مرض الرسول صلى الله عليه وآله وسلم

    كان للامام علي بن ابي طالب عليه السلام وفاطمة الزهراء عليها السلام الدور البارز في حياة الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا سيما في ساعاته الاخيرة من حياته . فقد كانت فاطمة الزهراء جالسة قربه فلما رأت ذلك قامت حزينة واخذت بيدي الحسن والحسين وجعلت تندب أباها ، ففتح الرسول عينيه ووضع رأسه على صدرها ودعا وقال : اللهم الهم فاطمة الصبر ، ثم قال : ( ابشري يا فاطمة فستكونين اول من يلحق بي ) وجعل يعالج سكرات الموت فاخذت تبكي بكاء شديداً ، فأراد علي اسكاتها فقال النبي : ( دعها تبكي اباها ) ثم اغمض عينيه واسلم روحه (1) وفي المجالس السنّية : فلما كان من الغد حجب الناس عنه وثقل في مرضه وكان امير المؤمنين عليه السلام لا يفارقه الا لضرورة ، فقام في بعض شؤونه فأفاق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فافتقد علياً ، فقال وازواجه حوله : ادعوا لي اخي وصاحبي وعاوده الضعف فأصمت
(1) عقيدة الشيعة ، رونالدسن ، ص 30 .


( 104 )

فقالت عائشة : ادعوا ابا بكر فدعي ودخل وقعد عند رأسه فلما فتح عينيه نظر اليه فأعرض عنه بوجهه فقام وقال : لو كان له حاجة لافضى بها اليّ . فلما خرج اعاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القول ثانياً وقال : ادعوا لي اخي وصاحبي فقالت حفصة : ادعوا له عمر ، فدعي فلما حضر ورآه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اعرض عنه فانصرف ، ثم قال ادعوا لي اخي وصاحبي فقالت ام سلمة : ادعوا له علياً فانه لا يريد غيره فدعي امير المؤمنين عليه السلام ، فلما دنا منه اومأ اليه فأكب عليه فناجاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طويلاً ثم قام فجلس ناحية حتى اغفى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلما غفى خرج فقال له الناس : يا ابا الحسن ما الذي اوعز اليك ؟ فقال اوصاني بما انا قائم به ان شاء الله تعالى ثم ثقل وحضره الموت وامير المؤمنين عليه السلام حاضر عنده فأخذ علي عليه السلام رأسه فوضعه في حجره فأغمى عليه ، فأكبت فاطمة عليها السلام تنظر في وجهه وتندبه وتبكي وتقول :
وابيض يستسقي الغمام بوجهه ثمال اليتامى من عصمة للارامل

    ففتح الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عينيه وقال : بصوت ضئيل يا بنيّة هذا قول عمك ابي طالب لا تقوليه ولكن قولي : ( وما محمد الا رسول قد خلت من قبله الرسل افان مات او قتل انقلبتم على اعقابكم ) فبكت طويلاً فأومأ إليها بالدنو منه ، فدنت منه فأسرّ اليها شيئاً تهلل له وجهها فقيل لفاطمة عليها السلام : ما الذي اسر اليك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسري (1) عنك به ما كنت عليه من الخوف والقلق
(1) سري عنه الهم : مجهولاً انكشف .


( 105 )

بوفاته ؟ قالت : اخبرني انني اول اهل بيته لحوقاً به وانه لن تطول المدة لي بعده حتى ادركه فسري بذلك عني .
وهل عدلت يوماً رزية هالك وما فقد الماضون مثل محمد رزية يوم مات فيه محمدُ ولا مثله حتى القيامة يفقد (1)

    عاشت الزهراء سلام الله عليها بعد ابيها فترة قصيرة جاوزت الشهرين او الثلاث ، وهي فترة مليئة بالاحداث والمفاجئات لقد غمرت وجهها بكفها واستسلمت الى البكاء ، وبقيت راكعة امام نعش والدها الذي احبها واحبته محدقة الى وجهه تغتسل بدموعها التي تذرفها .






(1) المجالس السنية ، محسن الامين / ج 5 / ص 24 ـ 26 .


( 106 )

وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم

    توفي الرسول الكريم محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم لاثنتي عشر ليلة مضت من ربيع الاول سنة احدى عشرة من الهجرة ، وكان سنّهُ ثلاثاً وستين سنة ، وغسّله علي بن ابي طالب عليه السلام والفضل بن عبد المطلب واسامة بن زيد يناولان الماء وسمعوا صوتاً من البيت ، يسمعون الصوت ولا يرون الشخص فقال : ( السلام ورحمة الله وبركاته عليكم اهل البيت انه حميد مجيد ، اِنَّمَا يُِريدُ الله لِيُذْهِبََ عََنُكُمُ الرِّجْسََ أَهْلَ الْبَيْتِِ وَيُطَهَّرَكُمْْ تَطْهِيراً . كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَّفوْنََ اُجُورَكُمْ يَوْمََ القِيَامَةِ فََمَن زُحْزِحَ عََنِ النَّارِ واُدْخِلَ الْجَنَّةََ فَقَدْْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَآ إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذينَ اُتُوا الْكِتَابََ مِن قَبْلِكُمْْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِن عَزْمِِ الأُمُورِ . ان في الله خلقاً من كل هالك مصيبة ، عظم الله اجوركم والسلام عليكم ورحمة الله ) فقيل لجعفر بن محمد من كنتم ترونه ؟ فقال : جبرئيل ، وكفن في ثوبين صحاريين وبرد حيره ونزل قبره


( 107 )

علي بن ابي طالب والعباس ابن عبد المطلب وقيل الفضل بن العباس وشقران مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونادت الانصار اجعلوا لنا في رسول الله نصيباً في وفاته كما كان لنا في حياته ، فقال علي : ينزل رجل منكم فانزلوا أوس بن خولي احد بني الحبلى وكان حفر قبره ابو طلحة بن سهل الانصاري ولم يكن بالمدينة من يحفر غيره ، وغير ابي عبيدة بن الجراح يشق ويحفر وسطا وأبو طلحة يلحد ، وقيل انهما سابقاً حفرا فسيق ابو طلحة بالحفر وصلى عليه اياماً والناس يأتون ويصلون ارسالاً ودفن ليلة الاربعاء في بعض الليل وطرحت تحته قطعة رحله وكانت ارجوان وربع قبره ولم يسنم (1) .
    ولما مات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم جاءت فاطمة حزينة باكية فألقت نفسها على القبر الشريف وقالت :
ماذا على من شم تربة احمد صبّت علي مصائب لو انها ان لا يشم مدى الزمان غواليا صبت على الايام صرن لياليا

    ولها سلام الله عليها ترثي اباها :
اغـبر آفـاق السمـا وكورت والارض من بعد النبـي كئيبة فليبـكه شرق البـلاد وغربهـا وليبكه الطـود الاشـم وجـوّه يا خاتم الرسـل المبارك صنوه شمـس النهار واظلم العصران اسفاً عليـه كثيـرة الاحـزان ولتبكـه مصـر وكل يمانـي والبيت والاستـار والاركـان صلى عليـك منـزل القـرآن

    وانشدت الزهراء عليها السلام بعد وفاة ابيها صلى الله عليه وآله وسلم :
(1) عقيدة الشيعة / رولندسن / ص 27 ـ 28 .


( 108 )

وقـدر رزئـنا به محضاً خليقتـه وكنت بـدراً ونـوراً يستضـاء به وكان جـبريل روح القـدس زائرنا أنا رزئنـا بما لم يـرز ذو شـجن ضاقت علي بـلاد بعد ما رحـبت فأنـت والله خيـر الخلـق كلهـم فسوف نبكيك ما عشنـا وما بقيت صافي الضرائب والاعراق والنسب عليك تنزل من ذي العـزة الكتـب فغاب عنـا وكل الخيـر محتجـب من البريـة لا عجـم ولا عـرب وسيم سبطاك خسفـاً فيه لي نصب واصدق الناس حيث الصدق والكذب منا العيـون بتهمـال لها سكـب (1)

    روى ابن سعد في الطبقات : انه لما توفى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قالت فاطمة : يا ابتاه اجاب ربا دعاه يا ابتاه جنة الفردوس مأواه يا ابتاه الى جبريل ننعاه يا ابتاه من ربه ما أدناه .
    وروى الحاكم في المستدرك انها عليها السلام بكت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقالت : وذكر نحوه . وروي الحاكم في المستدرك بسنده عن موسى بن جعفر بن محمد بن علي عن ابيه عن جده ابي جعفر محمد بن علي بن الحسين عن أبيه عن علي أن فاطمة عليه السلام لما توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانت تقول : وا ابتاه من ربه ما ادناه وا ابتاه جنان الخلد مأواه وا ابتاه ربه يكرمه اذ اتاه وا أبتاه الرب ورسله يسلم عليه حين يلقاه . وروى غير واحد أنه : لما دفن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قالت فاطمة : أطابت نفوسكم ان تحثوا على رسول الله التراب واخذت من تراب القبر الشريف وضعتها على عينيها(2) .
(1) بحار الانوار / للعلامة الشيخ محمد باقر المجلسي / ج 43 / ص 196 .
(2) أعيان الشيعة / محسن الأمين / ج 2 / ص 366 .



( 109 )

    لقد باتت الزهراء سلام الله عليها بعد وفات ابيها تقاسي الأحن والمصائب ، وجاش صدرها بالأحزان ، فلا يستريح قلبها ولا تسكن حركتها ، وأنشأ أمير المؤمنين علي عليه السلام يرثي النبي صلى الله عليه وآله وسلم :
الموت لا والداً يبقى ولا ولدا هذا النبي ولــم يخلد لأمته للموت فينا سهام غير طائشة هذا السبيل الى أن لا ترى احدا لو خلــد الله خلقـا قبله خلدا من فاته اليوم سهم لم يفته غداً
    ومن الديوان المنسوب الى امير المؤمنين عليه السلام في رثائه صلى الله عليه وآله وسلم قوله :
ما غاض دمعي عند نائبة واذا ذكرتـك سامحتك به اني اجل ثرى حللـت به الا جعلتك للبـكا سـبـبا مني الجفون ففاض وانسكبا عن ان ارى لسواه مكتئبـا

    ومن الديوان المذكور في رثائه صلى الله عليه وآله وسلم :
أمـن بعد تكفيـن النـبـي ودفنـه رزئنـا رسـول الله فينا فلـن ترى فيا خيـر من ضم الجوانـح والحشى لقـد نـزلـت بالمسلميـن مصيبـة وضـاق فضاء الارض عنهم برحبـه فلـن يستـقيل الناس تـلك مصيبـة يأتو بـه آسى علـى هـالـك ثـوى بـذاك عديلاً مـا حيينـا من الـردى يا خيـر ميـت ضمه التراب والثـرى كصدع الصفا لا شعب للصدع في الصفا لفقـد رسـول الله ذا قيـل قـد مضى ولن يجبـر العظـم الـذي منهم وهـى

    وقالت الزهراء عليها السلام ترثيه :
قل للمغيـب تحت اطبـاق الثـرى صبـت علـي مصائـب لو انـها ان كنت تسـمع صرختي وندائيـا صبت على الايـام صرن ليـاليـا



( 110 )

قد كنت ذات حمى بـظل محمـد فاليـوم اخشـع لذليـل واتقـي فاذا بكـت قمريـة في ليـلهـا فلا جعـلن الحزن بعدك مؤنسي ماذا على من شم تربـة احمـد لا اختـشي ضيماً وكان جماليـا ضيمـي وادفـع ظالمي بردائيا شجناً على غصن بكيت صباحيا ولا جعلن الدمع فيـك وشاحيـا ان لا يشم مدى الزمان غواليـا

    وينسب الى الزهراء عليها السلام ولعله قيل عن لسانها :
قلَّ صبري وبـان عني عزائـي عين يا عين اسكبـي الدمع سحاً يا رسـول الالـه يا خيـرة الله قد بكتك الجبال والوحش والطير وبكاك الحجون والركن والمشعر وبكاك المحراب والدرس للقرآن وبكاك الاسـلام اذ صـار في لو ترى المنبر الذي كنت تعلوه بعـد فقدي لخـاتـم الانبـيـاء ويك لا تبخـلي بفيـض الدمـاء وكهـف الايـتـام والضعفـاء كـذا الارض بعد بكي السمـاء يـا سـيـدي مـع البـطحـاء في الصبـح معلنـاً والمـسـاء الناس غريباً من سائر الغربـاء عـلاه الظـلام بعـد الضيـاء

    وقالت الزهراء ترثيه كما في مناقب ابن شهر اشوب ونسبهما دحلان في سيرته الى حسان بن ثابت :
كنـت السـواد لناظـري من شـاء بعـدك فليمـت فعمـى عليـك النـاظـر فعـليـك كـنـت احـاذر

    وقال ابو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم يرثي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكان من الشعراء المطبوعين :
ارقـت فبـات ليـلي لا يـزول وليـل اخـي المصيبة فيه طول



( 111 )

فاسعدني البكاء وذاك فيمـا لقد عظمت مصيبتنا وجلـت واضحت ارضنا مما عراها فقدنا الوحي والتنزيل فينـا ابـي كان يجلو الشك عنـا ويهدينـا فلا نخشى ضلالا اصيب المسلمـون به قليـل عشية قيل قد قبض الرسول تكاد بنـا جوانبـها تميـل يروح به ويغـدو جبرئـيل بما يوحى اليـه وما يقـول علينا والرسـول لنا دليـل

    وقالت صفية بنت عبد المطلب ترثي النبي صلى الله عليه وآله وسلم :
الا يا رسـول الله كنـت رجاءنا وكنت رحيمـاً هاديـاً ومعلمـا كـأن على قلبي لذكر محـمـد افاطـم صلى الله رب محـمـد فدى لرسـول الله امي وخالتـي صدقت وبلغت الرسالة صادقـاً فلو ان رب النـاس ابقى نبينـا عليـك من الله السـلام تحيـة ارى حسنـاً ايتمتـه وتركتـه وكنـت بنا براً ولم تـك جافيـا ليبك عليـك اليوم من كان باكيا وما خفت من بعد النبي المكاويا على جدث امسني بيثرب ثاويـاً وعمي وآبائـي ونفسـي وماليا ومت صليب العود ابلج صافيـا سعدنا ولكن امـره كان ماضيـا وادخلت جنات من العدن راضيا ويبكي ويدعو جـده اليوم نائيـا

    وقال حسان بن ثابت يرثي النبي صلى الله عليه وآله وسلم :
بطيبـة رسـم للرسـول ومعهد ولا تنمحي الآيات من دار حرمة وواضـح آيـات وباقي معالـم عرفت بها رسم الرسول وعهده منيـر وقد تعفو الرسـوم وتهمد بها منبر الهادي الذي كان يصعد وربع له فيه مصلـى ومسـجد وقبراً به واراه في الترب ملحـد



( 112 )

ظللت بها ابكي الـرسـول فاسعدت مفجعة قـد شفهـا فقـد احـمـد اطالت وقوفاً تذرف الدمع جهدهـا فبوركت يا قبـر النبـي وبوركت وبورك لحـد منـك ضمن طيبـا لقد غيبوا حلماً وعلمـاً ورحمـة وراحوا بحـزن ليس فيهم نبيهـم تبكون من تبكي السمـاوات يومه وهل عدلت يومـاً رزيـة هالـك تقطع فيه منـزل الوحـي عنهـم يدل على الرحمـن من يقتـدي به امـام لهـم يهديهم الحـق جاهـدا وان نـاب امـر لم يقومـوا بحمله فبينـاهـم في نعمـة الله بينهـم عزيز عليه ان يجوروا عن الهدى وامست ديار الوحي وحشاً بقاعها وبالجمرة الكبـرى له ثم اوحشت فابكي رسـول الله يا عين عبرة وما لك لا تبكين ذا النعمـة التي فجودي عليـه بالدمـوع واعولي وما فقد الماضون مثـل محـمـد عيـون ومثـلاها من الجن تسعـد فظلـت لآلاء الـرسـول تـعدد على طلل القبر الذي فيه احـمـد بلاد ثـوى فيها الرشيـد المـسدد عليـه بنـاء من صفـح منضـد عشية علـوه الثـرى لا يوسـد وقد وهنـت منهم ظهور واعضد ومن قد بكته الارض فالناس اكمد رزية يـوم مات فيـه محـمـد وقد كان ذا نـور يغـور وينجـد وينقذ من هـول الخزايـا ويرشـد معلـم صدق ان يطيعـوه يسعـدوا فمـن عنـده تيسـير ما يتـشدد دليـل به نهج الطريقـة يقصـد حريص على ان يستقيموا ويهتدوا لغيبة ما كانت من الوحي تعهـد ديـار وعرصات وربع ومولـد ولا اعرفنك الدهـر دمعك يجمد على النـاس منها سائـغ يتغمـد لفقد الذي لا مثـله الدهر يوجـد ولا مثـله حتـى القيامـة يفقـد



( 113 )

اعـف واوفـى ذمـة بعد ذمـة واكرم صيتاً في البيوت اذا انتمى وامنع ذروات واثبت في العلـى تناهـت وصاة المسلميـن بكفـه واقـرب منـه نائـلاً لا ينكـد واكـرم جـداً ابطحيـاً يسـود دعائـم عـز شاهقـات تشيـد فلا العلم محبوس ولا الرأي يفند

    وقال حسان بن ثابت الانصاري يرثي النبي صلى الله عليه وآله وسلم :
ما بـال عينـك لاتنـام كأنمـا جزعاً على المختـار اصبح ثاويا وجهـي يقيك الترب لهفي ليتني نـور اضاء على البريـة كلهـا والله اسمـع مـا بقيـت بهـالك صلى الالـه ومن يحف بعرشـه كحلت مآقيهـا بكحـل الارمـد يا خير من وطئ الحصى لا تبعد غيبت قبلك في بقيـع الـفرقـد من يهد للنـور المبـارك يهتـد الا بكيت على النبـي محـمـد والطيبون على المبارك احـمـد

    وقال سواد بن مقارب يرثي النبي صلى الله عليه وآله وسلم :
ابقى لنـا فقـد النبـي محـمـد حزنـاً لعمرك في الفـؤاد مخامراً كنـا نحـل به جنابـاً ممـرعا فبكت عليـه ارضنـا وسماؤنـا لو قيل تفـدون النبـي محـمـدا صلـى عـليـه الله مـا يعتـاد ام هل لمـن فقـد النبـي فـؤاد جف الجنـاب فأجـدب الـرواد وتصعـدت وجـداً بـه الاكبـاد بـذلـت لـه الامـوال والاولاد

    وقال آخر وفي مناقب ابن شهر اشوب انها لابراهيم بن المهدي :
اصبـر لكل مصيبـة وتجلـد واصبر كما صبر الكرام فانـها او ما ترى ان الحـوادث جمة واعلم بان المـرء غير مخلـد نوب تنوب اليوم تكشف في غد وترى المنية للرجال بمرصـد



( 114 )

واذا اتتـك مصيبـة تشجـى لهـا فاذكر مصابـك بالنبـي محـمـد (1)

    لقد كان الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وآله وسلم مثلاً اعلى واستاذ الانسانية ورسول الخير والمحبة ورحمة للعالمين . ولو ادرك الناس في العالم كافة ما لعظمته وتعاليمه السامية الالهية من المزايا والاثار في الحياة اليومية والنظم الاجتماعية والاداب الاجتماعية لما بقي على وجه الارض من يدين بدين آخر ، لانه مطلوب كل روح ومطمأنّ كل احساس ومنتهى كل عقل من معنى الدين والايمان . ان روح ومطمأمن كل احساس ومنتهى كل عقل من معنى الدين والايمان . ان روح النبي العربي الرسول الاعظم محمد صلى الله عليه وآله وسلم انما تسر من قومه وامته باتباع سنته واحياء معالم شريعته والتحلّي بالفضائل والتخلي عن الرذائل والتجمل بحسن الشمائل . ثم بالتآزر والتعاون كما قال الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه ( تعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان ) . لقد آمن بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم من كان طاغياً وخضعت لرسالته الجبابرة حين اتضح لهم نبل غايته ومغزى مراميه وأخلاقه وتواضعه ( وإنك لعلى خلق عظيم ) فانبرى قائلهم يقول :
فما حملـت من ناقـة فوق ظهـرها ابـر وأوفـى ذمـة مـن محـمـد

    ودكت صروح القياصرة والاكاسرة والاباطرة جيوشه المتخلقة بأخلاقه السامية .
    لقد قال الفيلسوف الروسي تولستوي : ( لو كنتُ اتدين بدين لما اخترت سوى دين محمد ) كلمة من رجل ملحد لا يأبه بالاديان ولا يقيم لها وزناً ، فهو يعترف بأفضلية دين محمد .
(1) المجالس السنية / محسن الامين / ج 5 / ص 46 ـ 53 .


( 115 )


    وقال الفيلسوف بوسور النمساوي : ان محمداً اسس في وقت واحد ثلاثة اشياء هي من عظائم الامور وجلائل الاعمال التي تذكر في العالم ، فانه مؤسس لأمة وامبراطورية وديانة ، مع انه أمي او قل ما كان يقدر ان يقرأ ويكتب ، اتى بكتاب هو آية في البلاغة ودستور للشرائع وللصلاة والدين في آن واحد .
    ذلك هو نبينا الكريم محمد صلى الله عليه وآله وسلم أكمل انسان عرفته الانسانية كلها ، بعثه الله ليتمم مكارم الاخلاق بدين هو دين الوحدة والمحبة والاخاء والعدل والمساواة والسلام ، فألف بين قلوب العرب وجمع شتاتهم ووحد كلمتهم ، وجعلهم ينضوون تحت راية الاسلام بعد ان كانوا قبائل وشعوباً متفرقين يغزو بعضهم بعضاً ويغير بعضهم على بعض لا وازع لهم ولا رادع ، فطهر قلوبهم وزكى نفوسهم ورقق طباعهم وشذب سلوكهم وقوّم اخلاقهم وصيرّهم كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً .
    حسبنا مجداً وشرفاً وعلماً بمبادئ الدين الاسلامي ، وحسب هذا الدين نفسه انه يكون اجل الاديان وافضلها .







( 116 )

فدك .. الحق والميراث

    تأتي اهمية ( فدك ) في كونها قرية كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يقسم فيئها بين آل بيته وفقراء المسلمين . ولما مات الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم ورثت فاطمة الزهراء هذا الارث ، ولما طالبت به منعت وكفّت عن الطلب ، لكنها انصرفت غاضبة ساخطة كما يحدثنا بذلك الرواة . اخرج البخاري في باب فرض الخمس ان فاطمة عليها السلام ابنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سألت أبا بكر الصديق (رض) بعد وفاة رسول الله ان يقسم لها ميراثها ما ترك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مما افاء الله عليه ، فقال لها ابو بكر : ان رسول الله قال لا نورّث ، فغضبت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فهجرت ابا بكر فلم تزل مهاجرة حتى توفيت (1) .
    وقال العقاد : فلما قضى عليه الصلاة والسلام ارسلت فاطمة الى ابي بكر تسأله ميراثها فيها وفيما بقي من خمس خيبر ، فقال ابو بكر : ان رسول الله
(1) صحيح البخاري / ج 5 / ص 5 .


( 117 )

صلى الله عليه وآله كان يقول : ( اننا معشر الانبياء لا نورث ما تركناه صدقة ) واني والله لا اغير شيئاً من صدقة رسول الله من حالها التي كان عليها (1) ثم قال لها : فأما ان كان ابوك قد وهب لك هذا المال فاني اقبل كلمتك في ذلك وانفذ ما امر به ، فأجابت فاطمة بان اباها لم يفض اليها بشيء من ذلك وانما اخبرتها ام ايمن بان ذلك كان قصده ، عند ذلك اصرّ ابو بكر على استبقاء فدك وخيبر وردهما الى بيت مال المسلمين (2) . الا ان الزهراء عليها السلام احتجت عليه بسندها عن القرآن الكريم بقوله : فقال عن نبي من انبيائه هو (زكريا) : (يرثني ويرث من آل يعقوب) وقوله تعالى : (وورث سليمان داود) وان ابا بكر قال لها يابنت رسول الله : انت عين الحجة ومنطق الرسالة لا يدل بجوابك ولا اوقعك عن صوابك ولكن هذا ابو الحسن بيني وبينك هو الذي اخبرني بما تفقدت وانبأني بما اخذت وتركت (3)ويحسن بنا ان نلفت نظر القارئ الى ان ابا بكر قال : يا ابنة رسول الله والله ما ورث ابوك ديناراً ولا درهماً وانه قال : (ان الانبياء لا يورثون) فقالت : ان فدك وهبها لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . قال : فمن يشهد بذلك فجاء علي بن ابي طالب فشهد وجاءت ام ايمن فشهدت ايضاً ، فجاء عمر بن الخطاب وعبد الرحمان بن عوف فشهدا ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقسمها ، فقال ابو بكر : صدقت يا ابنة رسول الله وصدق علي وصدقت ام ايمن وصدق عمر
(1) فاطمة الزهراء والفاطميون ، عباس محمود العقاد / ص 57 و 58 .
(2) حياة محمد / محمد حسين هيكل / ص 321 .
(3) المصدر السابق / ص 58 .



( 118 )

وصدق عبد الرحمان بن عوف وذلك ان مالك لأبيك كان رسول الله يأخذ من فدك قوتكم ويقسم الباقي في سبيل الله فما تصنعين بها ؟ قالت اصنع بها كما يصنع بها أبي ، قال : فلك على الله ان اصنع كما يصنع بها ابوك ، قالت : الله لتفعلن ، قال : الله لأفعلن ، قالت : اللهم اشهد . وكان ابو بكر يأخذ عليها فيدفع اليهم منها ما يكفيهم ويقسم الباقي وكان عمر كذلك ثم كان عثمان كذلك ثم كان علي كذلك (1) .
    لقد اقبلت فاطمة في لمةٍ من حفدتها ونساء قومها تطأ ذيولها ، ما تخرم مشيتها مشية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (2) حتى دخلت على ابي بكر وقد حشد الناس من المهاجرين والانصار ، فضرب بينها وبينهم ربطة بيضاء ، ثم أنَّت انّه اجهش لها القوم بالبكاء ، ثم امهلت طويلاً حتى سكتوا فخطبت خطبة طويلة جداً قالت في آخرها :
    (لقد جاءكم رسول من انفسكم عزيز عليه ما عنتم ، حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم ، فان تعزوه تجدوه ابي دون ابائكم ، وآخا ابن عمي دون رجالكم) ثم ذكرت كلاماً طويلاً في آخره : (ثم انكم الان تزعمون ان لا ارث لي افحكم الجاهلية تبغون ؟ ومن احسن من الله حكماً لقوم يتقون ايه معاشر المسلمين ابتز ارث ابي ـ ابى الله ان ترث ياابن ابي قحافة اباك ولا ارث ابي ، لقد جئت امراً فريا . افعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم ، اذ يقول : « وورث سليمان داود » . وفي خبر يحيى بن زكريا عليهما السلام . اذ يقول : « رب هب لي من لدنك ولياً يرثني ويرث
(1) المصدر السابق / ص 58 .
(2) اعلام النساء / عمر رضا كحاله / ج 4 / ص 116 و 117 .



( 119 )

من آل يعقوب » . وقال : « واولو الارحام اولى ببعض في كتاب الله » . وقال : « يوصيكم الله في اولادكم للذكر مثل حظ الانثيين » . وزعمتم ان لا حظوة لي ولا ارث من ابي ولا رحم بيننا . أأنتم اعلم بخصوص القرآن وعمومه من ابي وابن عمي ؟ ثم رنت بطرفها نحو الانصار ، فقالت : يا معشر الفتية واعضاء الملمة وحصن الاسلام ما هذه الغميزة في حقي ؟ اما كان صلى الله عليه وآله وسلم يقول : (المرء يحفظ في ولده) .
    وللعلامة الشيخ محمد جواد مغنية رأي بهذا الخصوص جاء فيه : (لقد كان على ابي بكر ان يقيم اولاً وقبل كل شيء البيّنة على ان النبي توفى مالكاً لفدك وانها من جملة ما ترك ثم يحتج على سيدة النساء فاطمة ، ولكنه عكس الامر وطلب البينة من صاحب اليد المالكة المتصرفة . طلب منها البينة لا لشيء الا لمجرد دعواه بأن ما تركه ابوها فهو صدقة ، ونحن نسلم ـ جدلاً ـ بذلك ، ولكن نتساءل : هل كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يملك فدكاً حين وفاته حتى يصدق عليها انها من جملة ما ترك ؟ كيف ، وقد ذهب الى ربه وفدك ليست في يده ولا في تصرفه ، بل في يد السيدة المعصومة وفي سلطانها وتصرفها باعتراف ابي بكر وجميع الصحابة ، وبعد ، فان حكاية المعصومة وفدك وابي بكر تماماً كحكاية والد وهب ولده داراً وسكنها الولد في حياة الوالد ، وبعد موت الوالد جاء فلان الفلاني وقال للولد الساكن المتسلط : عليك ان تخلي الدار وتسلمني اياها لأن أباك قد اوصى لي بجميع ما ترك ، قال هذا دون ان يثبت ان الدار من جملة ما ترك الموصي ، ومع التسليم بالوصية وصحتها ، هل يسوغ لعاقل وفاهم ان يقول للولد عليك ان تسلم الدار للمدعي لأن اباك قد


( 120 )

اوصى له بجميع ما ترك ، بعد العلم بان اباه مات ، وهذه الدار على غير ملكه ، لأنها في يد غيره ، واليد تدل على الملك (1) .
    اجل ، لقد كان من الطبيعي ان تثير هذه الكلمات المؤثرة ضجة حول الارث المحمدي الذي تآمر عليه جمع من المخالفين ، لكن الزهراء عليها السلام خيبت آمالهم بعد ان تصدت للرد عليهم وتحدتهم بجرأة متناهية وحجج دامغة ، اضطربت لها النفوس وتقلبت الابصار وتركت في كثير من القلوب غصة لا يقر لها قرار .
    ومما يعين على الاحاطة حول مسألة الخلاف فيقضية فدك ، قول عمر لأبي بكر : انطلق بنا الى فاطمة فانا قد اغضبناها ، فانطلقا واستأذنا عليها فلم تأذن لهما ، فأتيا علياً فكلماه فأدخلهما ، فلما قعدا عندها حوّلت وجهها الى الحائط فسلما عليها فلم ترد عليهما السلام ، فتكلم ابو بكر وقال : (يا حبيبة رسول الله ان قرابة رسول الله احب اليّ من قرابتي وانك لأحب اليّ من عائشة ابنتي ، ولوددت يوم مات ابوك اني مت ولا ابقى بعده . افتراني اعرفك واعرف فضلك وشرفك وامنعك حقك وميراثـك من من رسول الله ؟ الا اني سمعت اباك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : ( لا نورث ما تركنا فهو صدقة ) فقالت : ( ارأيتكما ان حدثتكما حديثاً عن رسول الله ألم تسمعا رسول الله يقول : ( رضاء فاطمة من رضائي وسخطها من سخطي ) ؟ قالا : نعم سمعناه من رسول الله . قالت : ( فاني اشهد الله وملائكته انكما اسخطتماني وما ارضيتماني ولئن لقيت النبي لاشكونكما اليه ) . فقال ابو بكر : ( انا عائذ بالله من سخطه
(1) علم اصول الفقه في ثوبه الجديد / الشيخ محمد جواد مغنية / ص 403 .


( 121 )