« جريان إمرة أميرالمؤمنين »
    يراد إمارته وخلافته الظاهرية الحقة ، وأما الإمارة الحقيقية والإمامة والخلافة الالهية المنصوصة فهي ثابتة له « ع » من أول يوم ارتحل النبي « ص » سواء أقبل الناس اليه أم أدبروا .
    المحاسن للبيهقي : عن عبدالله بن معاوية : كان اياس بن معاوية لي صديقا فدخلنا على عبدالرحمن بن القاسم بن أبي بكر الصديق ، وعنده جماعة من قريش يتذاكرون السلف ، ففضّل قوم ابابكر وقوم عمر وآخرون عليا ، فقال أياس : ان عليا رحمه الله كان يرى أنه أحق الناس بالأمر ! فلما بايع الناس ابابكر ورأى أنهم قد اجتمعوا عليه وأن ذلك قد أصلح العامة اشترى صلاح العامة بنقض رأي الخاصة ، يعني بني هاشم . ثم وُلّي عمر ، ففعل مثل ذلك به وبعثمان ، فلما قتل عثمان واختلف الناس وفسدت الخاصة والعامة : وجد أعوانا فقام بالحق ودعا اليه (1) .
    نهج البلاغة : فنظرتُ فاذا ليس لي معين إلا أهل بيتي ، فضننت بهم عن الموت ، واغضيت عن القذى ، وشربت على الشجى ، وصبرت على أخذ الكظم وعلى أمرّ من طعم العلقم (2) .
    ويقول في الخطبة الشقشقية : فما راعني إلا والناس كعُرف الضبع اليّ ، ينثالون عليّ من كل جانب ، حتى لقد وُطيء الحسنان ، وشُقّ عِطفاي ، مجتمعين حولي كربيضة الغنم ، فلما نهضت بالأمر نكثت طائفة ، ومرقت أخلى ، وقسط آخرون .
1 ـ المحاسن للبيهقي ص 48 .
2 ـ نهج البلاغة خطبة 25 .



297
وفي تاريخ الطبري : فخرج قيس بن سعد في سبعة نفر من أصحابه حتى دخل مصر ، فصعد المنبر فجلس عليه وامر بكتاب معه من أميرالمؤمنين فقريء على أهل مصر ـ بسم الله الرحمن الرحيم ، من عبدالله عليّ اميرالمؤمنين الى من بلغه ... فلما قضى من ذلك ما عليه قبضه الله عزوجل صلوات الله عليه ورحمته وبركاته ، ثم ان المسلمين استخلفوا به اميرين صالحين عملا بالكتاب والسنة وأحسنا السيرة ولم يعدوا السنة ثم توفاهما الله عزوجل رضي الله عنهما ، ثم ولى بعدهما وال فأحدث احداثا فوجدت الامة عليه مقالا فقالوا ثم نقموا عليه فغيّروا ثم جاؤوني فبايعوني ، فأستهدي الله عزوجل بالهدى وأستعينه على التقوى ، ألا وان لكم علينا العمل بكتاب الله وسنة رسوله « ص » والقيام عليكم بحقه والتنفيذ لسنته (1) .
    أقول : اشارة الى الحكومة الظاهرية والخلافة الدنيوية التي لا تتحصّل إلا بانتخاب الناس وانقيادهم واطاعتهم ، ثم أشار الى أن الحاكمين الأولين كانا مقيّدين بالعمل بكتاب الله وسنة رسوله « ص » بخلاف الثالث فإنه أحدث أحداثا ، ثم صرّح بأن اللازم للامام والرعية العمل بالكتاب وسنة رسول الله « ص » ، خلافا لما قال ابوعبيدة في الشورى بأن اللازم العمل بهما وبسنة الخلفاء ، فإن الخليفة اذا لم يكن منتخبا من جانب الله تعالى لا يجب العمل بسنته .
    عقد الفريد : وفي خطبته بالكوفة : ثم ولي عثمان فنال منكم ونِلتم منه ،حتى اذا كان من أمره ما كان ، أتيتموه فقتلتموه ، ثم أتيتموني فقلتم لي بايعنا ، فقلت لكم : لا أفعل ، وقبضت يدي فبسطتموها ونازعتم كفّي فجذبتموها وقلتم لا نرضى إلا بك ، ولا نجتمع إلا عليك ، وتداككتم عليّ تداكّ الابل الهيم على حياضها يوم وردها ، حتى ظننت أنكم قاتلي وان بعضكم قاتل بعض ، فبايعتموني وبايعني طلحة والزبير ، ثم ما لبثا ان استأذناني للعمرة ، فسارا الى البصرة (2) .
1 ـ تاريخ الطبري ج 5 ص 227 .
2 ـ عقد الفريد ج 4 ص 72 .



298
    الامامة والسياسة : ثم قام الزبير فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس إن الله قد رضي لكم الشورى فأذهب بها الهوى ، وقد تشاورنا فرضينا عليا فبايعوه ! وأما قتل عثمان فإنا نقول فيه : ان امره الى الله وقد أحدث أحداثا والله وليه فيما كان . فقام الناس فأتوا عليا في داره فقالوا : نبايعك فمُدّ يدك ، لابد من أمير فأنت أحقّ بها . فقال : ليس ذلك اليكم إنما هو لأهل الشورى وأهل بدر فمن رضي به أهل الشورى وأهل بدر فهو الخليفة ، فنجتمع وننظر في هذا الأمر ، فأبى أن يبايعهم ، فانصرفوا عنه وكلّم بعضهم بعضا ، فقالوا : يمضي قتل عثمان في الآفاق والبلاد فيسمعون بقتله ولا يسمعون أنه بويع لأحد بعده ، فيثور كل رجل منهم في ناحية فلا نأمن أن يكون في ذلك إفساد ، فارجعوا الى عليّ فلا تتركوه حتى يبايع (1) .
    أقول : فظهر أن مبايعة أميرالمؤمنين « ع » كان أقوى من مبايعة ابي بكر وعمر وعثمان ، فإنها وقعت من اتفاق اهل المدينة ومن مشاورة أهل الشورى وأهل بدر ومن دون أن يظهر خلاف منهم ، فكيف يجوز القيام عليه ؟.
1 ـ الامامة والسياسة ج 1 ص 41 .


299
« القعود والخروج والقتال »
    الشريعة : عن أبي هريرة ، قال رسول الله « ص » : تكون فتنة . القاعد فيها خير من الماشي والماشي فيها خير من الساعي ، من يستشرف لها تستشرف له ، ومن وجد منها ملجأ أو معاذا فَلَيُعذبه (1) .
    أقول : القعود لازم في الأمور المشتبهة وموارد الفتن ، لافي مقام يجب الطاعة والتسليم ، كالطاعة لمن وليى المسلمين ، فالتحذير في الحديث يتوجه الى الماشين والساعين الى قتال اميرالمؤمنين علي « ع » في حرب الجمل وصفين والخوارج ، الذين نقضوا عهدهم ونكثوا بيعتهم وخرجوا عليه .
    وقد صرّح في الحديث بأن هذا الحكم مخصوص بمورد الفتنة وفي وجاهها ، أي في مورد يشتبه التكليف وأن تكون الوظيفة الدينية من جهة القعود أو القتال مجهولة .
    فالتكليف الدينيّ الالهي للخليفة الحق هو القيام والقتال في مقابل المخالفين ودفع شرهم ورفع فتنتهم ، ويجب للمسلمين أن يكونوا مع الامام وينصروه ويجاهدوا معه على اعدائه . وأما إذا لم يكونوا مع امام الهيّ واشتبه الأمر ولم يُعرف الحق . فالتكليف يومئذ هو القعود والاحتياط .
    فالقاعد في زمان الامام الالهي كالقاعد في زمان رسول الله « ص » . قال تعالى : ( انكم رضيتم بالقعود أور مرة فاقعدوا مع القاعدين . وفضّل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما ) .
    مستدرك الحاكم : عن أبي أيوب قال : سمعت النبي « ص » يقول لعليّ بن أبي
1 ـ الشريعة ص 42 .


300
طالب : تُقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين بالطرقات والنهروانات والشعفات ، قال ابوايوب : قلت يا رسول الله : مع من نُقاتل هؤلاء الأقوام ؟ قال مع علي بن أبي طالب (1) .
    أقول : ففي هذه الرواية الشريفة قد صرح رسول الله « ص » بأن تكليف الامام الحق هو القتال والمجاهدة في مقابل الناكثين والقاسطين والمارقين . وبأن تكليف الرعية والمسلمين أيضا هو اطاعته واتّباعه والقتال معه للمخالفين .
    فتبيّن أن قعود بعض المتنسّكين والمتورّعين عن نصرة اميرالمؤمنين علي « ع » ليس إلا على الباطل .
    ومن هؤلاء المتنسكين القاعدين ابو موسى الأشعري وأتباعه وأشباهه ، الجاهلون بوظائفهم ، والقاصرون عن معرفة إمامهم . والمقصّرون في العمل بما يجب عليهم .
    وقد يُصرّح رسول الله « ص » ايضا بهذه الوظائف ويُبينها ويوضحها حتى يرتفع الاشكال ويتبيّن الحق .
    مسند أحمد : عن أبي سعيد ، قال رسول الله « ص » : أن منكم من يقاتل على تأويله كما قاتلت على تنزيله ، قال ، فقام ابوبكر وعمر ، فقال : لا ولكن خاصف النعل ، وعليّ يخصف النعل (2) .
    ويروى عنه ، قال : كنا جلوسا ننتظر رسول الله « ص » فخرج علينا من بعض بيوت نسائه ، قال : فقمنا معه فانقطعت نعله فتخلف عليها عليّ يخصفها ، فمضى رسول الله « ص » وضينا معه ، ثم قام ينتظره وقمنا معه ، فقال : أن منكم من يقاتل على تأويل هذا القرآن كما قتلت على تنيله ، فاستشرفنا وفينا ابوبكر وعمر ، فقال : لا ولكنه خاصف النعل ، قال : فجئنا نُبشره ، قال ، وكأنه قد سمعه (3) .
1 ـ مستدرك الحاكم ج 3 ص 140 .
2 ـ مسند أحمد ج 3 ص 33 .
3 ـ نفس المصدر ص 82 .



301
    أقول : يستفاد من هذه الأحاديث أن مقاتلة رسول الله « ص » ومجاهدته كانت على تنزيل الكتاب وتثبيت أحكام القرآن وتحقيق آياته ، وأما مقاتلة أميرالمؤمنين علي « ع » فتكون على تأويل الكتاب وتبيين آياته وفي مقامل العمل بالأحكام وفي اجرائها وفي مصاديق تلك الأحكام .
    فالتنزيل مرحلة أولية للاسلام ، والمبعوث به هو الرسول . والتأويل مرحلة ثانوية له ، والمباشر به هو الامام المنصوب من جانب الله ومن جانب رسوله .
    وهذا التعبير ابلغ بيان في مقام تعيين الخليفة الالهي .
    مستدرك الحاكم : عن طارق قال : رأيت عليا « رض » على رحل رث بالربذة وهو يقول للحسن والحسين : مالكما تحنّان حنين الجارية ، والله لقد ضربت هذا الأمر ظهرا لبطن فما وجدت بدّا من قتال القوم ، أو الكفر بما أنزل على محمد « ص » (1) .
    ويروى : عن عمرة قالت : لما سار علي الى البصرة دخل على أم سلمة زوج النبي « ص » يودعها ، فقالت : سر في حفظ الله وفي كنفه ، فوالله انك لعلى الحق والحق معك ، ولولا أني أكره أن أعصي الله ورسوله : فإنه أمّرنا صلى الله عليه وآله وسلم أن نقرّ في بيوتنا ؛ لسرت معك ؛ ولكن والله لأرسلن معك من هو أفضل عندي وأعز عليّ من نفسي . ابني عمر (2) .
    الفائق : عليّ رضي الله عنه أقبل يريد العراق فأشار عليه الحسن بن علي أن يرجع ، فقال : والله لا أكون مثل الضبع تسمع اللدم حتى تخج فتُضاد (3) .
    قال الزمخشري : هو الضرب بحجر ونحوه ، يعني لا أخدع كما يُخدع الضبع بأن يُلدم باب جحرها فتحسبه شيئا تصيده فتخرج فتصاد .
    تاريخ الطبري : فخرج يعترض لهما ليردّهما ، فبلغه انهما قد فاتاه ، فهو يريد أن يخرج في اثرهما ، فقلت : إنا لله وإنا اليه راجعون ، آتي عليا فأقاتل معه هذين
1 ـ مستدرك الحاكم ج 3 ص 115 .
2 ـ نفس المصدر ص 119 .
3 ـ الفائق ج 2 ص 459 .



302
الرجلين وأم المؤمنين أو أخالفه ؟ أن هذا لشديد ، فخرجت فأتيته فاقيمت الصلاة بغلس فتقدم فصلى ، فلما انصرف أتاه ابنه الحسن فجلس فقال : قد أمرتك ففعصيتني فتقتل غدا بمصعبة لا ناصر لك ، فقال علي « ع » أنك لا تزال تحنّ حنين الجارية وما الذي أمرتني فعصيتك ؟ قال : أمرتك يوم أحيط بعثمان أن تخرج من المدينة فُيقتل ولست بها ، ثم أمرتك يوم قُتل ألا تُبايع حتى يأتيك وفود أهل الأمصار والعرب وبيعة كلّ مصر ، ثم أمرتك حين فعل هذان الرجلان ما فعلا أن تجلس في بيتك حتى يصطلحوا فإن كان الفساد كان على يدي غيرك ، فعصيتني في ذلك كله . قال : أي بنيّ أما قولك لو خرجت من المدينة حين أحيط بعثمان : فوالله لقد أحيط بنا كما أحيط به . وأما قولك لا تبايع حتى تأتي بيعة الأمصار : فإن الأمر أمر أهل المدينة كرهنا أن يضيع هذا الأمر . وأما قولك حين خرج طلحة والزبير : فإن ذلك كان وهنا على أهل الإسلام ووالله ما زلت مقهورا مذ وليتُ منقوصا لا أصل الى شيء مما ينبغي . وأما قولك اجلس في بيتك : فكيف لي بما قد لزمني أو من تريدني أتريد أن أكون مثل الضبع التي يحاط بها ويقال دباب دبات ليست هاهنا حتى يُحل عرقوباها حتى تخرج ، واذا لم أنظر فيما لزمني من هذا الأمر ويعنيني فمن ينظر فيه ، فكف عنك عنك أي بنيّ (1) .
    أقول : احيط بنا ـ أي من الطرفين ـ لردّ الفتنة ورفع المشكل وحل الخلاف والبغضاء ، فكيف يمكن لنا الخروج في هذا المقام .
    وقوله : فإن الأمر أمر أهل المدينة ـ أي في عرف الناس ـ فإن فيها الأكابر من المهاجرين والأنصار ، وهي مدينة رسول الله « ص » ، وفيها وقع الحل والعقد ، وعلى هذا جرت سيرة الخلفاء الماضين ، وكانت البلاد تابعة لها . ومع تحقق هذه الشرائط ، هل يجوز التواني والتعلل في أخذ لصاحبه .
    وقوله كان هنا : اي الجلوس في البيت وترك امور المسلمين فيبقوا حيارى
1 ـ تاريخ الطبري ج 5 ص 170 .


303
ويضلوا عن الحق ولو في أيام قليلة . فيجب اجراء الحق وهداية الناس وطرد الباطل مهما أمكن وكيف يمكن .
    وأما اعتراض ابنه الامام الحسن « ع » : فاما من جهة أن يتوجه اليه آخرون من المسلمين ، وترتفع شبهاتهم . وأما من جهة العلوم والسياسات العرفية الظاهرية ، ولا ريب أن أن الامام يعلم ما لا يعلم غيره ، وللامام تكاليف خاصة يتوجه اليها بقلبه ويعرفها بنور الهي .
    وقد سبق قوله « ع » كما في عقد الفريد : ألا وإنا أهل البيت من علم الله علمنا وبحُكم الله حكمنا ، ومن قول صادق سمعنا ، فإن تتبعوا آثارنا تهتدوا ببصائرنا ، معنا راية الحق من يتبعها لحق ومن تأخر عنها غرق (1) .
    وفي الاستيعاب : ومن كلام لعلي « ع » وما تبعة دم عثمان إلا عليهم ، وانهم لهم الفئة الباغية ، بايعوني ونكثوا بيعتي ، وما استأنوا بي حتى يعرفوا جوري من عدلي ، واني لراض بحجة الله عليهم وعلمه فيهم ، واني مع هذا لداعيهم ومعذر فيهم ، فإن قبلوا فالتوبة مقبولة والحق أولى مما أفضوا إليه ، وان أبوا أعطيتُهم حد السيف ، وكفى به شافيا من باطل وناصرا (2) .
1 ـ عقد الفريد ج 6 ص 67 .
2 ـ الاستيعاب ج 2 ص 499 .