هذه السيدة الجليلة .. هذه العالمة الكاملة الفاضلة ، كانت روحاً من نفحات روح النبي صلى الله عليه وآله ووهجاً من توهجاته ، وشعاعاً نيّراً من اشعاعاته .
فاطمة الزهراء عليها السلام لا تجارى ولا توصف ، ولا يقاس بها كل نساء الارض ، فهي الانسية الحوراء ، والبتولة العذراء ، وام الأئمة النجباء الأصفياء .
فاطمة الزهراء عليها السلام اشراقة الهية ، ومنحة ربانية ، لمعت في سماء الدنيا ، فتبلجت بأنوارها المشرقة مدلهماتها ، واشرقت بأنوارها الساطعة اكوانها ودياجيرها .
عاشت في أحضان الرسالة ، وارتضعت من لبان المجد ، ثم ترعرعت في بيت طاهر مطهر ، كان ولا زال كعبة القصاد ، وقبلة الوفاء ، ومأوى الملهوفين ، ومنار التائهين الى يوم الدين . ثم كبرت مع الكبار ، وبرزت معالم الأنوثة فيها ، حتى حان الحين انه تكون زوجاً لخير بعل .. ذلك هو ابن عمها علي بن أبي طالب عليه السلام ، اسد الله الغالب ومظهر العجائب ،
( 25 )
بطل الاسلام ، الفارس الضرغام ، قائد البررة الكرام أمير المؤمنين عليه السلام .
وبعد رحلة النبي صلى الله عليه وآله الاكرم الى دار الخلود ، بدأت حياة جديدة تختلف ايما اختلاف عما كانت عله في كنف والدها العظيم من عز واجلال واحترام ، أليس هو القائل في حقها : « فاطمة روحي التي بين جنبيّ » والقائل : « فاطمة أم أبيها » و : « فاطمة بضعة مني من أحبها فقد أحبني ، ومن أبغضها فقد أبغضني » . الى غير ذلك من الأقوال المأثورة التي سنقف عليها في ثنايا هذا الكتاب .
فمحمد والزهراء وعلي والحسن والحسين والتسعة المعصومون من ذرية الحسين عليهم السلام ، هم قادة الأمة وملاذها ، وهم عنوان مجدها وكرامتها . فأين نحن عن فهم حقيقة سيرة هؤلاء الأطياب بعيداً عن كل تزمت او تعصّب مشين ؟
نحن أمة محمد صلى الله عليه وآله اليوم محدقون بالأخطار والأهوال من كل جوانب حياتنا ، فأعداؤنا كُثّر ، واحقادهم لا نهاية لحدودها ، فالتآمر على ديننا الحنيف ، بل ووجودنا وكياننا كأمة لها رسالة وقيادة الهية مقدسة .
ما أحرانا نحن الأمة المستضعفة ، ان ننهض من جديد من سباتنا العميق لنجدد تلك الذكريات بأقلام شعبية واضحة ، بعيدة عن الاساليب البلاغية ذات المحسنات البديعية ، حتى تكون بمثابة خطاب موجه الى الجماهير في كل مكان يستفيد منها المثقف والناشئ والاستاذ والطالب .
لا أقول ان نكتب السيرة نثراً فحسب ، فالشعر ايضاً هو الصوت المؤير في
( 26 )
المشاعر والقلوب ، بل هو السيف البتّار في كشف الحقائق والأسرار ، حتى تعرف الأمة تاريخها ، وتراثها الغابر ، دونما زيف او وجل او مبالغة .
نحن وعلى مدى هذا العمر القصير ، وقفنا على كثير من الكتابات والمؤلفات التي تظهر بين آونة وأخرى ـ من هنا وهناك ـ وان قسماً منها قد كتب ونشر منذ قرون غابرة ، لكنها أمالت بوجهها عن اتباع طريق الهدى والحق ، فأحدثت في وحدة الأمة شرخاً ، واورت نار البغضاء والشحناء ، فبررزت عصابات من حولها تطبّل لهذا تارة وتزمر لذلك اخرى ، كأن لم يكن لها شغل شاغل غير هذا النفخ المريب في ابواق التفرقة وفصم عرى الاتحاد ، وهذا هو بعينه ، ما خطط له المستعمرون الغاشمون ، قديماً وحديثاً .
نحن اليوم بأمس الحاجة الى وقفة جادة وصريحة تدعو الى الحق وتأخذ به ، وتعمل من أجل الحق وتدافع عنه ، ولا يكون هذا إلاّ بالتخلّي عن الشوائب التي علقت بالنفس ، والادران التي التصقت في حنايا الصدور .
يا ابناء محمد الرسول الكريم صلى الله عليه وآله ، ويا أبناء فاطمة ، وحّدوا الصفوف واتركوا كلَّ ما يثير الشحناء والفرقة ، فأنتم اليوم المستهدفون في كل بقاع الارض .. وما لم تتوحّدوا وتتآلفوا لم يرهبكم احد أينما كنتم .
اننا نوجه نداءنا الى ادبائنا ومثقفينا بالتوجه الجاد نحو الكتابة عن سيرة سلفنا الصالح وقادتنا الأئمة المعصومين الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا . ففي سيرتهم المتلألئة تستضيئ الشعوب ، وعلى هدى خطواتهم تسير في الحياة وتتعامل مع كل مفصل من مفاصلها ، ومن
( 27 )
عظمتهم يكتشف من الجوانب العلمية الخافية على العلماء والمعنيين من المثقفين وعمالقة الفكر وروّاد الأبداع .
انها فاطمة الزهراء التي يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها ، ونوّه رسول الله بعضمتها وجلالة قدرها ، وأمير البلاغة والبيان علي عليه السلام ينظر اليها بنظر الاجلال والاعظام وائمة أهل البيت ينظرون اليها بنظر التقديس والاحترام .
سلام على الزهراء وأبيها وبعلها وبنيها وعلى التسعة المعصومين من ذرية ولدها الحسين عليه السلام .
اراد الله سبحانه وتعالى ان يمدّ يده طاهرة قوية الى هذه المرأة التي انفردت بالحب الكبير منذ مولدها بعد المبعث بخمس سنين وثلاث سنين من الاسراء ، وعلى رواية اهل السنة قبل المبعث بخمس سنين ، وكبرت ونمت معها براءة الطفولة ، فكانت احب الناس الى الله ورسوله ، وهي آخر اولاد الرسول من خديجة واصغرهم ـ كما مرّ بنا آنفاً ـ .
ولدت في مكة المكرمة وفي بيت الوحي والجهاد ، وترعرعت في ظل ابوين لم يعرف التاريخ افضل منهما ، هذا المولود الجديد كان حديث كل دارة ومجلس ، وشاغل كل نديّ وسامر ، فتعطرت ارجاء الدار بعبير نشرها ، وكان مولد فاطمة عليها السلام قبل النبوة وقريش حينئذ تبني الكعبة (1)
كانت الزهراء سلام الله عليها تؤنس امها خديجة في ايام الحمل وتحدثها بما يطيب خاطرها ويبعث الطمأنينة والسرور الى قلبها (2)لقد دخل عليها
(1) طبقات ابن سعد / ج8 / ص11 / والاصابة في تمييز الصحابة / ج 8 / ص157 .
(2) فاطمة الزهراء ام ابيها / فاضل الحسيني الميلاني / ص 26 .
( 29 )
النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرة وقال لها : ياخديجة من تحدثين ؟ قالت : الجنين الذي في بطني يحدثني ويؤنسني ! فقال : يا خديجة هذا جبرئيل يبشرني انها انثى ، وانها النسلة الطاهرة الميمونة ، وان الله تبارك وتعالى سيجعل نسلي منها وسيجعل من نسلها ائمة ويجعلهم خلفاء في ارضه بعد انقضاء وحيه (1) .
ولدت فاطمة فولد الخير كُلُه ، ونشأت على العبادة والصلاة في بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ونبغت نبوغاً فذاً وتقدمت بها السن حتى احتلت مكان الصدارة بين نساء العالم اجمع . قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لفاطمة : يا بنيّة من صلى عليك غفر الله له والحقه بي حيث كنت في الجنة (2) .
وقال صلى الله عليه وآله وسلم : فاطمة بضعة منّي يؤذيني ما آذاها ويريبني ما رابها (3) .
وقال صلى الله عليه وآله وسلم : ان فاطمة بضعة منّي يغضبني من اغضبها (4) .
وفي قول : فاطمة بضعة مني يقبضني ما يقبضها ويبسطني ما انصبها .
وفي قول : فاطمة بضعة مني يسعفني ما يسعفها .
وفي قول : فاطمة شجنة مني يبسطني ما يبسطها ويقبضني ما يقبضها .
(1) المصدر السابق / ص 27 .
(2) كشف الغمة / محمد بن عيسى الاربلي / ص 142 .
(3) صحيح مسلم / ج2 والخصائص / للنسائي / ص 35 .
(4) صحيح البخاري / ج2 / ص 260 / فصل : مناقب فاطمة .
( 30 )
وفي قول : فاطمة مضغة مني فمن آذاها فقد آذاني .
وفي قول : فاطمة مضغة مني يسرني ما يسرها (1) .
ومن الاصابة كانت ولادة فاطمة بعد البعثة وهي اصغر بناته صلى الله عليه وآله وسلم واحبهن اليه . قالت عائشة : ما رأيت قط احداً افضل من فاطمة غير ابيها . عن ابن عباس : خط النبي صلى الله عليه وآله وسلم اربع خطوط فقال : افضل نساء اهل الجنة خديجة وفاطمة ومريم وآسية (2)من ذلك كله نلاحظ ان هناك الكثير مما طفحت به كتب الاخبار وشهدت له ألسنة ، الرواة في ولادة الزهراء من الاحاديث والروايات المسندة .
(1) الغدير / عبد الحسين الاميني / ج7 / ص 232 .
(2) ينابيع المودة / للقندوزي / ص 170 و 171 .
مما ينبغي ان يشار اليه انهناك شرحاً لغوياً مفصلاً يسرده المؤرخون للتعريف بـ (فاطمة) و (الزهراء) و (البتول) ، فمما رواه العلامة المجلسي قدس سره في البحار بخصوص لفظة فاطمة بخبر مسند عن جعفر بن محمد عليه السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي : هل تدري لم سميت فاطمة ؟ قال علي : لم سميت فاطمة يا رسول الله ؟ قال : لانها فطمت هي وشيعتها من النار
(1)
وعرفت بالزهراء لانها تزهر لأمير المؤمنين . قال المجلسي : عن ابان بن تغلب قلت لأبي عبد الله عليه السلام : يا ابن رسول الله لم سميت الزهراء بـ (زهراء) ؟ فقال : لانها تزهر لأهل الارض في النهار ثلاث مرات بالنور . كان يزهر نور وجهها عند صلاة الغداة والناس في فراشهم فيدخل بياض ذلك النور الى حجراتهم بالمدينة فتبيض حيطانهم فيعجبون من ذلك ، فيأتون النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيسألونه عما رأوا فيرسلهم الى منزل فاطمة عليها السلام ، فيأتون
(1) بحار الانوار للعلامة الشيخ محمد باقر المجلسي / ج 43 / ص 15 .
( 32 )
منزلها فيرونها قاعدة في محرابها تصلي والنور يسطع من محرابها من وجهها ، فيعلمون ان الذي رأوه كان نور فاطمة فاذا انتصف النهار ترتبت للصلاة زهر نور وجهها عليها السلام بالصفرة فيدخل الضوء في حجرات الناس فتصفر ثيابهم والوانهم ، فيأتون النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسألونه عما رأوا ، فيرسلهم الى منزل فاطمة عليها السلام فيرونها قائمة في محرابها وقد زهر نور وجهها عليها السلام بالصفرة فيعلمون ان الذي رأوا كان من نور وجهها ، فاذا كان آخر النهار وغربت الشمس احمر وجه فاطمة فأشرق وجهها بالحمرة فرحاً وشكراً لله عز وجل فكان تدخل حمرة وجهها حجرات النوم وتحمر حيطانهم فيعجبون من ذلك وياتون النبي صلى الله عليه وآله ويسألونه عن ذلك ، فيرسلهم الى منزل فاطمة فيرونها جالسة تسبح الله وتمجده ونور وجهها يزهر بالحمرة فيعلمون ان الذي رأوا كان من نور وجه فاطمة عليها السلام . فلم يزل ذلك النور في وجهها حتى ولد الحسين عليه السلام فهو يتقلب في وجوهنا الى يوم القيامة في الائمة منا اهل البيت امام بعد امام
(1) .
وقد قيل فيها بهذا الخصوص :
خجلاً من نور طلعتهاوحيـاء من شمائـلها
تتوارى الشمس في الافق يتغطى الغصن بالـورق
وعرفت الزهراء بالبتول لانها لم تحضْ ، يقول آدم متز : ذهب الشيعة في السيدة فاطمة (رضي الله عنها) الى ما شبه صفات السيدة مريم عليها السلام ، فهي قد سميت البتول مثل مريم ، يروي الشيعة عن النبي عليه
(1) بحار الانوار للعلامة الشيخ محمد باقر المجلسي / ج 43 / ص 11 .
( 33 )
السلام انه اجاب من سأله : ما البتول ؟ فقال البتول التي لم تر حمرة قط ، أي لم تحض ، فان الحيض (1) مكروهة في بنات الانبياء (2) . لقد كانت طاهرة من الحيض والنفاس ، ولعمري انها صفة انفردت بها عن بنات حواء ، وقد ساعدتها هذه المكانة المرموقة التي تتمتع بها والدها ووالدتها على تربيتها وتوجيهها حتى اصبحت آية في الذكاء والفهم والبلاغة على حداثة سنّها ، فالزهراء هي كريمة منقذ الانسانية الرسول الاعظم محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن اهل بيت النبوة ومعدن الرسالة المنزهين عن الدنس المطهرين بنص الكتاب ، مالو وعته الارض لزلزلت زلزالها وأخرجت أثقالها من الكفر بالله وهتك حرمات بيته ، عجزت عن اطرائها قواميس اللغات ، وقصرت عن ادراك كنهها افئدة اولي الالباب . فآيات نبلها لا تحصى ومناقبها لا تستقصي ، وجميل صفاتها لا يوصف ، اكتسبت الفضائل الانسانية والارشادات والعلوم النافعة والسجايا الحميدة وامثالها مع اتقانها بالعمل والموارد التي تحتاج اليها الامة ، وجبلت على الدين والتقوى والزهد ، فشمرت عن ساعدي الجد والاجتهاد لنصرة العلم والحفاظ على شعائر التقوى والنواميس المقدسة والاستمرار في الارشاد والهداية ، كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحبها حباً جماً ، فقد قال مخاطباً امير المؤمنين علياً عليه السلام : يا علي اعطيت ثلاثاً لم يعطها الصفات الكاملة التي تجلت بها وفق ما يتطلبه الدين الاسلامي القويم وكتاب الله العزيز . ولا شك ان هذا الفهم المبكر وحدة الذكاء ، جعلا منها نموذجاً صالحاً قل نظيره ، الى
(1) الحيض : جمع ، مفرده الحيضة .
(2) الحضارة الاسلامية في القرن الرابع الهجري / آدم متز / ص 126 .
( 34 )
جانب ذلك كانت توصف بجمال الهيئة وتمام الخلقة وصدق الحسن ونفاذ البصيرة ، وكان للنبي صلى الله عليه وآله وسلم اثر عميق في نفسها ، لذلك لم ير أشرف من الزهراء في طهرها وعفافها ومن ابائها وشممها واخلاصها ومكارم اخلاقها .
تأدبت الزهراء بأخلاق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، واشتهرت بكونها المثل الاعلى للرجال ، بل النساء ، ولذا يحق لها أن تكون اسوة لنساء العالم دون استثناء ، والتاريخ على كثرة ما فيه من النساء المثاليات ، لم يستطع ان يُري البشرية امرأة كهذه السيدة الجليلة ، فقد كانت المسلمة الكاملة بين فضليات المسلمين و المسلمات، و مع ان خديجة و مريم و آسية من فضليات النساء فان فاطمة عليها السلام افضلهن جميعاً . ولا نقول ذلك اعتباطاً او بالنظر الاسلامي فحسب ، بل حتى بالنظر الى المزايا الانسانية والفضائل البشرية ، فهل يرينا التاريخ ان مريم كانت تتوالى عليها المصائب والآلام منذ ولادتها حتى وفاتها ، ثم تقابل تلك المصائب والمحن برباطة جأش كالجبال الرواسي صلابة وصموداً ، وكذلك قل بالنسبة لخديجة وآسية . هذه السيدة الجليلة الطاهرة افضل مثال للاقتداء
بها في جهادها وصبرها وفضائلها وسائر مزاياها .
اجل ! ان فاطمة الزهراء عليها السلام هي المثال الصالح لكل الفضائل ، فهي حوراء أنسية لانها خلقت من ثمر الجنة ، بنت برة وزوجة صالحة وام حنون وعاملة كادحة ، وعابدة زاهدة ، وعالمة غير معلمة ، وفهمة غير مفهمة ، صابرة محتسبة غنية النفس . وقد سمعت اباها يقول : ( ليس الغنى من كثرة المال انما الغنى غنى النفس ) . فهي لم تكن تحفل بزخارف الدنيا
( 35 )
ومظاهرها ، وقد سمعت اباها يقول : ( من اصبح وهمه الدنيا شتّت الله عليه امره وجعل فقره بين عينيه ، ولم يؤته من الدنيا الا ما كتب له ، ومن اصبح وهمّه الاخرة
جمع الله له همه ، وحبّذ عليه صنيعه وجعل غناه في قلبه واتته الدنيا راغمة ) .
لا شك ان هذا النور هو من الفيض الإلهي ، وان ولادة الزهراء ولادة الامل . والذي
يلاحظ بوضوح من خلال النصوص المتقدمة ان الزهراء حالة خاصة فريدة لا يمكن القياس عليها بسواها من نساء العالم قاطبة . وللوالد تغمده الله برحمته ابيات في ذكر مولدها ، قال :
ان بنت المصطفى فاطمة ذاتـها جوهـرة قدسـيةانها فلذة طـه المصطفى انجبـت ذريـة طيبـة انها خالـدة في فضلـها
قد اتى ميلادها نصراً مبين صاغـها الله هدى للعالمينانها خير نسـاء العالميـن كفت الاسلام سر العالميـن باسمها العاطر أشدو كل حين
تواترت الاخبار في فضل الزهراء وطهارتها ، فقد قيل : انها سيدة نساء اهل الجنة
(1) وافضلها (2) وسيدة نساء العالمين (3) وكيف لا تكون كذلك وقد خلقها الله نوراً لملائكته يكشف عنهم الظلمات قبل ان يخلق آدم ، حتى حبا الله بها نبيه الاكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم فمنحه بضعته العظمة النبوية ومنبثق الامامة ومبرق العصمة وارومة الطهارة
(1) الصواعق المحرقة ـ ابن حجر الهيثمي ـ الفصل الثالث .
(2) مسند احمد ـ الاستيعاب / ابن عبد البر ، عن ابن عباس .
(3) الاستيعاب / ابن عبد البر عن عمران بن حصين .
( 36 )
والقداسة ، مصدر ذريته ومعدن نسله ، دمغ الله تعالى بها ذلك الشاني الأبتر الذي كان يعيّر رسول الله تعالى صلى الله عليه وآله وسلم بانه ليس له عقب ، فنزلت فيه هذه الآية الكريمة : ( إنَّ شَانِئَكََ هُوََ الاَبْتَرُ) .
كان نسل الرسول بنتاً فاضحى مثل نبت الربيع عمّ البسيطة . ذكر ابن شهر اشوب في المناقب من اسمائها : فاطمة ، البتول ، الحصان ، الحرة ، السيدة ، العذراء ، الزهراء ، الحوراء ، الطاهرة ، الزكية ، مريم الكبرى ، النورية ، السماوية .
وفي ( معجم البلدان ) تعريف بالزهراء هذا نصه : الزهراء ممدود تأنيث الأزهر ، وهو الابيض المشرق والمؤنثة زهراء ، والازهر : النيّر ومنه سمي القمر الازهر (1) .
لقد حملت فاطمة الزهراء كل صفات الشرف والفضيلة ، وهي صفات الملائكة والصديقين ، واتسمت بسمات الحور العين ، بحيث يعجز عن وصفها قلم واصف .
سبق ان بيّنا ان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم كان يود فاطمة الزهراء عليها السلام ويحن اليها . ولا بد لنا ونحن في معرض الكلام عن الزهراء وابيها ان نستعرض بعض الشواهد ليقف القارئ على مدى هذا الحب الطاهر . جاء في ( اعيان الشيعة ) : روى الحاكم في المستدرك بسنده عن ابي ثعلبة الخشني قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اذا رجع من غزاة او سفر اتى الى المسجد فصلى فيه ركعتين ثم ثنّى بفاطمة ، ثم يأتي ازواجه . ( وبسنده ) عن ابن عمر أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان اذا سافر كان آخر الناس عهداً به فاطمة واذا قدم من سفر كان اول الناس به عهداً فاطمة (1) .
واستطرد صاحب الاعيان قائلاً : وقد اعتاد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ان يمرَّ عند خروجه على بيت فاطمة وهي من احب اهله اليه ، فمر ذات يوم عليها ورجع من الباب دون ان يدخل واستمر هاجراً فاطمة ثلاثة ايام ، فاستقدمت عمار بن ياسر وهو من
(1) اعيان الشيعة / السيد محسن الامين العاملي / ج 2 / ص 430 .
( 38 )
اكرم صحابته لديه ، قالت له ان يستنبئ من ابيها عن سبب هذا الهجران . ولما سأله عمار قال له الرسول الكريم ـ وانظر لما قال ـ : رأيت في معصم فاطمة اسورة من الفضة واهل الصُفة يتضورون جوعاً ، فجاء عمار واخبرها الخبر فقالت له : خذ الاسورة وبعها واشتر بثمنها خبزاً لأهل الصفة ، ولما فعل ما امرته به عاد فأخبر اباها بما كان فرجع لعادته معها . وورد في الاستيعاب بالإسناد الى ابي ثعلبة الخشني قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اذا قدم من غزو او سفر بدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين ثم يأتي فاطمة ثم يأتي ازواجه . وعن عائشة ام المؤمنين (رض) انها قالت : ما رأيت أحداً كان اشبه كلاماً وحديثاً برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من فاطمة ، وكانت اذا دخلت عليه قام اليها فقبلها ورحب بها كما كانت تصنع هي به صلى الله عليه وآله وسلم . وعن عائشة (رض) ايضاً قالت : ما رأيت احداً كان اصدق لهجة من فاطمة الا ان يكون الذي ولدها . وعن جميع بن عمير قال : دخلت على عائشة (رض) فسألت أي الناس كان أحبّ الى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ قالت : فاطمة . قلت : فمن الرجال ؟ قالت : زوجها اذ
كان ما علمته صواماً قواماً . وعن ابن بريدة عن ابيه قال : احب الناس الى رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم فاطمة ومن الرجال علي بن ابي طالب ( رضي الله عنهما ) الى غير ذلك (1) ولا شك ان النبي صلى الله عليه
وآله وسلم كان يحب فاطمة حباً جما حتى عدله البعض في ذلك . والحب
(1) اعيان الشيعة / محسن الامين العاملي ج2 / ص 430 / وانظر : ذخائر العقبى للطبري / ص 62 .
( 39 )
الشديد الذي قد يتجاوز المتعارف يصدر احياناً من الاب لجهله وقصر نظره (1) .
لقد كان بين الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم وبين ابنته فاطمة عليها السلام تعاطف شديد ، وبلغ من حبها لأبيها ايضاً ومن حزنها عليه ، انها مازالت معصبة الرأس ، ناحلة الجسد ، مهيضة الركن ، باكية العين ، محرقة القلب ، وانها لم تُرَ بعد وفاته كاشرة ولا ضاحكة . قيل : وبكت حتى نادى بها اهل المدينة فقالوا لها : آذيتنا بكثرة بكائك ، فجعلت تأتي قبور الشهداء في كل اسبوع مرتين فتقول : ها هنا كان الرسول ، وها هنا كان المشركون . ( لقد كان يسأل النبي في قضية فيجيب :
لنأخذ اولا رأي فاطمة . هكذا كان لفاطمة رأي في تربية صحيحة كانت لشخصيتها فيها تلك التنمية ) (2) .
وعن الصادق عليه السلام : انها كانت تصلي هناك وتدعو ، وانها ظلت على ذلك حتى ماتت ، وقد تكون الزهراء مثلاً اعلى في الصبر على المكاره واحتمال الحرمان حتى الجوع والعطش . مرضت يوماً فدخل عليها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
يعودها ، فسألها كيف تجدينك يا بنية ؟ قالت : اني موجعة ، وانه ليزيدني اني مالي
طعام آكله . قال علي عليه السلام : ان فاطمة استقت بالقربة حتى اثرت في صدرها وطحنت بالرحى حتى مجلت يداها وكنست البيت حتى اغبرت ثيابها واوقدت النار تحت القدر حتى
(1) فاطمة الزهراء المرأة النموذجية في الاسلام / ابراهيم الاميني ترجمة : علي جمال الحسيني ص 95 .
(2) فاطمة الزهراء وتر في غمد / سليمان كتاني / ص 114 .
( 40 )
دكنت ثيابها ، فأصابها من ذلك ضرر شديد (1) .
وبلغ من حب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لابنته فاطمة عليها السلام انه كان يكنيها بـ ( أم ابيها ) (2) . وقد اثنى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثناءً مستطاباً في كثير من المواضع . هذا الحب العارم وهذه المودة الخالصة مبعثها المؤهلات العالية التي ورّثها لها ابوها ، وكانت لوقعها اثر كبير في مسيرة حياتها . هكذا عاشت وهي تؤدي رسالتها على احسن ما يمكن الاداء ، يعطف عليها والدها ويهتم بامرها ايما اهتمام . وأجدني اكرر ما ذكرته في مناسبة سابقة من ان الزهراء عليها السلام افضل نساء اهل الجنة . وعن عائشة قالت : ما رأيت احداً
اشبه حديثاً وكلاماً برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من فاطمة . وكانت اذا دخلت عليه اخذ بيدها فقبلها واجلسها في مجلسه ، وكان اذا دخل عليها قامت فقبلته بيده فأجلسته في مكانها (3) . وسأله علي عليه السلام يوماً فقال : يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انا احب اليك ام فاطمة ؟ فقال : انت عندي اعز منها ، وهي احب منك (4) . وهناك روايات كثيرة كلها تنص على محبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الاكرم للصديقة الزهراء
سلام الله عليها .
(1) مجلة ( العرفان ) اللبنانية ـ خصال ( فاطمة الزهراء ) لعارف النكدي / ج 6 / مج 51 ( شعبان 1383 هـ / 1963 م ) ص544 .
(2) فاطمة الزهراء ام ابيها ، فاضل الحسيني الميلاني / ص 35 .
(3) كشف الغمة / علي بن عيسى الاربلي / ج 2 / ص 79 .
(4) كشف الغمة / ج 2 / ص 88 .
في سيرة الزهراء سلام الله عليها مواقف مشرّفة من جهاد في سبيل الله ومحاجة مع بعض الصحابة ودعوة الى التوحيد ، وقد وردت اخبار واحاديث كثيرة كلها تجعل من فاطمة الزهراء عليها السلام المثل الاعلى في علو الهمة والبطولة والايثار وتبصرة الحق والتعاون على البر والتقوى والتمسك بالخلق وما الى ذلك . ونحن اذ نذكر هنا بعضاً من فضائلها ومناقبها في ازمان وسنين توالت . ففي خروج ابي سفيان الى المدينة للصلح واخفاقه ذكر ابن هشام فقال : خرج ابو سفيان فدخل على علي بن ابي طالب رضوان الله عليه وعنده فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنها ، وعندها الحسن بن علي غلام يدب بين يديها . فقال : يا علي انك امس القوم بي رحماً واني جئتك في حاجة فلا أرجعن كما جئت خائباً فاشفع لي
الى رسول الله ، فقال : ويحك يا ابا سفيان والله لقد عزم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على امر لا نستطيع ان نكلمه فيه ، فالتفت الى فاطمة فقال : يا بنت محمد هل لك ان تأمري بنيّك هذا
( 42 )
فيجير بين الناس ، فيكون سيد العرب الى آخر الدهر ؟ قالت : والله ما بلغ بنّي ذاك ان يجير بين الناس وما يجير احد على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : يا ابا الحسن اني ارى الامور قد اشتدت عليّ فانصحني ، قال : والله ما اعلم لك شيئاً ، ولكنك سيد بني كنانة ، فقم فأجر بين الناس ثم الحق بأرضك ، قال : او ترى ذلك مغنياً عني شيئاً ؟ قال لا والله ما اظنه ، ولكني لا اجد لك غير ذلك ، فقام ابو سفيان في المسجد فقال : ايها الناس اني قد اجرت بين الناس ، ثم ركب بعيره فانطلق ، فلما قدم على قريش ، قالوا ما وراءك ؟ قال : جئت محمداً فكلمته ، فو الله ما ردَّ عليَّ شيئاً ، ثم جئت ابن ابي قحافة فلم اجد فيه خيراً ، ثم جئت ابن الخطاب فوجدته ادنى العدو ، قال : ابن هشام اعدى العدو (1) .
وفي ما امر به الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم عليها من أمور حج بيت الله الحرام ، قال ابن اسحاق : وحدثني عبد الله بن ابي نجيح : ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان بعث علياً رضي الله عنه الى نجران ، فلقيه بمكة وقد احرم ، فدخل على فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم رضى الله عنها فوجدها قد حلت وتهيأت ، فقال : مالك يا بنت رسول الله ؟ قالت : امرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ان نحلّ بعمرة فحللنا ، ثم اتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما فرغ من الحَير عن سفره ، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : انطلق فطف بالبيت وحلّ كما حلّ باصحابك ؟ قال : يا رسول الله اني هللت كما اهللت ،
(1) السيرة النبوية / ابن هشام ج 3 و 4 / ص 396 / وانظر حياة محمد / محمد حسين هيكل / ص 261 .
( 43 )
فقال : ارجع فاحلل كما حل اصحابك ، قال : يارسول الله اني قلت حين احرمت : اللهم اني اهلّ بما اهلّ به نبيك وعبدك ورسولك محمد صلى الله عليه وسلم ، قال : فهل وثبت على احرامه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى فرغا من الحج ، ونحر رسول الله صلى الله عليه وسلم الهدي عنهما (1) .
وعن ابي هريره قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اول شخص يدخل علىّ الجنة فاطمة بنت محمد . وروي باللفظ الصريح يرويه كل من النجار ومسلم والترمذي عن النبي صلى الله عليه وآله انه قال : قد كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء الا مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون . وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد . وعن كتاب العترة النبوية مرفوعاً الى قتادة عن انس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله : خير نسائنا مريم وخير نسائنا فاطمة بنت محمد وآسية امراة فرعون . وبإسناده ايضاً عن انس ان النبي صلى الله عليه وآله قال : حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد . وعنه ايضاً قالت عايشة لفاطمة : الا يسرك اني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : سيدات نساء اهل الجنة أربع مريم بنت عمران وفاطمة بنت محمد وخديجة بنت خويلد وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون . وعنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : اذا كان يوم القيامة قيل يا اهل الجمع غضوا ابصاركم حتى تمر فاطمة بنت محمد وعليها ربطتان خضراوان وفي بعض الروايات حمراوان (2) .
(1) السيرة النبوية / ابن هشام / ج 3 / ص 602 .
(2) الفصول المهمة في معرفة احوال الائمة ـ لعلي بن محمد المالكي الشهير بابن الصباغ / ص 129 .
( 44 )
وروي عن مجاهد قال : خرج النبي صلى الله عليه وآله وهو آخذ بيد فاطمة فقال : من عرف هذه فقد عرفها ومن لم يعرفها فيي فاطمة بنت محمد ، وهي بضعة مني وهي قلبي وروحي التي بين جنبي فمن آذاها فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله (1) . قال الشيخ عن الحسين الحويزي :
فاطمة بنت أحمد سادة الخلق جميعالم تنـل مريـم وآسيـة الزهـرا
رجـالها ونسـاءها ولا سارة ولا حوّاها
وروي ان اليهود كان لهم عرس فجاؤوا الى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقالوا : لنا حق الجوار فنسألك ان تبعث فاطمة بنتك الى دارنا حتى يزداد عرسنا بها وألحوا عليه فقال : انها زوجة علي بن ابي طالب وهي بحكمه ، وسألوه ان يشفع الى علي في ذلك وقد جمع اليهود الطم والرمّ (2)
من الحلي والحلل ، وظن اليهود انّ فاطمة تدخل في بدلتها وارادوا استهانة بها ، فجاء جبرئيل بثياب من الجنة وحلي وحلل لم يروا مثلها فلبستها فاطمة وتحلّت بها فتعجب الناس من زينتها والوانها وطيبها فلما دخلت فاطمة دار اليهود سجد لها نساؤهم يقبلن الارض بين يديها واسلم بسبب مارأوا خلق كثير من اليهود (3) .
لقد فقد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حياته بناته بعد خديجة واحدة بعد الاخرى بعد ان كبرن وصرن ازواجاً وامهات ، فلم تبق له منهن
(1) الفصول المهمة / ص 131 .
(2) أي بكل ما كان عنده مستقصى فما كان من البحر فهو الطم وما كان من البر فهو الرم .
(3) بحار الانوار للعلامة الشيخ محمد باقر المجلسي ـ المجلد العاشر / ج 43 / ص 30 .
( 45 )
غير فاطمة ، هؤلاء الابناء والبنات الذين تساقطوا من حوله قد دفنهم بيده تحت صفائح الثرى ، تركوا في نفسه قرحة ألم اندملت بمولد ابراهيم واثمرت مكانها رجاءً واملاً ، وكان حلاً له ان يمتلئ بهذا الامل غبطة واستبشاراً .
مرّ بنا كيف ان النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم كان يحب فاطمة ، يصونها ويؤنس وحشتها ، لكن محمداً قد مرض وقد بلغت به شدة المرض حداً آلمه ، ذلك ان الحمى زادت به حتى لقد كانت عليه قطيفة ، فاذا وضع ازواجه وعوّاده ايديهم من فوقها شعروا بحر هذه الحمى المضنية ، وكانت ابنته فاطمة تعوده كل يوم ، وكان يحبها ذلك الحب الذي يمتلئ به وجود الرجل للابنة الواحدة الباقية له من كل عقبه ،
لذلك كانت اذا دخلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم قام اليها وقبلها واجلسها في مجلسه ، فلما بلغ منه المرض هذا المبلغ دخلت عليه فقبلته ، فقال : مرحباً يا بنيتي ، ثم اجلسها الى جانبه واسرَّ اليها حديثاً آخر فضحكت ، فسألتها عائشة في ذلك ، فقالت : ما كنت لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فلما مات ذكرت انه اسرَّ اليها انه سيقبض في مرضه هذا فبكت ، ثم اسرَّ انها اول اهله يلحقه ، فضحكت ، وكانوا لاشتداد الحمى به يضعون الى جواره اناء فيه ماء بارد ، فما يزال يضع يده فيه ويمسح بها على وجهه ، وكانت الحمى تصل به حتى يغشى عليه
احياناً ثم يفيق وهو يعاني منها اشد الكرب . حتى قالت فاطمة يوماً وقد حز الالم في نفسها لشدة الم ابيها : واكرب ابتاه ، فقال : لا كرب على ابيك بعد اليوم . يريد انه سينتقل من هذا العالم ، عالم الاسى والألم (1) .
(1) حياة محمد / محمد حسين هيكل / ص 313 .
( 46 )
وعن مهاجر بن ميمون عن فاطمة عليها السلام قالت : قلت لابي صلى الله عليه وآله وسلم : اين أمنا خديجة ؟ قال : ببيت من قصب لا لغوب فيه ولا نصب بين مريم وآسية امرأة فرعون ، قلت : أمن هذا القصب ؟ قال : لا بل من القصب المنظوم بالدر والياقوت .
وعن حذيفة رفعه : نزل ملك من السماء فاستأذن الله ان يسلم على ما لم ينزل قبلها فبشرني عن الله عز وجل ان فاطمة سيدة نساء اهل الجنة (1) .
لعلنا لم نأت بجديد حين نقول ان هناك آيات نزلت في حق علي واهل بيته ينص على ذكرها المؤرخون في اسفارهم ، ومن هذه الآيات الدالة على كرمهم قوله سبحانه وتعالى في محكم كتابه : ( وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلىَ حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً ) (2)فعن ابن عباس ، انها نزلت في علي وفاطمة وابنيهما وجاريتهما فضة (3) .
ومن اخبارها سلام الله عليها ما نقله ابن ابي الحديد في شرحه قائلاً : ( ان الشيخ رأى في حلمه ان فاطمة الزهراء ) بنت رسول الله دخلت عليه وهو في مسجده بالكرخ ومعها ولداها الحسن والحسين صغيرين ، فأسلمتهما اليه وقالت علمهما الفقه ، فانتبه الشيخ عجباً ، فلما تعالى النهار صبيحة تلك الليلة ، دخلت عليه المسجد فاطمة بنت الناصر ، وحولها جواريها وبين يديها ابناها ( علي المرتضى ) و ( محمد الرضي ) صغيرين ، فقام اليهما وسلم عليهما ،
(1) ينابيع المودة ـ للقندوزي / ج 2 / ص 89 .
(2) سورة الدهر / 8 .
(3) ينابيع المودة / ج 2 / ص 36 .
( 47 )
فقالت له : ايها الشيخ هذان ولداي قد احضرتهما اليك لتعلمهما الفقه ، فبكى الشيخ وقص عليها الرؤيا وتولى تعليمهما (1)
الى غير ذلك من المناقب الشريفة والمراتب العالية المنفية .
(1) شرح نهج البلاغة / ابن ابي الحديد / ج1 / ص 24 .
يكاد يجمع المؤرخون ان حمل طين الحسين عليه السلام امان من كل خوف ، ويستحب حمل سبحة من طين . روى الشيخ الصدوق في ( علل الشرائع ) بسنده عن علي عليه السلام ان فاطمة عليها السلام استقت بالقربة حتى اثرت في صدرها ، وطحنت بالرحى حتى مجلت (1)يداها وكسحت البيت ( أي كنسته ) حتى اغبرت ثيابها ، واوقدت النار تحت القدر حتى دكنت ثيابها ( أي اسودت ) فأصابها من ذلك ضرر شديد ، فقال لها علي عليه السلام : لو اتيت اباك فسألته خادماً ، فجاءت فوجدت عنده جماعة فاستحيت وانصرفت ، فعلم انها جاءت لحاجة فغدا علينا ونحن في لحافنا ، فأردنا ان نقوم فقال مكانكما فجلس عند رؤوسنا ، فقال : يا فاطمة ما كانت حاجتك امس ؟ فاخبره علي عليه السلام فقال : أفلا اعلمكما ما هو خير لكما من الخادم ؟ اذا اخذتما منامكما كبرا اربعاً وثلاثين
(1) قال ابن منظور في ( لسان العرب ) مجل مجلت يداه بالكسر ، ومجلت : نفطت يداه . من العمل فمرنت وصلبت وثخن جلدها .
( 49 )
واحمدا ثلاثاً وثلاثين وسبحا ثلاثاً وثلاثين ، فأخرجت فاطمة رأسها وقالت : رضيت عن الله ورسوله ثلاث دفعات . وروى ابن حجر في ( الاصابة ) نحوه ثم قال : قال علي : فوالله ما تركتهن منذ علمتهن . فقال له ابن الكوا : ولا ليلة صفين ، فقال : قاتلكم الله يا اهل العراق ولا ليلة صفين . وروى الحاكم في ( المستدرك ) وصححه على شرط الشيخين وعن علي بن ابي طالب عليه السلام : اتانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فوضع رجله بيني وبين فاطمة ، فعلّمنا ما يقول اذا اخذنا مضاجعنا ، فقال : يا فاطمة اذا كنتما بمنزلكما فسبحا الله ثلاثً وثلاثين واحمدا ثلاثاً وثلاثين وكبرا اربعاً وثلاثين ، قال علي : والله ما تركتها بعد ، فقال له رجل كان في نفسه عليه شيء : ولا ليلة صفين ؟ قال : ولا ليلة صفين . ( اقول ) هذا هو المعروف بتسبيح الزهراء عليها السلام .
وورد عن ائمة اهل البيت عليهم السلام استحبابه عقيب كل صلاة ، وجاء في كيفيته عكس ما مرّ ، أي بتقديم التكبير ثم التحميد ثم التسبيح ، والظاهر جواز كلا الكيفيتين . وحكى ابن شهراشوب في ( المناقب ) عن الصحيحين انها لما طلبت منه صلى الله عليه وآله وسلم خادماً وكان عنده اسارى ، قال : ولكن ابيعهم وانفق اثمانهم على اهل الصُفَّة . وعلمها تسبيح الزهراء (1) فاتخذت فاطمة عليها السلام سبحة وهي خيط صوف مفتل معقود عليه عدد التكبيرات فكانت تديرها بيدها عليها السلام بتكبير وتحميد وتسبيح ، الى ان قتل حمزة بن عبد المطلب سيد الشهداء فاستعملت تربته وعملت التسابيح فاستعملها الناس . فلما قتل الحسين عليه
(1) اعيان الشيعة / محسن الامين العاملي / ج 2 / ص 442 و 443 .
( 50 )
السلام عدل بالأمر إليه فاستعملوا لما فيها من الفضائل والمزية (1) .
فالزهراء سلام الله عليها ارتفعت بأنسانيتها ، واخذت تنشر المحبة والخير والعدل والمساواة بين المسلمين ، كما دعت الى ترسيخ الايمان الصادق واتباع الحق المبين على هدى الرسالة المحمدية بكل معانيها العظيمة وتحدياتها الكبيرة وروحها المتشبعة
بالفضائل والتقوى والمفاهيم الانسانية الحقيقية المستمدة من مبادئ الاسلام وقيمه العليا ، دين الاخاء والمساواة والتسامح ، ذلك الدين القيم الذي ينشد الحق والعدل والحرية ، تستقي منه الاجيال الصاعدة دروساً في التضحية والدفاع عن القيم المثلى .
(1) الدرة البهية في فضل كربلاء وتربتها الزكية / حسين البراقي / ص 27 و 28 .
تنص الروايات التاريخية كلها على ان الامام علياً ولد في الكعبة سنة 30 لميلاد رسول الانسانية ، وقتل في نفس السنة التي يبتهل فيها الرسول (1) ، وهو اول مولود ولد فيها لم يسبقه بسابق ولم يأت بعده احد ، والكعبة قبلة الاسلام ومنها ينبثق نوره ، وهو سيد الفصحاء والبلغاء وامام المتقين ومولى الموحدين وابن عم الرسول وزوج البتول ووالد السبطين الحسن والحسين عليهما السلام ، اسد الاسلام الغالب الامام علي بن ابي طالب عليه السلام .
أية انسانةٍ تنال هذا الشرف العظيم غيرها ، في وسط الكعبة تضع فاطمة بنت اسد وليدها ، كيف لا يكون علي قد علا شرفاً بمولده كما علا من قبل بأصله الرفيع . ويتساءل الاولاد من ابيهم ما اسم المولود الجديد ؟ فيقول سميته ( علياً ) وقد اعجب الكل بهذا الاسم ، ولم يشغل الام الطاهرة الوليد عن الاهتمام بأم محمد ، فهي تزداد اهتماماً وعناية به وهو يوليها الاحترام والتبجيل ، حتى اذا ما شب عليُ ، وتعدى
الخامسة من عمره بدأ
(1) علي والقرآن / الشيخ محمد جواد مغنية / ص 9 .
( 52 )
يلازم ابن عمه محمد ملازمة الظل لصاحبه يكاد لا يفارقه ابداً . كانت فاطمة بنت اسد سعيدة جداً بملازمة ولدها علي لمحمد ، كما هو شأن ابي طالب ، ورغم ان قريش كانوا يلاحقون محمداً بالأذى ، ويتربصون به الفرصة ، فقد كان علي لابن عمه اكثر من ظل ، وكانت الوالدة المؤمنة تحث ولدها وتدفعه على ذلك (1) .
لقد عجز فصحاء العرب وبلغاؤها ان يجاوره في مضمار الفصاحة والبلاغة ، وخير ما يثبت ذلك بلاغته وفصاحته في كتاب ( نهج البلاغة ) ذلك السفر القيّم الذي لا يرقى اليه شك ولايستغني عنه العلماء الاعلام والسياسيون المحنكون والمفكرون قاطبة لما تضمن من فنون الحكمة والمعرفة واساليب السياسة وقوانين المجتمعات وحقائق الايمان ومعرفة الصانع وتهذيب النفس والحث على مكارم الاخلاق والتمسك بأهداب الفضيلة والمثل العليا . وينص التاريخ انه قتل شهيداً في المسجد عند سجوده في صلاة الصبح فخر صريعاً وهو يقول ( فزت ورب الكعبة ) فكان شهيد المحراب الاول . هذا الرجل الانساني كان انشودة الثورة في تاريخ الاسلام كله . حاز على صفات الكمال التي هي صفات العقل ، وانه مثل العقل النبوي الذي لاجله وجدت جميع الموجودات . وحسب القارئ ما روي عن الصادق سلام الله عليه : ( ان علياً انما بلغ ما بلغ به عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بصدق الحديث واداء الامانة ، كان نموذجاً للحكم وربيباً للنبي وازهد الصحابة ) (2) .
(1) بين يدي الرسول الاعظم / محمد بحر العلوم القسم الثاني / ص 79 .
(2) فاطمة الزهراء ام ابيها / فاضل الحسيني الميلاني / ص 35 .
( 53 )
اتصف بالخلق الانساني العالي ، ليس لطاعنٍ فيه مهمز ولا لقائلٍ فيه مغمز ، اللهم إلا مكابرة ومعاندة . كان يخوض المعارك الدامية بنفسه بين يدي رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم لايهاب الموت في سبيل الحق والاسلام . قال الشاعر السيد مرتضى الوهاب :
ما شاد صرح الدين الا سيفهتركته حين البأس في بأسائه بيمينـه قام البنـاء فكان في
فتحمل الصدمات في اعلائـه وتنافسوا للغنـم فـي سرّائـه ابقاء صرح الدين حسن عزائه
فهو الذي قلع باب خيبر وقلع الصخرة من فم القليب في طريقه الى صفين عندما عجز اصحابه عن قلعها ، وهو الذي قتل مرحباً وعمرو بن عبد ود العامري ، وما عسى ان يقول القائل بعد قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيه :
( انا مدينة العلم وعلي بابها ومن اراد الحكمة فليأتها من بابها ) وأهمية هذا الحديث يرجع الى ما فيه من التأكيد على العلم والمعرفة وسبيل الوصول اليها عن طريق النبي الكريم والوصي الامين . وقد بلغ الامام علي من زهده وعلمه منزلة عالية ونموذجاً صالحاً للامام العالم الزاهد العامل بالكتاب والسنة .
اما مؤاخاته للرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم فأبين من ان تظهر ، وقد بقي ملازماً له كالظل ، وهو حري بان يكون موضع اعتماده وكاتم سرّه ، ومن اقرب من
علي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ؟ ويمكننا ملاحظة ذلك من اقوال الرواة ، فمن ذلك ما رواه الترمذي في صحيحة بسنده عن عبد الله بن عمر انه قال : لما آخى رسول الله صلى الله عليه
( 54 )
وآله وسلم بين صحابته رضي الله عنهم جاءه علي كرم الله وجهه وعيناه تدمعان فقال : يا رسول الله آخيت بين اصحابك ولم تواخ بيني وبين احد فسمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : انت اخي في الدنيا والآخرة .
ومن مناقب ضياء الدين الخوارزمي عن ابن عباس قال : لما آخى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين اصحابه من المهاجرين والانصار وهو انه صلى الله عليه وآله وسلم آخى بين ابي بكر وعمر وآخى بين عثمان وعبد الرحمن بن عوف وآخى بين طلحة والزبير وآخى بين ابي ذر الغفاري والمقداد رضوان الله عليهم اجمعين ولم يواخ بين علي بن ابي طالب وبين احدٍ منهم ، خرج علي مغضباً حتى اتى جدولاً من الارض وتوسد ذراعه ونام فيه تسفى الريح عليه فطلبه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فوجده على تلك الصفة فوكزه برجله وقال له : قم فما صلحت ان تكون الا أبا تراب ، اغضبت حين آخيت بين المهاجرين والانصار ولم اواخ بينك وبين احد منهم ، اما ترضى ان تكون مني بمنزلة هارون من موسى الا ان لا نبي بعدي الا من احبك فقد حف بالأمن والايمان ومن ابغضك اماته الله ميتة جاهلية (1)
واذا كان الرسول الكريم قد تحمل في سبيل دعوته المشاق والمصاعب ابان تلك الفترة المتأزمة ، فان وصيّه قد شاركه في تحمل القسط الاكبر من المشاق والمصاعب التي عاناها ، وفدى نفسه لاجلها . وفي آية المباهلة كان نفس المصطفى ليس غيره اياها ، من المتفق عليه ان النبي محمداً صلى الله
(1) المصدر السابق / ص 22 .
( 55 )
عليه وآله وسلم لما خرج لمباهلة نصارى نجران لم يكن معه سوى علي وفاطمة والحسن والحسين ، والآية الشريفة تصرح ان علياً نفس محمد ( فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدَ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَآءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسََآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللّه عَلَى الْكَاذِبِينَ ) (1) .
فهؤلاء هم اصحاب هذه الآية وليس سواهم ، فالمراد من الابناء الحسن والحسين ومن النساء السيدة فاطمة الزهراء ومن الانفس الامام علي بن ابي طالب عليه السلام . قال الرازي في تفسيره الكبير : خرج الرسول وعليه مرط من شعر اسود وقد احتضن الحسين واخذ بيد الحسن وفاطمة خلفه وعلي خلفها وهو يقول : ( اذا انا دعوت فأمنّوا ) ، وعندما رآهم اسقف نجران قال : يا معشر النصارى اني لأرى وجوهاً لو سألوا الله ان يزيل جبلاً لازاله بها فلا تباهلوا فتهلكوا (2) . وفي كتاب ( الصواعق المحرقة ) : قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : خير اخوتي وخير اعمامي حمزة (3) !
وقال صلى الله عليه وآله وسلم لعلي : انت اخي في الدنيا والاخرة (4) .
قال الشاعر عبد الباقي العمري :
انت العلي الذي فوق العلى رفعا
ببطن مكة وسط البيت إذ وضعا
والواقع الذي لا مراء فيه ان اهم الاسباب التي دعت النبي محمداً صلى
(1) سورة آل عمران / 61 .
(2) النبأ العظيم علي بن ابي طالب / تقي المصعبي الهندي / ج 1 / ص 27 و 28 .
(3) الصواعق المحرقة / ابن حجر الهيثمي / ص 124 .
(4) المصدر السابق / ص 120 .