2ـ إن عمر بن أبي ربيعة لقي عائشة بنت طلحة بمكة وهي تسير على بغلة لها ، فقال لها : قفي حتى أسمعك ما قلت فيك ، قالت : أوقد قلت يا فاسق ؟ قال : نعم ، فوقفت فأنشدها :
ياربة البغلة الشهباء هل لك في       أن تنشري ميتا لا ترهقي حرجا
قالت بدائك مت أو عش تعالجه       فما نرى لك فيما عندنا فرجا(1)

3ـ ومما يغني فيه من أشعار عمر بن أبي ربيعة في عائشة بنت طلحة ، قوله في قصيدته التي أولها :

مـن لقـلب أمسـى رهـينا معنى       مسـتكيـنا قـد شفـه مـا أجـنا
إثر شخص نفسي فدت ذاك شخصا       نـازح الدار بـالمديـنة عـنا(2)

4ـ كان ابن محرز أحسن الناس غناء ، فمر بهند بنت كنانة بن عبدالرحمن حليف قريش ، فسألته أن يجلس لها ولصواحب لها ، ففعل وقال : أغنيكن صوتا أمرني الحارث بن خالد بن العاص بن هشام أن أغنيه عائشة بنت طلحة بن عبيد الله في شعر له قاله فيها ، وهو يومئذ أمير مكة ؟ قلن : نعم ، فغناهن :

فوددت إذ شحطوا وشطت دارهم       وعـدتهم عـنا عـواد تشـغل
أنـا نطاع وأن تـنقل أرضـنا       أو أن أرضهم إليـنا تـنقل(3)

5ـ حجت عائشة بنت طلحة بن عبيدالله ، فجاءتها الثريا وإخوتها ، ونساء أهل مكة القرشيات وغيرهن . وكان الغريض فيمن جاء ، فدخل النسوة عليها فأمرت لهن بكسوة وألطاف كانت قد أعدتها لمن يجيؤها ،
____________
(1) الأغاني 206:1ـ 207 .
(2) المصدر السابق : 208 .
(3) المصدر السابق : 366 .

( 70 )

فجعلت تخرج كل واحدة ومعها جاريتها ومعها ما أمرت لها به عائشة ، والغريض بالباب حتى خرج مولياته مع جواريهن الخلع والألطاف ، فقال الغريض: فأين نصيبي من عائشة ؟ فقلن له: أغفلناك وذهبت عن قلوبنا ، فقال: ما أنا ببارح من بابها أو آخذ بحظي منها ، فإنها كريمة بنت كرام ، واندفع يغني بشعر جميل:

تذكرت ليلى فالفؤاد عميد       وشطت نواها فالمزار بعيد

فقالت: ويلكم هذا مولى العبلات بالباب يذكر بنفسه هاتوه ، فدخل ، فلما رأته ضحكت وقالت: لم أعلم بمكانك ، ثم دعت له بأشياء أمرت له بها ، ثم قالت له: إن أنت غنيتني صوتا في نفسي فلك كذا وكذا .. فغناها في شعر كثير:

ومازلت من ليلى لدن طر شاربي       إلى اليوم أخفي حبـها وأداجن(1)

6ـ قال الحارث بن خالد المخزومي متغزلا بعائشة بنت طلحة لما تزوجها مصعب بن الزبير ورحل بها إلى العراق :

ظـعن الأمـير بأحسـن الخـلق       وغـدا بـلبك مـطـلع الشـرق
في البيت ذي الحسب الرفيع ومن       أهـل التـقى والبـر والصـدق
فـظـللت كـالمقهـور مـهجته       هـذا الجـنون وليــس بالغسق
أتـرجـة عـبق العـبير بـها       عـبق الدهـان بـجـانب الحـق
مـا صـبحت أحـدا بـرؤيتها       إلا غـدا بكـواكـب الـطـلق(2)

قال أبوالفرج: والحارث بن خالد أحد شعراء قريش المعدودين
____________
(1) الأغاني 372:3 ،366:1 .
(2) تاريخ آداب اللغة العربية لجرجي زيدان:283 ، الأغاني 316:3 وراجع أيضا 122:15 .

( 71 )

الغزليين ، وكان يذهب مذهب عمر بن أبي ربيعة لا يتجاوز الغزل إلى المديح ولا الهجاء ، وكان يهوى عائشة بنت طلحة بن عبيدالله ويشبب بها(1) .
7ـ حج الحارث بن خالد المخزومي بالناس ، وحجت عائشة بنت طلحة عامئذٍ ، وكان يهواها ، فأرسلت إليه أخر الصلاة حتى أفرغ من طوافي ، فأمر المؤذنين فأخّروا الصلاة حتى فرغت من طوافها ، ثم أقيمت الصلاة فصلى بالناس ، وأنكر أهل الموسم ذلك من فعله وأعظموه(2) .
8ـ لما أن قدمت عائشة بنت طلحة أرسل إليها الحارث بن خالد ـ وهو أمير على مكة ـ أني أريد السلام عليك ، فإذا خف عليك أذنت ، وكان الرسول الغريض ، فقالت له: أنا حرم فإذا أحللنا إذناك . فلما أحلت سرت على بغلاتها ، ولحقها الغريض بعسفان أو قريب منه ، ومعه كتاب الحارث إليها: ما ضركم لو قلتم سددا ... .
فلما قرأت الكتاب قالت: ما يدع الحارث باطله ، ثم قالت للغريض: هل أحدثت شيئا ؟ قال: نعم فاستمعي ، ثم اندفع يغني في هذا الشعر ، فقالت عائشة: والله ما قلنا إلا سددا ، ولا أردنا إلا أن نشتري لسانه ، وأتى على الشعر كله ، فاستحسنته عائشة وأمرت له بخمسة آلاف درهم وأثواب ، وقالت: زدني ، فغناها في قول الحارث بن خالد أيضا ...(3) .
9ـ نظر ابن أبي ذئب إلى عائشة بنت طلحة تطوف بالبيت ، فقال لها: من أنت ؟ فقالت:

من اللاءِ لم يحجبن يبغين حسبة       ولكـن ليقتلن البريء المغفـلا

____________
(1) الأغاني 309:3 .
(2) المصدر السابق:315 .
(3) المصدر السابق: 317 .

( 72 )

فقال لها: صان الله ذلك الوجه عن النار ، فقيل له: أفتتنتك أبا عبدالله ؟
قال: لا ، ولكن الحسن مرحوم(1) .
ولا نريد التعليق على هذه الرواية ، بل نترك الأمر إلى القارىء ليحكم بنفسه .
فاطمة بنت عبدالملك بن مروان
قال عمر بن أبي ربيعة فيها:
كـدت يوم الرحيل أقضي حياتي       ليـتني مت قبـل يـوم الرحـيل
لا أطيق الكلام من شـدة الخـو       ف ودمعي يسـيل كـل مسـيل
ذرفت عينها وفـاضـت عيوني       وكـلانا يـلفي بلب أصـيل(2)

وفي قصة طويلة ذكرها أبوالفرج الأصفهاني ، أنها كانت ترسل جاريتها إليه ليأتي عندها ، فيغازلها ، ويتشبب بها ، ويبادلها الحديث وتبادله ، حتى شغف بها ، وطلب ملابسها التي تلي جسدها ، فأعطته ما أراد ، فزاده ذلك شغفا ، وظل يتابعها ليل نهار ، حتى قال فيها:

ضاق الغداة بحاجتي صدري       ويئست بـعد تـقارب الأمر
ذكرت فـاطمة التـي عـلقتها       عرضا فيا لـحوادث الدهر(3)
الثريا بنت علي بن عبدالله بن الحارث
قال فيها عمر بن أبي ربيعة حين تزوجت رجلا اسمه سهيل:

أيـها المنكح الثـريا سـهيلا       عـمرك الله كيف يـجتمعان

____________
(1) العقد الفريد 102:7 .
(2) تاريخ آداب اللغة العربية 282:1 .
(3) الأغاني 199:1 .

( 73 )

هي شامية إذا مـا اسـتقلت       وسهيل إذا استقل يماني(1)

رملة بنت عبدالله بن خلف أخت طلحة الطلحات
وقد شبب بها عمر بن أبي ربيعة في شعر مذكور في الأغاني فليراجع(2) .
عاتكة بنت معاوية بن أبي سفيان
وقد شبب بها أبو دهبل الجمحي ، حيث جاءت للحج فنزلت بذي طوى من مكة ، وقد اشتد الحر فأمرت جواريها فرفعن الستر ، فمر أبو دهبل فرأها وهي لا تعلم ، فما رأته ينظر إليها غضبت وشتمته وأمرت بارخاء الستر ، فقال أبو دهبل في ذلك:

إنــي دعاني الحين فاقتادني       حتى رأيت الـظـبي بالباب
يا حسـنه إذ سـبني مـدبرا       مسـتتـرا عـني بـجلباب

وأنشد أبو دهبل هذه الأبيات لبعض إخوانه ، فشاعت وغنى بها المغنون ، فبلغت عاتكة ، فبعثت إليه بكسوة وجرت الرسل بينهما ، فلما صدرت عن مكة خرج معها إلى الشام ، فلما دخلت دمشق «جيرون» انقطعت عن لقائه في دمشق ، فنظم في ذلك قصيدة مطلعها:

طال ليلي وبت كالمحزون       ومللت الثواء في جيرون(3)

رملة بنت معاوية بن أبي سفيان
شبب عبد الرحمن بن حسان برملة بنت معاوية ، فقال:
____________
(1) تاريخ آداب اللغة العربية282:1 .
(2) الأغاني 1 : 218و221 .
(3) تاريخ آداب اللغة العربية 284:1 .

( 74 )

رمل هل تذكرين يـوم غـزال       إذ قـطعنا مسـيرنا بـالتمني
إذ تقولين عمـرك الله هل شي       ء وإن جل سوف يسليك عني
أم هل أطـمعت منكم بابن حسا       ن كما قد أراك أطمعت مني(1)

عاتكة بنت عبدالله بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان
قال الاصفهاني:
عاتكة التي يشبب بها الأحوص ، عاتكة بنت عبدالله بن يزيد بن معاوية(2) .
زينب بنت عكرمة بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام
كان ابن رهيمة يشبب بها ، ويغني يونس بشعره فافتضحت بذلك ، فاستعدى عليه أخوها هشام بن عبدالملك فأمر بضربه خمسمئة سوط ، وأن يباح دمه إن وجد قد عاد لذكرها ، وأن يفعل ذلك بكل من غنى في شيء من شعره ، فهرب هو ويونس(3) .
زينب بنت يوسف بن الحكم أخت الحجاج بن يوسف الثقفي
شبب ابن نمير الثقفي بزينب بنت يوسف بن الحكم ، فكان الحجاج يتهدده ويقول: لولا أن يقول قائل صدق لقطعت لسانه ، فهرب إلى اليمن(4) .
سعدى بنت عبدالرحمن بن عوف
شبب بها عمر بن أبي ربيعة فقال:
____________
(1) الأغاني 103:15 .
(2) الأغاني 112:21 .
(3) الأغاني 397:4 .
(4) الأغاني 209:6 .

( 75 )

قـالـت سعيدة والدموع ذوارف       منها علـى الخدين والجـلباب
ليت المـغـيري الذي لم أجزه       فيما أطـال تصيدي وطـلابي
كانت تـرد لنا المـنى أيـامنا       إذ لا نـلام على هوى وتصابي
أسعـيد ما ماء الفـرات وطيبه       مني على ظـمأ وحـب شراب
بألذ مـنك وإن نـأيت وقلـما       يرعـى النساء أمانـة الغياب(1)

هند بنت كنانة بن عبدالرحمن بن نضلة بن صفوان بن أمية
كان ابن محرز أحسن الناس غناء ، فمر بهند بنت كنانة ، فسألته أن يجلس لها ولصواحب لها ، ففعل وقال: أغنيكن صوتا أمرني الحارث بن خالد بن العاص أن أغنيه ...(2) .
سعدى بنت سعيد بن عمرو بن عثمان
كان الوليد بن يزيد بن عبدالملك يتعشق سعدى بنت سعيد بن عمرو ابن عثمان فقال فيها:

أسـعدى مـا إليك لنـا سـبيل       ولا حـتى القـيامة مـن تـلاق
بـلى ولعـل دهـرا أن يؤاتـي       بموت مـن حلـيلك أو فـراق(3)

كما أن الوليد بن يزيد كان يتعشق سلمى بنت سعيد بن عمرو بن عثمان كذلك ، فقال فيها:

شـاع شعري في سليمى وظهر       ورواه كــل بـدو وحـضـر
وتــهادته الغـوانـي بـينها       وتــغنين بـه حـتى انـتشر

____________
(1) الأغاني 161:17و162 .
(2) الأغاني 366:1 ، وراجع أيضا 372:3 .
(3) العقد الفريد لا بن عبد ربه 186:7 .

( 76 )

لو رأيـنا من سـليمى أثـرا       لســجدنا ألف ألف للأثـر
واتـخذناها إمـاما مـرتضى       ولكـانت حـجنا والمـعتمر
إنــما بـنت سـعيد قـمـر       هل حرجنا أن سجدنا للقمر(1)

أم البنين زوج الوليد بن عبدالملك
دخلت عزة صاحبة كثير على أم البنين زوج عبدالملك بن مروان(2) ، فقالت لها: أخبريني عن قول كثير:

قضى كل ذي دين فوفى غـريمه       وعزة ممطول مـعنى غـريمها

ما هذا الدين الذي طلبك به ؟ قالت: وعدته بقبلة فتحرجت منها ، قالت: أنجزيها وعلي إثمها(3) .
وروى أبوالفرج الإصفهاني أن وضاحا كان يهوى امرأة من كندة يقال لها: روضة ، فلما اشتهر أمره معها ، خطبها فلم يزوجها ، وزوجت غيره ، فمكثت مدة طويلة .. ثم شبب بأم البنين بنت عبدالعزيز بن مروان زوجة الوليد بن عبد الملك ، فقتله الوليد لذلك(4) .
زينب بنت سليمان بن علي
ذكر ابن حجر العسقلاني في لسان الميزان أن حماد عجرد كان يتغزل في زينب بنت سليمان بن علي ، على لسان محمد بن أبي العباس السفاح ، وكان عشقها ، ثم خطبها فمنعت منه ، فصار يتغزل فيها ، وحماد ينظم له
____________
(1) العقد الفريد 186:7 .
(2) كذا في المصدر . والصواب زوج الوليد بن عبدالملك .
(3) العقد الفريد 134:7 .
(4) الأغاني 225:6 .

( 77 )

الشعر على لسانه ، فبلغ ذلك أخاها محمد بن سليمان فغصب . واتفقت وفاة محمد ، فطلب ابن سليمان حمادا فتغيب منه ، ثم بلغه أنه هجاه بأبيات منها:
جداك جـدان لم تعب بـهما       وإنما العيب منك في البدن(1)

عائشة بنت المهدي العباسي
قال ابن عبد ربه الأندلسي : خرج رسول عائشة بنت المهدي ـ وكانت شاعرة ـ إلى الشعراء ، فيهم صريع الغواني فقال: تقرؤكم سيدتي السلام ، وتقول لكم : من أجاز هذا البيت فله مئة دينار ، فقالوا : هاته ، فأنشدهم:

أنيلي نوالا وجـودي لنـا       فـقد بلغت نفسي الترقوه

فقال صريع:

وإنـي كـالدلـو في حـبكـم       هويت إذ انقطعت عرقوه(2)

ولادة بنت المستكفي الخليفة الأموي في الأندلس
كتبت على تاجها:

أنــا ولله أصـلـح للـمعالي       وأمشي مشيتي وأتيـه تيهـا
وأمكن عاشـقي من لثم ثـغري       وأعطي قبلتي من يشتهيها(3)

ولا نريد أن نسرد أكثر من هذه الشواهد ، فقد أعرضنا عن كثير مراعاة لحرمة قرائنا الكرام من أن نشين أسماعهم بعبث نساء هؤلاء ، ومجون شعرائهم ، وهذا فيما كتب ، وما خفي كان أعظم ، وقد توخينا في عرضنا هذا إلى الأسباب والدوافع التي دفعت هؤلاء المؤرخين من بني مروان ، كأبي
____________
(1) لسان الميزان426:2 رقم 2942 في ترجمة حماد عجرد .
(2) العقد الفريد 197:6 .
(3) شرح رسالة ابن زيدون بهامش شرح لامية العجم 11:1 ، عنه « سكينة بنت الحسين» للمقرم:60 .

( 78 )

الفرج الإصفهاني صاحب الأغاني ، الذي استعرض أقاصيص وموضوعات حياة سكينة بنت الحسين عليهما السلام ، وما أخذه من آل الزبير من اختلاق هذه الأكاذيب ، كالزبير بن بكار ، ومصعب الزبيري وأمثالهم ، الذين ما فتؤوا من التحري عما يشين البيت العلوي ، دفعا لما ابتلي به أسلافهم من النساء كسكينة بنت خالد الزبيرية ، وعائشة بنت طلحة بن عبيدالله زوج مصعب بن الزبير ، وغيرهن من اللواتي ملئت صحائف تاريخهن بفضائح العبث ، ومجالس الغزل والغناء ، وما اشتهر عن عاتكة بنت معاوية ، وأم البنين بنت عبدالعزيز زوجة الوليد بن عبدالملك ، وسعدى بنت عبدالرحمن بن عوف ، وأمثالهن من اللواتي آثرن حياة اللهو والغناء .
ومقابل هذا يرفل آل علي بقداسة الوحي ، وطهارة النبوة ، وهم المنافسون الأقوياء لأولئك الأمويين الذين سفكوا الدماء من أجل الإبقاء على دست الحكم ، والزبيريين الذين هتكوا الحرمات من أجل المنصب كذلك ، فمتى يستقيم لهؤلاء أمر ولا تزال الأمة تنظر إلى العلويين بكل إجلال وقداسة ؟ من هنا أمكننا معرفة الدوافع السياسية لاختلاق قصة سكينة بنت الحسين ، وإقحامها ملاحم اللهو الأموي والترف الزبيري .
سكينة وابن سريج
روى أبو الفرج الإصفهاني قال: أخبرني الحسين بن يحيى ، عن حماد ، عن أبيه ، عن مصعب الزبيري قال: حدثني شيخ من المكيين قال:
كان ابن سريج قد أصابته الريح الخبيثة وآلى يمينا ألا يغني ، ونسك ولزم المسجد الحرام حتى عوفي ، ثم خرج وفيه بقية من العلة فأتى قبر النبي وموضع الصلاة ، فلما قدم المدينة نزل على بعض إخوانه من أهل النسك


( 79 )

والقراءة ، فكان أهل الغناء يأتونه مسلمين عليه فلا يأذن لهم بالجلوس والمحادثة ، فأقام بالمدينة حولا حتى لم يحس علته بشيء وأراد الشخوص إلى مكة ، وبلغ ذلك سكينة بنت الحسين فاغتمت اغتماما شديدا وضاقت به ذرعا ، وكان أشعب يخدمها ، وكانت تأنس بمضاحكته ونوادره وقالت لأشعب: ويلك أن ابن سريج شاخص! وقد دخل المدينة منذ حول ولم أسمع غناءه قليلا ولا كثيرا ، ويعز ذلك علي ، فكيف الحيلة في الاستماع منه ولو صوتا واحدا ؟
فقال لها أشعب: جعلت فداك وأنى لك بذلك والرجل اليوم زاهد ولا حيلة فيه ، فارفعي طمعك والحسي تورك تنفعك حلاوة فمك . فأمرت بعض جواريها فوطئن بطنه حتى كادت تخرج أمعاؤه ، وخنقته حتى كادت نفسه أن تتلف ، ثم أمرت به فسحب على وجهه حتى أخرج من الدار إخراجا عنيفا ، فخرج على أسوأ الحالات ، واغتم أشعب غما شديدا وندم على ممازحتها في وقت لم ينبغ له ذلك ، فأتى منزل ابن سريج ليلا فطرقه فقيل: من هذا ؟ فقال: أشعب ، ففتحوا له فرأى على وجهه ولحيته التراب والدم سائلا من أنفه وجبهته على لحيته, وثيابه ممزقة وبطنه وصدره وحلقه قد عصرها الدوس والخنق ومات الدم فيها ، فنظر ابن سريج إلى منظر فظيع هاله وراعه فقال له: ما هذا ويحك ؟! فقص عليه القصة ، فقال ابن سريج: إنا لله وإنا إليه راجعون ، ماذا نزل بك والحمدلله الذي سلم نفسك لا تعودن إلى هذه أبدا .
قال أشعب: فديتك هي مولاتي ولا بد لي منها ، ولكن هل لك حيلة في أن تصير إليها وتغنيها فيكون ذلك سببا لرضاها عني ؟ قال ابن سريج: كلا


( 80 )

والله لا يكون ذلك أبدا بعد أن تركته .
قال أشعب: قطعت أملي ورفعت رزقي وتركتني حيران بالمدينة لا يقبلني أحد ، وهي ساخطة علي فالله الله في ، أنا أنشدك الله ألا تحملت هذا الإثم فيّ .
فأبى عليه ، فلما رأى أشعب أن عزم ابن سريج قد تم على الامتناع ، قال في نفسه: لا حيلة لي وهذا خارج وإن خرج هلكت ، فصرخ صرخة أذن أهل المدينة لها ، ونبه الجيران من رقادهم ، وأقام الناس من فرشهم ، ثم سكت فلم يدر الناس ما القصة عند خفوت الصوت بعد أن قد راعهم ، فقال له ابن سريج: ويلك ما هذا ؟ قال: لئن لم تصر معي إليها لأصرخن صرخة أخرى لا يبقى إلا صار بالباب ، ثم لأفتحنه ولأريهم ما بي ، ولأعلمنهم كذا وكذا ...
فلما رأى ابن سريج الجد منه قال لصاحبه: ويحك أما ترى ما وقعنا فيه ـ وكان صاحبه الذي نزل عنده ناسكا ـ فقال: لا أدري ما أقول ... نزل بنا من هذا الخبيث ... إلى أن قال: فوقع ابن سريج فيما لا حيلة له فيه .
فقال: امضي لا بارك الله فيك ، فمضى معه فلما صار إلى باب سكينة قرع الباب فقيل: من هذا ؟ فقال: أشعب ... إلى أن قال: ثم أندفع يغني:

أستعين الذي يكفيه نفعي       ورجائي على التي قتلتني

فقالت له سكينة: فهل عندك يا عبيد من صبر ، ثم أخرجت دملجا من ذهب كان في عضدها وزنه أربعون مثقالا فرمت به إليه(1) ... إلى آخر القصة ، وهي طويلة الذيل اقتصرنا على مورد الحاجة .
____________
(1) الأغاني 45:17ـ51 .
( 81 )

رجال الخبر
الخبر مرسل ، فإن مصعب الزبيري رواه عن شيخ من المكيين لا يعرف من هو ، فالخبر مرسل لا اعتبار له من حيث الإرسال .
ومصعب الزبيري : ضعيف ، عرفت حاله .
والحسين بن يحيى : قال الذهبي في ميزان الاعتدال عن ابن الجوزي: يضع الحديث ، وكذلك ابن حجر في لسان الميزان(1) .
فالخبر مرسل وفي سنده ضعفاء فهو ساقط عن الاعتبار .
أين هم أزواج سكينة وبنو هاشم عن كل هذا ؟
اعتمد الخبر على رواية المتناقضات فأظهر زهد ونسك ابن سريج المغني وعبث السيدة سكينة ، مع أن الخبر أظهر في مطاويه الإشارة إلى حرمة الغناء وتجنب ابن سريج عن ذلك ، إلا أن السيدة سكينة كانت تصر على مخالفة مناهي الشريعة ، وترتكب ما هو حرام إشباعا لرغبتها في الاستماع ، لا سيما الخبر سرد أحداث القصة عند وقت متأخر من الليل ، وأظهر أن السيدة سكينة لا ترتبط مع أية علقة زوجية يمكنها أن تحتشم زوجها ـ على الأقل ـ في ارتكاب ما ينافي الشرع ومن ثم الأخلاق السائدة ، مع ما هولوه من تعدد أزواج «آمنة» سكينة بنت الحسين ، وبلغ عدد أزواجها أكثر من سبعة ، ومع هذا فلا نرى لواحد من هؤلاء الأزواج دور في التصدي إلى ماترتكبه السيدة سكينة من مخالفات شرعية وعرفية ، يأنف من خلالها الغيور على حرمه ، ولا يرضى في انتهاك حرمته بما يقع من حليلته ، وهي بين أجانب خلعاء تعقد لهم مجالس الغناء في بيته دون وازع ولا من رادع .
____________
(1) ميزان الاعتدال 541:1 ، لسان الميزان 386:2 .
( 82 )

أي غيور يرضى لزوجته أن ترتكب مثل هذه الأفعال الشائنة بسمعته والمنافية لغيرته ؟ وإذا لم يكن هناك دور للزوج في مثل هذه القصص ، فأين كان الإمام علي بن الحسين عليهما السلام وهو يرى أخته ترتكب خلاف الشريعة وما ينافي قيم الإسلام ؟ أين كان محمد بن علي الباقر عليهما السلام عن هذه التصرفات ؟ أين كان بنو هاشم وهم ـ على الأقل ـ يجابهون عدوا لدودا يصطنع لهم الأكاذيب والافتراءات ؟ فكان عليهم مراعاة جانب أعدائهم إن لم يراعوا جانب حرمة الشريعة .
مما يكشف سذاجه هؤلاء الوضاعين وبلادتهم حينما يختلقون أكاذيبهم بما ينافي الشرع والعادة والأعراف ، وليتهم توسلوا بغير ذلك لئلا ينكشف غباؤهم ولعبتهم الطائشة .
إنه خراج بعض الكور
وإذا صور رواة الخبر بذخ سكينة وهي تعطي لأحد المغنين دملجا وزنه أربعين مثقالا ، فإن هذه التصرفات هي سمة خلفائهم الذين شهدت لياليهم الحمراء بذخهم وعبثهم بأموال المسلمين .
قال ابن عبد ربه الأندلسي في العقد الفريد: غنى إبراهيم الموصلي محمد بن زبيدة الأمين بقول الحسن بن هانئ فيه:

رشأ لولا مــلاحته       خلت الدنيا من الفتن

قال: فاستخفه الطرب حتى قام من مجلسه وأكب على إبراهيم يقبل رأسه ، فقام إبراهيم من مجلسه يقبل أسفل رجليه وما وطئتا من البساط ، فأمر له بثلاثة آلاف درهم ، فقال إبراهيم: يا سيدي قد أجزتني إلى هذه الغاية بعشرين ألف ألف درهم [ أي عشرين مليون درهم] .


( 83 )

فقال الأمين: وهل ذلك إلا خراج بعض الكور(1) ؟
هذه هي أعطيات الخلفاء في الليالي الحمراء ومن بيت مال المسلمين ، والمسلمون يعانون من الضيق في العيش والفقر والفاقة ، لذا فقد عمد هؤلاء الرواة إلى التستر على بذح أسيادهم ، وأتهام آل البيت عليهم السلام بتصرفات أعدائهم ؛ ليدفعوا عنهم تهورات هؤلاء وعبثهم .
حكم الغناء في الشريعة المقدسة
ذهب علماؤنا ـ رضوان الله تعالى عليهم ـ إلى حرمة الغناء(2) ، وادعوا الإجماع عليه ، بل عدوه من ضرورات المذهب للأدلة الواردة في حرمته من آيات وروايات لعلها متواترة . كما ذهب إلى ذلك بعضهم ، فمن ذلك تفسير قوله تعالى: ( لا يشهدون الزور )(3) بالغناء كما في صحيحة محمد بن مسلم ، عن أبي عبدالله الصادق عليه السلام(4) .
وتفسير الغناء بالزور في قوله تعالى: ( واجتنبوا قول الزور )(5) كما في صحيحة زيد الشحام ، ومرسلة ابن أبي عمير ، وموثقة أبي بصير(6) .
وما ورد في تفسير لهو الحديث بالغناء كما في صحيحة محمد بن مسلم(7) .
____________
(1) العقد الفريد 42:7 .
(2) نقل الإجماع على ذلك السيد العاملي في مفتاح الكرامة 52:4 ، حيث قال: أما حكمه فلا خلاف ، كما في مجمع البرهان ، في تحريمه وتحريم الأجرة عليه وتعلمه وتعليمه واستماعه ... .
(3) الفرقان 72:25 .
(4) الوسائل 304:17 ، ب 99 من أبواب ما يكتسب به ، ح 5 .
(5) الحج 30:22 .
(6) الوسائل 303:17 و 305 ، ب 99 من أبواب ما يكتسب به ، ح 2 و 8 و 9 .
(7) المصدر السابق : 304 ، ح 6 .