( 56 )

الله عليه وآله وسلم الى اختيار علي عليه السلام الى جنبه هو ما يتمتع به من مقدرة وكفاءة قتالية وقيادية نادرة اكتسبها من مقدرة وكفاءة الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم ، فان له دوراً مشرّفاً في حروب خاضها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الفتوحات الاسلامية ، وتصدى لمكافحة الظلم والتخلف والتأكيد على الجهاد في سبيل الله والحق حتى النصر .
    اما من الناحية العلمية فان للامام علي قوة الارادة والحزم والعزم ، خير لسان مبين ، اعطى باكثر من فصاحة قس وبيان سحبان الى غير ذلك من الاحاديث الدالة على ما اوتي ابن عم الرسول وصهره وصنوه حبل الله المتين وحبه المكين أمير المؤمنين وسيد الوصيين ، وكان لها ابلغ الاثر في اذكاء النفوس والسمو بالعقول الابية الرفيعة . وهل بالأمكان ان يحيط بهذه العلوم الغزيرة لمن كان الضياء في عقله والشعاع في نفسه ، لقد كان الامام علي يدير شؤون القضاء بنفسه لا يشغله شيء غير القيادة ورعاية الضعفاء وتفقد الارامل والايتام . ( ولم يعرف التاريخ ولن يعرف انساناً ارحم من علي ) (1) .
    ان جوهر قلبه خلص من غرس الطبيعة وصفا كنوز الشمس من ادرانها ، وهذا هو السرّ الذي جعله يتصف بأسمى الفضائل ، وتلك لعمري هي تضحية النفس في سبيل الله ، وقد دفعه ذلك نحو التقدم والسمو الى مدارج العلى والسؤدد . اصاب علي عليه السلام من العظمة ومن خشونة لباسه وجشوبة طعامه ومدرعته المرقعة ونعله المخصوف بيده ما لم يصبه احد سواه ، ان تمتع المرء بزينة الحياة وتنعمه بلذاتها ليس منكراً ، بل المنكر ان
(1) علي والقرآن / الشيخ محمد جواد مغنية / ص 18 .


( 57 )

تخضع النفس لسلطان الهوى والشهوات . قال الازري :
ذاك رأس الموحدين وحامي أي نفس لا تهتـدي بهـداه بيضة الدين من اكف عداها وهو من كل صورة مقلتاها

    فليس بدعاً ان يكون الامام علي عليه السلام عباب البلاغة الذي لا يسير غوره ، ولا يدرك شطآنه ، بل وينبوع الحكمة المستمدة من الوحي الالهي والفيض النبوي ووحي القرآن وسيرة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونهجه . وللدلالة على اكرامه للضيف نسوق هذه الحكاية : ( قيل ان اعرابياً وقف عليه فقال : ان لي اليك حاجة رفعتها الى الله قبل ان ارفعها اليك ( ان انت لم تقضها حمدت الله وعذرتك ) فقال الامام : ( خط حاجتك على الارض ) فكتب الرجل اني فقير ، فقال علي عليه السلام : يا قنبر ( يعني خادمه ) اعطه حليتي الفلانية ، فلما اخذها الاعرابي مثل بين يديه وقال :
كسوتني حـلة تبـلى محاسنـها ان الثنـاء ليحيي ذكر صاحبـه لا تزهد الدهر في عرف بدأت به فسوف اكسوك من حسن الثنا حللا كالغيث يحي نداه السهل والجبـلا فكل عبد سيجزى بالـذي فعـلا

    فقال علي عليه السلام : يا قنبر اعطه خمسين ديناراً ثم قال : اما الحلة فلمسألتك واما الدنانير فلأدبك .
    عاش سيدنا ابو الحسن عليه السلام في كنف ابن عمه الرسول الاعظم محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو ابن ست سنوات ، وتفتحت عيناه على رسول الله ووعى مبادئه وبشر بها عن يقين ، فلم تعلق به اوضار الجاهلية ولم تعبه نفسه يوماً الى مغريات الحياة وبهارجها . ويحسن بنا ان نذكر ان الامام علياً عليه السلام كان علامة مضيئة في تاريخ الامة العريق


( 58 )

صاغ مجدها ونشر قيمتها وسطَّر ملاحم البطولات الفذة ، وقد عرف الخاصة والعامة قول الرسول الاعظم محمد صلى الله عليه وآله وسلم ( اقضاكم علي ) والقضاء هو جوهر الحقيقة ، وتلازم الامام علي عليه السلام صفات ومواهب هي المثل الاعلى للفضائل وينبوعها ، مستكملة كل مقوماتها ، مواهب وصفات شربت شخصية علي بن ابي طالب عليه السلام فاذا هي في وجود الانسان دعامة نشبت بها قيمة الانسان (1) .
    وامير المؤمنين علي عليه السلام يكنى ابا الحسن وابا الحسين ، كما يعرف بابي تراب . جاء في ( مقاتل الطالبيين ) : كان بين علي وفاطمة شيء فجاء رسول الله عليه وآله وسلم يلتمس علياً فلم يجده ، فقال لفاطمة : أين هو ؟ قالت كان بيني وبينه شيء فخرج من عندي غضبان ، فالتمسه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فوجده في المسجد راقداً وقد زال رداؤه عنه واصابه التراب ، فايقظه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجعل يمسح التراب عن ظهره وقال له : اجلس فانما انت ابو تراب وكنا نمدح علياً اذا قلنا له ابو تراب (2) .
    لقد اختاره محمد صلى الله عليه وآله وسلم يتعبد بغار حراء ليكون الساعد الايمن له والربان الامين لسفينته والقائد العقائدي الذي لا تهزه الهزاهز ولا تأخذه في الحق لومة لائم . وقف يضحي في سبيل الامة الاسلامية ، يحمل لواء مسيرة الاسلام الخالد وسامً شرفٍ ثوري وعزيمة لا تقهر . قال الامام الشافعي :
(1) الامام علي نبراس ومتراس / سليمان كناني ص 77 .
(2) مقاتل الطالبيين / ابو الفرج الاصفهاني / ص 25 ـ 26 .



( 59 )

ماذا اقول بمن حطت له قـدم ان قلت ذا بشر فالعقل يمنعني في موضـع وضع الرحمـان يمنـاه واختشي الله من قولي هو ( . . . . )

    هنالك شواهد كثيرة ونصوص صريحة تؤكد على مكانة الامام علي المتميزة في الدولة الاسلامية ومنزلته الرفيعة في صفوف المسلمين ، فهو من دانت له الرقاب وطأطأت له الرؤوس ، ذلك هو زوج الزهراء وابو الائمة الهداة الاطهار .
    استمع اليه وهو يخطب فينحدر الكلم منه كالسيل ، وتتفجر الحكمة والفصاحة من ينابيع فكره كأنها الدر المنثور ، فماذا قال :
    عن امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام قوله :
    فارفض الدنيا ، فان حب الدنيا يعمي ويصم ، ويذل الرقاب ، فتدارك ما بقي من عمرك ، ولا تقل غداً وبعد غد ، فانما هلك من مضى قبلك باقامتهم على الاماني والتسويف ، حتى اتاهم من الله امرهم بغتة وهو غافلون . فنقلوا على اعوادهم الى قبورهم المظلمة . . فمن رفض الدنيا ليس فيه انكسار ولا انخذال ، اعاننا الله واياك على طاعته ، ووفقنا واياك لمرضاته . قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : الدنيا دار من لا دار له ، ومال من لا مال له ، ولها يجمع من لا عقل له ، وشهواتها يطلب من لا فهم له ، وعليها يعادي من لا علم له ، وعليها يحسد من لا فقه له ، ولها يسعى من لا يقين له .
    وقال امير المؤمنين علي عليه السلام : ( يا دنيا اليك عني ، ابيَ تعرضتِ ؟ ام اليَّ تشوقتِ ؟ لا حان حينك ، هيهات ! غُرّي غيري ، لا حاجة لي فيك ، قد طلقتك ثلاثاً ، لا رجعة فيها ، فعيشك قصير ، وخطرك يسير ، وأَمَلك


( 60 )

حقير ، آه من قلة الزاد ، وطول الطريق ، وبعد السفر ، وعظيم المورد ، وخشونة المضجع ! ) .
    هذا امير المؤمنين علي عليه السلام يبكي تارة من قلة الزاد وتارة يبكي لفقد الاحبة كما هو واضح من خطبته الشريفة . الى ان يصل قوله :
    ( ايها الناس اني قد بثثت لكم المواعظ التي وعظ بها الانبياء اممهم ، وأديت لكم ما ادت الاوصياء الى من بعدهم ، وأدبتكم بسوطي فلم تستقيموا . وحدوتكم بالزواجر فلم تستوسقوا ، لله انتم أتتوقعون اماماً غيري ، يطأ بكم الطريق ويرشدكم السبيل ؟ الا انه قد ادبر من الدنيا ما كان مقبلاً ، واقبل منها ما كان مدبراً ، وازمع الترحال عباد الله الاخيار وباعوا قليلاً من الدنيا لا يبقى بكثير من الآخرة لا يفنى ، ما ضر اخواننا الذين سفكت دماؤهم وهم بصفين الا يكونوا اليوم احياء يسيغون الغصص ويشربون الرنق ؟ قد والله لقوا الله فوفاهم اجورهم ، واحلهم دار الأمن بعد خوفهم ، اين اخواني الذين ركبوا الطريق ، ومضوا على الحق ؟ أين عمار وأين ابن التيهان ، واين ذو الشهادتين ؟ اين نظراؤهم من اخوانهم الذين تعاقدوا على المنية ؟ وابرد برؤوسهم الى الفجرة ؟ ثم ضرب بيده الشريفة على لحيته الكريمة ، فأطال البكاء . ثم قال عليه السلام :
    ( اوه على اخواني الذين تلوا القرآن فأحكموه ، وتدبروا الفرض فأقاموه ، احيوا السنة ، واماتوا البدعة ، دُعوا للجهاد فأجابوا ، ووثقوا بالقائد فاتبعوه . . ثم نادى باعلى صوته : الجهاد الجهاد عباد الله ، الا واني معسكر في يومي هذا ، فمن اراد الرواح الى الله فليخرج ) .
    لقد استشهد الامام علي بن ابي طالب عليه السلام والصلاة بين شفتيه ،


( 61 )

مات وفي قلبه الشوق الى لقاء الله عز وجل ، مات قبل ان يبلغ العالم رسالته كاملة وافية ، غير اني اتمثله متبسماً قبل ان يغمض عينيه عن هذه الارض .
    كان عليه السلام اصل علم الفقه ومصدره ، وكل فقهاء الاسلام عيال عليه ، ولا عجب فهو جماع الفضائل ، نام في فراش النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو كالأسد الهصور في عرينه ، فلم يبال بالموت اوقع عليه ام وقع هو على الموت ؟ وكان منه صلى الله عليه وآله وسلم بمنزلة هارون من موسى ، وهو الدرع الحصين له في جميع الغزوات قبل الفتح وبعده .
    وكانت ضربة علي عليه السلام ليلة الاحد لاحدى عشرة ليلة بقيت من شهر رمضان ، وشهادته في الواحد والعشرين منه سنة اربعين من الهجرة عند صلاة الصبح على يد عبد الرحمن ابن ملجم المرادي . . روى جعفر بن سليمان الضبعي عن المعلى بن زياد قال : جاء عبد الرحمن بن ملجم لعنه الله الى امير المؤمنين عليه السلام يستحمله ، فقال : انت عبد الرحمن بن ملجم المرادي ؟ قال : نعم ، ثم قال : انت عبد الرحمن بن ملجم المرادي ؟ قال : نعم ، قال : يا غزوان احمله على الاشقر ، فجاء بفرس اشقر فركبه ابن ملجم لعنه الله واخذ بعنانه فلما ولي قال امير المؤمنين عليه اللسلام :
اريد حياته ويريد قتلي عذيرك من خليلك من مراد

    قال : فلما كان من امره ما كان وضرب امير المؤمنين عليه السلام قبض عليه وقد خرج من المسجد فجيء به الى امير المؤمنين ، فقال له : فوالله لقد كنت اصنع بك ما اصنع وانا اعلم انك قاتلي ولكن كنت افعل ذلك بك


( 62 )

لاستظهر بالله عليك (1) .
    تلك هي شخصية الامام علي بن ابي طالب عليه السلام الذي استطاع بحذقه ومهارته ان يصل الى مركز مرموق في دولة الاسلام والمسلمين .


(1) الارشاد ، للشيخ المفيد / ص 13 و 14 .


( 63 )

البيت الزوجي

    في رواية ابن مسعود عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم : ان الله تبارك وتعالى امرني ان ازوج فاطمة من علي عليه السلام (1) وفي رواية اخرى ينقلها لنا الخوارزمي فيقول : ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج على اصحابه ووجهه مشرق كدائرة القمر ، فسأله عبد الرحمن بن عوف ؟ فقال : بشارة اتتني من ربي في اخي وابن عمي وابنتي بان الله زوج علياً من فاطمة . . . (2) وفي حديث آخر : بان جبرئيل جاء الى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : ان الله يأمرك ان تزوج فاطمة من علي (3) .
    قال احمد في ( الفضائل ) حدثنا ابراهيم بن عبد الصمد البصري حدثنا ابراهيم بن يسار حدثنا سفيان عن ابن ابي نجيح عن ابيه قال اخبرني من
(1) الصواعق المحرقة / ابن حجر الهيثمي / ص 107 .
(2) المصدر السابق / ص 152 .
(3) ينابيع المودة ـ للقندوزي / ج1 / ص 73 .



( 64 )

سمع علي بن ابي طالب يقول على منبر الكوفة : لما اردت ان اخطب فاطمة الى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذكرت انه لا شيء لي ، ثم ذكرت عائدته وصلته فخطبها ، فقال : وهل عندك شيء ، قلت : لا ، قال : فاين درعك الحطمية ؟ فقلت : عندي ، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد وهبها لي فأتيته بها فأنكحني اياها على الدرع ، فلما ان دخلت عليَّ ، قال : لا تحدثن حدثاً حتى اتيكما فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علينا وعلينا كساء او قطيفة ، قال : فتخشخشنا ، فقال : مكانكما على حالكما فدخل علينا فجلس عند رؤوسنا ودعا بماء فدعا فيه بالبركة ورشه علينا ، قال علي فقلت : يا رسول الله ايما احب اليك انا ام هي ؟ فقال : هي احب اليَّ منك وانت اعز علي منها . قال الشعبي : وكان قيمة درعه خمسة دراهم وغيره يقول خمسمائة درهم (1) .
    ولعبد المطلب الشاعر المصري قصيدته العلوية وفيها يتحدث عن علي في صباه واسلامه وكيف جنب الرجس والشرك ثم تكلم عن زواجه من فاطمة الزهراء فقال :
قرآنٌ زاده الاسلام يمناً وشمل زاده الحب التئاما

    وقال احمد في ( الفضائل ) حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن ايوب عن عكرمة عن ابي زيد المدني قال لما اهديت فاطمة الى علي عليها السلام لم تجد عنده الا رملاً مبسوطاً ووسادة وكوزاً وجرة ، فأرسل اليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا تقرب زوجتك حتى آتيك ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فدعا بماء فقال فيه ما شاء الله ان يقول ثم
(1) تذكرة الخواص / سبط بن الجوزي / ص 206 .


( 65 )

نضح به صدر علي عليه السلام ووجهه ثم دعا بفاطمة فقامت اليه في مراطها وهي تصعد عرفاً من الحياء فنضح عليها من الماء وقال لها : اما اني لم انكحك الا أحب اهلي اليَّ واعزهم علي او عندي ، ثم خرج وقال : دونك اهلك ، وما زال يدعو لنا حتى دخل الحجرة فرأى سواداً من وراء الباب ، فقال : من هذا ؟ فقالت : اسماء ، قال : بنت عميس ؟ قالت : نعم ، قال : امع بنت رسول الله جئت كرامة لرسول الله ؟ قالت : نعم ، فدعا لها . وفي رواية انه جهز رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاطمة في خميله وهي القطيفة . وفي رواية جهزها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومعها قربة من ادم ووسادة من ادم حشوها ليف وجلد كبش ينامان عليه بالليل ويغلفان الناضح عليه في النهار ورحا وجرة (1) .
    ومما ينبغي ان يشار اليه في هذا الصدد هو ان المرأة العفيفة المصون فاطمة ، أدارت نفسها بنفسها ، ولم تتكل على خادمتها ، فهي الممرضة لزوجها واولادها ان دعاهم داعي السقام ، تعين زوجها على تنظيم اعماله وتتميم اشغاله ، وتقوم بتدبيرها بكل ما يتكفل راحته ، وقد انجبت نسلاً جامعاً لصفات الكمال ، متحلين بحلى الفضائل . علمت أولادها حسن السلوك وربتهم على العفاف والتقوى وعزة النفس .
    لقد زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ابنته فاطمة من ابن عمه علي اشد الناس محبة للنبي واخلاصاً له منذ طفولته (2) ، فهي قبس من نور محمد ، ووجه جميل يشع ويضىء على العالم الاسلامي لانها بنت الاطائب ،
(1) تذكرة الخواص / سبط بن الجوزي / ص 307 .
(2) حياة محمد / محمد حسين هيكل / ص 185 .



( 66 )

قال الشاعر الشيخ محمد علي كمونة :
فمن مبلغ عني الرسول وحيدرا وفاطمة الزهراء بنت الاطائب

    دخل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دار علي مع ابنته الزهراء ، وهو يقول : اين اخي علي ادعو لي اخي علياً ، وتقول له مولاته ام ايمن : اخوك وقد زوجته ابنتك يا رسول الله ؟ نعم يا ام ايمن انه اخي وليس ذلك بمانعي ان ازوجه ابنتي ، فلقد زوجتها كفوءاً شريفاً وجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقربين (1) .
    وفي ( ذخائر العقبى ) : عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كانت الليلة التي زفت فيها فاطمة الى علي عليهما السلام ، كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم امامها وجبريل عن يمينها وميكائيل عن يسارها وسبعون الف ملك من خلفها يسبحون الله ويقدسونه حتى طلع الفجر (2) .
    وجاء في موسوعة ( اعيان الشيعة ) ما هذا نصه : ( في كشف الغمة روي عن أبي عبد الله عليه السلام انه قال : لولا ان تبارك وتعالى خلق امير المؤمنين لفاطمة ما كان لها كفؤ على وجه الارض ادم فمن دونه ، قال : وروى صاحب كتاب الفردوس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : لولا علي لم يكن لفاطمة كفؤ . وفي مناقب ابن شهر اشوب قد اشتهر في الصحاح بالاسانيد عن امير المؤمنين وابن عباس وابن مسعود وجابر الانصاري وانس بن مالك والبراء بن عازب وام سلمة بالفاظ مختلفة ومعان
(1) امالي الطوسي / للشيخ الطوسي / ج1 / ص364 / وانظر : بحار الانوار للعلامة الشيخ محمد باقر المجلسي / ج42 / ص 105 وغيرها من المصادر .
(2) ذخائر العقبى / للطبري / ص32 .



( 67 )

متعففة : ان ابا بكر وعمر خطبا الى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاطمة مرة بعد اخرى فردهما . وروى احمد في الفضائل عن بريدة : ان ابا بكر وعمر خطبا الى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاطمة فقال انها صغيرة ، وروى محمد بن سعيد كاتب الواقدي في الجزء الثامن من الطبقات الكبيرة بسنده : ان ابا بكر خطب فاطمة الى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : انتظر بها القضاء . فذكر ذلك لعمر فقال له ردك ، ثم ان ابا بكر قال لعمر اخطب فاطمة الى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فخطبها ، فقال : له مثل ما قال لابي بكر انتظر بها القضاء ، فأخبر ابا بكر فقال له ردك . . . الحديث . ( وبسنده ) عن بريدة انه قال نفر من الانفار لعلي : عندك فاطمة ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسلم عليه ، فقال : ما حاجة ابن ابي طالب ، قال : ذكرت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، قال : مرحباً واهلاً لم يرده عليها ، فخرج على اولئك الرهط وهم ينتظرونه قالوا : ما وراءك ؟ قال : ما ادري غير انه قال لي : مرحباً واهلاً ، قالوا : يكفيك من رسول الله احدهما اعطاك الاهل اعطاك المرحب الحديث (1) .
    وهبط على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ملك يقال له محمود مكتوب على كتفيه محمد رسول الله علي وصيه فقال : يا رسول الله ان الله بعثني ان ازوج النور من النور اعني فاطمة من علي (2) .
    لكن الشيء المهم الذي يلفت الانتباه هو ان الامام امير المؤمنين علياً عليه
(1) اعيان الشيعة / محسن الامين العاملي / ج2 / ص 446 و 447 .
(2) امالي الصدوق / ص 353 .



( 68 )

السلام طلب يد ابنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاطمة فأجابه النبي على طلبه دون استثناء ، فقال الامام علي : ان ليس عندي سوى سيفي ودرعي وناقتي ابيعها ، ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : اما السيف فلطالما جاهدت به في سبيل الله ولسوف تجاهد به ايضاً ، واما الناقة فهي تفيدك في اسفارك وغزواتك ولكن الدرع بعه ، فخرج علي وعرض درعه للبيع فاشتراه عثمان بن عفان بـ (480) درهماً وقام ابو بكر بمهمة اعداد الجهاز فذهب الى السوق وابتاع ثوبين ومقنعة وقطيفة واريكة من رخام وفراشاً واربعة وسائد من الجلد وبردة من الصوف وحصيراً وطستاً من النحاس وقربة وقدحاً من الخشب ومشربة ورحاة فبلغ ثمنها (80) درهماً (1) .
    ويحسن بنا ان نشير الى ان الرسول الكريم محمداً صلى الله عليه وآله وسلم دعا اصحابه وجل القوم في المسجد وتلا خطبة العقد في ذلك الحفل حيث قال :
    الحمد لله المحمود بنعته المعبود بقدرته المطاع بسلطانه المرهوب من عذابه المرغوب اليه فيما عنده النافذ امره في السماء والارض الذي خلق الخلق بقدرته وميزهم بحكمته واحكمهم بعزمه واعزهم بدينه واكرمهم بنبيه ، قد جعل المصاهرة نسباً حقاً وامراً مفترضاً نسخ به الانام واوشح بها الارحام والزمها الانام فقال عز وجل : ( وهو الذي خلق من الماء بشراً فجعله نسباً وصهراً وكان ربك قديرا ) فأمر الله يجري قضاؤه وقضاؤه يجري الى قدره وقدره يجري الى اجله فلكل قضاء قدر ولكل اجل كتاب يمحوا الله ما
(1) النبأ العظيم علي بن ابي طالب / تقي المصعبي الهندي / ص 30 .


( 69 )

يشاء ويثبت وعنده ام الكتاب ثم ان الله تعالى امرني ان ازوج فاطمة وعلياً وقد زوجتهما على (400) مثقال فضة .
    ثم التفت الى علي وقال له : ارضيت يا علي ؟ فأجابه علي : نعم رضيت عن الله ورسوله ، فقال النبي : جمع الله شملكما واسعد بركتكما وبارك الله عليكما واخرج منكما نسلاً كثيراً طيباً . ثم غادر الحفل وتوجه نحو داره وقال لاهله : هيئوا لابنتي وابن عمي في حجركم بيتاً ، ثم قال لعلي : بارك الله في ابنة رسول الله يا علي نعم الزوجة فاطمة ، وقال لفاطمة : نعم البعل علي .
    فهيء جميع ما لزم وأعدَّ عليٌ وليمة فخرج ونادى القوم فحضروا واكلوا وكان النبي يقدم الطعام بنفسه .
    وفي ليلة الزفاف ركبت فاطمة على البغلة الشهباء ( دلدل ) وكان سلمان الفارسي ماسكاً بزمامها وزوجات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم امامها ، ونساء بني هاشم خلفها وهنَّ يقرأن بعض الاشعار ، قالت حفصة :
فاطمة خير نساء البشر زوجك الله فتى فاضلاً ومن لها وجـهُ كوجـهِ القمر اعني علياً خير من في الحضر

    وفي رواية اخرى :
فاطمـة خير نسـاء البشر فضلك الله على كل الورى زوجـك الله فتـى فاضلاً فسرن جاراتي بهـا انـها ومن لها وجـهُ كوجـه القمر بفضل من خـص بآي الزمر اعني علياً خير من في الخطر كريمـة بنت عظيم الخطر(1)

    وقالت ام سلمة :
(1) بحار الانوار للعلامة الشيخ محمد باقر المجلسي / ج 43 / ص 116 .


( 70 )

سرن بعـون الله جاراتي واذكرن ما انعم رب العلى فقد هدانـا بعد كفر وقـد وسرن مع خير نساء الورى يا بنت من فضَّله ذو العلى واشكرنه في كل حالات من كشف مكروه وآفات انعشنـا رب السمـاوات تفدى بعمـات وخـالات بالوحي منه والرسالات (1)

    وقالت عائشة :
يا نسـوة استـرن بالمعاجـر واذكرن رب الناس اذ يخصنا والحمـد لله علـى افضـاله سرن بها فالله اعطى ذكرهـا واذكرن ما يحسن في المحاضر بدينـه مع كـل عبد شـاكـر والشكـر لله العـزيـز القـادر وخصها منه بطهـر طاهـر (2)

    وقالت معاذه :
اقول قولاً فيـه ما فيـه محمد خيـر بنـي آدم بفضله عرفنـا رشدنـا ونحن مع بنت نبي الهدى في ذروة شامخة اصلهـا واذكر الخيـر وابديـه ما فيه من كبر ولا تيه فالله بالخيـر يجازيـه في شرف قد مكنت فيه فما أرى شيئاً يدانيه (3)
اول ما يلفت النظر في هذا البيت الزوجي الجديد هو الاطمئنان الذي راح امير المؤمنين علي عليه السلام يعمل من وحيه ، فاستكملت به سعادته التي
(1) بحار الانوار للعلامة الشيخ محمد باقر المجلسي / ج43 / ص 115 .
(2) المصدر / ص 116 .
(3) المصدر .



( 71 )

كان يرجوها بفارغ الصبر ، لقد تم الزواج ببساطة كأنها القناعة ، كأنها الرضى ، كأنها العفة ، كأنها الاستسلام لمشيئة منتظرة ، كأنها السعادة المرجوة على ارتقاب ، وارتبطت حياة فاطمة بحياة علي بالرباط الذي يجب ان يتقاسم عليه كلا الزوجين احكام المصير ، نعيماً بنعيم وبؤساً ببؤس . وتقدمت فاطمة الى ساحة الحياة ، تحمل على منكبيها اعباء المشاركة ، برضوخ المؤمن في استجابته للمشيئة الكبرى ، وكانت المثلبة منها شهادة لها بالاصالة (1) .
    ولابد ان نذكر هنا ان اول انتاج لفاطمة سيأخذه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويرفعه بيديه الكريمتين هو الحسن وتبعه الحسين عليهما السلام . . ثم بقيت الام تنجب ـ من جسمها النحيل ـ لقد نزلت في البيت الفقير اختان اخذتا اسمي خالتيهما زينب وام كلثوم ، وبقيت الام تشارك بالمجهود ، تارة تسقط العبء فيمد الزوج الامين يد المساعدة ، وطوراً تنهض لمتابعة الجهاد ببطولة ما كانت تجد في الجسم الهزيل تلبية لها (2) .
    ومما يذكر بهذا الصدد ان هذه البراعم الخمسة من السلسة المحمدية تمثل كل ما في دوحة الرسالة من فروع ، واختار الرسول الاعظم محمد صلى الله عليه وآله وسلم لكل من هذه البراعم اسماً ، وهي على التوالي : الحسن ، الحسين ، زينب ، ام كلثوم ، المحسن ، كانوا كالكواكب الزهر حسناً وضياءً ، اما اولاد أمير المؤمنين قاطبة كما تحدثنا المصادر فهم في رواية سبعة وعشرون وفي اخرى ثمانية وعشرون . قال الشيخ المفيد عليه الرحمة في
(1) فاطمة الزهراء وتر في غمد / سليمان كناني ص 138 .
(2) المصدر السابق / ص 140 .



( 72 )

( الارشاد ) ما يلي : فأولاد امير المؤمنين سبعة وعشرون ولداً ذكراً وانثى . 1ـ الحسن 2ـ الحسين 3ـ زينب الكبرى 4ـ زينب الصغرى المكناة ام كلثوم . امهم فاطمة البتول سيدة نساء العالمين بنت سيد المرسلين وخاتم النبيين محمد النبي صلى الله عليه وآله وسلم 5ـ محمد المكنى بأبي القاسم ، أمه خولة بنت جعفر بن قيس الحنفية 6ـ عمر 7ـ رقية كانا توأمين . امهما ام حبيب بنت ربيعة 8ـ العباس 9ـ جعفر 10ـ عثمان 11ـ عبد الله الشهداء مع اخيهم الحسين عليه السلام بطف كربلاء ، امهم ام البنين بنت حزام بن خالد بن ارم 12ـ محمد الاصغر المكنى بأبي بكر 13ـ عبيد الله الشهيدان مع اخيهما الحسين عليه السلام بالطف ، امهما ليلى بنت مسعود الدارمية 14ـ يحيى . امه اسماء بنت عميس الخثعمية رضي الله عنها 15ـ ام الحسن 16ـ رملة امهما أم سعيد بنت عروة بن مسعود الثقفي 17ـ نفيسة 18ـ زينب الصغرى 19ـ رقية 20ـ ام هاني 21ـ ام الكرام 22ـ جمانة المكناة ام جعفر 23ـ امامة 24ـ ام سلمة 25ـ ميمونة 26ـ خديجة 27ـ فاطمة رحمة الله عليهن لامهات شتى . وفي الشيعة من يذكر ان فاطمة صلوات الله عليها اسقطت بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذكراً كان سماه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو حمل محسناً ، فعلى قول هذه الطايفة اولاد امير المؤمنين عليه الصلاة والسلام ثمانية وعشرون ولداً والله اعلم واحكم (1) .
    ومما يذكر عن فضلهم وايثارهم بالطعام فان هناك روايات كثيرة تدل
(1) الارشاد / للشيخ محمد بن محمد بن النعمان العكبري الملقب بالشيخ المفيد ص 186 و 187 .


( 73 )

على كرم النبي الكريم واهل بيته الغر الكرام . قال علماء التأويل : فيهم نزل قوله تعالى : ( يوفون بالنذر ويخافون يوماً كان شره مستطيرا ) أنبأنا ابو محمد بن ابي المكارم القزويني بدمشق سنة اثنتين وعشرين وستمائة قال أنبأنا ابو منصور محمد بن اسعد بن محمد العطاري انبأنا الحسين بن مسعود البعوي انبأنا احمد ابن ابراهيم الخوارزمي انبأنا ابو اسحاق احمد بن محمد بن ابراهيم الثعلبي انبأنا عبد الله بن حامد انبأنا ابو محمد احمد بن عبد الله المزني حدثنا محمد بن احمد بن سهيل الباهلي حدثنا عبد الرحمان ابن محمد بن هلال حدثني القاسم بن يحيى عن ابي علي العزي عن محمد بن السايب عن ابي صالح عن ابن عباس . ورواه ايضاً مجاهد عن ابن عباس قال في قوله تعالى ( يوفون بالنذر ) الآية قال : مرض الحسن والحسين عليهما السلام فعادهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومعه ابو بكر وعمر (رض) وعادهما عامة العرب ، فقالوا : يا ابا الحسن لو نذرت على ولديك فكل نذر لا يكون له وفاء فليس بشيء ، فقال علي عليه السلام : عليّ لله ان برأ ولداي مما بهما صمت لله ثلاثة ايام شكراً ، وقالت فاطمة كذلك ، وقالت الجارية يقال لها فضة كذلك ، فالبس الغلامان العافية وليس عند آل محمد قليل ولا كثير ، فانطلق علي عليه السلام الى شمعون بن حانا اليهودي فاستقرض منه ثلاثة اصوع من شعير ، فجاء الى فاطمة فقامت الى صاع فطحنته وخبزته خمسة اقراص لكل واحد منهم قرص ، وصلى علي عليه السلام المغرب مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم اتى المنزل فوضع الطعام بين ايديهم ، فجاء سائل او مسكين فوقف على الباب وقال : السلام عليكم يا اهل بيت محمد مسكين من مساكين المسلمين اطعموني اطعمكم


( 74 )

الله من موائد الجنة ، فسمعه علي عليه السلام فقال :
فاطم ذات المجد واليقين اما ترين البائس المسكين يشكو الى الله ويستكيـن كل امرئ بكسبه رهيـن موعده جنـة علـييـن وللبخيل موقـف مهيـن يا بنت خير الناس اجمعين قد قام بالباب له حنـيـن يشكو الينا جائـع حزيـن وفاعل الخيرات يستبيـن حرمها الله على الضنيـن تهوي به النار الى سجين

    فقالت فاطمة سلام الله عليها :
اطعمه ولا ابـالي السـاعة ان ألحق الاخيار والجماعة ارجو اذا اشبعت ذا مجاعة واسكن الخلد ولي شفاعـة

    قال : فاعطوه الطعام ومكثوا يومهم وليلتهم لم يذوقوا الا الماء القراح . ولما كان اليوم الثاني طحنت فاطمة من الشعير وصنعت منه خمسة اقراص وصلى علي عليه السلام المغرب وجاء الى المنزل ، فجاء يتيم فوقف على الباب فقال : السلام عليكم يا اهل بيت محمد يتيم من اولاد المهاجرين استشهد والدي اطعموني مما رزقكم الله اطعمكم الله من موائد الجنة ؟ فقال علي عليه السلام :
فـاطم بنت السيـد الكريـم قد جاءنـا الله بـذا اليتيـم يحمل في الحشر الى الجحيم ومن يجود اليوم في النعيـم بنت نبي ليس بالـذميـم قد حرم الخلد على اللئيم شرابه الصديد والحميـم شرابه الرحيق والتسنيـم

    فقالت فاطمة عليها السلام :


( 75 )

اني اطعمه ولا ابالي واوثر الله على عيالي
امسوا جياعاً وهم اشبالي
    فرفعوا الطعام وناولوه اياه ، ثم اصبحوا وأمسوا في اليوم الثاني كذلك كما كانوا في الاول ، فلما كان في اليوم الثالث طحنت فاطمة باقي الشعير ووضعته ، فجاء علي عليه السلام بعد المغرب فجاء اسير فوقف على الباب وقال : السلام عليكم يا اهل بيت محمد اسير محتاج تأسرونا ولا تطعمونا اطعمونا من فضل ما رزقكم الله فسمعه علي عليه السلام فقال :
فاطم يا بنت النبي احمـد مني على اسيرنا المقيـد عند العلي الماجد الممجد بنـت نـبـي سـيـد مسـود من يطعـم اليوم يجده في الغـد من يزرع الخيرات سوف يحصد

    فقالت فاطمة عليها السلام :
لم يبق عندي اليوم غير صاع ابنـاي والله مـن الجـيـاع قد مجلت كفي مع الذراع ابوهما للخير ذو اصطناع

    ثم رفعوا الطعام واعطوه للأسير . فلما كان اليوم الرابع دخل علي عليه السلام على النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحمل ابنيه كالفرخين ، فلما رآهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : واين ابنتي ؟ قال : في محرابها ، فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فدخل عليها ولقد لصق بطنها بظهرها وغارت عيناها من شدة الجوع ، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : واغوثاه بالله آل محمد يموتون جوعاً ، فهبط جبرئيل وهو يقرأ ( يوفون بالنذر ) الآية . فان قيل فقد اخرج هذا الحديث جدك في


( 76 )

الموضوعات (1) .
    هكذا تسابقت فاطمة الزهراء سلام الله عليها الى الخيرات ، بما تجود يداها من فضل وكرم ، فلا تستأثر بالثروة المفرطة ، وهي تساعد المعوزين ولا تحرم الضعفاء او تهمل الفقراء ، كل ذلك من أجل اقتطاف المنزلة الرفيعة عند الله سبحانه وتعالى .
    هذا هو الشرف العظيم ، وهذا هو الجاه الكبير الذي حفظه التاريخ لهذه المرأة الجليلة سيدة نساء العالمين ، بنت محمد صلى الله عليه وآله وسلم وخديجة عليها السلام ووريثة الفضل والعلم والسجايا الخيرة ، واكمل النساء عقلاً واشرفهن حسباً ونسباً واحسنهن خلقاً ، والقدوة الصالحة لكل المسلمين .







(1) تذكرة الخواص / سبط ابن الجوزي / ص 212ـ215 .


( 77 )

ذرية الزهراء
عليها السلام
1 / الامام الحسن
عليه السلام
    كان مولد سبط الرسول الاول في منتصف شهر الخير رمضان المبارك من السنة الثالثة للهجرة ، فأقر الله عيون والديه ، فشب هذا الوليد ودرج في حجور طهرت وطابت ، فكان زهرة هذا المنزل وبدر سمائه . وكان شبيهاً بجده رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم ، ومما يروي عنه ان الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم كان يُدلع لسانه للحسن( يخرجه ) فإذا رأى الصبي حمرة اللسان يهشى اليه ( أي يسر وتنبسط اساريره ) ، وقد بذل الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم الشيء الكثير من العناية والرعاية لاولاده . ومن محبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للحسن : عن ابي زهير بن الارقم رجل من الازد قال : سمعت رسول الله صلى الله وسلم يقول للحسن بن علي : من احبني فليحبه فليبلغ الشاهد منكم الغائب ، ولو لا عزمه رسول الله صلى الله عليه وسلم


( 78 )

ما حدثتكم . اخرجه احمد (1) .
    وفي مناقب ابن شهر اشوب : كانت فاطمة ترقص ابنها حسناً تقول :
اشبه اباك يا حسن واعبد الهاً ذا منن واخلع عن الحق الرسن ولا توال ذا الأحن (2)

    يروي العلامة المجلسي فيقول : دعي النبي الى صلاة والحسن متعلق به ، فوضعه النبي صلى الله عليه وآله وسلم مقابل جنبه وصلى ، فلما سجد أطال السجود ، يقول الراوي : فرفعت رأسي من بين القوم فإذا بالحسن على كنف الرسول فلما سلم قال له القوم : يا رسول الله لقد سجدت في صلاتك هذه سجدة ما كنت تسجدها ، كانما يوحى اليك ، فقال لم يوح اليَّ ، ولكن ابني كان على كتفي ، فكرهت ان اعجله حتى نزل (3) .
    وروي عن ابراهيم بن علي الرافعي عن ابيه عن جدته زينب بنت ابي رافع وشبيب بن ابي الرافع عمن حدثه قالت : اتت فاطمة عليها السلام بابنيها الحسن والحسين عليهما السلام الى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في شكواه التي توفى فيها ، فقالت : يا رسول الله هذان ابناك فوّرثهما شيئاً ، فقال : اما الحسن فان له هيبتي وسؤددي ، واما الحسين فان له وجودي وشجاعتي . وكان الحسن بن علي عليهما السلام وصي ابيه امير المؤمنين عليه السلام على اهله وولده واصحابه ، ووصاه بالنظر في وقوفه وصدقاته ، وكتب اليه عهداً مشهوراً ووصيته ظاهرة في معالم الدين
(1) ذخائر العقبى / للطبري ص 123 .
(2) المناقب / ابن شهر اشوب / ج3 / ص159 .
(3) بحار الانوار للمجلسي / ج10 / ص 82 .



( 79 )

وعيون الحكمة والاداب ، وقد نقل هذه الوصية جمهور العلماء ، واستبصر بها في دينه ودنياه كثير من الفقهاء ، ولما قبض امير المؤمنين عليه السلام خطب الناس الحسن وذكر حقه فبايعه اصحاب ابيه على حرب من حارب وسلم من سالم (1) .
    فالحسن عليه السلام هو فرع الدوحة الهاشمية وربيب النبوة والامامة ، سليل الحق والعدل والفضيلة ، هو واخوه الحسين ( سبطا هذه الامة وسيدا شباب اهل الجنة ) كما قال صلى الله عليه وآله وسلم فيهما : ( أي هذان امامان قاما او قعدا ) .
    فأبو محمد الحسن المجتبى هذا هو الامام الصابر كريم اهل البيت ، وروي عن الترمذي مرفوعاً الى ابن عباس رضي الله عنه انه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حامل الحسن ابن علي عليهما السلام ، فقال رجل : نعم المركب ركبت يا غلام ، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ونعم الراكب هو . وروي عن الحافظ ابي نعيم فيما اورده في حليته عن ابي بكر قال : كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي بنا فيجيئ الحسن عليه السلام وهو ساجد وهو اذ ذاك صغير فيجلس على ظهره ، ومرة على رقبته فيرفعه النبي صلى الله عليه وآله وسلم رفعاً رفيقاً ، فلما فرغ من الصلاة ، قالوا : يا رسول الله انك تصنع بهذا الصبي شيئاً لا تصنعه بأحد ، فقال صلى الله عليه وآله وسلم : ان هذا ريحانتي وان ابني هذا سيد وعسى ان يصلح الله تعالى به بين فئتين من المسلمين .
    وروى البخاري ومسلم بسنديهما عن ابي هريرة قال : خرجت مع رسول
(1) الارشاد للشيخ المفيد ص 187 و 188 .


( 80 )

الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يكلمني ولا اكلمه حتى اتى سوق بني قينقاع ثم انصرف حتى اتى مخبأة وهو المخدع فقال : ( اثم لكع اثم لكع ) يعني حسناً عليه السلام . فظننا انما حبسته امه لأن تغسله او تلبسه ثوباً فلم يلبث اذ جاء يسعى واعتنق كل واحد منهما صاحب ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اللهم اني احبه واحب من يحبه ، وفي رواية اخرى اللهم اني احبه واحب من يحبه ، قال ابو هريرة : فما كان احد احب الي من الحسن بعد ما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (1) .
    وحكى عنه انه اغتسل وخرج من داره في بعض الايام وعليه حلة فاخرة ووفرة ظاهرة ومحاسن سافرة بنفحات طيبات عاطرة ووجهه يشرق حسناً وشكله قد كمل صورة ، ومعنى السعد يلوح على اعطافه ونضرة النعيم تعرف من اطرافه ، وقد ركب بغلة فارهة غير عسوفة وسار وقد اكتنفه من حاشيته صفوف ، فعرض له في طريقه شخص من محاويج اليهود وعليه مسح من جلود وقد انهكته العلة والذلة وشمس الظهيرة قد شواه وهو حامل جرة ماء على قفاه ، فاستوقف الحسن فقال : يا ابن رسول الله سؤال ، فقال له : ما هو ، قال : جدك يقول الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر وانت المؤمن وانا الكافر فما ارى الدنيا الا جنة لك تنعم فيها وانت مؤمن وتستلذ بها ، وما أراها الا سجناً قد اهلكني جرها واجهدني فقرها ، فلما سمع الحسن عليه السلام كلامه اشرق عليه نور التأييد واستخرج الجواب من خزانة علمه واوضح لليهودي خطأ ظنه وخطل زعمه وقال : يا شيخ لو
(1) الفصول المهمة / ابن الصباغ المالكي ص 138 .


( 81 )

نظرت الى ما اعد الله لي وللمؤمنين في دار الآخرة مما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، لعلمت قبل انتقالي اليه في هذه الحالة في سجن ، ولو نظرت الى ما اعد الله لك ولكل كافر في الدار الآخرة من سعير نار جهنم ونكال العذاب الاليم المقيم لرأيت قبل مصيرك اليه في جنة واسعة ونعمه جامعة ، فانظر الى هذا الجواب الصادع بالصواب (1) .
    ولما استشهد الامام امير المؤمنين عليه السلام قام باعباء الامامة ولده الامام الحسن المجتبى عليه السلام ، واستقر على منصة الخلافة الالهية ، الا ان معاوية بن ابي سفيان اوجس منه خيفة فحسده كما حسد اباه من قبل ، واخذ يدس الدسائس ويلقي الاشواك في طريق الامام تارة بالوعد واخرى بالوعيد وثالثة بالرشوة وهكذا ، حتى استطاع من استمالة جماعة من اصحاب الامام وجيشه ، فتمكن ان يؤثر على دينهم المال ، فانحازوا نحو معاوية ، وتركوا الامام وحيداً بلا ناصر . فاضطر الامام ان يصالح معاوية ويهادنه حفظاً على كيان الدين الاسلامي لئلا يتداعى ، وحقنا للمؤمنين عن الالقاء بهم في اتون حروب بائسة ، كل ذلك وفق شروط هامة لم يف بواحد منها معاوية . ولا شك ان معاوية كان يريد الهدنة والصلح ، فانه كتب الى الامام الحسن عليه السلام في ذلك ، والامام عليه السلام لم يجد بداً من اجابته الى ما التمس من ترك الحرب وانقاذ الهدنة ، فتوثق عليه السلام لنفسه من معاوية بتوكيد الحجة عليه والاعذار فيما بيّنه ، وبينه عند الله تعالى وعند كافة المسلمين ، واشترط عليه بشروط ، فأجابه ابن آكلة الاكباد الى الشروط كلها ، وعاهده عليها وحلف له بالوفاء له ، ولكن غدر
(1) المصدر السابق / ص 140 .


( 82 )

معاوية بما وعد وقال في خطبته بالنخيلة : اني والله ما قاتلتكم لتصلوا ولا لتصوموا ولا لتحجوا ولا لتزكوا . . ولكني قاتلتكم لأتأمر عليكم وقد اعطاني الله ذلك وانتم له كارهون ، الا واني كنت منيت الحسن واعطيته اشياء وجميعها تحت قدمي لا افي بشيء منها له .
    وقد ذكر المترجمون للامام الحسن عليه السلام صوراً كثيرة من مناقب الامام وبره واحسانه للفقراء والمعوزين اسداها عليهم كانت خالصة لوجه الله ، وان كتب السير استعرضت جلائل اعماله وكرمه وسخائه . ونحن اذ نذكر هنا شذرات من هذا الاحسان المتناهي .
ـ1ـ
    قيل للامام الحسن عليه السلام : لأي شيء لا نراك ترد سائلاً قط ـ ولم تصدر منه كلمة (لا) لسائل ابداً ـ ؟
    فأجاب عليه السلام : ( اني لله سائل ، وفيه راغب ، وانا استحي ان اكون سائلاً وارد سائلاً ) .
    وان الله عودني عادة ان يفيض نعمه علي ، وعودته ان افيض نعمه على الناس . فأخشى ان قطعت العادة ان يمنعني العادة ، وانشأ يقول :
اذا ما اتاني سـائل قلت مرحبـاً ومن فضله فضل على كل فاضل بمن فضله فرض علي معجل وافضل ايام الفتى حين يسأل
ـ2ـ
    ونسبت له عليه السلام الابيات التالية وهي في السخاء :
ان السخاء على العباد فريضة وعد العباد الاسخيـاء جنانـه لله يقرأ في كتاب محكم وأعد للبخلاء نار جهنم



( 83 )

من كان لا تندى يداه بنائل للراغبين فليس ذاك بمسلم
ـ3ـ
    وله عليه السلام ايضاً هذان البيتان :
خلقت الخلائق من قدرة فأما السخي ففي راحـة فمنهم سخي ومنهم بخيل واما البخيل فحزن طويل
ـ4ـ
    جاء اعرابي الى الامام الحسن عليه السلام فقال عليه السلام : ( اعطوه ما في الخزانة ) وكان فيها عشرة الاف درهم ، فقال الاعرابي : يا سيدي هلا تركتني ابوح بحاجتي وانشر مدحتي ؟
    فأجابه الامام عليه السلام :
نحن اناس نوالنا خضـل نجود قبل السؤال انفسنـا لو علم البحر فضل نائلنا يرتـع فيه الرجـاء والامـل خوفاً على ماء وجه من يَسل لفاض من بعد فيضه حجـل
ـ5ـ
    اجتاز الامام عليه السلام على غلام اسود بين يديه رغيف يأكل منه لقمة ، ويدفع لكلب كان عنده لقمة اخرى . فقال له الامام عليه السلام : ( ما حملك على ذلك ؟ ) فقال الغلام : اني لاستحي ان آكل ولا اطعمه .
    رأى الامام عليه السلام فيه خصلة من احب الخصال عنده فأحب ان يجازيه على صنعه ويقابل احسانه باحسان ، فقال له : ( لا تبرح مكانك ) ثم انطلق فاشتراه من مولاه ، واشترى الحائط أي ( البستان ) الذي هو فيه ، فأعتقه وملكه اياه .


( 84 )

ـ6ـ
    اجتاز الامام عليه السلام يوماً في بعض ازقة المدينة فسمع رجلاً يسأل الله ان يرزقه عشرة الاف درهم ، فانطلق عليه السلام الى بيته ، وارسلها اليه في الوقت .
ـ7ـ
    خرج الامام عليه السلام هو واخوه الحسين وابن عمهما عبد الله بن جعفر من ( المدينة ) قاصدين الحج ، وفي اثناء الطريق اصابهم جوع وعطش ، وقد سبقتهم اثقالهم ، فانعطفوا على بيت قد ضرب اطنابه في وسط تلك البيداء القاحلة ، فلما وصلوا الى البيت لم يروا فيه الا عجوزاً فطلبوا منها شراباً وطعاماً . فتقدمت اليهم بشاة قائلة : دونكم هذه الشاة فاحلبوها واشربوا لبنها . فلما فعلوا ذلك تقدمت اليهم مرة اخرى قائلة : اقسم عليكم الا ما ذبحها احدكم حتى اهيئ لكم الحطب لشيئها . ففعلوا ذلك ، وهيأت العجوز الحطب ، وبعدما اكلوا وفرغوا تقدموا اليها قائلين :
    ( يا أمة الله ، انا نفر من قريش نريد حج بيت الله الحرام ، فإذا رجعنا سالمين فهلمي الينا لنكافئك على هذا الصنع الجميل ) مضت الايام والليالي والشهور والسنوات حتى اذا اعترى البادية ازمة شديدة على اثر انقطاع المطر وفقدان العشب والقوت . . رحلت العجوز بصحبة رب البيت الى (المدينة) ولم يجدا عملاً يحيطان به خبراً سوى التقاط البعر من الطرقات والشوارع ، فاتخذا ذلك مهنة لهما . وفي يوم من الايام ـ وهما على عملهما ـ لمح الامام الحسن عليه السلام العجوز فعرفها ، فأمر غلامه ان يأتي بها اليه ، فلما مثلت بين يديه قال لها الامام عليه السلام : ( اتعرفيني يا


( 85 )

امة الله ؟ ) قالت : لا ، قال عليه السلام : انا احد ضيوفك يوم كذا سنة كذا . قالت : لست اعرفك . فقال عليه السلام : ان لم تعرفيني فانا اعرفك . ثم امر غلامه فاشترى لها من غنم الصدقة الف شاة ، واعطاها الف دينار . ثم امر الغلام ان بها الى اخيه الحسين عليه السلام ويعرّفه بها . فأتى بها الغلام ، ولما دخلت عرفها الحسين عليه السلام ، فقال للغلام : كم اعطاها اخي ؟ قال الغلام : الف شاة والف دينار ، ثم بعث الحسين عليه السلام بها الى عبد الله بن جعفر ، ولما دخلت عليه عرفها عبد الله ، فأمر لها بألفي شاة والفي دينار ، فحملت العجوز كل ذلك ، وانصرفت وقد تغير حالها من فقرٍ مدقع الى غناءٍ وثروة حسدها عليه كل من عرفها .
ـ8ـ
    جاء الى الامام عليه السلام شخص يظهر الاعواز والحاجة فقال عليه السلام للرجل : ( ما هذا حق لسؤالك ، يعظم لدى معرفتي بما يجب لك ، ويكبر لدي ويدي تعجز عن نيلك بما انت اهله ، والكثير في ذات الله قليل ، وما في ملكي وفاء لشكرك ، فان قبلت منا الميسور ورفعت عنا مؤونة الاحتفال والاهتمام فعلت ) فأجابه الرجل : يابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اقبل القليل ، واشكر العطية ، واعذر على المنع . فاحضر عليه السلام وكيله وحاسبه وقال له : ( هات الفاضل ) وكان خمسين الف درهم فدفعها اليه ، ولم يكتف عليه السلام بذلك بل قال لوكيله : ( ما فعلت بالخمسمائة دينار التي عندك ؟ ) فقال له : هي عندي . فأمره باحضارها ، ثم دفعها الى الرجل وهو يعتذر .


( 86 )

ـ9ـ

    حي ته جارية له بطاقة ريحان قدمتها اليه . فقال عليه السلام لها : ( انت حرة لوجه الله ) ، فلامه ( أنس ) على ذلك . فأجابه الامام عليه السلام : ادبنا الله فقال تعالى : ( واذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها ) . وكان احسن منها اعتاقها .
ـ10ـ

    اتاه عليه السلام رجل فسأله ان يعطيه شيئاً فقال عليه السلام : ان المسألة لا تصلح الا في غرم فادح او فقر مدقع او حمالة مقطعة فقال : ما جئت الا في احداهن ، فأمر له عليه السلام بمائة دينار . . الخ الحديث .
    هكذا ارخص الامام عليه السلام في سبيل مرضاة الله كل غالٍ ورخيص حتى انه خرج عن جميع ما يملكه مرتين وقسم امواله ثلاث مرات حتى انه اعطى نعلاً وامسك اخرى (1) .
    صفا الجو لمعاوية بن ابي سفيان ، وحقق امانيه ، وجعل الخلافة الاسلامية ملكاً يتوارثه بنوه واسرته من بعده ، كيف السبيل الى ذلك والامام الحسن عليه السلام لا يزال حياً يرزق ، فلابد من القضاء عليه . عن عمر بن اسحاق قال : دخلت انا ورجل على الحسن بن علي نعوده ، فقال : يا فلان سلني فقلت : لا والله لا اسألك حتى يعافيك الله ثم اسألك قال : لقد القيت طائفة من كبدي واني سقيت السم مراراً فلم أسقه مثل هذه المرة ، ثم دخلت عليه من الغد فوجدت أخاه الحسين عند رأسه ، فقال له الحسين : من تتهمها يا أخي ؟ قال : لم لأن تقتله ؟ قال : نعم ، قال : ان يكن
(1) بحار الانوار / للعلامة الشيخ محمد باقر المجلسي / ج 10 / ص 94 .


( 87 )

الذي اظنه فالله اشد بأساً وتنكيلاً وان لم يسكنه فما احب ان يقتل بي برئ (1) ثم قضى نحبه عليه السلام وذلك لخمس خلون من ربيع الاول سنة خمسين من الهجرة وصلى عليه الحسين عليه السلام ودفن بالبقيع عند جدته فاطمة بنت اسد عليها السلام وعمره آنذاك سبع واربعون سنة .
    تلك هي الشخصية الفذة التي حقنت دماء المسلمين ووطدت اركان الدين وحافظت على بيضته ودرأت عنه غوائل المعتدين الذين امعنوا بكل ما اوتوا من قوة وبأس على درس آثاره ومحو اخباره .

2 / الامام الحسين
عليه السلام
    خلفت فاطمة الزهراء عليها السلام بعد عام شبلها الثاني الامام ابا عبد الله الحسين عليه السلام ، فقرت به عيون ابويه ، وامتلأ قلباهما بفيض من الحبور الغامر ، ذلك الضياء اللامع ، ضياء الفضيلة والشرف كان يتلألأ تلألؤ نور الشمس فوق صفحتها . وكان جده النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحبه حباً جماً حتى قال فيه : ( حسين مني وانا من حسين ) وقال فيه : ( حسين سبط من الاسباط ) وقال فيه : ( حسين روحي التي بين جنبي ) . وقال فيه وفي اخيه عليهما السلام : ( الحسن والحسين سيدا شباب اهل الجنة ) وقال ايضاً : ( الحسن والحسين امامان ان قاما وان قعدا ) ، وقال : ( هما ريحانتاي من الدنيا ) .
    ان هذه الاحاديث النبوية الشريفة اثبتت مكانة الحسنين بالنسبة لجدهما
(1) الفصول المهمة / لابن الصباغ المالكي ص 150 .


( 88 )

محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وكان لهذا المولود الجديد صدى مبهج في قلب جده .
    في ( المناقب ) : كانت فاطمة ترقص ابنها الحسين فتقول :
انت شبيه بأبي ليس شبيهاً بعلي (1)

    اقبل الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم على الحسن والحسين عليهما السلام يغمرهما من حبه وحنانه ويفيض عليهما من عطف الابوة ما شاء له ان يعطف حتى كبرا ودرجا في السن ، ولقد اثر الزهراء عليها السلام بالنعمة الكبرى ، فحصر ذرية الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم في ولديها وحفظ بها اشرف سلالة عرفتها البشرية ، كما كرم الله علياً عليه السلام فجعل من صلبه هذه السلسلة من الذرية العلوية الشريفة التي انتشرت في ارجاء الكرة الارضية . وشب الحسين عليه السلام في بيت النبوة ومهبط الوحي ، وبلغ مبلغ الرجال ، فكان على جانب عظيم من الزهد والورع والتضحية والاباء والجود والكرم ، حتى كانت فاجعة كربلاء سنة 61 هـ حيث ابى الا ان يحق الحق ويزهق الباطل ، فقارع الظلم وطارد المارقين حتى استقر في ارض كربلاء والتقى مع جيش الكفر والضلال ، ودارت رحى الحرب ، ودقت ساعة القتال ، فاذا بالحسين عليه السلام يزداد عزماً وقوة واندفاعاً لمحاربة جيش الشرك ، وقدم قرابينه في سبيل احياء دين جده الكريم . قال الشاعر الشيخ محسن ابو الحب ـ الكبير ـ عن لسان حال الحسين عليه السلام :
ان كان دين محمد لم يستقم إلّا بقتلي يا سيوف خذيني

(1) المناقب / ابن شهر اشوب / ج 3 / ص 159 .


( 89 )

هذا دمي فلترو صادية الظبا منه وهذا للرماح وتيني

    لقد خاض الامام الحسين عليه السلام اعنف معركة عرفها التاريخ ، بالرغم من قلة انصاره وكثرة اعدائه ، فقتل اصحابه واهل بيته حتى طفله الرضيع عبد الله ، واخوه العباس عليه السلام واحرقت خيام النساء ، واذا بالقدر يهوي ويزلزل ذلك الطود الشامخ ، شجرة الفضيلة فخرَّ صريعاً في ميدان الشرف والاباء لاحقاً بربه مجاهداً محتسباً .
    جاء في ( الفصول المهمة ) : ( . . فرحل الحسين عليه السلام وأهله ونزلوا بكربلاء وذلك يوم الاربعاء الثامن من المحرم سنة احدى وستين ، فقال عليه السلام : هذه كربلاء موضع كرب وبلاء ، هذه مناخ ركابنا ومحط رحالنا ومقتل رجالنا ، وكتب الحر الى ابن زياد يعلمه بنزول الحسين عليه السلام بارض كربلاء . فانظر ما ترى في امره ، فكتب عبيد الله بن زياد كتاباً الى الحسين عليه السلام يقول فيه : اما بعد ان يزيد بن معاوية كتب الي ان لا تغمض جفنك من اللئام ولا تشبع بطنك من الطعام او يرجع الحسين على حكمي او تقتله والسلام ، فلما ورد الكتاب على الحسين عليه السلام وقرأه القاه من يده ، وقال للرسول : ماله عندي جواب ، فلما رجع الرسول الى ابن زياد واخبره بذلك اشتد غيظه وجمع الجموع وجنّد الجند وجهز اليه العساكر وجعل على مقدمها عمر بن سعد وكان قد ولّاه الري واعمالها ، فاستعفى من الخروج الى قتال الحسين عليه السلام وقد تقدمته العساكر فقال له ابن زياد : اما ان تخرج اليه او اخرج عن عملنا من الري ، فخرج عمر الى الحسين وصار ابن زياد يمده بالجيوش شيئاً بعد شيء الى ان اجتمع عند عمر بن سعد عشرون الف مقاتل ما بين فارس وراجل ، واول من


( 90 )

خرج مع عمر بن سعد الشمر بن ذي الجوشن في اربعة الآف فارس ، ثم زحفت خيل ابن سعد حتى نزلت بشاطئ الفرات وحالوا بين الحسين واصحابه وبين الماء ، فعند ذلك ضاق الامر على الحسين عليه السلام وعلى اصحابه واشتد بهم العطش وكان مع الحسين عليه السلام شخص من اهل الزهد والزرع يقال له يزيد بن الحصين الهمداني ، فقال للحسين عليه السلام : ائذن لي يابن رسول الله في ان آتي مقدم هؤلاء عمر بن سعد فأكلمه في الماء لعله ان يرتدع ، فاذن له ، وقال : ذلك اليك اذا شئت فجاء الهمداني الى عمر بن سعد فكلمه في الماء فامتنع منه فلم يجبه الى ذلك ، فقال له : هذا ماء الفرات تشرب منه الكلاب والذئاب ، وغير ذلك وتمنعه الحسين ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واخوته ونساؤه واهل بيته والعترة الطاهرة يموتون عطشاً وقد حلتَ بينهم وبين الماء وانت تزعم انك تعرف الله ورسوله ، فأطرق عمر بن سعد ثم قال يا اخا همدان اني لأعلم حقيقة ما تقول وانشد :
دعاني عبيد الله من دون قومه فوالله ما ادري واني لـواقف أأخذ ملك الري والري رغبتي وفي قتله النار التي ليس دونها الى خصلة فيها خرجت لحيني على خطر لا ارتضيه وميـن وارجع مطلوبـاً بدم حسـين حجاب وملك الري قرة عين

    ثم قال يا اخا همدان ما تجيبني نفسي الى ترك الري لغيري ، فرجع يزيد بن الحصين الهمداني الى الحسين عليه السلام واخبره بمقالة ابن سعد فلما عرف الحسين ذلك منهم تيقن ان القوم مقاتلوه ، فأمر اصحابه فاحتفروا حفيرة شبيهة بالخندق وجعلوا له جهة واحدة يكون القتال منها واهدفوا


( 91 )

عسكر بن سعد بالحسين عليه السلام واصحابه يصفوا لهم وارشدوهم بالسهام والنبال واشتد عليهم القتال ، ولم يزالوا يقتلوا من اهل الحسين عليه السلام واحداً بعد واحد حتى اتوا على ما ينيف على خمسين منهم ، فعند ذلك صاح الحسين عليه السلام اما من ذاب يذب عن حريم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واذا بالحر بن يزيد الرياحي الذي تقدم ذكره الذي كان خرج الى الحسين اولاً من جهة ابن زياد قد خرج من عسكر عمر بن سعد راكباً على فرسه وقال : يابن رسول الله انا كنت اول من خرج عليك عيناً ولم اظن ان الامر يصل الى هذه الحال وانا الان من حزبك وانصارك أقاتل بين يديك حتى اقتل ارجو بذلك شفاعة جدك ، ثم قاتل بين يديه حتى قتل . فلما فنى اصحاب الحسين عليه السلام وقتلوا جميعهم عن آخرهم ؛ اخوته وبنو عمه ، وبقي وحده بمفرده حمل عليهم حملة منكرة قتل فيها كثيراً من الرجال والابطال ورجع سالماً الى موقفه عند الحريم ، ثم حمل عليهم حملة اخرى وأراد الكر راجعاً الى موقفه فحال الشمر بن ذي الجوشن لعنه الله بينه وبين الحريم والمرجع اليهم في جماعة من ابطالهم وشجعانهم واحدقوا به ، ثم جماعة منهم تبادروا الى الحريم والاطفال يريدون سلبهم فصاح الحسين عليه السلام : ويحكم يا شيعة الشيطان كفوا سفهاءكم عن التعرض للنساء والاطفال فانهم لم يقاتلوا ، فقال الشمر لعنه الله : كفوا عنهم واقصدوا الرجل بنفسه . . (1)
    لقد بادرت تلك الزمرة الخائنة بالقضاء على الحسين عليه السلام كان الشمر اشدَّ القوم تطوعاً لقتال الحسين عليه السلام ، وحتى ابن سعد كان
(1) الفصول المهمة / ابن الصباغ المالكي ص 177 ـ 179 .


( 92 )

يتهيب فكاد ان يتزعزع عزمه على القتال لولا هذا الجلف الجافي . لكن الحسين عليه السلام يدافع عن مبدأ اسمى ومثل اعلى ، وضحى في سبيله بما ضحى . فكان مظفراً خالداً في نظر الاجيال والتاريخ . والحسين عليه السلام انما كافح عناصر السوء والرذيلة والاستبداد والظلم والطغيان ، وهي التي كانت مبدأ يعتنقه يزيد وزبانيته ويحملون الناس عليه ويذيعونه في مجتمع بعيد عن الخير والصلاح ، ومثل ذلك المجتمع المنحط يتسنم فيه يزيد اريكة الحكم ويتأمر على ناسه ومبادئه ، والحسين عليه السلام ذلك المثالي لا يمكن ان يقر مجتمعاً كهذا ، فكانت ثورته عليه لتطهيره من دنس العابثين وكان جهاده في سبيل قمع مبادئه . ولا تزال ثورته تلك ترن في الآذان منذ مئات السنين يتخذه المصلحون دستوراً عملياً لاصلاحه وجهاده . يقول العقاد : ( وفي الواقع الذي لا شبهة فيه ايضاً ان عمر بن سعد هذا لم يخل من غلظة في الطبع على غير ضرورة ولا استفزاز ، فهو الذي ساق نساء الحسين بعد مقتله على طريق جثث القتلى التي لم تزل مطروحة بالعراء ، فصحن وقد لمحنها على الطريق صيحة أسالت الدمع من عيون رجاله وهم ممن قاتل الحسين وذويه ) (1) .
    كان الحسين عليه السلام كريماً محباً للفقراء ، رؤوفاً بالمساكين ومن الامثلة على سخائه وكرمه ما رواه ابن عساكر ان سائلاً في المدينة اتى باب دار الحسين عليه السلام وانشأ يقول :
لم يخب الآن من رجاك ومن انت جـواد وانت مـعتمـد حرك من دون بابك الحلقة ابـوك قد كان قاتل الفسقة

(1) ابو الشهداء الحسين بن علي / عباس محمود العقاد ص 69 .


( 93 )

لولا الذي كان من اوائلكم كانت علينا الجحيم منطبقة

    فخرج الحسين عليه السلام ورأى عليه اثر ضر وفاقة وأمر قنبراً باتيان النفقة المتبقية حينذاك وهي اربعمائة درهم فاتى بها وتناولها الامام منه وفتح الباب قليلاً ودفعها الى الاعرابي السائل وانشأ يقول في جوابه :
خذهـا فـانـي اليك معتـذر لو كان في سيرنا الغداة عصا لكن ريب الزمـان ذو غِـيرَ واعلم بأني عليك ذو شفقة كانت سمانـا عليك مندفقة والكـف منـا قليلة النفقة

    فأخذها الاعرابي ومضى وهو يقول : ( الله اعلم حيث يجعل رسالته ) (1) .
    اجل كان الحسين عليه السلام يشبه جده واباه خلقاً وخُلقاً ، وعلماً وادباً وبلاغة وفصاحة وكرماً وسخاء وشجاعة وشهامة ، ومن فضائله ومناقبه ايضاً ما ذكره صاحب ( الاعيان ) فقال : جاء اعرابي الى الحسين عليه السلام فقال : يابن رسول الله قد ضمنت دية كاملة وعجزت عن ادائها ، فقلت في نفسي اسأل اكرم الناس وما رأيت اكرم من اهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال الحسين عليه السلام : يا أخا العرب أسألك عن ثلاث مسائل فان اجبت عن واحدة اعطيتك ثلث المال وان اجبت عن اثنتين اعطيتك ثلثي المال وان اجبت عن الكل اعطيتك الكل فقال اعرابي : يابن رسول الله أمثلك يسأل مثلي وانت من اهل العلم والشرف ، فقال الحسين عليه السلام : بلى سمعت جدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : المعروف بقدر المعرفة ، فقال الاعرابي : سل
(1) سمو المعنى في سمو الذات / عبد الله العلايلي ص 146 .


( 94 )

عما بدا لك فان اجبت والا تعلمت منك ولا قوة الا بالله ، فقال الحسين عليه السلام : أي الاعمال افضل ؟ فقال الاعرابي : الايمان بالله ، فقال الحسين عليه السلام : فما النجاة من الهلكة ؟ فقال الاعرابي : الثقة بالله . فقال الحسين عليه السلام : فما يزين الرجل ؟ فقال الاعرابي : علم معه حلم . فقال : فان اخطأه ذلك ؟ فقال : مال معه مروءة . فقال : فان اخطأه ذلك ؟ فقال : فقر معه صبر . فقال الحسين عليه السلام : فان اخطأه ذلك ؟ فقال الاعرابي : فصاعقة تنزل من السماء وتحرقه فانه اهل لذلك ، فضحك الحسين عليه السلام ورمى اليه بصرة فيها الف دينار واعطاه خاتمه وفيه فص قيمته مائتا درهم . وقال : يا اعرابي اعط الذهب الى غرمائك واصرف الخاتم في نفقتك ، فأخذ الاعرابي ذلك وقال : الله اعلم حيث يجعل رسالته (1) .
    وروى احمد بن سليمان بن علي البحراني في عقد اللآل في مناقب الآل : ان الحسين عليه السلام كان جالساً في مسجد جده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد وفاة اخيه الحسن عليه السلام وكان عبد الله بن الزبير جالساً في ناحية المسجد وعتبة بن ابي سفيان في ناحية اخرى ، فجاء اعرابي على ناقة فعقلها بباب المسجد ودخل فوقف على عتبة بن ابي سفيان فسلم عليه فرد عليه السلام ، فقال له الاعرابي : اني قتلت ابن عم لي وطولبت بالدية فهل لك ان تعطني شيئاً فرفع رأسه الى غلامه وقال ادفع اليه مائة درهم ، فقال الاعرابي : ما اريد الا الدية تماماً ، ثم تركه واتى عبد الله بن الزبير وقال له مثل ما قال لعتبة ، فقال عبد الله لغلامه : ادفع اليه مائتي درهم
(1) اعيان الشيعة / محسن الامين / ج 4 / ص 106 و 107 .


( 95 )

فقال الاعرابي ما اريد الا الدية تماماً ، ثم تركه واتى الحسين عليه السلام فسلم عليه وقال : يابن رسول الله اني قتلت ابن عم لي وقد طولبت بالدية فهل لك ان تعطيني شيئاً فقال له : يا اعرابي نحن قوم لا نعطي المعروف الا على قدر المعرفة . فقال : سل ما تريد ، فقال له الحسين ، يا اعرابي ما النجاة من الهلكة ؟ قال : التوكل على الله عز وجل . فقال : وما الهمة ؟ قال : الثقة بالله . ثم سأله الحسين غير ذلك واجاب الاعرابي ، فأمر له الحسين عليه السلام بعشرة الاف درهم وقال له : هذه لقضاء ديونك وعشرة الاف درهم اخرى ، وقال هذه تلم بها شعثك وتحسن بها حالك وتنفق منها على عيالك ، فأنشأ الاعرابي يقول :
طربت وما هاج لي مغبق ولكن طربت لآل الرسـو هم الاكرمون هم الانجبون سبقت الانام الى المكرمات بكم فتح الله باب الرشـاد ولا لي مقام ولا معشـق ل فلذَّ لي الشعر والمنطق نجوم السماء بهم تشـرق فقصر عن سبقك السّبـق وباب الفساد بكم مغلق (1)

    لقد كانت وقعة الطف سنة 61 هـ حدثاً له رد فعل عميق الأثر في نفوس المسلمين ، وقد شاء غرور بني امية ان يزيدها فظاعة وبشاعة لم يقع مثلها في تاريخ الاسلام والمسلمين .
    ذكر ياقوت الحموي فقال : قال ابن عبد الرحيم : حدثني الخالع قال : كنت مع والدي سنة 346 وانا صبي في مجلس الكبودي في المسجد الذي بين الوراقين والصاغة وهو غاص بالناس واذا رجل قد وافى وعليه مرقعة
(1) أعيان الشيعة / محسن الامين العاملي / ج 4 / ص 108 و 109 .


( 96 )

وفي يديه سطحية وركوة ومعه عكاز وهو شعث فسلم على الجماعة بصوت يرفعه ثم قال : انا رسول فاطمة الزهراء صلوات الله عليها ، فقالوا : مرحباً بك واهلاً ورفعوه فقال : اتعرفون لي احمد المزوق النائح ؟ فقالوا : ها هو جالس . فقال : رأيت مولاتنا فاطمة عليها السلام في النوم فقالت لي : امض الى بغداد واطلبه وقل له : نح على ولدي الحسين عليه السلام بشعر الناشئ الذي يقول فيه :
بني احمد قلبي بكم يتقطع بمثل مصابي فيكم ليس يسمع

    قال : وكان الناشئ حاضراً فبكى ولطم لطماً على وجهه وتبعه احمد المزوق والناس كلهم ، وكان اشد الناس كلهم في ذلك الناشئ والمزوق فناحوا بهذه القصيدة الى ان صلى الناس الظهر وتقوّض المجلس وجهدوا بالرجل ان يأخذ شيئاً منهم فأبى وقال : والله لو اعطيت الدنيا ما اخذتها فاني لا ارى ان اكون رسول مولاتي ثم آخذ من ذلك عوضاً ثم انصرف ولم يقبل شيئاً (1) .
    أي رزء اصاب الاسلام ، واية نكبة هدت كيان المسلمين ! ؟ لقد عظم الخطب وجل الرزء ، قال السيد حيدر الحلي :
زوج السيف بالنفوس ولكن مهرها الموت والخضاب النجيعُ

    الا ليس في هذه الدنيا الطويلة العريضة من درس بليغ ! درس في الشهامة والتضحية الغالية ، كالدرس الذي القاه الامام الشهيد الحسين بن علي عليه السلام في يوم عاشوراء .
فأبى ان يعيش الا عزيزاً او تجلى الكفاح وهو صريعُ

(1) المصدر السابق / ص 109 .


( 97 )


    روى عن ابي مخنف انه قال :قال الطرماح بن عدي كنت في واقعة كربلاء وقد وقع فيَّ ضربات وطعنات فأثخنتني بالجراح فلو حلفت لحلفت صادقاً اني كنت نائماً اذ رأيت عشرة فوارس قد اقبلوا وعليهم ثياب بيض ، تفوح منهم رائحة المسك ، فقلت في نفسي يكون هذا عبيد الله بن زياد قد اقبل لطم جسد الحسين فرأيتهم حتى نزلوا على القتلى تماماً ورجلاً منهم تقدم الى جسد الحسين فجلس قريباً منهم ومد يده الى نحو الكوفة واذا برأس الحسين اقبل من نحو الكوفة فركبه على الجسد فعاد كما كان باذن الله ، يقال واذا هو رسول الله ثم قال : يا ولدي قتلوك اتراهم عرفوك ومن شرب الماء منعوك ، ثم التفت الى من كان معه وقال : يا أبي آدم ويا أبي ابراهيم ويا أخي موسى ويا عيسى اترون ما صنعت أمتي بولدي من بعدي لا أنالهم الله شفاعتي يوم القيامة (1) .
    هذه نبذة من الاخبار الواردة عن الحسين عليه السلام نكتفي بها خشية الاطالة .

3 / زينب الكبرى
عليها السلام
    يقول المؤرخون : ان ولادتها في الخامس من شهر جمادي الاول في السنة الخامسة او السادسة للهجرة . والارجح عندي ان ولادتها كانت في الخامسة من الهجرة وذلك حسب الترتيب الوارد في اولاد الزهراء عليهم السلام .
    يروي المجلسي في (البحار) فيقول : عن العلل في باب معاشرة فاطمة مع علي عليهما السلام جاء فيه : حملت الحسن على عاتقها الايمن والحسين
(1) تظلم الزهراء اهل دماء الحسين / رضي بن نبي القزويني ص 274 .


( 98 )

على عاتقها الايسر واخذت بيد ام كلثوم اليسرى بيدها اليمنى ثم تحولت الى حجرة ابيها صلى الله عليه وآله وسلم ، وام كلثوم هذه انه كانت هي زينب عليها السلام فلذلك دليل على انها كانت كبيرة وان كانت اختها فذاك دليل على انَّ امها عليها السلام تركت زينب لتنوب منابها في الشؤون المنزلية ، فهي كانت كبيرة اذن ، وقد روي صاحب ( ناسخ التواريخ ) في كتابه : ان زينب اقبلت عند وفاة امها وهي تجر رداءها وتنادي يا ابتاه يا رسول الله ، الآن عرفنا الحرمان من النظر اليك (1) .
    ومما يذكر عنها انها كانت كثيرة العبادة والتهجد تصلي النوافل وتتلو القرآن الكريم ملازمة له ولم يفتر لسانها عن ذكر الله قط ، فقد كانت من القانتات العابدات اللواتي وقفن حركاتهن وسكناتهن للباري عز وجل ، ولهذا حازت على المنازل الرفيعة والدرجات العالية . ومن دعاء ابيها كانت تدعو به بعد صلاة العشاء وهو :
    "اللهم اني أسألك يا عالم الامور الخفية ، ويا من الارض بعزته مدحية ، ويا من الشمس والقمر بنور جلاله مشرقة مضيئة ، ويا مقبلاً على كل نفس مؤمنة زكية ، يا مسكن رعب الخائفين واهل التقية . يا من حوائج الخلق عنده مقضية ، يا من ليس له بواب ينادي ، ولا صاحب يغشى ، ولا وزير يؤتى ولا غير رب يدعى ، يا من لا يزداد على الالحاح الا كرماً وجوداً صلى على محمد وآل محمد واعطني سؤالي انك على كل شيء قدير (2) .
(1) فاطمة الزهراء بهجة قلب المصطفى ، للشيخ احمد الرحماني الهمداني / ص 634 .
(2) عقيلة بني هاشم ، علي بن الحسين الهاشمي الخطيب / ص 16 .



( 99 )


   
ومما كانت تناجي ربها به هذه الابيات وهي من مناجاة ابيها امير المؤمنين عليه السلام :
لك الحمد يا ذا الجود والمجد والعلى إلهي وخلاقي وحـرزي وموئلـي إلهي لئن جلـت وجمت خـطيئتي إلهي لئن اعطيت نفـسي سـؤلها إلهي ترى حالي وفقري وفاقتـي إلهي فلا تقطع رجائي ولا تـزغ إلهي لئن خيبتـني او طردتنـي إلهي اجرني من عذابـك اننـي إلهـي فآنسنـي بتلقيـن حجـتي إلهي لئن عذبتـني الـف حجـة إلهي اذقني طعـم عفـوك يـوم إلهـي لئن لم ترعني كنت ضائعاً إلهي اذا لم تعف عن غير محسنٍ إلهي لئن فرطت في طلب التقـى إلهي لئن اخطـأت جهلاً فطالمـا إلهي ذنوبي بذت الطود واعتلـت إلهي ينحـي ذكر طولك لـوعتي إلهي اقلني عثرتي وامح حوبـتي إلهي انلني منك روحـاً وراحـة تباركـت تعطي من تـشاء وتمنـع اليك لدى الاعسار واليـسر افـزع فعفـوك عن ذنبي اجـل واوسـع فها انا في روض الندامـة ارتـع وانت مناجاتـي الخفـية تسـمع فؤادي فلي في سيب جودك مطمع فمن ذا الذي ارجو ومن ذا اشـفع اسيـر ذليل خائـف لك اخضـع اذا كان لي في القبر مثوى ومضجع فـجل رجـائي منـك لا يتـقطع لا بنـون ولا مال هنـالك ينـفع وان كنـت ترعاني فلـست اضيع فمـن لمسـيئ بالهـوى يتمـتع فها انـا أثر العفو اقفـو واتبـع رجوتك حتى قيـل ما هو يجزع وصفـحك عن ذنبي اجل وارفـع وذكـر الخطـايا العين مني يدمع فـأني مقـر خائـف متـضرع فلست سوى ابواب فضلك اقـرع



( 100 )

إلهي لئن اقصيتـني او اهنتـني إلهي حليف الحب في الليل ساهر إلهي وهذا الخلـق ما بين نائـم وكلهـم يرجو نـوالك راجـياً إلهي يمـنيني رجائـي سلامة إلهي فان تعفو فعـفوك منقذي إلهي بحـق الهاشـمي محمـد إلهي بحق المصطفى وابن عمه ولا تحـرمني يا إلهي وسيـدي وصل عليهم ما دعـاك موحـد فما حيلتي يا رب ام كيف اصنع يناجي ويدعو والمغـفل يهـجع ومنتبـه في ليـلـه يتـضرع لرحمتك العظمى وفي الخلد يطمع وقبـح خطيئـاتي علي يشـنع والا فبالذنب المدمـر اصـرع وحرمة اطهارهـم لك خضـع منيباً تـقياً قانتـاً لك اخضـع شفاعته الكبرى فـذاك المشفـع وناجـاك اخيـار ببابك ركـع (1)

    ولزينب ام المصائب وعقيلة بني هاشم مواقف مشهودة مع اخيها الحسين عليه السلام في يوم عاشوراء . تزوجت من عبد الله بن جعفر الطيار ، ومن اولادها عون المدفون مع قبور الشهداء في الحرم الحسيني بكربلاء ، توفيت العقيلة في السفرة الاخيرة حيث كانت مع زوجها عبد الله بن جعفر حين جاء بها الى دمشق ليتعاهد امور ملكه في قرية راوية وتوفيت ودفنت في زاوية من اعمال دمشق ويعرف اليوم بقرية قبر الست .

4 / السيدة ام كلثوم
    هي الرابعة من اولاد فاطمة الزهراء عليها السلام ، كانت ام كلثوم مع اخيها الحسين عليه السلام بكربلاء ، وكانت مع السجاد عليه السلام الى
(1) عقيلة بني هاشم / علي بن الحسين الهاشمي الخطيب ص 16 ـ 19 .


( 101 )

الشام ثم الى المدينة ، وهي جليلة القدر ، وخطبتها مع ابن زياد في الكوفة معروفة ، وزوجها عون بن جعفر وانها لم تتزوج بغير ابن عمها عملاً بالحديث الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو : ( نظر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الى اولاد علي وجعفر عليهما السلام فقال : بناتنا لبنينا وبنونا لبناتنا ) .
    خطبت في الكوفة ومن شعرها قولها :
قتـلتم اخي صبراً فويـل لأمكم سفكتم دمـاء حـرم الله سفـكها الا فابشروا بالنـار انـكم غـدا واني لأبكي في حياتي على اخي بدمع غـزير مستهل مكـفكـف تجـزون نـاراً حـرها يتوقـد وحرمها القـرآن ثـم مـحمـد لفي سقـر حقـا يقـينا تخلـدوا على خير من بعد النبي سيـولـد على الخد مني دائماً ليس تجـمد

    قال الراوي : فضج الناس بالبكاء والنوح ونشر النساء شعورهن ووضعن التراب على رؤوسهن وخمشن وجوههن وضربن خدودهن ودعون بالويل والثبور وبكى الرجال ونتفوا لحاهم فلم ير باكية وباك اكثر من ذلك اليوم (1) .
    كما نود ان ننقل للقارئ من شعرها حين رجوعها الى الشام ، فقد جعلت تبكي وتقول :
مدينـة جـدنا لا تـقبلينا الا فاخبر رسـول الله عنا فبالحسرات والاحزان جنينا بأنا قـد فجعنـا في ابينـا

    ومنها قولها في رواية اخرى :
(1) نفس المهموم / للمحدث القمي / ص 369 .


( 102 )

مدينة جـدنـا لا تـقبـلينـا خرجنا منك بالاهـلين جمعـا وكنـا في الخروج بجمع شمل وكـنـا في امـان الله جـهرا ومولانا الحسـين لنـا انيـس فـنحن الضائـعات بلا كفيـل الا يا جـدنـا قتـلوا حسـيناً الا يـا جـدنـا بلغـت عدانـا لقد هتـكوا النسـاء وحَملوهـا فبالحسرات والاحـزان جينـا رجعنـا لا رجـال ولا بنينـا رجعنـا خاسـرين مسلـبينـا رجعنـا بالقـطيعة خائـفينـا رجعنـا والحسـين به رهينـا ونحـن النائحـات على اخينـا ولم يرعـوا جنـاب الله فينـا مناها واشتـفى الاعـداء فينـا على الاقتاب قهـراً اجمعينـا (1)

    هؤلاء هم ابناء فاطمة سلام الله عليها وذريتها الذين وجبت على الناس مودتهم وولاؤهم والصلاة عليهم .

(1) المصدر السابق / ص 471 .