لعباده في الدنيا و الحمد لله الذي أدخلني الجنة فحمل من لؤلئها و من بنادق المسك و الزعفران و لم يستطع أن يقلع من زبرجدها و من ياقوتها لأنه كان مثبتا في أبوابها و جدرانها و كان اللؤلؤ و بنادق المسك و الزعفران منثورا بمنزلة الرمل في تلك القصور و الغرف كلها فأخذ منها ما أراد و خرج حتى أتى ناقته و ركبها ثم سار يقفو أثر ناقته حتى رجع إلى اليمن و أظهر ما كان معه و أعلم الناس أمره و باع بعض ذلك اللؤلؤ و كان قد اصفار و تغير من طول ما مر عليه من الليالي و الأيام فشاع خبره و بلغ معاوية بن أبي سفيان فأرسل رسولا إلى صاحب صنعاء و كتب بإشخاصه فشخص حتى قدم على معاوية فخلا به و سأله عما عاين فقص عليه أمر المدينة و ما رأى فيها و عرض عليه ما حمله منها من اللؤلؤ و بنادق المسك و الزعفران فقال و الله ما أعطي سليمان بن داود مثل هذه المدينة فبعث معاوية إلى كعب الأحبار فدعاه و قال له يا أبا إسحاق هل بلغك أن في الدنيا مدينة مبنية بالذهب و الفضة و عمدها من الزبرجد و الياقوت و حصى قصورها و غرفها اللؤلؤ و أنهارها في الأزقة تجري تحت الأشجار قال كعب أما هذه المدينة فصاحبها شداد بن عاد الذي بناها و أما المدينة فهي إرم ذات العماد و هي التي وصف الله عز و جل في كتابه المنزل على نبيه محمد ص و ذكر أنه لم يخلق مثلها في البلاد قال معاوية حدثنا بحديثها فقال إن عادا الأولى و ليس بعاد قوم هود ع كان له ابنان سمى أحدهما شديدا و الآخر شدادا فهلك عاد و بقيا و ملكا و تجبرا و أطاعهما الناس في الشرق و الغرب فمات شديد و بقي شداد فملك وحده و لم ينازعه أحد و كان مولعا بقراءة الكتب و كان كلما سمع بذكر الجنة و ما فيها من البنيان و الياقوت و الزبرجد و اللؤلؤ رغب أن يفعل مثل ذلك في الدنيا عتوا على الله عز و جل فجعل على صنعتها مائة رجل تحت كل واحد منهم ألف من الأعوان فقال انطلقوا إلى أطيب فلاة في الأرض و أوسعها فاعملوا لي فيها مدينة من ذهب و فضة و ياقوت و

 

===============

(554)

زبرجد و لؤلؤ و اصنعوا تحت تلك المدينة أعمدة من زبرجد و على المدينة قصورا و على القصور غرفا و فوق الغرف غرفا و اغرسوا تحت القصور في أزقتها أصناف الثمار كلها و أجروا فيها الأنهار حتى يكون تحت أشجارها فإني قرأت في الكتب صفة الجنة و أنا أحب أن أجعل مثلها في الدنيا قالوا له كيف نقدر على ما وصفت لنا من الجواهر و الذهب و الفضة حتى يمكننا أن نبني مدينة كما وصفت قال شداد أ لا تعلمون أن ملك الدنيا بيدي قالوا بلى قال فانطلقوا إلى كل معدن من معادن الجواهر و الذهب و الفضة فوكلوا بها حتى تجمعوا ما تحتاجون إليه و خذوا ما تجدونه في أيدي الناس من الذهب و الفضة فكتبوا إلى كل ملك في الشرق و الغرب فجعلوا يجمعون أنواع الجواهر عشر سنين فبنوا له هذه المدينة في مدة ثلاثمائة سنة و عمر شداد تسعمائة سنة فلما أتوه و أخبروه بفراغهم منها قال انطلقوا فاجعلوا عليها حصنا و اجعلوا حول الحصن ألف قصر عند كل قصر ألف علم يكون في كل قصر من تلك القصور وزير من وزرائي فرجعوا و عملوا ذلك كله له ثم أتوه فأخبروه بالفراغ منها كما أمرهم به فأمر الناس بالتجهيز إلى إرم ذات العماد فأقاموا في جهازهم إليها عشر سنين ثم سار الملك يريد إرم فلما كان من المدينة على مسيرة يوم و ليلة بعث الله عز و جل عليه و على جميع من كان معه صيحة من السماء فأهلكتهم جميعا و ما دخل إرم و لا أحد ممن كان معه فهذه صفة إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد و إني لأجد في الكتب أن رجلا يدخلها و يرى ما فيها ثم يخرج و يحدث الناس بما يرى فلا يصدق و سيدخلها أهل الدين في آخر الزمان . قال مصنف هذا الكتاب رضي الله عنه إذا جاز أن يكون في الأرض جنة مغيبة عن أعين الناس لا يهتدي إلى مكانها أحد من الناس و لا يعلمون بها و يعتقدون صحة كونها من طريق الأخبار فكيف لا يقبلون من طريق الأخبار كون القائم ع الآن في غيبته و إذا جاز أن يعمر شداد بن عاد تسعمائة سنة فكيف لا يجوز أن يعمر القائم

 

===============

(555)

ع مثلها أو أكثر منها. و الخبر في شداد بن عاد عن أبي وائل و الأخبار في القائم ع عن النبي و الأئمة ص فهل ذلك إلا مكابرة في جحود الحق. و وجدت في كتاب المعمرين أنه حكي عن هشام بن سعيد الرحال قال إنا وجدنا حجرا بالإسكندرية مكتوبا فيه أنا شداد بن عاد و أنا الذي شيدت العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد و جندت الأجناد و شددت بساعدي الواد فبنيتهن إذ لا شيب و لا موت و إذ الحجارة في اللين مثل الطين و كنزت كنزا في البحر على اثني عشر منزلا لم يخرجه أحد حتى تخرجه أمة محمد و عاش أوس بن ربيعة بن كعب بن أمية الأسلمي مائتين و أربع عشرة سنة و قال في ذلك لقد عمرت حتى مل أهلي ثوائي عندهم و سئمت عمري‏و حق لمن أتى مائتا عام عليه و أربع من بعد عشريمل من الثواء و صبح يوم يغاديه و ليل بعد يسري‏فأبلى جدتي و تركت شلوا و باح بما أجن ضمير صدري‏ و عاش أبو زبيد و اسمه البدر بن حرملة الطائي و كان نصرانيا خمسين و مائة سنة. و عاش نصر بن دهمان بن بصار بن بكر بن سليم بن أشجع بن الريث بن غطفان مائة و تسعين سنة حتى سقطت أسنانه و خرف عقله و ابيض رأسه فحزب قومه أمر فاحتاجوا فيه إلى رأيه و دعوا الله عز و جل أن يرد إليه عقله و شبابه فعاد إليه

 

===============

(556)

عقله و شبابه و اسود شعره. فقال فيه سلمة بن الخرشب الأنماري من أنمار بن بغيض و يقال بل عياض مرداس السلمي لنصر بن دهمان الهنيدة عاشها و تسعين حولا ثم قوم فانصاتاو عاد سواد الرأس بعد بياضه و راجعة شرخ الشباب الذي فاتاو راجع عقلا عند ما فات عقله و لكنه من بعد ذا كله ماتا و عاش سويد بن حذاق العبدي مائتي سنة. و عاش الجعشم بن عوف بن حذيمة دهرا طويلا فقال حتى متى الجعشم في الأحياء ليس بذي أيد و لا غناءهيهات ما للموت من دواء و عاش ثعلبة بن كعب بن زيد بن عبد الأشهل الأوسي مائتي سنة فقال لقد صاحبت أقواما فأمسوا خفاتا ما يجاب لهم دعاءمضوا قصد السبيل و خلفوني فطال علي بعدهم الثواءفأصبحت الغداة رهين بيتي و أخلفني من الموت الرجاء و عاش رداءة بن كعب بن ذهل بن قيس النخعي ثلاثمائة سنة و قال

 

===============

(557)

لم يبق يا خذلة من لداتي أبو بنين لا و لا بنات‏و لا عقيم غير ذي سبات إلا يعد اليوم في الأموات‏هل مشتر أبيعه حياتي‏ و عاش عدي بن حاتم طي‏ء عشرين و مائة سنة و عاش أماباة بن قيس بن الحارث بن شيبان الكندي ستين و مائة سنة. و عاش عميرة بن هاجر بن عمير بن عبد العزى بن قمير سبعين و مائة سنة و قال بليت و أفناني الزمان و أصبحت هنيدة قد أبقيت من بعدها عشراو أصبحت مثل الفرخ لا أنا ميت فأسلى و لا حي فأصدر لي أمراو قد عشت دهرا ما تجن عشيرتي لها ميتا حتى أخط به قبرا و عاش العرام بن منذر بن زبيد بن قيس بن حارثة بن لام دهرا طويلا في الجاهلية و أدرك عمر بن عبد العزيز و أدخل عليه و قد اختلفت ترقوتاه و سقط حاجباه فقيل له ما أدركت فقال و و الله ما أدري أ أدركت أمة على عهد ذي القرنين أم كنت أقدمامتى تخلعا مني القميص تبينا جآجئ لم يكسين لحما و لا دما و عاش سيف بن وهب بن جذيمة الطائي مائتي سنة و قال

 

===============

(558)

ألا إنني عاجلا ذاهب فلا تحسبوا أنني كاذب‏لبست شبابي فأفنيته و أدركني القدر الغالب‏و خصم دفعت و مولى نفعت حتى يثوب له ثائب‏ و عاش أرطاة بن دشهبة المزني عشرين و مائة سنة فكان يكنى أبا الوليد فقال له عبد الملك بن مروان ما بقي من شعرك يا أرطاة قال يا أمير المؤمنين إني لا أشرب و لا أطرب و لا أغضب و لا يجيئني الشعراء إلا على أحد هذه الخصال على أني أقول رأيت المرء تأكله الليالي كأكل الأرض ساقطة الحديدو ما تبقي المنية حين تأتي على نفس ابن آدم من مزيدو أعلم أنها ستكر حتى توفى نذرها بأبي الوليد فارتاع عبد الملك فقال يا أرطاة فقال أرطاة يا أمير المؤمنين إني أكنى أبا الوليد. و عاش عبيد بن الأبرص ثلاثمائة سنة فقال فنيت و أفناني الزمان و أصبحت لداتي بنو نعش و زهر الفراقد ثم أخذه النعمان بن المنذر يوم بؤسه فقتله. و عاش شريح بن هانئ عشرين و مائة سنة حتى قتل في زمن الحجاج بن يوسف فقال في كبره و ضعفه أصبحت ذا بث أقاسي الكبرا قد عشت بين المشركين أعصراثمت أدركت النبي المنذرا و بعده صديقه و عمرا

 

===============

(559)

و يوم مهران و يوم تسترا و الجمع في صفينهم و النهراهيهات ما أطول هذا عمرا و عاش رجل من بني ضبة يقال له المسجاح بن سباع الضبي دهرا طويلا فقال لقد طوفت في الآفاق حتى بليت و قد أنى لي لو أبيدو أفناني و لو يفنى نهار و ليل كلما يمضي يعودو شهر مستهل بعد شهر و حول بعده حول جديد و عاش لقمان العادي الكبير خمسمائة و ستين سنة و عاش عمر سبعة أنسر عاش كل نسر منها ثمانين عاما و كان من بقية عاد الأولى. و روي أنه عاش ثلاثة آلاف سنة و خمسمائة سنة و كان من وفد عاد الذين بعثهم قومهم إلى الحرم ليستسقوا لهم و كان أعطي عمر سبعة أنسر و كان يأخذ فرخ النسر الذكر فيجعله في الجبل الذي هو في أصله فيعيش النسر منها ما عاش فإذا مات أخذ آخر فرباه حتى كان آخرها لبد و كان أطولها عمرا فقيل فيه طال الأبد على لبد.

 

===============

(560)

و قد قيل فيه أشعار معروفة و أعطي من القوة و السمع و البصر على قدر ذلك و له أحاديث كثيرة. و عاش زهير بن جناب بن هبل بن عبد الله بن كنانة بن بكر بن عوف بن عذرة بن زيد الله بن رفيدة بن ثور بن كلب الكلبي ثلاثمائة سنة. و عاش مزيقيا و اسمه عمر بن عامر و هو ماء السماء لأنه كان حياة أينما نزل كمثل ماء السماء و إنما سمي مزيقيا لأنه عاش ثمانمائة سنة أربعمائة سوقة و أربعمائة ملكا و كان يلبس كل يوم حلتين ثم يأمر بهما فتمزقان حتى لا يلبسهما أحد غيره. و عاش هبل بن عبد الله بن كنانة ستمائة سنة. و عاش أبو الطحمان القيني مائة و خمسين سنة.

 

===============

(561)

و عاش مستوغر بن ربيعة بن كعب بن زيد مناة بن تميم ثلاثمائة و ثلاثين سنة ثم أدرك الإسلام فلم يسلم و له شعر معروف. و عاش دويد بن زيد بن نهد أربعمائة سنة و خمسين سنة فقال في ذلك ألقى علي الدهر رجلا و يدا و الدهر ما أصلح يوما أفسدايفسد ما أصلحه اليوم غدا و جمع بنيه حين حضرته الوفاة فقال يا بني أوصيكم بالناس شرا لا تقبلوا لهم معذرة و لا تقيلوا لهم عثرة. و عاش تيم الله بن ثعلبة بن عكاية مائتي سنة. و عاش ربيع بن ضبع بن وهب بن بغيض بن مالك بن سعد بن عدي بن فزارة مائتي و أربعين سنة و أدرك الإسلام فلم يسلم.

 

===============

(562)

و عاش معديكرب الحميري من آل ذي يزن مائتي و خمسين سنة. و عاش شرية بن عبد الله الجعفي ثلاثمائة سنة فقدم على عمر بن الخطاب بالمدينة فقال لقد رأيت هذا الوادي الذي أنتم فيه و ما به قطرة و لا هضبة و لا شجرة و لقد أدركت أخريات قومي يشهدون شهادتكم هذه يعني لا إله إلا الله و معه ابن له يهادي قد خرف فقيل له يا شرية هذا ابنك قد خرف و بك بقية فقال و الله ما تزوجت أمه حتى أتت علي سبعون سنة و لكني تزوجتها عفيفة ستيرة إن رضيت رأيت ما تقر به عيني و إن سخطت تأتت لي حتى أرضى و إن ابني هذا تزوج امرأة بذية فاحشة إن رأى ما تقر به عينه تعرضت له حتى يسخط و إن سخط تلغبته حتى يهلك. حدثنا أبو سعيد عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب بن نصر السجزي قال سمعت أبا الحسن أحمد بن محمد بن عبد الله بن حمزة بن زيد الشعراني من ولد عمار بن ياسر رضي الله عنه يقول حكى لي أبو القاسم محمد بن القاسم المصري أن أبا الجيش حمادويه بن أحمد بن طولون كان قد فتح الله عليه من كنوز مصر ما لم يرزق أحد قبله فغزى بالهرمين فأشار إليه جلساؤه و حاشيته و بطانته بأن لا يتعرض لهدم الأهرام فإنه ما تعرض لهذه أحد فطال عمره فألح في ذلك و أمر ألفا من الفعلة أن

 

===============

(563)

يطلبوا الباب فكانوا يعملون سنة حواليه حتى ضجروا و كلوا فلما هموا بالانصراف بعد الإياس منه و ترك العمل وجدوا سربا فقدروا أنه الباب الذي يطلبونه فلما بلغوا آخره و جدوا بلاطة قائمة من مرمر فقدروا أنها الباب فاحتالوا فيها إلى أن قلعوها و أخرجوها قال محمد بن المظفر وجدوا من ورائها بناء منضما لا يقدروا عليه فأخرجوها ثم نظفوها فإذا عليها كتابة باليونانية فجمعوا حكماء مصر و علماءها من سائر الأديان فلم يهتدوا لها. و كان في القوم رجل يعرف بأبي عبد الله المديني أحد حفاظ الدنيا و علمائها فقال لأبي الجيش حمادويه بن أحمد أعرف في بلد الحبشة أسقفا قد عمر و أتى عليه ثلاثمائة و ستون سنة يعرف هذا الخط و قد كان عزم على أن يعلمنيه فلحرصي على علم العرب لم أقم عنده و هو باق فكتب أبو الجيش إلى ملك الحبشة يسأله أن يحمل هذا الأسقف إليه فأجابه أن هذا شيخ قد طعن في السن و قد حطمه الزمان و إنما يحفظه هذا الهواء و هذا الإقليم و يخاف عليه إن نقل إلى هواء آخر و إقليم آخر و لحقته حركة و تعب و مشقة السفر أن يتلف و في بقائه لنا شرف و فرح و سكينة فإن كان لكم شي‏ء يقرؤه أو يفسره أو مسألة تسألونه فاكتب لي بذلك فحملت البلاطة في قارب إلى بلد أسوان من الصعيد الأعلى و حملت من أسوان على العجلة إلى بلد الحبشة و هي قريبة من الأسوان فلما وصلت قرأها الأسقف و فسر ما كان فيها بالحبشية ثم نقلت إلى العربية فإذا فيها مكتوب أنا الريان بن دومغ فسئل أبو عبد الله المديني عن الريان من كان فقال هو والد العزيز الملك الذي كان في زمان يوسف النبي ع و اسمه الوليد بن الريان بن دومغ و كان عمر العزيز سبعمائة سنة و عمر الريان والده ألف و سبعمائة سنة و عمر دومغ ثلاثة آلاف سنة. فإذا فيها أنا الريان بن دومغ خرجت في طلب علم النيل الأعظم لأعلم

 

===============

(564)

فيضه و منبعه إذ كنت أرى مفيضه فخرجت و معي من صحبني أربعة آلاف رجل فسرت ثمانين سنة إلى أن انتهيت إلى الظلمات و البحر المحيط بالدنيا فرأيت النيل يقطع البحر المحيط و يعبر فيه و لم يكن لي منفذ و تماوت أصحابي و بقيت في أربعة آلاف رجل فخشيت على ملكي فرجعت إلى مصر و بنيت الأهرام و البراني و بنيت الهرمين و أودعتهما كنوزي و ذخائري و قلت في ذلك و أدرك علمي بعض ما هو كائن و لا علم لي بالغيب و الله أعلم‏و أتقنت ما حاولت إتقان صنعه و أحكمته و الله أقوى و أحكم‏و حاولت علم النيل من بدء فيضه فأعجزني و المرء بالعجز ملجم‏ثمانين شاهورا قطعت مسايحا و حولي بني حجر و جيش عرموم‏إلى أن قطعت الإنس و الجن كلهم و عارضني لج من البحر مظلم‏فأيقنت أن لا منفذ بعد منزلي لذي همة بعدي و لا متقدم‏فأبت إلى ملكي و أرسيت ثاويا بمصر و للأيام بؤس و أنعم‏أنا صاحب الأهرام في مصر كلها و باني برانيها بها و المقدم‏تركت بها آثار كفي و حكمتي على الدهر لا تبلى و لا تتهدم‏و فيها كنوز جمة و عجائب و للدهر أمر مرة و تجهم‏سيفتح أقفالي و يبدي عجائبي ولي لربي آخر الدهر ينجم‏بأكناف بيت الله تبدو أموره فلا بد أن يعلو و يسمو به السم‏ثمان و تسع و اثنتان و أربع و تسعون أخرى من قتيل و ملجم‏و من بعد هذا كر تسعون تسعة و تلك البراني تستخر و تهدم‏

 

===============

(565)

و تبدي كنوزي كلها غير أنني أرى كل هذا أن يفرقها الدم‏زبرت مقالي في صخور قطعتها ستبقى و أفنى بعدها ثم أعدم‏ فحينئذ قال أبو الجيش حمادويه بن أحمد هذا شي‏ء ليس لأحد فيه حيلة إلا القائم من آل محمد ع و ردت البلاطة كما كانت مكانها. ثم إن أبا الجيش بعد ذلك بسنة قتله طاهر الخادم ذبحه على فراشه و هو سكران و من ذلك الوقت عرف خبر الهرمين و من بناهما فهذا أصح ما يقال من خبر النيل و الهرمين و عاش ضبيرة بن سعيد بن سعد بن سهم القرشي مائة و ثمانين سنة و أدرك الإسلام فهلك فجأة و عاش لبيد بن ربيعة الجعفري مائة و أربعين سنة و أدرك الإسلام فأسلم فلما بلغ سبعون سنة من عمره أنشأ يقول في ذلك كأني و قد جاوزت سبعين حجة خلعت بها عن منكبي ردائيافلما بلغ سبعا و سبعين سنة أنشأ يقول باتت تشكي إلي النفس مجهشة و قد حملتك سبعا بعد سبعينافإن تزيدي ثلاثا تبلغي أملا و في الثلاث وفاء للثمانينافلما بلغ تسعين سنة أنشأ يقول كأني و قد جاوزت تسعين حجة خلعت بها عني عذار لثامي‏رمتني بنات الدهر من حيث لا أرى و كيف بمن يرمى و ليس برام‏فلو أنني أرمى بنبل رأيتها و لكنني أرمى بغير سهام‏ فلما بلغ مائة و عشر سنين أنشأ يقول أ ليس في مائة قد عاشها رجل و في تكامل عشر بعدها عمر فلما بلغ مائة و عشرين سنة أنشأ يقول قد عشت دهرا قبل مجرى داحس لو كان للنفس اللجوج خلود فلما بلغ مائة و أربعين سنة أنشأ يقول

 

===============

(566)

و لقد سئمت من الحياة و طولها و سؤال هذا الناس كيف لبيدغلب الرجال و كان غير مغلب دهر طويل دائم ممدوديوما إذا يأتي علي و ليلة و كلاهما بعد المضي يعود

فلما حضرته الوفاة قال لابنه يا بني إن أباك لم يمت و لكنه فني فإذا قبض أبوك فأغمضه و أقبل به القبلة و سجه بثوبه و لا أعلمن ما صرخت عليه صارخة أو بكت عليه باكية و انظر جفنتي التي كنت أضيف بها فأجد صنعتها ثم احملها إلى مسجدك و إلى من كان يغشاني عليها فإذا قال الإمام سلام عليكم فقدمها إليهم يأكلوا منها فإذا فرغوا فقل احضروا جنازة أخيكم لبيد بن ربيعة فقد قبضه الله عز و جل ثم أنشأ يقول و إذا دفنت أباك فاجعل فوقه خشبا و طيناو صفائح صما رواشنها تسددن الغصوناليقين حر الوجه سفساف التراب و لن يقينا و قد ورد في الخبر في حديث لبيد بن ربيعة في أمر الجفنة غير هذا ذكروا أن لبيد بن ربيعة جعل على نفسه أن كلما هبت الشمال أن ينحر جزورا فيملأ الجفنة التي حكوا عنها في أول حديثه. فلما ولي الوليد بن عقبة بن أبي معيط الكوفة خطب الناس فحمد الله عز و جل و أثنى عليه و صلى على النبي ص ثم قال أيها الناس قد علمتم حال لبيد بن ربيعة الجعفري و شرفه و مروءته و ما جعل على نفسه كلما هبت الشمال أن ينحر جزورا فأعينوا أبا عقيل على مروءته ثم نزل و بعث إليه بخمسة من الجزر ثم أنشأ يقول فيها أرى الجزار يشحذ شفرتيه إذا هبت رياح أبي عقيل‏طويل الباع أبلج جعفري كريم الجد كالسيف الصقيل‏و في ابن الجعفري بما لديه على العلات و المال القليل‏

 

===============

(567)

و قد ذكروا أن الجزر كانت عشرين فلما أتته قال جزى الله الأمير خيرا قد عرف أني لا أقول الشعر و لكن اخرجي يا بنية فخرجت إليه بنية له خماسية فقال لها أجيبي الأمير فأقبلت و أدبرت ثم قالت نعم و أنشأت تقول إذا هبت رياح أبي عقيل دعونا عند هبتها الوليداطويل الباع أبلج عبشميا أعان على مروءته لبيدابأمثال الهضاب كأن ركبا عليها من بني حام قعوداأبا وهب جزاك الله خيرا نحرناها و أطعمنا الثريدافعد إن الكريم له معاد و عهدي بابن أروى أن تعودا فقال لها أحسنت يا بنية لو لا أنك سألت قالت إن الملوك لا يستحيا من مسألتهم قال و أنت يا بنية أشعر. و عاش ذو الإصبع العدواني و اسمه حرثان بن الحارث بن محرث بن ربيعة بن هبيرة بن ثعلبة بن الظرب بن عثمان ثلاثمائة سنة. و عاش جعفر بن قبط ثلاثمائة سنة و أدرك الإسلام و عاش عامر بن الظرب العدواني ثلاثمائة سنة. و عاش محصن بن عتبان بن ظالم بن عمرو بن قطيعة بن الحارث بن سلمة بن مازن الزبيدي مائتين و خمسين سنة و قال في ذلك ألا يا سلم إني لست منكم و لكني امرؤ قوتي سغوب‏دعاني الداعيان فقلت هيا فقالا كل من يدعى يجيب‏

 

===============

(568)

ألا يا سلم أعياني قيامي و أعيتني المكاسب و الذهوب‏و صرت رذية في البيت كلا تأذى بي الأباعد و القريب‏كذاك الدهر و الأيام خون لها في كل سائمة نصيب‏ و عاش عوف بن كنانة الكلبي ثلاثمائة سنة فلما حضرته الوفاة جمع بنيه فأوصاهم و هو عوف بن كنانة بن عوف بن عذرة بن زيد بن ثور بن كلب فقال يا بني احفظوا وصيتي فإنكم إن حفظتموها سدتم قومكم من بعدي إلهكم فاتقوه و لا تحزنوا و لا تخونوا و لا تثيروا السباع من مرابضها فتندموا و جاوزوا الناس بالكف عن مساوئهم فتسلموا و تصلحوا و عفوا عن الطلب إليهم و لا تستقلوا و الزموا الصمت إلا من حق تحمدوا و ابذلوا لهم المحبة تسلم لكم الصدور و لا تحرموهم المنافع فيظهروا الشكاة و تكونوا منهم في ستر ينعم بالكم و لا تكثروا مجالستهم فيستخف بكم و إذا نزلت بكم معضلة فاصبروا لها و البسوا للدهر أثوابه فإن لسان الصدق مع المسكنة خير من سوء الذكر مع الميسرة و وطنوا أنفسكم على المذلة لمن تذلل لكم فإن أقرب الوسائل المودة و إن أتعبت النشب البغضة و عليكم بالوفاء و تنكبوا العذر يأمن سربكم و أصيخوا للعدل و أحيوا الحسب بترك الكذب فإن آفة المروءة الكذب و الخلف لا تعلموا الناس إقتاركم فتهونوا عليهم و تخملوا و إياكم و الغربة فإنها ذلة و لا تضعوا الكرائم إلا عند الأكفاء و ابتغوا لأنفسكم المعالي و لا يختلجنكم جمال النساء عن الصحة فإن نكاح

 

===============

(569)

الكرائم مدارج الشرف و اخضعوا لقومكم و لا تبغوا عليهم لتنالوا المنافس و لا تخالفوهم فيما اجتمعوا عليه فإن الخلاف يزري بالرئيس المطاع و ليكن معروفكم لغير قومكم من بعدهم و لا توحشوا أفنيتكم من أهلها فإن إيحاشها إخماد النار و دفع الحقوق و ارفضوا النائم بينكم تسلموا و كونوا أعوانا عند الملمات تغلبوا و احذروا النجعة إلا في منفعة لا تصابوا و أكرموا الجار يخصب جنابكم و آثروا حق الضعيف على أنفسكم و الزموا مع السفهاء الحلم تقل همومكم و إياكم و الفرقة فإنها ذلة و لا تكلفوا أنفسكم فوق طاقتها إلا المضطر فإنكم لن تلاموا عند اتضاح العذر و بكم قوة خير من أن تعاونوا في الاضطرار منكم إليهم بالمعذرة و جدوا و لا تفرطوا فإن الجد مانع الضيم و لتكن كلمتكم واحدة تعزوا و يرهف حدكم و لا تبذلوا الوجوه لغير مكرميها فتكلجوها و لا تجشموها أهل الدناءة فتقصروا بها و لا تحاسدوا فتبوروا و اجتنبوا البخل فإنه داء و ابنوا المعالي بالجود و الأدب و مصافاة أهل الفضل و الحباء و ابتاعوا المحبة بالبذل و وقروا أهل الفضل و خذوا عن أهل التجارب و لا يمنعكم من معروف صغره فإن له ثوابا و لا تحقروا الرجال فتزدروا فإنما المرء بأصغريه ذكاء قلبه و لسان يعبر عنه و إذا خوفتم داهية فعليكم بالتثبت قبل العجلة و التمسوا بالتودد المنزلة عند الملوك فإنهم من وضعوه اتضع و من رفعوه ارتفع و تنبلوا تسم إليكم الأبصار و تواضعوا بالوقار ليحبكم ربكم ثم قال

 

===============

(570)

و ما كل ذي لب بمؤتيك نصحه و لا كل مؤت نصحه بلبيب‏و لكن إذا ما استجمعا عند واحد فحق له من طاعة بنصيب‏ و عاش صيفي بن رياح بن أكثم أحد بني أسد بن عمر بن تميم مائتين و سبعين سنة و كان يقول لك على أخيك سلطان في كل حال إلا في القتال فإذا أخذ الرجل السلاح فلا سلطان لك عليه و كفى بالمشرفية واعظا و ترك الفخر أبقى للثناء و أسرع الجرم عقوبة البغي و شر النصرة التعدي و ألأم الأخلاق أضيقها و من سوء الأدب كثرة العتاب و أقرع الأرض بالعصا فذهبت مثلا لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا و ما علم الإنسان إلا ليعلما و عاش أكثم بن صيفي أحد بني أسد بن عمرو بن تميم ثلاثمائة و ستين سنة و قال بعضهم مائة و تسعين سنة و أدرك الإسلام فاختلف في إسلامه إلا أن أكثرهم لا يشك في أنه لم يسلم فقال في ذلك إن امرأ قد عاش تسعين حجة إلى مائة لم يسأم العيش جاهل‏خلت مائتان غير ست و أربع و ذلك من عد الليالي قلائل‏ و قال محمد بن سلمة أقبل أكثم بن صيفي يريد الإسلام فقتله ابنه عطشا فسمعت أن هذه الآية نزلت فيه وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ و لم تكن العرب تقدم عليه أحدا في الحكمة و إنه

 

===============

(571)

لما سمع برسول الله ص بعث ابنه حليسا فقال يا بني إني أعظك بكلمات فخذ بهن من حين تخرج من عندي إلى أن ترجع إلي ائت نصيبك في شهر رجب فلا تستحله فيستحل منك فإن الحرام ليس يحرم نفسه و إنما يحرمه أهله و لا تمرن بقوم إلا نزلت عند أعزهم و أحدث عقدا مع شريفهم و إياك و الذليل فإنه أذل نفسه و لو أعزها لأعزه قومه فإذا قدمت على هذا الرجل فإني قد عرفته و عرفت نسبه و هو في بيت قريش و أعز العرب و هو أحد رجلين إما ذو نفس أراد ملكا فخرج للملك بعزة فوقره و شرفه و قم بين يديه و لا تجلس إلا بإذنه حيث يأمرك و يشير إليك فإنه إن كان ذلك كان أدفع لشره عنك و أقرب لخيره منك فإن كان نبيا فإن الله لا يحس فيتوهم و لا ينظر فيتجسم و إنما يأخذ الخيرة حيث يعلم لا يخطئ فيستعتب إنما أمره على ما يحب و إن كان نبيا فستجد أمره كله صالحا و خبره كله صادقا و ستجده متواضعا في نفسه متذللا لربه فذل له فلا تحدثن أمرا دوني فإن الرسول إذا أحدث الأمر من عنده خرج من يدي الذي أرسله و احفظ ما يقول لك إذا ردك إلي فإنك لو توهمت أو نسيت جشمتني رسولا غيرك. و كتب معه باسمك اللهم من العبد إلى العبد أما بعد فأبلغنا ما بلغك فقد أتانا عنك خبر لا ندري ما أصله فإن كنت أريت فأرنا و إن كنت علمت فعلمنا و أشركنا في كنزك و السلام.

 فكتب إليه رسول الله ص فيما ذكروا من محمد رسول الله إلى أكثم بن صيفي أحمد الله إليك إن الله تعالى أمرني أن أقول لا إله إلا الله و آمر الناس بقولها و الخلق خلق الله عز و جل و الأمر كله لله خلقهم و إماتتهم و هو ينشرهم و إليه المصير أدبتكم بآداب المرسلين و لتسألن عن النبأ العظيم و لتعلمن نبأه بعد حين فلما جاءه كتاب رسول الله ص قال لابنه يا بني ما ذا رأيت قال رأيته يأمر بمكارم الأخلاق و ينهى عن ملائمها فجمع أكثم بن صيفي إليه بني تميم ثم قال

 

===============

(572)

يا بني تميم لا تحضروني سفيها فإن من يسمع يخل و لكل إنسان رأي في نفسه و إن السفيه واهن الرأي و إن كان قوى البدن و لا خير فيمن لا عقل له. يا بني تميم كبرت سني و دخلتني ذلة الكبر فإذا رأيتم مني حسنا فأتوه و إذا أنكرتم مني شيئا فقوموني بالحق أستقم له إن ابني قد جاءني و قد شافه هذا الرجل فرآه يأمر بالمعروف و ينهى عن المنكر و يأخذ بمحاسن الأخلاق و ينهى عن ملائمها و يدعو إلى أن يعبد الله وحده و تخلع الأوثان و يترك الحلف بالنيران و يذكر أنه رسول الله و أن قبله رسلا لهم كتب و قد علمت رسولا قبله كان يأمر بعبادة الله عز و جل وحده إن أحق الناس بمعاونة محمد ص و مساعدته على أمره أنتم فإن يكن الذي يدعو إليه حقا فهو لكم و أن يك باطلا كنتم أحق من كف عنه و ستر عليه. و قد كان أسقف نجران يحدث بصفته و لقد كان سفيان بن مجاشع قبله يحدث به و سمى ابنه محمدا و قد علم ذوو الرأي منكم أن الفضل فيما يدعو إليه و يأمر به فكونوا في أمره أولا و لا تكونوا أخيرا اتبعوه تشرفوا و تكونوا سنام العرب و ائتوه طائعين من قبل أن تأتوه كارهين فإني أرى أمرا ما هو بالهوينا لا يترك مصعدا إلا صعده و لا منصوبا إلا بلغه إن هذا الذي يدعو إليه لو لم يكن دينا لكان في الأخلاق حسنا أطيعوني و اتبعوا أمري أسأل لكم ما لا ينزع منكم أبدا إنكم أصبحتم أكثر العرب عددا و أوسعهم بلدا و إني لأرى أمرا لا يتبعه ذليل إلا عز و لا يتركه عزيز إلا ذل اتبعوه مع عزكم تزدادوا عزا و لا يكن أحد مثلكم إن الأول لم يدع للآخر شيئا و إن هذا أمر لما هو بعده من سبق إليه فهو الباقي و اقتدى به الثاني فأصرموا أمركم فإن الصريمة قوة و الاحتياط عجز. فقال مالك بن نويرة خرف شيخكم فقال أكثم ويل للشجي من الخلي

 

===============

(573)

أراكم سكوتا و إن آفة الموعظة الإعراض عنها. ويلك يا مالك إنك هالك إن الحق إذا قام وقع القائم معه و جعل الصرعى قياما فإياك أن تكون منهم أما إذا سبقتموني بأمركم فقربوا بعيري أركبه فدعا براحلته فركبها فتبعوه بنوه و بنو أخيه فقال لهفي على أمر لن أدركه و لم يسبقني. و كتبت طي‏ء إلى أكثم فكانوا أخواله و قال آخرون كتبت بنو مرة و هم أخواله أن أحدث إلينا ما نعيش به فكتب. أما بعد فإني أوصيكم بتقوى الله و صلة الرحم فإنها تثبت أصلها و تنبت فرعها و أنهاكم عن معصية الله و قطيعة الرحم فإنها لا يثبت لها أصل و لا ينبت لها فرع و إياكم و نكاح الحمقاء فإن مباضعتها قذر و ولدها ضياع و عليكم بالإبل فأكرموها فإنها حصون العرب و لا تضعوا رقابها إلا في حقها فإن فيها مهر الكريمة و رقوء الدم و بألبانها يتحف الكبير و يغذى الصغير و لو كلفت الإبل الطحن لطحنت و لن يهلك امرؤ عرف قدره و العدم عدم العقل و المرء الصالح لا يعدم من المال و رب رجل خير من مائة و رب فئة أحب إلي من قبيلتين و من عتب على الزمان طالت معتبته و من رضي بالقسم طابت معيشته آفة الرأي الهوى و العادة أملك بالأدب و الحاجة مع المحبة خير من الغنى مع البغضة و الدنيا دول فما كان لك منها أتاك على ضعفك و إن قصرت في طلبه و ما كان منها عليك لم تدفعه بقوتك و سوء حمل الفاقة تضع الشرف و الحسد داء ليس له دواء و الشماتة تعقب و

 

===============

(574)

من بر يوما بر به و اللومة مع السفاهة و دعامة العقل الحلم و جماع الأمر الصبر و خير الأمور مغبة العفو و أبقى المودة حسن التعاهد و من يزر غبا يزدد حبا. وصية أكثم بن صيفي عند موته جمع أكثم بنيه عند موته فقال يا بني إنه قد أتى على دهر طويل و أنا مزودكم من نفسي قبل الممات أوصيكم بتقوى الله و صلة الرحم و عليكم بالبر فإنه ينمي عليه العدد و لا يبيد عليه أصل و لا يهتصر فرع فأنهاكم عن معصية الله و قطيعة الرحم فإنه لا يثبت عليها أصل و لا ينبت عليها فرع كفوا ألسنتكم فإن مقتل الرجل بين فكيه إن قول الحق لم يدع لي صديقا انظروا أعناق الإبل و لا تضعوها إلا في حقها فإن فيها مهر الكريمة و رقوء الدم و إياكم و نكاح الحمقاء فإن نكاحها قذر و ولدها ضياع الاقتصاد في السفر أبقى للجمام من لم يأس على ما فاته ودع بدنه من قنع بما هو فيه قرت عينه التقدم قبل التندم أن أصبح عند رأس الأمر أحب إلي من أن أصبح عند ذنبه لم يهلك امرؤ عرف قدره العجز عند البلاء آفة التجمل لم يهلك من مالك ما وعظك ويل لعالم أمن من جهله الوحشة ذهاب الأعلام يتشابه الأمر إذا أقبل فإذا أدبر عرفه الكيس و الأحمق البطر عند الرخاء حمق و في طلب المعالي يكون العز و لا تغضبوا من اليسير فإنه يجني الكثير لا تجيبوا فيما لم تسألوا عنه و لا تضحكوا مما لا يضحك منه تباروا في الدنيا و لا تباغضوا الحسد

 

===============

(575)

في القرب فإنه من يجتمع يتقعقع عمده يتقرب بعضكم من بعض في المودة لا تتكلوا على القرابة فتقاطعوا فإن القريب من قرب نفسه و عليكم بالمال فأصلحوه فإنه لا يصلح الأموال إلا بإصلاحكم و لا يتكلن أحدكم على مال أخيه يرى فيه قضاء حاجته فإنه من فعل ذلك كالقابض على الماء و من استغنى كرم على أهله و أكرموا الخيل نعم لهو الحرة المغزل و حيلة من لا حيلة له الصبر و عاش قردة بن ثعلبة بن نفاثة السلولي مائة و ثلاثين سنة في الجاهلية ثم أدرك الإسلام فأسلم. و عاش مصاد بن جناب بن مرارة من بني عمرو بن يربوع بن حنظلة بن زيد بن مناة أربعين و مائة سنة. و عاش قس بن ساعدة الأيادي ستمائة سنة و هو الذي يقول هل الغيث معطي الأمن عند نزوله بحال مسي‏ء في الأمور و محسن‏و ما قد تولى و هو قد فات ذاهبا فهل ينفعني ليتني و لو أنني‏ و كذلك يقول لبيد و أخلف قسا ليتني و لو أنني واعيا على لقمان حكم التدبر و عاش الحارث بن كعب المذحجي ستين و مائة سنة قال مصنف هذا الكتاب رضي الله عنه هذه الأخبار التي ذكرتها في المعمرين

 

===============

(576)

قد رواها مخالفونا أيضا من طريق محمد بن السائب الكلبي و محمد بن إسحاق بن بشار و عوانة بن الحكم و عيسى بن زيد بن آب و الهيثم بن عدي الطائي

 و قد روي عن النبي ص أنه قال كلما كان في الأمم السالفة يكون في هذه الأمة مثله حذو النعل بالنعل و القذة بالقذة و قد صح هذا التعمير فيمن تقدم و صحت الغيبات الواقعة بحجج الله ع فيما مضى من القرون. فكيف السبيل إلى إنكار القائم ع لغيبته و طول عمره مع الأخبار الواردة فيه عن النبي ص و عن الأئمة ع و هي التي قد ذكرناها في هذا الكتاب بأسانيدها

 حدثنا علي بن أحمد الدقاق رضي الله عنه قال حدثنا محمد بن أبي عبد الله الكوفي عن موسى بن عمران النخعي عن عمه الحسين بن يزيد النوفلي عن غياث بن إبراهيم عن الصادق جعفر بن محمد عن أبيه عن آبائه ع قال قال رسول الله ص كلما كان في الأمم السالفة فإنه يكون في هذه الأمة مثله حذو النعل بالنعل و القذة بالقذة

 حدثنا أحمد بن الحسن القطان قال حدثنا الحسن بن علي السكري قال حدثنا محمد بن زكريا عن جعفر بن محمد بن عمارة عن الصادق جعفر بن محمد عن أبيه عن جده ع قال قال رسول الله ص و الذي بعثني بالحق نبيا و بشيرا لتركبن أمتي سنن من كان قبلها حذو النعل بالنعل حتى لو أن حية من بني إسرائيل دخلت في جحر لدخلت في هذه الأمة حية مثلها  حدثنا الشريف أبو الحسن علي بن موسى بن أحمد بن إبراهيم بن محمد بن عبيد الله رضي الله عنه قال حدثنا أبو علي الحسن بن ركام قال حدثنا أحمد

 

===============

(577)

بن محمد النوفلي قال حدثني أحمد بن هلال عن عثمان بن عيسى الكلابي عن خالد بن نجيح عن حمزة بن حمران عن أبيه عن سعيد بن جبير قال سمعت سيد العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ع يقول في القائم منا سنن من الأنبياء ع سنة من نوح و سنة من إبراهيم و سنة من موسى و سنة من عيسى و سنة من أيوب و سنة من محمد ص و أما من نوح ع فطول العمر و أما من إبراهيم فخفاء الولادة و اعتزال الناس و أما من موسى فالخوف و الغيبة و أما من عيسى فاختلاف الناس فيه و أما من أيوب ع فالفرج بعد البلوى و أما من محمد ص فالخروج بالسيف فمتى صح التعمير لمن تقدم عصرنا و صح الخبر بأن السنة بذلك جارية في القائم ع الثاني عشر من الأئمة ع لم يجز إلا أن يعتقد أنه لو بقي في غيبته ما بقي لم يكن القائم غيره و أنه لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم حتى يخرج فيملأها قسطا و عدلا كما ملئت جورا و ظلما كما روي عن النبي ص و عن الأئمة ع بعده. و لا يحصل لنا الإسلام إلا بالتسليم لهم فيما يرد و يصح عنهم و لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم. و ما في الأزمنة المتقدمة من أهل الدين و الزهد و الورع إلا مغيبين لأشخاصهم مستترين لأمرهم يظهرون عند الإمكان و الأمن و يغيبون عند العجز و الخوف و هذا سبيل الدنيا من ابتدائها إلى وقتنا هذا فكيف صار أمر القائم ع في غيبته من دون جميع الأمور منكرا إلا لما في نفوس الجاحدين من الكفر و الضلال و عداوة الدين و أهله و بغض النبي و الأئمة بعده ع. حدثنا أحمد بن الحسن القطان قال حدثنا الحسن بن علي السكري قال حدثنا محمد بن زكريا قال فقد بلغني أن ملكا من ملوك الهند كان كثير الجند واسع المملكة

 

===============

(578)

مهيبا في أنفس الناس مظفرا على الأعداء و كان مع ذلك عظيم النهمة في شهوات الدنيا و لذاتها و ملاهيها مؤثرا لهواه مطيعا له و كان أحب الناس إليه و أنصحهم له في نفسه من زين له حاله و حسن رأيه و أبغض الناس إليه و أغشهم له في نفسه من أمره بغيرها و ترك أمره فيها و كان قد أصاب الملك فيها في حداثة سنه و عنفوان شبابه و كان له رأي أصيل و لسان بليغ و معرفة بتدبير الناس و ضبطهم فعرف الناس ذلك منه فانقادوا له و خضع له كل صعب و ذلول و اجتمع له سكر الشباب و سكر السلطان و الشهوة و العجب ثم قوى ذلك ما أصاب من الظفر على من ناصبه و القهر لأهل مملكته و انقياد الناس له فاستطال على الناس و احتقرهم ثم ازداد عجبا برأيه و نفسه لما مدحه الناس و زينوا أمره عنده فكان لا همة له إلا الدنيا و كانت الدنيا له مؤاتية لا يريد منها شيئا إلا ناله غير أنه كان مئناثا لا يولد له ذكر و قد كان الدين فشا في أرضه قبل ملكه و كثر أهله فزين له الشيطان عداوة الدين و أهله و أضر بأهل الدين فأقصاهم مخافة على ملكه و قرب أهل الأوثان و صنع لهم أصناما من ذهب و فضة و فضلهم و شرفهم و سجد لأصنامهم. فلما رأى الناس ذلك منه سارعوا إلى عبادة الأوثان و الاستخفاف بأهل الدين ثم إن الملك سأل يوما عن رجل من أهل بلاده كانت له منه منزلة حسنة و مكانة رفيعة و كان أراد ليستعين به على بعض أموره و يحبه و يكرمه فقيل له أيها الملك إنه قد خلع الدنيا و خلا منها و لحق بالنساك فثقل ذلك على الملك و شق عليه ثم إنه أرسل إليه فأتي به فلما نظر إليه في زي النساك و تخشعهم زبره و شتمه

 

===============

(579)

و قال له بينا أنت من عبيدي و عيون أهل مملكتي و وجههم و أشرافهم إذ فضحت نفسك و ضيعت أهلك و مالك و اتبعت أهل البطالة و الخسارة حتى صرت ضحكة و مثلا و قد كنت أعددتك لمهم أموري و الاستعانة بك على ما ينوبني فقال له أيها الملك إنه إن لم يكن لي عليك حق فلعقلك عليك حق فاستمع قولي بغير غضب ثم أمر بما بدا لك بعد الفهم و التثبيت فأن الغضب عدو العقل و لذلك يحول بين صاحبه و بين الفهم قال له الملك قل ما بدا لك. قال الناسك فإني أسألك أيها الملك أ في ذنبي على نفسي عتبت علي أم في ذنب مني إليك سالف. قال الملك إن ذنبك إلى نفسك أعظم الذنوب عندي و ليس كلما أراد رجل من رعيتي أن يهلك نفسه أخلي بينه و بين ذلك و لكني أعد إهلاكه نفسه كإهلاكه لغيره ممن أنا وليه و الحاكم عليه و له فأنا أحكم عليك لنفسك و آخذ لها منك إذ ضيعت أنت ذلك فقال له الناسك أراك أيها الملك لا تأخذني إلا بحجة و لا نفاذ لحجة إلا عند قاض و ليس عليك من الناس قاض لكن عندك قضاة و أنت لأحكامهم منفذ و أنا ببعضهم راض و من بعضهم مشفق. قال الملك و ما أولئك القضاة قال أما الذي أرضى قضاءه فعقلك و أما الذي أنا مشفق منه فهواك قال الملك قل ما بدا لك و أصدقني خبرك و متى كان هذا رأيك و من أغواك قال أما خبري فإني كنت سمعت كلمة في حداثة سني وقعت في قلبي فصارت كالحبة المزروعة ثم لم تزل تنمي حتى صارت شجرة إلى ما ترى و ذلك أني كنت قد سمعت قائلا يقول يحسب الجاهل الأمر الذي هو لا شي‏ء شيئا و الأمر الذي هو الشي‏ء لا شي‏ء و من لم يرفض الأمر الذي هو لا شي‏ء لم ينل الأمر الذي هو الشي‏ء و من لم يبصر الأمر الذي هو الشي‏ء لم تطب نفسه برفض الأمر الذي هو لا شي‏ء و الشي‏ء هو الآخرة و اللاشي‏ء هو الدنيا فكان لهذه الكلمة عندي قرار لأني وجدت الدنيا حياتها موتا و غناها فقرا و فرحها ترحا و صحتها سقما و قوتها ضعفا و عزها ذلا و كيف لا تكون حياتها موتا و إنما يحيا فيها صاحبها ليموت

 

===============

(580)

و هو من الموت على يقين و من الحياة على قلعة و كيف لا يكون غناؤها فقرا و ليس يصيب أحد منها شيئا إلا احتاج لذلك الشي‏ء إلى شي‏ء آخر يصلحه و إلى أشياء لا بد له منها و مثل ذلك أن الرجل ربما يحتاج إلى دابة فإذا أصابها احتاج إلى علفها و قيمها و مربطها و أدواتها ثم احتاج لكل شي‏ء من ذلك إلى شي‏ء آخر يصلحه و إلى أشياء لا بد له منها فمتى تنقضي حاجة من هو كذلك و فاقته و كيف لا يكون فرحها ترحا و هي مرصدة لكل من أصاب منها قرة عين أن يرى من ذلك الأمر بعينه أضعافه من الحزن إن رأى سرورا في ولده فما ينتظر من الأحزان في موته و سقمه و جائحة إن أصابته أعظم من سروره به و إن رأى السرور في مال فما يتخوف من التلف أن يدخل عليه أعظم من سروره بالمال فإذا كان الأمر كذلك فأحق الناس بأن لا يتلبس بشي‏ء منها لمن عرف هذا منها و كيف لا يكون صحتها سقما و إنما صحتها من أخلاطها و أصح أخلاطها و أقربها من الحياة الدم و أظهر ما يكون الإنسان دما أخلق ما يكون صاحبه بموت الفجأة و الذبحة و الطاعون و الآكلة و البرسام و كيف لا يكون قوتها ضعفا و إنما تجمع القوى فيها ما يضره و يوبقه و كيف لا يكون عزها ذلا و لم ير فيها عز قط إلا أورث أهله ذلا طويلا غير أن أيام العز قصيرة و أيام الذل طويلة فأحق الناس بذم الدنيا لمن بسطت له الدنيا فأصاب حاجته منها فهو يتوقع كل يوم و ليلة و ساعة و طرفة عين أن يعدى على ماله فيجتاح و على حميمه فيختطف و على جمعه فينهب و أن يؤتى بنيانه من القواعد فيهدم و أن يدب الموت إلى حشده فيستأصل و يفجع بكل ما هو به ضنين. فأذم إليك أيها الملك الدنيا الآخذة ما تعطي و المورثة بعد ذلك التبعة السلابة

 

===============

(581)

لمن تكسو و المورثة بعد ذلك العري المواضعة لمن ترفع و المورثة بعد ذلك الجزع التاركة لمن يعشقها و المورثة بعد ذلك الشقوة المغوية لمن أطاعها و اغتر بها الغدارة بمن ائتمنها و ركن إليها هي المركب القموص و الصاحب الخئون و الطريق الزلق و المهبط المهوي هي المكرمة التي لا تكرم أحدا إلا أهانته المحبوبة التي لا تحب أحدا الملزومة التي لا تلزم أحدا يوفى لها و تغدر و يصدق لها و تكذب و ينجز لها و تخلف هي المعوجة لمن استقام بها المتلاعبة بمن استمكنت منه بينا هي تطعمه إذ حولته مأكولا و بينا هي تخدمه إذ جعلته خادما و بينا هي تضحكه إذ ضحكت منه و بينا هي تشمته إذ شمتت منه و بينا هي تبكيه إذ بكت عليه و بينا هي قد بسطت يده بالعطية إذ بسطتها بالمسألة و بينا هو فيها عزيز إذ أذلته و بينا هو فيها مكرم إذ أهانته و بينا هو فيها معظم إذ صار محقورا و بينا هو رفيع إذ وضعته و بينا هي له مطيعة إذ عصته و بينا هو فيها مسرور إذ أحزنته و بينا هو فيها شبعان إذ أجاعته و بينا هو فيها حي إذ أماتته. فأف لها من دار إذ كان هذا فعالها و هذه صفتها تضع التاج على رأسه غدوة و تعفر خده بالتراب عشية و تحلي الأيدي بأسورة الذهب عشية و تجعلها في الأغلال غدوة و تقعد الرجل على السرير غدوة و ترمي به في السجن عشية تفرش له الديباج عشية و تفرش له التراب غدوة و تجمع له الملاهي و المعازف غدوة و تجمع عليه النوائح و النوادب عشية تحبب إلى أهله قربه عشية و تحبب إليهم بعده غدوة تطيب ريحه غدوة و تنتن ريحه عشية فهو متوقع لسطواتها غير ناج من فتنتها و بلائها تمتع نفسه من أحاديثها و عينه من أعاجيبها و يده مملوءة من جمعها ثم تصبح الكف صفرا و العين هامدة ذهب ما ذهب و هوى ما هوى و باد ما باد

 

===============

(582)

و هلك ما هلك تجد في كل من كل خلفا و ترضى بكل من كل بدلا تسكن دار كل قرن قرنا و تطعم سؤر كل قوم قوما تقعد الأراذل مكان الأفاضل و العجزة مكان الحزمة تنقل أقواما من الجدب إلى الخصب و من الرجلة إلى المركب و من البؤس إلى النعمة و من الشدة إلى الرخاء و من الشقاء إلى الخفض و الدعة حتى إذا غمستهم في ذلك انقلبت بهم فسلبتهم الخصب و نزعت منهم القوة فعادوا إلى أبأس البؤس و أفقر الفقر و أجدب الجدب. فأما قولك أيها الملك في إضاعة الأهل و تركهم فإني لم أضيعهم و لم أتركهم بل وصلتهم و انقطعت إليهم و لكني كنت و أنا أنظر بعين مسحورة لا أعرف بها الأهل من الغرباء و لا الأعداء من الأولياء فلما انجلى عني السحر استبدلت بالعين المسحورة عينا صحيحة و استبنت الأعداء من الأولياء و الأقرباء من الغرباء فإذا الذين كنت أعدهم أهلين و أصدقاء إخوانا و خلطاء إنما هم سباع ضارية لا همة لهم إلا أن تأكلني و تأكل بي غير أن اختلاف منازلهم في ذلك على قدر القوة فمنهم كالأسد في شدة السورة و منهم كالذئب في الغارة و النهبة و منهم كالكلب في الهرير و البصبصة و منهم كالثعلب في الحيلة و السرقة فالطرق واحدة و القلوب مختلفة. فلو أنك أيها الملك في عظيم ما أنت فيه من ملكك و كثرة من تبعك من أهلك و جنودك و حاشيتك و أهل طاعتك نظرت في أمرك عرفت أنك فريد وحيد ليس معك أحد من جميع أهل الأرض و ذلك أنك قد عرفت أن عامة الأمم عدو لك و أن هذه الأمة التي أوتيت الملك عليها كثيرة الحسد من أهل العداوة و الغش لك الذين هم أشد عداوة لك من السباع الضارية و أشد حنقا عليك من كل الأمم

 

===============

(583)

الغريبة و إذا صرت إلى أهل طاعتك و معونتك و قرابتك وجدت لهم قوما يعملون عملا بأجر معلوم يحرصون مع ذلك أن ينقصوك من العمل فيزدادوك من الأجر و إذا صرت إلى أهل خاصتك و قرابتك صرت إلى قوم جعلت كدك و كدحك و مهنأك و كسبك لهم فأنت تؤدي إليهم كل يوم الضريبة و ليس كلهم و إن وزعت بينهم جميع كدك عنك براض فإن أنت حبست عنهم ذلك فليس منهم البتة راض أ فلا ترى أنك أيها الملك وحيد لا أهل لك و لا مال. فأما أنا فإن لي أهلا و مالا و إخوانا و أخوات و أولياء لا يأكلوني و لا يأكلون بي يحبوني و أحبهم فلا يفقد الحب بيننا ينصحوني و أنصحهم فلا غش بيننا و يصدقوني و أصدقهم فلا تكاذب بيننا و يوالوني و أواليهم فلا عداوة بيننا ينصروني و أنصرهم فلا تخاذل بيننا يطلبون الخير الذي إن طلبته معهم لم يخافوا أن أغلبهم عليه أو أستأثر به دونهم فلا فساد بيننا و لا تحاسد يعملون لي و أعمل لهم بأجور لا تنفد و لا يزال العمل قائما بيننا هم هداتي إن ظللت و نور بصري إن عميت و حصني إن أتيت و مجني إن رميت و أعواني إذا فزعت و قد تنزهنا عن البيوت و المخاني فلا نريدها و تركنا الذخائر و المكاسب لأهل الدنيا فلا تكاثر بيننا و لا تباغي و لا تباغض و لا تفاسد و لا تحاسد و لا تقاطع فهؤلاء أهلي أيها الملك و إخواني و أقربائي و أحبائي أحببتهم و انقطعت إليهم و تركت الذين كنت أنظر إليهم بالعين المسحورة لما عرفتهم و التمست السلامة منهم. فهذه الدنيا أيها الملك التي أخبرتك أنها لا شي‏ء فهذا نسبها و حسبها و مصيرها إلى ما قد سمعت و قد رفضتها لما عرفتها و أبصرت الأمر الذي هو الشي‏ء فإن كنت تحب أيها الملك أن أصف لك ما أعرف عن أمر الآخرة التي هي الشي‏ء فاستعد إلى السماع تسمع غير ما كنت تسمع به الأشياء.

 

===============

(584)

فلم يزد الملك عليه إلا أن قال له كذبت لم تصب شيئا و لم تظفر إلا بالشقاء و العناء فاخرج و لا تقيمن في شي‏ء من مملكتي فإنك فاسد مفسد. و ولد للملك في تلك الأيام بعد إياسه من الذكور غلام لم ير الناس مولودا مثله قط حسنا و جمالا و ضياء فبلغ السرور من الملك مبلغا عظيما كاد أن يشرف منه على هلاك نفسه من الفرح و زعم أن الأوثان التي كان يعبدها هي التي وهبت له الغلام فقسم عامة ما كان في بيوت أمواله على بيوت أوثانه و أمر الناس بالأكل و الشرب سنة و سمى الغلام يوذاسف و جمع العلماء و المنجمين لتقويم ميلاده فرفع المنجمون إليه أنهم يجدون الغلام يبلغ من الشرف و المنزلة ما لا يبلغه أحد قط في أرض الهند و اتفقوا على ذلك جميعا غير أن رجلا قال ما أظن الشرف و المنزلة و الفضل الذي وجدناه يبلغه هذا الغلام إلا شرف الآخرة و لا أحسبه إلا أن يكون إماما في الدين و النسك و ذا فضيلة في درجات الآخرة لأني أرى الشرف الذي تبلغه ليس يشبه شيئا من شرف الدنيا و هو شبيه بشرف الآخرة فوقع ذلك القول من الملك موقعا كاد أن ينغصه سروره بالغلام و كان المنجم الذي أخبره بذلك من أوثق المنجمين في نفسه و أعلمهم و أصدقهم عنده و أمر الملك للغلام بمدينة فأخلاها و تخير له من الظئورة و الخدم كل ثقة و تقدم إليهم أن لا يذكر فيما بينهم موت و لا آخرة و لا حزن و لا مرض و لا فناء حتى تعتاد ذلك ألسنتهم و تنساه قلوبهم و أمرهم إذا بلغ الغلام أن لا ينطقوا عنده بذكر شي‏ء مما يتخوفونه عليه خشية أن يقع في قلبه منه شي‏ء فيكون ذلك داعية إلى اهتمامه بالدين و النسك و أن يتحفظوا و يتحرزوا من

 

===============

(585)

ذلك و يتفقد بعضهم من بعض. و ازداد الملك عند ذلك حنقا على النساك مخافة على ابنه. و كان لذلك الملك وزير قد كفل أمره و حمل عنه مئونة سلطانه و كان لا يخونه و لا يكذبه و لا يكتمه و لا يؤثر عليه و لا يتوانى في شي‏ء من عمله و لا يضيعه و كان الوزير مع ذلك رجلا لطيفا طلقا معروفا بالخير يحبه الناس و يرضون به إلا أن أحباء الملك و أقرباءه كانوا يحسدونه و يبغون عليه و يستقلون بمكانه. ثم إن الملك خرج ذات يوم إلى الصيد و معه ذلك الوزير فأتى به في شعب من الشعاب على رجل قد أصابته زمانة شديدة في رجليه ملقى في أصل شجرة لا يستطيع براحا فسأله الوزير عن شأنه فأخبره أن السباع أصابته فرق له الوزير فقال له الرجل ضمني إليك و احملني إلى منزلك فإنك تجد عندي منفعة فقال الوزير إني لفاعل و إن لم أجد عندك منفعة و لكن يا هذا ما المنفعة التي تعدنيها هل تعمل عملا أو تحسن شيئا فقال الرجل نعم أنا أرتق الكلام فقال و كيف ترتق الكلام قال إذا كان فيه فتق أرتقه حتى لا يجي‏ء من قبله فساد فلم ير الوزير قوله شيئا و أمر بحمله إلى منزله و أمر له بما يصلحه حتى إذ كان بعد ذلك احتال أحباء الملك للوزير و ضربوا له الأمور ظهرا و بطنا فأجمع رأيهم على أن دسوا رجلا منهم إلى الملك فقال له أيها الملك إن هذا الوزير يطمع في ملكك أن يغلب عليه من بعدك فهو يصانع الناس على ذلك و يعمل عليه دائبا فإن أردت أن تعلم صدق ذلك فأخبره أنه قد بدا لك أن ترفض الملك و تلحق بالنساك فإنك سترى من فرحه بذلك ما تعرف به أمره و كان القوم قد عرفوا من الوزير رقة عند ذكر فناء الدنيا و الموت و لينا للنساك و حبا لهم فعملوا فيه من الوجه الذي ظنوا أنهم يظفرون بحاجتهم

 

===============

(586)

منه فقال الملك لئن أنا هجمت منه على هذا لم أسأل عما سواه فلما أن دخل عليه الوزير قال له الملك إنك قد عرفت حرصي على الدنيا و طلب الملك و إني قد ذكرت ما مضى من ذلك فلم أجد معي منه طائلا و قد عرفت أن الذي بقي منه كالذي مضى فإنه يوشك أن ينقضي ذلك كله بأجمعه فلا يصير في يدي منه شي‏ء و أنا أريد أن أعمل في حال الآخرة عملا قويا على قدر ما كان من عملي في الدنيا و قد بدا لي أن ألحق بالنساك و أخلي هذا العمل لأهله فما رأيك قال فرق الوزير لذلك رقة شديدة حتى عرف الملك ذلك منه ثم قال أيها الملك إن الباقي و إن كان عزيزا لأهل أن يطلب و إن الفاني و إن استمكنت منه لأهل أن يرفض و نعم الرأي رأيت و إني لأرجو أن يجمع الله لك مع الدنيا شرف الآخرة قال فكبر ذلك على الملك و وقع منه كل موقع و لم يبدله شيئا غير أن الوزير عرف الثقل في وجهه فانصرف إلى أهله كئيبا حزينا لا يدري من أين أتي و لا من دهاه و لا يدري ما دواء الملك فيما استنكر عليه فسهر لذلك عامة الليل ثم ذكر الرجل الذي زعم أنه يرتق الكلام فأرسل إليه فأتي به فقال له إنك كنت ذكرت لي ذكرا من رتق الكلام فقال الرجل أجل فهل احتجت إلى شي‏ء من ذلك فقال الوزير نعم أخبرك أني صحبت هذا الملك قبل ملكه و منذ صار ملكا فلم أستنكره فيما بيني و بينه قط لما يعرفه من نصيحتي و شفقتي و إيثاري إياه على نفسي و على جميع الناس حتى إذا كان هذا اليوم استنكرته استنكارا شديدا لا أظن لي خيرا عنده بعده فقال له الراتق هل لذلك سبب أو علة قال الوزير نعم دعاني أمس و قال لي كذا و كذا فقلت له كذا و كذا فقال من هاهنا جاء الفتق و أنا أرتقه إن شاء الله اعلم أن الملك قد ظن أنك تحب أن يتخلى هو عن ملكه و تخلفه أنت فيه فإذا كان عند الصبح فاطرح عنك ثيابك و حليتك و البس أوضع ما تجده من ذي النساك و أشهره ثم احلق رأسك و امض على وجهك إلى باب الملك فإن الملك سيدعو بك و يسألك عن الذي صنعت فقل له هذا الذي دعوتني إليه و لا ينبغي لأحد أن يشير

 

===============

(587)

على صاحبه بشي‏ء إلا واساه فيه و صبر عليه و ما أظن الذي دعوتني إليه إلا خيرا مما نحن فيه فقم إذا بدا لك ففعل الوزير ذلك فتخلى عن نفس الملك ما كان فيها عليه. ثم أمر الملك بنفي النساك من جميع بلاده و توعدهم بالقتل فجدوا في الهرب و الاستخفاء ثم إن الملك خرج ذات يوم متصيدا فوقع بصره على شخصين من بعيد فأرسل إليهما فأتي بهما فإذا هما ناسكان فقال لهما ما بالكما لن تخرجا من بلادي قالا قد أتتنا رسلك و نحن على سبيل الخروج قال و لم خرجتما راجلين قالا لأنا قوم ضعفاء ليس لنا دواب و لا زاد و لا نستطيع الخروج إلا التقصير قال الملك إن من خاف الموت أسرع بغير دابة و لا زاد فقالا له إنا لا نخاف الموت بل لا ننظر قرة عين في شي‏ء من الأشياء إلا فيه. قال الملك و كيف لا تخافان الموت و قد زعمتما أن رسلنا لما أتتكم و أنتم على سبيل الخروج أ فليس هذا هو الهرب من الموت قالا إن الهرب من الموت ليس من الفرق فلا تظن أنا فرقناك و لكنا هربنا من أن نعينك على أنفسنا فأسف الملك و أمر بهما أن يحرقا بالنار و أذن في أهل مملكته بأخذ النساك و تحريقهم بالنار فتجرد رؤساء عبدة الأوثان في طلبهم و أخذوا منهم بشرا كثيرا و أحرقوهم بالنار فمن ثم صار التحريق سنة باقية في أرض الهند و بقي في جميع تلك الأرض قوم قليل من النساك كرهوا الخروج من البلاد و اختاروا الغيبة و الاستخفاء ليكونوا دعاة و هداة لمن وصلوا إلى كلامهم. فنبت ابن الملك أحسن نبات في جسمه و عقله و علمه و رأيه و لكنه لم يؤخذ بشي‏ء من الآداب إلا بما يحتاج إليه الملوك مما ليس فيه ذكر موت و لا زوال و لا فناء و أوتي الغلام من العلم و الحفظ شيئا كان عند الناس من العجائب و كان أبوه لا يدري أ يفرح بما أوتي ابنه من ذلك أو يحزن له لما يتخوف عليه أن يدعوه ذلك إلى ما قيل فيه.

 

===============

(588)

فلما فطن الغلام بحصرهم إياه في المدينة و منعهم إياه من الخروج و النظر و الاستماع و تحفظهم عليه ارتاب لذلك و سكت عنه و قال في نفسه هؤلاء أعلم بما يصلحني مني حتى إذا ازداد بالسن و التجربة علما قال ما أرى لهؤلاء علي فضلا و ما أنا بحقيق أن أقلدهم أمري فأراد أن يكلم أباه إذا دخل عليه و يسأله عن سبب حصره إياه ثم قال ما هذا الأمر إلا من قبله و ما كان ليطلعني عليه و لكني حقيق أن ألتمس علم ذلك من حيث أرجو إدراكه و كان في خدمه رجل كان ألطفهم به و أرأفهم به و كان الغلام إليه مستأنسا فطمع الغلام في إصابة الخبر من قبل ذلك الرجل فازداد له ملاطفة و به استيناسا ثم إن الغلام واضعه الكلام في بعض الليل باللين و أخبره أنه بمنزلة والده و أولى الناس به ثم أخذه بالترغيب و الترهيب و قال له إني لأظن هذا الملك صائر لي بعد والدي و أنت فيه صائر أحد رجلين إما أعظم الناس منه منزلة و إما أسوأ الناس حالا قال له الحاضن و بأي شي‏ء أتخوف في ملكك سوء الحال قال بأن تكتمني اليوم أمرا أفهمه غدا من غيرك فأنتقم منك بأشد ما أقدر عليك فعرف الحاضن منه الصدق و طمع منه في الوفاء فأفشى إليه خبره و الذي قال المنجمون لأبيه و الذي حذر أبوه من ذلك فشكر له الغلام ذلك و أطبق عليه حتى إذا دخل عليه أبوه. قال يا أبة إني و إن كنت صبيا فقد رأيت في نفسي و اختلاف حالي أذكر من ذلك ما أذكر و أعرف بما لا أذكر منه ما أعرف و أنا أعرف أني لم أكن على هذا المثال و أنك لم تكن على هذه الحال و لا أنت كائن عليها إلى الأبد و سيغيرك الدهر عن حالك هذه فلئن كنت أردت أن تخفي عني أمر الزوال فما خفي علي ذلك و لئن كنت حبستني عن الخروج و حلت بيني و بين الناس لكي لا تتوق نفسي إلى غير ما أنا فيه لقد تركتني بحصرك إياي و إن نفسي لقلقة مما تحول بيني و بينه حتى ما لي هم

 

===============

(589)

غيره و لا أردت سواه حتى لا يطمئن قلبي إلى شي‏ء مما أنا فيه و لا أنتفع به و لا آلفه فخل عني و أعلمني بما تكره من ذلك و تحذره حتى أجتنبه و أوثر موافقتك و رضاك على ما سواهما. فلما سمع الملك ذلك من ابنه علم أنه قد علم ما الذي يكرهه و أنه من حبسه و حصره لا يزيده إلا إغراء و حرصا على ما يحال بينه و بينه فقال يا بني ما أردت بحصري إياك إلا أن أنحي عنك الأذى فلا ترى إلا ما يوافقك و لا تسمع إلا ما يسرك فأما إذا كان هواك في غير ذلك فإن آثر الأشياء عندي ما رضيت و هويت. ثم أمر الملك أصحابه أن يركبوه في أحسن زينة و أن ينحوا عن طريقه كل منظر قبيح و أن يعدوا له المعازف و الملاهي ففعلوا ذلك فجعل بعد ركبته تلك يكثر الركوب فمر ذات يوم على طريق قد غفلوا عنه فأتى على رجلين من السؤال أحدهما قد تورم و ذهب لحمه و اصفر جلده و ذهب ماء وجهه و سمج منظره و الآخر أعمى يقوده قائد فلما رأى ذلك اقشعر منهما و سأل عنهما فقيل له إن هذا المورم من سقم باطن و هذا الأعمى من زمانة فقال ابن الملك و إن هذا البلاء ليصيب غير واحد قالوا نعم فقال هل يأمن أحد من نفسه أن يصيبه مثل هذا قالوا لا و انصرف يومئذ مهموما ثقيلا محزونا باكيا مستخفا بما هو فيه من ملكه و ملك أبيه فلبث بذلك أياما. ثم ركب ركبة فأتى في مسيره على شيخ كبير قد انحنى من الكبر و تبدل خلقه و ابيض شعره و اسود لونه و تقلص جلده و قصر خطوه فعجب منه و سأل عنه فقالوا هذا الهرم فقال و في كم تبلغ الرجل ما أرى قالوا في مائة سنة أو نحو ذلك و قال فما وراء ذلك قالوا الموت قال فما يخلي بين الرجل و بين ما يريد من المدة قالوا لا و ليصيرن إلى هذا في قليل من الأيام فقال الشهر

 

===============

(590)

ثلاثون يوما و السنة اثنا عشر شهرا و انقضاء العمر مائة سنة فما أسرع اليوم في الشهر و ما أسرع الشهر في السنة و ما أسرع السنة في العمر فانصرف الغلام و هذا كلامه يبدؤه و يعيده مكررا له. ثم سهر ليلته كلها و كان له قلب حي ذكي و عقل لا يستطيع معه نسيانا و لا غفلة فعلاه الحزن و الاهتمام فانصرف نفسه عن الدنيا و شهواتها و كان في ذلك يداري أباه و يتلطف عنده و هو مع ذلك قد أصغى بسمعه إلى كل متكلم بكلمة طمع أن يسمع شيئا يدله على غير ما هو فيه و خلا بحاضنه الذي كان أفضى إليه بسره فقال له هل تعرف من الناس أحدا شأنه غير شأننا هذا قال نعم قد كان قوم يقال لهم النساك رفضوا الدنيا و طلبوا الآخرة و لهم كلام و علم لا يدرى ما هو غير أن الناس عادوهم و أبغضوهم و حرقوهم و نفاهم الملك عن هذه الأرض فلا يعلم اليوم ببلادنا منهم أحد فإنهم قد غيبوا أشخاصهم ينتظرون الفرج و هذه سنة في أولياء الله قديمة يتعاطونها في دول الباطل فاغتص لذلك الخبر فؤاده و طال به اهتمامه و صار كالرجل الملتمس ضالته التي لا بد له منها و ذاع خبره في آفاق الأرض و شهر بتفكره و جماله و كماله و فهمه و عقله و زهادته في الدنيا و هوانها عليه فبلغ ذلك رجلا من النساك يقال له بلوهر بأرض يقال لها سرنديب كان رجلا ناسكا حكيما فركب البحر حتى أتى أرض سولابط ثم عمد إلى باب ابن الملك فلزمه و طرح عنه زي النساك و لبس زي التجار و تردد إلى باب ابن الملك حتى عرف الأهل و الأحباء و الداخلين إليه فلما استبان له لطف الحاضن بابن الملك و حسن منزلته منه أطاف به بلوهر حتى أصاب منه خلوة فقال له إني رجل من تجار سرنديب قدمت منذ أيام و معي سلعة عظيمة نفيسة الثمن عظيمة القدر فأردت الثقة لنفسي فعليك وقع اختياري و سلعتي خير من الكبريت الأحمر و هي تبصر العميان و تسمع الصم و تداوي الأسقام و تقوي من الضعف و تعصم من الجنون و تنصر على العدو و لم أر بهذا أحدا هو أحق بها من هذا الفتى فإن رأيت أن تذكر له ذلك ذكرته فإن كان له فيها حاجة أدخلتني عليه فإنه لم يخف عنه فضل سلعتي لو قد نظر

 

===============

(591)

إليها قال الحاضن للحكيم إنك لتقول شيئا ما سمعنا به من أحد قبلك و لا أرى بك بأسا و ما مثلي يذكر ما لا يدري ما هو فأعرض علي سلعتك أنظر إليها فإن رأيت شيئا ينبغي لي أن أذكره ذكرته قال له بلوهر إني رجل طبيب و إني لأرى في بصرك ضعفا فأخاف إن نظرت إلى سلعتي أن يلتمع بصرك و لكن ابن الملك صحيح البصر حدث السن و لست أخاف عليه أن ينظر إلى سلعتي فإن رأى ما يعجبه كانت له مبذولة على ما يحب و إن كان غير ذلك لم تدخل عليه مئونة و لا منقصة و هذا أمر عظيم لا يسعك أن تحرمه إياه أو تطويه دونه فانطلق الحاضن إلى ابن الملك فأخبره خبر الرجل فحس قلب ابن الملك بأنه قد وجد حاجته فقال عجل إدخال الرجل علي ليلا و ليكن ذلك في سر و كتمان فإن مثل هذا لا يتهاون به. فأمر الحاضن بلوهر بالتهيؤ للدخول عليه فحمل معه سفطا فيه كتب له فقال الحاضن ما هذا السفط قال بلوهر في هذا السفط سلعتي فإذا شئت فأدخلني عليه فانطلق به حتى أدخله عليه فلما دخل عليه بلوهر سلم عليه و حياه و أحسن ابن الملك إجابته و انصرف الحاضن و قعد الحكيم عند الملك فأول ما قال له بلوهر رأيتك يا ابن الملك زدتني في التحية على ما تصنع بغلمانك و أشراف أهل بلادك قال ابن الملك ذلك لعظيم ما رجوت عندك قال بلوهر لئن فعلت ذلك بي فقد كان رجلا من الملوك في بعض الآفاق يعرف بالخير و يرجى فبينا هو يسير يوما في موكبه إذ عرض له في مسيره رجلان ماشيان لباسهما الخلقان و عليهما أثر البؤس و الضر فلما نظر إليهما الملك لم يتمالك أن وقع على الأرض فحياهما و صافحهما فلما رأى ذلك وزراؤه اشتد جزعهم مما صنع الملك فأتوا أخا له و كان جريا عليه فقالوا له إن الملك أزرى بنفسه و فضح أهل مملكته و خر عن دابته لإنسانين دنيين فعاتبه على ذلك كي لا يعود و لمه على ما صنع ففعل ذلك أخ الملك فأجابه الملك بجواب لا يدري ما حاله فيه أ ساخط عليه الملك أم راض عنه فانصرف إلى منزله حتى إذا كان بعد أيام أمر الملك مناديا و كان يسمى منادي الموت فنادى في فناء داره و كانت تلك سنتهم فيمن أرادوا قتله فقامت النوائح و النوادب في دار أخ الملك و لبس ثياب الموتى و انتهى

 

===============

(592)

إلى باب الملك و هو يبكي بكاء شديدا و نتف شعره فلما بلغ ذلك الملك دعا به فلما أذن له الملك دخل عليه و وقع على الأرض و نادى بالويل و الثبور و رفع يده بالتضرع فقال له الملك اقترب أيها السفيه أنت تجزع من مناد نادى على بابك بأمر مخلوق و ليس بأمر خالق و أنا أخوك و قد تعلم أنه ليس لك إلي ذنب أقتلك عليه ثم أنتم تلومونني على وقوعي إلى الأرض حين نظرت إلى منادي ربي إلي و أنا أعرف منكم بذنوبي فاذهب فإني قد علمت أنه إنما استفزك وزرائي و سيعلمون خطأهم. ثم أمر الملك بأربعة توابيت فصنعت له من خشب فطلى تابوتين منها بالذهب و تابوتين بالقار فلما فرغ منها ملأ تابوتي القار ذهبا و ياقوتا و زبرجدا و ملأ تابوتي الذهب جيفا و دما و عذرة و شعرا ثم جمع الوزراء و الأشراف الذين ظن أنهم أنكروا صنيعه بالرجلين الضعيفين الناسكين فعرض عليهم التوابيت الأربعة و أمرهم بتقويمها فقالوا أما في ظاهر الأمر و ما رأينا و مبلغ علمنا فإن تابوتي الذهب لا ثمن لهما لفضلهما و تابوتي القار لا ثمن لهما لرذالتهما فقال الملك أجل هذا لعلمكم بالأشياء و مبلغ رأيكم فيها ثم أمر بتابوتي القار فنزعت عنهما صفائحهما فأضاء البيت بما فيهما من الجواهر فقال هذان مثل الرجلين الذين ازدريتم لباسهما و ظاهرهما و هما مملوءان علما و حكمة و صدقا و برا و سائر مناقب الخير الذي هو أفضل من الياقوت و اللؤلؤ و الجوهر و الذهب ثم أمر بتابوتي الذهب فنزع عنهما أثوابهما فاقشعر القوم من سوء منظرهما و تأذوا بريحهما و نتنهما فقال الملك و هذان مثل القوم المتزينين بظاهر الكسوة و اللباس و أجوافهما مملوءة جهالة و عمى و كذب و جورا و سائر أنواع الشر التي هي أفظع و أشنع و أقذر من الجيف. قال القوم للملك قد فقهنا و اتعظنا أيها الملك. ثم قال بلوهر هذا مثلك يا ابن الملك فيما تلقيتني به من التحية و البشر فانتصب يوذاسف ابن الملك و كان متكئا ثم قال زدني مثلا قال الحكيم

 

===============

(593)

إن الزارع خرج ببذره الطيب ليبذره فلما ملأ كفيه و نثره وقع بعضه على حافة الطريق فلم يلبث أن التقطه الطير و وقع بعضه على صفاة قد أصابها ندى و طين فمكث حتى اهتز فلما صارت عروقه إلى يبس الصفاة مات و يبس و وقع بعضه بأرض ذات شوك فنبت حتى سنبل و كاد أن يثمر فغمه الشوك فأبطله و أما ما كان منه وقع في الأرض الطيبة و إن كان قليلا فإنه سلم و طاب و زكى فالزارع حامل الحكمة و أما البذر ففنون الكلام و أما ما وقع منه على حافة الطريق فالتقته الطير فما لا يجاوز السمع منه حتى يمر صفحا و أما ما وقع على الصخرة في الندى فيبس حين بلغت عروقه الصفاة فما استحلاه صاحبه حتى سمعه بفراغ قلبه و عرفه بفهمه و لم يفقه بحصافة و لا نية و أما ما نبت منه و كاد أن يثمر فغمه الشوك فأهلكه فما وعاه صاحبه حتى إذا كان عند العمل به حفته الشهوات فأهلكته و أما ما زكى و طاب و سلم منه و انتفع به فما رآه البصر و وعاه الحفظ و أنفذه العزم بقمع الشهوات و تطهير القلوب من دنسها. قال ابن الملك إني أرجو أن يكون ما تبذره أيها الحكيم ما يزكو و يسلم و يطيب فاضرب لي مثل الدنيا و غرور أهلها بها. قال بلوهر بلغنا أن رجلا حمل عليه فيل مغتلم فانطلق موليا هاربا و اتبعه الفيل حتى غشيه فاضطره إلى بئر فتدلى فيها و تعلق بغصنين نابتين على شفير البئر و وقعت قدماه على رءوس حيات فلما تبين له أنه متعلق بالغصنين فإذا في أصلهما جرذان يقرضان الغصنين أحدهما أبيض و الآخر أسود فلما نظر إلى تحت قدميه فإذا رءوس أربع أفاع قد طلعن من جحرهن فلما نظر إلى قعر البئر إذا بتنين فاغر فاه نحوه يريد التقامه فلما رفع رأسه إلى أعلى الغصنين إذا عليهما شي‏ء من عسل النحل فيطعم من ذلك العسل فألهاه ما طعم منه و ما نال من لذة العسل و حلاوته عن التفكر في

 

===============

(594)

أمر الأفاعي اللواتي لا يدري متى يبادرنه و ألهاه عن التنين الذي لا يدري كيف مصيره بعد وقوعه في لهواته. أما البئر فالدنيا مملوءة آفات و بلايا و شرورا و أما الغصنان فالعمر و أما الجرذان فالليل و النهار يسرعان في الأجل و أما الأفاعي الأربعة فالأخلاط الأربعة التي هي السموم القاتلة من المرة و البلغم و الريح و الدم التي لا يدري صاحبها متى تهيج به و أما التنين الفاغر فاه ليلتقمه فالموت الراصد الطالب و أما العسل الذي اغتر به المغرور فما ينال الناس من لذة الدنيا و شهواتها و نعيمها و دعتها من لذة المطعم و المشرب و الشم و اللمس و السمع و البصر. قال ابن الملك إن هذا المثل عجيب و إن هذا التشبيه حق فزدني مثلا للدنيا و صاحبها المغرور بها المتهاون بما ينفعه فيها. قال بلوهر زعموا أن رجلا كان له ثلاثة قرناء و كان قد آثر أحدهم على الناس جميعا و يركب الأهوال و الأخطار بسببه و يغرر بنفسه له و يشغل ليله و نهاره في حاجته و كان القرين الثاني دون الأول منزلة و هو على ذلك حبيب إليه أمير عنده يكرمه و يلاطفه و يخدمه و يطيعه و يبذل له و لا يغفل عنه و كان القرين الثالث مجفوا محقورا مستثقلا ليس له من وده و ماله إلا أقله حتى إذا نزل بالرجل الأمر الذي يحتاج فيه إلى قرنائه الثلاثة فأتاه زبانية الملك ليذهبوا به ففزع إلى قرينه الأول فقال له قد عرفت إيثاري إياك و بذل نفسي لك و هذا اليوم يوم حاجتي إليك فما ذا عندك قال ما أنا لك بصاحب و إن لي أصحابا يشغلوني عنك هم اليوم أولى بي منك و لكن لعلي أزودك ثوبين لتنتفع بهما. ثم فزع إلى قرينه الثاني ذي المحبة و اللطف فقال له قد عرفت كرامتي إياك و لطفي بك و حرصي على مسرتك و هذا يوم حاجتي إليك فما ذا عندك فقال إن أمر نفسي يشغلني عنك و عن أمرك فاعمد لشأنك و اعلم أنه قد انقطع الذي بيني و بينك و أن طريقي غير طريقك إلا أني لعلي أخطو معك خطوات يسيرة لا تنتفع بها ثم أنصرف إلى ما هو أهم إلي منك.

 

===============

(595)

ثم فزع إلى قرينه الثالث الذي كان يحقره و يعصيه و لا يلتفت إليه أيام رخائه فقال له إني منك لمستح و لكن الحاجة اضطرتني إليك فما ذا لي عندك قال لك عندي المواساة و المحافظة عليك و قلة الغفلة عنك فأبشر و قر عينا فإني صاحبك الذي لا يخذلك و لا يسلمك فلا يهمنك قلة ما أسلفتني و اصطنعت إلي فإني قد كنت أحفظ لك ذلك و أوفره عليك كله ثم لم أرض لك بعد ذلك حتى اتجرت لك به فربحت أرباحا كثيرة فلك اليوم عندي من ذلك أضعاف ما وضعت عندي منه فأبشر و إني أرجو أن يكون في ذلك رضا الملك عنك اليوم و فرجا مما أنت فيه فقال الرجل عند ذلك ما أدري على أي الأمرين أنا أشد حسرة عليه على ما فرطت في القرين الصالح أم على ما اجتهدت فيه من المحبة لقرين السوء. قال بلوهر فالقرين الأول هو المال و القرين الثاني هو الأهل و الولد و القرين الثالث هو العمل الصالح. قال ابن الملك إن هذا هو الحق المبين فزدني مثلا للدنيا و غرورها و صاحبها المغرور بها المطمئن إليها. قال بلوهر كان أهل مدينة يأتون الرجل الغريب الجاهل بأمرهم فيملكونه عليهم سنة فلا يشك أن ملكه دائم عليهم لجهالته بهم فإذا انقضت السنة أخرجوه من مدينتهم عريانا مجردا سليبا فيقع في بلاء و شقاء لم يحدث به نفسه فصار ما مضى عليه من ملكه وبالا و خزيا و مصيبة و أذى ثم إن أهل تلك المدينة أخذوا رجلا آخر فملكوه عليهم فلما رأى الرجل غربته فيهم لم يستأنس بهم و طلب رجلا من أهل أرضه خبيرا بأمرهم حتى وجده فأفضى إليه بسر القوم و أشار إليه أن ينظر إلى الأموال التي في يديه فيخرج منها ما استطاع الأول فالأول حتى يحرزه في المكان الذي يخرجونه إليه فإذا أخرجه القوم صار إلى الكفاية و السعة بما قدم و أحرز ففعل ما قال له الرجل و لم يضيع وصيته. قال بلوهر و إني لأرجو أن تكون أنت ذلك الرجل يا ابن الملك الذي لم يستأنس

 

===============

(596)

بالغرباء و لم يغتر بالسلطان و أنا الرجل الذي طلبت و لك عندي الدلالة و المعرفة و المعونة. قال ابن الملك صدقت أيها الحكيم أنا ذلك الرجل و أنت طلبتي التي كنت طلبتها فصف لي أمر الآخرة تاما فأما الدنيا فلعمري لقد صدقت و لقد رأيت منها ما يدلني على فنائها و يزهدني فيها و لم يزل أمرها حقيرا عندي. قال بلوهر إن الزهادة في الدنيا يا ابن الملك مفتاح الرغبة في الآخرة و من طلب الآخرة فأصاب بابها دخل ملكوتها و كيف لا تزهد في الدنيا يا ابن الملك و قد آتاك الله من العقل ما آتاك و قد ترى أن الدنيا كلها و إن كثرت إنما يجمعها أهلها لهذه الأجساد الفانية و الجسد لا قوام له و لا امتناع به فالحر يذيبه و البرد يجمده و السموم تتخلله و الماء يغرقه و الشمس تحرقه و الهواء يسقمه و السباع تفترسه و الطير تنقره و الحديد يقطعه و الصدام يحطمه ثم هو معجون بطينة من ألوان الأسقام و الأوجاع و الأمراض فهو مرتهن بها مترقب لها وجل منها غير طامع في السلامة منها ثم هو مقارن الآفات السبع التي لا يتخلص منها ذو جسد و هي الجوع و الظمأ و الحر و البرد و الوجع و الخوف و الموت. فأما ما سألت عنه من أمر الآخرة فإني أرجو أن تجد ما تحسبه بعيدا قريبا و ما كنت تحسبه عسيرا يسيرا و ما كنت تحسبه قليلا كثيرا. قال ابن الملك أيها الحكيم أ رأيت القوم الذين كان والدي حرقهم بالنار و نفاهم أ هم أصحابك قال بلوهر نعم قال فإنه بلغني أن الناس اجتمعوا على عداوتهم و سوء الثناء عليهم قال بلوهر نعم قد كان ذلك قال فما سبب ذلك أيها الحكيم قال بلوهر أما قولك يا ابن الملك في سوء الثناء عليهم فما عسى أن يقولوا فيمن يصدق و لا يكذب و يعلم و لا يجهل و يكف و لا يؤذي و يصلي و لا ينام و يصوم و لا يفطر و يبتلى فيصبر و يتفكر فيعتبر و يطيب نفسه عن الأموال و الأهلين و لا يخافهم الناس على أموالهم و أهليهم. قال ابن الملك فكيف اتفق الناس على عداوتهم و هم فيما بينهم مختلفون

 

===============

(597)

قال بلوهر مثلهم في ذلك مثل كلاب اجتمعوا على جيفة تنهشها و يهار بعضها بعضا مختلفة الألوان و الأجناس فبينا هي تقبل على الجيفة إذ دنا رجل منهم فترك بعضهن بعضا و أقبلن على الرجل فيهرن عليه جميعا متعاويات عليه و ليس للرجل في جيفتهن حاجة و لا أراد أن ينازعهن فيها و لكنهن عرفن غربته منهن فاستوحشن منه و استأنس بعضهن ببعض و إن كن مختلفات متعاديات فيما بينهن من قبل أن يرد الرجل عليهن قال بلوهر فمثل الجيفة متاع الدنيا و مثل صنوف الكلاب ضروب الرجال الذين يقتتلون على الدنيا و يهرقون دماءهم و ينفقون لها أموالهم و مثل الرجل الذي اجتمعت عليه الكلاب و لا حاجة له في جيفهن كمثل صاحب الدين الذي رفض الدنيا و خرج منها فليس ينازع فيها أهلها و لا يمنع ذلك الناس من أن يعادونه لغربته عندهم فإن عجبت فأعجب من الناس أنهم لا همة لهم إلا الدنيا و جمعها و التكاثر و التفاخر و التغالب عليها حتى إذا رأوا من قد تركها في أيديهم و تخلى عنها كانوا له أشد حنقا منهم للذي يشاحهم عليها فأي حجة يا ابن الملك أدحض من تعاون المختلفين على من لا حجة لهم عليه قال ابن الملك أعمد لحاجتي قال بلوهر إن الطبيب الرفيق إذ رأى الجسد قد أهلكته الأخلاط الفاسدة فأراد أن يقويه و يسمنه لم يغذه بالطعام الذي يكون منه اللحم و الدم و القوة لأنه يعلم أنه متى أدخل الطعام على الأخلاط الفاسدة أضر بالجسد و لم ينفعه و لم يقوه و لكن يبدأ بالأدوية و الحمية من الطعام فإذا أذهب من جسده الأخلاط الفاسدة أقبل عليه بما يصلحه من الطعام فحينئذ يجد طعم الطعام و يسمن و يقوى و يحمل الثقل بمشيئة الله عز و جل. و قال ابن الملك أيها الحكيم أخبرني ما ذا تصيب من الطعام و الشراب قال الحكيم زعموا أن ملكا من الملوك كان عظيم الملك كثير الجند و الأموال و أنه بدا له أن يغزو ملكا آخر ليزداد ملكا إلى ملكه و مالا إلى ماله فسار إليه بالجنود و العدد و العدة و النساء و الأولاد و الأثقال فأقبلوا نحوه فظهروا عليه و

 

===============

(598)

استباحوا عسكره فهرب و ساق امرأته و أولاده صغارا فألجأه الطلب عند المساء إلى أجمة على شاطئ النهر فدخلها مع أهله و ولده و سيب دوابه مخافة أن تدل عليه بصهيلها فباتوا في الأجمة و هم يسمعون وقع حوافر الخيل من كل جانب فأصبح الرجل لا يطيق براحا و أما النهر فلا يستطيع عبوره و أما الفضاء فلا يستطيع الخروج إليه لمكان العدو فهم في مكان ضيق قد آذاهم البرد و أهجرهم الخوف و طواهم الجوع و ليس لهم طعام و لا معهم زاد و لا إدام و أولاده صغار جياع يبكون من الضر الذي قد أصابهم فمكث بذلك يومين ثم إن أحد بنيه مات فألقوه في النهر فمكث بعد ذلك يوما آخر فقال الرجل لامرأته إنا مشرفون على الهلاك جميعا و إن بقي بعضنا و هلك بعضنا كان خيرا من أن نهلك جميعا و قد رأيت أن أعجل ذبح صبي من هؤلاء الصبيان فنجعله قوتا لنا و لأولادنا إلى أن يأتي الله عز و جل بالفرج فإن أخرنا ذلك هزل الصبيان حتى لا يشبع لحومهم و نضعف حتى لا نستطيع الحركة إن وجدنا إلى ذلك سبيلا و طاوعته امرأته فذبح بعض أولاده و وضعوه بينهم ينهشونه فما ظنك يا ابن الملك بذلك المضطر أكل الكلب المستكثر يأكل أم أكل المضطر المستقل قال ابن الملك بل أكل المستقل قال الحكيم كذلك أكلي و شربي يا ابن الملك في الدنيا. فقال له ابن الملك أ رأيت هذا الذي تدعوني إليه أيها الحكيم أ هو شي‏ء نظر الناس فيه بعقولهم و ألبابهم حتى اختاروه على ما سواه لأنفسهم أم دعاهم الله إليه فأجابوا قال الحكيم علا هذا الأمر و لطف عن أن يكون من أهل الأرض أو برأيهم دبروه و لو كان من أهل الأرض لدعوا إلى عملها و زينتها و حفظها و دعتها و نعيمها و لذتها و لهوها و لعبها و شهواتها و لكنه أمر غريب و دعوة من الله عز و جل ساطعة و هدى مستقيم ناقض على أهل الدنيا أعمالهم مخالف لهم عائب عليهم و طاعن ناقل لهم عن أهوائهم داع لهم إلى طاعة ربهم و إن ذلك لبين لمن تنبه مكتوم عنده عن غير أهله حتى يظهر الله الحق بعد خفائه و يجعل كلمته العليا و كلمة الذين جهلوا السفلى.

 

===============

(599)

قال ابن الملك صدقت أيها الحكيم ثم قال الحكيم إن من الناس من تفكر قبل مجي‏ء الرسل ع فأصاب و منهم من دعته الرسل بعد مجيئها فأجاب و أنت يا ابن الملك ممن تفكر بعقله فأصاب. قال ابن الملك فهل تعلم أحدا من الناس يدعو إلى التزهيد في الدنيا غيركم قال الحكيم أما في بلادكم هذه فلا و أما في سائر الأمم ففيهم قوم ينتحلون الدين بألسنتهم و لم يستحقوه بأعمالهم فاختلف سبيلنا و سبيلهم قال ابن الملك كيف صرتم أولى بالحق منهم و إنما أتاكم هذا الأمر الغريب من حيث أتاهم قال الحكيم الحق كله جاء من عند الله عز و جل و إنه تبارك و تعالى دعا العباد إليه فقبله قوم بحقه و شروطه حتى أدوه إلى أهله كما أمروا لم يظلموا و لم يخطئوا و لم يضيعوا و قبله آخرون فلم يقوموا بحقه و شروطه و لم يؤدوه إلى أهله و لم يكن لهم فيه عزيمة و لا على العمل به نية ضمير فضيعوه و استثقلوه فالمضيع لا يكون مثل الحافظ و المفسد لا يكون كالمصلح و الصابر لا يكون كالجازع فمن هاهنا كنا نحن أحق به منهم و أولى. ثم قال الحكيم إنه ليس يجري على لسان أحد منهم من الدين و التزهيد و الدعاء إلى الآخرة إلا و قد أخذ ذلك عن أصل الحق الذي عنه أخذنا و لكنه فرق بيننا و بينهم أحداثهم التي أحدثوا و ابتغاؤهم الدنيا و إخلادهم إليها و ذلك أن هذه الدعوة لم تزل تأتي و تظهر في الأرض مع أنبياء الله و رسله ص في القرون الماضية على ألسنة مختلفة متفرقة و كان أهل دعوة الحق أمرهم مستقيم و طريقهم واضح و دعوتهم بينة لا فرقة بينهم و لا اختلاف فكانت الرسل ع إذا بلغوا رسالات ربهم و احتجوا لله تبارك و تعالى على عباده بحجته و إقامة معالم الدين و أحكامه قبضهم الله عز و جل إليه عند انقضاء آجالهم و منتهى مدتهم و مكثت الأمة من الأمم بعد نبيها برهة من دهرها لا تغير و لا تبدل ثم صار الناس بعد ذلك يحدثون

 

===============

(600)

الأحداث و يتبعون الشهوات و يضيعون العلم فكان العالم البالغ المستبصر منهم يخفي شخصه و لا يظهر علمه فيعرفونه باسمه و لا يهتدون إلى مكانه و لا يبقى منهم إلا الخسيس من أهل العلم يستخف به أهل الجهل و الباطل فيخمل العلم و يظهر الجهل و يتناسل القرون فلا يعرفون إلا الجهل و الباطل و يزداد الجهال استعلاء و كثرة و العلماء خمولا و قلة فحولوا معالم الله تبارك و تعالى عن وجوهها و تركوا قصد سبيلها و هم مع ذلك مقرون بتنزيله متبعون شبهه ابتغاء تأويله متعلقون بصفته تاركون لحقيقته نابذون لأحكامه فكل صفة جاءت الرسل تدعوا إليها فنحن لهم موافقون في تلك الصفة مخالفون لهم في أحكامهم و سيرتهم و لسنا نخالفهم في شي‏ء إلا و لنا عليهم الحجة الواضحة و البينة العادلة من نعت ما في أيديهم من الكتب المنزلة من الله عز و جل فكل متكلم منهم يتكلم بشي‏ء من الحكمة فهي لنا و هي بيننا و بينهم تشهد لنا عليهم بأنها توافق صفتنا و سيرتنا و حكمنا و تشهد عليهم بأنها مخالفة لسنتهم و أعمالهم فليسوا يعرفون من الكتاب إلا وصفه و لا من الدين إلا اسمه فليسوا بأهل الكتاب حقيقة حتى يقيموه. قال ابن الملك فما بال الأنبياء و الرسل ع يأتون في زمان دون زمان قال الحكيم إنما مثل ذلك كمثل ملك كانت له أرض موات لا عمران فيها فلما أراد أن يقبل عليها بعمارته أرسل إليها رجلا جلدا أمينا ناصحا ثم أمره أن يعمر تلك الأرض و أن يغرس فيها صنوف الشجر و أنواع الزرع ثم سمى له الملك ألوانا من الغرس معلومة و أنواعا من الزرع معروفة ثم أمره أن لا يعدو ما سمى له و أن لا يحدث فيها من قبله شيئا لم يكن أمره به سيده و أمره أن يخرج لها نهرا و يسد عليها حائطا و يمنعها من أن يفسدها مفسد فجاء الرسول الذي أرسله الملك إلى تلك الأرض فأحياها بعد موتها و عمرها بعد خرابها و غرس فيها و زرع من الصنوف التي أمره بها ثم ساق الماء إليها حتى نبت الغرس و اتصل الزرع ثم لم يلبث قليلا حتى مات قيمها و أقام بعده من يقوم مقامه و خلف من بعده خلف خالفوا من أقامه القيم بعده و غلبوه على أمره فأخربوا العمران و طموا الأنهار

 

===============

(601)

فيبس الغرس و هلك الزرع فلما بلغ الملك خلافهم على القيم بعد رسوله و خراب أرضه أرسل إليها رسولا آخر يحييها و يعيدها و يصلحها كما كانت في منزلتها الأولى و كذلك الأنبياء و الرسل ع يبعث الله عز و جل منهم الواحد بعد الواحد فيصلح أمر الناس بعد فساده. قال ابن الملك أ يخص الأنبياء و الرسل ع إذا جاءت بما يبعث به أم تعم قال بلوهر إن الأنبياء و الرسل إذا جاءت تدعوا عامة الناس فمن أطاعهم كان منهم و من عصاهم لم يكن منهم و ما تخلو الأرض قط من أن يكون لله عز و جل فيها مطاع من أنبيائه و رسله و من أوصيائه و إنما مثل ذلك مثل طائر كان في ساحل البحر يقال له قدم يبيض بيضا كثيرا و كان شديد الحب للفراخ و كثرتها و كان يأتي عليه زمان يتعذر عليه فيه ما يريده من ذلك فلا يجد بدا من اتخاذ أرض أخرى حتى يذهب ذلك الزمان فيأخذ بيضه مخافة عليه من أن يهلك من شفقته فيفرقه في أعشاش الطير فتحضن الطير بيضه مع بيضها و تخرج فراخه مع فراخها فإذا طال مكث فراخ قدم مع فراخ الطير ألفها بعض فراخ الطير و استأنس بها فإذا كان الزمان الذي ينصرف فيه قدم إلى مكانه مر بأعشاش الطير و أوكارها بالليل فأسمع فراخه و غيرها صوته فإذا سمعت فراخه صوته تبعته و تبع فراخه ما كان ألفها من فراخ سائر الطير و لم يجبه ما لم يكن من فراخه و لا ما لم يكن ألف فراخه و كان قد يضم إليه من أجابه من فراخه حبا للفراخ و كذلك الأنبياء إنما يستعرضون الناس جميعا بدعائهم فيجيبهم أهل الحكمة و العقل لمعرفتهم بفضل الحكمة فمثل الطير الذي دعا بصوته مثل الأنبياء و الرسل التي تعم الناس بدعائهم و مثل البيض المتفرق في أعشاش الطير مثل الحكمة و مثل سائر فراخ الطير التي ألفت مع فراخ قدم مثل من أجاب الحكماء قبل مجي‏ء الرسل لأن الله عز و جل جعل لأنبيائه و رسله من الفضل و الرأي ما لم يجعل لغيرهم من الناس و أعطاهم من الحجج و النور و الضياء ما لم

 

===============

(602)

يعط غيرهم و ذلك لما يريد من بلوغ رسالته و مواقع حججه و كانت الرسل إذا جاءت و أظهرت دعوتها أجابهم من الناس أيضا من لم يكن أجاب الحكماء و ذلك لما جعل الله عز و جل على دعوتهم من الضياء و البرهان. قال ابن الملك أ فرأيت ما يأتي به الرسل و الأنبياء إذ زعمت أنه ليس بكلام الناس و كلام الله عز و جل هو كلام و كلام ملائكته كلام قال الحكيم أ ما رأيت الناس لما أرادوا أن يفهموا بعض الدواب و الطير ما يريدون من تقدمها و تأخرها و إقبالها و إدبارها لم يجدوا الدواب و الطير تحمل كلامهم الذي هو كلامهم فوضعوا من النقر و الصفير و الزجر ما يبلغوا به حاجتهم و ما عرفوا أنها تطيق حمله و كذلك العباد يعجزوا أن يعلموا كلام الله عز و جل و كلام ملائكته على كنهه و كماله و لطفه و صفته فصار ما تراجع الناس بينهم من الأصوات التي سمعوا بها الحكمة شبيها بما وضع الناس للدواب و الطير و لم يمنع ذلك الصوت مكان الحكمة المخبرة في تلك الأصوات من أن تكون الحكمة واضحة بينهم قوية منيرة شريفة عظيمة و لم يمنعها من وقوع معانيها على مواقعها و بلوغ ما احتج به الله عز و جل على العباد فيها و كان الصوت للحكمة جسدا و مسكنا و كانت الحكمة للصوت نفسا و روحا و لا طاقة للناس أن ينفذوا غور كلام الحكمة و لا يحيطوا به بعقولهم فمن قبل ذلك تفاضلت العلماء في علمهم فلا يزال عالم يأخذ علمه من عالم حتى يرجع العلم إلى الله عز و جل الذي جاء من عنده و كذلك العلماء قد يصيبون من الحكمة و العلم ما ينجيهم من الجهل و لكن لكل ذي فضل فضله كما أن الناس ينالون من ضوء الشمس ما ينتفعون به في معايشهم و أبدانهم و لا يقدرون أن ينفذوها بأبصارهم فهي كالعين الغزيرة الظاهر مجراها المكنون عنصرها فالناس قد يجيبون بما ظهر لهم من مائها و لا يدركون غورها و هي كالنجوم الزاهرة التي يهتدي بها الناس و لا يعلمون مساقطها فالحكمة أشرف و أرفع و أعظم مما وصفناها به كله هي مفتاح باب كل خير يرتجى و النجاة من كل شر يتقى و هي شراب الحياة التي من شرب منه لم يمت أبدا و الشفاء للسقم الذي من استشفى به لم يسقم أبدا و الطريق المستقيم الذي من سلكه

 

===============

(603)

لم يضل أبدا هي حبل الله المتين الذي لا يخلقه طول التكرار من تمسك به انجلى عنه العمى و من اعتصم به فاز و اهتدى و أخذ بالعروة الوثقى قال ابن الملك فما بال هذه الحكمة التي وصفت بما وصفت من الفضل و الشرف و الارتفاع و القوة و المنفعة و الكمال و البرهان لا ينتفع بها الناس كلهم جميعا. قال الحكيم إنما مثل الحكمة كمثل الشمس الطالعة على جميع الناس الأبيض و الأسود منهم و الصغير و الكبير فمن أراد الانتفاع بها لم تمنعه و لم يحل بينه و بينها من أقربهم و أبعدهم و من لم يرد الانتفاع بها فلا حجة له عليها و لا تمنع الشمس على الناس جميعا و لا يحول بين الناس و بين الانتفاع بها و كذلك الحكمة و حالها بين الناس إلى يوم القيامة و الحكمة قد عمت الناس جميعا إلا أن الناس يتفاضلون في ذلك و الشمس ظاهرة إذ طلعت على الأبصار الناظرة فرقت بين الناس على ثلاثة منازل فمنهم الصحيح البصر الذي ينفعه الضوء و يقوى على النظر و منهم الأعمى القريب من الضوء الذي لو طلعت عليه شمس أو شموس لم تغن عنه شيئا و منهم المريض البصر الذي لا يعد في العميان و لا في أصحاب البصر كذلك الحكمة هي شمس القلوب إذا طلعت تفرق على ثلاث منازل منزل لأهل البصر الذين يعقلون الحكمة فيكونون من أهلها و يعملون بها و منزل لأهل العمى الذين تنبو الحكمة عن قلوبهم لإنكارهم الحكمة و تركهم قبولها كما ينبو ضوء الشمس عن العميان و منزل لأهل مرض القلوب الذين يقصر علمهم و يضعف عملهم و يستوي فيهم السيئ و الحسن و الحق و الباطل و إن أكثر من تطلع عليه الشمس و هي الحكمة ممن يعمى عنها. قال ابن الملك فهل يسع الرجل الحكمة فلا يجيب إليها حتى يلبث زمانا ناكبا عنها ثم يجيب و يراجعها قال بلوهر نعم هذا أكثر حالات الناس في الحكمة قال ابن الملك ترى والدي سمع شيئا من هذا الكلام قط قال بلوهر لا أراه سمع سماعا صحيحا رسخ في قلبه و لا كلمه فيه ناصح شفيق. قال ابن الملك و كيف ترك ذلك الحكماء منه طول دهرهم قال بلوهر تركوه

 

===============

(604)

لعلمهم بمواضع كلامهم فربما تركوا ذلك ممن هو أحسن إنصافا و ألين عريكة و أحسن استماعا من أبيك حتى أن الرجل ليعاش الرجل طول عمره و بينهما الاستيناس و المودة و المفاوضة و لا يفرق بينهما شي‏ء إلا الدين و الحكمة و هو متفجع عليه متوجع له ثم لا يفضي إليه أسرار الحكمة إذ لم يره لها موضعا. و قد بلغنا أن ملكا من الملوك كان عاقلا قريبا من الناس مصلحا لأمورهم حسن النظر و الإنصاف لهم و كان له وزير صدق صالح يعينه على الإصلاح و يكفيه مئونته و يشاوره في أموره و كان الوزير أديبا عاقلا له دين و ورع و نزاهة على الدنيا و كان قد لقي أهل الدين و سمع كلامهم و عرف فضلهم فأجابهم و انقطع إليهم بإخائه و وده و كانت له من الملك منزلة حسنة و خاصة و كان الملك لا يكتمه شيئا من أمره و كان الوزير أيضا له بتلك المنزلة إلا أنه لم يكن ليطلعه على أمر الدين و لا يفاوضه أسرار الحكمة فعاشا بذلك زمانا طويلا و كان الوزير كلما دخل على الملك سجد للأصنام و عظمها و أخذ شيئا في طريق الجهالة و الضلالة تقية له فأشفق الوزير على الملك من ذلك و اهتم به و استشار في ذلك أصحابه و إخوانه فقالوا له انظر لنفسك و أصحابك فإن رأيته موضعا للكلام فكلمه و فاوضه و إلا فإنك إنما تعينه على نفسك و تهيجه على أهل دينك فإن السلطان لا يغتر به و لا تؤمن سطوته فلم يزل الوزير على اهتمامه به مصافيا له رفيقا به رجاء أن يجد فرصة فينصحه أو يجد للكلام موضعا فيفاوضه و كان الملك مع ضلالته متواضعا سهلا قريبا حسن السيرة في رعيته حريصا على إصلاحهم متفقدا لأمورهم فاصطحب الوزير مع الملك على هذا برهة من زمانه. ثم إن الملك قال للوزير ذات ليلة من الليالي بعد ما هدأت العيون هل لك أن تركب فنسير في المدينة فننظر إلى حال الناس و آثار الأمطار التي أصابتهم في هذه الأيام فقال الوزير نعم فركبا جميعا يجولان في نواحي المدينة فمرا في بعض الطريق

 

===============

(605)

على مزبلة تشبه الجبل فنظر الملك إلى ضوء النار تبدو في ناحية المزبلة فقال للوزير إن لهذه لقصة فانزل بنا نمشي حتى ندنو منها فنعلم خبرها ففعلا ذلك فلما انتهيا إلى مخرج الضوء وجدا نقبا شبيها بالغار و فيه مسكين من المساكين ثم نظرا في الغار من حيث لا يراهما الرجل فإذا الرجل مشوه الخلق عليه ثياب خلقان من خلقان المزبلة متكئ على متكإ قد هيأه من الزبل و بين يديه إبريق فخار فيه شراب و في يده طنبور يضرب بيده و امرأته في مثل خلقه و لباسه قائمة بين يديه تسقيه إذا استسقى منها و ترقص له إذا ضرب و تحييه بتحية الملوك كلما شرب و هو يسميها سيدة النساء و هما يصفان أنفسهما بالحسن و الجمال و بينهما من السرور و الضحك و الطرب ما لا يوصف فقام الملك على رجليه مليا و الوزير ينظر كذلك و يتعجبان من لذتهما و إعجابهما بما هما فيه ثم انصرف الملك و الوزير فقال الملك ما أعلمني و إياك أصابنا الدهر من اللذة و السرور و الفرح مثل ما أصاب هذين الليلة مع أني أظنهما يصنعان كل ليلة مثل هذا فاغتنم الوزير ذلك منه و وجد فرصة فقال له أخاف أيها الملك أن يكون دنيانا هذه من الغرور و يكون ملكك و ما نحن فيه من البهجة و السرور في أعين من يعرف الملكوت الدائم مثل هذه المزبلة و مثل هذين الشخصين اللذين رأيناهما و تكون مساكننا و ما شيدنا منها عند من يرجو مساكن السعادة و ثواب الآخرة مثل هذا الغار في أعيننا و تكون أجسادنا عند من يعرف الطهارة و النضارة و الحسن و الصحة مثل جسد هذا المشوه الخلق في أعيننا و يكون تعجبهم عن إعجابنا بما نحن فيه كتعجبنا من إعجاب هذين الشخصين بما هما فيه. قال الملك و هل تعرف لهذه الصفة أهلا قال الوزير نعم قال الملك من هم قال الوزير أهل الدين الذين عرفوا ملك الآخرة و نعيمها فطلبوه قال الملك و ما ملك الآخرة قال الوزير هو النعيم الذي لا بؤس بعده و الغنى الذي لا فقر بعده و الفرح الذي لا ترح بعده و الصحة التي لا سقم بعدها و الرضا الذي لا سخط بعده و الأمن الذي لا خوف بعده و الحياة التي لا موت

 

===============

(606)

بعدها و الملك الذي لا زوال له هي دار البقاء و دار الحيوان التي لا انقطاع لها و لا تغير فيها رفع الله عز و جل عن ساكنيها فيها السقم و الهرم و الشقاء و النصب و المرض و الجوع و الظمأ و الموت فهذه صفة ملك الآخرة و خبرها أيها الملك. قال الملك و هل تدركون إلى هذه الدار مطلبا و إلى دخولها سبيلا قال الوزير نعم هي مهيأة لمن طلبها من وجه مطلبها و من أتاها من بابها ظفر بها قال الملك ما منعك أن تخبرني بهذا قبل اليوم قال الوزير منعني من ذلك إجلالك و الهيبة لسلطانك قال الملك لئن كان هذا الأمر الذي وصفت يقينا فلا ينبغي لنا أن نضيعه و لا نترك العمل به في إصابته و لكنا نجتهد حتى يصح لنا خبره قال الوزير أ فتأمرني أيها الملك أن أواظب عليك في ذكره و التكرير له قال الملك بل آمرك أن لا تقطع عني ذكره ليلا و لا نهارا و لا تريحني و لا تمسك عني ذكره فإن هذا أمر عجيب لا يتهاون به و لا يغفل عن مثله و كان سبيل ذلك الملك و الوزير إلى النجاة. قال ابن الملك ما أنا بشاغل نفسي بشي‏ء من هذه الأمور عن هذا السبيل و لقد حدثت نفسي بالهرب معك في جوف الليل حيث بدا لك أن تذهب. قال بلوهر و كيف تستطيع الذهاب معي و الصبر على صحبتي و ليس لي جحر يأويني و لا دابة تحملني و لا أملك ذهبا و لا فضة و لا أدخر غذاء العشاء و لا يكون عندي فضل ثوب و لا أستقر ببلدة إلا قليلا حتى أتحول عنها و لا أتزود من أرض إلى أرض أخرى رغيفا أبدا. قال ابن الملك إني أرجو أن يقويني الذي قواك قال بلوهر أما إنك إن أبيت إلا صحبتي كنت خليقا أن تكون كالغني الذي صاهر الفقير. قال يوذاسف و كيف كان ذلك قال بلوهر زعموا أن فتى كان من أولاد الأغنياء فأراد أبوه أن يزوجه ابنة عم له ذات جمال و مال فلم يوافق ذلك الفتى و لم يطلع أباه على كراهته حتى خرج من عنده متوجها إلى أرض أخرى فمر

 

===============

(607)

في طريقه على جارية عليها ثياب خلقان لها قائمة على باب بيت من بيوت المساكين فأعجبته الجارية فقال لها من أنت أيتها الجارية قالت أنا ابنة شيخ كبير في هذا البيت فنادى الفتى الشيخ فخرج إليه فقال له هل تزوجني ابنتك هذه قال ما أنت بمتزوج لبنات الفقراء و أنت فتى من الأغنياء قال أعجبتني هذه الجارية و لقد خرجت هاربا من امرأة ذات حسب و مال أرادوا مني تزويجها فكرهتها فزوجني ابنتك فإنك واجد عندي خيرا إن شاء الله. قال الشيخ كيف أزوجك ابنتي و نحن لا تطيب أنفسنا أن تنقلها عنا و لا أحسب مع ذلك أن أهلك يرضون أن تنقلها إليهم قال الفتى فنحن معكم في منزلكم هذا قال الشيخ إن صدقت فيما تقول فاطرح عنك زيك و حليتك هذه قال ففعل الفتى ذلك و أخذ أطمارا رثة من أطمارهم فلبسها و قعد معهم فسأله الشيخ عن شأنه و عرض له بالحديث حتى فتش عقله فعرف أنه صحيح العقل و أنه لم يحمله على ما صنع السفه فقال له الشيخ أما إذا اخترتنا و رضيت بنا فقم معي إلى هذا السرب فأدخله فإذا خلف منزله بيوت و مساكن لم ير مثلها قط سعة و حسنا و له خزائن من كل ما يحتاج إليه ثم دفع إليه مفاتيحه و قال له إن كل ما هاهنا لك فاصنع به ما أحببت فنعم الفتى أنت و أصاب الفتى ما كان يريده. قال يوذاسف إني لأرجو أن أكون أنا صاحب هذا المثل إن الشيخ فتش عقل هذا الغلام حتى وثق به فلعلك تطول بي على تفتيش عقلي فأعلمني ما عندك في ذلك قال الحكيم لو كان هذا الأمر إلي لاكتفيت منك بأدنى المشافهة و لكن فوق رأسي سنة قد سنها أئمة الهدى في بلوغ الغاية في التوفيق و علم ما في الصدور فأنا أخاف إن خالفت السنة أن أكون قد أحدثت بدعة و أنا منصرف عنك الليلة و حاضر بابك في كل ليلة ففكر في نفسك بهذا و اتعظ به و ليحضرك فهمك تثبت و لا تعجل بالتصديق لما يورده عليك همك حتى تعلمه بعد التؤدة و الأناة و عليك بالاحتراس في ذلك أن يغلبك الهوى و الميل إلى الشبهة و العمى و اجتهد في المسائل التي تظن أن

 

===============

(608)

فيها شبهة ثم كلمني فيها و أعلمني رأيك في الخروج إذا أردت و افترقا على هذا تلك الليلة ثم عاد الحكيم إليه فسلم عليه و دعا له ثم جلس فكان من دعائه أن قال أسأل الله الأول الذي لم يكن قبله شي‏ء و الآخر الذي لا يبقى معه شي‏ء و الباقي الذي لا منتهى له و الواحد الفرد الصمد الذي ليس معه غيره و القاهر الذي لا شريك له البديع الذي لا خالق معه القادر الذي ليس له ضد الصمد الذي ليس له ند الملك الذي ليس معه أحد أن يجعلك ملكا عدلا إماما في الهدى قائدا إلى التقوى و مبصرا من العمى و زاهدا في الدنيا و محبا لذوي النهى و مبغضا لأهل الردى حتى يفضي بنا و بك إلى ما وعد الله أولياءه على ألسنة أنبيائه من جنته و رضوانه فإن رغبتنا إلى الله في ذلك ساطعة و رهبتنا منه باطنة و أبصارنا إليه شاخصة و أعناقنا له خاضعة و أمورنا إليه صائرة. فرق ابن الملك لذلك الدعاء رقة شديدة و ازداد في الخير رغبة و قال متعجبا من قوله أيها الحكيم أعلمني كم أتى لك من العمر فقال اثنتا عشرة سنة فارتاع لذلك و قال ابن اثنتي عشرة سنة طفل و أنت مع ما أرى من التكهل لابن ستين سنة قال الحكيم أما المولد فقد راهق الستين سنة و لكنك سألتني عن العمر و إنما العمر الحياة و لا حياة إلا في الدين و العمل به و التخلي من الدنيا و لم يكن ذلك لي إلا من اثنتي عشرة سنة فأما قبل ذلك فإني كنت ميتا و لست أعتد في عمري بأيام الموت قال ابن الملك كيف تجعل الآكل و الشارب و المتقلب ميتا قال الحكيم لأنه شارك الموتى في العمى و الصم و البكم و ضعف الحياة و قلة الغنى فلما شاركهم في الصفة وافقهم في الاسم. قال ابن الملك لئن كنت لا تعد حياة و لا غبطة ما ينبغي لك أن تعد ما يتوقع من الموت موتا و لا تراه مكروها قال الحكيم تغريري في الدخول عليك بنفسي يا ابن الملك مع علمي لسطوة أبيك على أهل ديني يدلك على أني لا أرى الموت موتا

 

===============

(609)

و لا أرى هذه الحياة حياة و لا ما أتوقع من الموت مكروها فكيف يرغب في الحياة من قد ترك حظه منها أو يهرب من الموت من قد أمات نفسه بيده أ و لا ترى يا ابن الملك أن صاحب الدين قد رفض في الدنيا من أهله و ماله و ما لا يرغب في الحياة إلا له و احتمل من نصب العبادة ما لا يريحه منه إلا الموت فما حاجة من لا يتمتع بلذة الحياة إلى الحياة أو مهرب من لا راحة له إلا في الموت من الموت. قال ابن الملك صدقت أيها الحكيم فهل يسرك أن ينزل بك الموت من غد قال الحكيم بل يسرني أن ينزل بي الليلة دون غد فإنه من عرف السيئ و الحسن و عرف ثوابهما من الله عز و جل ترك السيئ مخافة عقابه و عمل بالحسن رجاء ثوابه و من كان موقنا بالله وحده مصدقا بوعده فإنه يحب الموت لما يرجو بعد الموت من الرخاء و يزهد في الحياة لما يخاف على نفسه من شهوات الدنيا و المعصية لله فيها فهو يحب الموت مبادرة من ذلك فقال ابن الملك إن هذا لخليق أن يبادر الهلكة لما يرجو في ذلك من النجاة فاضرب لي مثل أمتنا هذه و عكوفها على أصنامها. قال الحكيم إن رجلا كان له بستان يعمره و يحسن القيام عليه إذ رأى في بستانه ذات يوم عصفورا واقعا على شجرة من شجر البستان يصيب من ثمرها فغاضه ذلك فنصب فخا فصاده فلما هم بذبحه أنطقه الله عز و جل بقدرته فقال لصاحب البستان إنك تهتم بذبحي و ليس في ما يشبعك من جوع و لا يقويك من ضعف فهل لك في خير مما هممت به قال الرجل ما هو قال العصفور تخلي سبيلي و أعلمك ثلاث كلمات إن أنت حفظتهن كن خيرا لك من أهل و مال هو لك قال قد فعلت فأخبرني بهن قال العصفور احفظ عني ما أقول لك لا تأس على ما فاتك و لا تصدقن بما لا يكون و لا تطلبن ما لا تطيق فلما قضى الكلمات خلى سبيله فطار فوقع على بعض الأشجار ثم قال للرجل لو تعلم ما فاتك مني لعلمت أنك قد فاتك مني عظيم جسيم

 

===============

(610)

من الأمر فقال الرجل و ما ذاك قال العصفور لو كنت مضيت على ما هممت به من ذبحي لاستخرجت من حوصلتي درة كبيضة الوزة فكان لك في ذلك غنى الدهر فلما سمع الرجل منه ذلك أسر في نفسه ندما على ما فاته و قال دع عنك ما مضى و هلم أنطلق بك إلى منزلي فأحسن صحبتك و أكرم مثواك فقال له العصفور أيها الجاهل ما أراك حفظتني إذا ظفرت بي و لا انتفعت بالكلمات التي افتديت بها منك نفسي أ لم أعهد إليك ألا تأس على ما فاتك و لا تصدق ما لا يكون و لا تطلب ما لا يدرك أما أنت متفجع على ما فاتك و تلتمس مني رجعتي إليك و تطلب ما لا تدرك و تصدق أن في حوصلتي درة كبيضة الوزة و جميعي أصغر من بيضها و قد كنت عهدت إليك أن لا تصدق بما لا يكون و أن أمتكم صنعوا أصنامهم بأيديهم ثم زعموا أنها هي التي خلقتهم و حفظوها من أن تسرق مخافة عليها و زعموا أنها هي التي تحفظهم و أنفقوا عليها من مكاسبهم و أموالهم و زعموا أنها هي التي ترزقهم فطلبوا من ذلك ما لا يدرك و صدقوا بما لا يكون فلزمهم منه ما لزم صاحب البستان. قال ابن الملك صدقت أما الأصنام فإني لم أزل عارفا بأمرها زاهدا فيها آيسا من خيرها فأخبرني بالذي تدعوني إليه و الذي ارتضيته لنفسك ما هو قال بلوهر جماع الدين أمران أحدهما معرفة الله عز و جل و الآخر العمل برضوانه قال ابن الملك و كيف معرفة الله عز و جل. قال الحكيم أدعوك إلى أن تعلم أن الله واحد ليس له شريك لم يزل فردا ربا و ما سواه مربوب و أنه خالق و ما سواه مخلوق و أنه قديم و ما سواه محدث و أنه صانع و ما سواه مصنوع و أنه مدبر و ما سواه مدبر و أنه باق و ما سواه فان و أنه عزيز و ما سواه ذليل و أنه لا ينام و لا يغفل و لا يأكل و لا يشرب و لا يضعف و لا يغلب و لا يضجر و لا يعجزه شي‏ء لم تمتنع منه السماوات و الأرض و الهواء و البر و البحر و أنه كون الأشياء لا من شي‏ء و أنه لم يزل و لا يزال و لا تحدث فيه الحوادث و لا تغيره الأحوال و لا تبدله الأزمان و لا يتغير من حال إلى حال و لا يخلو منه مكان و لا يشتغل به مكان و لا يكون من مكان أقرب منه إلى مكان و لا

 

===============

(611)

يغيب عنه شي‏ء عالم لا يخفى عليه شي‏ء قدير لا يفوته شي‏ء و أن تعرفه بالرأفة و الرحمة و العدل و أن له ثوابا أعده لمن أطاعه و عذابا أعده لمن عصاه و أن تعمل لله برضاه و تجتنب سخطه. قال ابن الملك فما رضا الواحد الخالق من الأعمال قال الحكيم يا ابن الملك رضاه أن تطيعه و لا تعصيه و أن تأتي إلى غيرك ما تحب أن يؤتى إليك و تكف عن غيرك ما تحب أن يكف عنك في مثله فإن ذلك عدل و في العدل رضاه و في اتباع آثار أنبياء الله و رسله بأن لا تعدو سنتهم. قال ابن الملك زدني أيها الحكيم تزهيدا في الدنيا و أخبرني بحالها. قال الحكيم إني لما رأيت الدنيا دار تصرف و زوال و تقلب من حال إلى حال و رأيت أهلها فيها أغراضا للمصائب و رهائن للمتالف و رأيت صحة بعدها سقما و شبابا بعده هرما و غنى بعده فقرا و فرحا بعده حزنا و عزا بعده ذلا و رخاء بعده شدة و أمنا بعده خوفا و حياة بعدها ممات و رأيت أعمارا قصيرة و حتوفا راصدة و سهاما قاصدة و أبدانا ضعيفة مستسلمة غير ممتنعة و لا حصينة عرفت أن الدنيا منقطعة بالية فانية و عرفت بما ظهر لي منها ما غاب عني منها و عرفت بظاهرها باطنها و غامضها بواضحها و سرها بعلانيتها و صدورها بورودها فحذرتها لما عرفتها و فررت منها لما أبصرتها بينا ترى المرء فيها مغتبطا محبورا و ملكا مسرورا في خفض و دعة و نعمة و سعة في بهجة من شبابه و حداثة من سنه و غبطة من ملكه و بهاء من سلطانه و صحة من بدنه إذا انقلبت الدنيا به أسر ما كان فيها نفسا و أقر ما كان فيها عينا فأخرجته من ملكها و غبطتها و خفضها و دعتها و بهجتها فأبدلته بالعز ذلا و بالفرح ترحا و بالسرور حزنا و بالنعمة بؤسا و بالغنى فقرا و بالسعة ضيقا و بالشباب هرما و بالشرف ضعة و بالحياة موتا فدلته في حفرة ضيقة شديدة الوحشة وحيدا فريدا غريبا قد فارق الأحبة و فارقوه و خذله إخوانه

 

===============

(612)

فلم يجد عندهم منعا و غره أعداؤه فلم يجد عندهم دفعا و صار عزه و ملكه و أهله و ماله نهبة من بعده كأن لم يكن في الدنيا و لم يذكر فيها ساعة قط و لم يكن له فيها خطر و لم يملك من الأرض حظا قط فلا تتخذها يا ابن الملك دارا و لا تتخذن فيها عقدة و لا عقارا فأف لها و تف. قال ابن الملك أف لها و لمن يغتر بها إذا كان هذا حالها و رق ابن الملك و قال زدني أيها الحكيم من حديثك فإنه شفاء لما في صدري. قال الحكيم إن العمر قصير و الليل و النهار يسرعان فيه و الارتحال من الدنيا حثيث قريب و إنه و إن طال العمر فيها فإن الموت نازل و الظاعن لا محالة راحل فيصير ما جمع فيها مفرقا و ما عمل فيها متبرا و ما شيد فيها خرابا و يصير اسمه مجهولا و ذكره منسيا و حسبه خاملا و جسده باليا و شرفه وضيعا و نعمته وبالا و كسبه خسارا و يورث سلطانه و يستذل عقبه و يستباح حريمه و تنقض عهوده و تخفر ذمته و تدرس آثاره و يوزع ماله و يطوى رحله و يفرح عدوه و يبيد ملكه و يورث تاجه و يخلف على سريره و يخرج من مساكنه مسلوبا مخذولا فيذهب به إلى قبره فيدلى في حفرته في وحدة و غربة و ظلمة و وحشة و مسكنة و ذلة قد فارق الأحبة و أسلمته العصبة فلا تؤنس وحشته أبدا و لا ترد غربته أبدا و اعلم أنها يحق على المرء اللبيب من سياسة نفسه خاصة كسياسة الإمام العادل الحازم الذي يؤدب العامة و يستصلح الرعية و يأمرهم بما يصلحهم و ينهاهم عما يفسدهم ثم يعاقب من عصاه منهم و يكرم من أطاعه منهم فكذلك للرجل اللبيب أن يؤدب نفسه في جميع أخلاقها و أهوائها و شهواتها و أن تحملها و إن كرهت على لزوم منافعها فيما أحبت و كرهت و على اجتناب مضارها و أن يجعل لنفسه عن نفسه ثوابا و عقابا من مكانها من السرور إذا أحسنت و من مكانها من الغم إذا أساءت و مما يحق على ذي العقل النظر فيما ورد عليه من أموره و الأخذ بصوابها و ينهى نفسه عن خطائها

 

===============

(613)

و أن يحتقر عمله و نفسه في رأيه لكي لا يدخله عجب فإن الله عز و جل قد مدح أهل العقل و ذم أهل العجب و من لا عقل له و بالعقل يدرك كل خير بإذن الله تبارك و تعالى و بالجهل تهلك النفوس و إن من أوثق الثقات عند ذوي الألباب ما أدركته عقولهم و بلغته تجاربهم و نالته أبصارهم في الترك للأهواء و الشهوات و ليس ذو العقل بجدير أن يرفض ما قوي على حفظه من العمل احتقارا له إذا لم يقدر على ما هو أكثر منه و إنما هذا من أسلحة الشيطان الغامضة التي لا يبصرها إلا من تدبرها و لا يسلم منها إلا من عصمه الله منها و من رأس أسلحته سلاحان أحدهما إنكار العقل أن يوقع في قلب الإنسان العاقل أنه لا عقل له و لا بصر و لا منفعة له في عقله و بصره و يريد أن يصده عن محبة العلم و طلبه و يزين له الاشتغال بغيره من ملاهي الدنيا فإن اتبعه الإنسان من هذا الوجه فهو ظفره و إن عصاه و غلبه فزع إلى السلاح الآخر و هو أن يجعل الإنسان إذا عمل شيئا و أبصر عرض له بأشياء لا يبصرها ليغمه و يضجره بما لا يعلم حتى يبغض إليه ما هو فيه بتضعيف عقله عنده و بما يأتيه من الشبهة و يقول أ لست ترى أنك لا تستكمل هذا الأمر و لا تطيقه أبدا فبم تعني نفسك و تشقيها فيما لا طاقة لك به فبهذا السلاح صرع كثيرا من الناس فاحترس من أن تدع اكتساب علم ما تعلمه و أن تخدع عما اكتسبت منه فإنك في دار قد استحوذ على أكثر أهلها الشيطان بألوان حيله و وجوه ضلالته و منهم من قد ضرب على سمعه و عقله و قلبه فتركه لا يعلم شيئا و لا يسأل عن علم ما يجهل منه كالبهيمة و إن لعامتهم أديانا مختلفة فمنهم المجتهدون في الضلالة حتى أن بعضهم ليستحل دم بعض و أموالهم و يموه ضلالتهم بأشياء من الحق ليلبس عليهم دينهم و يزينه لضعيفهم و يصدهم عن الدين القيم فالشيطان و جنوده دائبون في إهلاك الناس و تضليلهم لا يسأمون و لا يفترون و لا يحصي عددهم إلا الله و لا يستطاع دفع مكايدهم إلا بعون من الله عز و جل و الاعتصام بدينه فنسأل الله توفيقا لطاعته و نصرا على عدونا فإنه لا حول و لا قوة إلا بالله

 

===============

(614)

قال ابن الملك صف لي الله سبحانه و تعالى حتى كأني أراه قال إن الله تقدس ذكره لا يوصف بالرؤية و لا يبلغ بالعقول كنه صفته و لا تبلغ الألسن كنه مدحته و لا يحيط العباد من علمه إلا بما علمهم منه على ألسنة أنبيائه ع بما وصف به نفسه و لا تدرك الأوهام عظم ربوبيته هو أعلى من ذلك و أجل و أعز و أعظم و أمنع و ألطف فباح للعباد من علمه بما أحب و أظهرهم من صفته على ما أراد و دلهم على معرفته و معرفة ربوبيته بإحداث ما لم يكن و إعدام ما أحدث. قال ابن الملك و ما الحجة قال إذا رأيت شيئا مصنوعا غاب عنك صانعه علمت بعقلك أن له صانعا فكذلك السماء و الأرض و ما بينهما فأي حجة أقوى من ذلك. قال ابن الملك فأخبرني أيها الحكيم أ بقدر من الله عز و جل يصيب الناس ما يصيبهم من الأسقام و الأوجاع و الفقر و المكاره أو بغير قدر. قال بلوهر لا بل بقدر قال فأخبرني عن أعمالهم السيئة قال إن الله عز و جل من سيئ أعمالهم بري‏ء و لكنه عز و جل أوجب الثواب العظيم لمن أطاعه و العقاب الشديد لمن عصاه. قال فأخبرني من أعدل الناس و من أجورهم و من أكيسهم و من أحمقهم و من أشقاهم و من أسعدهم قال أعدلهم أنصفهم من نفسه و أجورهم من كان جوره عنده عدلا و عدل أهل العدل عنده جورا و أما أكيسهم فمن أخذ لآخرته أهبتها و أحمقهم من كانت الدنيا همه و الخطايا عمله و أسعدهم من ختم عاقبة عمله بخير و أشقاهم من ختم له بما يسخط الله عز و جل. ثم قال من دان الناس بما إن دين بمثله هلك فذلك المسخط لله المخالف لما يحب و من دانهم بما إن دين بمثله صلح فذلك المطيع لله الموافق لما يحب

 

===============

(615)

المجتنب لسخطه ثم قال لا تستقبحن الحسن و إن كان في الفجار و لا تستحسنن القبيح و إن كان في الأبرار. ثم قال له أخبرني أي الناس أولى بالسعادة و أيهم أولى بالشقاوة. قال بلوهر أولاهم بالسعادة المطيع لله عز و جل في أوامره و المجتنب لنواهيه و أولاهم بالشقاوة العامل بمعصية الله التارك لطاعته المؤثر لشهوته على رضا الله عز و جل قال فأي الناس أطوعهم لله عز و جل قال أتبعهم لأمره و أقواهم في دينه و أبعدهم من العمل بالسيئات قال فما الحسنات و السيئات قال الحسنات صدق النية و العمل و القول الطيب و العمل الصالح و السيئات سوء النية و سوء العمل و القول السيئ قال فما صدق النية قال الاقتصاد في الهمة قال فما سوء القول قال الكذب قال فما سوء العمل قال معصية الله عز و جل قال أخبرني كيف الاقتصاد في الهمة قال التذكر لزوال الدنيا و انقطاع أمرها و الكف عن الأمور التي فيها النقمة و التبعة في الآخرة. قال فما السخاء قال إعطاء المال في سبيل الله عز و جل قال فما الكرم قال التقوى قال فما البخل قال منع الحقوق عن أهلها و أخذها من غير وجهها قال فما الحرص قال الإخلاد إلى الدنيا و الطماح إلى الأمور التي فيها الفساد و ثمرتها عقوبة الآخرة قال فما الصدق قال الطريقة في الدين بأن لا يخادع المرء نفسه و لا يكذبها قال فما الحمق قال الطمأنينة إلى الدنيا و ترك ما يدوم و يبقى قال فما الكذب قال أن يكذب المرء نفسه فلا يزال بهواه شغفا و لدينه مسوفا قال أي الرجال أكملهم في الصلاح قال أكملهم في العقل و أبصرهم بعواقب الأمور و أعلمهم بخصومه و أشدهم منهم احتراسا قال أخبرني ما تلك العاقبة و ما أولئك الخصماء الذين يعرفهم العاقل فيحترس منهم قال العاقبة الآخرة و الفناء الدنيا قال فما الخصماء قال الحرص و الغضب و الحسد و الحمية و الشهوة و الرياء و اللجاجة.

 

===============

(616)

قال أي هؤلاء الذين عددت أقوى و أجدر أن يسلم منه قال الحرص أقل رضا و أفحش غضبا و الغضب أجور سلطانا و أقل شكرا و أكسب للبغضاء و الحسد أسوأ الخيبة للنية و أخلف للظن و الحمية أشد لجاجة و أفظع معصية و الحقد أطول توقدا و أقل رحمة و أشد سطوة و الرياء أشد خديعة و أخفى اكتتاما و أكذب و اللجاجة أعيا خصومة و أقطع معذرة. قال أي مكايد الشيطان للناس في هلاكهم أبلغ قال تعميته عليهم البر و الإثم و الثواب و العقاب و عواقب الأمور في ارتكاب الشهوات قال أخبرني بالقوة التي قوى الله عز و جل بها العباد في تغالب تلك الأمور السيئة و الأهواء المردية قال العلم و العقل و العمل بهما و صبر النفس عن شهواتها و الرجاء للثواب في الدين و كثرة الذكر لفناء الدنيا و قرب الأجل و الاحتفاظ من أن ينقض ما يبقى بما يفنى فاعتبار ماضي الأمور بعاقبتها و الاحتفاظ بما لا يعرف إلا عند ذوي العقول و كف النفس عن العادة السيئة و حملها على العادة الحسنة و الخلق المحمود و أن يكون أمل المرء بقدر عيشه حتى يبلغ غايته فإن ذلك هو القنوع و عمل الصبر و الرضا بالكفاف و اللزوم للقضاء و المعرفة بما فيه في الشدة من التعب و ما في الإفراط من الاقتراف و حسن العزاء عما فات و طيب النفس عنه و ترك معالجة ما لا يتم و الصبر بالأمور التي إليها يرد و اختيار سبيل الرشد على سبيل الغي و توطين النفس على أنه إن عمل خيرا أجزي به و إن عمل شرا أجزي به و المعرفة بالحقوق و الحدود في التقوى و عمل النصيحة و كف النفس عن اتباع الهوى و ركوب الشهوات و حمل الأمور على الرأي و الأخذ بالحزم و القوة فإن أتاه البلاء أتاه و هو معذور غير ملوم. قال ابن الملك أي الأخلاق أكرم و أعز قال التواضع و لين الكلمة للإخوان في الله عز و جل قال أي العبادة أحسن قال الوقار و المودة قال فأخبرني أي الشيم أفضل قال حب الصالحين قال أي الذكر أفضل قال ما كان في الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر قال فأي الخصوم ألد قال ارتكاب الذنوب قال ابن

 

===============

(617)

الملك أخبرني أي الفضل أفضل قال الرضا بالكفاف قال أخبرني أي الأدب أحسن قال أدب الدين قال أي الشي‏ء أجفى قال السلطان العاتي و القلب القاسي قال أي شي‏ء أبعد غاية قال عين الحريص التي لا تشبع من الدنيا قال أي الأمور أخبث عاقبة قال التماس رضا الناس في سخط الرب عز و جل قال أي شي‏ء أسرع تقلبا قال قلوب الملوك الذين يعملون للدنيا قال فأخبرني أي الفجور أفحش قال إعطاء عهد الله و الغدر فيه قال فأي شي‏ء أسرع انقطاعا قال مودة الفاسق قال فأي شي‏ء أخون قال لسان الكاذب قال فأي شي‏ء أشد اكتتاما قال شر المرائي المخادع قال فأي شي‏ء أشبه بأحوال الدنيا قال أحلام النائم قال أي الرجال أفضل رضا قال أحسنهم ظنا بالله عز و جل و أتقاهم و أقلهم غفلة عن ذكر الله و ذكر الموت و انقطاع المدة قال أي شي‏ء من الدنيا أقر للعين قال الولد الأديب و الزوجة الموافقة المؤاتية المعينة على أمر الآخرة قال أي الداء ألزم في الدنيا قال الولد السوء و الزوجة السوء اللذين لا يجد منهما بدا قال أي الخفض أخفض قال رضا المرء بحظه و استيناسه بالصالحين. ثم قال ابن الملك للحكيم فرغ لي ذهنك فقد أردت مساءلتك عن أهم الأشياء إلي بعد إذ بصرني الله عز و جل من أمري ما كنت به جاهلا و رزقني من الدين ما كنت منه آيسا. قال الحكيم سل عما بدا لك قال ابن الملك أ رأيت من أوتي الملك طفلا و دينه عبادة الأوثان و قد غذي بلذات الدنيا و اعتادها و نشأ فيها إلى أن كان رجلا و كهلا لا ينتقل من حالته تلك في جهالته بالله تعالى ذكره و إعطائه نفسه شهواتها متجردا لبلوغ الغاية فيما زين له من تلك الشهوات مشتغلا بها مؤثرا لها جريا عليها لا يرى الرشد إلا فيها و لا تزيده الأيام إلا حبا لها و اغترارا بها و عجبا و حبا لأهل ملته و رأيه. و قد دعته بصيرته في ذلك إلى أن جهل أمر آخرته و أغفلها فاستخف

 

===============

(618)

بها و سها عنها قساوة قلب و خبث نية و سوء رأي و اشتدت عداوته لمن خالفه من أهل الدين و الاستخفاء بالحق و المغيبين لأشخاصهم انتظارا للفرج من ظلمه و عداوته هل يطمع له إن طال عمره في النزوع عما هو عليه و الخروج منه إلى ما الفضل فيه بين و الحجة فيه واضحة و الحظ جزيل من لزوم ما أبصر من الدين فيأتي ما يرجى له به مغفرة لما قد سلف من ذنوبه و حسن الثواب في مآبه. قال الحكيم قد عرفت هذه الصفة و ما دعاك إلى هذه المسألة. قال ابن الملك ما ذاك منك بمستنكر لفضل ما أوتيت من الفهم و خصصت به من العلم. قال الحكيم أما صاحب هذه الصفة فالملك و الذي دعاك إليه العناية بما سألت عنه و الاهتمام به من أمره و الشفقة عليه من عذاب ما أوعد الله عز و جل من كان على مثل رأيه و طبعه و هواه مع ما نويت من ثواب الله تعالى ذكره في أداء حق ما أوجب الله عليك له و أحسبك تريد بلوغ غاية العذر في التلطف لإنقاذه و إخراجه عن عظيم الهول و دائم البلاء الذي لا انقطاع له من عذاب الله إلى السلامة و راحة الأبد في ملكوت السماء. قال ابن الملك لم تجرم حرفا عما أردت فأعلمني رأيك فيما عنيت من أمر الملك و حاله التي أتخوف أن يدركه الموت عليها فتصيبه الحسرة و الندامة حين لا أغني عنه شيئا فاجعلني منه على يقين و فرج عما أنا به مغموم شديد الاهتمام به فإني قليل الحيلة فيه. قال الحكيم أما رأينا فإنا لا نبعد مخلوقا من رحمة الله خالقه عز و جل و لا نأيس له منها ما دام فيه الروح و إن كان عاتيا طاغيا ضالا لما قد وصف ربنا تبارك و تعالى به نفسه من التحنن و الرأفة و الرحمة و دل عليه من الإيمان و ما أمر به من

 

===============

(619)

الاستغفار و التوبة و في هذا فضل الطمع لك في حاجتك إن شاء الله و زعموا أنه كان في زمن من الأزمان ملك عظيم الصوت في العلم رفيق سائس يحب العدل في أمته و الإصلاح لرعيته عاش بذلك زمانا بخير حال ثم هلك فجزعت عليه أمته و كان بامرأة له حمل فذكر المنجمون و الكهنة أنه غلام و كان يدبر ملكهم من كان يلي ذلك في زمان ملكهم فاتفق الأمر كما ذكره المنجمون و الكهنة و ولد من ذلك الحمل غلام فأقاموا عند ميلاده سنة بالمعازف و الملاهي و الأشربة و الأطعمة ثم إن أهل العلم منهم و الفقه و الربانيين قالوا لعامتهم إن هذا المولود إنما هو هبة من الله تعالى و قد جعلتم الشكر لغيره و إن كان هبة من غير الله عز و جل فقد أديتم الحق إلى من أعطاكموه و اجتهدتم في الشكر لمن رزقكموه فقال لهم العامة ما وهبه لنا إلا الله تبارك و تعالى و لا امتن به علينا غيره قال العلماء فإن كان الله عز و جل هو الذي وهبه لكم فقد أرضيتم غير الذي أعطاكم و أسخطتم الله الذي وهبه لكم فقالت لهم الرعية فأشيروا لنا أيها الحكماء و أخبرونا أيها العلماء فنتبع قولكم و نتقبل نصيحتكم و مرونا بأمركم قالت العلماء فإنا نرى لكم أن تعدلوا عن اتباع مرضاة الشيطان بالمعازف و الملاهي و المسكر إلى ابتغاء مرضاة الله عز و جل و شكره على ما أنعم به عليكم أضعاف شكركم للشيطان حتى يغفر لكم ما كان منكم قالت الرعية لا تحمل أجسادنا كل الذي قلتم و أمرتم به قالت العلماء يا أولي الجهل كيف أطعتم من لا حق له عليكم و تعصون من له الحق الواجب عليكم و كيف قويتم على ما لا ينبغي و تضعفون عما ينبغي قالوا لهم يا أئمة الحكماء عظمت فينا الشهوات و كثرت فينا اللذات فقوينا بما عظم فينا منها على العظيم من شكلها و ضعفت منا النيات فعجزنا عن حمل المثقلات فارضوا منا في الرجوع عن ذلك يوما فيوما و لا تكلفونا كل هذا الثقل قالوا لهم يا معشر السفهاء أ لستم أبناء الجهل و إخوان الضلال حين خفت عليكم الشقوة و ثقلت عليكم السعادة قالوا لهم أيها السادة الحكماء و القادة العلماء إنا نستجير من تعنيفكم إيانا بمغفرة الله عز و جل

 

===============

(620)

و نستتر من تعييركم لنا بعفوه فلا تؤنبونا و لا تعيرونا بضعفنا و لا تعيبوا الجهالة علينا فإنا إن أطعنا الله مع عفوه و حلمه و تضعيفه الحسنات و اجتهدنا في عبادته مثل الذي بذلنا لهوانا من الباطل بلغنا حاجتنا و بلغ الله عز و جل بنا غايتنا و رحمنا كما خلقنا فلما قالوا ذلك أقر لهم علماؤهم و رضوا قولهم فصلوا و صاموا و تعبدوا و أعظموا الصدقات سنة كاملة فلما انقضى ذلك منهم قالت الكهنة إن الذي صنعت هذه الأمة على هذا المولود يخبر أن هذا الملك يكون فاجرا و يكون بارا و يكون متجبرا و يكون متواضعا و يكون مسيئا و يكون محسنا و قال المنجمون مثل ذلك فقيل لهم كيف قلتم ذلك قال الكهنة قلنا هذا من قبل اللهو و المعازف و الباطل الذي صنع عليه و ما صنع عليه من ضده بعد ذلك و قال المنجمون قلنا ذلك من قبل استقامة الزهرة و المشتري فنشأ الغلام بكبر لا توصف عظمته و مرح لا ينعت و عدوان لا يطاق فعسف و جار و ظلم في الحكم و غشم و كان أحب الناس إليه من وافقه على ذلك و أبغض الناس إليه من خالفه في شي‏ء من ذلك و اغتر بالشباب و الصحة و القدرة و الظفر و النظر فامتلأ سرورا و إعجابا بما هو فيه و رأى كلما يحب و سمع كلما اشتهى حتى بلغ اثنتين و ثلاثين سنة ثم جمع نساء من بنات الملوك و صبيانا و الجواري و المخدرات و خيله المطهمات العناق و ألوان مراكبه الفاخرة و وصائفه و خدامه الذين يكونون في خدمته فأمرهم أن يلبسوا أجد ثيابهم و يتزينوا بأحسن زينتهم و أمر ببناء مجلس مقابل مطلع الشمس صفائح أرضه الذهب مفضضا بأنواع الجواهر طوله مائة و عشرون ذراعا و عرضه ستون ذراعا مزخرفا سقفه و حيطانه قد زين بكرائم الحلي و صنوف الجوهر و اللؤلؤ النظيم و فاخره و أمر بضروب الأموال فأخرجت من الخزائن و نضدت سماطين أمام مجلسه و أمر جنوده و أصحابه و قواده و كتابه و حجابه و عظماء

 

===============

(621)

أهل بلاده و علماءهم فحضروا في أحسن هيئتهم و أجمل جمالهم و تسلح فرسانه و ركبت خيوله في عدتهم ثم وقفوا على مراكزهم و مراتبهم صفوفا و كراديس و إنما أراد بزعمه أن ينظر إلى منظر رفيع حسن تسر به نفسه و تقر به عينه ثم خرج فصعد إلى مجلسه فأشرف على مملكته فخروا له سجدا فقال لبعض غلمانه قد نظرت في أهل مملكتي إلى منظر حسن و بقي أن أنظر إلى صورة وجهي فدعا بمرآة فنظر إلى وجهه فبينا هو يقلب طرفه فيها إذ لاحت له شعرة بيضاء من لحيته كغراب أبيض بين غربان سود و اشتد منها ذعره و فزعه و تغير في عينه حاله و ظهرت الكآبة و الحزن في وجهه و تولى السرور عنه. ثم قال في نفسه هذا حين نعي إلي شبابي و بين لي أن ملكي في ذهاب و أوذنت بالنزول عن سرير ملكي ثم قال هذه مقدمة الموت و رسول البلى لم يحجبه عني حاجب و لم يمنعه عني حارس فنعي إلي نفسي و آذنني بزوال ملكي فما أسرع هذا في تبديل بهجتي و ذهاب سروري و هدم قوتي لم يمنعه مني الحصون و لم تدفعه عني الجنود هذا سالب الشباب و القوة و ماحق العز و الثروة و مفرق الشمل و قاسم التراث بين الأولياء و الأعداء مفسد المعاش و منغص اللذات و مخرب العمارات و مشتت الجمع و واضع الرفيع و مذل المنيع قد أناخت بي أثقاله و نصب لي حباله. ثم نزل عن مجلسه حافيا ماشيا و قد صعد إليه محمولا ثم جمع إليه جنوده و دعا إليه ثقاته فقال أيها الملأ ما ذا صنعت فيكم و ما ذا أتيت إليكم منذ ملكتكم و وليت أموركم قالوا له أيها الملك المحمود عظم بلاؤك عندنا و هذه أنفسنا مبذولة

 

===============

(622)

في طاعتك فمرنا بأمرك قال طرقني عدو مخيف لم تمنعوني منه حتى نزل بي و كنتم عدتي و ثقاتي قالوا أيها الملك أين هذا العدو أ يرى أم لا يرى قال يرى بأثر و لا يرى عينه قالوا أيها الملك هذه عدتنا كما ترى و عندنا سكن و فينا ذوو الحجى و النهى فأرناه نكفك ما مثله يكفى قال قد عظم الاغترار مني بكم و وضعت الثقة في غير موضعها حين اتخذتكم و جعلتكم لنفسي جنة و إنما بذلت لكم الأموال و رفعت شرفكم و جعلتكم البطانة دون غيركم لتحفظوني من الأعداء و تحرسوني منهم ثم أيدتكم على ذلك بتشييد البلدان و تحصين المدائن و الثقة من السلاح و نحيت عنكم الهموم و فرغتكم للنجدة و الاحتفاظ و لم أكن أخشى أن أراع معكم و لا أتخوف المنون على بنياني و أنتم عكوف مطيفون به فطرقت و أنتم حولي و أتيت و أنتم معي فلئن كان هذا ضعف منكم فما أخذت أمري بثقة و إن كانت غفلة منكم فما أنتم بأهل النصيحة و لا علي بأهل الشفقة قالوا أيها الملك أما شي‏ء نطيق دفعه بالخيل و القوة فليس بواصل إليك إن شاء الله و نحن أحياء و أما ما لا يرى فقد غيب عنا علمه و عجزت قوتنا عنه. قال أ ليس اتخذتكم لتمنعوني من عدوي قالوا بلى قال فمن أي عدو تحفظوني من الذي يضرني أو من الذي لا يضرني قالوا من الذي يضرك قال أ فمن كل ضار لي أو من بعضهم قالوا من كل ضار قال فإن رسول البلى قد أتاني ينعى إلي نفسي و ملكي و يزعم أنه يريد خراب ما عمرت و هدم ما بنيت و تفريق ما جمعت و فساد ما أصلحت و تبذير ما أحرزت و تبديل ما عملت و توهين ما وثقت و زعم أن معه الشماتة من الأعداء و قد قرت بي أعينهم فإنه يريد أن يعطيهم مني شفاء صدورهم و ذكر أنه سيهزم جيشي و يوحش أنسي و يذهب عزي و يؤتم ولدي و يفرق جموعي يفجع بي إخواني و أهلي و قرابتي و يقطع أوصالي و يسكن مساكني

 

===============

(623)

أعدائي قالوا أيها الملك إنما نمنعك من الناس و السباع و الهوام و دواب الأرض فأما البلى فلا طاقة لنا به و لا قوة لنا عليه و لا امتناع لنا منه فقال فهل من حيلة في دفع ذلك عني قالوا لا قال فشي‏ء دون ذلك تطيقونه قالوا و ما هو قال الأوجاع و الأحزان و الهموم قالوا أيها الملك إنما قد قدر هذه الأشياء قوي لطيف و ذلك يثور من الجسم و النفس و هو يصل إليك إذا لم يوصل و لا يحجب عنك و إن حجب قال فأمر دون ذلك قالوا و ما هو قال ما قد سبق من القضاء قالوا أيها الملك و من ذا غالب القضاء فلم يغلب و من ذا كابره فلم يقهر قال فما ذا عندكم قالوا ما نقدر على دفع القضاء و قد أصبت التوفيق و التسديد فما ذا الذي تريد قال أريد أصحابا يدوم عهدهم و يفوا لي و تبقى لي إخوتهم و لا يحجبهم عني الموت و لا يمنعهم البلى عن صحبتي و لا يستحيل بهم الامتناع عن صحبتي و لا يفردوني إن مت و لا يسلموني إن عشت و يدفعون عني ما عجزتم عنه من أمر الموت. قالوا أيها الملك و من هؤلاء الذين وصفت قال هم الذين أفسدتهم باستصلاحكم قالوا أيها الملك أ فلا تصطنع عندنا و عندهم معروفا فإن أخلاقك تامة و رأفتك عظيمة قال إن في صحبتكم إياي السم القاتل و الصمم و العمى في طاعتكم و البكم من موافقتكم قالوا كيف ذاك أيها الملك قال صارت صحبتكم إياي في الاستكثار و موافقتكم على الجمع و طاعتكم إياي في الاغتفال فبطأتموني عن المعاد و زينتم لي الدنيا و لو نصحتموني ذكرتموني الموت و لو أشفقتم علي ذكرتموني البلى و جمعتم لي ما يبقى و لم تستكثروا لي ما يفنى فإن تلك المنفعة التي ادعيتموها ضرر و تلك المودة عداوة و قد رددتها عليكم لا حاجة لي فيها منكم.

 

===============

(624)

قالوا أيها الملك الحكيم المحمود قد فهمنا مقالتك و في أنفسنا إجابتك و ليس لنا أن نحتج عليك فقد رأينا مكان الحجة فسكوتنا عن حجتنا فساد لملكنا و هلاك لدنيانا و شماتة لعدونا و قد نزل بنا أمر عظيم بالذي تبدل من رأيك و أجمع عليه أمرك قال قولوا آمنين و اذكروا ما بدا لكم غير مرعوبين فإني كنت إلى اليوم مغلوبا بالحمية و الأنفة و أنا اليوم غالب لهما و كنت إلى اليوم مقهورا لهما و أنا اليوم قاهر لهما و كنت إلى اليوم ملكا عليكم فقد صرت عليكم مملوكا و أنا اليوم عتيق و أنتم من مملكتي طلقاء قالوا أيها الملك ما الذي كنت له مملوكا إذ كنت علينا ملكا قال كنت مملوكا لهواي مقهورا بالجهل مستعبدا لشهواتي فقد قطعت تلك الطاعة عني و نبذتها خلف ظهري قالوا فقل ما أجمعت عليه أيها الملك قال القنوع و التخلي لآخرتي و ترك هذا الغرور و نبذ هذا الثقل عن ظهري و الاستعداد للموت و التأهب للبلاء فإن رسوله عندي قد ذكر أنه قد أمر بملازمتي و الإقامة معي حتى يأتيني الموت فقالوا أيها الملك و من هذا الرسول الذي قد أتاك و لم نره و هو مقدمة الموت الذي لا نعرفه قال أما الرسول فهذا البياض الذي يلوح بين السواد و قد صاح في جميعه بالزوال فأجابوا و أذعنوا و أما مقدمة الموت فالبلى الذي هذا البياض طرقه. قالوا أيها الملك أ فتدع مملكتك و تهمل رعيتك و كيف لا تخاف الإثم في تعطيل أمتك أ لست تعلم أن أعظم الأجر في استصلاح الناس و أن رأس الصلاح الطاعة للأمة و الجماعة فكيف لا تخاف من الإثم و في هلاك العامة من الإثم فوق الذي ترجو من الأجر في صلاح الخاصة أ لست تعلم أن أفضل العبادة العمل و أن أشد العمل السياسة فإنك أيها الملك ما في يديك عدل على رعيتك مستصلح لها بتدبيرك فإن لك من الأجر بقدر ما استصلحت أ لست أيها الملك إذا خليت ما في يديك من صلاح أمتك فقد أردت فسادهم فقد حملت من الإثم فيهم أعظم مما أنت مصيب من الأجر في خاصة يديك. أ لست أيها الملك قد علمت أن العلماء قالوا من أتلف نفسا فقد استوجب

 

===============

(625)

لنفسه الفساد و من أصلحها فقد استوجب الصلاح لبدنه و أي فساد أعظم من رفض هذه الرعية التي أنت إمامها و الإقامة في هذه الأمة التي أنت نظامها حاشا لك أيها الملك أن تخلع عنك لباس الملك الذي هو الوسيلة إلى شرف الدنيا و الآخرة قال قد فهمت الذي ذكرتم و عقلت الذي وصفتم فإن كنت إنما أطلب الملك عليكم للعدل فيكم و الأجر من الله تعالى ذكره في استصلاحكم بغير أعوان يرفدونني و وزراء يكفونني فما عسيت أن أبلغ بالوحدة فيكم أ لستم جميعا نزعا إلى الدنيا و شهواتها و لذاتها و لا آمن أن أخلد إلى الحال التي أرجو أن أدعها و أرفضها فإن فعلت ذلك أتاني الموت على غرة فأنزلني عن سرير ملكي إلى بطن الأرض و كساني التراب بعد الديباج و المنسوج بالذهب و نفيس الجوهر و ضمني إلى الضيق بعد السعة و ألبسني الهوان بعد الكرامة فأصير فريدا بنفسي ليس معي أحد منكم في الوحدة قد أخرجتموني من العمران و أسلمتموني إلى الخراب و خليتم بين لحمي و بين سباع الطير و حشرات الأرض فأكلت مني النملة فما فوقها من الهوام و صار جسدي دودا و جيفة قذرة الذل لي حليف و العز مني غريب أشدكم حبا لي أسرعكم إلى دفني و التخلية بيني و بين ما قدمت من عملي و أسلفت من ذنوبي فيورثني ذلك الحسرة و يعقبني الندامة و قد كنتم وعدتموني أن تمنعوني من عدوي الضار فإذا أنتم لا منع عندكم و لا قوة على ذلك لكم و لا سبيل أيها الملأ إني محتال لنفسي إذ جئتم بالخداع و نصبتم لي شراك الغرور. فقالوا أيها الملك المحمود لسنا الذي كنا كما أنك لست الذي كنت و قد أبدلنا الذي أبدلك و غيرنا الذي غيرك فلا ترد علينا توبتنا و بذل نصيحتنا قال أنا مقيم فيكم ما فعلتم ذلك و مفارقكم إذا خالفتموه فأقام ذلك الملك في ملكه و أخذ جنوده بسيرته و اجتهدوا في العبادة فخصب بلادهم و غلبوا عدوهم و ازداد ملكهم حتى هلك ذلك الملك و قد صار فيهم بهذه السيرة اثنتين و ثلاثين سنة و كان جميع ما عاش أربعا و ستين سنة.

 

===============

(626)

قال يوذاسف قد سررت بهذا الحديث جدا فزدني من نحوه أزدد سرورا و لربي شكرا. قال الحكيم زعموا أنه كان ملك من الملوك الصالحين و كان له جنود يخشون الله عز و جل و يعبدونه و كان في ملك أبيه شدة من زمانهم و التفرق فيما بينهم و ينقص العدو من بلادهم و كان يحثهم على تقوى الله عز و جل و خشيته و الاستعانة به و مراقبته و الفزع إليه فلما ملك ذلك الملك قهر عدوه و استجمعت رعيته و صلحت بلاده و انتظم له الملك فلما رأى ما فضل الله عز و جل به أترفه ذلك و أبطره و أطغاه حتى ترك عبادة الله عز و جل و كفر نعمه و أسرع في قتل من عبد الله و دام ملكه و طالت مدته حتى ذهل الناس عما كانوا عليه من الحق قبل ملكه و نشوه و أطاعوه فيما أمرهم به و أسرعوا إلى الضلالة فلم يزل على ذلك فنشأ فيه الأولاد و صار لا يعبد الله عز و جل فيهم و لا يذكر بينهم اسمه و لا يحسبون أن لهم إلها غير الملك و كان ابن الملك قد عاهد الله عز و جل في حياة أبيه إن هو ملك يوما أن يعمل بطاعة الله عز و جل بأمر لم يكن من قبله من الملوك يعملون به و لا يستطيعونه فلما ملك أنساه الملك رأيه الأول و نيته التي كان عليها و سكر سكر صاحب الخمر فلم يكن يصحو و يفيق و كان من أهل لطف الملك رجل صالح أفضل أصحابه منزلة عنده فتوجع له مما رأى من ضلالته في دينه و نسيانه ما عاهد الله عليه و كان كلما أراد أن يعظه ذكر عتوه و جبروته و لم يكن بقي من تلك الأمة غيره و غير رجل آخر في ناحية أرض الملك لا يعرف مكانه و لا يدعى باسمه فدخل ذات يوم على الملك بجمجمة قد لفها في ثيابه فلما جلس عن يمين الملك انتزعها عن ثيابه فوضعها بين يديه ثم وطئها برجله فلم يزل يفركها بين يدي الملك و على بساطه حتى دنس مجلس الملك بما تحات من تلك الجمجمة فلما رأى الملك ما صنع غضب من ذلك غضبا شديدا و شخصت إليه أبصار جلسائه و استعدت الحرس بأسيافهم

 

===============

(627)

انتظارا لأمره إياهم بقتله و الملك في ذلك مالك لغضبه و قد كانت الملوك في ذلك الزمان على جبروتهم و كفرهم ذوي أناة و تؤدة استصلاحا للرعية على عمارة أرضهم ليكون ذلك أعون للجلب و أدى للخراج فلم يزل الملك ساكتا على ذلك حتى قام من عنده فلف تلك الجمجمة ثم فعل ذلك في اليوم الثاني و الثالث فلما رأى أن الملك لا يسأله عن تلك الجمجمة و لا يستنطقه عن شي‏ء من شأنها أدخل مع تلك الجمجمة ميزانا و قليلا من تراب فلما صنع بالجمجمة ما كان يصنع أخذ الميزان و جعل في إحدى كفتيه درهما و في الأخرى بوزنه ترابا ثم جعل ذلك التراب في عين تلك الجمجمة ثم أخذ قبضة من التراب فوضعها في موضع الفم من تلك الجمجمة. فلما رأى الملك ما صنع قل صبره و بلغ مجهوده فقال لذلك الرجل قد علمت أنك إنما اجترأت على ما صنعت لمكانك مني و إدلالك علي و فضل منزلتك عندي و لعلك تريد بما صنعت أمرا فخر الرجل للملك ساجدا و قبل قدميه و قال أيها الملك أقبل علي بعقلك كله فإن مثل الكلمة مثل السهم إذا رمي به في أرض لينة ثبت فيها و إذا رمي به في الصفا لم يثبت و مثل الكلمة كمثل المطر إذا أصاب أرضا طيبة مزروعة نبت فيها و إذا أصاب السباخ لم ينبت و إن أهواء الناس متفرقة و العقل و الهوى يصطرعان في القلب فإن غلب هوى العقل عمل الرجل بالطيش و السفه و إن كان الهوى هو المغلوب لم يوجد في أمر الرجل سقطة فإني لم أزل منذ كنت غلاما أحب العلم و أرغب فيه و أوثره على الأمور كلها فلم أدع علما إلا بلغت منه أفضل مبلغ فبينا أنا ذات يوم أطوف بين القبور إذ قد بصرت بهذه الجمجمة بارزة من قبور الملوك فغاظني موقعها و فراقها جسدها غضبا للملوك فضممتها إلي و حملتها إلى منزلي فألبستها الديباج و نضحتها بماء الورد و الطيب و وضعتها على الفرش و قلت إن كانت من جماجم الملوك فسيؤثر فيها إكرامي إياها و ترجع إلى جمالها و بهائها و إن كانت من جماجم المساكين فإن الكرامة لا تزيدها شيئا ففعلت ذلك بها أياما فلم أستنكر من هيئتها شيئا فلما رأيت ذلك دعوت عبدا هو أهون عبيدي عندي فأهانها

 

===============

(628)

فإذا هي على حالة واحدة عند الإهانة و الإكرام فلما رأيت ذلك أتيت الحكماء فسألتهم عنها فلم أجد عندهم علما بها ثم علمت أن الملك منتهى العلم و مأوى الحلم فأتيتك خائفا على نفسي و لم يكن لي أن أسألك عن شي‏ء حتى تبدأني به و أحب أن تخبرني أيها الملك أ جمجمة ملك هي أم جمجمة مسكين فإنها لما أعياني أمرها تفكرت في أمرها و في عينها التي كانت لا يملؤها شي‏ء حتى لو قدرت على ما دون السماء من شي‏ء تطلعت إلى أن تتناول ما فوق السماء فذهبت أنظر ما الذي يسدها و يملؤها فإذا وزن درهم من تراب قد سدها و ملأها و نظرت إلى فيها الذي لم يكن يملؤه شي‏ء فملأته قبضة من تراب فإن أخبرتني أيها الملك أنها جمجمة مسكين احتججت عليك بأني قد وجدتها وسط قبور الملوك ثم اجمع جماجم ملوك و جماجم مساكين فإن كان لجماجمكم عليها فضل فهو كما قلت و إن أخبرتني بأنها من جماجم الملوك أنبأتك أن ذلك الملك الذي كانت هذه جمجمته قد كان من بهاء الملك و جماله و عزته في مثل ما أنت فيه اليوم فحاشاك أيها الملك أن تصير إلى حال هذه الجمجمة فتوطأ بالأقدام و تخلط بالتراب و يأكلك الدود و تصبح بعد الكثرة قليلا و بعد العزة ذليلا و تسعك حفرة طولها أدنى من أربعة أذرع و يورث ملكك و ينقطع ذكرك و يفسد صنائعك و يهان من أكرمت و يكرم من أهنت و تستبشر أعداؤك و يضل أعوانك و يحول التراب دونك فإن دعوناك لم تسمع و إن أكرمناك لم تقبل و إن أهناك لم تغضب فيصير بنوك يتامى و نساؤك أيامى و أهلك يوشك أن يستبدلن أزواجا غيرك. فلما سمع الملك ذلك فزع قلبه و انسكبت عيناه يبكي و يعول و يدعو بالويل فلما رأى الرجل ذلك علم أن قوله قد استمكن من الملك و قوله قد أنجع فيه زاده ذلك جرأة عليه و تكريرا لما قال فقال له الملك جزاك الله عني خيرا و جزى من حولي من العظماء شرا لعمري لقد علمت ما أردت بمقالتك هذه و قد أبصرت

 

===============

(629)

أمري فسمع الناس خبره فتوجهوا أهل الفضل نحوه و ختم له بالخير و بقي عليه إلى أن فارق الدنيا. قال ابن الملك زدني من هذا المثل قال الحكيم زعموا أن ملكا كان في أول الزمان و كان حريصا على أن يولد له و كان لا يدع شيئا مما يعالج به الناس أنفسهم إلا أتاه و صنعه فلما طال ذلك من أمره حملت امرأة له من نسائه فولدت له غلاما فلما نشأ و ترعرع خطا ذات يوم خطوة فقال معادكم تجفون ثم خطا أخرى فقال تهرمون ثم خطا الثالثة فقال ثم تموتون ثم عاد كهيئته يفعل كما يفعل الصبي. فدعا الملك العلماء و المنجمين فقال أخبروني خبر ابني هذا فنظروا في شأنه و أمره فأعياهم أمره فلم يكن عندهم فيه علم فلما رأى الملك أنه ليس عندهم فيه علم دفعه إلى المرضعات فأخذن في إرضاعه إلا أن منجما منهم قال إنه سيكون إماما و جعل عليه حراسا لا يفارقونه حتى إذا شب انسل يوما من عند مرضعيه و الحرس فأتى السوق فإذا هو بجنازة فقال ما هذا قالوا إنسانا مات قال ما أماته قالوا كبر و فنيت أيامه و دنا أجله فمات قال و كان صحيحا حيا يمشي و يأكل و يشرب قالوا نعم ثم مضى فإذا هو برجل شيخ كبير فقام ينظر إليه متعجبا منه فقال ما هذا قالوا رجل شيخ كبير قد فنى شبابه و كبر قال و كان صغيرا ثم شاب قالوا نعم ثم مضى فإذا هو برجل مريض مستلقى على ظهره فقام ينظر إليه و يتعجب منه فسألهم ما هذا قالوا رجل مريض فقال أ و كان هذا صحيحا ثم مرض قالوا نعم قال و الله لئن كنتم صادقين فإن الناس لمجنونون. فافتقد الغلام عند ذلك فطلب فإذا هو بالسوق فأتوه فأخذوه و ذهبوا به فأدخلوه البيت فلما دخل البيت استلقى على قفاه ينظر إلى خشب سقف البيت و يقول كيف كان هذا قالوا كانت شجرة ثم صارت خشبا ثم قطع ثم بني هذا البيت ثم

 

===============

(630)

جعل هذا الخشب عليه فبينا هو في كلامه إذ أرسل الملك إلى الموكلين به انظروا هل يتكلم أو يقول شيئا قالوا نعم و قد وقع في كلام ما نظنه إلا وسواسا فلما رأى الملك ذلك و سمع جميع ما لفظ به الغلام دعا العلماء فسألهم فلم يجد فيه عندهم علما إلا الرجل الأول فأنكر قوله فقال بعضهم أيها الملك لو زوجته ذهب عنه الذي ترى و أقبل و عقل و أبصر فبعث الملك في الأرض يطلب و يلتمس له امرأة فوجدت له امرأة من أحسن الناس و أجملهم فزوجها منه فلما أخذوا في وليمة عرسه أخذ اللاعبون يلعبون و الزمارون يزمرون فلما سمع الغلام جلبتهم و أصواتهم قال ما هذا قالوا هؤلاء لعابون و زمارون جمعوا لعرسك فسكت الغلام فلما فرغوا من العرس و أمسوا دعا الملك امرأة ابنه فقال لها إنه لم يكن لي ولد غير هذا الغلام فإذا دخلت عليه فالطفي به و اقربي منه و تحببي إليه فلما دخلت المرأة عليه أخذت تدنو منه و تتقرب إليه فقال الغلام على رسلك فإن الليل طويل بارك الله فيك و اصبري حتى نأكل و نشرب فدعا بالطعام فجعل يأكل فلما فرغ جعلت المرأة تشرب فلما أخذ الشراب منها نامت. فقام الغلام فخرج من البيت و انسل من الحرس و البوابين حتى خرج و تردد في المدينة فلقيه غلام مثله من أهل المدينة فاتبعه و ألقى ابن الملك عنه تلك الثياب التي كانت عليه و لبس ثياب الغلام و تنكر جهده و خرجا جميعا من المدينة فسارا ليلتهما حتى إذا قرب الصبح خشيا الطلب فكمنا فأتيت الجارية عند الصبح فوجدوها نائمة فسألوها أين زوجك قالت كان عندي الساعة فطلب الغلام فلم يقدر عليه فلما أمسى الغلام و صاحبه سارا ثم جعلا يسيران الليل و يكمنان النهار حتى خرجا من سلطان أبيه و وقعا في ملك سلطان آخر. و قد كان لذلك الملك الذي صارا إلى سلطانه ابنة قد جعل لها أن لا يزوجها

 

===============

(631)

أحدا إلا من هويته و رضيته و بنى لها غرفة عالية مشرفة على الطريق فهي فيها جالسة تنظر إلى كل من أقبل و أدبر فبينما هي كذلك إذ نظرت إلى الغلام يطوف في السوق و صاحبه معه في خلقانه فأرسلت إلى أبيها إني قد هويت رجلا فإن كنت مزوجي أحدا من الناس فزوجني منه و أتيت أم الجارية فقيل لها إن ابنتك قد هويت رجلا و هي تقول كذا و كذا فأقبلت إليها فرحة حتى تنظر إلى الغلام فأروها إياه فنزلت أمها مسرعة حتى دخلت على الملك فقالت إن ابنتك قد هويت رجلا فأقبل الملك ينظر إليه ثم قال أرونيه فأروه من بعد فأمر أن يلبس ثيابا أخرى و نزل فسأله و استنطقه و قال من أنت و من أين أنت قال الغلام و ما سؤالك عني أنا رجل من مساكين الناس فقال إنك لغريب و ما يشبه لونك ألوان أهل هذه المدينة فقال الغلام ما أنا بغريب فعالجه الملك أن يصدقه قصته فأبى فأمر الملك أناسا أن يحرسوه و ينظروا أين يأخذ و لا يعلم بهم ثم رجع الملك إلى أهله فقال رأيت رجلا كأنه ابن ملك و ما له حاجة فيما تراودونه عليه فبعث إليه فقيل له إن الملك يدعوك فقال الغلام و ما أنا و الملك يدعوني و ما لي إليه حاجة و ما يدري من أنا فانطلق به على كره منه حتى دخل على الملك فأمر بكرسي فوضع له فجلس عليه و دعي الملك امرأته و ابنته فأجلسهما من وراء الحجاب خلفه فقال له الملك دعوتك لخير إن لي ابنة قد رغبت فيك أريد أن أزوجها منك فإن كنت مسكينا فأغنيناك و رفعناك و شرفناك قال الغلام ما لي فيما تدعوني إليه حاجة فإن شئت ضربت لك مثلا أيها الملك قال فافعل. قال الغلام زعموا أن ملكا من الملوك كان له ابن و كان لابنه أصدقاء صنعوا له طعاما و دعوه إليه فخرج معهم فأكلوا و شربوا حتى سكروا فناموا فاستيقظ ابن الملك في وسط الليل فذكر أهله فخرج عامدا إلى منزله و لم يوقظ أحدا منهم فبينا هو في مسيره إذ بلغ منه الشراب فبصر بقبر على الطريق فظن أنه مدخل بيته فدخله فإذا هو بريح الموتى فحسب ذلك لما كان به السكر أنه رياح طيبة فإذا هو بعظام لا يحسبها إلا فرشه الممهدة فإذا هو بجسد قد مات حديثا و قد أروح فحسبه أهله فقام إلى جانبه

 

===============

(632)

فاعتنقه و قبله و جعل يعبث به عامة ليله فأفاق حين أفاق و نظر حين نظر فإذا هو على جسد ميت و ريح منتنة قد دنس ثيابه و جلده و نظر إلى القبر و ما فيه من الموتى فخرج و به من السوء ما يختفى به من الناس أن ينظروا إليه متوجها إلى باب المدينة فوجده مفتوحا فدخله حتى أتى أهله فرأى أنه قد أنعم عليه حيث لم يلقه أحد فألقى عنه ثيابه تلك و اغتسل و لبس لباسا أخرى و تطيب. عمرك الله أيها الملك أ تراه راجعا إلى ما كان فيه و هو يستطيع قال لا قال فإني أنا هو فالتفت الملك إلى امرأته و ابنته و قال لهما قد أخبرتكما أنه ليس له فيما تدعونه رغبة قالت أمها لقد قصرت في النعت لابنتي و الوصف لها أيها الملك و لكني خارجة إليه و مكلمة له فقال الملك للغلام إن امرأتي تريد أن تكلمك و تخرج إليك و لم تخرج إلى أحد قبلك فقال الغلام لتخرج إن أحبت فخرجت و جلست فقالت للغلام تعال إلى ما قد ساق الله إليك من الخير و الرزق فأزوجك ابنتي فإنك لو قد رأيتها و ما قسم الله عز و جل لها من الجمال و الهيئة لاغتبطت فنظر الغلام إلى الملك فقال أ فلا أضرب لك مثلا قال بلى. قال إن سراقا تواعدوا أن يدخلوا خزانة الملك ليسرقوا فنقبوا حائط الخزانة فدخلوها فنظروا إلى متاع لم يروا مثله قط و إذا هم بقلة من ذهب مختومة بالذهب فقالوا لا نجد شيئا أعلى من هذه القلة هي ذهب مختومة بالذهب و الذي فيها أفضل من الذي رأينا فاحتملوها و مضوا بها حتى دخلوا غيضة لا يأمن بعضهم بعضا عليها ففتحوها فإذا في وسطها أفاع فوثبن في وجوههم فقتلتهم أجمعين. عمرك الله أيها الملك أ فترى أحدا علم بما أصابهم و ما لقوه يدخل يده في تلك القلة و فيها من الأفاعي قال لا قال فإني أنا هو فقالت الجارية لأبيها ائذن لي فأخرج إليه بنفسي و أكلمه فإنه لو قد نظر إلي و إلى جمالي و حسني و هيئتي و ما قسم الله عز و جل لي من الجمال لم يتمالك أن يجيب فقال الملك للغلام إن ابنتي تريد أن تخرج إليك و لم تخرج إلى رجل قط قال لتخرج إن أحبت فخرجت عليه و هي أحسن الناس وجها و قدا و طرفا و هيكلا فسلمت على الغلام و قالت للغلام هل

 

===============

(633)

رأيت مثلي قط أو أتم أو أجمل أو أكمل أو أحسن و قد هويتك و أحببتك فنظر الغلام إلى الملك فقال أ فلا أضرب لها مثلا قال بلى قال الغلام زعموا أيها الملك أن ملكا له ابنان فأسر أحدهما ملك آخر فحبسه في بيت و أمر أن لا يمر عليه أحد إلا رماه بحجر فمكث على ذلك حينا ثم إن أخاه قال لأبيه ائذن لي فأنطلق إلى أخي فأفديه و أحتال له قال الملك فانطلق و خذ معك ما شئت من مال و متاع و دواب فاحتمل معه الزاد و الراحلة و انطلق معه المغنيات و النوائح فلما دنا من مدينة ذلك الملك أخبر الملك بقدومه فأمر الناس بالخروج إليه و أمر له بمنزل خارج من المدينة فنزل الغلام في ذلك المنزل فلما جلس فيه و نشر متاعه و أمر غلمانه أن يبيعوا الناس و يساهلوهم في بيعهم و يسامحوهم ففعلوا ذلك فلما رأى الناس قد شغلوا بالبيع انسل و دخل المدينة و قد علم أين سجن أخيه ثم أتى السجن فأخذ حصاة فرمى بها لينظر ما بقي من نفس أخيه فصاح حين أصابته الحصاة و قال قتلتني ففزع الحرس عند ذلك و خرجوا إليه و سألوه لم صحت و ما شأنك و ما بدا لك و ما رأيناك تكلمت و نحن نعذبك منذ حين و يضربك و يرميك كل من يمر بك بحجر و رماك هذا الرجل بحصاة فصحت منها فقال إن الناس كانوا من أمري على جهالة و رماني هذا على علم فانصرف أخوه راجعا إلى منزله و متاعه و قال للناس إذا كان غدا فأتوني أنشر عليكم بزا و متاعا لم تروا مثله قط فانصرفوا يومئذ حتى إذا كان من الغد غدوا عليه بأجمعهم فأمر بالبز فنشروا و أمر بالمغنيات و النائحات و كل صنف معه مما يلهي به الناس فأخذوا في شأنهم فاشتغل الناس فأتى أخاه فقطع عنه أغلاله و قال أنا أداويك فاختلسه و أخرجه من المدينة فجعل على جراحاته دواء كان معه حتى إذا وجد راحة أقامه على الطريق ثم قال له انطلق فإنك ستجد سفينة قد سيرت لك في البحر فانطلق سائرا فوقع في جب فيه تنين و على الجب شجرة نابتة فنظر إلى الشجرة فإذا على رأسها اثنا عشر غولا و في أسفلها اثنا عشر سيفا و تلك السيوف مسلولة معلقة فلم يزل يتحمل و يحتال حتى أخذ بغصن من الشجرة فتعلق به و تخلص و سار حتى أتى البحر فوجد سفينة قد أعدت له إلى جانب

 

===============

(634)

الساحل فركب فيها حتى أتوا به أهله. عمرك الله أيها الملك أ تراه عائدا إلى ما قد عاين و لقي قال لا قال فإني أنا هو فيئسوا منه فجاء الغلام الذي صحبه من المدينة فساره و قال اذكرني لها و أنكحنيها فقال الغلام للملك إن هذا يقول إني أحب الملك أن ينكحنيها فقال لا أفعل قال أ فلا أضرب لك مثلا قال بلى. قال إن رجلا كان في قوم فركبوا سفينة فساروا في البحر ليالي و أياما ثم انكسرت سفينتهم بقرب جزيرة في البحر فيها الغيلان فغرقوا كلهم سواه و ألقاه البحر إلى الجزيرة و كانت الغيلان يشرفن من الجزيرة إلى البحر فأتى غولا فهويها و نكحها حتى إذا كان مع الصبح قتلته و قسمت أعضاءه بين صواحباتها و اتفق مثل ذلك لرجل آخر فأخذته ابنة ملك الغيلان فانطلقت به فبات معها ينكحها و قد علم الرجل ما لقي من كان قبله فليس ينام حذرا حتى إذا كان مع الصبح نامت الغول فانسل الرجل حتى أتى الساحل فإذا هو بسفينة فنادى أهلها و استغاث بهم فحملوه حتى أتوا به أهله فأصبحت الغيلان فأتوا الغولة التي باتت معه فقالوا لها أين الرجل الذي بات معك قالت إنه قد فر مني فكذبوها و قالوا أكلتيه و استأثرتي به علينا فلنقتلنك إن لم تأتنا به فمرت في الماء حتى أتته في منزله و رحله فدخلت عليه و جلست عنده و قالت له ما لقيت في سفرك هذا قال لقيت بلاء خلصني الله منه و قص عليها ذلك فقالت و قد تخلصت قال نعم فقالت أنا الغولة و جئت لآخذك فقال لها أنشدك الله أن تهلكيني فإني أدلك على مكان رجل قالت إني أرحمك فانطلقا حتى إذا دخلا على الملك قالت اسمع منا أصلح الله الملك إني تزوجت بهذا الرجل و هو من أحب الناس إلي ثم إنه كرهني و كره صحبتي فانظر في أمرنا فلما رآها الملك أعجبه جمالها فخلا بالرجل فساره و قال له إني قد أحببت أن تتركها فأتزوجها قال نعم أصلح الله الملك ما تصلح إلا لك فتزوج بها الملك و بات معها حتى إذا كانت مع السحر ذبحته و قطعت أعضاءه و حملته إلى صواحباتها أ فترى أيها الملك أحدا يعلم بهذا ثم ينطلق إليه قال لا قال الخاطب للغلام فإني لا أفارقك و لا حاجة

 

===============

(635)

لي فيما أردت. فخرجا من عند الملك يعبدان الله جل جلاله و يسيحان في الأرض فهدى الله عز و جل بهما أناسا كثيرا و بلغ شأن الغلام و ارتفع ذكره في الآفاق فذكر والده و قال لو بعثت إليه فاستنقذته مما هو فيه فبعث إليه رسولا فأتاه فقال له إن ابنك يقرئك السلام و قص عليه خبره و أمره فأتاه والده و أهله فاستنقذهم مما كانوا فيه. ثم إن بلوهر رجع إلى منزله و اختلف إلى يوذاسف أياما حتى عرف أنه قد فتح له الباب و دله على سبيل الصواب ثم تحول من تلك البلاد إلى غيرها و بقي يوذاسف حزينا مغتما فمكث بذلك حتى بلغ وقت خروجه إلى النساك لينادي بالحق و يدعو إليه أرسل الله عز و جل ملكا من الملائكة فلما رأى منه خلوة ظهر له و قام بين يديه ثم قال له لك الخير و السلامة أنت إنسان بين البهائم الظالمين الفاسقين من الجهال أتيتك بالتحية من الحق و إله الخلق بعثني إليك لأبشرك و أذكر لك ما غاب عنك من أمور دنياك و آخرتك فاقبل بشارتي و مشورتي و لا تغفل عن قولي اخلع عنك الدنيا و انبذ عنك شهواتها و ازهد في الملك الزائل و السلطان الفاني الذي لا يدوم و عاقبته الندم و الحسرة و اطلب الملك الذي لا يزول و الفرح الذي لا ينقضي و الراحة التي لا يتغير و كن صديقا مقسطا فإنك تكون إمام الناس تدعوهم إلى الجنة. فلما سمع يوذاسف كلامه خر بين يدي الله عز و جل ساجدا و قال إني لأمر الله تعالى مطيع و إلى وصيته منته فمرني بأمرك فإني لك حامد و لمن بعثك إلي شاكر فإنه رحمني و رءوف بي و لم يرفضني بين الأعداء فإني كنت بالذي أتيتني به مهتما قال الملك إني أرجع إليك بعد أيام ثم أخرجك فتهيأ لذلك و لا تغفل عنه فوطن يوذاسف نفسه على الخروج و جعل همته كله فيه و لم يطلع على ذلك أحدا حتى إذا جاء وقت خروجه أتاه الملك في جوف الليل و الناس نيام فقال

 

===============

(636)

له قم فاخرج و لا تؤخر ذلك فقام و لم يفش سره إلى أحد من الناس غير وزيره فبينا هو يريد الركوب إذا أتاه رجل شاب جميل كان قد ملكهم بلاده فسجد له. و قال أين تذهب يا ابن الملك و قد أصابنا العسر أيها المصلح الحكيم الكامل و تتركنا له و تترك ملكك و بلادك أقم عندنا فإنا كنا منذ ولدت في رخاء و كرامة و لم تنزل بنا عاهة و لا مكروه فسكته يوذاسف و قال له امكث أنت في بلادك و دار أهل مملكتك فأما أنا فذاهب حيث بعثت و عامل ما أمرت به فإن أنت أعنتني كان لك في عملي نصيبا. ثم إنه ركب فسار ما قضى الله له أن يسير ثم إنه نزل عن فرسه و وزيره يقود فرسه و يبكي أشد البكاء و يقول ليوذاسف بأي وجه أستقبل أبويك و بما أجيبهما عنك و بأي عذاب أو موت يقتلاني و أنت كيف تطيق العسر و الأذى الذي لم تتعوده و كيف لا تستوحش و أنت لم تكن وحدك يوما قط و جسدك كيف تحمل الجوع و الظمأ و التقلب على الأرض و التراب فسكته و عزاه و وهب له فرسه و المنطقة فجعل يقبل قدميه و يقول لا تدعني وراءك يا سيدي اذهب بي معك حيث خرجت فإنه لا كرامة لي بعدك و إنك إن تركتني و لم تذهب بي معك أخرج في الصحراء و لم أدخل مسكنا فيه إنسان أبدا فسكته أيضا و عزاه و قال لا تجعل في نفسك إلا خيرا فإني باعث إلى الملك و موصيه فيك أن يكرمك و يحسن إليك. ثم نزع عنه لباس الملك و دفعه إلى وزيره و قال له البس ثيابي و أعطاه الياقوتة التي كان يجعلها في رأسه و قال له انطلق بها معك و فرسي و إذا أتيته فاسجد له و أعطه هذه الياقوتة و أقرئه السلام ثم الأشراف و قل لهم إني لما نظرت فيما بين الباقي و الزائل رغبت في الباقي و زهدت في الزائل و لما استبان لي أصلي و حسبي و فصلت بينهما و بين الأعداء و الأقرباء رفضت الأعداء و الأقرباء و انقطعت

 

===============

(637)

إلى أصلي و حسبي فأما والدي فإنه إذا أبصر الياقوتة طابت نفسه فإذا أبصر كسوتي عليك ذكرني و ذكر حبي لك و مودتي إياك فمنعه ذلك أن يأتي إليك مكروها. ثم رجع وزيره و تقدم يوذاسف أمامه يمشي حتى بلغ فضاء واسعا فرفع رأسه فرأى شجرة عظيمة على عين من ماء أحسن ما يكون من الشجر و أكثرها فرعا و غصنا و أحلاها ثمرا و قد اجتمع إليها من الطير ما لا يعد كثرة فسر بذلك المنظر و فرح به و تقدم إليه حتى دنا منه و جعل يعبره في نفسه و يفسره فشبه الشجر بالبشرى التي دعا إليها و عين الماء بالحكمة و العلم و الطير بالناس الذين يجتمعون إليه و يقبلون منه الدين فبينا هو قائم إذا أتاه أربعة من الملائكة ع يمشون بين يديه فاتبع آثارهم حتى رفعوه في جو السماء و أوتي من العلم و الحكمة ما عرف به الأولى و الوسطى و الأخرى و الذي هو كائن ثم أنزلوه إلى الأرض و قرنوا معه قرينا من الملائكة الأربعة فمكث في تلك البلاد حينا ثم إنه أتى أرض سولابط فلما بلغ والده قدومه خرج يسير هو و الأشراف فأكرموه و قربوه و اجتمع إليه أهل بلده مع ذوي قرابته و حشمه و قعدوا بين يديه و سلموا عليه و كلمهم الكلام الكثير و فرش لهم الأساس و قال لهم اسمعوا إلي بأسماعكم و فرغوا إلي قلوبكم لاستماع حكمة الله عز و جل التي هي نور الأنفس و ثقوا بالعلم الذي هو الدليل على سبيل الرشاد و أيقظوا عقولكم و افهموا الفصل الذي بين الحق و الباطل و الضلال و الهدى و اعلموا أن هذا هو دين الحق الذي أنزله الله عز و جل على الأنبياء و الرسل ع و القرون الأولى فخصنا الله عز و جل به في هذا القرن برحمته بنا و رأفته و رحمته و تحننه علينا و فيه خلاص من نار جهنم إلا أنه لا ينال الإنسان ملكوت السماوات و لا يدخلها أحد إلا بالإيمان و عمل الخير فاجتهدوا فيه لتدركوا به الراحة الدائمة و الحياة التي لا تنقطع أبدا و من آمن منكم بالدين فلا يكونن إيمانه طمعا في الحياة و رجاء لملك الأرض و طلب مواهب الدنيا و ليكن إيمانكم بالدين طمعا في ملكوت السماوات و رجاء للخلاص و طلب النجاة من الضلالة و بلوغ الراحة

 

===============

(638)

و الفرج في الآخرة فإن ملك الأرض و سلطانها زائل و لذاتها منقطعة فمن اغتر بها هلك و افتضح لو قد وقف على ديان الدين الذي لا يدين إلا بالحق فإن الموت مقرون مع أجسادكم و هو يتراصد أرواحكم أن يكبكبها مع الأجساد. و اعلموا أنه كما أن الطير لا يقدر على الحياة و النجاة من الأعداء من اليوم إلى غد إلا بقوة من البصر و الجناحين و الرجلين فكذلك الإنسان لا يقدر على الحياة و النجاة إلا بالعمل و الإيمان و العمل الصالح و أفعال الخير الكاملة فتفكر أيها الملك أنت و الأشراف فيما تسمعون و افهموا و اعتبروا و اعبروا البحر ما دامت السفينة و اقطعوا المفازة ما دام الدليل و الظهر و الزاد و اسلكوا سبيلكم ما دام المصباح و أكثروا من كنوز البر مع النساك و شاركوهم في الخير و العمل الصالح و أصلحوا التبع و كونوا لهم أعوانا و مروهم بأعمالكم لينزلوا معكم ملكوت النور و اقبلوا النور و احتفظوا بفرائضكم و إياكم أن تتوثقوا إلى أماني الدنيا و شرب الخمور و شهوة النساء من كل ذميمة و قبيحة مهلكة للروح و الجسد و اتقوا الحمية و الغضب و العداوة و النميمة و ما لم ترضوه أن يؤتى إليكم فلا تأتوه إلى أحد و كونوا طاهري القلوب صادقي النيات لتكونوا على المنهاج إذا أتاكم الأجل. ثم انتقل من أرض سولابط و سار في بلاد و مدائن كثيرة حتى أتى أرضا تسمى قشمير فسار فيها و أحيا ميتها و مكث حتى أتاه الأجل الذي خلع الجسد و ارتفع إلى النور و دعا قبل موته تلميذا له اسمه أيابذ الذي كان يخدمه و يقوم عليه و كان رجلا كاملا في الأمور كلها و أوصى إليه و قال إنه قد دنا ارتفاعي عن الدنيا و احتفظوا بفرائضكم و لا تزيغوا عن الحق و خذوا بالتنسك ثم أمر أيابذ أن يبني له مكانا فبسط هو رجليه و هيأ رأسه إلى المغرب و وجهه إلى المشرق ثم قضى نحبه. قال مصنف هذا الكتاب ليس هذا الحديث و ما شاكله من أخبار المعمرين و غيرهم مما أعتمده في أمر الغيبة و وقوعها لأن الغيبة إنما

 

===============

(639)

صحت لي بما صح عن النبي ص و الأئمة ع من ذلك بالأخبار التي بمثلها صح الإسلام و شرائعه و أحكامه و لكني أرى الغيبة لكثير من أنبياء الله و رسله ص و لكثير من الحجج بعدهم ع و لكثير من الملوك الصالحين من قبل الله تبارك و تعالى و لا أجد لها منكرا من مخالفينا و جميعها في الصحة من طريق الرواية دون ما قد صح بالأخبار الكثيرة الواردة الصحيحة عن النبي و الأئمة ص في أمر القائم الثاني عشر من الأئمة ع و غيبته حتى يطول الأمد و تقسو القلوب و يقع اليأس من ظهوره ثم يطلعه الله و تشرق الأرض بنوره و يرتفع الظلم و الجور بعدله فليس في التكذيب بذلك مع الإقرار بنظائره إلا القصد إلى إطفاء نور الله و إبطال دينه و يأبى الله إلا أن يتم نوره و يعلي كلمته و يحق الحق و يبطل الباطل و لو كره المخالفون المكذبون بما وعد الله الصالحين على لسان خير النبيين صلوات الله عليه و على آله الطاهرين. و لإيرادي هذا الحديث و ما يشاكله في هذا الكتاب معنى آخر و هو أن جميع أهل الوفاق و الخلاف يميلون إلى مثله من الأحاديث فإذا ظفروا به من هذا الكتاب حرصوا على الوقوف على سائر ما فيه فهم بالوقوف عليه من بين منكر و ناظر و شاك و مقر فالمقر يزداد به بصيرة و المنكر تتأكد عليه من الله الحجة و الواقف الشاك يدعوه وقوفه بين الإقرار و الإنكار إلى البحث و التنقيب إلى أمر الغائب و غيبته فترجى له الهداية لأن الصحيح من الأمور لا يزيده البحث و التنقيب إلا تأكيدا كالذهب الذي كلما دخل النار ازداد صفاء و جودة. و قد غيب الله تبارك و تعالى اسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب و إذا سئل به أعطى في أوائل سور من القرآن.

 

===============

(640)

فقال عز و جل الم و المر و الر و المص و كهيعص و حم عسق و طسم و طس و يس و ما أشبه ذلك لعلتين إحداهما أن الكفار و المشركين كانت أعينهم في غطاء عن ذكر الله و هو النبي ص بدليل قوله عز و جل أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولًا و كانوا لا يستطيعون للقرآن سمعا فأنزل الله عز و جل أوائل سور منه اسم الأعظم بحروف مقطوعة هي من حروف كلامهم و لغتهم و لم تجر عادتهم بذكرها مقطوعة فلما سمعوها تعجبوا منها و قالوا نسمع ما بعدها تعجبا فاستمعوا إلى ما بعدها فتأكدت الحجة على المنكرين و ازداد أهل الإقرار به بصيرة و توقف الباقون شكاكا لا همة لهم إلا البحث عما شكوا فيه و في البحث الوصول إلى الحق و العلة الأخرى في إنزال أوائل هذه السور بالحروف المقطوعة ليخص بمعرفتها أهل العصمة و الطهارة فيقيمون بها الدلائل و يظهرون بها المعجزات و لو عم الله تعالى بمعرفتها جميع الناس لكان في ذلك ضد الحكمة و فساد التدبير و كان لا يؤمن من غير المعصوم أن يدعو بها على نبي مرسل أو مؤمن ممتحن ثم لا يجوز أن يقع الإجابة بها مع وعده و اتصافه بأنه لا يخلف الميعاد على أنه يجوز أن يعطي المعرفة ببعضها من يجعله عبرة لخلقه متى تعدى فيها حده كبلعم بن باعوراء حين أراد أن يدعو على كليم الله موسى بن عمران ع فأنسي ما كان أوتي من الاسم فانسلخ منها و ذلك قول الله عز و جل في كتابه وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ و إنما فعل عز و جل ذلك ليعلم الناس أنه ما اختص بالفضل إلا من علم أنه مستحق للفضل و أنه لو عم لجاز منهم وقوع ما وقع من بلعم.

 

===============

(641)

و إذا جاز أن يغيب الله عز و جل اسمه الأعظم في الحروف المقطوعة في كتابه الذي هو حجته و كلامه فكذلك جائز أن يغيب حجته في الناس عن عباده المؤمنين و غيرهم لعلمه عز و جل أنه متى أظهره وقع من أكثر الناس التعدي لحدود الله في شأنه فيستحقون بذلك القتل فإن قتلهم لم يجز و في أصلابهم مؤمنون و إن لم يقتلهم لم يجز و قد استحقوا القتل. فالحكمة للغيبة في مثل هذه الحالة موجبة فإذا تزيلوا و لم يبق في أصلابهم مؤمن أظهره الله عز و جل فخسف بأعدائه و أبادهم أ لا ترى المحصنة إذا زنت و هي حبلى لم ترجم حتى تضع ولدها و ترضعه إلا أن يتكفل برضاعه رجل من المسلمين فهذا سبيل من في صلبه مؤمن إذا وجب عليه القتل لم يقتل حتى يزايله و لا يعلم ذلك إلا من يكون حجة من قبل علام الغيوب و لهذا لا يقيم الحدود إلا هو و هذه هي العلة التي من أجلها ترك أمير المؤمنين ع مجاهدة أهل الخلاف خمسا و عشرين سنة بعد رسول الله ص.

 حدثنا جعفر بن محمد بن مسرور رضي الله عنه قال حدثنا الحسين بن محمد بن عامر عن عمه عبد الله بن عامر عن محمد بن أبي عمير عمن ذكره عن أبي عبد الله ع قال قلت له ما بال أمير المؤمنين ع لم يقاتل مخالفيه في الأول قال لآية في كتاب الله تعالى لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً قال قلت و ما يعني بتزايلهم قال ودائع مؤمنون في أصلاب قوم كافرين و كذلك القائم ع لم يظهر أبدا حتى تخرج ودائع الله عز و جل فإذا خرجت ظهر على من ظهر من أعداء الله عز و جل فقتلهم

 حدثنا المظفر بن جعفر بن المظفر العلوي رضي الله عنه قال

 

===============

(642)

حدثنا جعفر بن محمد بن مسعود عن أبيه عن علي بن محمد عن أحمد بن محمد عن الحسن بن محبوب عن إبراهيم الكرخي قال قلت لأبي عبد الله ع أو قال له رجل أصلحك الله أ لم يكن علي ع قويا في دين الله عز و جل قال بلى قال فكيف ظهر عليه القوم و كيف لم يدفعهم و ما يمنعه من ذلك قال آية في كتاب الله عز و جل منعته قال قلت و أية آية هي قال قوله عز و جل لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً إنه كان لله عز و جل ودائع مؤمنون في أصلاب قوم كافرين و منافقين فلم يكن علي ع ليقتل الآباء حتى يخرج الودائع فلما خرجت الودائع ظهر على من ظهر فقاتله و كذلك قائمنا أهل البيت لن يظهر أبدا حتى تظهر ودائع الله عز و جل فإذا ظهرت ظهر على من يظهر فقتله

 حدثنا المظفر بن جعفر بن المظفر السمرقندي العلوي رضي الله عنه قال حدثنا جعفر بن محمد بن مسعود عن أبيه قال حدثنا جبرئيل بن أحمد قال حدثني محمد بن عيسى بن عبيد عن يونس بن عبد الرحمن عن منصور بن حازم عن أبي عبد الله ع في قول الله عز و جل لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً لو أخرج الله عز و جل ما في أصلاب المؤمنين من الكافرين و ما في أصلاب الكافرين من المؤمنين لعذب الذين كفروا

و حدثنا أبو الحسن علي بن عبد الله بن أحمد الفقيه الأسواري بإيلاق قال حدثنا مكي بن أحمد البرذعي قال سمعت إسحاق بن إبراهيم الطرسوسي يقول و كان قد أتى عليه سبع و تسعون سنة على باب يحيى بن منصور قال رأيت سربانك ملك الهند في بلدة تسمى قنوج فسألناه كم أتى عليك من السنين فقال تسعمائة

 

===============

(643)

سنة و خمس و عشرون سنة و هو مسلم و زعم أن النبي ص أنفذ إليه عشرة من أصحابه فيهم حذيفة بن اليمان و عمرو بن العاص و أسامة بن زيد و أبو موسى الأشعري و صهيب الرومي و سفينة و غيرهم يدعونه إلى الإسلام فأجاب و أسلم و قبل كتاب النبي ص فقلت له كيف تصلي مع هذا الضعف فقال لي قال الله تعالى الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى‏ جُنُوبِهِمْ الآية فقلت له و ما طعامك فقال آكل ماء اللحم و الكراث و سألته هل يخرج منك شي‏ء فقال في كل أسبوع مرة شي‏ء يسير قال و سألته عن أسنانه فقال أبدلتها عشرين مرة و رأيت له في إصطبله شيئا من الدواب أكبر من الفيل يقال له زند فيل فقلت له و ما تصنع بهذا قال يحمل بها ثياب الخدم إلى القصار و مملكته مسيرة أربع سنين في مثلها و مدينته طولها خمسون فرسخا في مثلها و على كل باب منها عسكر في مائة ألف و عشرين ألفا إذا وقع في أحد من تلك الأبواب حدث خرجت تلك الفرقة إلى الحرب لا يستعان بغيرها و هو في وسط المدينة و سمعته يقول دخلت المغرب فبلغت إلى الرمل رمل العالج و صرت إلى قوم موسى ع فرأيت سطوح بيوتهم مستوية و بيدر الطعام خارج القرية يأخذون منه القوت و الباقي يتركونه هناك و قبورهم في دورهم و بساتينهم من المدينة على فرسخين ليس فيهم شيخ و لا شيخة و لم أر فيهم علة و لا يعتلون إلى أن يموتوا و لهم أسواق إذا أراد إنسان منهم شراء شي‏ء صار إلى السوق فوزن لنفسه و أخذ ما يصيبه و صاحبه غير حاضر و إذا أرادوا الصلاة حضروا فصلوا و انصرفوا لا يكون بينهم خصومة أبدا و لا كلام يكره إلا ذكر الله عز و جل و الصلاة و ذكر الموت. قال مصنف هذا الكتاب رحمه الله فإذا كان جاز عند مخالفينا مثل هذه الحال لسربانك ملك الهند فينبغي أن لا يحيلوا مثل ذلك في حجة الله في التعمير و لا قوة إلا بالله